العودة للعمل أو كيف تقادمت «الفئات الاجتماعية الجديدة»/ محمد سامي الكيال
ارتبط الحديث عن بروز «فئات اجتماعية جديدة» ذات متطلبات نوعية وثقافية مختلفة، بالنقد الموجة للماركسية والأحزاب الديمقراطية الاجتماعية الغربية، منذ سبعينيات القرن الماضي. فقد اقتصر تركيز اليسار آنذاك على الطبقة العاملة الصناعية، وقضايا العمل/الملكية عموماً، بوصفها منطلقاً لأي سياسة تدمج الديمقراطي بالاجتماعي. إذ لا معنى للحديث عن منظومات ديمقراطية ما لم يشارك بها العمال المنظّمون. وهكذا كان العمل، وما يرتبط به من حقوق ومتطلبات، فضلاً عن التقليد الثقافي للطبقة العاملة، قوة سياسية، ورمزاً تواصلياً ذا دلالة بالغة.
نقّاد اليسار الاجتماعي لاحظوا تغيّراً جذرياً في المجتمعات المعاصرة، لم يعد فيه الإنتاج المنظّم فوردياً (العمل المنضبط وراء خطوط إنتاج) ركيزة أساسية في السياسات العامة، خاصة مع نزع التصنيع في الدول الغربية. وإلى جانب نموذج العامل التقليدي، الذكر الأبيض ذي الياقة الزرقاء؛ والعائلة العمالية الأبوية المدعومة من دولة الرفاه، برزت فئات تم تهميشها طويلاً في ما مضى: النساء والمثليون والمهاجرون والأقليات وغيرهم. ولهؤلاء قضايا ومطالب تتجاوز حدود المعمل الفوردي. تتعلق بمسائل مثل الثقافة والنوع الاجتماعي والهوية الفردية. باختصار هنالك فئات تطلب «الاعتراف» قبل قضايا حقوق العمل وإعادة توزيع الثروة، وتظهر تنوّعاً كبيراً، لا يمكن اختصاره بالمصالح المتعارف عليها للعمال.
الأهم أن هذا التنوّع يؤشّر إلى نمط جديد من الذاتية: لم يعد من الممكن نشوء هوية جماعية قائمة على التماثل والتشابه، مثل التي كانت للعمال، المجمّعين، بسبب ظروف عملهم، في مصانع كبيرة، ذاتية «الفئات الجديدة» تقوم أساساً على الاختلاف والفرادة، ولهذا أبعاد سياسية كبيرة، فلا يمكن تنظيم أي حراك اجتماعي تشارك فيه هذه الفئات، بأسلوب هرمي. ولا يمكن اختزال احتياجاتها بمطالب على المستوى السياسي العام والشامل، بل تتفتت مطالبها ونضالاتها على مستوى مصغّر، ومنتشر في كل تفاصيل الجسم الاجتماعي.
الطريف في هذا المنظور أنه ما يزال يُعتبر «جديداً» رغم مرور أكثر من أربعين عاماً على ظهوره، وعجزه عن الإحاطة بعديد من الظواهر المعاصرة، على مستوى التحليل الاجتماعي والنظرية السياسية. أحداث العقدين الأخيرين، مثل الأزمة المالية العالمية، وما رافقها من بؤس وتدمير لحياة الفئات الأفقر؛ وفشل الاحتجاجات الاجتماعية، من الربيع العربي وحتى «احتلوا وول ستريت»؛ والأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لانتشار فيروس كورونا؛ طرحت أسئلة شديدة الإلحاح: هل بالفعل تقوم ذاتية «الفئات الجديدة» على الفرادة والتنوّع؟ وهل يمكن لـ»الاعتراف» الذي بات عالمنا متخماً به، أن يحسّن أوضاع البشر على اختلاف هوياتهم؟ والأهم: هل لم تعد ثنائية العمل/الملكية بالفعل المحدد الاجتماعي الأساسي لحياة الناس، مهما كانوا ينتمون لفئات «جديدة»؟
الفكر المُنتج
واحدة من أهم الإجابات على هذه الأسئلة جاءت من إيطاليا، فبينما كان كثير من المنظرين في أمريكا وشمال أوروبا يتحدثون عن انتفاء أولوية العمل والعمال لمصلحة «الفئات الجديدة» قدّم منظرو المدرسة العمالوية الإيطالية Operaismo تصوراً معاكساً: الحالة العمالية لم تضمحل، بل توسعت لتشمل فئات أكثر. والإنتاج لم يعد مقتصراً على المصانع الكبيرة، بل تعمم في كل المجتمع. وسط حركات تحطيم الآلات والتهرّب من العمل، والعنف المتصاعد، الذي انتشر في عدد من المعامل الإيطالية منذ الستينيات، انتقد مفكرو المدرسة العمالوية التصوّر التقليدي لـ»العامل الاجتماعي» لحساب مفهوم «الفكر العام» General intellect، المستقى من «غروندريسه» كارل ماركس: العمل لا يمكن اختصاره بقوة العمل، التي يشتريها الرأسماليون في المصانع، والمنتجة للسلع المادية، بل هو القدرة الحيوية والثقافية والتواصلية، الذكاء العاطفي والاجتماعي والعملي، العائد لفئات اجتماعية كثيرة، لم تكن تُعتبر من العمال، وتنتج قيماً كبيرة، تؤدي لتراكم رأس المال، دون أن تنال غالباً أجراً على عملها. هكذا درس العمالويون أشكالاً مهمة من العمل غير الصناعي، مثل العمل المنزلي غير المأجور للنساء؛ دور الطلاب والعاطلين عن العمل في إنتاج القيمة، إلخ. باختصار: كلنا، بعملنا المادي وغير المادي، عمال، لأننا مشاركون في «الفكر العام» الذي لا معنى لأي إنتاج أو قيمة دونه.
طوّر أنطونيو نيغري هذه الأفكار في مطلع الألفية، ليتحدث عن بروز نمط جديد من الذاتية مع سيادة الإنتاج غير الفوردي.. مركزاً على مصطلح Multitude، الذي يمكن اقتراح ترجمته بـ»الكثرة المتعددة» أي مجموعة التفرّدات الذاتية التي تعمل معاً، وتقوم على الاختلاف لا التطابق، تجمعها شبكة من العلاقات الاجتماعية المرنة. ويجب تمييزها عن مفاهيم تقوم على افتراض إرادة أحادية ومتماثلة، مثل «الشعب» أو حتى «الطبقة العاملة». كان لأفكار نيغري هذه، التي أسست لما يسمى «بعد العمالوية» تأثير كبير في الحركات الاجتماعية المعاصرة. واعتبر كثيرون نمط الذاتية المفردن والتعددي قادرا على الإفلات من أساليب الضبط السلطوي بكل أشكاله، إلا أن الفشل الذريع لمعظم الحركات الاحتجاجية، في إنتاج حالة جماعية ناجعة في مقاومتها، جعل عدداً من مناصريها يراجعون قناعاتهم. نيغري نفسه عاد للتأكيد، في مقالة كتبها تعليقاً على الأفق المسدود لحركة «السترات الصفراء» في فرنسا، على ضرورة تحويل الـ»Multitude» إلى طبقة، أي قوة قادرة على تحويل العلاقات الاجتماعية. فهل كان يشير إلى أنه لم يعد متفائلاً بمفاهيم الاختلاف والتعدد و»النضالات المنتشرة أفقياً»؟
لستم فريدين!
لا يمكن اعتبار الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين من أنصار العمالوية الإيطالية أو ما بعدها، لكنه بالتأكيد أثّر بشدة في ممثليها المعاصرين. وقد عاد اسمه للانتشار بعد مقالاته المتعددة عن إجراءات الحظر والإغلاق التي اتخذتها الدول لمواجهة وباء كورونا، إنها النموذج الحي لـ»حالة الاستثناء» التي تحدث عنها طويلاً.
يسخر أغامبين من دعوات «التضامن» التي انطلقت مع إجراءات «التباعد الاجتماعي»: ابتعد عن جارك، واقبع في بيتك. منفذاً تعليمات السلطة، المنتهكة لأبسط ما كان يعتبر حقوقك الفردية والسياسية. بالنسبة للفيلسوف الإيطالي لا يدل هذا الخضوع إلا على تشكّل نوع من «الحشد السلبي» الخانع والمميّع والمتماثل. وبدلاً من التفردات الذاتية المتنوّعة والمتضامنة، التي تحدث عنها نيغري، لا يرى أغامبين إلا ذواتاً متشابهة، متراصة في خنوعها، تعيد إنتاج تعليمات السلطة، معتبرة إياها نمط الحياة الصائب. نحن، حسب أغامبين، غير فريدين للدرجة التي نتصورها، نحصل على كثير من «الاعتراف» لكننا في النهاية لا نستطيع أن نجابه إفقارنا، وتجريدنا من حقوقنا الاجتماعية والسياسية، ونمط الذاتية المحدود، التي سجنتنا به السياسات الحيوية للسلطة المعاصرة. لسنا أكثر من «حياة عارية» مؤرشفة ومصنّفة في تركيبات السلطة والمعرفة الحالية، ولذلك فنحن نشبه بعضنا أكثر مما نظن.
تواصل فارغ
توجد حالياً مقاربتان أساسيتان لفهم العلاقة المعاصرة بين الذاتية والسلطة.. الأولى يمثلها المفكر الإيطالي موريزيو لازاراتو، أحد أبرز مفكري بعد العمالوية المعاصرين، الذي يميّز بين أسلوبين متناقضين لإنتاج الذاتية في الشرط الرأسمالي: «الخضوع الاجتماعي» و»العبودية الآلية». الأسلوب الأول يقوم على إنتاج دلالات واضحة حول الذات، مثل الجنس والمهنة والعرق والدين. في حين تشتت «العبودية الآلية» كل ذاتية ممكنة، إذ تقوم على إغراق الذوات، التي لم تعد أكثر من مشغّل ومستقبل لإشارات سيميائية متعددة، بعدد هائل من العلامات التواصلية، تحقق تراكما كبيراً للرأسمالية المعاصرة، التي صارت، في جانب مهم منها، تقوم على تداول البيانات والمعلومات وتكثيرها. هكذا لا يمكن أن تعرّف نفسك بأي تحديد ثابت، فتستهلك أنماطاً متعددة من الذاتية، وتعيد إنتاج هويتك دوماً، وهو ما يراه لازاراتو أمراً إيجابياً في مواجهة السلطة، إذ يمكن للذات أن تستغلّ التناقض في آليات إنتاج الهوية المعاصرة، لتنفلت من كل تحديد سلطوي، وتبتكر أنماطاً غير متوقعة من المقاومة.
المقاربة الثانية تمثلها المفكرة الأمريكية جودي دين، التي ترى أن نمط الذاتية المعاصر، بتركيزه على الاختلاف والفردنة، يعيق نشوء أي تضامن بين البشر. ولذلك لا بد من القطيعة مع السياسات الحيوية لما تسميه «الرأسمالية التواصلية» التي تعمل على تكثير ومراكمة العلامات والدلالات، بصرف النظر عن مضمونها. فيصبح محتوى التواصل فارغاً، لا يؤدي لنشوء أي نمط إيجابي من الذاتية. والحل بنظر جودي دين بناء «أنا مثالية» مفارقة لأنانية ومحدودية وفراغ الذات المعاصرة، تركز على التشابه والتماثل والرفاقية.
لا داعي للخوف، حسب دين، من خسارة هوياتنا المتبدّلة وفرادتنا المزعومة، فهي بالنهاية ليست أكثر من منتج اعتباطي لآليات توليد القيمة الرأسمالية المعاصرة، ولذلك تدعو لـ»حزب ثوري» ينتج دلالات جمعية واضحة: «نحن» في مواجهة «أنا» الخاوية من المعنى. ربما تحمل آراء جودي دين، رغم اعتمادها على أفكار تبدو عتيقة، مثل الحزب الثوري، جديداً فعلياً في عصرنا، الغارق منذ عقود طويلة في تمجيد الذاتية الأنانية والمحدودة لفئات تقادمت جداً، رغم أنها ما تزال تُعتبر «جديدة».
كاتب سوري
القدس العربي