هل يمكن الخروج من عنف الاستبداد؟/ سمير الزبن
تعمل آلية الصراعات الداخلية في الدول المستبدّة على تقسيمات حدّية للكتل الاجتماعية، فهنا الصراعات، ليست بين فئاتٍ اجتماعيةٍ متصارعةٍ في الإطار الوطني، كما هي حالة الديمقراطية. إنما تعمل بآلية حربية، حيث يتم تقسيم الداخل إلى “أصدقاء” و”أعداء”، حيث تعمل على استبعاد “الأعداء” إلى خارج الدولة، على اعتبار أن وظيفتها حماية السلطة من “أعداء” الداخل والقضاء عليهم بوصفهم أخطر من “أعداء” الخارج. هذا عكس الديمقراطيات الحديثة التي تسعى إلى إدخال معادلة “أصدقاء”/ “أعداء” إلى داخل الدولة، واعتبارها صراعاتٍ قابلة للحل داخليًا بالسياسة، وباستبعاد العنف والإلغاء من المعادلة الداخلية.
في ظل الاستبداد، ليس غريبًا أن يبرّر العنف السياسي نفسَه بنفسه، عنف يصبح شرعيًا لمجرد حدوثه. وهو يقوم بمهمةٍ مزدوجةٍ في الصراع الداخلي، فهو عنفٌ يُقسّم الكتل البشرية في البلد، يشير إلى قسم منهم بوصفهم “أعداء”، من المقبول أن يكون هؤلاء ضحايا لعنفه. لكنه، من جهةٍ أخرى، عنفٌ يوحّد أيضًا، إذ يجمع كل أولئك الذين يجدون أن ممارسة العنف ضد “الأعداء” أمر شرعي، والذين يجدونه يحميهم من خطر هؤلاء “الأعداء”. لذلك يشكّل العنف السياسي أسلوبًا لتكوين الجماعات المستقطبة، وبتقسيم المجتمع بين أولئك الذين هم “أصدقاء”، أي الشعب، والمواطنون الصالحون، وأولئك الذين هم “أعداء”، أي الخونة، أو الإرهابيون، أو أقلية ما. ولكي ينجح العنف ويستطيع الاستمرار في أداء دوره، ويخلي مكانًا لمؤسسة مستقرّة، فإن “الأعداء” ينبغي إبعادهم عن الجماعة، وطردهم إلى الخارج، كما أن الحرب مع “العدو” ينبغي أن تولد تضامنًا أيضًا، وأن تؤسّس تعاونًا ودعمًا من الأصدقاء، لأن التضامن والعداء هما وجها الواقع نفسه الذي يعمل العنف عليه.
واحدة من التعقيدات التي يولّدها الصراع الدموي، في حالة إدارة الاستبداد الصراعات المحلية، أن هناك دائمًا في هذا النمط من السلطات، أنظمة “ما وراء الأنظمة” التي تسمح بتحويل الصراع. أي أن هناك مؤسّسات شكلية للدولة، هي صورية، غير فعالة، مثل الوزارات والإدارات العامة. وهناك، في الخلفية، مؤسّسات متوارية، هي الفعالة والتي تملك القرار، الجيش وأجهزة المخابرات. وما بين تواري المؤسسات والظاهر منها، تولد “تفاهة الشر”، وهي التي تجعل موظفين عاديين يرتكبون جرائم كبرى. فمع مفهوم “تفاهة الشر” يتلاشى التوازن بين فاعلي العنف وأعمالهم. لا يوجد قياس بين الفعل المرتكب وفاعله. ولم يعد موجودًا سوى عدم التناسب بين جرائم كبرى يرتكبها أفراد تافهون، وهم أناسٌ عاديون ليس فيهم أي شيء خارق. لقد جسّد إيخمان، بحسب رأي حنة أرندت، ذلك البون الشاسع وعدم التناسب، إنه الدليل على أنه في العالم الذي نعيش شروره، يصبح شر الشرور أمرًا تافهًا، بما أن في وسع كل شخص ارتكابه، وتُلخص حنة أرندت الأمر بقولها: “أعظم الشرور في العالم يرتكبها أشخاص نكرات”. ويمكننا النظر إلى الوشايات السياسية مثالا على “تفاهة الشر” يقف هذا المثال في مكان وسط بين جرائم وقت السلم والعنف الدموي الذي تمارسه الدولة ضد مواطنيها. تلك الظاهرة التي تتيح لنا أن نستشفّ تعقيد الروابط بين العنف السياسي والعنف الخاص الذي يمارسه الأفراد ضد بعضهم بعضًا، ومقابله نجد النظام السياسي الذي مهمته الأولى حماية هؤلاء الأفراد، يوظّف الوشاة ضد المواطنين الذين من المُفترض أنه يحميهم. الشرّ لا يصبح تافهًا، إلا عندما تصبح إبادة الشعوب أو أجزاء منها يحملون هوية محدّدة سياسة رسمية للدول، فهذا التلوين الاجتماعي الذي يُفترض أنه يدلّ على التنوّع الاجتماعي في البلد المعني، يتعامل الاستبداد معه ويوظّفه بوصفه آلية لتحديد الأعداء الداخليين الذين يجب التخلّص منهم. ويصبح الدم، والعرق، والهوية الاثنية، والهوية الدينية، والهوية الطائفية، كلها أساليب لإيجاد تضامن الجماعة وتضامنها في مواجهة “الأعداء”. وهؤلاء يعتبرون الروابط بينهم بمثابة علاقة خالدة تضفي الشرعية على ممارستهم العنف ضد “الأعداء”.
وفي هذا السياق، هناك سؤال يُطرح، ما الذي يُفسّر كيف تؤدّي أشكال العنف الهائلة إلى ممارسات شنيعة، وإلى صنوف تعذيب غريبة وفظائع لا يمكن تصديقها، بين بشر كانوا للأمس القريب جيرانا وأصدقاء؟ أستعير في هذا السياق إجابة الباحث المختص في الإبادات الجماعية، ألكسندر هينتون، على هذا السؤال، على الرغم من أنه لا يعتبر جوابه شافيًا، فهو يقول: ما من إبادة جماعية يمكن أن تحدث من دون مشاركة جزء كبير من السكان. والمشاركة يمكن أن تكون سلبية، تنحصر في ترك السفاحين يفعلون ما يشاؤون، أو فعالة، تقوم على تقديم العون لهم أو حتى المشاركة في المذابح. طبعًا، هذه الإجابة لا تعني، أن الضحايا يتحملون مسؤولية ما يتعرّضون له من عنف، لأن العنف غاليًا ما يستلب الضحايا، ويخيف المؤيدين. وبإنتاج هذا الشرط التاريخي، تصبح الجرائم ضد الإنسانية مسألةً تنتظر انفجار الصراع العنيف. وحسب ما عرّف لاري مي الجرائم ضد الإنسانية فإنها “جرائم جماعات”، وهو يرى أن الجريمة ضد الإنسانية جريمة جماعية بأحد المعنيين: إما أن تقع الجريمة على الفرد بسبب انتمائه لمجموعة ما، أو بسبب صفةٍ أخرى من صفاته التي تميزه عن الآخرين، أو الإساءة نتيجة تدخل جماعة مثل الدولة. هذا يعني أنه توجد جريمة ضد الإنسانية، سواء عندما يتم استهداف الضحايا بسبب انتمائهم إلى جماعة خاصة، مثلًا جماعة دينية، أو عرقية، أو اجتماعية، أو عندما ينتمي الفاعلون إلى جماعةٍ منظمةٍ مثل الدولة، أو عندما يتحقق الشرطان كلاهما. الجرائم ضد الإنسانية لا تصوّب على الإنسانية، إنما على جماعاتٍ محدّدة من البشر، اليهود، الأرمن، التوتسي، الأكراد، الكوسوفيين، اليزيديين، وغيرهم، كل هؤلاء لم يُستهدفوا لأنهم مجرّد كائنات بشرية، بل لكونهم ينتمون إلى جماعة محدّدة، ولا ينتمون إلى المجموعة التي تقتلهم.
لا يمكن الخروج من هذه المعادلة القاتلة، لتصنيف الداخل “أعداء”/ “أصدقاء” سوى بمسار طويل، لتحقيق العدالة الاجتماعية التي يُنظر إليها بوصفها تعبيرات معقدة لإرادة التضامن الداخلي الشامل، والتي تضفي الشرعية على ذاتها عن طريق رفض العنف. تهدف العدالة الاجتماعية إلى استعادة مثاليات المساواة والرفاهية التي تشتمل عليها المطالبات الاجتماعية، بنزع سلاحها بالمعنى الحرفي، مع ذلك من دون جعلها واهنة. لا يمكن أن تصبح العدالة الاجتماعية وسيلةً لزوال العداء في داخل الدولة، بدلا من الإقصاء العنيف “للأعداء”، إلا في حالة انقطاع الصلة بين الظلم والنزاعات الاجتماعية. وذلك الانفصال الذي أدّى إلى تحوّل عميق في مفهوم العدالة، كما كانت مفهومة سابقاً، لأنه حرّر مفهوم الظلم من مفهوم الخطأ الفردي أو الجماعي.
العربي الجديد