الناس

دمشق التي تبث سُمَّها عبر الهاتف/ نور عويتي

أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم، وأجد نفسي فاقدة الذاكرة، ربما حينها فقط أستطيع أن أعيش حياة طبيعية. أريد أن أنسى سوريا بكل تفاصيلها، أريد أن تُمحى من ذاكرتي صور ورائحة أهلي وأصدقائي هناك، لقد باتت ذاكرتي السورية حملاً ثقيلاً ما عدت أقوى عليه.

غادرت دمشق وأنا في الثانية والعشرين من عمري. لم أتخيل آنذاك أني سأمضي كل هذه الأعوام في المنفى، وأن العودة ستزداد استحالة يوماً بعد يوم، ولم يخطر في بالي يوم غادرت أني أودع أهلي وأصدقائي للمرة الأخيرة. كنت أتهرب من أحضانهم وقبلاتهم وأقول لهم: “لا تبكوا.. ايه شو ما رح أرجع”! اليوم، وبعد ستة أعوام على ذلك الوداع العابر، أشعر أن لقاءهم بات رفاهيةً لا يمكنني أن أحلم بها. هل أموت قبل أن أجتمع بهم مجدداً؟

في الفترة الأخيرة، أصبحت أشعر أن ثقل الغربة يزداد وطأةً، بعدما ساءت أحوال دمشق ووصلت إلى الدرك الأسوأ، فصرت أتهرب من مكالمات الناس هناك، مكالمات تشعرني بالعجز. اتصالات أبي اليومية لم تنقطع أبداً، لكن الحوارات بيننا أصبحت أوتوماتيكية ومكررة، أسأل وأجيب وكأنني آلة تسجيل تعيد النص المحفوظ ذاته كل مرة، لا أغير في كلماتي حرفاً واحداً، خشية أن ينجرف الحوار إلى العمق لنتحدث عن تفاصيل حياته الكئيبة ووحدته، وهو يلتزم بالنص بدوره، ليكرر الأسئلة ذاتها: كيف الطقس؟.. شو طبختي؟.. وتنتهي المحادثة خلال دقيقة وكأنها واجب يومي لا مفر منه.

دمشق، مدينتي التي تبث سُمَّها عبر الهاتف، تقطن فيها عائلتي وأصدقائي المقربين. إنها مدينتي التي أرغب في نسيانها، لكني عاجزة عن الانفصال عنها. البارحة تلقيت اتصالاً من قريبتي هناك وتعاني الشلل في إحدى قدميها. الأسئلة الروتينية عن الطقس قادتنا للحديث عن الشتاء الماضي الذي كان قاسياً عليها لانعدام وسائل التدفئة؛ الأمر الذي أدى إلى تدهور صحتها بشكل كبير. قالت لي فجأة: “ناطرة الموت هون، ما في كهرباء ولا غاز ولا مازوت، قولتك هالشتوية رح موت أو رح أنفد متل العادة؟”. كانت تقول هذه العبارات بسخرية تغطي على قلبها المحروق. لم أستطع أن أكمل المحادثة، فبحثت عن حجة غبية لإغلاق السماعة على الفور.

أدرك جيداً أن وجودي هناك ما كان سيغير في المأساة شيئاً، لكني لا أستطيع منع نفسي من الشعور بالذنب، كوني رحلت وتركتهم. ألوم نفسي على لحظات فاتتني، لأنني لم أشارك صديقتي المقربة حزنها يوم توفي أبوها، ولأني لم أتواجد مع أختي يوم خاضت الولادة، ولم أرَ أطفالها إلا في شاشة الموبايل. الأطفال الذين لا أعرفهم، يحاصرونني بالأسئلة عن موعد زيارتي الأولى لهم. أنا لا أعرف إن كانوا فعلاً يشعرون بأني خالتهم أو مجرد شخصية افتراضية تظهر في الشاشة وتختفي إلى العدم.

تحاول أختي أن تخفي الأخبار السيئة عني. فترسل لي بشكل متواصل صور ابتساماتهم في الجَمعات العائلية؛ إلا أن هوامش الصور تفضح الحقيقة. ألاحظ درجة الفقر التي وصلوا إليها من خلال تناقص أطباق الطعام تدريجياً من موائدهم. في آخر حفلة عيد ميلاد، لم تحتوِ صورة المائدة سوى على قالب حلوى صنع منزلياً، بعدما كانت موائد عيد الميلاد في بيتهم تمتلئ بالأطباق المنوعة التي أشتهيها. أسأل نفسي: إلى متى سيصمدون؟ الأمور تنحدر إلى الهاوية. بات الحديث عن السفر هو أكثر ما يشغلنا. تقول لي أختي: “الحمد الله أنتِ طلعتي ونفدتي”. أشعر بالذنب كَوني ناجية، وأبحث يومياً وبشكل بائس عن سبل وطرق ربما تساعدهم لمغادرة الجحيم المسمّى دمشق.

قبل أن أخلد إلى النوم، أتصفح المجموعات السورية في فايسبوك، لم أُلغِ اشتراكي فيها عندما غادرت دمشق لأبقى على إطلاع على أخبار الشارع هناك. كل يوم ينشرون أخباراً مرعبة عن المدينة. جثث مجهولة الهوية مرمية على قارعة الطريق، وصور أطفال ينامون في الحدائق، وفيديوهات لعجائز يبحثون في النفايات عن فتات الخبز. في المرة الأخيرة، توقفت عند صورة طفل رضيع عُثر عليه في القمامة والكلاب نهشت أجزاء من جسمه، تجمدت عندما قرأت الخبر. هذا هو الجحيم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

وصلتني عبر الإيميل دعوة للتظاهر أمام السفارة الدنماركية، بعدما أشارت دائرة الهجرة الدنماركية بأنها ستلغي تصاريح إقامة 505 لاجئين سوريين وصلوها من دمشق العام 2015، على اعتبار أن دمشق “مدينة آمنة”. لا أشعر أن التظاهرة على أبواب سفارتهم ستقنعهم بأن دمشق غير آمنة. أتمنى لو كان في إمكاني أن أضيف المسؤولين بدائرة الهجرة الدنماركية إلى مجموعات فايسبوك السورية، ليعرفوا الجحيم الذي يلقون الناس فيه. ربما نحتاج وسائل جديدة للتعبير، فكيف لشخص أوروبي أن يفهمنا؟! كيف يفهمون أن حياتهم الروتينية التي يمارسونها بلا كثير تفكير، تُعتبر رفاهية في “المدينة الآمنة”.

الناس هنا يعيشون حياة طبيعية من دون خوف، وينظرون إلينا وكأنهم يبحثون عن ابتسامة تعبّر عن الامتنان والشكر لأننا نجونا. يريدوننا أن نتكيّف ضمن المجتمع الجديد، فور وصولنا، وأن نندفع لتعلم لغتهم، وأن نكون مستعدين للعمل بأدنى وظيفة وأدنى أجر يأمنونه لنا. ولكي نندمج، علينا أن نضرب طموحاتنا وخبراتنا عرض الحائط، فنحن بالنسبة إليهم مجرد أرقام، يجب أن نثبت وجودنا بالكفاح للحصول على أوراق وأختام رسمية.. هي الجنة المشتهاة لمن يعيشون هناك.

قبل أيام، وقفتُ أمام المرآة واكتشفت أني أصبحت عاجزة عن رسم ابتسامة صادقة. سُمّ دمشق اخترق مسام جلدي، ووثيقة اللاجئ التي أحملها لم تنجح في سلخ جلدي وذاكرتي عني. أنا ابنة تلك المدينة، أعاني مثلها، وأتألم كوني أنتمي إليها. لن أشارك في التظاهرة، ولن أرفع شعارات لا أؤمن بها.. لا أريد أن أقول لهم إلا جملة واحدة: “إن كنتم تعتقدون دمشق مدينة آمنة، فأتمنى أن تتعرفوا على جحيمها”.

المدن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى