هل هناك جدوى من الهوس بكومة من حجارة؟/ عمار المأمون
يصل المفكر الإيراني- البريطاني جيسون محقق، في محاضرة رقميّة بثت مؤخراً إلى النتيجة التاليّة: “لا جدوى أنطولوجيّة من الهوس بكومة حجارة!”، يطلق محقق هذه النتيجة إثر بحثه في تاريخ التحليل النفسي، ليرصد ما يسمى “الهوس-mania”، التعلق بأمر أو شيء أو غرض إلى حد إفناء الذات في سبيل الوصول إليه، ويميز محقق هنا بين الهوس والاضطراب النفسي.
إذ يرى أن الأخير نتاج صدمة، سواء كانت مفاجأة أو تنتمي للزمن اليومي، أو تأسيسية كعقدة أوديب لدى سيغموند فرويد، أو مرحلة المرآة لدى جاك لاكان، فالصدمات تشكل “الأنا- الإيغو”، وتكسبه تقنيات لإثبات وجوده ونفسه و اختلافه عن العالم، أما الهوس فشأنه مختلف ومصدره بكلمة واحدة: الفضول.
أهمل تاريخ التحليل النفسي، برأي محقق الهوس كونه لا يفضي إلى نتيجة، ويحرك المهووس نحو فنائه الذاتي، أي يدفع الفضول الأنا للتلاشي في سبيل موضوع هوسها، إذ لا يبني المهووس أناه أو يدافع عنها، بل يفنيها، والملفت أن لا أصل لكملة “مانيا-mania” باللغة العربية، نستخدم هنا هوس تجاوزاً، علماً أن “مانيا” هي واحدة من مراحل الحب.
أما في العربية فيبدأ المعجم حين البحث عن معنى “هوس” بالسلسلة التالية: “الطوفان في الليل والطلب بالجرأة”، مروراً بـ”الشجاعة” و”المشي على الأرض بثبات”، انتهاء بـ”طرف من الجنون”.
المهووس إذن يمشي ليلاً بحثاً عن كومة حجارة بشجاعة وجرأة، ولا بد من أن به طرفاً من جنون، ولا فائدة منه، إذ تتلاشى أناه ليصبح، ربما، آخراً، مجازاً أو فكرةً، محبّاً ضاع في البحث “ليلى”، أو كما في حالة الحكيم “أراشاي”، الذي يحدثنا عنه الكاتب السوري علاء رشيدي في كتابه “قصص تخيلية عن الموسيقا والحضارة”، فآرشاي هذا هام الجهات الأربع “ليستجلب الألحان من النسيان، والإيقاعات من الضياع”.
الملفت أن رشيدي اختار أن يروي قصة أرشاي بوصفها تمرينات للأطفال، أي تحوي تنبيهاً من نوع ما، إذ تنتهي الحكاية/ حياة “أراشاي” بسؤال “مدرسي” مفاده: “لماذا لم تكن الحياة عادلةً مع أراشاي، فلم تمنحه اللحن أو الإيقاع الذي يريد؟”.
أورلان: في عجز “ضمائر” الأنا
أصدرت هذا العام فنانة الأداء الفرنسية أورلان سيرتها الذاتية التي تحمل عنوان “تعرّي-كل شيء عن حياتي، كل شيء عن فني”. تمارس أورلان ما يسمى “الفن الجسماني” حسب تعبيرها، كونها غيرت اسمها ووظفت عمليات التجميل التي بُثّت علناً لتنحت جسدها، لتصبح لاحقاً كائناً رقمياً، إذ نفت هويتها السياسية الرسميّة ضمن “عملية” طويلة، لتصبح مثالاً على قدرة فن الأداء الذي يتيح التخليّ الكليّ عن “الأنا”، ليتحول لحم الفنان نفسه إلى موضوعة فنيّة.
المثير للاهتمام في سيرة أورلان أنها لا تقتبس بشكل جزئي ما تحبه أو تريد التعليق عليه، إذ يحوي الكتاب صفحات كاملة لنصوص أحبتها، وقصائد حفظتها وأغنيات أثرت بها، تضعها كما هي بشكل كامل، وتشير إلى أنها تضع “نفسها” بمواجه تاريخ الفن، ذاك الذي “تلاشت” سياسياً لأجله، الأهم، تقترح أورلان أنها ليست “واحداً” بل “جميعاً”، وتقول إنها تتمنى لو تستخدم في الحديث عن نفسها تعبير je sommes، أي ما يمكن نحته بالعربية بالشكل التالي: “أ(نـ)حن”، أي أناها التي تحوي الجميع.
هوس أورلان بتاريخ الفن، الموضوع “الأجنبي” عن جسدها، وإفناء ذاتها، ثم إعادة ولادتها من جديد، يهدد شكل القراءة التحليلية النفسيّة إن صح هذا الأسلوب في وصف تعاملنا مع الكتاب، هل ما نقرأه هو “سيرة” أورلان، أو عمل فني يحوي نصوصاً من ضمنها “أورلان”؟
لا نعلم بدقة، لكن تبقى ملامح من ذاتها السابقة حاضرة، إذ تخبرنا عن وضعها المالي، وكيف توقفت محاضراتها ومعارضها بسبب جائحة الكوفيد-19، إلى حد أنه لم يبق معها ثمن بطاقة طيارة، وكأن عالمنا الآن، بشرطه السياسي الحالي، يحارب حتى “المهووس”، يمنعه من تحقيق فنائه وضياعه في الليل بخطى ثابتة.
نلاحظ على طول السيرة الذاتية، النرجسية العالية لدى أورلان، فـ”أنواتها” تتحدث وتتخاطب كما أنها تحدق بحياتها بوصفها امتداداً لتاريخ الفن، هي المهووسة به والتي لا تريد فقط إعادة إنتاجه، بل دخوله إلى حد تلاشيها كـ”فرد” ذي بطاقة هوية ورقم وطني، وهذا ما حققته ربما، لا ترى إلا أورلان في كل ما يقع ناظرها عليه، كل آخر، هو “نحنها”، كل آخر يتسع داخله حد تلاشيـها.
أكثر من خمسين عاماً وأورلان لحم يتحرك فناً، وبالرغم من حديثها الطويل في الكتاب عن عشاقها ورغباتها التي أُشبعت بكل الأشكال، تحدثنا عن “الفيليا”، إحدى درجات الحب، وكيف يجب أن “نحب” الآخر لأنه آخر ومختلف، علينا أن نحبه لما هو عليه، لتعود بعدها إلى أنفسها وعشاقها، وكيف أنه زمن الحجر الصحي بإمكاننا أن نشبع أنفسنا بكل الأشكال، وفي حالتها الشخصيّة أورلان كانت قادرة على أن تشبع “أنفسها” بكل الأشكال، الوسادة، الإصبع، اللعبة، لكن يبقى سؤال معلق في نهاية الصفحة، إن كنا وحيدين “من سيقبلنا وراء الأذن؟”.
عن فيلة لا تضحك
نكتشف في تسجيل صغير على ناشيونال جيوغرافيك، أن حمى العاج بدأت في القرن التاسع عشر، وكان هدف الصيادين لا فقط استعراض رجولتهم، بل تغذية صناعة ثلاثة أشياء: “الأمشاط، كرات البلياردو البيضاء ومفاتيح البيانو”، في تلك الفترة ذاتها كان الفيلسوف الألماني هيغل حياً ويؤسس لنظريته في علم الجمال، نقتبس هنا من هيغل (الذي لا نقرب كتبه ولا نمسها) عبارة مضحكة أقرب إلى Meme، مفادها أن “علم الجمال ليس فيلاً”.
لا نعلم مدى صدق العبارة ونسبتها لهيغل، لكن التأمل بها يفتح باب التحذلق، في ذات الوقت الذي تقتل فيه ملايين الفيلة لصناعة الأمشاط، علم الجمال ليس كذلك، هو نتاج البشر، لا يوجد في الطبيعة، هي أصله نعم، لكنه، أي الجمال، “تمثيلها” أو قناع يشابهها ربما.
نشرت مؤخراً دراسة مفادها، أن الفيلة في محمية جورنجوسافي موزنبيق أصبحت تولد بلا أنياب، وما كان حالة جينيّة نادرةً أصبح حالة طبيعيّة، والسبب يعود للكروموسومات، فتلك التي تحمل خصائص غياب الأنياب تغلب على تلك التي تحمل الأنياب، ومع صيد كل تلك التي تمتلك أنياباً طغت جينياً صفة غياب الأنياب، فتنمو إناث الفيلة بلا أنياب، أما الذكور، فغياب الأنياب يقتلها، فتعيش قليلاً قبل أن ترحل.
يظهر أن استخدام لفظ “هوس” هنا أو “مانيا” مبالغ به إن أردنا وصف العلاقة مع عاج الفيلة، إذ لم تفنَ أوروبا الاستعمارية بسبب موضوع هوسها بالذهب الأبيض.
لكن أحياناً، العلاقة بين الأنا وموضوع الهوس ليست سببية، أي لا يفنى الفرد المهووس مباشرة في حال أُشبِعَ بموضوع هوسه، كحالة بيجماليون (Pygmalion) الذي أصبح تمثالاً، أو العاشق المولع بالتفاصيل الذي رسم لنا تفاصيله ألبيرتو مانغويل، أحياناً “العملية ” التي يفنى بها المهووس أقل مباشرة، لا نعلم بدقة تفاصيلها.
لكن نعلم مثلاً أن بطل مانغويل، أناتول فازانبيان، مات على سريره وحيداً، محاطاً بكل الصور التي التقطها من فتحة حجرته في الحمام العمومي الذي كان يعمل فيه، ربما مات جوعاً أو شبقاً أو وحدةً، لكن ليست الصور هي ما قتلته ولا جمالها (لم تكن جميلة بالمعنى التقليدي للصور)، بل عمهه عما حوله، وهذا بالضبط إحدى الجوانب المرعبة في الهوس، هو يعمي الأنا لا فقط عن “أنها”، بل عن كل ما حول هذا الموضوع الهوسي.
كان في حلب، خزان لـ”كل” بذور العالم
نقرأ في مجلة النيويوكر مقالاً بعنوان “صراع بنك حبوب سوري لأجل النجاة”، تخبرنا فيه هيلين سوليفان عنICARDA ، أو “المركز الدولي للأبحاث الزراعية الخاصة بالمناطق الجافة”، وكيف انتقل مقره من حلب السورية بسبب قصف نظام الأسد، إلى سهل البقاع في لبنان، حيث الوضع ليس بالأفضل، وكيف أن واحدة من السلالات فيه كانت قادرة على إنقاذ محاصيل القمح في الولايات المتحدة، يتخلل المقال حكايات بطولية عن تفاني مدير المركز في إنقاذ الحبوب وسهره على ما تبقى منه في حلب، ثم رحيله ومعاناته وفريقه في لبنان، حكاية تليق بالنيويوركر وتحوي كل التفاصيل المثيرة، ناهيك أنه حين البحث عن اسم المركز، نقرأ في ويكيبيديا كيف قام حافظ الأسد بتقديم أرض شمالي حلب مجاناً للمركز في سبيل الحفاظ على محاصيل سوريا، وكما نعلم هناك مخزن آخر في النروج، سفينة نوح التي تحوي “كلّ” البذور في حال انتهى العالم.
لا نعلم إن كانت مفارقةً وجود خزان حبوب العالم في حلب، ودمار الأخيرة، لكن تفيدنا الحكاية السابقة لإيضاح أثر الهوس بكرسي (ونجاة صاحبه) على “العالم” ومستقبله، وكيف يمكن أن تنجو “حبّة” في ظل أقسى أشكال العنف البيئي والسياسي. حبة، بعد تهجينها مع أخرى وإكسابها الخصب بعد العقم، باستخدام الكولشسين لتعديل جيناتها (المفارقة الأخرى أن الكولشسين مادة سامة، يأخذها البعض لمداواة أعراض حمى البحر المتوسط) أصبحت قادرة على “التكاثر” وإنقاذ محاصيل قارة بأكملها.
المثير للاهتمام في الحكاية أن الأسد كان يمتلك فرصة نادرة لإفناء أكبر قدر ممكن من “العالم”، والقضاء على المركز وما فيه من حبوب، ولا نعلم إن كان قد فوتها أو تعرض لضغوط دولية أو كل هذه التفسيرات، وهذا بالضبط ما يهدد مفهوم تلاشي العالم أمام “المهووس”، لم يصل بعد الأسد إلى حد تأمل ذاته وفقدانها أمام موضوع هوسها، وهذا بالضبط ما يحير في الشأن.
في وثائقي بثه المعارض أليكسي الروسي على يوتيوب، نراه يحدثنا عن هوس فلاديمير بوتين بالقصر العملاق الذي يبنيه والذي ينهب الدولة لأجل إكماله، حلمه الخاص لأجل التقاعد، وكأنه يضع أمامنا موضوعاً يبرر كل سياسية بوتين، في حالة الأسد الأمر غامض، فلا تدمير موضوع الهوس تم ولا العالم تم تدميره، ولا الذات تدمرت، أهو الكرسيّ؟
الشأن مبتذل إن نظرنا إلى الأمر بوصفه مجرد تعلق بالسلطة، ورغبة بالحكم والسيادة، لكن هنا بالضبط يبدو تصريح جيسون محقق منطقياً، “لا فائدة أنطولوجيّة …”، ما يعني أننا لا يمكن أن ندرك جدوى الهوس أو الـmania إلا في النهاية، في لحظة الدمار الكليّة للأنا، تلاشي أورلان، تلاشي الأسد، تلاشي جامعي الأمشاط العاجيّة.
يظهر هنا، أن تدمير تاريخ الفن، قتل الفيلة وحرق كل الحبوب، بدون معنى، لم كل هذا العناء لأجل “فناء” الأنا، فتعددها لا يعني فناءها، واستشهادها في سبيل “فكرة” ترسيخ لوجودها، لكن، موتها لأجل “كومة من حجارة”، يهدد بعمق إدراكنا للتاريخ، والأهم، “أنحنا”، ماذا لو في واحد منا “مهووس”، مستعد لتدمير العالم ونفسه لأجل أمر نجهله، ماذا لو لم يظهر موضوع الرغبة بعد لدى الكثيرين أو لم يتكون، ماذا لو أن كل أجهزتنا النفسية مصممة للوقوف بوجه الهوس نفسه، وقدرته التدميرية؟
رصيف 22