“فضاء العجائبي”: ما لا يوجد عند ماركيز/ شوقي بن حسن
كثيرة هي ترجمات الأدب اللاتينو-أميركي إلى العربية. قليلة هي الأعمال البحثية حوله في العربية. يأتي كتاب “فضاء العجائبي.. في أفق الرواية اللاتينو-أميركية” ليضرب حجراً في البركة الساكنة. العمل صدر مؤخراً عن منشورات “ميم” للباحث الجزائري حميد عبد القادر.
في حديث إلى “العربي الجديد”، يقول عبد القادر إنه لفهم العلاقة بين ثقافتنا والأدب اللاتينو-أميركي، يجدر التوقّف “عند مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ الترجمات العربيّة للرِّواية اللاتينو-أميركيّة، جاءت متأخرة مقارنة بتاريخ صدورها. فقد كانت بمثابة ردة فعل متأخرة لما يسمى بـ”البوم” اللاتينو-أميركيّ، الذي برز مع مطلع الستينيّات من القرن العشرين، انطلاقا من برشلونة ثم باريس. طيلة هذه الفترة كانت الترجمة العربيّة للسردية اللاتينو-أميركيّة تُعدّ على الأصابع، على خلاف الشعر الذي ترجمنَا منه الكثير. أعتقد أنّ ذلك التأخر راجع لطبيعة الأنظمة السياسية العربيّة التي كانت سائدة خلال تلك الفترة، إذ لم تكن تسمح بترجمة أدب مُلتزم، تُشكّل السياسة إحدى أهم محاوره.
يضيف: “وإلى غاية اليوم، لم تترجم للغة العربية إحدى أهم الرِّوايات المناهضة للديكتاتورية في أميركا اللاتينيّة، وهي رواية “المدينة والكلاب” للبيروفي ماريو فارغاس يوسا. كما لم تترجم رواية “أنا الأسمى” للرِّوائي الأورغواياني الشهير أوغتسو روا باستوس. السياسة هي التي توجه ترجمة الأدب في كثير من الأحيان، وهذا ما حصل في العالم العربي بين الستينيات والسبعينيات بخصوص أدب أميركا اللاتينيّة. لقد قصّرنا في ترجمة هذه السردية، رغم التواصل التّاريخي بين الثقافتين العربية واللاتينو-أميركيّة، بالنظر إلى الهجرة العربيّة نحو هذه القارة”.
ترى ما هي صعوبات الكتابة البحثية حول الأدب اللاتينو-أميركي؟ يجيب الباحث الجزائري: “أعتقد، أنّ هذه المسألة مرتبطة بتفضيل ترجمة السرديات القادمة من إمبراطوريات الأمس، على السردية القادمة من أميركا الجنوبيّة (عبر برشلونة) من منظور أنّ خيال هذه القارة ليس له حضور في الثقافة العربية. أضف إلى ذلك أنّ القارئ العربي، والترجمات العربيّة للرِّواية اللاتينو-أميركيّة، تأثرت بالتصوّرات الغربية التي تبحث فقط عن الواقعية السحرية التي تعتبر في الحقيقة تحريفاً وتزييفاً للواقع اللاتينو-أميركي”.
ويردف: “القارئ العربيّ (وأنا واحد من هؤلاء) مهووس ومفتون بالروائيّ الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، لكن حجم ماركيز يبدو صغيراً جداً أمام روائيين اثنين هما المكسيكي خوان رولفو، وروايته العظيمة “بيدرو بارامو”، والرّوائي الأوروغوايَاني خوان كارلوس أونيتي. حين قرأتُ اثنتين من روايات هذا الأخير وهما “البئر” و”الوداعات”، اكتشفتُ أنّ الأعمال الرِّوائية المهمة في أدب أميركا اللاتينيّة توجد بعيداً عن غارسيا ماركيز، أقول هذا دون أن أنقص من أهمية ماركيز الأدبيّة، فشخصيًا أعتبره روائيًا فذًا. لكن عوالم “خوان رولفو” و”أونيتي” لا مثيل لها. فمن قرأ “بيدرو باراموا”، يخرج مصابًا بالدهشة”.
من زاوية تجربته الشخصية، يفسّر عبد القادر كيف انبنت الصلة بين الثقافة العربية والأدب القادم من أميركا اللاتينية. يقول: “بدأ اهتمامي بأدب أميركا اللاتينيّة مع مطلع تسعينيات القرن العشرين. برزت آنذاك عبر العالم، تزامنًا مع الاحتفال بالذكرى الخمسمائة لاكتشاف العالم الجديد (1492- 1992)، فكرة ضرورة التّعايش بين الثّقافات، ونبذ تصرفات وأفعال “الكونكيستادوريس” الإسبان، وتجاوزاتهم اللاإنسانية، وأفعالهم المشينة للغاية في حق الثقافة ما قبل الكولومبيّة. عرفت هذه الأفكار رواجًا كبيرًا في أوساط المُثَقَّفين، فأفضت إلى فوز شاعر الكراييّب ديريك والكوت بجائزة نوبل للآداب سنة 1992، بعد أن مجّد فكرة “الهجنة” في معظم أعماله الشِّعرية والمسرحيّة. تكوّنت لديّ خلال تلك السّنوات، رؤية مختلفة عن العالم، تقوم على مدحِ فضائل التعدّد والاختلاف والهجنة، والتّعايش، والنأيِّ عن الأحاديةِ والإقصاءِ والرفضِ، وعن كل ما يتعارض مع القيم الإنسانيّة ولا يخدمها”.
من بين ما يدرسه الكتاب ظاهرة “البوم” الأدبي الذي نجح كتّاب أميركا اللاتينية في إحداثه في الغرب بحيث تحوّل كتّاب بلدان من خارج المركز إلى نجوم في المشهد الإبداعي العالمي. يوضّح الباحث الجزائري ذلك: “بدأ كل شيء مع أزمة الرّواية في الغرب، مع منتصف الخمسينيات. ففي ما يتعلق بباريس مثلاً، وجد النّاشرون أنفسهم أمام أزمة الرِّواية الفرنسيّة، بالأخص بعد انتشار “الرّواية الجديدة” منذ منتصف الخمسينيّات، حيث أصبح الإقبال على قراءة الرّوايةِ محدودًا. فجاءت الأعمال الأدبيّة اللاتينو-أميركيّة في هذا الوقت بالذات لتخليص النّاشرين الفرنسييّن من أزمتهم، وقد استفحلت، فبرز إقبال مذهل من قبل القراء على الرِّواية القادمة من أميركا الجنوبيّة، تلك القارة البعيدة والعجيبة، بمخيالها المختلف وعوالمها السَّاحرة”.
يضيف: “لقد برز ضمن هذا “البوم” الأدبيّ، أربعة روائيين اشتهروا لاحقًا، وهم البيروفي ماريو فارغاس يوسا، بروايته الشهيرة “المدينة والكلاب”، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز بـ”مائة عام من العزلة”، والأرجنتيني خوليو كورتاثار في عمله “الحجلة”، والمكسيكي كارلوس فوينتيس بفضل “المنطقة الأكثر شفافية”. ومن مُميزات هذه الأعمال الرِّوائية والتي ساعدتها على الانتشار الواسع وإحداث “البوم” الأدبيّ، أنها قدّمت كتابة غير خطيّة، لها بنية سردية متشظِّية، تتعامل مع الزّمن بشكل مختلف، حيث يتداخل الماضي مع الحاضر، ويتم استرجاع المرويات والأساطير المَحليّة، وفي نفس الوقت هي غارقة في تأثيرات حداثيّة غربيّة وبالخصوص تيَّار الوعي مع فيرجينيا وولف ووليام فولكنر. أعتقد أنّ رواية “المنطقة الأكثر شفافية”، للمكسيكي كارلوس فوينتيس، هي النموذج البارز لهذه التقنيات. وللأسف فهي روية لم تترجم بعد إلى اللغة العربية”.
فضاء العجائبي
دائماً ما يجري اختزال كل الأدب اللاتينو-أميركي في تيار الواقعيّة السحرية. سألنا محدّثنا عن أسباب هذا الاختزال؟ يجيب: “تيار الواقعية السحرية تم تجاوزه منذ نهاية سبعينيات القرن العشرين. إذ لم يَستمر الإنتاج الرّوائي للواقعيّة السِّحريةِ الَّتِي أنتجت “البوم” الأدبيّ اللاتينو-أميركي، على نفس الوتيرة الإبداعيّة التي بدأ بها، فمع مطلع ثمانينيّات القرن العشرين، وُجّهت عدة انتقادات لهذا التِّيَّار الأدبيّ الّذي شغل العَالم برمته. ومن بين النّقد المُوجه للواقعيَّة السِّحريةِ، أنّها أنتجت أدبًا تجريبيًا للغاية، له “نزعة نخبوية”. كما أنّ تركيزه على التَّاريخ وعلى البُعد السَّاحر والفانتازي، كان محل نقاشٍ من قبل النُّقاد. فقيل إنّه أدب بعيد جدًا عن الحقائق السِّياسية لأميركا اللاتينيّة التي انتقدها. فظهرت تيارات أدبية تجاوزت الواقعية السحرية وانتقدتها، منها تيارا “الماكوندو” و”الكراك”.
يفصّل الباحث الجزائري هذه التيارات، فيقول: “بدأ كل شيء حينما برزت مجموعة من الرِّوائيين الكولومبيّين الذين أنشأوا حركة أدبيّة سميت بحركة “ماك أوندو” (McOndo). جاءت كردّ فعل على التقليد الأدبيّ الأعمى للواقعيَّة السِّحرية التي سادت لفترة طويلة في أميركا اللاتينيّة. ومن بين أهم الخصائص الرئيسيّة لـ”ماك أوندو” هي الواقعيَّة الصرفة، والإشارات إلى الثَّقافة الشعبيّة الأميركية- اللاتينيّة، والوقائع التي تحدث في السِّياقات الحضرية المعاصرة. وغالبًا ما تكون نقلاً قاسيًا جدًا لمظاهر الجريمة والفقر وعدم المساواة. تُعبّر كلمة McOndo نفسها عن رغبة كُتّاب هذه الحركة في إبعاد أنفسهم عن المُمثل الرئيسي لتِّيَّار الواقعيَّة السِّحرية غابرييل غارسيا ماركيز، وقريته الكولومبيّة الخيالية “ماكوندو” (Macondo). ضمن هذا السّياق، يشرح الكاتب التشيلي ألبرتو فوجي هذا الأمر قائلاً: “إنّ عالمي الخاص أقرب بكثير إلى ما أسميه” ماك أندو” عالم ماكدونالدز وماكنتوش والشقق السكنية المشتركة”، معلنًا عن ابتعاده الصَّريح عن ماكوندو ماركيز”.
يتابع: “إلى جانب تيَّار “الماك أوندو”، ظهر لاحقًا في المكسيك تيّار أدبي آخر، انفصل بدوره عن الواقعيّة السِّحرية، واسمه تيار “الكراك” Crack (الشرخ)، كتسمية تأتي في مقابل اسم “البوم”. كان القصد منه إحداث شرخ في التقليد الأدبيّ السائد للعودة إلى ما تم تحديده على أنه أفضل الأدب، والذي يشمل، حسب أنصاره، قبل كل شيء أعمال الكلاسيكيّات الأدبيّة. برز هذا التِّيَّار مع منتصف التسعينيَّات، يمثله الرِّوائيون: خورخي فولبي، وإنياسيو بادييا وإيلوي أوروز. أراد هؤلاء الكُتاب التّخلص بدورهم من تقليد جيل الرواد الكبار، وإبداع طرق مغايرة ومختلفة في الكتابة الرِّوائية. ويدعو البيان التأسيسيّ لأدباء تيَّار “الكراك”، والذي أمضاه كل من إناسيو بادييَا، خورخي فولبي، إيلوي أوروز، بيدرو أنخيل بالو، ريكاردو شافيز كاستانيدا، وفيسينتي إيراستي، وهم مكسيكيون جميعًا، إلى كتابة أبسط وأكثر إيجازًا وانفتاحًا على مراكز الاهتمام الأخرى، لا سيَّما العالم القديم؛ أوروبا”.
يعود عبد القادر إلى الخيط الرئيسي لإجابته: “بخصوص اختزال أدب أميركا اللاتينية في مسألة الواقعية السحرية، فأعتقد أنّ ذلك مرتبط بالتأثير الكبير والراسخ الذي مارسته الواقعية السحرية على القارئ العربي، المهووس بعوالم ألف ليلة وليلة، والتي تقدّمها الواقعية السحرية، وتتبناها. لقد بقي الترويج لهذا الأدب في العالم العربي منغلقاً في الواقعيّة السحرية. في وقت تجاوزها روائيون يعرفون حاليًا انتشاراً عبر العالم، أمثال التشيلي روبرتو بولانيو، والمكسيكي خورخي فولبي، وكلاهما أنتج كتابة روائية تجاوزت الواقعية السحرية بكثير، وميزتها الأساسية أنها خرجت من الواقع اللاتينو-أميركي، وتركت المحلية جانبًا، وانتقلت نحو الواقع الغربيّ والإنسانيّ. فثلاثية فولبي الشهيرة على سبيل المثال، والتي تضم روايات (“البحث عن كلينغسور”، و”نهاية الجنون”، و “زمن الرماد”) تدور حول ثيمة آلام الإنسانيّة والأنانية الطبيعية للبشر، والتّفكير في الفوضى والخراب الأوروبي خلال مرحلة الحرب العالميّة الثانية وما بعدها إلى غاية انهيار الاتحاد السوفييتي، وثورة ماي 1968 بباريس، وتأثيرات فلسفة لويس ألتوسير على اليسار العالمي، وصولاً إلى نهاية القرن العشرين، والسقوط النهائي لليوتوبيّات التي قضت عليها النيولبيراليّة”.
يدفعنا إصدار كتاب “فضاء العجائبي.. في أفق الرواية اللاتينو-أميركية” إلى التساؤل إن كان ينضوي ضمن مشروع أوسع بدراسة أدب أميركا الجنوبية؟ يجيب حميد عبد القادر: “هذا الكتاب ليس بدراسة أكاديمية. بل هو بحث قدمته كقارئ مهتم بالرِّواية اللاتينو-أميركية. فمنذ تسعينيات القرن العشرين، واهتمامي بهذا الأدب متواصل، وقد ترسخ بعد اكتشافي رائعة ماركيز “مائة عام من العزلة”، التي أبعدتني عن عوالم كافكا وإرنست همنغواي، ثم روايته الأخرى التي لا تقل أهمية، وهي رواية “خريف البطريريك”، كنتُ أعرف يقينًا في قرارة نفسي أنّ الأدب يعني الذهاب في رحلة اكتشاف البعيد، والسّفر إلى الأمكنة القصيّة أين يوجد مِخيال مُختلف، وثقافة مغايرة، بحثاً عن الآخر/ المختلف بتجاربه التي قد تختلف عن تجاربنا، لكنه حتمًا قريب منا بنزعته الإنسانيّة، وتطلّعه للسلم. وبخصوص أميركا اللاتينيّة وثقافتها وآدابها، كان الأمر يتعلق بالذهاب نحو خيالٍ ساحر، والانفتاح المُدهش، والأخّاذ على عوالم مُختلفة، وثقافة فاتنة تلاقحت فيها الأجناس والتقت المخيلات، وتنوعت المكونات، بعد أن تلاقت في لحظة تاريخيّة انصهر فيها السكان الأصليون، والكونكيستادوريس الإسبان والوافدون لاحقاً من الأفارقة، فكوّنوا ثقافة هجينة، تجاوزت انحرافات الغزاة الأوائل”.
العربي الجديد