موريزيو لازاراتو: كيف نصبح ماكينات سيميائية غارقة في الديون/ محمد سامي الكيال
تغيّر العالم كثيراً منذ وصول المفكر الإيطالي موريزيو لازارتوا في السبعينيات، لاجئاً سياسياً إلى فرنسا، التي كانت ملجأً آمناً للمفكرين والسياسيين اليساريين الإيطاليين، المتهمين بالإرهاب في أوج «سنوات الرصاص» التي شهدتها إيطاليا آنذاك، خاصة بعد ما يعرف بـ»عقيدة ميتران» أي الوعد الشفوي الذي قطعه الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران في الثمانينيات بعدم تسليم المثقفين الإيطاليين اللاجئين إلى فرنسا، حتى لو أدينوا بأحكام قضائية في بلدهم.
الجو السياسي والثقافي الذي دفع لازاراتو ورفاقه للانضمام إلى حركات يسارية توصف بالمتطرفة، مثل حركة التسيير الذاتي Autonomia Operaia، كان عالماً من الحركات الطلابية والعمالية التي تمرّدت منذ الستينيات على التنظيم الكلاسيكي للمجتمعات الصناعية الغربية. أراد ذلك «اليسار الجديد» الخروج من الانضباط الصارم لدولة الرفاه الأبوية. بقيمها المترسّخة، الداعمة لكيانات جمعية مثل العائلة والنقابة الرسمية والحزب السياسي. والقائمة على كثير من الإقصاء وإلغاء التنوّع، فضلاً عن غرقها بحالة من الجمود السياسي، والتضخّم والركود الاقتصادي.
لم تعد الهويات الجماعية الصلبة مقنعة لذلك الجيل من المثقفين، فهي ليست حسبهم إلا أسلوباً لإنشاء أجيال جديدة من العمال، الذين يفنون قوتهم ورغبتهم وراء الآلات وخطوط الإنتاج؛ والمحاربين الذين يموتون ويرتكبون الجرائم في حروب عبثية؛ فضلاً عن النساء، اللواتي حُدد دورهن في عمل منزلي وعاطفي غير مأجور، لتجديد قوة العمل وتأمين عملية «إعادة الإنتاج» التي ستخلق مزيداً من العمال والمحاربين.
هويات «الخضوع الاجتماعي» تلك، التي تنتجها آلة حرب اجتماعية وسياسية ضخمة، تمت مقاومتها عبر نمط جديد من «الآلات الراغبة» إذ سعى جيل جديد من العمال والطلاب لصياغة تركيبات اجتماعية وثقافية، تطلق العنان لكل ما اعتُبر انحرافاً وشذوذاً من وجهة نظر التنظيم المستقر، أدى ذلك في إيطاليا بالتحديد لكثير من العنف والرصاص.
ربما يمكن اليوم القول إن «الثورة» انتصرت، فالنقابات انهارت، والعائلات تحللت. والمعامل الضخمة نُقلت إلى آسيا وأمريكا الجنوبية، وباتت السلطة في طليعة المشجعين لكل أنواع الذاتية المفردنة، المتفلّتة من أسر الهويات الجمعية. فيما لم يعد هنالك مجال للحديث عن انحرافات أو شذوذ في خيارات الأفراد.
لم يغب عن لازاراتو ورفاقه الإيطاليين تحليل آليات الاستغلال والإقصاء الجديدة بعد كل هذه التغيّرات، إلا أنهم ما يزالون يعوّلون على إمكانيات الانفلات والتحرر التي حملتها معها. فما السمات الأساسية لعمل الرأسمالية المتأخرة على الذاتية من منظور المفكر الإيطالي؟ وهل يمكن لنمط الذات الجديد أن يواجه عمليات الإفقار والاستغلال المستمرة؟
فوضى العلامات
الفرضية الأساسية التي يطرحها لازاراتو، أن الرأسمالية المعاصرة باتت مُشغّلاً هائلاً لتداول ما لا نهاية له من العلامات والرموز، التي تلعب الدور الأساسي في تحريك الأجهزة الاقتصادية والسلطوية، فالبيانات المالية؛ خوارزميات الذكاء الصناعي؛ الإحصاءات المتعلّقة بحياة السكان ونشاطهم، وغيرها من أشكال الترميز، تصنع نظاماً سيميائياً معقداً، يتضخّم باستمرار، ويؤدي لمراكمة القيم المادية. لم يعد السعي الدائم لتكثير العلامات وتعظيمها يتيح مجالاً لخلق تمثيلات ودلالات واضحة ومستقرة، فالعلامات المتداولة لا معنى مستقل لها، وليست أكثر من مشغّل لعلامات أخرى: مؤشرات النمو الاقتصادي في بلد ما مثلاً، تنتج علامات إيجابية لإمكانيات الاستثمار فيه، ما يؤدي إلى تدفقات من البيانات المالية، التي تنتج بيانات أخرى، مثل توسّع السوق المحلي أو انكماشه، تطوّر الطلب الداخلي، تغيّر الميول الاستهلاكية، إلخ. في ما مضى ارتبطت التنمية بمعانٍ مستقرة وواضحة، مثل التخلّص من التبعية، القضاء على الفقر، التحديث الاجتماعي والثقافي، فيما تبدو العمليات الاقتصادية التي تجري اليوم بلا معنى، إلا تحسين الأرقام وزيادة المعلومات ذات القيمة التشغيلية.
يؤدي هذا لاختلال العلاقة التقليدية بين الدال والمدلول، إذ يصعب تعيين مدلولات واضحة لكل العلامات/الدوال التي تنبني الأنظمة الحالية على تداولها. فتصبح العلامات الفارغة أشبه بـ»رموز لافتة للنظر» لا تقوم على معنى داخلي، يمكن إدراكه على مستوى الوعي، بقدر ما تنبني أهميتها على قدرتها على إثارة الانتباه اللاواعي، غير المهتم بالمضمون والمعنى. تماماً كما تثير الألعاب والأشكال البرّاقة انتباه الأطفال قبل تكوّن ذواتهم.
لهذا آثار كبيرة على الذاتية، وهي الاستثمار الأساسي للرأسمالية والسلطة القائمة حسب لازاراتو، فالأفراد باتوا بدورهم «ماكينات سيميائية» ترسل وتستقبل كثيراً من الرموز والبيانات، أي لم يعودوا سوى علامات تُشغّل علامات أخرى، وليس بمقدورهم تأسيس معنى راسخ للذات والهوية والثقافة والمكان والزمان، تخترقهم فوضى العلامات على مستوى سابق للتمثيل والوعي والأنا. لتوضيح ذلك يتحدث لازاراتو على آليتين متلازمتين لصياغة الذاتية في الرأسمالية المتأخرة: الأولى آلية «الخضوع الاجتماعي» التي لا تزال تعمل على مستوى العلامات ذات الدلالة، محددة تعينات وهويات اجتماعية واضحة وذات معنى، مثل المهنة والعرق والجنس والدين. وهي نتاج لعمل الأجهزة الأيديولوجية التقليدية، ومنها المدرسة والعائلة ونظم القانون والمواطنة. أما الآلية الثانية فهي «الاستعباد الآلي» التي تقوم على أساس العلامات اللافتة للانتباه، المرسخة وضع الأفراد بوصفهم ماكينات سيميائية، مهمتها الأساسية إنتاج القيمة، عبر الكم الكبير من البيانات التي يصدرونها ويتلقونها في كل تفاصيل حياتهم.
آلية الاستعباد الآلي هذه مدمرة للذاتية، وتتوافق مع مفهوم «نزع الأقلمة» deterritorialization العائد لجيل دولوز وفيلكس غاتاري، أي الانتزاع والترحيل من أي سياق مستقر، زماني أو مكاني أو ثقافي أو ذاتي. في الوقت نفسه يستهلك البشر دوماً أشكالاً متجددة من الذاتية، أنماط حياة، هويات وقيماً أخلاقية واجتماعية، تأتي ضمن تيار عارم من العلامات، ثم تزول سريعاً. وما يجمعها قدرتها على لفت الانتباه، وانفصالها عن كل إطار ثقافي أو اجتماعي راسخ. عملية «إعادة الأقلمة» Reterritorialization السريعة والهشة هذه، ملازمة ولاحقة دائماً لعملية «نزع الأقلمة». وهما معاً من أهم سمات الرأسمالية، حسب دولوز وغاتاري.
ديون الماكينات
لكن ما القيم المادية التي تنتجها الذوات بعد أن باتت «ماكينات سيميائية»؟ رأينا أن تكثير وتعظيم البيانات من أهم محركات الاقتصاد والسياسات الحيوية المعاصرة، إلا أن هذه العملية لا تجري بشكل مجرّد، بل ترتبط بالإفقار وإعادة توزيع الثروة نحو الأعلى.
المال الوهمي، أي البيانات المالية الناتجة عن العمليات المصرفية، يقوم على نظام معقّد من الاقتراض والديون، وهذا النظام لن يستطيع الوجود والاستمرار دون انتشار قناعة أو توقّع راسخ بأن المال المُقرض يجب أن يسدد يوماً ما. يعتقد لازاراتو أن ثنائية دائن/مدين هي الرمز الأساسي لنظام الاقتصاد، وأكثر أهمية حتى من رمزية المال نفسه. هكذا تصبح «صناعة الإنسان المدين» أحد أهم آليات «إعادة الأقلمة» في عصرنا. وتشكّل عقدة عمل أنظمة السياسة والاقتصاد وحتى الأخلاق. فالدَيْن، والشعور بالذنب المرتبط به، من أواخر العلامات التي ما تزال تحافظ على مدلولاتها الراسخة، بل ربما كان «الحقيقة» الوحيدة في ما يتعلّق بالذات المعاصرة.
وبالتالي فإن القيم الناتجة عن الإنتاج الاجتماعي للبشر، تكرّس للوفاء بالديون التي يراكمها رأس المال المالي، فيغرق الناس بسياسات تقشفية، ويخسرون ودائعهم وقدراتهم الشرائية، ويتم نزع ملكيات الطبقات الأدنى منهم. وبهذا يشتري البشر بثمن باهظ العلامات سريعة الزوال، التي يتداولونها في عبوديتهم الآلية. ومنها ذواتهم نفسها.
لماذا التفاؤل؟
إلا أن لازاراتو يبدو متفائلاً بتحطيم نمط الذاتية التقليدي، فتداول العلامات اللافتة للانتباه يحرر البشر، حسبه، من التقسيمات الثقيلة، التي أغرقتهم بها السلطات دوماً: الأدوار الجنسية، الارتباط بالمهنة والعمل، الأعراق والثقافات والأديان. ليست الذاتية المترسّخة قدرنا، بل يمكن للعلامات، التي تعمل على مستوى قبل ذاتي، أن تنتج نمطاً جديداً من الفرادة، منفلتاً من كل تحديد، وقادراً على ابتكار أشكال جديدة للمقاومة. وأبسط الأشكال التي يقترحها المفكر الإيطالي رفض سداد الديون، والعبودية للعمل الموجّه للوفاء بـ»حقوق» الدائنين؛ تجاوز الهويات الوطنية، بالحدود التي تفرضها على هجرة البشر وحركتهم؛ ابتكار أشكال جديدة للعمل السياسي، لا تحصر نفسها بالقنوات البليدة للديمقراطية التمثيلية. قد يكون اللعب بكل دلالة ضماناً لعدم قيام أنظمة قمعية جديدة، تكبح رغبة البشر المتحررة من أيديولوجيات الذاتية والتمثيل.
إلا أن أحداث السنوات الأخيرة، وفشل الحركات الاجتماعية التي قامت على نمط الذات منزوعة الأقلمة، يطرحان شكوكاً عديدة حول تفاؤل لازاراتو: كل «خطوط الانفلات» العائدة لشكل الذاتية الجديد، يعاد استيعابها في عملية تكثير العلامات والبيانات ومضاعفتها، وتستخدم لترسيخ «الاستعباد الآلي».
ربما كان الأجدى البحث عن نمط جديد من «إعادة الأقلمة» أي إنتاج دلالات مترسخة تمكّن البشر من صياغة هويات جمعية، تقاوم عمليات إفقارهم واستغلالهم، وهو أمر قد يبدو مخالفاً لأحلام جيل لازاراتو بالتحرر، لكنه أنسب لجيل جديد، عاين عملياً العيش في عالم بدلالات ومعانٍ فارغة.
كاتب سوري
القدس العربي