مأسسة النقد الأدبي: إضاءاتٌ في واقع الخريطة النقدية الراهنة/ لطفية الدليمي
–كل المقالات المشار اليها في هذا المقال وفي مقال “نادية هنداوي” في الأسفل–
تجربة رائعة – ملأتني بغبطة كبيرة – عندما قرأتُ مداخلة نادية هناوي على موضوعٍ نشرته في«القدس العربي»بعنوان (الناقد الأدبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية). جاءت مداخلة هناوي بعنوان هو صيغة مساءلة تنقيبية: (هل يمتلك النقد الأدبي العربي مؤسسات؟). ليس سراً أنني أقرأ كلّ ما تكتبه هناوي بشغف، ولعلّ الدافع الأعظم الذي يدفعني لهذه القراءة الحثيثة هو تناغم اهتماماتي الأدبية والفكرية العامة مع متبنياتها التي كشفت عنها في كتبها المؤلفة، ومقالاتها التي لا تنفكّ تنشرها كشلال هادر في مختلف المطبوعات الثقافية. الخصيصة المهمة لهناوي هو عملها في منطقة التخوم الفاصلة بين المناشط المعرفية (ما يسمّى بالدراسات العابرة للتخصصات المعرفية Interdisciplinary Studies) ويمكن لهذه الخصيصة أن تكون مدخلاً طبيعياً لبدء المداخلة مع ما كتبت هناوي بشأن النقد الأدبي وموضعته الراهنة في خريطة الدراسات الثقافية.
نادية هناوي متخصصة بالدراسات السردية والجماليات والنقد الأدبي، وليست ناقدة أدبية من النمط الكلاسيكي المعهود؛ وبالتالي فإنّ كتابتها عن النقد الأدبي تنبع من رغبة في المساءلة والاستكشاف ومحاولة التحصّل، على مزيد من ثراء المعرفة وترسيم خريطة النقد الأدبي العربي الراهن وليست محض غزوة قَبَلية يراد منها الدفاع عن موقع أكاديمي أو مكسب وظيفي.
لنبدأ من موضوع السرد، ولنتخذْ منه مدخلاً في هذه الإضاءة. واضحٌ لكلّ شغوف وأكاديمي في حقل السرد والدراسات السردية، كم شهد هذا المبحث المعرفي (الذي يتناول ظاهرة بشرية لها علائق وثيقة باللغة وسيكولوجيا التواصل البشري) من تغيّرات بنيوية بسبب الكشوفات الثرية في حقل العلوم العصبية وعلم النفس الإدراكي وبحوث الذكاء الاصطناعي؛ حتى باتت الدراسات السردية ملعبة اشتباك معرفي تختلف جذرياً عن طبيعة الدراسات السردية، التي كانت سائدة قبل عشرين سنة. مثالُ السرد عظيم الأهمية، وقد أفاضت هناوي أكثر من سواها في مقاربة هذا المثال، بسلسلة من الموضوعات التي تناولت السرد في تفريعاته الكثيرة، ولعلّ مراجعة موضوعاتها المنشورة في«القدس العربي»لوحدها ستكون تجربة باعثة على درجات كبرى من المتعة والفائدة، وهو ما يدعوني هنا لتعضيد جهود هناوي ودفعها إلى تأليف كتاب مرجعي في نظريات السرد وطبيعته.
أعود الآن إلى موضوع النقد الأدبي في سياق موضوعي المنشور في«القدس العربي»المشار إليه أعلاه. لو أجرينا مسحاً سريعاً لخريطة النقد الأدبي العالمي (وهو موضوع أطروحتي) لرأينا أنه بات مدفوعاً بعوامل (فكرية وبراغماتية) صارت تعمل على إعادة تشكيل خريطته الفكرية:
أولاً: تتمظهر العوامل الفكرية في تنامي مفهوم الدراسات النسقية العامة أو الشاملةGeneralized Systems Studies في عموم المعرفة الإنسانية، سواءٌ كانت علمية أو أدبية. هل نتخيلُ، على سبيل المثال، أنّ بمستطاع كائن من كان قبل عشر سنوات أن يصرّح في حوارية منشورة له أنّ (الأدب ينبغي أن يدرّس مثل العلم، وأنّ الأدب آلةٌ ترتقي بدينامية تطوّر الدماغ البشري )**. هل يمكن لهارولد بلوم أن يكتب شيئاً قريباً من هذا؟ عندما أكتبُ مثل هذا أنا أقرأ تضاريس الخريطة الأدبية، وتجتاحني جمرةٌ من ذاكرة نوستالجية أتحسّسُ فيها طعم اللذة الكبرى التي اجتنيتها من قراءة كلاسيكيات الأدب، ولستُ ممّن يميلون كثيراً إلى تذويب الحدود بين العلم والأدب؛ لكنّ هذا هو واقع الحال السائد في العالم.
ثانياً: أما العوامل البراغماتية فيمكن أن نشهدها في طبيعة الدراسة الأكاديمية للأدب. ليس سرّاً أنّ الدراسات الأكاديمية في الأدب، باتت تشهدُ انحساراً عالمياً في مقابل صعود وتنامي الدراسات المسمّاة STEM (وهي اختصار عالمي معتمد للعلم والتقنية والهندسة والرياضيات) وقد تسبّب هذا الانزياح المتزايد نحو هذه الحقول في غلق الكثير من الأقسام الأكاديمية الخاصة بالأدب والدراسات الأدبية. كانت إحدى الاستراتيجيات الالتفافية المعتمدة، هي محاولة دمج الكثير من الأقسام الخاصة بالإنسانيات في قسم واحد تحت لافتة (الدراسات الثقافية) ضغطاً للنفقات. من المعروف أنّ المؤسسات الغربية – الأكاديمية وغير الأكاديمية – تعتمد معايير إجرائية تقوم على حساب العوائد؛ لذا فهي لن تتردّد في تعديل برامجها تبعاً لمستجدات الواقع، ولن تركن أبداً إلى سياسات قديمة بدعوى الحفاظ على أنماط ثقافية محدّدة.
ليس هذا الأمر غريباً على الحلقات الثقافية خارج نطاق الأكاديميا. يمكن في هذا الشأن مراجعة حلقات مسلسل ذي حلقات ست عنوانه (CHAIR) عرضته منصّة نتفليكس، وسنتعلّم منه الكثير في ما يخصُّ طبيعة العلاقات التنافسية السائدة بين القدماء والمحدثين، في نطاق الدراسات الأدبية في جامعات العالم، وأظنُّ أنّ متابعة هذا المسلسل ستكشف لنا الكثير عن المخفي تحت ستار براق من النزاهة الأكاديمية المفترضة.
يمكنُ أيضاُ مراجعة كتاب الكاتب السياسي والثقافي فريد زكريا (دفاعاً عن تعليم الإنسانيات In Defense of a Liberal Education) المنشور عام 2015، وفيه يقدم زكريا أطروحة قوية بشأن ضرورة الحفاظ على تعليم متوازن لا يلغي أو يحجّم تعليم الإنسانيات تحت ضغط ادعاءات مختلفة.
واضحٌ من المداخلة التمهيدية السابقة أنني تناولتُ في موضوعي بشأن الناقد الأدبي، محاولة قراءة خريطة النقد الأدبي العالمي، حسب الأدبيات المنشورة السائدة، ولم أتناولْ خريطة النقد الأدبي العربي.
ما فعلته هناوي ـ باختصار شديد ـ أنها وضعت معالم التضاريس النقدية الأدبية السائدة في الفضاء العربي، وأنا متفقة معها في الخطوط العامة، وفي التفاصيل الإجرائية الفرعية الصغيرة؛ فهي تتحدّثُ من داخل المشغل الأكاديمي، وهي به خبيرة متمرّسة. تتخذ هناوي ـ وهي محقة في هذا ـ مقاربة تحوّطية ناشئة من معرفتها التفصيلية الدقيقة بإمكانية خلط السم بالعسل في أوساط الإنتلجنسيا العراقية على الصعيدين الشعبي والأكاديمي. يمكن إجمال معالم هذه المقاربة التحوّطية في عناوين رئيسية أربعة:
العنوان الأوّل: إمكانية حصول تداخل مفهومي، قصدي متخابث، بين النقد الأدبي الغربي ونظيره العربي؛ بما يمكّنُ بعض الناقدين من اعتماد مفاهيم سطحية وتوظيفها في شحن معارك دونكيشوتية موهومة شبيهة بما حصل مع البنيوية، التي صارت ثوباً مرقعاً يضيف له كل من أراد قطعة مهلهلة من ثوب أكله البلى. تكتب هناوي في هذا الشأن:
“وليس ممكناً مع هذا الحال مقارنة واقعنا النقدي بالواقع النقدي الغربي، ولا أن نضاهي تاريخه النقدي بتاريخنا، ولا أن نتطلع إلى ما يتطلع إليه نظريا وإجرائيا. وكيف لنا أن نرى نقدنا الراهن على حقيقته، ونحن مشبعة أنظارنا بمباهج ما وصل إليه النقد الغربي، وما تزفه إلينا المنظومة الثقافية الرسمية من أسماء كبرت إعلاميا في أحضانها، وليس لها من العطاء إلا ما هو ملمع ومعبأ في أغلفة برّاقة مصنوعة بحرفية”.
العنوان الثاني: إمكانية أن يتخذ البعض من مبحث (الدراسات الثقافية) عنواناً عريضاً ستخدمهم لاحقاً، لتكون عباءة تخفي واقع فقرهم المفاهيمي. هنا يحصل خلط السم بالعسل؛ إذ هم بعيدون عن نطاق الدراسات العابرة للحدود المعرفية، ويرجون من وراء التخفّي وراء هذه اللافتة العريضة تحويل النقد الأدبي إلى نمط من الكتابة الثقافية الانطباعية، الغارقة في الشخصانية. تكتب هناوي في هذا الشأن: “أول ما ينبغي في التصدي لمثل هذا الواقع الزائف، هو التدليل على بطلان هذه الدعاوى التي تريد اتخاذ النقد الثقافي ملاذاً يعصمها من نظريات النقد ومناهجه ومرجعياته، ودقائق مفاهيمه ومصطلحاته، لتكون أولى كوارث النقد الثقافي هي إماتته للنصوص الإبداعية، بهروبه من عوالمها، وخشيته من فحص أبنيتها وسبر خصائصها الفنية، وهذا من مظاهر عدم الاقتدار على التمنهج النظري، مع فقدان القدرة التحليلية التي ينبغي أن يتحلى بها الناقد الأدبي”.
العنوان الثالث: وهو الذي اتخذته هناوي عنواناً لأطروحتها، وجوهره محاولة التغييب القصدي للأصوات النقدية الأدبية الفاعلة بوسائل عدة هي، بعض قدرات الماكنة الرسمية التي تستطيع ـ إن شاءت ـ مأسسة كلّ ما تريد في إطار قانوني مدعم بعناصر التمكين المالي والإعلامي، يترافق هذا مع صعود من سمتهم هناوي بالمتناقدين، وهي تصف هذه الحال بثنائية الهامش/ المركز (تماماً كما هو الحال في حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية): “عربيا ليست لدينا مؤسسة نقدية، استطاعت إعلاء الهامش وخلخلة المركز، لكن لدينا نقاد مؤسسون ونقاد يؤسسون مشاريعهم بعيدا عن السطح الثقافي؛ ضائعون في خضم المركزية الثقافية وبحرها اللجب؛ هذا البحر الذي ضاع فيه الأصيل وغلب فيه المال ومنطق القوة. وما دمنا بلا مؤسسة نقدية فكيف لنا بعد ذلك أن نلوم مؤسسة لا وجود لها، ثم نستنجد بالتي هي سبب الكارثة، ورأس البلوى التي فيها الداء والدواء، وقد تعملقت، كمنابر إعلام امبراطورية تمنح صكوك غفران الثقافة شعراً وروايةً ونقداً وفكراً. وما من قارئ عربي إلا وهو يعرف هؤلاء المصكوكة اسماؤهم ببركات ونفوذ من لديه القوة والسلطان”. ثم تستطرد هناوي بما يفتح كوّة من أمل رصين غير موهوم في جدار الظلمة: “وإذا كان هوامش الثقافة بإمكانياتهم الفردية ومشاريعهم الخاصة، يستطيعون إدامة الفعل الثقافي وتنويعه وإغنائه، فإن في ذلك أملاً بقدرتهم مستقبلا على زعزعة مكانة المنظومة الثقافية الرسمية، التي لا تتوانى عن ابتداع شتى المظاهر والفعاليات الباذخة والخلابة، كي تحرف الأنظار عن الهوامش، فتشيع ما تريد هي إشاعته عن نقادها ومشاريعهم الخاوية”.
العنوان الرابع: الأدباء ـ والمشتغلون في حقول الأدب بعامة ـ لهم نصيبهم في هذا الخواء النقدي الشائع. الناقد الأدبي لا يعمل داخل منظومة نسقية معزولة عن منتِج العمل الأدبي؛ بل إن الاثنين منظومة تفاعلية متراكبة ومتبادلة التأثير. هما يعملان كما الألكترون وضديده (البوزترون) في فيزياء الجسيمات الأولية: “ولا خلاف في أن الذي يدفع بعضهم إلى النقد مستسهِلا إياه بما لديه من ثقافة عامة، ومعيقا العملية النقدية بالتعالي والمغالاة، هم مبدعو الأدب أنفسهم، أولا بالذاتية ـ على الرغم من مشروعيتها بالقدر المعقول ـ التي تدفعهم إلى الجري وراء النقاد ليحظوا بمباركتهم، وثانيا عدم تمتع الكثير من مبدعي النصوص الأدبية بوعي نقدي كاف للوقوف في وجه الطروحات المتعسفة. وهو ما يفسح المجال لبعض النقاد من الصولان والجولان دون تحفظ”
قراءة أطروحات هناوي تحفزُ على الكثير من التفكّر والمراجعة وإعادة قراءة وتفحّص المثابات العالية والوديان الغائرة في خريطة النقد الأدبي والفكر الإنساني بعامة، وهذا بعضُ ما تطمح له كلّ الكتابات الجادة والرصينة.
٭ كاتبة وروائية ومترجمة عراقية
٭ ٭ يراجع الحوار المنشور في موقع Nautilus بتاريخ 24 شباط/فبراير 2021.رابط الحوار:
القدس العربي
——————————-
هل يمتلك النقد الأدبي العربي مؤسسات؟/ نادية هناوي
أثيرت في الآونة الأخيرة وفي أكثر من منبر إعلامي تساؤلات عدة تتعلق بالنقد وفاعليته والناقد ووظيفته، وطُرحت رؤى وتصورات بعضها حقيق بنا التملي فيه، وتأمل فاعليته وبعضها الآخر واجب علينا أن نُهيئ عدته قبل أن نقوم بطرحه. وآخرها المقالان اللذان كتبهما الروائيان لطفية الدليمي (الناقد الأدبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية) بتاريخ 24/10/2021 وواسيني الأعرج (هل أصبحت المؤسسة النقدية العربية دار إفتاء) بتاريخ 19 /10/2021 والمنشوران في صحيفة «القدس العربي» واللذان لامسا من خلالهما مظاهر مهمة في حركة النقد الأدبي خاصة، والثقافة العربية عامة. وانطلاقا مما طرحاه تفاعلاً واستيحاءً وليس تحاوراً حرفياً مباشراً، في فقرات ذينك المقالين، ولا جواباً قاطعاً عن تساؤلاتهما المهمة فيهما.
إذ ما زال في المتسع طرح المزيد من هذه التساؤلات التي غايتها الارتقاء بالمستوى النقدي، والتنبيه إلى ظواهر استشرت في واقعه، وصار لزاماً معالجتها والحد منها، لاسيما ما صار يعانيه النقاد الحقيقيون من التهميش بسبب صعود فئة من المتناقدين الطارئين.
وهو ما جعل نقدنا الأدبي الراهن بالعموم تعلة أو شماعة، تعلق عليها كل إخفاقات الواقع وأمراضه، ومنها التراجع النوعي في الأدب.. لكن هل تُعالج الأسئلة وحدها أمراض الظاهرة النقدية، وتبث فيها روح الأمل والعمل، وتساعد في تجاوز المطبات ومواجهة العقبات؟ وهل تستطيع هذه الأسئلة إثارة أو تحفيز المعنيين بها، على وضع إجابات صميمية يُرتجى منها وضع الحلول؟ ولماذا تُطرح غالبية الأسئلة من عين واحدة متقولبة في بُعد واحد، مهملة أبعاداً أخرى تنطوي على وجهات نظر مغايرة؟ وكيف لنا أن نستدل على إجابات معينة، والأسئلة نفسها بحاجة إلى بعض الموضوعية والشمولية؟
قد لا يجانبنا الصواب إذا قلنا للوهلة الأولى، إن المنظومة المركزية التي تمسك بموازين قوى الثقافة العربية، وتُسيّرها على هواها تمويلاً وإدارةً وإعلاماً، هي السبب وراء المآخذ التي تسجل على نقدنا الأدبي الراهن، الذي فيه من التحديات والأعباء ما لا يُحتمل معها توجيه أي عذل له أو إلقاء أي لوم على نقاده.. ومع ذلك، فإن هناك وقائع تدلل على أن تلك المنظومة بما تملكه من رأسمال مادي ومعنوي هي وحدها القادرة على إعلاء مكانة الذي يمالئها، ويخدم أغراضها لتسيّده على رؤوس أشهاد ثقافتنا الحقيقيين، جاعلة منه قطباً وهو في الحقيقة ذيل لها، ومتخذة منه فارساً وهو بلا فروسية ولا نجابة.. بينما تخفض من منزلة مبدع آخر أو تعتّم على عطائه المميز والكبير.
وهو أمر حاصل في كثير من الأوقات، ذلك أن السلطة ـ سياسية كانت أو ثقافية ـ قادرة على إحداث التأثير في المحيط الثقافي من ناحية خلق كيانات بعينها، وإلغاء غيرها أو عرقلتها، وحسب ما تقتضيه شؤونها. وهذا يحصل حتى في السلطات التي عُرفت بإيجابياتها في الميدان الثقافي، ومثالنا الروائي المتميز فتحي غانم الذي تعرض إلى حيف كبير، وتم التعتيم على عطائه ردحا طويلا من الزمن، بسبب معاداة أحد الأقطاب المتنفذين في السلطة في الحقبة الناصرية، ظناً من هذا القطب أنّ الروائي عناه بإحدى الشخصيات الوصولية في رباعيته الفريدة «الرجل الذي فقد ظله».. ولم يُرفع هذا الحيف عن الروائي إلا بعد فقدان ذلك المسؤول موقعه في السلطة.
فمن أين يتسنى إذن للنقاد المستقلين الحقيقيين أن يشكلوا مؤسسة، ما دام طابور المنظومة المركزية يهددها بالابتلاع؟ ومن أين يتأتى النقد الخالص والنزيه في خضم هذا السيل الجارف والعرمرم من نقد الإخوانيات والمحاباة الذي ساهمت المنظومة الرسمية في شيوعه، عبر إعلائها اسماء بعينها لتصير في الواجهة النقدية، مع أن كثيراً منها يَذم النقد الأدبي ويتهمه بالذواء والموت على يد النقد الثقافي والدراسات الثقافية، ويتصور أن النقد فرع من فروع هذه الدراسات التي فيها للنقد الثقافي الأفضلية والفائقية بوصفه الوريث الشرعي للنقد الأدبي وهو خليفته الذي سيفتح الطرق المسدودة.. إلى آخره من الدعاوى التي تروّجها المنظومة الرسمية.
وأول ما ينبغي في التصدي لمثل هذا الواقع الزائف هو، التدليل على بطلان هذه الدعاوى التي تريد اتخاذ النقد الثقافي ملاذاً يعصمها من نظريات النقد ومناهجه ومرجعياته ودقائق مفاهيمه ومصطلحاته، لتكون أولى كوارث النقد الثقافي هي إماتته للنصوص الإبداعية بهروبه من عوالمها، وخشيته من فحص أبنيتها وسبر خصائصها الفنية، وهذا من مظاهر عدم الاقتدار على التمنهج النظري مع فقدان القدرة التحليلية التي ينبغي أن يتحلى بها الناقد الأدبي. ولا خلاف في أن النقد الغربي كان قد مرَّ قبلنا بمثل هذه المركزية، لكنها تضعضعت بصعود الهامش، الذي لعب دورا في التنبيه إلى مخاطر التمركز؛ ومنها خطر الترويج للدراسات الثقافية ومحاولة طرحها بديلاً عن النقد الأدبي والدراسة الأدبية.
ومع تقديري لرأي الروائية لطفية الدليمي في أن النقد الأدبي (لم يعُد اشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود؛ بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية») فإنه ممكن، لكن بشرط ألا تضيع هوية النقد في الثقافة، وإذا ضاعت هوية النقد، فذلك يعني ضياع هوية الأدب أصلا. وهو ما وقف عنده جوناثان كولر Jonathan Cullerفي كتابه Literary theory ; A very short introduction عام 1997محذراً من تذويب النقد الأدبي في الدراسات الثقافية، متسائلاً: إلى أي مدى يخلق الأدب الثقافة؟ وهل يمكن أن يُقال إن الأدب يعبر عنها ويمثلها؟ وهل الثقافة هي النتيجة للتمثيلات وليست مصدرها أو سببها؟ داعياً إلى ضرورة أن تشدد الدراسات الثقافية على دراسة الأدب، بوصفه ظاهرة معقدة ومتناصة مع ضرورة الإصرار على فحص الأدوار الثقافية.
وقد أوصلته مناقشاته حول العلاقة بين الدراسة الأدبية والدراسة الثقافية إلى طرح أمرين: أولهما يتعلق بـ(المعتمد الأدبي literary canon) وثانيهما هي المناهج الملائمة لتحليل الموضوعات الثقافية، مؤكداً أن خطر المعتمد الأدبي هو كخطر الدراسات الثقافية، فهما متشابهان إلى حد كبير. وليس المعتمد سوى المنظومة في تغوّلها المركزي، الذي لا تريده الدراسات الثقافية أصلاً، بدءا من أول كتاب فيها وهو(culture and anarchy ) لماثيو آرنولد والصادر بطبعته الأولى عام 1899.
وعربيا ليست لدينا مؤسسة نقدية، استطاعت إعلاء الهامش وخلخلة المركز، لكن لدينا نقاد مؤسسون ونقاد يؤسسون مشاريعهم بعيدا عن السطح الثقافي؛ ضائعون في خضم المركزية الثقافية وبحرها اللجب؛ هذا البحر الذي ضاع فيه الأصيل وغلب فيه المال ومنطق القوة. وما دمنا بلا مؤسسة نقدية فكيف لنا بعد ذلك أن نلوم مؤسسة لا وجود لها، ثم نستنجد بالتي هي سبب الكارثة، ورأس البلوى التي فيها الداء والدواء، وقد تعملقت كمنابر إعلام امبراطورية تمنح صكوك غفران الثقافة شعراً وروايةً ونقداً وفكراً. وما من قارئ عربي إلا وهو يعرف هؤلاء المصكوكة اسماؤهم ببركات ونفوذ من لديه القوة والسلطان.
وإذا كان هوامش الثقافة بإمكانياتهم الفردية ومشاريعهم الخاصة يستطيعون إدامة الفعل الثقافي وتنويعه وإغناءه، فإن في ذلك أملا بقدرتهم مستقبلا على زعزعة مكانة المنظومة الثقافية الرسمية، التي لا تتوانى عن أن تبتدع شتى المظاهر والفعاليات الباذخة والخلابة، كي تحرف الأنظار عن الهوامش، فتشيع ما تريد هي إشاعته عن نقادها ومشاريعهم الخاوية.
وليس ممكناً مع هذا الحال مقارنة واقعنا النقدي بالواقع النقدي الغربي، ولا أن نضاهي تاريخه النقدي بتاريخنا، ولا أن نتطلع إلى ما يتطلع إليه نظريا وإجرائيا. وكيف لنا أن نرى نقدنا الراهن على حقيقته، ونحن مشبعة أنظارنا بمباهج ما وصل اليه النقد الغربي، وما تزفه إلينا المنظومة الثقافية الرسمية من أسماء كبرت إعلاميا في أحضانها، وليس لها من العطاء إلا ما هو ملمع ومعبأ في أغلفة برّاقة مصنوعة بحرفية.
وبسبب ذلك كله يواجه نقدنا الراهن تحديات لم يواجه مثلها في أي من مراحل تاريخه، وعلينا أن نقر بحجم هذه التحديات، بعد أن صارت لثقافتنا مراكز سطوة وعتو، ما لا يمكن للهامش أن يقاومها أو يتجاهلها.
وأنه لمشروع جداً أن يتنبه لمثل هذا الحال بعض روائينا وكتّابنا من الذين صار يؤرقهم الواقع النقدي الزائف، ويعز عليهم ما يرونه فيه من تراجع وعلل، جعلت منه عاجزا وخطرا على الأدب وتصومعا وجلدا للذات، وخواء يتمظهر في شكل سياحة للترفيه وقضاء الوقت، بعيدا عن الهموم والتطلعات، ومن ثم لا جنة للنقد موعودة، بل محكمة تُفتي في ما ليس لها فيه علم.
والمطلوب هو دعم الهامش لعله يقف على قدمين ثابتتين في عالم الثقافة ويعلن عن حقيقته، لا أن نكبله أكثر بالتغييب ناظرين إلى واقعنا النقدي على أنه مركز فقط غير منصفين الهامش ولا مدللين على ما يجري فيه من فاعلية، تحاول أن تواجه ترسانة المركز المالية والإدارية والإعلامية بترسانة غنية جوهرا ومظهرا.
وكلمة (كفى) هو ما ينبغي أن نوجهه للمنظومة الثقافية التي تمنع النقد من أن تكون له مؤسسته الحقيقية القادرة على أن تحد من شطط اللاتمرس في النقد، وسوء القراءة وضعف المنهجية وغلواء الإخوانية والضحالة في ما يكتبه المتناقدون، الذين ليس لهم سوى السطو والتجميع من هنا وهناك ناهيك من حمى الأبحاث المتدنية المسماة (عليا) التي صارت من سقط المتاع، وإنجاز المطلوب من أجل شهادات للتظاهر والحصول على وظيفة أو مؤهل يوفر لحامليها حظوة لدى المؤسسة الرسمية.
ولا خلاف في أن الذي يدفع بعضهم إلى النقد مستسهِلا إياه بما لديه من ثقافة عامة، ومعيقا العملية النقدية بالتعالي والمغالاة، هم مبدعو الأدب أنفسهم، اولا بالذاتية ـ على الرغم من مشروعيتها بالقدر المعقول ـ التي تدفعهم إلى الجري وراء النقاد ليحظوا بمباركتهم، وثانيا عدم تمتع الكثير من مبدعي النصوص الأدبية بوعي نقدي كاف للوقوف في وجه الطروحات المتعسفة. وهو ما يفسح المجال لبعض النقاد من الصولان والجولان دون تحفظ، بينما نجد هذا نادر الحصول مع مبدعين ذوي وعي نقدي ودراية معرفية بتنظيرات النقد الأدبي الشعرية مثل، نازك الملائكة وأدونيس ومحمد بنيس وعبد الرحمن طهمازي، وتنظيراته السردية مثل لطفية الدليمي ومحمد خضير وإدوارد الخراط ورضوى عاشور. فإن هؤلاء وأضرابهم من المبدعين الكبار يخشى المتناقد الطارئ الاقتراب من أعمالهم الإبداعية، لقصوره وضعف أدواته عن الارتقاء إلى مصافهم.
كاتبة عراقية
القدس العربي
——————
الناقد الأدبي: من مرجعية التقييم إلى الدراسات الثقافية/ لطفية الدليمي
دفعني الروائي الصديق واسيني الأعرج في موضوعه المنشور بتأريخ 20 أكتوبر/تشرين الأول 2021 في «القدس العربي» بعنوان (هل أصبحت المؤسسة النقدية العربية دار افتاء؟) إلى التفكّر الدقيق في خريطة النقد الأدبي – العربي والعالمي – والمآل الذي انتهى إليه النقد الأدبي في عصرنا الراهن.
أنهيتُ قبل أيام قراءة كتاب يمتلك أهميته الخاصة – وإن كان متقادماً بعض الشيء – في النقد الأدبي عنوانه (المرآة والمصباح: النظرية الرومانتيكية والتقليد النقدي) لماير إج. أبرامز. النسخة التي قرأتها من هذا الكتاب هي أحد إصدارات جامعة أكسفورد البريطانية لعام 1971؛ لكن طبعة الكتاب الأولى ظهرت عام 1953. دفعني لقراءة الكتاب التقريظُ الرائع الذي كتبه الراحل عبد الوهاب المسيري بحقّ الكتاب ومؤلفه في سيرته الذاتية الممتعة، ويبدو أنّ هذا الكتاب كان أحد المصادر المرجعية الأساسية لدى كلّ دارسي الأدب في الجامعات الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي وما بعده.
أتساءل ابتداء: لماذا لم نعُدْ نقرأ في عصرنا هذا كتباً على شاكلة كتاب أبرامز؟ ربما من الأفضل أن ينقلب السؤال من صيغة التساؤل عن سبب الغياب إلى مساءلة إمكانية الوجود أصلاً: هل يمكن أن نلمح في عصرنا الراهن ملامح شخصية ناقد أدبي تتشابه – في قليل أو كثير – مع شخصية رينيه ويليك René Wellek أو هارولد بلوم Harold Bloo أو كلينث بروكس Cleanth Brooks أو ويليام ويمسات William Wimsatt أو فرانسيس آر. ليفز Francis R. Leavis أو نورثروب فراي Northrop Fry أو ويليام إمبسون William Empson ؟ هذا سؤال يقودنا بالضرورة إلى سؤال آخر: هل يمكن أن نشهد في عصرنا هذا أعمالاً مكتوبة بروح تناغم تلك التي كتِبت بها أعمال على شاكلة: الأيقونة اللفظية Verbal Icon أو تشريح النقد Anatomy of Criticism، أو سبعة أنماط في الغموض Seven Types of Ambiguities ؟ وهل يمكن أن نقرأ تأريخاً حديثاً مختصراً أو موسوعياً للنقد الأدبي على شاكلة «تأريخ النقد الأدبي الحديث» ـ ذلك العمل الضخم الذي عمل عليه المنظّر الأدبي الراحل رينيه ويليك، ونشرته جامعة ييل على مدى يقارب العشرين سنة؟ إجابتي على كل هذه الأسئلة هي باختصار: لا أظنُّ أنّ شيئاً مثل هذا سيحصل في أيامنا هذه، والأسباب وراء هذا كثيرة يمكن إجمالها في عبارة مختصرة: تغيّر روح العصر وإيقاعه واشتغالاته وأولوياته الضاغطة على طبيعة النتاج الأدبي السائد.
٭ ٭ ٭
لم أزل حتى يومنا هذا أذكر تلك اللحظة المفصلية التي أعقبت نشرَ أول كتابٍ قصصي لي «ممرٌّ إلى أحزان الرجال» عام 1970. قضيتُ أياماً أترقّبُ ردّة الفعل تجاه عملي، وكنتُ أتطلّعُ لحيازة مباركة كاهنٍ أكبر، ومن عساه يكون سوى بعض الأسماء المكرّسة، التي عُدّت وقتها مانحة صك الدخول إلى جنّة السرد الموعودة، بعد تعميد الداخلين بماء الولادة الأدبية الجديدة، كانت هذه ردة فعلٍ طبيعية؛ فنحن كنا في نهاية المطاف حينذاك جزءاً من حراك محلي وعالمي، لا يزال يعتمد المرجعيات المكرّسة لبعض سَدَنَة النقد الأدبي وإن كانت حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، قد شهدت ولادة انعطافاتٍ ثورية تطلّعت لكسر المرجعيات الثقافية، التي يمكن أن تجعل فلاناً من النقّاد قطباً مرجعياً تُخشى سطوته، ثمّ أن العالم ما كان يموج بهذه الحركة التفاعلية عبر الشبكة التواصلية التي تتيحُ نشر الحس الثقافي الثوري على مستوى العالم، وما كنّا حينذاك نمتلك الرغبة السايكولوجية – ولا التصوّر الفكري كذلك – وبما يمكّنُنا من إشعال معارك أدبية تطيحُ بالمرجعيات المهيمنة. كنّا نسعى لنشر أعمالنا والحصول على قدر مقبول من المباركة النقدية وحسب. عندما يمتدّ بي خيالي إلى تلك الأيام الخوالي أكاد أذهل لفرط سرعة التغيير الذي اجتاح عالمنا في بضعة عقود، وأتفكّر بخاصة في الجوانب الأدبية من هذا التغيير (لندع الآن العلم والتقنية جانباً، ولنقصرْ حديثنا في حدود خريطة الأدب).
٭ ٭ ٭
لستُ هنا في معرض تقديم خريطة تضاريسية للنقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين، وأزعم أننا غادرنا العصر الذي يمكن أن نشهد فيه نظراء لكلّ من إف.آر. ليفز أو رينيه ويليك أو فرانك كيرمود أو رايموند ويليامز. لماذا آل الحال إلى هذه الكيفية؟ ذلك واحد من الأسئلة الإشكالية التي لطالما تفكّرتُ فيها ملياً وحاولت قدر استطاعتي أن أقف على بعض مسبباتها التي سأوردها هنا:
ـ الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات: من المعروف أنّ إحدى المثابات الواضحة التي تسِمُ عصرنا هي الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات المهيمنة، وإقامة نمط من الأخلاقيات الفردية التي تنفر بطبيعتها من الانشداد لأي مرجعية خارجة عنها، واعتبارها نموذجاً معيارياً يتوجب التعامل معه، على أساس أنه هو ما يمنح المشروعية الواجبة لأي نسق فكري يجتهد الفرد في تطويره. النقد الأدبي بهذا المنظور هو مرجعية تتمّ على أساسها مباركة العمل الأدبي، وإدخاله في حظيرة المُعْتَمَد الأدبي Literary Canon؛ وبالتالي لا بد من توقّع حدوث تهشيم مستديم سيطال هذه الرؤية التي ترى في الناقد الأدبي (الحارس الكهنوتي) الذي آلت إليه وحده مهمّة الحفاظ على نقاوة المنجز الأدبي من التلوّث.
ـ النقد الأدبي غدا فرعاً من دراسة السياسات الثقافية: يمكن للمدقّق المتفحّص في ثقافة القرن الحادي والعشرين أن يرى نزوعاً لا يفتأ يتعاظم نحو توظيف نظرية الأنساق الشاملة بكيفية مناظرة لما يحصل في كلّ المباحث المعرفية الأخرى، العلمية والإنسانية، وبطريقة ما عاد معها أي مبحث معرفي تقليدي جزيرة قائمة بذاتها، بل هو جزء في منظومة دينامية معقدة؛ وعلى أساس هذه الفكرة صار النقد الأدبي مبحثاً فرعياً في نطاق الدراسات الثقافية، التي ترى الأدب تياراً من تيارات الثقافة وليس كينونة قائمة بذاتها.
ـ الجغرافيات المحلية وتأثير العولمة: يرتبط مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي بالجغرافية المحلية، وببواكير نشأة الدولة القومية، ويمكن للقارئ أن يجري مسحاً سريعاً للأسماء النقدية الأدبية الكبيرة التي شاعت في القرن العشرين وسيكتشف أنّ كلاً من تلك الأسماء ارتبطت بجغرافية قومية محدّدة، جعلت من تلك الأسماء عناصر تُعلي شأن المكانة القومية وتُمَيّزُها، بالمقارنة مع الآداب القومية الأخرى. ليس صعباً أن نتخيّل ما الذي فعله طغيان المدّ العولمي في تهشيم صورة الناقد الأدبي، الكلاسيكية القريبة من الكهنوت الأدبي؛ فقد انحلّت التخوم الأدبية القومية لصالح مركّب تخليقي عولمي يسعى لتوظيف كلّ التجارب الإنسانية بصرف النظر عن جغرافيتها المحلية، ويُضافُ لهذا الأمر شيوع النقد الثقافي ما بعد الكولونيالي الذي صار فضاء مفتوحاً على كلّ الآداب العالمية. هل نتوقّع بعد هذا أن يظهر لنا ناقد على طراز إف. آر. ليفز يصرّح بأن ليس ثمة من شعراء إنكليز سوى ثلاثة: تي. إس. إليوت، وجيرارد مانلي هوبكنز، وو. ب. ييتس؟ هذا المثال الأدبي النقدي المُغإلى في رؤيته الضيقة، لم يعُد له وجود في عالمنا اليوم بكلّ تأكيد.
-تغوّل سطوة الناقد الأدبي: انقضت إلى غير رجعة تلك الأزمان التي كان فيها الناقد الأدبي هو مَن يُحيي ويميتُ أدبياً. قد يبدو هذا السبب منطوياً على شيء من القسوة المفرطة؛ لكنه حقيقي ومنظور ويمكننا تلمّس حيثياته، خاصة في بيئتنا العربية. ظلّ الناقد الأدبي الكلاسيكي موهوماً بمساكنة الأعالي الثقافية المهيمنة على المشهد الثقافي بكامله، وظلّ معتكفاً في صومعته الأكاديمية التي وفّرت له نوعاً من مظلّة حمائية لوقتٍ ما؛ لكنّ الانعطافات الثقافية الثورية التي جاءت في أعقاب مواريث ما بعد الحداثة كانت أقوى من متاريس كامبريدج، أو أكسفورد، أو سائر المعاقل الأدبية الكلاسيكية الموهومة بالحصانة المنيعة، إزاء المتغيرات العاصفة، خاصة تأثيرات الثورة الرقمية وهي تعيد تشكيل أنساق الخطاب الذي يتوجّه به الناقد إلى عموم القرّاء.
– انحلال الثقافة الأدبية والثقافة العلمية، ونشأة «الثقافة الثالثة»: يبدو أن هذا العنصر هو العنصر الأهمّ، الذي دقّ الإسفين القاتل في قلب مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي؛ وعليه سأعالجه بقدر أكبر من الاستفاضة بالمقارنة مع العناصر السابقة.
إنّ المتابع الحصيف لتأريخ الثقافة والأفكار لن تفوته ملاحظة الانعطافة الثورية في مفهوم (الثقافة) بعد أن جلب اللورد سي. بي. سنو في محاضرته الكامبريدجية ذائعة الصيت عام 1959 النظر إلى الهوة العميقة التي تفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية ( وهو ما تشير إليه مفردة «الثقافتان» التي صارت منذ ذلك الحين علامة مميزة ممهورة بتوقيع اللورد سنو) ثمّ تطوّر الأمر حتى بلغنا عتبة (الثقافة الثالثة) التي صارت هي الأخرى علامة ممهورة بتوقيع الكاتب والمحرّر الأدبي جون بروكمان.
ليس المقصود بالثقافة الثالثة – كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر – أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الشكسبيري، الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري، لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر ما بعد الثورة التقنية الثالثة، التي نشهد آثارها في حياتنا الحاضرة، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والآداب الكلاسيكية، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الانعطافات الثقافية المبتكرة، حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة، وما بعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها، أو اعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا والتفكيكية وتحليل الخطاب، إلخ من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية، بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية، والأيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي لامست أدقّ تفاصيل الحياة البشرية. إذا كان هذا هو حال المشتغل بالأدب فسيكون من الطبيعي أن يطال التغيير الراديكالي طبيعة اشتغال الناقد الأدبي الكلاسيكي الذي لطالما عرفناه في العقود السابقة.
٭ ٭ ٭
سأضع خاتمة هذا المقال في نطاق هذه المقايسة الإطارية الشاملة: لم يعُد النقد الأدبي اشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود؛ بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه «الدراسات الثقافية» بعد أن غادر الأدب مواقعه الحصينة في قارة الأدب، التي قرأنا عنها واستطبناها من قبلُ؛ لكنّ تغييراً عاصفاً وشاملاً سينالُ الأدب – فضلاً عن الثقافة ذاتها – في السنوات القليلة المقبلة نحو ثقافة جديدة عنوانها «الثقافة الثالثة» – هذه الثقافة التي ستعيد تشكيل الوجود البشري على كلّ الأصعدة، بخاصة في نطاقين حيويين: التعليم والسياسات الثقافية.
كاتبة وروائية ومترجمة عراقية
القدس العربي
————————————–
هلْ أصْبحَت المُؤسَّسة النَّقدِية العَربيَة «دارَ إفْتَاء»/ واسيني الأعرج
ماذا يحدث في النقد العربي اليوم؟ هل ما يزال أداة معرفية تقود القارئ نحو فهم آليات اشتغال النصوص، والتمكن من قراءتها بشيء من الحب والراحة؟ هل يملك النقد العربي اليوم الأداة التي تمكنه من أن يكون وسيطاً موصلاً يمنح شهية القراءة والتوغل في أعماق النصوص مسترشداً مما يمنحه النقد أيضاً من متعة، كما قال تودوروف تزفيطان في «الأدب في خطر»؟ ليس الأمر مستحيلاً، فقد مرّ النقد العربي عبر هذه الآلية الإيجابية، إذ كان يكفيه أن يؤشر على نص من النصوص ليصبح هذا الأخير قيمة لا يمكن تخطيها، هو من فتح السبل لقراءة أول رواية (؟) عربية: زينب، وقدمها للقارئ ليقبل ليس فقط بالرواية لكن بالجنس نفسه، كما أنه عالمياً هو من خفف الوطء على القارئ للدخول في عالم: الصخب والعنف، لفلكنير. هذه المرافقة النقدية الإيجابية حدثت حقيقة في النقد العربي التاريخي، وبعض النقود التي تلته حتى اليوم، على قلتها. يغضب كثيرون بل ويخافون من الزحف الروائي (آلاف الروايات سنوياً التي نفخت ميزانيات دور النشر الخاصة التي تحولت إلى طابعات لا أكثر) الذي غطى على كل شيء بلا أدنى متابعة نقدية، ويتأخرون في تحليل ظاهرة الرسائل الجامعية التي تفرخ في كل مكان بالعشرات دون أن يكون لذلك معنى نقدي حقيقي. الكثير منهم لم يكتب حرفاً واحداً منذ حصوله على شهادة الدكتوراه.
الدال (الدكتور) التي تسبق الاسم التي يصر عليها أصحابها باستماتة حتى خارج الإطار الجامعي، لا تصنع ناقداً، بل لا تصنع حتى مدرساً كفئاً قادراً على العطاء البيداغوجي (طبعاً هناك استثناءات علمية لا تعمل إلا على تأكيد القاعدة. لا يخلو الأمر من باحثين مميزين منشغلين بهمومهم البحثية والفكرية) يوم كان النقد نشاطاً معرفياً عميقاً، وبحثاً مضنياً في عمق النصوص لفهم آليات اشتغالها لا للحكم القسري عليها، كان للنقد وظيفة حقيقية ترفع من سوية النصوص شعرية كانت أم سردية، لكنه يوم تخلى عن ذلك وأصبح مجرد أحكام عابرة في عمومه، فقد هويته ومكونه الأساسي الذي هو المعرفة ومحاذاة النصوص ليس فقط لمرافقتها ولا لتفسيرها وحسب، لكن للإصغاء لها. فكثيراً ما طرحت النصوص إشكالات حيوية يمكنها أن تتحول إلى مادة نقدية حقيقية. فقد أحرج مارسيل بروست في «في البحث عن الزمن الضائع» الكتابة النقدية الكلاسيكية لأنها عجزت أمام نصه المفصلي، كما وضع نجيب محفوظ النقد العربي في مأزق يوم كتب «أولاد حارتنا» فتوجه النقد حثيثاً نحو الخطاب السياسي أو الديني المناهض لحل إشكالات طرحتها الرواية، هي في الأصل ثقافية ومعرفية وأنثروبولوجية، وحضارية وإنسانية وبنائية أدبية، تحتاج إلى عمل حفري حقيقي لم يكن النقد يومها يملك الوسائل المؤهلة لفهم الرواية. ومع انهيار القيم الثقافية العربية وتسيد السهولة وتغييب العقل، خسر الناقد مهمته وأصبح «مرشداً سياحياً»، «مفتياً» يجيز ويحرم، من خلال قلعة سكنها مجموعة افترضوا أنفسهم أنهم الأفضل، وبدأوا يشتغلون من هناك على تدمير المواهب التي تتفرد بنماذجها أو حتى تلك التي تدخل معترك الأدب لأول مرة، والجديد وكل ما لا يفهمونه أبداً.
يحللون ويحرمون كما يشاؤون، خارج كل الأطر النقدية، ويطلقون النار على من لا يروق لهم، أو يرفعون أيضاً نحو السماء العالية، عبثاً، القريب منهم. يظنون فجأة، في ظل غياب أي رد فعل حقيقي، أنهم مالكون لحياة وموت النصوص، بينما تنشأ الكتابة اليوم خارج مدارات هذه النقود، بل وبعيداً عن يقينياتها، غير معنية مطلقاً بـ»ضوابطها» وأوامرها ونهيها، التي لا تختلف في شيء عن المنطق التحتي لـ«الإفتاء» النقدي بكل ترسانته القهرية المواجهة للجهد الإبداعي، كيفما كان صاحبه، مرسخاً أو شبابياً.
لا يحتاج الأمر إلى كبير معرفة لنلمس ذلك عن قرب. عندما نتأمل المشهد النقدي العام، ونقترب من اشتغالاته، أو بالأحرى من «ردود فعله»، نصاب بحالة غريبة من اليأس، ولا نمنع أنفسنا من التساؤل: هل يسير النقد العربي نحو حتفه؟ بكل تأكيد، داخل هذه الدوامة السوداء والمُيئسة، هناك أصوات قليلة وقليلة جداً ما تزال حتى اليوم تقاوم لوجودها داخل عالم النكران الكلي لما تقوم به من أجل الحفاظ، على الحد الأدني الذي يؤهلها لأن تكون الصوت الخافت وسط ضجيج الأحكام والحروب الخاسرة في النهاية.
ينبني جوهرياً هذا الشكل النقدي على لازمة متكررة دوماً، رفض كلي للمنجز الإبداعي العربي، واحتقاره في شكل غير مسبوق لجلد الذات، وكأنه لا وجود لأية إبداعية تستحق الاهتمام. طبعاً لا يتم ذلك من خلال تحليل حقيقي للنصوص الروائية، لكن اعتماداً على سلسلة من الاختزالات تعودت عليها كوكبة من «النقاد» العرب التي تبتذل كل ما يقع بين أيديها، والسخرية منه، وكأنها المالك الأعظم لما يجب كتابته وما لا يجب. بل جعلت هذه الكوكبة من الكثير من التجارب الشابة التي تفتح أعينها على الكتابة، فابتذلت جهودها وكسرتها في بداية تجربتها، ولم تنفذ منها إلا التجارب التي عرفت اللعبة وفهمت جيداً هذا النوع من النقد، فلم تلتفت له أصلاً وذهبت عميقاً في مشروعها معتمدة على ثقافتها الخاصة وتجاربها المحايثة للرواية العربية والعالمية. عرفت بسرعة أن الناقد تحول من متعامل مع نسبية المعرفة إلى كائن يقيني مالك للمعرفة كلها. وهو في ممارسته هذه لا يختلف مطلقاً عن عقلية «المفتي» كما ذكرنا آنفاً، الذي يسند يقينه بسلسلة من المعارف المستعارة من الدين بنصيه المرجعيين، القرآن والسنة، لدرجة أن أصبحت المؤسسة النقدية «دار إفتاء»، لها مؤسسوها وسدنتها وجماعاتها المرضي عنها. ويسير «الناقد» أو ما يسمى كذلك، مقتفياً نفس خطوات المفتي بحيث لا اختلاف بينهما في المنهجية والعقل المتخفي وراءهما، التصورات والمقاربات نفسها. الأمران خاضعان لنفس المرجعية وإن لبست لبوساً حداثياً جديداً في النقد، يتلخص في مختلف المدارس النقدية وكأنها مقدسات، من الدراسات النصية (بعد انسحاب النقد التاريخي من المشهد النقدي)، والبنيويات المتشظية، إلى السيميائيات، والموضوعاتية وغيرها، بأسماء روادها الذين يحضرون كما في الفعل الديني، لجعل الشهادة أكثر تجذراً وإقناعاً بالنسبة للمتلقي، ويغيب تحليل النص كلياً الذي يجعلنا نشتهي ونحلم بقراءة النصوص التي كانت موضوعاً لتحليله. الاختلاف الأوحد هو أن الأول يستشهد بالنص المقدس، بينما الثاني المتزود بالمقولات وليس النقد، يسترجعها كما لو أنه يعيد الاستشهاد بالنص القرآني. المتابع لما يكتب من نقود يلاحظ بسرعة أن النقد العربي فقد علاقته بالسجالية والمعرفية النسبية، وغرق من خلال مجموعات مبثوثة هنا وهناك تفتي من الأعلى، وعلى الكاتب القادم نحو مساحة الكتابة أن ينحني لها وينصاع لأوامرها كما لو أنها تقول كلاماً يعلو ولا يُعلى عليه، وإلا سيكون غضبها قاسياً بالتنكر له أو تحويله إلى سخرية. مع أن تحولات الخطاب النقدي العربي داخل جدران «المؤسسة النقدية» يحتاج إلى تأمل حقيقي، ومقاربة فعلية تأخذ الظاهرة وتبحث فيها بعمق. حبذا لو تأمل هذا النقد ذاته طويلاً كما فعل بكل جرأة تودوروف، قبل النصوص الإبداعية، لأن الخلل ليس في المشهد الإبداعي الغني لكن ربما في النظارات المضبّبة التي يرى الناقد من خلالها هذا المشهد.
القدس العربي
——————————