أبحاث

تفاهة اللغة.. شكل “الاستعمار الثقافي” الروسي لسوريا/ أدهم حنا

ما إن أتمَّ الأسد عامه الثامن في الحكم حتى وصل إليه مهرجان «دمشق عاصمة الثقافة العربيَّة»، الذي تبعته موجةٌ حكوميَّةٌ لتعريب وجه سورية، ليس وجهها الخارجيّ الظاهر للعالم كُلِّه فقط، بل وجهها الداخليّ أيضاً؛ فمُنِعَت المتاجر والمراكز التجاريَّة من استخدام أسماء أجنبيَّة في واجهات متاجرها، وكلَّف النظام مواطنيه ملايين الليرات ليبدو كل شيء عربيَّاً في الداخل. وما لبثت أن تحوَّلت شوارع سوريا إلى حلقةِ صورٍ مضحكة بسبب أسماء المتاجر الأجنبيَّة التي عُربت أحرفها بطريقةٍ مثيرة للسخرية. وفي حلقة الهوس ذاتها، كان لزوجته مشروعها التنموي «مسار» الذي جاء تحقيقاً لرغبتها في إضافة مفاهيم بناء المواطنة وتعليمها للطفل، وقد ركَّز على اللغة العربية على اعتبار أنَّه معيار للمواطنة. ليست الحقوق والواجبات، إنَّما تعلُّم اللغة العربيَّة بصورةٍ جيدة هو المعيار المركزي للحصول على مواطنة جيدة. لدينا في تاريخنا هوسٌ لغويٌّ سطحيٌّ؛ وهو نموذج ساطع الحصري الذي حوَّل الإنسان إلى حيوان يملك لساناً ذا لغةٍ فقط، نازعاً عن أيِّ نظرية تعاقديَّة أو تفسيريَّة اجتماعيَّة أيَّ معنىً عميق لتشكيل المواطن. سادت موجة التعريب كلَّ شيء منذ الستينيَّات الناصريَّة كردّ فعل على نزاعِ الأمم القوميِّ، وجاء التعريب على أساس إيديولوجيَّة قوميَّة -حسب الياس مرقص- غير ناشئة وفي طريقها البطيء إلى النشوء.

كانت هذه النزعة نحو اللغة العربيَّة مجرَّد ستارٍ ثقافيٍّ وهميٍّ، للتضاد مع الخارج الأمبريالي؛ فالأسد الابن وزوجته في ذات السياق، حملا مركب اللِّسان بوصفه ثقافة وأصالة ما، وتكوُّن معرفيّ إنسانيّ. لكن هذا الاختزال سينشأ له لسان آخر مقبول؛ فمع انفجار الثورة والوصول الروسي كان على النظام قلب المعادلة، في أن لا يكون التضاد مع اللسان الأجنبي مركباً للأيديولوجيَّة العربيَّة، بل انحاز النظام إلى ثقافات لسانيَّة مقبولة، فالتدخل الروسيِّ العسكريِّ جعل النظام يتقبل توسيع الوجهة اللسانيَّة. التقارب مع الروس هو في اللسان فقط، واللغة ليست مشكلة بالنسبة إلى النظام، الذي لا يملك مواطنوه أيَّ معنى آخر لوجودهم، وقد وضعهم ذلك في سياق لسانيٍّ آخر على أنَّه تحفيزٌ لقبول الآخر والتوازي معه لا تنتج عنه أيَّة مشكلة بما أنَّه ليس ذا تأثير، ولا سيِّما أنَّ الروسي يعرف تماماً، أنَّ وجوده قد تحقق عسكريَّاً بقوِّته فقط.

في الحاجة السوريَّة إلى تمييز الثقافة الروسيَّة، كان النظام يفتتح منصات تعليميَّة مُدمَجة مع مؤسساته التعليميَّة ذاتها، وقرابة مئتي ألف طفل ويافع سوري يدرسون اليوم اللُّغة الروسيَّة كلغةٍ اختيارية، والجامعة أضافت اللُّغة الروسيَّة كتخصصٍ جامعيٍّ جديد. أمَّا المراكز الثقافية الروسيَّة فتُدير أنشطة عامَّة لمحافل ثقافيَّة سورية. يعرف النظام تماماً أنَّ أيَّ لغةٍ تُضاف لن تشكل بُعداً خيالياً مقارناً، أو حدثاً أسلوبيَّاً يؤدي إلى تغييرٍ في فكرة السوريين حول تعريف ذواتهم أو مواطنتهم. المقارنة مع الروسي لن تحصل، ليس بسبب التشابه في آليات التفسير الاجتماعيِّ والسياسيِّ للحياة، والانصياع لحكم مستبدٍّ في كلا البلدين، بل لأنَّ النظام المعرفي للسوريين لا تشوبه أي شائبة، فالنظام سيبقي على الشكل البائس لتعلُّم أيِّ لغة، فهي ليست انفتاحاً بل مجرد لسان يقف مع لسان آخر، وثقافة تقف بالقرب من ثقافة أخرى؛ أي المعنى الإنسانيّ الجاف والمتجذِّر في السيطرة على الإنسان وفهمه كآلة تُدجَّن عبر تعليمه أشكالاً جديدة من النطق، مع الأخذ في الاعتبار فكرة الإبقاء على غاية هذه الآلة ثابتة.

يحتفي النظام بالروس في أشكال عديدة، من تكريس البُعد المسيحي للكنيسة الأرثوذكسيَّة الروسيَّة، وصولاً إلى مفاتيح الإنشاء التعليميِّ والاجتماعيِّ. لكنَّ الأكثر تأثيراً كان القوة العسكريَّة الهائلة التي شهدها السوريون، المتخيل الوحيد الذي جمعنا بالروس هو فائض العنف والالتحاق به بوصفه سمةً للدول الكُبرى. كان التلطيف يتمُّ فقط عبر إنتاج اللغة وما يمكن تسميته ثقافة في القول الشفاهي، الذي لا يملك من الثقافة أي معيار يُمكن تجريبه أو فهمه؛ فحتى المفهوم الاستعماري للغة لا يريده الروس، فأي كوادر ستأخذها روسيا أو حتى تستغلها في علاقتها بالكيان السوري قاطبة؟ وأي مستعمرة تُريد إنفاق الأموال عليها؟ لا يوجد شيء من هذا. كل ما يفعله الروس هو من منطلق مصلحة استراتيجيَّة للوجود ولا يعنيهم ما ستبدو عليه لغة السوريين أو لسانهم، فحتى أصحاب المنح الطلابيَّة إلى روسيا قد عادوا بسبب غلاء المعيشة وقلة الدعم المقدم من الروس.

محاولة تخيُّل أنَّ روسيا تُريد استعماراً أو غزواً ثقافيَّاً لا يظهر إلا كهذيان متحقق، فليست سورية سوى مستودع استثماريّ عسكري، على أمل الحصول في وقت آخر على استثمارات اقتصاديَّة مُربحة.

ولا تتوقَّف الضجَّة الإعلاميَّة السوريَّة كمحاولة تجميليَّة عامَّة للوجود الروسي وتبرئته من دماء السوريين آخرين. في إلحاق كلمة ثقافة بكلِّ منتج روسيٍّ سوريٍّ، على هيئة متوالية غير احتوائيَّة، بل متواطئة ودونية، ويتمكن الروس من خلال الوعي بديموغرافية سورية إنشاء أعمالهم بالقرب من مقرَّاتهم العسكريَّة، التي تملك انحيازاً طائفيَّاً في الوعي السوري. من المكان ذاته حيث قُتل أطفال سوريون في حماة وإدلب، قام السوريون مع الروس بجمع أطفال مدينة جبلة من أجل تبادل الثقافات وربط المصير. المثير للسخرية، إنَّ الانقسام السوري ترسمه روسيا بعقليَّةٍ واعية، فيرُكَّز على أبناء الشهداء العسكريين في كلِّ مقامٍ وفي أماكن وجودهم الأكثر ظهوراً؛ أي في الساحل السوري ومدنه، وقلب العاصمة أيضاً.

هذا التركيز شديد الوضوح، وبائس… بائس لنا نحن السوريين الذين لا نتلقى إلَّا ثقافة غير عالميَّة ومنعزلة، ولأن حتى جانبها، إن اعتبرناه استعمارياً، فهو غير موجود. الروس لا يملكون أيَّة خطة يضعونها على محمل الجدِّ لتطوير الأساليب السوريَّة في الحياة، لأنَّ ما يحتاجونه من سورية أخذوه بقوة سلاحهم. حتى النمط السوري لاستقبال الروس كان ساذجاً، لن ينسى أي سوري سذاجة الإعلام الرسمي إذ بث فيديوهات من السبعينيَّات لقوات الاتحاد السوفياتي، وأغاني شعبيَّة روسيَّة قد لا يعرفها الروس أنفسهم اليوم!

لا تبدو العلاقة مع الثقافة الروسية على أنَّها تطوير أخلاقيّ أو وضعيّ لمشروع تأسيسي، بل فقط هي مهرجانات بائسة لإفراغ أنشطة طفولية، ومحاولة متخيلة لخلط لسان بلسانٍ آخر من دون أيِّ مركزيَّة إنسانيَّة أو اجتماعيَّة. الأكثر رداءة هو تجنيد الأطفال في المؤسسة العسكريَّة الروسية التعليميَّة، حسب زعم الروس لإنتاج الضباط لمستقبلٍ عسكري ٍّسوريٍّ أفضل؛ وهذا أصدق ما قاله الروس عن أن ثقافة عنيفة غير حيادية ومجرمة يُبنى في داخلها تأسيس عسكري روسي بحت. من هنا، جاءت الدلائل على الصورة الاستعماريَّة، ولا يخجل الروس من الادِّعاء بأنَّ الجميع ممَّن التحقوا بكليَّات الطلاب الروسية العسكريَّة هم ذوو شهداء؛ ليظهر عقدهم الاجتماعيُّ مع السوريين بوصفهم ضحايا حرب يجب أن يكونوا محاربين أيضاً أو ضرورة وجود ألسنة تتحدَّث الروسية بمثابة تسويغ لهيمنة القاتل الذي جرَّب أسلحته وباعها وجعل له قواعد تخدم مصالحه العسكرية فقط.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى