بعد “سوريا المذكورة في سورة التين”..الأوقاف توبّخ المفتي حسون/ وليد بركسية
في العام 2018 أعطى المرسوم التشريعي الرقم 31، الذي أصدره رئيس النظام السوري بشار الأسد، صلاحيات غير مسبوقة لوزارة الأوقاف في البلاد، لم تكتفِ بمنحها الحق في التحكم بمؤسسات مالية وتربوية، وبالإنتاج الفني والثقافي وتأميم النشاط الديني، فضلاً عن تأسيس جماعة دينية تحت مسمى “الفريق الديني الشبابي” خلافاً لما ينص عليه الدستور السوري، بل أيضاً القدرة على تحجيم منصب مفتي الجمهورية لصالح وزير الأوقاف.
يظهر ذلك بوضوح في البيان الذي أصدره “المجلس العلمي الفقهي” في الوزارة، ووصف فيه تفسيرات المفتي أحمد بدر الدين حسون، للنصوص القرآنية، بأنها “منحرفة وغريبة وتشق الصف”، في مشهد يلخص النفوذ الهائل الذي يمتلكه وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد في البلاد، هو الذي لعب الدور الأكبر في حشد رجال الدين السنة إلى جانب النظام في السنوات الماضية، بما في ذلك تنظيم “القبيسيات” النسوي، حيث كانت مهمته الأساسية في ظل الثورة تجيير المؤسسات الدينية ورجال الدين للوقوف خلف النظام والاندراج في روايته، ما يسهم في تعميق الانقسام الاجتماعي في البلاد.
بيان المجلس جاء رداً على تصريحات حسون خلال جنازة المغني الحلبي صباح فخري قبل أيام، والتي لم يتحدث فيها فقط عن معاني الوفاء والمواطنة لـ”الدولة السورية” من ناحية “البقاء في حضن الوطن” في هجوم على اللاجئين وكل من هرب من البلاد بوصفهم كفاراً لن يجدوا من يصلي عليهم عند وفاتهم، بل امتدت أيضاً لتقديم تفسير جديد لسورة “التين” في القرآن، قال فيه أن “خريطة سوريا مذكورة” فيها.
وخلال كلمته، تساءل حسون بطريقة تظهر كيف يمكن رجال الدين الشطط في أفكارهم لأغراض سياسية: “وين خريطة سوريا بالقرآن الكريم؟” ليجيب نفسه بنفسه: “موجودة بسورة منقرأها كتير بصلاتنا”، تالياً الآيات ليصل إلى جملة: “لقد خلقنا الإنسان في هذه البلاد في أحسن تقويم، فإذا تركها رددناه أسفل سافلين”، ويقصد بذلك اللاجئين خارج سوريا. وتابع “ثم يكمل الله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، في هذه الأرض، فلهم أجر غير ممنون، أي الذين بقوا في سوريا”.
وجاء في بيان المجلس العلمي الفقهي التابع لوزارة الأوقاف ونقلته وسائل إعلام محلية: “استجابةً للتساؤلات الكثيرة التي وردت حول ماتداولته بعض المواقع من تفسير مغلوط لسورة التين من القرآن الكريم فإنّ المجلس أصدر بيانه الذي جاء فيه إن الله سبحانه وتعالى قال: ولقد كرّمنا بني آدم. وقال رسول الله: يا أيها الناس إنّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى”.
وفي أقسى لهجة ممكنة من مؤسسة دينية إلى شخصية دينية يفترض أنها من المذهب نفسه سياسياً ودينياً، قال البيان أن الله حذر “من خلط التفسير بالأهواء والمصالح البشرية، فقال جلّ شأنه: يحرفون الكلم عن مواضعه، أي: على حسب أهوائهم ومصالحهم”، معتبراً أن التفسير الجديد هو “عصبية مقيتة حذّر الإسلام منها ونهى عنها”، مضيفاً أن لا علاقة للآية القرآنية ببلاد الشام أو غيرها من المسميات القُطرية التي تتغير من زمان لآخر، مشيراً إلى أن “تفسير إعجاز الخلق بهذا المفهوم الضيق بعدٌ عن المقصد الإنساني الذي أراده الله في هذه السورة، وهو كلام لا ينطلق من دراية بقواعد تفسير القرآن الكريم، كما أنه إقحام للدِّين في إطار إقليمي ضيق”.
الشقاق بين الوزارة والمفتي قديم في الواقع وليس طارئاً لكنه لم يكن أبداً بمثل هذه العلنية والحدة، لكن لن تجد الوزارة فرصة أفضل للهجوم على المفتي وطعنه في معرفته بالإسلام من دون الانزلاق إلى حيز يكون فيه من السهل اتهامها بشخصنة الأمور. وفيما تحاول الوزارة تلافي تقديم انتقاداتها أمام الجمهور السوري على أنه مجرد خلاف شخصي بين المفتي ووزير الأوقاف، فإن إحراج المفني بهذه الطريقة العلنية بما فيها من إذلال على المستوى “المعرفي” و”الديني” يبقى الهدف النهائي حتماً، بغرض تسجيل نقاط سياسية أمام “القيادة الحكيمة”.
ويعتبر المجلس العلمي الفقهي في وزارة الأوقاف تجمعاً لرجال الدين، ويعتمد على مرجعية فكر “علماء بلاد الشام” بدلاً من الدول الأخرى، ويضم شيوخاً من كافة المذاهب الإسلامية وممثلين من الطوائف المسيحية يسميهم البطاركة ويدعو إلى نبذ التعصب والطائفية. وتشكّل المجلس العلمي الفقهي بموجب المادة الخامسة من القانون 31 للعام 2018 ويرأسه وزير الأوقاف شخصياً.
وينص القانون 31 الذي أصدره الأسد بدلاً عن قانون سابق يعود للعام 1961، على تحديد فترة ولاية مفتي الجمهورية بثلاث سنوات قابلة للتمديد، بناءً على مقترح وزير الأوقاف. وفي السابق كان الرئيس هو من يعين المفتي من دون تحديد مدة ولايته، علماً أن حسون يشغل منصب مفتي سوريا منذ العام 2004. وكان طوال سنوات الثورة السورية واحداً من أبرز الأصوات التي تضخ البروباغندا لصالح النظام وبدا في مناسبات كثيرة أقرب إلى ناطق باسم النظام مقابل كونه رجل دين على غرار الوزير السيد.
ولا مجال للدهشة أمام هذا الصراع الديني البحت في دولة تدعي العلمانية، فالنظام لم يكن يوماً حريصاً على القيم المدنية التي تفصل الدين عن الدولة، بقدر ما استمد جزءاً من سلطته من تحالف راسخ مع رجال الدين طوال عقود، مع الإشارة إلى أن الدستور السوري نفسه يناقض العلمانية باعتباره “الفقه الإسلامي” المصدر الرئيس للتشريع بموازاة “احترام” الأديان الأخرى من دون “الإخلال بالنظام العام”. فيما يتحكم الدين بحياة السوريين، على الصعيد الرسمي، وتحديداً قانون الأحوال الشخصية وعدم الاعتراف بالزواج المدني، فضلاً عن أن “محاكم البداية المدنية” مقسمة بحسب الطوائف: المحكمة الشرعية للسنّة، والمحكمة المذهبية للدروز، والمحكمة الروحية التي تنظر في قضايا الأحوال الشخصية لغير المسلمين، لا سيما الطوائف المسيحية والطائفة الموسوية وغيرها.
ويثير رجال الدين السوريون استياء متزايداً بين السوريين، خصوصاً أن نفوذهم لا يطال فقط جوانب الحياة العامة، بل باتوا يظهرون بترف كبير في مواقع التواصل مقارنة بالبؤس الذي يعيشه عموم السوريين الذين تتخطى نسبة الفقراء منهم 85% حسب إحصائيات الأمم المتحدة، ويمكن الدلالة على ذلك بحالة المستشارة الإعلامية في وزارة الأوقاف خلود السروجي التي تبث مقاطع فيديو عن الإيمان والتقوى وضرورة الصمود، من منزلها الفاخر في منطقة يعفور قرب العاصمة دمشق، باستمرار.
ويسلط كل ما سبق الضوء مجدداً على تحالف السلطة السياسية “العلوية” مع رجال الدين “السنة” والذي يكفل للطرفين امتيازات واسعة على مختلف المستويات. وفي حالة “سماحة المفتي” و”سيادة الوزير”، فإن العداء يدور بالفعل حول مزيد من المكاسب التي لا علاقة لها بـ”الثواب في الحياة الآخرة” بقدر ما هو صراع حول النفوذ والمال داخل البلاد.
وصحيح أن “سوريا الأسد” لم تكن دولة دينية بالكامل على غرار السعودية أو إيران، إلا أنها لم تكن أيضاً دولة علمانية مدنية، لأن العلمانية تقوم على ركيزتي فصل الدين عن الدولة وإقرار حرية الإعتقاد الديني. وكلا الركيزتان لا يمكن أن تتحققا إلا في مجتمع ديموقراطي حر. وبالتالي لم تكن الدولة الأسدية سوى نظام ديكتاتوري استبدادي، مزج العبودية الدينية بالعبودية العقائدية البعثية، وعقد تحالفات متينة مع رجال الدين، السنّة بالتحديد، لبقائه بشكل أو بآخر، مدفوعاً بحاجته كنظام طائفي أقلوي، إلى ضبط الطائفة الأكبر في البلاد، عبر التحكم بمفاصلها الأساسية، دينياً واقتصادياً.
والحال أن نفوذ وزارة الأوقاف زاد بشكل واضح في البلاد بعد العام 2011، فبعد أشهر من انطلاقة الثورة السورية، استقبل رئيس النظام بشار الأسد وفداً من “كبار العلماء” ومنهم رجل الدين الراحل محمد سعيد رمضان البوطي، وتم حينها عقد صفقة بين الطرفين، بدعم رجال الدين للنظام بدلاً من الانحياز للثورة، في مقابل الحصول على امتيازات ومطالب، منها إغلاق كازينو دمشق الذي افتتح قبل الثورة بأشهر قليلة، بحجة أنه “نادٍ للقمار”، ثم افتتاح قناة فضائية دينية رسمية تحت اسم “نور الشام”.
ومع “انتصار” النظام العسكري في الحرب السورية، بدأت طبيعة تلك الصفقة الغامضة التي تتحدث عنها مواقع سورية معارضة، تتضح تدريجياً، عبر سلسلة من القرارات. فتم تعيين عدد من خريجي كلية الشريعة، خلال العام 2018، ضمن كادر وزارة الإعلام للقيام بأغراض رقابية، للمرة الأولى في تاريخ سوريا. كما باتت الوزارة الأوقاف تمتلك سلطات ونفوذاً على وزارتي التربية والتعليم العالي أيضاً! وبلغ الأمر ذروته العام الماضي مع الخطابات التي ألقاها الأسد من مساجد في العاصمة دمشق، واجتماعاته مع رجال الدين التابعين للوزارة، عدة مرات.
المدن