المحرقةُ السوريّة أو “الحصانُ خلف العربة”/ عبير نصر
ليس بذي عينين من يُنكر الوضع الكارثي الذي وصلت إليه سورية، بعدما جعل النظام الحاكم من “رعيته” كياناتٍ هشّة هزيلة، لتعرف مقامها جيداً، فتكون كالغنم درّاً وطاعة. ولا شك بدأت المأساة الوطنية، عندما قصّرت النخب المدينية في القبض على مفاصل العمل السياسي والحزبي، بينما احترفت الفئات الريفية “المسحوقة” النضالَ السياسي وتصدّت للقيادة، وهو ما أدّى إلى تشكيل استقطاباتٍ سياسية، غير منتجة، تقوم على الغرائز الانفعالية أكثر مما تقوم على الحوار. وبالطبع، هذا مخالفٌ لطبيعة الأشياء، إذ عندما تنقلب الأمور ويصير الحصان خلف العربة، تدخل عملية التقدّم في حالة استعصاء، لتغدو الديمقراطية أشبه بعمليةٍ دوغمائيةٍ وخرافيةٍ لن تحصد على أرض الواقع سوى الفشل والهزائم. عملياً، هذه ملاحظة موضوعية تختصر معاناة شعبٍ بأكمله. على أية حال، وفي ظروف عديدة واستثنائية، بما فيها المواكِبة لتكوّن الدولة المستبدَّة، من مزايا الانهيار أن يتخذ أشكالاً متنوعة خلال الحروب الأهلية التي تتغلب فيها الانتماءات البدائية بشكلها “الطائفي” ونمطها “الفاشي” على كلّ قيمة ورابطة “وطنية”. وفي الحقيقة، ليس تقرير الاتحاد الدولي للجمعيات الخيرية (أوكسفام)، ونشر في التاسع من يوليو/ تموز 2021، أسوأ ما قد يواجهه السوريون اليوم، وقد أكد تصدّر سورية بلدان العالم بعدد الذين يهدّدهم الجوع. الأسوأ “المحرقة السورية” التي بدأت منذ خمسة عقود، ويبدو أنها لن تنتهي.
وبعد سنواتٍ من الأزمات المتناسلة، وحيث مسرح القهر السوري يرتهن لتكراراتٍ مملّة من ممارساتِ نظام أصولي متطرّف، فاقدٍ أيّ مشروع وطني حقيقي، يخلع المجتمع السوري أخيراً ثوب الخجل، وقبعة الإخفاء الماهرة، لتطفو على السطح أبشع أشكال الأزمات الأخلاقية والإنسانية ومظاهر الانفصام المجتمعي، ومنها على سبيل الذكر: “مشاهد تجمّع الناس في طوابير وأقفاص أمام الأفران للحصول على ربطة خبز، تقابلها على الضفة الأخرى طوابير للحصول على أحدث إصدار لجهاز خلوي من شركة “آبل” الأميركية. النائب المستقل، مأمون الحمصي، يفقد عضويته في البرلمان السوري، ويُجرّد من حقوقه المدنية لمواقفه السياسية، وبشكل دراماتيكي يتحوّل إلى لاجئ يبيع القهوة والشاي في شوارع كندا، في وقتٍ يعود فيه “جزّار حماة” إلى سورية معزّزاً مكرماً. المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية، لونا الشبل، تطلب من السوريين الصمود والتصدّي، وقد بلغت تكلفة “طلّتها” في خطاب القسم الرئاسي ما يقارب 56 مليون ليرة سورية. مؤتمرات عدّة برعايةٍ روسية لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة، في وقت تشهد فيه البلاد أكبر هجرة منذ عام 2015، معظمهم من الفريق الموالي للنظام. أزمة كهرباء خانقة في ظلّ تسرّب الفيول من سواحل بانياس حتّى شواطئ قبرص الشمالية. رئيس الحكومة يطمئن السوريين إلى أن “الرغيف لن يُمسّ إلّا في الحدود البسيطة”، لكن الحكومة تجاوزت تلك الحدود بمراحل، حيث رفعت سعر الخبز ثلاث مرّات منذ اندلاع الأزمة. السماء السورية تعج بالصواريخ الإسرائيلية، ووعود لم تتحقق “بالرد المناسب في الوقت المناسب”، بينما نجل رامي مخلوف يتسكّع بأموال السوريين المنهوبة برفقة عارضة أزياء إسرائيلية .. إلخ. كلّ شيء متغير في سورية، ويبقى الثابت الوحيد اطمئنان النظام إلى أنّ الناس مُتعبون، ولن يحتجّوا أو يتحرّكوا، ليقينهم أنّ ما يجري ليس إلا ساحة انكشاف صريح لتوحش السلطة التي تحمل جيناتٍ أيديولوجية متطرّفة، حولت كلّ مطلب سياسي يطمح للتغيير والإصلاح إلى شكل من صراع الوجود والهوية.
بهذه المعاني جميعاً، يمكن الجزم إنّ الوضع الذي وصلت إليه سورية اليوم ليس وليد حرب العشرية السوداء، ولا زاد “قانون قيصر” الطينَ بلّة إلا قليلاً. ولو عدنا في عجالة إلى ثمانينيات القرن الماضي، نجد أنّ القطاع العام السوري كان مخدوعاً بـ”بحبوحة” مزيّفة مستمدّة من طفرة السبعينيات، وتصاعد طبقة الأثرياء الجدد. وعندما تواصل الإنفاق التضخمي الاستهلاكي، وظهرت طبيعة الدولة الاشتراكية المتخمة ببيروقراطية قاتلة، تقلص الاقتصاد السوري بنسبة 10% ليصل تضخّم الأسعار إلى 60% سنوياً. كما أنّ الدولة حاصرت القطاعات الخاصة بقوانين ومراسيم وشروط تعجيزية، في حين كانت الرواتب ضئيلةً لا تكفي لمواجهة أعباء الحياة اليومية. والواضح أنّ خللاً في تركيبة الدولة السورية كان سبباً رئيسياً في ضعف الأداء الاقتصادي، إذ كانت أولويات الحكم موجهةً نحو الشؤون الخارجية والدفاع والأمن. وحتى بعد الاعتراف بأن الاقتصاد السوري يعاني من أزمةٍ مزمنة، لم يرافق ذلك شعور لدى القيادات العليا بحراجة الوضع، لإصدار قرارات طارئة بهدف معالجته. وفي حقبة التسعينيات، لم يكن الوضع أفضل حالاً، حيث ارتفعت نسبة البطالة، وانقطع التيار الكهربائي مرّات، وكان ثمّة تقنين في توزيع المواد الاستهلاكية، وما إن انتهى العقد حتى عادت سورية إلى حالة الركود الاقتصادي، وارتفع عجز الميزان التجاري. وللالتفاف على جوهر المشكلة، عادت نغمة “مكافحة الفساد” إلى الظهور، حيث صُفّيَ وزراء وعدد كبير من المسؤولين ورجال الأعمال. وطاولت الحملة حتّى رفعت الأسد الذي أزيح من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 1998. وفي عهد “الأسد الابن” تكرّر المشهد بحذافيره، فبدأت المهزلة الاستعراضية من النغمة إياها، بغرض خلط الأوراق، والتأكيد أنّ للنظام بنية متماسكة يصعب انهيارها أو تفكيكها، بينما هو ليس أكثر من جاهلية سياسية قائمة على أركان التخلّف والفقر والظلم والجهل.
وكما استخدم حافظ الأسد الخطابات القومية المسيلة للدموع، للتهرّب من الاستحقاقات الداخلية، على المقلب الآخر، جاءت القشّة التي ستنقذ بشار الأسد، إذا لم يعد إلى نغمة “مكافحة الفساد” إيقاع مقبول من الشارع السوري، فبعد دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، تنفّس الأسد الصعداء، وهو المحترف بفن البراغماتية السياسية والقدرة على التكيّف في مواجهة الضغوط الطارئة، فارضاً معادلةً جديدةً على مسار الأزمة السورية، للقبض على المشروعية التي تعوزه بوضوح. معادلة لم تؤدِّ إلا إلى زيادة عزلة السوريين الذين يعيشون أساساً القهر المطواع وسط محيطٍ سياسي بائس. وهذا ما أكّده وزير الخارجية الراحل وليد المعلم، إذ قال “إذا كانوا يتوهمون أنّ مثل هذا الإجراء الأحادي سوف يُخضع سورية لشروطهم، دعهم يحلمون، لن نرضخ لأي شرط”. متحدّثاً عن “تهويل إعلامي وحرب نفسية” عن تأثيرات القانون وتصويره أنه الضربة القاضية للنظام.
ينطوي اختلاف سورية عن المعيار العالمي على مغازٍ هامة، لكونها نشازاً في عالمٍ يتحرّك نحو الحياة الديمقراطية على نحوٍ يتعذّر إيقافه. وعليه، تتطلب نهاية التراجيديا السورية تحرير نفوسٍ ألفت الضّعَة والذلّ، تلك التي تأنس لمظهر الحصان خلف العربة، والتي إذا لم تجد من يستعبدها صنعت لنفسها معبوداً جديداً وطاغية مَرِيداً، لإشباع حاجتها من الاستعباد والدونية. يقول عالم الاجتماع البولندي الأصل، زيغمونت باومان: “المحرقة النازية التي راح ضحيتها ملايين البشر ليست من صنيع هتلر وحده، فلا يمكن لرجلٍ واحد، مهما أوتي من ملكات، أو مهما أصابه من جنون أن يرتكب كلّ هذه الجرائم التي تأنف منها مملكة الحيوان نفسها. لا تعتقدوا أنّ المحرقة كان من الممكن أن تكتمل من دون جماعة التنوير، وأهل العلم والثقافة، وأهل التشريع والتأويل، وأهل الصحافة والإعلام، والفلاسفة وهيئة كبار العلماء”.
العربي الجديد