لأكتب كمن يتحرّى عن نفسه/ محمد دريوس
يحق لكل كاتب مقال واحد في حياته يقول فيه إنه لا يملك أفكاراً لمقاله الجديد، وأن رئيس التحرير يضغط عليه لتسليم مقاله بعد ساعة مثلاً، رغم أن لا أحد هناك ليضغط فعلاً، والحياة تمضي غير آبهة بالكاتب وبرئيس التحرير وبالقرّاء حتى، ثم يأخذ بالثرثرة كيفما اتفق لينتهي إلى كتابة 600 كلمة، بدون مبرر ولا تحمل أي شيء جديد.
لكن الكاتب الملعون يكون قد تفادى المأزق وملأ صفحتين بهذر، قبض ثمن مقاله وضحك على الجميع: رئيس التحرير والقرّاء، وربما خلال هذه الفترة، في الفترة التي يتساءل فيها كاتب ما، أي كاتب، عن أهمية ما يكتبه أو حتى عن جدواه، يبلغ، ربما أعمق لحظة في مسيرته المهنية كلّها، والبعض، ممن بلغوا عمقاً كافياً في إدراكهم، يثمّنون هذه الأوقات، بينما يستمرّ البعض الآخرون، أكاديميون وروائيون وكتّاب أعمدة، عقوداً دون أن ينتبهوا للجثث الميتة التي ترقد بين سطورهم.
لكنها لعبة تصلح لمرة واحدة، إذ سيتساءل الجميع عن جدوى الاحتفاظ بكاتب لا يفعل إلا أن يتساءل عما سيكتبه في هذا السبت أو ذاك الأربعاء الممطر، وتوريط القرّاء بمعضلة الكاتب وحصوله على موافقتهم المسبقة على كل هذرٍ ينوي حشره في المقال القادم، وبما أني لم أقم بهذا من قبل فيحق لي أن أقوم به مرة واحدة، وها أنا أشكو لكم قلّة الأفكار التي تخطر لي ورئيسة التحرير التي تطاردني لتسليم المقال، رغم أن لا شيء من هذا صحيح، ولا أحد يطاردني غير الدائنين والأحباء السابقين وربما بعض اللواتي وعدتهن بـ”الحب الأبدي” والإخلاص والوفاء وما شابه من أفكار مضحكة، وأيضاً جارتي، مدام “لا فاش”، التي تطلب مني باستمرار قصّ أعشاب الحديقة كأني جزار.
واستكمالاً لهذر كاتبي الأعمدة والصحفيين والكتاب الشعبيين والذين “يفحطون” على صفحات المواقع الإلكترونية، والذين يطاردون “كتالوجات” المعارض ليكتبوا عما يظنونه “فناً” أو “غناء” أو “مسرحاً”، أفكر بالمقال الذي سأكتبه، عندما لفت انتباهي مقال علمي عن فترة صلاحيات المنتجات الغذائية، (وهذه أيضاً كذبة أخرى، ترتبط بالوهم نفسه الذي يقع فيه الكاتب، أن يقع بصره فجأة على فكرة عظيمة غفل عنها الجميع) وضرورة الانتباه لما لها من دلالات متعددة، يمكنكم أن تجدوا المقال في مكان هنا في الموقع أو في الجحيم، أنا لست مجبراً على شرح كل شيء لك أيها القارئ الكسول، يوجد مقال يناسب ما أريد قوله وكفى.
فكرت أن هذا يمكن أن يكون موضوعاً جيداً للحديث، وبطريقتي الذكية أنتقل إلى بعض الأشياء التي لها مدة صلاحية، كالعلاقات العاطفية على سبيل المثال والتي تصل لمرحلة لا يمكن أن تستمرّ بشكلها الحالي، فيجد الطرفان نفسيهما مجبرين على اتخاذ تدابير أخرى: الزواج أو الافتراق، وهناك أيضاً العلاقات الأسرية، كالنساء اللواتي يفرحن بخلاصهن من قيد أب مهزوم أو أخ مرهق فينتقلن إلى زوج مهزوم ومرهق معاً.
لكنها مواضيع مملة وغير يقينية فيمكن أن تدافع عن فكرة أبدية العلاقات أو قصر مدتها، فما من مدة صلاحية معيّنة لهذه الأشياء، تنتهي العلاقات العاطفية والعلاقات الأسرية وحتى الصداقات، عندما تنتهي، عندما تشعر بطعم حموضة لاذع بعد القبلات، أو تشعر بأنك ترغب بشرب الماء بعدها، لتتخلّص من أثر القبلة في فمك، وكنتَ، عهد الحب اليانع، ترفض أن تغسل أسنانك حتى لتترك ذلك الأثر الخفيف والحلو أطول مدة ممكنة.
ويمكن أيضاً أن نتحدث عن السياسة بشكلها البسيط، فنتحدث عن مدة صلاحية الرؤساء على سبيل المثال، فبعضهم يعيد طبع تاريخ الإنتاج على مؤخرته كل سبع سنوات (لا تحتاجون إلى مثال سوري أليس كذلك؟)، أو تتولى ذلك الإدارة الأميركية، وبعضهم، كالملوك والأمراء لا يتلفتون لشيء سخيف كمدة الصلاحية (ربما تحتاجون هنا لمثال خليجي)، فهم قد حصلوا على شهادة الصلاحية الأبدية من الرب شخصياً، فيكتفون بشهادة الإنتاج، أما تاريخ الخروج من الخدمة فهي تعتمد على نشاط أجهزة المخابرات وسفارات الدول الكبرى ورأيها في الأمر.
تاريخ صلاحية الغيوم التي تمرّ في هذه اللحظة
تلك القصّة عن الشخص الذي قام بطمر الكنز وعلّمه بغيمة، تصلح لأن تكون مثالاً عبقرياً عن الأماكن الصالحة لإخفاء المشاعر الثمينة: أخفيتها تحت غيمة عابرة كأني أخفيت العميق في الآني، الثابت في الزائل، أخفيت كل ما أرغب بديمومته والاحتفاظ به تحت قناع شفيف من الابتذال العاطفي.
الخزائن السميكة والأماكن الحصينة تناسب ما لا يستمرّ، أما هذا الأحمق اللطيف الذي تسخرون منه في مواعظكم فقام بما يجدر به: أخفى الحب فيما لا يحب، فلن تعرفوا له طريقاً إلا عبر صوابكم الذي ضيّعتموه في “منطقة” المشاعر.
مدة صلاحية الأدوات الملائمة للانتحار
كان يوكيو ميشيما على قدر كبير الرهافة والشعور بالانهزام، الذاتي والعام، وعندما قرر الانتحار بالطريقة التقليدية، فعّل صلاحية السيف الياباني، الحامل الأكثر صلابة للإرث الياباني الوطني، فعّله لمدة قصيرة كانت كافية لتحصد روحه، ثم انطفأت الفعالية.
نستطيع أن نذكر أيضاً: المخدرات، السكّريات، الحب اليائس الذي يصادر حركية كل المراهقين اليوم، ويقودهم ببطء نحو التلاشي في العالم، أدوات التواصل الاجتماعي التي لم تعد على هيئة تربيتة على كتف أو لمسة أو قبلة، بل تلك اللايك اللعينة التي ترصد مدة صلاحية قلب من نحب.
مدة صلاحية اللوحة، القصيدة، الرواية
في اللحظة التي تقف فيها أمام لوحة، قصيدة، خاتمة مدهشة لرواية، وتقول: آه، تتحوّل أنت إلى طيف رقيق ويتحول المنتج الفني إلى أداة تلطيف وتغيير، تكفّ عن كونك شخصاً بأعضاء ونشاطات بشرية، وتأخذ طريقك لأن تصبح جزءاً من الجمال الكوني، صلاحيتك تكمن هنا، في الوقت الذي تتحد فيه مع الجمال وتنتهي كنشوة جنسية.
الخاتمة
يحتاج الكاتب الذي كنته في بداية المقال لخاتمة تجمل ما اكتشفه خلال رحلة الكتابة، في مدة صلاحيته ككاتب، أي خلال الأسطر التي استطاع أن يسوّدها أو أن “يفتضّ” عذريتها كما يحب كاتب تقليدي أن يقول، فيختصر الأحداث بخلاصات سريعة على غرار: الشرير انتهى في قبضة العدالة، أو في قبضة الثقل المتنامي لضميره، والفتى والفتاة المعذبان تلقيا هدية ثمينة من “عدالة” ما، سماوية أو أرضية… ثم يضع هذه الكلمة “تمّت” في الختام.
لأقرّ إذن أنني فعلت ما بوسعي لأكتب شيئاً يعجبكم، يعجب رئيسة التحرير ويعجب صديقتي الصغيرة، وربما يعجب فتاة أخرى تنتظرني في حياة أخرى وبلد آخر، والنتيجة كانت هي هذه الـ”تمّت”، كمدة صلاحية لا غير، لا يجوز بعدها قراءة أي شيء مما سبق، إذ سيكون مضيعة للوقت لا غير. تمت.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف
رصيف 22