كمال الصليبي في الحوار الأخير.. البروتستانتي المختلف/ بشير البكر
آخر حوار مع المؤرخ كمال الصليبي قبل وفاته بوقت قصير في عام 2011 قام به الكاتب والصحافي صقر أبو فخر، وصدر في كتاب تحت عنوان لافت ومتميز “الهرطوقي الحكيم” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012). وصفة الهرطوقي جاءت في رد من الكنيسة على أطروحة الصليبي بصدد المسيح، وأما الحكمة فهي من عند المحاور الذي نجح في أن يستخرج من هذا المؤرخ الإشكالي عصارة تجربة إنسانية وثقافية، ورحلة مديدة بين الدراسة والتدريس والبحث والكتابة والسفر بين الشرق والغرب. في مقدمة الكتاب يرسم أبو فخر بورتريه للصليبي يلخص فيه أهم ما قام به كمؤرخ. أول المغامرات العقلية التي صاغ فيها “نظرية متماسكة برهن فيها أن على أحداث التوراة وقعت في جنوب شبه الجزيرة العربية لا في فلسطين. أحداث العهد القديم والجديد لا تقع في فلسطين، بل في جنوب الجزيرة العربية”.
“أول المغامرات العقلية التي صاغ فيها “نظرية متماسكة برهن فيها على أن أحداث التوراة وقعت في جنوب شبه الجزيرة العربية لا في فلسطين. أحداث العهد القديم والجديد لا تقع في فلسطين، بل في جنوب الجزيرة العربية””
والصليبي لم يكن مجرّد مؤرخ مهم، بل هو مفكر ذو قامة علمية باسقة.. غيّر أفكارنا جذريًا منذ صدور كتابه جزيرة العرب عام (1985). قليل الكلام، لكنه مثير للزوابع. كتبه التي خالفت الحكاية التقليدية: تاريخ لبنان الحديث، التوراة جاءت من جزيرة العرب، البحث عن يسوع. وهو الذي صحح تاريخ لبنان، وصحح تاريخ بني إسرائيل واليهودية، واستنتج من الدراسة أن بلاد السراة (عسير/ بين الطائف ومشارف اليمن) وجنوب الحجاز هي ميدان تاريخ بني إسرائيل.
الملاحظة الأساسية حيال هذا الحوار هي أنه لم يأخذ حقه من النقاش، فهو اشتمل على الكثير من الآراء الهامة، غير أطروحته الشهيرة التي اشتهر بها، وضمنها في كتابه “التوراة جاءت من جزيرة العرب”. ومن القضايا التي تستحق التوقف عندها هي منهج الصليبي في قراءة الأحداث الغابرة، والمعايير التي اعتمدها من أجل محاكمة الظواهر. ومن دون مواربة وبانفتاح وتلقائية يتحدث المؤرخ، الذي ينحدر من أسرة سورية هاجرت من قرية “عين حليا” الواقعة بين الزبداني وسرغايا في ريف دمشق، والتي تعود إليها جذور الكثير من الأعلام، منهم الكاتب أحمد فارس الشدياق صاحب كتاب “الساق على الساق”، والبطريرك إلياس الحويك والرئيس شارل الحلو. وآل الصليبي روم أرثوذكس تحولوا إلى البروتستانتية بفعل التبشير، وهو ما شكل لدى الصليبي النظرة المختلفة للأشياء. ويقول في مطلع الحوار بما أن أستاذي (أنيس فريحة- المتخصص باللغات السامية) سمح لي أن أخطئ، تشجعت أن أخطئ. هذا هو المنهج الذي سار عليه لخلخلة الأسس التي قامت عليها الرواية الدينية التقليدية التي وردت في التوراة؛ “كان يقول لنا إن من يقول لكم إن هذه القضية التاريخية أو الدينية مدروسة نهائيا فهو كاذب. يجب أن تتوصلوا بأنفسكم إلى الحقائق”. ويكشف الصليبي عن نقطة مهمة تتعلق بمنهجه وهي تختص بالأماكن الواردة في التوراة، حين بدأ العمل على كتابة “التوراة جاءت من جزيرة العرب”. ويقول: أتذكرها لأنني بروتستانتي، والبروتستانت يقرأون التوراة، ولو كنت مارونيًا أو أرثوذكسيًا لاختلف الأمر على المستوى الشخصي، فهؤلاء لا يستعملون التوراة إلا نادرًا. ويشدد على أن “الإسلام يعرف التوراة جيدًا لأن العرب يعرفون بني إسرائيل، ولأن الجميع عاشوا في أماكن متجاورة”.
من طراز مختلف
الصليبي مفكر من طراز مختلف، يتحدث عن حياته وأفكاره بلغة قريبة من الناس، وكثيرًا ما يردد بأن الذي يفسد أي قضية هو التفلسف والتنظير، ولذلك يبدو عفويًا حينما يأتي على منطقة “رأس بيروت” (محيط الجامعة الأميركية). هي بالنسبة له أفضل من نيويورك، ومثال للتعايش، “ورأس بيروت من دون البروتستانت والجامعة الأميركية لا تساوي شيئًا”. والإحالة هنا واضحة “وفي فترة ما لعبت الاسكندرية هذا الدور كمدينة كوزموبوليتية..الحاضرة تُمدّن محيطها.. بيروت كان لها شأن حضاري لكنها لم تتمكن من تحديث محيطها القريب”.. ومن الصعب أن تجد مكانًا في العالم كله مثل رأس بيروت. يمكن أن تكون أكسفورد مثل رأس بيروت. ولكن تبقى بيروت “شكل ثاني”. وهناك ما يشبهها ولكن “منذ زمن بعيد كانت هارفرد سكوير شبيهة بها”.
يكتب الصليبي بحرية ومن دون خوف أو حسابات: “أنا مدين بحريتي الشخصية لمارتن لوثر”. ولوثر هنا ثائر على الكنيسة الكاثوليكية والبابا، وهو ليس أكثر من محرض لأن هناك من يقرأه على نحو مختلف “هناك ناس صاروا مدينين لعصبيتهم لمارتن لوثر. وهناك ناس صاروا مدينين لبغضهم مارتن لوثر”.
عنوان مذكرات الصليبي “طائر على سنديانة، 2002″، مستقى من الأدب الإنكليزي: “طائر حكيم مسن حط على سنديانة، كلما رأى أكثر تكلم أقل.. كلما تكلم أقل سمع أكثر”. ويميز الصليبي: “لم أكتب سيرة ذاتية بل مذكرات. لم أتحرّ الدقة تمامًا، بل سردت الأمور كما أذكرها، وليس بالضرورة كما حدثت، لأن ما يذكره الإنسان أمر، وما حدث بالفعل أمر آخر: المذكرات شأن شخصي وقصة من الماضي وصورة للعصر الذي عشت فيه بتغييراته ومن غير أي تفلسف.. الإشارة إلى أننا كنا، في حقبة ما، مبسوطين”.
وينطلق من أن “القارئ صديقي” و”التفلسف يؤدي إلى صدور كتاب بشع”. يمتلك الصليبي موقفًا سلبيًا جدًا من الغرب “علينا أن نصلح أوضاعنا، ولكن ليس كما يريد الغرب.. لا أرى ما نحن فيه سيء إلى هذا الحد”. في فرنسا عملية شمشمة الكلاب للمسافرين أمر مخجل، و”في ألمانيا يظنون أنفسهم آلهة.. لن أذهب إلى هناك ولن أخسر شيئًا”. وحين يسأله الصحافي “ألم تحب الغرب؟” يأتي جوابه صادمًا “على الإطلاق.. لا شيء أسوأ من الغرب.. أنا لست معجبًا بالغرب على الإطلاق مع أني درست فيه، لكني درسته أيضًا.. الحياة التي يعيشونها ليست حياة. فلا أحد فيهم يرتاح قليلًا ويدخن نفَس نارجيلة مثلًا”. ومن تجربة دراسته في بريطانيا ومشاركته في ندوات في أميركا “يقبلون العربي إذا عمل في الهامش.. يقبلونه إذا رسم مزهرية، ولكن لا يقبلونه إذا حاول تصوير مشهد طبيعي”. وما يصلح للغرب لا يصلح بالضرورة للشرق: “تقول إننا نحتاج إلى فولتير أو مارتن لوثر. لكن يجوز أننا بطبيعتنا لا نحتاج إلى فولتير ولا إلى مارتن لوثر، بل يلزمنا شيء آخر. إن قدرة مجتمعنا على مواجهة تساؤل صعب ومعقد كهذا تتوقف على ما يلائمنا”. ويذهب المؤرخ بعيدًا في المحاكمة: “ربما أساء غاليليو إلى البشرية، وربما كانت البشرية أكثر سعادة مما هي عليه اليوم من دون غاليليو، ولكن ما إن ظهر غاليليو حتى صار لا بد أن ينجح في أفكاره”. ويوجه الصليبي دعوة إلى احترام الذات: “يجب أن نحب أنفسنا ونحترمها، ونفهم أن لدينا كثيرًا من القيم الجميلة التي لا نريد أن تندثر”.
لبنان ومنطق “نكاية بنكاية”..
وإلى لبنان الذي يسود فيه منطق “نكاية بنكاية”. المسلمون يطالبون بالوحدة مع سورية نكاية بالمسيحيين، والمسيحيون يعتبرون أنفسهم فينيقيين نكاية بالمسلمين، واللبنانيون كانوا يفكرون بطريقة مغايرة. لماذا الحاكم ليس من الموارنة؟ وعندما تفكر بمرقد العنزة في لبنان، وكيف يسيطر عليه “سكان يتميزون بثقل الدم” هذا، تتعجب. البطريرك المعوشي قال له سنة 1959 “أتريد أن تعرف كيف أفهم تاريخ الموارنة.. نحن شعب مخه يابس مثل صخور هذا الجبل.. ويقول أرنست رينان “إن صناعة وطن تقوم على تزوير تاريخه الخاص”. وهذا ما فعله اليهود عندما أرادوا تحويل الدين إلى قومية، اخترعوا تاريخًا، والتزوير بدأ قبل سايكس بيكو، بل إن هذا جزء من التزوير الذي يعود إلى عام 1880.. وعلاقة لبنان بسورية خلاصة “فكرة رسخوها في رؤوسنا منذ طفولتنا، وكنا نعتقد فعلًا أن لبنان أبدي سرمدي.. العصور الوسطى في أوروبا لا تتطابق بالضرورة مع لبنان، مع أن اسم لبنان لم يكن موجودًا”. وكان الوصول من دمشق إلى بيروت على ظهور الدواب يستغرق 4 أيام وفي عربات الديليجانس 13 ساعة وفي القطار 9 ساعات. وهناك مفارقة تتمثل في أن البنك العثماني في سورية ولبنان كانت تملكه بريطانيا، وجاء بعده بنك سورية ولبنان الذي صار يصدر العملة (عملة الانتداب) من دمشق وبيروت، واستمرت ملكية البنك لبريطانيا، وكان هذا أمرًا غريبًا، ورغم ذلك فإننا نصادف استقلال لبنان وسورية، وكان ذلك أول استقلال عربي. “استقلال العراق كان كاذبًا، لأن بريطانيا ظلت تحتفظ بحقوق عسكرية بموافقة عصبة الأمم، واستقلال مصر كذلك، فقد ظلت مصر محتلة”.
والخلاصة: “منذ عام 1953 أكتب في التاريخ. ولم أكتب لأخبئ نتائج أبحاثي، بل نشرت ذلك كله، وألقيت محاضرات كثيرة. فهل أثرت كتاباتي في إعادة النظر في تاريخ لبنان المزور؟ لم تؤثر. لبنان عربي. أكثر بلد عربي عروبة هو لبنان. وفيه جميع أخطاء العرب، وجميع صفات العرب الحميدة”. وهذه نظرة الصليبي إلى لبنان: “تجولت في العالم العربي المشرقي، لم أجد مكانًا إلا اعتقدوا أني مسلم، ويربطون ذلك بالعربية”. ويرى أن العروبة لم تأت من الجزيرة العربية، بل نشأت هنا؛ “بلادنا هي أرض العروبة الأصلية.. العروبة كلغة. أول كتابة بالعربية ظهرت في بلادنا، قرب درعا في حوران.. العربية أقدم اللغات السامية”. هناك لغة النبط في البادية. يقال: استنبط البدو أي أنهم تحولوا من البداوة إلى الفلاحة. بدأوا يحفرون ويستخرجون الماء ويصبحون مزارعين. يستنبطون تعني يستخرجون الماء. “أهل البحرين عرب استنبطوا، أهالي عمان نبط استعربوا، والأنباط عرب استنبطوا”.
وليس هناك تاريخ من دون التأمل في الجغرافيا، و”لأنني تعلمت التاريخ والجغرافيا بعدما درست أصول القراءة وأصول الكتابة، فإني اشتريت سيارة فولسفاكن عام 1962 ودرت بها في الشرق الأوسط أو ما نسميه الشرق الأوسط”. هو شبكة مسالك وطرق بما فيها الطرق الرملية، التي هي طرق تجارة وطرق هجرة وطرق حركات وطرق رحلات وطرق شم الهوا وطرق رعي وطرق تربط أماكن بأماكن أخرى.
ومن اكتشافات الصليبي أن طائر العنقاء هو طائر البلح، و”كلمة فاينيكا تعني البلح” وهي التسمية التي أطلقها اليونانيون على السكان المنتشرين بين اللاذقية وعكا وحيفا، والتمر هو الطعام الكامل وكانوا يحملونه بينما يحمل اليونانيون التين. ويصحح النظرة العربية إلى المرحلة العثمانية في العالم العربي، ويرى أن العرب عاشوا في إطار دولة عثمانية 400 سنة “وكان وضعنا فيها ممتازًا، مسلمين ومسيحيين ويهودًا. الظلم الذي وقع علينا وقع على الأتراك أيضًا. الأتراك لم يدفعوا ضرائب أقل منا، والأتراك حاربوا أكثر منا، وأرسلوا أبناءهم إلى الحروب أكثر منا”. ويقول “نحن انقلبنا على الأتراك من دون أي فائدة ومن دون أي سبب وجيه، لو لم ننقلب على الأتراك لكنّا أكثر احترامًا”.
وللصليبي نظرة جديدة في ما يخص العلاقة بين حاكم مصر كافور الأخشيدي السني والمتنبي، ويذهب إلى تحليل المسألة من عقيدة القرامطة (الكيسانية)، والكيسانية في رأيه “فوضى قبلية.. والقرامطة خربت العراق والجزيرة العربية.. وبقيت الحال على هذه المنوال حتى ظهر رجل عالي الهمة على قدر المهمة اسمه كافور الأخشيدي. وللأسف ظهر شخص طويل اللسان اسمه المتنبي هجاه بقصيدة لاذعة وجارحة. ولولا كافور لما بقي إسلام سني في العالم”.
ويعتقد الصليبي أن الطوائف الشيعية الطابع أو ذات الطابع الشيعي “ربما يكون بعضها من القرامطة”. ويتساءل “ما كانت عقيدة المتنبي. المتنبي كان شيعيًا. عال، أي نوع من الشيعة؟ منذ ثلاث سنوات عقد سيمنار عن ديوان المتنبي. أخذنا الديوان وبحثنا في كلمة كلمة، محاولين اكتشاف أي نوع هو، وإلى أي فرقة من الشيعة ينتمي”. وكانت نتيجة البحث أنه لم يكن منتميًا إلى الاسماعيلية أو الاثني عشرية. وليس بالضرورة أن يكون المتنبي درزيًا، ولكن احتمال أن يكون كيسانيا (قرمطي) هو احتمال عال. ويقول: “جاء المتنبي إلى ما نسميه سوق الغرب اليوم، ولم يذهب إلى “بير يجيك” قرب حلب كما يعتقد بعض الدارسين، وفي سوق الغرب قصد المتنبي “بني بحتر” التنوخيين الدروز”. ولا يحسم الصليبي والحسم صعب في تحديد طائفة المتنبي، ربما كان علويًا، ويمكن أن يكون كيسانيًا (قرمطي)، و”إذا كان كيسانيًا نستطيع أن نفهم لماذا حفظ الدروز ديوانه أكثر من أي طائفة أخرى، والذي حفظه هو صالح بن يحيى”.
ومن الخلاصات اللافتة التي توصل لها الصليبي تلك التي تتعلق بالأمير فخر الدين المعني، فهو بالنسبة له كان ملتزمًا جباية الضرائب في سنجقي بيروت وصيدا، وبعد ذلك امتدت وظيفته إلى صفد وعجلون. “وعندما كبر رأسه قام بالعصيان، فاعتقلته السلطات العثمانية، وساقته إلى الأستانة فحوكم وأعدم”. ولكن فخر الدين “شخص ذكي سافر إلى إيطاليا، وأقام فيها خمس سنوات، وسجل رحلته التي أجمل من أي رحلة غربية إلى الشرق”. وبالتالي لم يكن من أسرة أمراء “كان لقبه أمير لواء، وقد درجت على لسان العامة وصاروا يقولون عنه الأمير”، ثم جاء طنوس الشدياق وآخرون مثله ومنهم حيدر الشهابي وكتبوا تاريخ لبنان على أساس أنه إمارة.. أما فخر الدين الثاني فهو “مجرد تسمية أطلقت حين زور المؤرخون هذا التاريخ وجعلوه تاريخًا لدولة بيت معن.. هذا الرجل كان جابي ضرائب للدولة العثمانية”.
الحوار غني وممتع وطرح الكثير من الأفكار الجديدة، والتي لم يجد الصليبي الوقت لتقديمها في صيغة مبلورة، فقد رحل بعد ذلك بقليل، تاركا المكان شاغرًا لمفكر ومؤرخ جريء خاض في مياه راكدة كثيرة، ولم يبتل.
ضفة ثالثة