النقد الثقافي… عقدة المفهوم واشكالية القراءة/ علي حسن الفواز
بقدر ما يثير النقد الثقافي من إشكاليات مفهومية، فإنه يضعنا أمام غواية فكرة تجديد القراءة، بوصفها المستوى الذي نشتبك من خلاله بالنصوص، إذ يفترض هذا الاشتباك تسويغَ وتقديمَ الذرائع، أو توضيح المقاصد، لكي تكون القراءة فاعلة ومتجددة، وليست واضحة فقط، لأن الوضوح شأن تأويلي أكثر من أيٍّ شيء آخر.
ما أثاره علي الوردي قد يدخل في هذا السياق، لكنه دون قصد كان يبحث عن وظيفة براغماتية لتجديد الفعل القرائي، وليس عن وضوحه، وبدلالة تأهيل تلك القراءة، لتكون أكثر جدّة واستعدادا لتلقي الجديد، ولكي تمنح «الخطاب» طاقة فاعلة للتأثير، والمغايرة والاختلاف، لأن عمر القراءة مهم جدا في تحديد فعلها، وفي تداولها، وفي بيان قدرتها على التأثير، وليس على منح اللذة، فما يزال المتنبي والمعري وأبو تمام يمنحوننا اللذة المُصاغة لغويا، لكنهم لا يوفرون للقارئ مجسات لمعرفة ما يصطخب في الشارع، وفي العمل، وفي السياسة.
إشكالية فهم النقد الثقافي تكمن في جهازه المفهومي، وفي قدرة الناقد على توظيف هذا الجهاز لإغناء فعل القراءة، ولتوسيع مساحة الوظائف في النص، وللكشف عن الطبيعة العلائقية لتلك الوظائف، من خلال كشوفات وتأويلات ومجاورات تناصية، يتقصد من خلالها الناقد البحث عن أنساق مخفية، أنساق تمثيلية، يرتبط كشفها بالمرجعيات القرائية للناقد، فهي ليست قارّة، ولا محددة، ولا ثابتة، فهذه الانساق/ الأنظمة لها تشكلات، ودلالات تعكس ما في لاوعي الناقد، أو القارئ من مرجعيات، ومتون عالقة وراسبة، وأن فاعلية الناقد الثقافي في هذا السياق تنطلق من خلال تعرية تلك المرجعيات، والكشف عن مدى تأثيرها في تجاوز اللذة إلى معرفتها، والمعرفة هنا عملية ثقافية خالصة..
الغذامي وعقدة الناقد المهيمن
قد تبدو فاعلية النقد عقدة في نظر كثيرٍ من الباحثين، وأن الحاجة إلى تفكيكها تعني وضع «النقد» أمام إزاحات مفهومية وإجرائية، وحتى وظيفية، وأحسب أن عبد الله الغذامي كان قريبا من هذا المعطى، إذ تحولت دعوته إلى «موت النقد الأدبي» إلى مواجهة مع التاريخ، ومع «العائلة المقدسة» لنقاد البلاغة، والأغراض والأساليب، وباتجاه اصطناع صورة لـ»الناقد المهيمن» والمتعالي، أي الناقد الذي يعرف، ويدرك أسرار تلك «العقدة» القديمة، ويعمل على فك طلاسمها، وربما يجعل أدوات هيمنته النقدية مجالا لهيمنات مجاورة، يدخل فيها الاجتماعي والسياسي والأيديولوجي، وأحسب أن القراءة النسقية للمتنبي وأدونيس ونزار قباني، تكشف عن تلك الموجهات القرائية، التي وضعها الغذامي في سياق إبراز هيمنته النقدية.
الرهان على الناقد الثقافي، يعني افتراض وجود القارئ الثقافي أو النسقي، الذي يعني التأسيس على قناعته بعملية الطرد المنهجي للناقد الأدبي، والقارئ الأدبي، وهذا التحول سيؤدي إلى مفارقات كبيرة، وإلى صراعات خطيرة، إذ إن القراءة النسقية ستكون قراءة غير بريئة، وربما ماكرة ومخادعة، وباعثة على ربط أنساق البنى النصية بموجهات ومرجعيات وبنى متحيزة، كما يسميها حاتم عبيد، تدفع إلى التعمية من جانب، وإلى الفضح والعزل من جانب آخر، تحت يافطة الكشف عن المخفي، وتمثيلها عبر «حيل نسقية» يفقد فيها النص قوته في البلاغة وفي التقانة والتصوير..
النقد الثقافي والدراسات الثقافية
من الصعب الانحياز الكامل إلى تسمية «الناقد الثقافي» وإلى تمثيلاته في القراءة والكشف، وفي توصيف البنى النسقية للنصوص، لأن هذا الانحياز سيكون مضللا، وقابلا للتغيير، ليس لأن الناقد الأدبي أكثر ثباتا، بل لأن الطاقة التأسيسية لذلك الناقد غير واضحة، ورغم أن الأمريكي فنست ليتش، وضع توصيفات للنقد الثقافي، تتجسد فيها قيم التعددية الثقافية والأيديولوجية في المجتمع الأمريكي، فضلا عن «الربط الوثيق بين حركة الأفكار على ظهر القارة الأوروبية، إذ لا سبيل لفهم التفكيك مثلا، دون فهم لأسلافه من الألمان، نيتشه وفرويد وهيدغر، لا سبيل لفهم النقد الأمريكي اليساري، دون الرجوع إلى ماركس ولينين وأدبيات الماركسية بكل ظلالها منذ القرن الماضي». من هنا نجد أن الالتباس المفهومي للنقد الثقافي يتعالق بما هو متداول في «الدراسات الثقافية» وهي فرع دراسة أو تخصص أكاديمي يُعنى بالتحليل الثقافي نظريا وسياسيا وتجريبيا، ويركز على الديناميكا السياسية للثقافة المعاصرة، كما ورد في تعريف الموسوعة الحرة/ الويكيبيديا.
المشكلة المفهومية تدفع البعض إلى الخلط، وإلى الإيهام بمقاربات تتحول إلى مهيمنات، تبدأ من عقدة التوصيف، ولا تنتهي عند عقدة القراءة، لاسيما وأن عنوان «النقد الثقافي» مغرٍ، ومثير للجدل، وباعث على تشغيل ثقافي، يقوم على تنشيط القراءة، وعلى الحفر في البنى العلائقية المؤسسة للأفكار، وللنصوص المكتوبة، وبالأخص في الشعر، بوصفه نظاما استعاريا، قائما على بنى رمزية وإحالية ودلالية، يمكن أن تقود القارئ والناقد الثقافي إلى استيهام مرجعيات لاواعية فيها، فالفحولة والأنثوية والاستبداد والشحاذة والذات المقموعة والدونية والتعالي، تتحول من كونها بنى أنثروبولوجية إلى علامات لغوية، وإلى شيفرات تتخفى خلفها الذات الكاتبة، وهو ما قد يتم توظيفه في مقاربة الأفكار والسرديات والممارسات، وربما السياسات والمؤسسات التي تحكمها نظمٌ سياسية واجتماعية، وتسهم في تعرية النخب مثلما هو دورها في إرباك ذاكرة التلقي، لتضع أمام الجمهور «نصوصا عارية» ومتضخمة، الانحياز إليها، والتلذذ بها، والتفاعل معها، يكون مرهونا بالعوامل الأيديولوجية والعصابية والطائفية، أكثر من تمثلها اللساني بإحالاته العلاماتية والمعرفية..
النقد الثقافي والآخر
توصيف الآخر يحتاج إلى منهج، مثلما يحتاج إلى رؤية، وما بينهما يمكن للأدوات المعرفية أن توظّف النقد، بوصفه القوة التي تُثير الأسئلة، وتضع الآخر الإشكالي في سياق المساءلة، وأحسب أن تغافل النقد الثقافي بنسخته العربية عن مقاربة «فكرة الآخر» تكشف عن عيوبه النسقية أيضا، إذ تكفلت الدراسات الثقافية هذا المجال، وجعلت من النقد الثقافي يكتفي بالكشف عن الحمولات النسقية للنصوص، وهو رهان محفوف بالأخطار والعيوب، لأن القراءات لا تتشابه، وحتى توظيف المناهج النصوصية يتطلب دراية ومهارة، فضلا عن ما يتطلبه من معرفة تدرك حجم ما يؤسَس على الأسئلة الكبرى.
في عالمنا العربي، ووسط صراعات معقدة، إثنية وطائفية وأيديولوجية وسياسية، والتي لا تنفصل عن جملة من العقد، أولها عقدة التاريخ والمقدس والسلطة والخرافة، وثانيها عقدة غياب الدولة والاجتماع الثقافي، وآخرها عقدة سياسة الآخر الاستعماري والعولمي والأنثروبولوجي.
غياب، أو تغييب مقاربة هذه العقد، يكشفان عن غياب فاعلية النقد بوصفها إجراء للتأسيس والكشف، والمواجهة، وبقدر ما تحمل ذاكرتنا الثقافية من دور مهم لإدوارد سعيد في استشراقه، أو في كتابه « الثقافة والإمبريالية» فإن الأمر يحتاج إلى تجديد، وإلى تفعيل، وإلى تأهيل وتمكين، ليس لأن العلاقة مع الآخر صارت ناعمة، أو أن الآخر فقد توحشه، بل لأن العقل العربي – الأكاديمي والديني والرسمي – فقد لعبته الافتراضية في ممارسة النقد، وفي البحث الحقيقي عن قيم التنوير، ودخلت النقود في مجالات وأنساق شعبوية ومثيولوجية، وأن مؤسسات النقد خضعت بالكامل إلى مؤسسات السلطة، وإلى قوة الفقه والمال والاستهلاك، وهذا ما أسهم في تغيير فهم طبيعة الصراعات، إذ بدت بلا نقد، وبلا مراجعة، وحتى ما سُمّي بـ»ثورات الربيع العربي» لا رائحة للنقد فيها، حتى بدت وكأنها سحابات صيف، ما إن انقشعت حتى عاد العسكر إلى قوتهم، وإلى مركزيتهم في السلطة، وفي حماية المقدس، وعاد الجمهور إلى أوهامه وسردياته.
تحديد وظيفة النقد الثقافي نصوصيا، هو لعب في كفاية القصد، أو ربما إعادة لإنتاج الناقد الأيديولوجي، والخطاب الأيديولوجي، وصولا إلى القارئ الأيديولوجي، أو القارئ الذي يعاني من علل أوديبية وفرويدية ورهابية، وهذا ما يعني أن القراءة ستكون نوعا من التعسّف مع النص، وتحت يافطة نزع السر عن جوهره، أو تفريغه من خفايا اللاوعي المدسوسة تحت ضواغط البلاغة، أو يسمى بـ»الجماليات» وهي تسمية ملتبسة، التي تعني التبشير بالقبحي المضاد، وهي موضوع أكثر التباسا وسخرية…
كاتب عراقي
القدس العربي