إيتيل عدنان وداعا -مقالات وداعية مع مجموعة مختارات شعرية ونثرية للراحلة
——————–
رحيل إتيل عدنان… متعددة الثقافات والهويات والنضالات
رحلت الروائية والشاعرة والرسامة والمؤلفة المسرحية السورية اللبنانية، إتيل عدنان، وكتب فواز طرابلسي في وداعها “غادرتنا اتيل عدنان صباح اليوم عن 96 عاماً: الفنانة، الشاعرة، الروائية وفوق ذلك الإمرأة العظيمة. سورية الأب، يونانية الأم، بيروتية المنشأ، لبنانية التبني، عربية الخيار، وإنسانية الانتماء والرؤية والفكر. أبكي صديقة نصف قرن مع رفيقة عمرها سيمون فتّال، وأتشارك العزاء مع محبّيها وصديقاتها وأصدقائها الكثر. ودّعناها انا ونوال عائدين الى بيروت بعد آخر لقاء في باريس السبت الماضي. لم نكن ندري انه الوداع الأخير”.
وُلدت اتيل في بيروت العام 1925 من أب سوري دمشقي(مسلم)، آصاف عدنان قدري، كان ضابطاً في الجيش التركي، وأمّ يونانية(مسيحية) مولودة في أزمير، روز ليليا لاكورتي، وعاشت إتيل ضمن تنوّع عرقي وثقافي، كان القرآن بجانب الإنجيل في بيتهم. وهي تنقل حروفاً تركية وعربية على دفاترها من دون أن تفهم هذه الحروف. ووالداها يتكلمان مع بعضهما باللغة التركية، وأمها تتكلم معها باليونانية، والناس في بيروت يتكلمون معها بالعربية، وفي مدرستها بالفرنسية في ظل الانتداب الفرنسي على لبنان، ودرست في الجامعة بالإنكليزية، فتحدثت كل هذه اللغات بطلاقة، بمعنى أنها كانت مزيجاً من دمشقية بيروتية يونانية تركية أميركية فرنسية. وألّفت أولى قصائدها باللغة الفرنسية في سن العشرين، وصارت خريجة جامعات السوربون، ثم بيركلي وهارفرد، ودرّست الفلسفة من العام 1958 ولغاية العام 1972.
عدنان التي درست في المدارس الفرنسية في بيروت، درست الأدب الفرنسي وقرأت بودلير ونيرفال. وفي بيروت التقت بالشاعر أندريه جيد، الذي ستقابله في ما بعد في باريس، حيث تأثّرت بفلسفة سارتر عن المسؤولية والأخلاق. بعدها انتقلت إلى أميركا التي عرفتها من خلال الأفلام السينمائية. وفي سان فرانسيسكو اشتاقت إتيل للسجاد العجمي الذي كان يملأ بيتهم في بيروت. هذا الإشتياق ستترجمه الفنانة في أعمالها اللاحقة من خلال إشتغالها على نسج البساط بالألوان. الرسم الذي مارسته منذ العام 1959، وهي تدرّس فلسفة الفن في كاليفورنيا، بدأت معه مروحة من المعارض والكتب الشعرية والروائية… ومن خلال مسيرتها المتشعبة والطويلة والمتعددة، صارت اتيل على صلة واسعة بالمثقفين والكتّاب والشعراء وصالات العرض في بيروت والعالم والعربي والعالم، ولم تحظ كاتبة أو مثقفة بمثل ما حظيت اتيل من حب، ويتبدى ذلك من خلال المقالات المنشورة عنها في مختلف المنابر، وعدا عن الاهتمام الملحوظ بأعمالها التشكيلية في السنوات الأخيرة. وهي عرفت بصداقتها الروحية مع النحاتة سيمون فتال، وبرسائلها الى فواز طرابلسي. من دون أن ننسى دعمها للمشاريع الثقافية الشبابية في بيروت، فاسمها في لائحة الداعمين لمشاريع آفاق(الصندوق العربي).
كانت سيرة اتيل نموذجا للكاتبة والفنانة متشعبة الهويات والثقافات والنضالات. يقول المؤرخ فواز طرابلسي أن اتيل عدنان ابنة الجيل الذي هزّته هزيمة حزيران 1967، وانتشى بانتصار فيتنام ووضع المخيّلة في السلطة مع طلاب وشباب العام 1968، ومجّد تشي غيفارا نموذجاً للانسان الجديد، واكتوى بالجرح الفلسطيني قبل ان يهلل للفدائي صاحب الكوفية”… وتقول اتيل أنها كانت محظوظة بزيارتها فلسطين العام 1966، حيث أقامت في بيت السياسي الفلسطيني موسى العلمي، في مزرعته في مدينة أريحا، وذلك قبل أن يعصف الاحتلال بما تبقى من البلاد. عادت بعد النكسة إلى بيروت العام 1972 لتعمل محررة في جريدة “الصفا” الصادرة بالفرنسية. لكن الحرب لم تمهلها كثيراً، فرحلت”. يضيف طرابلسي: “هو ذاته الجيل الذي قدّر لبعض منه ان يعيش ليشهد على احتلال الجيش الاسرائيلي لبيروت والغزو الاميركي للعراق. وهو الغزو الذي سجّلته في نصها المدهش بعنوان “في قلب قلب بلد آخر”، حيث يتضافر الحوار والتكرار والابتكار الاسلوبي، لبناء مشهد اليومي من حياة امرأة تعيش “في بطن الوحش” فيما القنابل تنهمر على بغداد. لعل اتيل أول شاعر(ة) عربي(ة) ذكّرته مأساة الهندي الأحمر بالانسان الفلسطيني المقتلع والمشرّد والمجمّع في معازل تسمّى مخيمات. لكن بيروت الاحتلال الاسرائيلي، بيروت المقاوَمة، وبيروت الاقتتال الاهلي، وَخَزتها أكثر من اي حدث آخر للابداع”. سجلّت 1982 شعراً… وكتبت رواية “الست ماري روز” (1977) باللغة الفرنسية عن الحرب الأهلية اللبنانية التي شهدتها… وفي الكثير من كتاباتها كانت تمجد الطبيعة والألوان والظلال، تسافر في رحلات صوفية تنعكس في لغة نصوصها.
في التشكيل، منذ العام 1959 وهي ترسم بالحيوية ذاتها ونزق الشباب الذي ميّز حياتها الموزعة بين بيروت وباريس وكاليفورنيا واليونان، وفي مدينة سوساليتو في شمال سان فرانسيسكو، حيث ستقوم إبتداء من العام 1986 برسم جبل تملباييس، الذي كتبت عنه مجموعتها الشعرية “رحلة إلى جبل تملباييس”. في مقابلة مع “كانفاس” تخبرنا الفنانة عن أُسلوبها في الرسم والكتابة والذي يحكمه نزقها وعدم صبرها. خيارها مثلاً في إستعمال حد السكين في الرسم، يأتي من كون السكين يسهل تنظيفها بعد الرسم، إذ يكفي مسحها بالخرقة. بينما تنظيف فرشاة الألوان يحتاج إلى وقت وجهد.
وفي الشعر كتبت إيتيل قصيدتها الأُولى بالفرنسية في بيروت. لكن في كاليفورنيا، ستبدأ رحلتها في الكتابة الشعرية باللغة الإنكليزية بقصيدة ضد الحرب الأميركية في فيتنام. كان الإنتقال من الكتابة بالفرنسية إلى الإنكليزية رحلة صعبة بالنسبة لإيتيل. وحين أتت إلى أميركا للدراسة في جامعة بيركلي العام 1955، كانت أشبه بالضائعة وسط هذه اللغة الجديدة. لكن هذا لم يمنعها أن تحتل مكانة بارزة في الشعر الأميركي باعتبار أنها شاعرة “عربية-أميركية”. من مجموعاتها الشعرية “خمس حواسٍ لموت واحد” (1971) و”الهندي ليس له حصان” (1985)، و”قيامة العربي” (1989) التي كتبتها على وقع الإنتكاسات العربية المتتالية منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى.
ورغم عملها بصمت، كانت السياسة حاضرة بقوة في اعمالها، سواء ضد الامبريالية او في مناصرة الشعوب المظلومة، وساندت الثورة الفلسطينية شعراً ورسماً بقوة، وعبّرت عن تأييدها للثورة السورية…
المدن
————————-
رحيل إيتيل عدنان: كانت ترسم بالكلمات وجه الأنوثة الأكثر إمكاناً/ عبد اللطيف الوراري
الرباط ـ «القدس العربي»: توفيت الشاعرة والكاتبة والرسامة اللبنانية إيتيل عدنان عن عمر يناهز 96 عامًا، في باريس حيث عاشت معظم أيام حياتها، متنقّلةً بين بيروت وكاليفورنيا، وبرحيلها يخسر الأدب العالمي المعاصر وجها نسويا مضيئا جمع في تقاسيمه بين بكارة العناصر وشهوة الابتكار.
ولدت في بيروت عام 1925 من أم مسيحية يونانية وأب مسلم سوري، وتعلمت في مدارس الراهبات الفرنسية. غادرت بيروت في الرابعة والعشرين من عمرها لتدرس الفلسفة في جامعة السوربون وبعض جامعات أمريكا مثل، هارفارد وبيركلي بين عامي 1958 و1972، وعملت محررة ثقافية في الصحافة، وكتبت الرواية، لكن شهرتها تجسدت في الشعر الحديث، وفي الرسم، حيث شاركت في معارض دولية وأبرزت تأثّرها بكبار الفنّانين مثل بول كلي وكاندينسكي وديلاكروا، وبالفرنسي نيكولاس دي ستايل، الذي يُمثّل مرجع لوحاتها الأساسي، وهي تقول: «أنا أكتب ما أرى، وأنا أرسم ما أنا عليه». كما يُقدّمها بعضهم باعتبارها مناضلة نسوية عاصرت ذروة الحركة المطالبة بحقوق المرأة. وقد نالت جوائز عالمية؛ منها: وسام الفنون والآداب الفرنسي (2014) وحصلت على جائزة لامبادا للآداب، وجائزة كاليفورنيا للشعر عن مجموعتها الشعرية «البحر والضباب» (2013) .
كتبت إيتيل عدنان معظم أعمالها بالفرنسية، قبل أن تتحول عنها إلى الإنكليزية، لكنها كانت تقول تخاطب من يسألها، بنبرة استعادية ودالّة في آن: «أنا فعلا أنظر إلى نفسي على أنني شاعرة عربية في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وهذه مشكلة أعيشها، وهي بلا حلّ. في طفولتي ذهبت إلى مدارس فرنسية في بيروت وكانت الراهبات اللبنانيات ضد اللغة العربية، ويرفضن تعليمها لنا. في البيت أمي يونانية وأبي كان مضطرا إلى استعمال اللغتين التركية والفرنسية في حديثه معها. هكذا لم أسعد بأن أتكلم العربية وأجيدها كتابة».
تنتمي إيتيل عدنان (1925- 2021) إلى جيل مثقفي الخمسينيات، الذي هزّته سرديّات القرن العشرين الأكثر تأثيراً، فقد شهد هزيمة 1967، وعاصر اقتلاع الشعب الفلسطيني وشتاته في المخيّمات، والحرب على فيتنام، ومظاهرات مايو/أيار الطلابية في عام 1968، وميلاد الثورة الفلسطينية، واحتلال الجيش الإسرائيلي لبيروت، والغزو الأمريكي للعراق، وهو ما جعلها تنتصر في أدبها لقضايا الحرية والعدالة والمساواة، وتنحاز إلى معاناة الشعوب، على نحو أغنى هذا الأدب وأحدث فيه نقلات نوعية في أشكال التعبير والتمثيل الثقافي، كما يتجسد ذلك في أعمالها: «خمس حواسٍ لموت واحد» (1971) و«الهندي ليس له حصان» (1985) و«يوم القيامة العربي» (1980) و«27 أكتوبر 2003»؛ قصيدة كتبتها بالفرنسية بعد الغزو الأمريكي للعراق (2008). ورواية «الست ماري روز» التي تتحدث عن الحرب الأهلية اللبنانية (1978).
من أبرز أعمالها كذلك في الشعر والسرد: «هذه السماء ليست هي» (1997) و«رحلة إلى جبل مونتالباييس» (2013) و«باريس عندما تتعرى» (2011) و«أورفيوس في مواجهة العدم» (2016) وغيرها. وقد تُرجم بعضها إلى العربية، مثل: «الست ماري روز» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979/ الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2000) و«كتاب البحر، كتاب الليل، كتاب الموت، كتاب النهاية» (دار أمواج، بيروت 1994) و«عن مدن ونساء: رسائل إلى فوّاز» (دار الحوار، بيروت 1998) و«سفر الرؤيا العربي» و«يبوس وقصائد أخرى» (دار التنوير، بيروت 2016).
شهادات:
كاتبة ومناضلة نسوية. نسويتها غير المدّعية هي رهافةٌ وقوة معا. لا تتغرغر بأنّ الأنثى هي الأصل. ولا تغريها أصوليات نسوية متفاحلة ومعادية للذكور. تلعب بالأسطورة لعباً: المرأة هي ما فقده الرجل منذ آدم. والأنِثى هي النقصان في الذكر. كأن الرجل يقضي العمر والدهور لاستعادتها. ولعل إيتيل ترجع هنا صدى معادلة كارل ماركس الشهيرة التي تقول: إن المرأة هي مستقبل الرجل. لا تكتفي إيتيل بهذا. تلتقط أقوى ما في الرجل لتؤنثه. تقبض على الذكر في أضعف حالاته وأجملها: حالة اللذة. إن الرجل إذ يستسلم للذة، يتأنث. واللذة مؤنث لا محالة.
هذه المرأة التي «تفضّل الموج على البحر» وجهت رسالة إلى الشعراء تقول: «أيها الشعراء، غيّروا العالم او اذهبوا إلى بيوتكم». رسالة التحدي هذه موجهة إلى جميع من ينتج في الأدب والفن والفكر. إتيل، وأنت لم توجدي إلا للحب، تعرفين كم أحبك. هذه مناسبة أخرى لتتعرفي على الكثيرين الذين يحبونك ويقدّرون موهبتك ونبلك وشجاعتك.
أتمنى لك الحب المديد. (فواز طرابلسي)
لقّنها والدها الكتابة بالعربية عندما كانت صغيرة ولم تكتب بها الشعر عندما كبرت، وهذا هو محور أحد مؤلفاتها عن تجربة الكتابة بلغة أجنبية، بل هو تجربة حياتها في التنقل والعيش بين أكثر من لغة وغير مكان. درست الفلسفة، وحاضرت فيها، وكتبت الشعر والرواية والنصوص النثرية والنقد التشكيلي والموسيقى، وهي رسامة وحروفية. لها بيوت وأصدقاء في بيروت وباريس وكاليفورنيا. مفارقة الاغتراب تلازم كتابتها، وتجعلها متورطة بفكرة الضياع التي تقلّب من خلالها صور المدن في تحولاتها الذهنية. (فاطمة المحسن)
في أحد لقاءاتي معها، في بيتها في شارع «مدام» قربَ حديقة اللوكسمبور، أهدتني كتابها الأخير، وبدلاً من الإهداء، رسمَت على صفحته الأولى قلباً من خلال خطّ واحد، بدأَ من نقطة محدّدة ثمّ حامَ قليلاً ليعود إليها. داخل هذا الخطّ الذي يتألّف منه القلب، داخل هذا الفراغ المُسَوَّر بقلم الفحم، بدت لي حدودُ الوطن الذي لا حدود له، وهو، في هذا العالم، الوطن الوحيد الذي يمكن الانتماء إليه. هل حقّاً رحلتِ يا إيتل، كما كلّ شيء يرحل؟ سيظلّ قلبكِ ينبض في قلوبنا طالما نحن أحياء. (عيسى مخلوف)
يبدو أن الطير الذي كان يسكن جسد إيتيل عدنان، فرد جناحيه وغادره. أقرأ خبر وفاتها وتنتابني قشعريرة أشبه برؤية حبيب ضائع في زحام مدينة شتوية، مدينة «تتعرى» كما تفعل باريس. ماتت التي، في نصّها البديع عن العاصمة الفرنسية، جعلتني أعرف المدينة جيداً قبل زيارتها. في واحد من نصوصها الأخيرة المنشور في العام الماضي، تلخص الحب كما لو أنها تلخّص حياتها كلها، هي التي عاشت دائماً كعصفور بين نقاط الماء المنهمرة كدمع قديم فوق المدن الحزينة. تقول إتيل، العذبة كالماء، الكثيفة كغيمة: «عندما نعشقُ ننقلبُ إلى طير: نمدّ عنقنا وننصت إلى أغنية لم نسمعها. ينكتم منّا الصوت. لكنّ كثيرين هم الذين ليسوا مستعدّين للمخاطرة بحيواتهم من أجل تلك اللحظة، بل ليسوا مستعدّين للمجازفة بما هو أقلُّ من ذلك: أن يتزحزحوا من أمكنتهم فقط! إنّهم خائفون، يؤْثرون المحافظة على تفاهتهم. يمكننا أن نفهمهم: الحبّ بكلّ أشكاله هو أعظمُ ما نواجه على الإطلاق، لكنّه أخطرُ ما نواجه أيضاً، والأقلّ توقّعاً، والأكثرُ امتلاءً بالجنون. ومع ذلك، فالحبّ هو الخلاص الوحيد الذي أعرفُه». (رامي الأمين)
«إيتيل عدنان.أنت الشاعرة وأنت الرسامة في الحياة وما بعدها، وأكثر من ذلك أنت ذات الحياة» (عباس بيضون)
إيتيل عدنان الفراشة التي أحبتها الحياة… وداعا:
أتّبعني، قال الملاك
ثم انزلق من على كتفيّ
وهجم الضوء
من كل صوب. (غسان زقطان)
«ضع نفسك بعيداً عن الأشياء
آه يا قلبي، أنت يا من يتيه
في أوراق الشجر»
هذه الكلمات مقطع من النشيد التاسع لأناشيد الفنانة إيتيل عدنان، التي كانت حاضرة في وجداني أمس وأنا أجوب جبل «تملبايس» في سان فرانسيسكو أنظر إلى الأشجار العالية ويهرب قلبي مني. تذكرت رسوماتها بخطوطها البسيطة وألوانها المختلفة، حاولت رؤية الجبال كما رأتها بعينيها وريشتها. نسجتُ الحكايات وبحثت عن أثر لها في المكان. ثمة ما يبقى من أثر أرواحنا في المكان سيأتي من يلتقطه! (غادة نورالدين)
القدس العربي
———————–
في حاجة الأم سوريا وهي تخسر أُمَّاً/ أدهم حنا
من الجيد أن يكون ما حصلت عليه إيتل عدنان قبل وفاتها، هو بقاء صورتها. وجهها الحكيم الذي يميل بكلِّ ما فيه إلى أن يبدو طفولياً مع الجميع، بعيداً من الاستحقاقات والجوائز التي وازت فيها كبار شعراء القرن؛ مثل وسام الفنون والآداب الفرنسيَّة. لكن مُدرَكَاً حقيقيَّاً من الممكن ملاحظته في كتابتها وإيماءاتها الشكليَّة والروحيَّة؛ أن تكون طفلةً حادةَ الضجيج على الرغم من أنَّها قد بلغت التسعين من الحكمة والفهم، وكل هذا من دون أن تفعل شيئاً سوى أن تسرد شعراً أو أن ترسم، من دون أن يصيبها عصاب الكتابة بوصفها آلة وحيدة ليتنفس الكاتب ويعبر من خلالها عما يُريد بل هي شيءٌ من الفطرة البشريَّة وجزء من الحواس، تجلَّت فيها كلغة حديثة للفن والذات الإنسانيين.
يمكن لنا في سوريا اللجوء إلى الوجوه حتى نشعر باليُتم الذي نحن فيه؛ اليُتم الذي يبدو فيه الكبار أذلَّاء ومتعبين وغير قادرين على مدِّ يد العون أو فتح طرق جيدة أمامنا. إنَّه يُتم الحماية والعاطفة، ويُتم اللغة التي تقتبس ذاتيتها التاريخيَّة من الأماكن وذكرياتها، كسر الخطابة والرَّطانة البلاغيَّة لكتابنا، وإمكانية أن نحبَّ لغتنا من دون أن نشعر بعبئها وعبء السلطة العنيفة التي تتحكم فيها؛ كلُّ هذا يستطيع السوريُّ المتابعُ المُجدُّ تعلُّمَهُ من إيتيل. وليس انطباعنا الحسيُّ هو ما يربطُنا بها، بل فلسفة التعبير التي تملكها وتقودنا نحو سلاسةِ الرُّوح فيما هي تسرد الذكرى والشعور.
وليس مردُّ التكوينِ السوريِّ لإيتيل هو هوية والدها السوريَّة فقط، بل قدرتها على تحويل المكان واللغة والمعنى حفراً في ذاتها، من دون تكلُّفِ العقد النفسيَّة للمغتربين، في كتابتها عمَّا تتذكرَّهُ وتصفه بالفقد الأبدي لكلِّ ما هو جميل؛ رسائل أهلها الغرامية، الحروب التي تقودها سلطات الإمبريالية في زمن التشكُّلات القوميَّة التي لم نشهدها نحن كحرب، بقدر ما شهدناها خطاباتٍ لغويَّة بائسة ومُفرغَة من قيمها ومضامينها.
سوريا في إيتيل هي اللغةُ وذاكرةُ أبٍ روى حكايةً لابنته وعلقت القِصَّة في ذاكرتها. كانت إيتيل وفيةً لكلِّ سردٍ قصصيٍّ نالَ من طفولتها، ولكلِّ لغةٍ لم تعاينها إلا كمخيِّلة كما قالت دائماً، وحينما غابت اللُّغة العربيَّة بعد سفرها وافتقدتها، بحثت عنها وتمَّسكت بها لأنها قد وجدتها سابقاً كما قال القديس أوغسطين وبما معناه: “ما تبحث عنه، تكون قد وجدتهُ حقَّاً في وقت سابق”، لكنَّها حينما لم تجد العربيَّة أمراً تستطيع الإلمام بالكتابة والنطق، دمجت تلك اللغة في فنِّها وراحت تجسِّدها في لوحاتٍ ذات قيمة. وكان في ذلك دفاعاً عنا نحن الذين لا نملك من اللغة سوى خطابها القديم الرثِّ، بوصفها بلاغةً وحُجَّة للإقناع وأداة لامتلاك السلطة والنفوذ، من دون أن نمتلك شيئاً ممَّا تمثِّله اللغة على اعتبار أنَّها ترسيخٌ إنسانيٌّ للحريَّة أو لحداثة من خلال استعمال أدواتها وخروجها عما يبدو مفروضاً من سلطة تسيِّس هذه اللُّغة وتحتكرها.
وكانت لإيتيل يدٌ بيضاء للتاريخِ السماعيِّ عندما نقلته إنسانيَّاً وشعريَّاً بما يملكه من تاريخٍ ممكنٍ عبر الكتابة. فإيتيل إحدى أهمِّ شخصيات المعرفة الأيديولوجيَّة المُدرِكة لقيمة الحداثة، وذكريات الحروب والوقوف ضدها، وضرب السلطات العنيفة، والإيمان بتجليات المكان الروحيَّة التي تتجسَّد ماديَّاً. من هنا كانت مع شعب سوريا دائماً، في إمكانية الحلم بامتلاك مجتمعٍ لا عنفي؛ مجتمع يكون فيه المحاربون من ذوي العاطفة الحقيقيَّة، وعلى صورةِ أبيها الذي كان محارباً وكارهاً للحرب في الوقت نفسه، وحتى دلالات آرائها لم تحمل سمة الأيديولوجيا العنيفة أو الغاضبة. أمَّا نسويتها فقد كانت ذات صيغة جماليَّة، لا تقتصر على المعنى المتجسِّد بالثورة دائماً؛ الثورة التي تحمل الكره والضغينة على الذكور، بل أرادت إيتل إعادة إنتاج المعنى عبر المخيِّلة اللُّغويَّة؛ فهي لا تصنف نفسها إلا بمقدرات اللُّغة، ونقل التصوُّرِ الروحيِّ إلى معنى لغويٍّ تحاجج به؛ فتبدو المرأة قُدساً لأنَّها حُلم، والوطن محتملاً لسرد حكاية عنه. وقد أتاح لها تعدد اللُّغات أن تكون مبدعة في استنباطها واستقرائها، وفي الاستنباط منها هي نفسها؛ هذه الصلاة المتبادلة والمتفوقة على قدرات عامَّة الناس.
إنَّ علاقتها بالماضي هي علاقة سرديَّة ترتبط فقط بما تختاره وتتذكَّره، أمَّا علاقتها بالواقع ترتبط بما يبدو عدلاً وحقيقةً؛ كموقفها الحديِّ ضدَّ حرب أميركا في فيتنام، أو تأويلها الإنساني لشخصية تشي غيفارا بعيداً من قسوة الثورات وعنف تأويلاتها. إيتيل تبدو ابنةً للهلنستية اليونانية التي رأت حروب الأرض جمعاً حضاريَّاً للذكرى والسرد والتأريخ، وهنا تكمن قيمتها الحضاريَّة التي يُعوَّلُ عليها في المستقبل؛ فهي تتعاطف مع قيمة ما تملكه الشعوب أكثر من اهتمامها بقدرة تلك الشعوب على إقامة الحروب. حاولت إيتيل توجيه أنظار النظام العالمي إلى الصورة الديكتاتوريَّة الحقيقيَّة في سوريا، لأنَّ سوريا جسَّدت عند أبيها الجمال الذي يمكن سرده وتذكُّره بكلِّ وفاءٍ لهذه الأرض.
من هنا، كان درسها الإنسانيِّ للسوريين لجعلهم أكثر تحرراً عبر لغتهم وأكثر قدرةً على السرد العفويِّ لنضالهم من أجل عالمٍ يُمكن تذكره على طريقة أفلاطون بأنَّه آتٍ من سماوات جميلة تخلقها اللُّغة من دون قيود. المثقفة السورية العظيمة والشاعرة التي لا تعرف لغتنا قد رحلت، لكن تجليَّها في كلِّ ما قدَّمته هو درسٌ سوريٌّ إنسانيٌّ في المقام الأول، وثوريٌّ نسويٌّ بلا شكٍّ.
المدن
—————————–
الرحلة الأخيرة إلى إيتيل عدنان/ خالد النجار
لم أكن أدري عندما ذهبت هذا الصيف إلى قرية ايركي البحرية في منطقة البريطاني لزيارة إيتيل عدنان وسيمون فتال أنني ذاهب لأودع إيتيل عدنان. الآن والليل يخيّم على خليج الحمّامات في مكالمة سريعة وصوت حزين أعلمني صديقي نجوان درويش أن إيتيل غادرت قبل ساعات.
فجأة انضغط الزمن رأيتني أنا و”حياة” قبل أربعين سنة مع إيتيل وسيمون فتال، في ذلك الربيع البعيد جاءت تونس للمشاركة في البينالي العربي الأول. أرى خيال صورتها منعكساً في زجاج قهوة الانترناسيونال جنب صديقتها سيمون فتال الرفيعة الطويلة بسحنتها الفينيقية الإغريقية؛ تتحرّك مع إيتيل مثل ملاك لامرئي. نمضي للشارع ونعود غاطسين في عرق حرارة حزيران/ يونيو تونس. إيتيل مأخوذة بمشاهد المدينة تقول أشياء مقتضبة عن تونس التي زارتها قبلها بسنوات ورأت بورقيبة الرجل القصير يتحرك بعصبية مثل ممثل هزلي وهو يغادر الإذاعة. رأت تونس العربية المشرقية المتوسطية الكوسموبوليتية ذات الملمح الإيطالي والتي كما تقول عنها إيتيل كانت لها منذ قرطاج حوارات مع العالم.
كانت في الزيارة الأولى قد أرسلتها إحدى المجلات الفرنسية لكتابة تحقيق عن النسيج والفخار التقليدي. جاءت هذه المرة بكتابها الحروفي ذي الشكل الأكورديوني للمشاركة في البينالي العربي الأول. قالت في حوار مقتضب إن فعل الخلق فعل شعري وإن العالم قصيدة طويلة وما نكتب هو نتف من هذه القصيدة. تركت كتابها “خمس حواس لموت واحد”، الذي نقله يوسف الخال إلى العربية، وقرأت عن جبل تاملباس الذي أحبّته… ثم رأيتني في بيروت في مقهى الاكسبريس جالساً معها على الرصيف، ثم في باريس في شقتها بشارع جاكوب حين استضافتني ومنحتني ركناً في الشقة وطاولة للكتابة كتبت عليها أجزاء من تحقيق عن زيارات الصهاينة الأولى للقاهرة، ثم غادرت فجأة.
وتواصلت لقاءاتنا وحواراتنا. كانت إيتيل مزيجا من طفلة ورسولة، تسكعنا في باريس وبيروت وتونس ورأيتها ترسم بتلك السرعة الفائقة كما يفعل جماعة نيويورك في تعبيرهم التلقائي والآتي من الأعماق التي كثيراً ما يتجنبها الناس. هي ترسم كما تكتب وتتحدث بشكل غريزي متبعة حدسها.
رافقتها في لقاءات باريس في “ربيع الشعراء”، الذي ينتظم كل ربيع قرب شقتها في شارع مادام. وفي لوديف، وفي مؤتمر الكتاب في الدائرة الخامسة بباريس، نقلتُ ونشرت كراريسها الشعرية عن دار التوباد، أحببت كتبها “نساء ومدن” و”الست ماري روز” روايتها المفردة و”باريس حين تتعرى”…
تراني أفكر فيها كلما مررت في ساحة سان سولبيس ورأيت الحمامات الزجاجية تطير فوق النافورة. أرى إيتيل جالسة على رصيف المقهى المواجه للكاتدرائية المهيبة حتى وإن كانت غائبة. أحببت رسومها ولوحاتها الزيتية وألوانها السعيدة وصورها الشعرية الغنائية السريالية، أحببت رؤاها الفلسفية الغريزية هي أيضا، فإيتيل لا تتعاطى التجريد، كل ما يصدر عنها ممتزج بحياتها… كانت إيتيل منحازة باستمرار للإنسان المقهور، كتبت عن الجزائر الثورة، وعن العراق الذي حوله الأميركان إلى فرن احترق فيه شعبه وعن الهندي الأحمر الذي سقى بدمه وهاد كاليفورنيا، الهندي الذي يبعث اليوم من رماد قوة أخلاقية روحية لا مرئية تعذب جلاديه.. وعن فلسطين بالطبع.
عندما انتهت المكالمة الحزينة مع نجوان استعدت صورة إيتيل وهي شابة في الأربعينيات في مقهى الانترناسيونال. تقول لي وضعت “كتاب البحر” و”كتاب الموت” ويليه “كتاب النهاية”، لأن الموت ليس النهاية… أجل الموت ليس النهاية.
إيتيل الشاعرة والرسامة والروائية وكاتبة السيرة وأستاذة فلسفة الفن في جامعة بركلي وكاتبة التأملات والمقالات الفكرية والصحافية، منذ ركنها القديم في صحيفة لوريون دي جور باللغة الفرنسية. إيتيل المفردة في ميدانها، خاضت تجربة الموت بيد أنها بالتأكيد لم تنته.
إيتيل؛ أي ريح خريفية ولدتها؟
كتبت يوماً عن جذورها تقول:
“عشت مع شخصين الواحد منهما غريب عن الآخر. تربيتي في المدرسة كانت تعتمد على الكتب بدون أن تكون لها أي علاقة بلبنان حيث كنت أعيش، كنا ثلاثة أشخاص من ثلاثة عوالم مختلفة. وهذا ليس بالشيء التراجيدي بيد أنه مهم ما دامت المعضلة لا تقتلك فهي ترتفع بك، تساعدك… التاريخ هو الذي يكتب كتبي. أتمنى أن أتحدث عن شيء آخر ولكن ذلك مستحيل، غيرينيكا لوحة بيكاسو لدي هي القيامة العربية والرسم لدي يعكس الجانب العالمي.
أحب الموسيقى كغوص فيها، لقد ساعدتني عندما كنت أدرّس تاريخ الفن، ثمّة معنى خفي في الفن التجريدي كما في الموسيقى. لا يتطلب الإيضاح والشرح، كتابة الموسيقى كما في الرسم وفي الكتابة هو أن تقبض على الإيقاع كما تفعل العصافير التي تنتظر التيار الهوائي الذي إذا ما وجدته سافرت”.
إيتيل، أجل، الموت ليس هو النهاية.
* شاعر ومترجم من تونس
العربي الجديد
————————–
أنتِ اليوم نور/ سارة ريغس
ترجمة عن الإنكليزية: صفاء فتحي
عزيزتي إيتيل،
اذهبي أيتها الروح الحبيبة متّشحةً بنعمكِ كاملةٍ،
بكاملِ ألوانِك، بكامل حبّك الشرس. رؤيتك
فسيحة مثل جبال تملباييس، شاسعةٌ روحك
كعرّافة في دلفي،
صوتُك في منحنى الأزرق كمثل ماء
بيروت. نحن معك في هذه الأماكن،
مثلما نكون معك بين صفحات كتبك الجزلة التي لا تعد ولا تحصى،
ما زالت لوحاتك بادية الفرح حتى الآن في غوغنهايم،
بالأمس كنت في السادسة والتسعين، وأنتِ اليوم نور،
أنتِ نور، أنتِ نور.
* شاعرة ومترجمة أميركية، فازت ترجمتُها لكتاب إيتيل عدنان “زمَن” بـ”جائزة غريفن للشعر” الكندية العام الماضي. صدر العملُ عن “دار نايت بوت” في نيويورك، وهو مكوَّن من أربع كرّاسات شعرية كانت قد صدرت في طبعتها الأصلية عن “دار التوباد” في تونس.
————————–
إيتيل عدنان.. بعيداً من الجزيرة المعزولة/ شوقي بن حسن
أقرأُ أنّ “جمعية دراسات الأدب المتعدّد الإثنيات” (أميركا) قد صنّفتها، في 2003، كـ”أهم وأشهر كاتبة عربية-أميركية”، ثم أنظرُ حولي، في ثقافتنا العربية، وهي التي تنحدر منها، فلا أجد سوى القليل من حضور إيتيل عدنان بيننا.
تملأ معارضُها الاستعادية العالم، لكنها نادرة في مُدن الغاليرهات العربية، من بيروت – مسقط رأسها – إلى طنجة. وينشغل بمنجزها نقّاد الفن ويحاور تجربتها تشكيليون من القارات الخمس، وقلما نعثر بينهم على فنانين يشتركون معها في الثقافة الأم. كما لم تتحوّل تجربتها الأدبية إلى رافد يغذّي بمعجمه وأبنيته وأمزجته الخيالَ العربي. وقل الأمر ذاته، أو أكثر، عن كتاباتها النقدية.
لم يصل إلى اللسان العربي سوى جزء يسير، بفضل خالد النجار وسركون بولس أساساً، من بين عشرات العناوين بالفرنسية والإنكليزية، وجسور الترجمة الممدودة بين هاتين اللغتين، وفي قائمة العناوين هذه يوجد الشعرُ والسرد والدراسات.
ربما تطمئننا، نحن عرب القرن الحادي والعشرين، بعض الترجمات إلى أن مبدعاً ما بات حاضراً بيننا، لكن الحضور لا يمكن أن يقتصر على جسر واحد، هو الترجمة، لأن الثقافة لا تُختزل في الكتابة فحسب، ثم إن المؤلفات ليست سوى بُعد وحيد من تجربة عدنان. فقد كانت الشاعرة اللبنانية (السورية الأصل والأميركية الجنسية والفرنسية الإقامة) نقطة لقاء بين الفنون والألسن والحقول المعرفية، وكانت تجربة ممتدّة في الزمن عرفت كيف تجدّد خلاياها وفي نفس الوقت تحافظ على خيط ناظم.
ربما وحدها كُتب السيرة العميقة يُمكنها أن تنقل هذا التعدّد في إطار واحد. فهل يوجد في ثقافتنا من نهض بهكذا مشاريع؟ وقبل ذلك هل وُجدت عندنا، أصلاً، تقاليد كتابة سيرة الفنانين والشعراء والروائيين؟ غالباً سننتظر أن تُكتب سيرة من هذا النوع بالفرنسية أو الإنكليزية ثمّ نترجمها. وإن رحيل المبدعين من أصول عربية كثيراً ما يضاعف شهرتهم، وبالتالي يخلق استعداداً أكبر للاشتغال عليهم، لسبب بسيط هو أن منظومة الصناعة الثقافية، من الباحثين إلى الناشرين، تكتشف حجم الشخصية الراحلة في مثل هكذا مناسبات. وعادة ما يحدث ذلك من خلال اعتراف الثقافات الأخرى وليس بشكل مباشر يعبّر عن حاجة ثقافتنا لاستقبال شخصية إبداعية ما.
أن تحضر إيتيل عدنان في الثقافة العربية يعني أن نجد مكتبة من الدراسات الفنية والأدبية حولها. أو على الأقل أن نجد لها أثراً في الإحالات البحثية بالعودة إلى كتاباتها أو إلى أعمالها الفنية. وكل ذلك مفقود أو يكاد. ها أنا، بمناسبة كتابة هذه المقالة، أُراجع فهرس الأعلام الوارد في “معجم مصطحات الفنون البصرية” الصادر حديثاً في تونس (سامي بن عامر، حزيران 2021) فأجد عشرات الفنانين الغربيين والعرب، ولا أجد اسم إيتيل عدنان. كنتُ أنتظر مثل هذا الغياب، لأنه ماثل حيثما ولّينا وجوهنا. أحياناً تكاد تخفي هذه الحقيقة استعمالات صحافتنا الثقافية للوحاتها، ما جعل عوالمها البصرية مألوفة إلى حدّ.
لكننا بشكل عام نقف، مرّات أخرى، أمام ما تجنيه الثقافة العربية على نفسها وهي تُضيع فرصاً كثيرة للانتماء الفاعل إلى العالم. أما أنا فأتأكّد من مقولة “هدر الإمكانية” التي أطلقها عالم الديمغرافيا المصري نادر فرجاني في سياقات بعيدة.
ألّا تحضُرَ إيتيل عدنان بقوة في ثقافتنا يعني ألا نعطي أنفسنا فرصة لمعرفة كيف يمكن اجتراح اعتراف عالمي بأدوات الفن والكتابة وليس عبر التسويق. تتيح لنا تجربتها أن نفهم كيف يمكن لمن يأتي من الشرق أن تبزع شمسه في سماء عواصم المركز الغربي الملبّدة بالغيوم. مثلُ إيتيل عدنان هي أشبه بصلة رحم مع راهن الفن، مع العروق الحية للثقافة العالمية. ألسنا بهذا المعنى قاطعي أرحام؟
نفعل ذلك بكثير استهتار، وكأن الموقع الذي حازته عدنان في الثقافة العالمية سهل المنال. يحتاج أخذ هذا الموقع إلى عقد من الزمن، على الأقل، من تطوير الموهبة والاجتهاد وحسن إدارة المسارين الفنّي والأكاديمي. ونحتاج نحن إلى تطوير أجهزتنا الثقافية كي نستفيد من مثل هذه المغامرات الفردية، في الفن والفكر والأدب والعلوم. تلك هي الجسور التي يجدر بنا الاعتناء بها كي لا نكون جزيرة معزولة في هذا الكوكب.
العربي الجديد
—————————-
شرق إيتيل عدنان/ نجوان درويش
طالما اعتبرت إيتيل عدنان نفسها شاعرة عربية رغم كتابتها بالفرنسية والإنكليزية، ليس لأنّ في تجربتها امتدادًا لتقاليد الشعر العربي، فهي تبدو منقطعة الصلة بها إلى حد بعيد؛ وإنما لانتمائها إلى مشروع سياسي تحرّري عمره من عمرها تقريباً.
هي شاعرة عربية بالمعنى السياسيّ الجذريّ للكلمة: الاكتراث بالإنسان والأرض ومقاومة الظلم والمنظومات الاستعمارية. ولهذا حظيت باحترام النخبة التحرّرية في العالم العربي رغم خياراتها الفنية التي تبدو صعبة ومتطرفة في مرآة الثقافة العربية. وبالتالي لم تجعلها جميع اغتراباتها اللغوية والمكانية شاعرةً غريبةً بالمعنى السلبي للكلمة، ولم تكن بالتالي مُستغربة ولا مُستشرقة في ثقافتها الأم.
لا أحد مثلها يَختصر هُويات الشرق العربي؛ والدها سوري دمشقي عثماني الثقافة، والدتها يونانية إزميرية، مسقط رأسها بيروت، مسلمة ومسيحية وعلمانية، شرقيةٌ تعتز بجميع مكوّناتها وغربيةٌ بلا عُقد وأمراض.
عاصرت وصادقت أجيالاً من الكتّاب والفنانين العرب، وفي هُويتها الشخصية التقتْ هُوياتُ المنطقة ضمن رؤية حضارية متصلة بخيوط خفيّة مع العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. إنسانة استثنائية وفنانة وشاعرة بالغة الخصوصية، عملها الجدليّ المخالف للإجماع باتَ يَحصد إجماعات عديدة.
تجربة تبقى مفتوحة وقوسُها لا يُغلق برحيل صاحبتها. شموس إيتيل الصغيرة ستعيش طويلاً، وستظلّ تضيء.
العربي الجديد
———————————
فرح إيتيل عدنان/ روجيه عوطة
كان يكفي لإيتيل عدنان أن ترسم خطّين، تجمعهما ثم تفرقهما عند شكل هندسي ما، من قبيل المربع أو الدائرة، ثم تلوّن بينهما، حتى تصنع، وبرسمها، أثراً، تتركه في متلقيها: الفرح. فأي فرح كان ذلك الذي عقدت عدنان على خطه في لوحتها؟ بالطبع، هنا، اضع قصيدتها جانباً، ليس لأنها كانت رسامة تكتب، بل لأنها كانت، وعلى الاغلب، شاعرة ترسم. ولهذا السبب بالتحديد، يبدو الرسم في تجربتها أنه كان يبدأ حين يتوقف الشعر، اي أنه يحضر بعده، لا لكي يلغيه، إنما لكي يحمل القدرة الإبداعية فيه إلى درجة أخرى، حيث تبرز على منوال مختلف. لا قطع بين شِعر عدنان ورسمها. تراجيدية الأول لا تعني إلا فرحاً فيه، وعلى العكس، فالثاني يبدي أنه كان داخله. الرسم يبين ما في الشعر، اي ما يحتاج الى تشكيل بالخطوط لكي يحدث، وهذا، بعد كمونه بين الشطور.
من الشطور إلى الخطوط، كانت عدنان تبرع في إحداث ذلك الكامن، فكل ما تستند اليه كان مخيلتها التي تتسم بكونها طفولية، بمعنى طلقة، وبمعنى انها، وفي سهولتها، تبدو شديدة للغاية. فقد كانت ثمة شدة في رسم عدنان، وهي شدة تنم عن تلاقي الأشكال والخطوط، ومعها الألوان. ولهذا، هي أيضا شدة-حد، مثلما انها شدة-لحظة: حد بين خط أفقي يقطع الخط الدائري في لوحة بعنوان “وزن القمر”، ولحظة تلاقي الارجواني بالبرتقالي في اللوحة نفسها. كانت عدنان تتيح لهذه الشدة ان تبدو في رسمها بلا أن يصير وقعها عليه كاملاً، فتسرع خطوطه وأشكاله، أو تقلبها إلى نقاط. في الوقت نفسه، لم تكن هذه الشدة مقيدة في رسمها، فلم ترسم عدنان كأنها تكتب محضر ضبط بحقها. شدة عدنان هي شدة تلاقٍ، سرعان ما تأخذ شكلاً وخطاً يجعلها متواصلة بلا أن تفجر اللوحة. في “وزن القمر”، الشدة موجودة، مستمرة، لكنها لا تجر المرسوم إلى كسوفه، ولا تتركه من دونها، إنما تبدو انها تتعلق معه على ظهور لا يمكن حسم كونه يميل إلى المغيب أو لا.
يمكن القول ان الفرح الذي تصنعه برسمها على صلة بتلك الشدة بما هي على حضور في اللوحة بلا أن تطيح مرسومها. فرح عدنان هو، بدايةً، أن ينطوي المرسوم على شدة تبرز عند حدوده وبعض لحظاته، وعندها، تكفل صفته الأساس، اي أنه فتحة.
ماذا يعني أن يكون المرسوم فتحة؟ بدايةً، هو فتحة على عالم غير مرئي، غير مبني، غير مشكل حتى، إنما كل المرسوم يشير، بخطوطه وأشكاله، إلى كونه هنا. عندما ترسم عدنان البراح، أي هذا الحيز الخالي في خضرة ما، تفعل ذلك كأنها تعينه بين الشجر والماء والشمس، في محل بين هذه العناصر كلها، التي تصير حوله، لكن من دون أن يكون مجسداً في لون أو خط أو شكل. البراح في ذاته غير ظاهر في لوحته، إنما هو فعلياً يسكن المرسوم، ويجعله مفتوحاً عليه. عدنان كانت تضع هذا البراح، بما هو باب أو فتحة، في كل مرسوم، ولهذا كان الفرح يصدر عنه، بما هو شعور بخلاف الضيق أو خلاف الإقامة في المقفل.
غير أن الفرح لا ينتجه وجود المفتوح في كل مرسوم، أو بالأحرى وضع هذا المرسوم على سبيل إنتاجه المفتوح. البراح اياه، الذي رسمته عدنان، يدعو إلى عمل محدد حياله، وهو التحرك صوبه. انه هنا في المرسوم، لكن بلا أن يظهر، ولهذا، يحث على اكتشافه، على الانتقال اليه. فالفرح ليس شعوراً فقط، إنما هو، وقبل ذلك، مذهب، مذهب في البراح، في المفتوح، والشعور يأتي لاحقاً.
حين رسمت إيتيل عدنان، الرحيل، فعلت ذلك بطريقة مفارقة. فنتيجة التشكيل اللوني والخطي الذي اعتمدته، جعلت المرسوم كأنه محطم في إثر حادث ما، وحطامه هذا يغلق السبيل نحو مفتوحه. من ناحية، كانت عدنان تقول أنه، في هذا الرسم، لا وجود لمفتوح، فالسواد الذي تخلله يجعل من احتمال انغلاقه احتمالاً وارداً. لكن، من ناحية اخرى، فالمرسوم يتوسط أفقاً واسعاً، وهذا الافق يبدأ عند اللون الأصفر الذهبي، الذي يفلت من المرسوم-المحطم، قبل أن يلتقي باللون الأبيض. عندها، يصير المرسوم في الأفق من دون أن يعترضه، أو يقفله، أو يمحوه. على هذا النحو، يكون الرحيل، بحسب إيتيل عدنان، هو مرسوم مغلق، أو محطم، في أفق مفتوح، ونتيجة ذلك، هو يحيل، ومن انغلاقه، وحطامه، الى الفتحة، إلى البراح، إلى الذهاب فيه، وإلى الفرح. ولهذا، قد يكون من الصعب تصور إيتيل عدنان حزينة في رحيلها.
المدن
—————————————-
رحيل إيتيل عدنان.. طفلة اللون تُغادر شموسها
عن ستة وتسعين عاماً، رحلت في باريس، الليلة الفاصلة بين أمس السبت واليوم الأحد، الفنانة التشكيلية والشاعرة اللبنانية السورية إيتيل عدنان.
وُلدت عدنان في بيروت عام 1925 لأب سوري مسلم من دمشق كان ضابطاً عثمانياً في حامية بيروت، ولأم يونانية مسيحية من مواليد إزمير، واصطبغت حياتها بهويات المشرق العربي المتعددة وحسنة التجاور.
نشأت الشاعرة ودرست في بيروت بمدارس الإرساليات الفرنسية، وفيها بدأت حياتها الأدبية وأصدرت مجموعتها الشعرية الأولى، وفيها تعرّفت بالوسط الثقافي اللبناني وبالشاعر جورج شحادة (1905 – 1989). كتبت إيتيل عدنان معظم أعمالها بالفرنسية في الجزء الأول من حياتها، والإنكليزية في ما بعد، كموقف سياسي من المكوّن الاستعماري في الثقافة الفرنسية، وطالما اعتبرت نفسها “شاعرة عربية تكتب بالإنكليزية والفرنسية”، وإن لم تتعلّم العربية لتستطيع الكتابة بها، وكانت تتحدث إلى جانبها التركية واليونانية، وتعتز بهذه المكوِّنات الثلاثة في هويتها.
غادرت عدنان مسقط رأسها في الرابعة والعشرين من عمرها، حين ذهبت لدراسة الفلسفة في جامعة السوربون بباريس، وقد دفعتها ميولها الإبداعية إلى التخصّص في فلسفة الفن، ومن ثمّ قررت مواصلة رحلة تحصيل المعرفة في الجامعات الأميركية، لتدرّس الفلسفة لاحقاً في جامعة بيركلي.
وفي أميركا، التي اكتسبت جنسيتها، نشرت الكثير من أعمالها وقضت الشطر الأكبر من حياتها في ولاية كاليفورنيا، كما لم تنقطع عن زيارة بيروت، إلى أن اضطرت للزوم باريس في السنوات الأخيرة بعد أن أصبح السَّفر شاقاً عليها.
في عالمها التشكيلي، تبدو إيتيل عدنان، بألوانها وتركيباتها ومفرداتها البصرية أقرب إلى طفلة رائية تلعب بالألوان. ولكن تميّز أعمالها بالتنوّع والعمق يؤكّد أنها أسندت تجربتها الفنية بمعرفة نظرية ثرية.
أما تجربتها الشعرية فوصلت العربية من خلال ترجمات أنجزها الشاعر العراقي سركون بولص عن الإنكليزية (“هناك – في ضياء وظلمة النفس والآخر”، منشورات الجمل، 2000)، والشاعر التونسي خالد النجار عن الفرنسية (ستّ مجموعات شعرية صدرت في كتب مزدوجة اللغة عن “دار التوباد” في تونس، من بينها “يوم في نيويورك”، 2006، و”هذه السماء الغائبة”، 2008)، إلى جانب ترجمات أخرى سبقت وتلت هذه الترجمات.
وفي النثر ترجم لها جيروم شاهين رواية “الست ماري روز” (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1979)، وترجمت مي مظفر كتابها السردي الممتلئ بالشعرية “باريس عندما تتعرّى” (دار الساقي، 2007).
امتاز شعر إيتيل عدنان بحساسية لقضايا التحرر، وللسكّان الأصليين للولايات المتحدة، ولرفض الهيمنة الاستعمارية في بلدان كفلسطين والعراق حيث “أوروبا مغطاة بالبترول المحترق”. تكتب في قصيدة مؤرخة بـ 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2013: “انظروا عبر التلفزيون إلى إخوانكم يموتون/ لا تحرّكوا ساكناً/هم الآن في عالم آخر جديد/ بلا منفذ”.
في السنوات الأخيرة، حظيت عدنان بالكثير من التكريمات، خصوصاً في المجال الفني حيث نُظّمت الكثير من المعارض الاستعادية التي تحاول أن تلامس مجمل تجربتها الإبداعية عبر محامل اللوحة والكرّاسة الورقية أو عبر تقديم مخطوطاتها ليس باعتبار هذه الأخيرة كتابات شعرية أو سيرذاتية فحسب، بل أيضاً كأعمال فنية مكتفية بروعتها البصرية. ومن آخر وأبرز الاحتفاءات المعرض الاستعادي الذي افتتح في “متحف غوغينهايم” بنيويورك، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي تحت عنوان “مقياسٌ جديد للضوء”، ويستمر حتى العاشر من كانون الثاني/ يناير من العام المقبل.
وهاهي ترحل في وقت يقام، منذ السادس من الشهر الجاري، في مدينة ماتز (شمال شرق فرنسا) معرض جماعي بعنوان “أن تكتب يعني أن ترسم” تقوم فكرته على حوار عدة مبدعين مع مخطوطات إيتيل عدنان وتَمثُّلهم لهذه القدرة في تحويل المخطوط إلى عمل تشكيلي مستقل بذاته.
حول هذا المعرض، خصّصت صحيفة “لومند” الفرنسية أوّل أمس – أي في اليوم ما قبل الأخير من حياة الفنانة اللبنانية – قراءة موسّعة فيه كتبتها الناقدة إيمانويل لوكو، ومن ضمن ما قالت: “تبلغ إيتيل عدنان ستة وتسعين عاماً، ولكن تبدو وكأنها عاشت ألف عام”.
————————–
إيتل عدنان: أنا عابرة سبيل بهويات عديدة
أحلام الظاهر
باريس- هل يستطيع أي شخصٍ أن يُحافظ على عافيته في باريس؟ البارحة أيضاً نمتُ على فصل «المرآة النجمية أو القمرية» من كتاب المعادن الذي ألّفه أحدُ علماء القرن السابع عشر ويدعى برنار تشيسي. يُقال إن ازدهار فن السيرة الذاتية إنما يرجع إلى ذلك الوقت الذي توصّل فيه الإنسان إلى صنع مرايا جيّدة. باريس مغمورة بالضباب هذا الصباح وملصقات دافيد بوي تملأ أركان المترو. يقودني بحثي المحموم عن الأوهام التي تُستثار من خلال كوكب سماوي لامع أو سطح صقيل أو ماء صافٍ إلى شاشة كبيرة في مركز بومبيدو تعرض فيديو لجون بالدساري، وهو يحاول أن يعلّم الأبجدية لنبتة منزلية، أو يُحدِث خطّا مستقيما في السماء من خلال رمي ثلاث كرات في الوقت نفسه. ما يُعيد إلى الذهن السطر الاستهلالي من مسرحية بيكيت: «لا شيء نفعله»، الكلمات يتفوه بها استراغون بسأمٍ تام ونعاس لا سبيل إلى التخفيف منه. أعدِل عن فكرة أخذ نبتة معي إلى إيتل عدنان، وهي التي تسكن قرب حديقة لوكسمبورغ وترى نبات اللبلاب المنسدل على البيوت والجسور مثل شَعرٍ غير مُمَشّط. بنايات الدائرة السادسة ترسم مشهد الحب الذي جمع ميشال مورغان مع جان غابان في فيلم «ميناء الضباب»، حُجرة المعيشة المذهّبة والشرفة نصف الدائرية، وحزم الدخان ذات الرائحة الذكية التي تتصاعد من المدخنة – ومن ثم تفرّقها الرياح – وأسقف الآجر القرمزية المتشابكة. أسيرُ كالمسرنمة ناظرة إلى قباب النوافذ وأصطدم بشخص يتحسّس أجزاء من جسمه بحثاً عن علبة سجائر. إيتل عدنان تتحولُ تدريجياً إلى أحد تلك الرموز التي تسكن المناطق السفليّة من الذاكرة الجماعيّة، عرفت كيف تتنفس بعيداً عن مصيدة الآخرين، ولذلك يبدو لي كل ما يحيط بها مُلبّداً بشعور باللاّواقعية، حتى فتحت الباب وخطفت من يدي علبة الشوكولا بمرحٍ، قائلة إنني أبدو مثل امرأة في منمنمة فارسية. تجاوزنا مائدة هائلة من خشب ذات سطح بلون الرمل الباهت الذي نراه على الشواطئ. كانت أبواب الغرف مشرعة، وعلى المدفأة مغلفات رسائل كُتبت بخط متعرج أنيق: «إلى إيتل عدنان وسيمون فتّال». أُخرج من حقيبتي دفتراً – من يوغسلافيا السابقة – كنت قد احتفظتُ به للمناسبات الاستثنائية وأسالها:
هل تفضّلين الحديث بالعربية أم بالفرنسية؟
– بالفرنسية للأسف! كانت أمي يونانية، ولم نتحدث العربية في البيت، المدارس الفرنسية كانت قد أعلنت الحرب على العربية آنذاك. لست ضد الفرنكفونية، فالفرنسية لغة عالمية لها خصوصيتها لكن ليس على حساب اللغة العربية.
■ وُلدت إيتل عدنان عام 1925 لأب سوري كان ضابطاً في الجيش العثماني والتقى والدتها اليونانية إبان الحرب العالمية الأولى. كانت تنقل حروفاً تركية وعربية على دفترها من دون أن تفهمها. تجربة ستترجمها في ما بعد وهي تكتبُ بخط اليد قصائد لأنسي الحاج وبدر شاكر السياب وعيسى مخلوف وآخرين على دفاتر من ورق الأرز المطوية على شكل أكورديون (ليبوريلو) لكنها ترتجلُ لمساتها اللونية من بيروت التي شهِدت ولادتها الأدبية الأولى قبل أن تُكرَّس في الولايات المتحدة بين كبار الكتاب الأميركيين.
– لديّ ذكريات متوهجة حادة عن بيروت، كنّا نرى البحر من كل الجهات، إنها مدينة متوسطية بسطوح من القرميد الأحمر وبيوتٍ ذات طابع عمراني إيطالي. السيارات وقتها كانت نادرة والشوارع تعبقُ برائحة الياسمين والبرتقال. كنت من الفتيات الأُوَل اللواتي ذهبن للسباحة، إنه امتياز في الثلاثينات.
■ تُسائل هيلين سيكسو في «بصمات الجذور» ممّ ينطلق المرء في الكتابة، عندما يكون صغيراً، عندما يبدأ؟ أولاً: من حقيقة أنه رُمي إلى اللغة وأنه يعرف كيف يسبح فيها. إيتل عدنان بدأت رحلتها بقصيدة طويلة عن البحر. بدايةٌ فتحت حواسها على التأمل المبكّر، ومزجت كتاباتها التالية مع خلاصاتٍ فلسفية وصوفية متحصلة من حياةٍ موزعة في أمكنة ولغاتٍ مختلفة بين بيروت وباريس وكاليفورنيا، لكن شعرها ارتبط بحروب وثورات كثيرة: فلسطين ولبنان والعراق، حرب الفيتنام التي كتبت ضدّها قصيدة شهرتها في الولايات المتحدة، وحرب التحرير الجزائريّة التي جعلتها تنقطع عن الكتابة بالفرنسيّة لأنها فطنت إلى المضامين السياسية للكتابة باللغة الفرنسية: ماذا فعلتِ حيال الحروب وكيف عشتها؟ هل تغيرت مقاربة الكتاب المعاصرين للحرب؟
– تغنّى القدماء بالحرب لأنها كانت مرادفاً للبطولة، أما اليوم، فأغلبية الكُتّاب ضد الحرب، لأنها لم تعد حرب رجلٍ ضد رجل، بل حربُ أسلحةٍ في مواجهة أسلحة أخرى لا توجدُ أيّ بطولة في الموت بقذيفة أو صاروخ باليستي. حتى في الحرب، قديماً كان هناك جانب إنساني، لأنك تجدُ نفسكَ وجهاً لوجه مع خصمك، تنظرُ مباشرة إلى عينيه. اليوم العدو غير مرئيّ والأمجادُ واهية، لا يزال هناك جنود يثبتون شجاعتهم أحياناً، لكن الرابح ليس الأذكى بل من يمتلك الآلات الأكثر تطوّراً. كتبنا عن الحرب لأننا كن نتوق إلى إعادة إعمار بلداننا، وكل ما نفعله أننا نخرّبها. ليس هذا خطأ البلدان العربية وحدها، إنه الوضع العالمي، البلدان المسيطرة بحاجة إلى المال، وسوق الأسلحة عليه أن يزدهر، نحن في قلب هذه المعضلة.
■ إلى أي حد يمكن للكتابة عن الحرب أن تستقطب الاهتمام أو القبول؟ عادة ما يُنتقَص منها وتُوصف بالإيديولوجية، قصيدة «كرة قدم أميركية» لهارولد بنتر على سبيل المثال رفضت الغارديان نشرها لأنه كتبها عن حرب العراق. هل يُعد هذا الموضوع للأكاديميات، لدراسة المجتمعات لا للفن؟
– ليس لدي إيديولوجيات، أنا مع القوى الإيجابية، أرى أننا نملك تراثاً حضارياً وأدبياً مُبهراً: الفلسفة العمارة الصوفية، هذا يمس كل المجالات، لكننا لا نتقدم بسبب فداحة عيوبنا أولاً ثم بسبب السياسية العالمية العدائية.
■ متى بدأت الكتابة بالفرنسية ولماذا؟ ما الذي يتغير حين نغير اللغة؟
– لقد بدأتُ الكتابة بالفرنسية قبل الانكليزية لأنني تعلمتُ الفرنسية في بيروت، وكان الانتقال من الفرنسية إلى الانكليزية حين سافرت إلى أميركا سنة 1955 رحلة صعبة. قبل ذلك لم أكتب شيئاً يُذكَر، عدا «كتاب البحر» الذي ترجمه عابد عازرية. اللغة لها تأثير كبير، لأن لها عالمها وصورها الخاصة، كلمة «بحر» مثلا في العربية مذكر وترمز إلى شاب فتي يتحدى العاصفة. في الفرنسية كلمة «بحر» مؤنثة وتجر معها صوراً أمومية ليّنة، أما في الانكليزية فهي محايدة تماماً. أنا أعطيكِ مثالا.. ما نقوله بسهولة في لغة ما يتعذر قوله في لغة أخرى، فضلا عن أن لكل لغة موسيقاها الخاصة لذلك لا نجد شكسبير فرنسيا، الفرنسية لغة مسطحة نوعاً ما، هادئة. أما الانكليزية فتشعرين أن الريح تخترقها، حاولي نطق كلمة «wind». في المجال العلمي نقول الشيء نفسه تقريباً بكل اللغات أما في الشعر فيختلف الأمر كثيراً لأنه مرتبط باللاّوعي، بالرغبات والجموح. إذن اللغة نفسها تأتي بعالم كامل معها. لا أعرف ما الذي كنت أستطيع كتابته لو تعلمتُ العربية، إنها جنتي الضائعة، المغلقة إلى الأبد. ولأنني عشت في أميركا، كان عليّ أن أكسب عيشي، انشغلت بتدريس الانكليزية والفلسفة وبالكتابة. لكنني أؤمن أنه لا توجد لغة أم، اللغة أداة نتشبث بها، أحب الإنكليزية لأنها لغة سريعة، ما نقوله في جملة طويلة لا يتطلب أكثر من كلمتين بالانكليزية، العربية أيضا سريعة وحيوية ونبرتها لمن يتذوقها، غاية في الجمال.
■ عند عودتها إلى باريس عام 1979، قررت الفنانة الأدائية صوفي كال أن تلاحق بكاميرتها كل يوم شخصاً مجهولاً مثل مخبر سري وتكتب عنه. وطلبت من 28 شخصاً النوم في سريرها، والتقطت صوراً لكل منهم بعد أن يغط في نوم عميق، كما سعت للعمل خادمة في فندق، لتدخل غرف النزلاء وتصوّر ما يتركونه من أغراض حميمة. أتمنى أنك لم تحتاجي إلى مثل هذه الحلول المتطرفة عند وصولكِ إلى باريس؟
– كنت قد زرتُ فرنسا عدة مرات من قبل، حصلتُ على منحة دراسية سنة 1949، كانت الدولة الفرنسية تقدمها كل عام للطلبة اللبنانيين. وصلت إلى باريس واصطدمت بعالم جديد. عشت في السكن الجامعي الأميركي، كانوا يحاولون دمج الجنسيات مع بعضها بعضا كي لا تتحول تلك المساكن إلى غيتو، ولم يكن للبنانيين جناح خاص بهم. في تلك الأثناء كان كل شيء يدهشني. لم أكن قد رأيت المترو من قبل، الباصات.. هناك ترامواي فقط في لبنان. لذلك لم أدرس كثيراً، شغلت باريس كل وقتي. تعلمتُ من المشي أكثر مما تتعلمت من الدروس، لكنني حاولت أن أواظب، في ذلك الوقت في السوربون حظينا بدكاترة خارقين مثل غاستون باشلار وإيتيان سوريو، وخيّم على الناس شعور بانتهاء الحرب. أوّل علاقة لي بالحرب كانت في فترة ما بعد الحرب تلك في باريس، وصلت في نوفمبر 1949 وكان الناس يتحدثون حول الحرب بلا توقّف، لم تكن باريس قد دُمّرت لكن النفوس بقيت مهزوزة. العديد من أصدقائي فقدوا أباً أو قريباً.
■ التقيتِ أوائل الطلاب الأميركيين في فرنسا، وقرّرت أن تعبري معهم الأطلسي؟
– بعد دراسة الفلسفة في السوربون، التحقتُ بجامعة بيركلي عام 1955 وبعدها جامعة هارفارد. كانت أميركا مفاجأة أخرى، بلدٌ واسع وبلا حدود. كان عليّ أن أعتاد قرب الناس، أجسادهم وحضورهم الفيزيائي، عرفت مثلاً الأهمية المطلقة التي تحظى بها كرة القدم في الجامعات الأميركية، فيما الطلاب الفرنسيون لا يتحدثون عن الرياضة أبداً ولا يعيرونها أي اهتمام. أحببتُ أميركا كثيراً، كانت بداية الستينات وبداية الثورة الثقافية التي عشتُها في جهة كاليفورنيا.
■ راكمتِ تجربة غنية ومتشعّبة، بين ثلاث قارات، في الشعر والتشكيل والرواية والمسرح. قصائدكِ بالإنكليزية ومنها «يوم في نيويورك»، «قصائد الزيزفون»، «قيامة العربي»، «في قلب قلب وطن آخر»، نقلها إلى العربية شعراء بارزون مثل خالد النجار وسعدي يوسف ويوسف الخال. سركون بولص هو الآخر ترجم كتابك «هناك ــ في ضياء وظلمة النفس والآخر» ويتضمن ديوانه الأوّل قصيدة عنكِ. هل كان يحكي عن جزيرة ما؟ عن يد ممدودة عضها كلب؟
– نعم! كنتُ أُريه جزيرة في القصيدة. عرفتُ سركون بولص في بيروت، في منتصف الستينات، التقيته عند يوسف الخال، كان شاباً وشاعراً جميلًا. قال إن قصائدي ألهمته لأنه أول شاعر عربي يترجم أعمالي لمجلة «شعر». انتقل إلى أميركا، وساعدتُه على ربط علاقات هناك، كنت «sponsor» سركون بشكل ما. حين وصل عندي كان يعاني الرشح ونام أسبوعاً كاملاً في الصالون. أوصلته إلى بيركلي التي لم تكن بعيدة عن مكان سكني، ووجدت له عملاً صغيراً، موزّع رسائل في شركة بوينغ. عرّفته على فيوليت يعقوب التي تمكنت من الحصول على منحة دراسية باسمه. بعد ذلك تباعدت لقاءاتنا، سمعت بعدها أنه ذهب إلى ألمانيا وتزوج هناك. بالنسبة الي سركون هو نسمة عليلة في الشعر العربي لقد كان شاعراً بحق، لا يبدي اهتماماً بأيّ شيء خارج دائرة الشعر، كان يجد صعوبة بالغة في التأقلم مع العالم، مع المشاغل اليومية.. يريد أن يحلم ويقرأ. لم تتمكن البلاغة العربية من سحق سركون، لم يكن يبالي كثيراً بشعر القدماء، كان نظره مشدودا للبعيد، للحداثة الروسية والأميركية.
■ أسّس حيان شرارة وفادي جودة جائزة باسمك تُعطَى لشبان أميركيين من أصول عربية ينشرون أوّل ديوان باللغة الإنكليزية، كيف ترين كتابات هؤلاء الشبان، مقارنة بكتابات خالد مطاوع ولورانس جوزيف وناعومي شهاب ناي؟ هل هناك تقبّل أكثر من المجتمع الأميركي؟
ـــ هناك ما يُعرف بالأدب العربي ـ الأميركي، لكنه لا يُدرَّس في الجامعات، على عكس الأدب اللاتيني ـ الأميركي، أو الصيني ـ الأميركي. باستثناء حالات فردية فكتبي تُدرَّس على سبيل المثال، لكن لا وجود لفرع مخصص لكتاب أميركا العرب، ربما لأنهم يرون أن عددنا قليل! لكن الكُتّاب الشباب تلقوا المعاملة نفسها التي تلقيناها نحن. هم لا يتعرّضون لمضايقات عنصرية في نظري. أميركا بلد «الشركة» الحرة ليس في الاقتصاد فقط، بل في الأدب أيضاً، عليك أن تفرض نفسك، لن يأتي أحد ليطرق بابك ويمدّ لك يد العون، ليس لأنك عربي ـ أميركي، لا، لأنهم لا يساعدون أحداً، ومن هنا تأتي الطاقة الهائلة التي تُسّير أميركا، على الفرد أن يتدبر أمره لبلوغ أهدافه.
■ عشتِ في سان فرانسيسكو، كان هنالك نشاط هائل على ساحل المحيط الهادي. تبدين حاضرة في المشهد الأميركي أكثر من العربي أو الفرنسي. كان روبرت بلاي قد أسس مجلة «خمسينات» التي جددت قصيدة النثر، وكانت هناك حركة ثقافية رفضت الهيمنة والعنف وانتقدت الحروب الأميركية ولا سيما حرب فيتنام، وتحرك روّادها مثل كاسيدي وغينسبرغ وكيرواك في الشارع من خلال التحدّث بلغته والانفتاح على الآخر «الأفرو – أميركي».
ـــ في أميركا اكتشفتُ أن بوسع الأدب أن يكون سلاحاً سياسياً، السياسة ليست الحرب أو المناظرات بين الأحزاب. كل ما يحيط بنا مُسيّس، روّج سارتر الفكرة نفسها بشدّة في باريس. إنها الصحوة والانتباه لكوننا جميعاً مسيّسين، فمقاطعة السياسة – كالامتناع عن التصويت وقراءة الجريدة – هي في حد ذاتها فعل سياسي. علاقتكِ بالناس لا تنحصر في تقاسم وجبة عشاء معهم. عليكِ أن تدركي أن قراراتهم لها تأثير مباشر على حياتكِ وأفعالكِ وأنك تؤثرين عليهم بالمقابل ولو بشكل طفيف وغير مرئي. الحرب كانت احدى مظاهر الالتزام السياسي لكنها ليست كل شيء، فهناك مشكلة السود والمهاجرين والعمل غير الشرعي والأجور الزهيدة. هؤلاء الشعراء كانوا يريدون ردّ اعتبار المواطن لأن حق الانتخاب لا يكفي. المواطنون في الولايات المتحدة يشاركون في الحياة السياسية، في التفاصيل الصغيرة على الأقل. لا يحق لك أن تقطع شجرة دون أن يجتمع كل أهالي الحي ويتخّذوا قراراً بشأن ذلك، أعتقد أن هذا مهم.
■ لعلّ روح التضامن في هذا التيار الحيوي الذي يجمع بين الالتزام الاجتماعي، السياسي والجنسي، خلق نوعاً من السكينة لديك ولدى شاعرات من أمثال مارلين هاكر وأدريان ريتش التي كتبت عن حرب العراق وفيتنام وكتبت قصائد عن الحب المثلي «22 قصيدة حب»، أنت بدورك نلت جائزة «لامبدا» للشعر المثلي.
ـــ أوه .. أدريان أعرفها حق المعرفة، كانت تسكنُ قريباً مني وتحضر قراءاتي الشعرية، هي تُعطي دروساً في كاليفورنيا، على بعد ساعتين بالسيارة من سان فرانسيسكو.
■ تقولين «كان محرّماً على النساء أن يبحثن عن الحب، وهكذا توقفن عن البحث عن الفردوس» هل تعرّفتِ على أسماء بارزة في الكتابات النسوية الإنكليزية؟ شاركتِ بكتابات نظرية بهذا الخصوص؟
ـــ تعرفتُ على نسويات كثيرات، لكن ليس قبل منتصف السبعينات، لقد دعمن روايتي النسوية التي تُعرّف بالحرب الأهلية اللبنانية – «الست ماري روز» (1977) الفائزة بجائزة جمعية الصداقة الفرنسية العربية، لكن علينا ألا ننزلق للسهولة ونصف النسوية بأنها حركة متحاملة على الرجال. كانت هنالك رغبة حقيقية في الحوار لا القطيعة. ثمة نساء تعرضن للعنف الجسدي والنفسي ورفضن بالتالي أن يؤدي الرجل أي دور في حياتهن، لكنني لا أنتمي إليهن، أغلبية النساء ينشدن الاحترام وحسب. تلاحظين حتى في أيامنا هذه، حين يجتمع الرجال للحديث في مكان ما وتدخل امرأة يصمتون فجأة ويغيرون دفة الحديث، لماذا؟ ينتقون المواضيع التي ليس على المرأة الخوض فيها؟ مرة سألني أحد طلّابي العرب «شو بدك منا؟» وأجبته «أريدكم أن تسمعونا، أن تنصتوا لما نقوله» وفاجأَته الإجابة لعلّه توقع أن أُحدّثه عن الفجوة في الأجور بين الجنسين!
■ من قصيدتك «خمس حواس لموت واحد» أذكر هذا المقطع « بيروت باريس نيويورك بيركلي لوس أنجلوس/ محطّاتُ صليبكِ/ أيدٍ تتنقل فوق المدن/ واحدة واحدة تمتحن الدروب/ كنتِ رامبو وكاتي هيبورن/ ونحن كتبنا/ آيات القرآن/ على عظامك» قصيدة كتبتها عن انتحار صديقة لك، ترجمها يوسف الخال في مجلة «شعر»، لكنّه تردد في ذلك لأنها تخاطب المؤنّث، قبل أن يرضخ لإصرارك على عدم تغيير الحبيب المخاطب إلى صيغة المذكّر!
ـــ لقد أطرق يوسف الخال قليلاً ثم قال «طيب». لم تكن قصيدة حب تقليدية، قرأها خالد النجار على راديو تونس لأسبوع كامل، لديك الكتاب؟ لا؟ سأهديك إياه، إنها نسخة نادرة عديني أن تحتفظي بها.
■ لا تنحصر هموم إيتل عدنان في حدود ضيقة، لا نجد في كتاباتها تلك الأوهام الريفية الرومانتيكية التي شغلت جيلها العربي؟
ـــ أحب الطبيعة: الجبال النهر الضوء، لكني بنت المدينة. لم أعش في الريف أبداً، ثم إنني غير مُطّلعة بشكل كافٍ على الكتابات العربية. الأشياء السيئة لها جانب إيجابي أحياناً، لا أستطيع تقليد ما أجهَلُه. من بين الشعراء الذين أثروا بي، بدر شاكر السياب وبلند الحيدري وطلال حيدر وعباس بيضون أما يوسف الخال فقد حماني وشجّعني على العودة إلى لبنان بعد سنوات من تدريس الفلسفة في الولايات المتحدة. كنتُ أعتقد أنها عودة نهائية لكن المجزرة/ الحرب بدأت عام 1975 واضطرتني للرحيل من جديد.
■ هل ثمة ما يستحوذ على تفكيركِ أخيراً؟
ـــ نحن في نقطة حرجة من تاريخنا، لقد قاتلنا من أجل العالم العربي وهذا لم يحمِه من الانزلاق إلى الجحيم . بأي حق دُمّرت ليبيا وقُتل القذافي ومُنع الإخوان المسلمون – ولا تظنّي أنني في صفّهم ـ من ممارسة حقّهم السياسي في مصر؟ في سوريا قبل بضع سنوات كان هنالك أكثر من ثمانين فريق بحث أركيولوجي! انظري ما يحدث اليوم. هذه الأشياء تشغل تفكيري كثيراً. ليس لبنان وحده ما يهمني، لقد زرتُ تونس سنة 1966 وأحسست أنني في بيتي وبين أهلي. لم تعترضني أي صعوبة في فهم اللغة. كان بلداً له مستقبل، ورأيت بورقيبة خارجاً من مركز الاذاعة وسط الحشود المتحمسة. لديه نظرة ساحرة. كان الأكثر حكمة وعقلانية بين كل الحكام العرب، وعبد الناصر كان يجسّد كل ما يطمح إليه العربي. أما اليوم فبلداننا مقسّمة ومشتتة. كي نواجه المشاكل التي تأتي من الخارج، نحتاج إلى أشخاص استثنائيين.
■ في نصك «قوة الموت» تصفين الحب بهذه القسوة: قد يبدو أنه لا جديد في قصص الحب، لكنه كان يعيش حياته من جديد، بحدّة، حتى إن العالم كان يُخلق من جديد بألمه. وكان ينحدر في هاوية ذات أبعاد مخيفة.
ـــ الحب خطير جداً، الحب أخطر شيء في العالم. إنه السبب الرئيسي لليأس والجنون والانتحار، لكن رغم ذلك، علينا أن نُوقف محاولاتنا الإفلات من قبضته.
■ يشدّنا الاحساس بالعبور والانتقال الدائم في كتاباتك، ثمة شيء طيفي لكنه نضِرٌ ومتوهّج على الدوام، في «أساتذة الكسوف» تأخذيننا إلى أماكن مختلفة من العالم، هناك قصة عن راديو بدمشق.
ـــ لم أشعر يوماً بالانتماء إلى أي شيء، كان والدي يقول إننا عابرو سبيل في هذه الأرض، هذه طريقة تفكير إسلامية، العالم الاسلامي لديه ثقافة مبنية على الموت لأن صورة الإله مهيمنة. نحن متلهفون إلى المطلق، لدرجة صارت فيها الحياة ثانوية.
________
كلمات
العدد ٢٨٢٤
————————-
رحيل إيتيل عدنان المبدعة العالمية بين الشعر والرسم/ عبده وازن
لبنانية الولادة سورية الأب يونانية الأم كتبت بالفرنسية والإنجليزية ورسمت بالعربية
حال المرض الذي أنهك جسد الشاعرة والرسامة إيتيل عدنان في الأشهر الأخيرة، دون مشاركتها في افتتاح معرضين استعاديين لها، كرّسا اسمها في المشهد التشكيلي العالمي الراهن، الأول في متحف غوغنهايم العريق في نيويورك، والثاني في مركز بومبيدو الشهير (فرع ميتز). وبينما كانت الصحافة والأوساط الفنية تحتفل بهذين الحدثين الكبيرين، أسلمت الشاعرة والرسامة روحها في منزلها الباريسي، وكانت إلى جانبها رفيقة عمرها الرسامة سيمون فتال. عندما أثقل المرض عليها في الأسابيع الأخيرة كانت تلحّ على طبيبها الفرنسي قائلة له: “اجعلني أغيب”، وكان الطبيب عاجزاً تماماً عن منحها “قربانة” الموت الرحيم، وهي التي كانت تفيض روحها حياة وشعراً وفناً، بينما ينحدر جسدها في هاوية الأوجاع المبرحة، خائناً رغبتها في الرسم التي ظلت تساورها حتى الرمق الأخير.
ولعلها حين لفظت آخر أنفاسها تذكرت جملة من قصيدة تقول فيها: “هذا المساء، سأنام مبكراً يا أصدقائي لأن الظلمة تكاثفت كثيراً…/ وسأحاول ألا أضيع المفتاح/ وأن أنام مثلما ينام الأطفال/ كما أظن”. هذه الطفولة كانت تعاود الشاعرة التسعينية في شيخوختها، فتستعيدها بحبور وفرح، من دون أن تفقد لحظة، عمق نظرتها الوجودية.
الإلتزام الإنساني
رحلت إيتيل عدنان عن 96 عاماً، قضت ردحاً كبيراً منها، مأخوذةً بهموم الشعر والفن والثقافة والالتزام، بل و”النضال”، ولكن في مفهومه الإنساني، أو “الإنسانوي” الشامل، المثالي والطوباوي. ويذكر أصدقاؤها وقراؤها كيف أنها عندما بدأت اعتناق الإنجليزية بعد انتقالها إلى أميركا كتبت قصيدة في هذه اللغة، عن حرب فيتنام، وأعلنت فيها رفضها هذه الحرب وكأنها واحد من شعراء الرفض أو شعراء مدرسة “بيت جنرايشين” الشهيرة. كانت إيتيل مواطنة من العالم، في كل ما تعني هذه الصفة من معاني الانفتاح والتثاقف والتعدد.
كانت لبنانية المولد، سورية الأب، يونانية الأم، عربية، فرنسية وأميركية… وبدت في الوقت نفسه كأنها تنتمي إلى الشعوب المضطهدة من الهنود الحمر الذين كتبت عن قضيتهم، فإلى الشعب الفيتنامي الذي ناهضت الحرب التي شنت ضده، إلى الجزائريين الذين خاضوا حرب التحرير القاسية ضد الاستعمار الفرنسي، إلى الفلسطينيين الذين احتلت إسرائيل أرضهم، وعانوا الاضطهاد على مرأى من العالم، فإلى العراقيين الذين دمرت الحرب وطنهم، واجتاحت أرضهم القوات الأميركية… ناهيك بموقفها الرافض للحرب الأهلية في لبنان، التي دفعتها إلى هجره، بعد أن كانت قد عادت إليه عام 1972، لتشارك في حياته الثقافية ونهضته الحداثية التي كانت قد انطلقت في الستينيات.
ولئن كانت إيتيل متعددة الجذور واللغات و”الهويات”، فهي لبثت إيتيل الشاعرة والرسامة، التي تنتمي إلى الإنسانية من غير أن يحرجها هذا الانتماء المفتوح، وطنها اللغة التي تخاطب بها من يقرؤها بالفرنسية أو الإنجليزية، أو في العربية التي ترجم الكثير من كتبها وقصائدها إليها أو في اللغات الأخرى. حتى في الرسم بدت لوحاتها تفيض بروحانية الشرق ونور المتوسط وزرقة بحره وسمائه وملامح الحداثة الأوروبية والأميركية، ما جعل فنها عالمياً بقدر تجذره في أرض الشرق والمتوسط. ولعل هذا التفرد الفني هو ما جعل المتاحف الكبيرة تفتح أبوابها لأعمالها البديعة.
الهوية المتعددة
ولئن ولدت إيتيل في لبنان في بيت لا يجيد العربية، ولا يتكلم بها إلا نادراً، فهي أعلنت عندما اكتشف دعوتها الفنية أنها “سترسم بالعربية”، بعد أن عجزت عن الكتابة بها. والدها السوري المسلم، كان ضابطاً في الجيش العثماني يتحدث التركية، وأمها يوناينة أرثوذكسية تتكلم اللغة اليونانية، وقد سجلا ابنتهما في مدرسة كاثوليكية فرنسية تابعة لأحد الأديرة، فأصبحت الفرنسية لغتها الثالثة والأساسية بعد إجادتها التركية واليونانية، ثم تعلمت الإنجليزية والألمانية، حتى غدت سليلة هذه اللغات المختلفة كل الاختلاف التي تضج في رأسها ووجدانها، بما تحمل من جذور إثنية وحضارية.
وقد تطرقت إيتيل إلى تعددها اللغوي هذا في مقالة مهمة عنوانها “الكتابة بلغة أجنبية”، وأشارت فيها إلى بدايتها في كتابة الشعر بالفرنسية في الدير الكاثوليكي، وإلى محاولة والدها تعليمها الكتابة بالخط العربي. وتذكر كيف أنها تعلقت بالخط العربي من دون أن تجيد اللغة، وكيف أنها وجدت ذاتها الحقيقية في بيروت الغريبة عن عالم أبيها وأمها، هذه المدينة التي شهدت فيها “عاصفة صغيرة” من لغات وحروب ورغبات.
أول ما قرأت لإيتيل عدنان ديوان عنوانه “خمس حواس لموت واحد”، ترجمه إلى العربية الشاعر الرائد يوسف الخال، مؤسس مجلة “شعر”، وأصدره عام 1973 عن “غاليري وان” الذي كان يملكه، مع رسوم للفنانة سيمون فتال. وكان هذا الديوان بمثابة اكتشاف فعلاً، لا سيما أن القصيدة التي يضمها تختلف كل الاختلاف عن شعر الخال، وتخرج عن ذائقته الشعرية، وعن رؤيته إلى الفن الشعري، وهو الذي دأب على ترجمة إليوت وازرا باوند وروبرت فروست، وسواهم من الشعراء الأنغلوساكسونيين الحداثيين “المحافظين”. فهذه القصيدة تنتمي بروحها ولغتها إلى الشعر الأميركي الحديث والحديث جداً الذي واصل مسار شعراء “بيت جنرايشين”، أو “مدرسة نيويورك الشعرية”. وبدت ترجمته جميلة جداً على الرغم من أن القصيدة تتمثل خريطة شعرية جديدة، وتحفل بأسماء وحالات ومعالم غير مألوفة عربياً، ومنها مثلاً: اسم جيمس دين وبوب ديلان وشحصية الهندي الأحمر ومارلين مونرو والبوليس وماسح الأحذية والدراجة وصالة السينما، وسواها. وكان الخال قد طلب سابقاً من الشاعر العراقي سركون بولص أن يختار قصائد لإيتيل عدنان، ويترجمها لينشرها في مجلة “شعر”. ويمكن القول إن بولص هو أول من ترجم شعر عدنان الإنجليزي طبعاً، وليس الفرنسي.
خريطة شعرية رحبة
بعد هذا الديوان رحت أبحث عن شعر إيتيل، ووجدت بعض الدواوين بالفرنسية وبعض الترجمات العربية، وهي غير قليلة. وقد أسهم في ترجمة أعمالها الشعرية والنثرية في كتب: فواز طرابلسي وعابد عازريه وشوقي عبدالأمير وخالد النجار وفايز ملص وسعدي يوسف وجيروم شاهين ودانيال صالح وأوديت خليفة. وقد ترجم لها كاتب هذه السطور قصيدتين طويلتين هما “ليل” و”فصول”، صدرتا في كتابين عن دار غاليري أليس مغبغب، ضمن مشروع سوف يشمل ثلاثة دواوين أخرى. عطفاً على ما نشر لها من قصائد متفرقة في المجلات والصحف ترجمها: عيسى مخلوف وشربل داغر وصباح الخراط زوين وجمانة حداد وعقل العويط وإسكندر حبش وعلي مزهر، وسواهم.
غير أنني كلما قرأت شعر إيتيل عدنان أشعر بحاجة إلى أن أقرأ مزيداً منه، والذي يصعب الحصول عليه. إنها المشكلة التي تواجه قارئ الشاعرة الكبيرة المتمثلة في “تبعثر” دواوينها وقصائدها بين الفرنسية والإنجليزية والترجمات العربية، بل هي عدم خضوع الدواوين لتوثيق كرونولوجي وتاريخي يكشف عن تواريخ صدورها واحداً تلو آخر. هذا “التبعثر” يحول دوماً دون قراءة أعمالها قراءة شاملة ومنهجية. حتى الشاعرة نفسها لم تكن تذكر بالتفصيل ما كتبت من شعر ونصوص ومقالات، لا سيما في مرحلة بيروت وعملها في جريدة “الصفا” الفرنكوفونية. ولعل أول مبادرة يجب الأخذ بها بعد رحيلها، هي جمع أعمالها الكاملة جمعاً توثيقياً وكرونولوجياً، ولم شمل قصائدها في اللغات الثلاث. فهذه الشاعرة الكبيرة خلقت لغة خاصة بها وأساليب تختلف باختلاف زمن القصائد وأمكنتها وقضاياها، عطفاً على سبرها آفاقاً غير مألوفة، سواء في الشعر الفرنسي والأنغلوساكسوني. عالمها الشعري واسع، ولا يمكن الإحاطة به بسهولة، ومصادره متعددة، مثل تعدد شخصية الشاعرة نفسها وتعدد معاجمها وحقولها.
الرسامة الرائدة
إلا أن الكلام عن شعر إيتيل عدنان لا يكتمل من دون التطرق إلى عالمها التشكيلي والفني الغني والمتعدد أيضاً في الأساليب والتقنينات والفضاءات. فهذه الرسامة التي تتمتع بشهرة عالمية فرضت وجودها بجماليات فنها وخفة أشكالها وألوانها وبداهة عفويتها المبدعة وتلقائية رغبتها التعبيرية، كما يشير الناقد الفرنسي ميشال بودوسون في دراسة له عنها. ويتوقف أمام تعدد عناصرها الفنية التي تتراوح بين اللوحات والرسوم والرسم بالحبر الهندي والنسيج المطرز والخزفيات وفن الخط والكتب الأكورديون (ليبوريللو).
وكم يعبر العنوان الذي اختاره مركز بومبيدو – ميتز للمعرض الاستعادي لإيتل عدنان، وهو “أن أكتب يعني أن أرسم” عن فرادة تجربتها الجامعة بين الرسم والشعر. فإيتل شاعرة الرسم، ورسامة الشعر إذا جاز القول، وعالمها الذي يفيض بالألوان المشرقة والمتفجرة بلطافة وعذوبة وشفافية هو شبيه بعالمها الشعري الذي يحفل بالصور والمشاهد والأصداء والأنوار الداخلية. يقول الناقد الفرنسي بودسون: “ما يجذب العين في لوحات إيتيل عدنان قبل كل شيء هو السرور، لا بل سعادة التأمل. إلا أن هذه البساطة المطبوعة بالفرح التي تتكشف عن هذا الانطباع الأول، لن يكتمل معناها، ولن تترك بصمة فينا، إلا إذا وجهنا انتباهنا من ثم إلى تنوع شخصيتها وعمقها وحيويتها”. ويتحدث الناقد عن تلاقي “عمل اليد وعمل الروح، في لوحاتها، على غرار الحركة والكلمة اللتين أصبحتا محط النظر”. وهنا نتذكر ما قالته إيتيل: “أرى لأرسم، وأرسم لأرى… إن الرسم يعبر عن مكاني السعيد، ذلك الذي يشكل واحداً مع الكون”.
———————————-
إتيل عدنان التي تشبه بيروت/ محمد حجيري
بين الكاتبة والفنانة المترحّلة الراحلة إتيل عدنان، التي “تفضّل الموج على البحر” ومدينة بيروت، حالة عشق ولغة ولون وذاكرة… فصاحبة كتاب “الست ماري روز” ولدت في هذه المدينة المتوسطية، لأن والديها غادرا تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. تقول: “كانت بيروت قريبة من دمشق وطن أبي وبعد سنوات كثيرة ولدت أنا في عالم يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفه والدي”. كان والدها دمشقياً سورياً و”ضابطاً من رتبة أعلى في الامبراطورية العثمانية”، وكانت أمها يونانية من سميرنا. فقدت أسرتها كل شيء- احترقت سميرنا(أزمير) سنة 1922، وقبل ذلك بسنوات تعرضت الامبراطورية العثمانية للتفكك والانهيار. كان محتماً عليهما أن يتخذا من لبنان منفى لهما.
“كانت الشمس شيئاً قوياً خلال طفولتي في بيروت” تقول إتيل، و”بما أنني كنت الابنة الوحيدة، كان العالم الذي يحيط بي يمتلك أهمية كبرى وخاصة الشمس، لأنها كانت حاضرة بقوة هناك، وكانت المدينة تتشكل من بيوت منخفضة، ثلاثة أدوار على الأكثر. كنت أهتم بالظلال كذلك. أتذكر أنني كنت أحاول أن أنظر للشمس مباشرة وكان هذا يحرق عيني ويعميني”. وهي تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية فرنسية (في دير كاثوليكي) في بيروت، فأصبحت الفرنسية لغة التعبير الذي جبلت عليه ثقافتها ومن خلال مسيرتها الدراسية، “الأسلوب المستخدَم لتعليم الفرنسيّة للأطفال كان بذاته نوعاً من التطبيع النفسانيّ الذي لم يعترض عليه أحد، حيث النّاس يعتقدون أنّ كلّ ما تفعله الرّاهبات هو خيّر دوماً ويتّجه دوماً نحو الأفضل: وهكذا، في كلّ المدارس المدارَة من الفرنسيّين، يجري تكليف عددٍ من التلامذة المختارين بأن “يتجسّسوا” على الآخرين: فكلّ من يُسمَع في الصّفّ أو خلال الاستراحة وهو يتكلّم العربيّة يَلقى عقاباً وتوضع حصى صغيرة في جيبه: “كان التكلّم بالعربيّة يعادل اقتراف خطيئة، وهذا سيكون له تأثيره لاحقا”… وبشكل ما، تشبه شخصية إتيل الثقافية، تركيبة بيروت المتعددة، قبل ان يحصل زمن القحط الجهنمي. فهي تتقن أكثر من لغة (انكليزية وفرنسية)، من ابوين متباعدين في الدين، ومن هويات متعددة، تركية، عربية، يونانية، وتحمل ثقافة اكثر من مدينة، غربية ومشرقية، تبدأ مدينة امها، ازمير التركية اليونانية، ودمشق مدينة والدها، ومن بيروت وتمر بباريس “العارية” ولا تنتهي في بعض المدن الأميركية، حتى في خياراتها الحياتية كانت حديقة ألوان وأشعار، بين الترحال والبحر والجبل والعشق، عدا عن اختيارها المثلية طريقاً للحب.
ولعلاقة إتيل ببيروت مسارها، كانت في الثّانوية عندما اندلعَت الحرب العالميّة الثانية. تقول “شاهدتُ بيروتَ تتحوّل إلى مدينةٍ ذات مكانةٍ عالميّة. اتّخذَت الجيوشُ الفرنسيّة والبريطانيّة منها مراكزَ لقياداتها وشعّ الوجهُ الكوزموبوليتيّ للمدينة برومنطيقيّةٍ مميزّة أعدّتْنا لها الأفلام السينمائيّة. إلى سكّانٍ يضمّون اليونانيّين والإيطاليّين والأكراد والأرمن إضافة للسكّان الأصليّين، إضيف جنودٌ من جنسيّات مختلفةٍ تتكونّ منهم جيوش الحلفاء: أستراليّون وكنديّون ونيوزيلنديّون وأفارقةٌ سود وبولونيّون أحرار. تحوّلت بيروت إلى صورةٍ مصغّرةٍ من العالم، زوبعةٍ صغيرةٍ من الحرب والمرَح. لم تشاهد الحربَ الحقيقيّة، اكتفتْ بمشاهدة الجيوش التي كانت تمزّق العالم إرباً”. فوي مطلع خمسينيات القرن العشرين، حصلت على منحة لاتمام دراستها في الادب والفلسفة في باريس، قبل ان تحملها مجموعة من المصادفات الى الولايات المتحدة العام 1955. وقعت إيتل في حب اللغة الانكليزية والثقافة الاميركية، فقررت ان تجعل من كاليفورنيا موطنها الثاني بحسب ما تذكر الكاتبة جمانة الياسري، وهناك أصبحت شاعرة ورسامة ملتزمة النضال ضد حرب فيتنام وحركة الحقوق المدنية. الا ان هزيمة 1967 راحت تشدّها الى العالم العربي وقضاياه، خصوصا فلسطين، وقررت العودة للعيش في لبنان العام 1972. عند عودتها الى بيروت، عملت اتيل في الصحافة واستلمت إدارة الصفحة الثقافية في جريدة “الصفا” التي كانت تصدر باللغة الفرنسية، الا أن عودة ايتل الى بيروت في ذلك الحين “رافقها شعور عميق بالكارثة”(جمانة الياسري) وكانت قد تنبأت بها في قصيدة “قطار بيروت نحو الجحيم”(1970) التي كتبتها في كاليفورنيا وهي تفكر في بيروت والقدس والعواصم العربية.
في مطلع العام 1975، قبل فترة وجيزة من اندلاع الحرب الأهلية، راحت إتيل تكتب مجموعة من القصائد التي ستشكل كتاب “سفر الرؤيا العربي” الذي أنهته العام 1976، الا انه لم ينشر حتى العام 1980. رمّزت الى هزيمة 1967 وذاكرة الحروب الاستعمارية والحرب الاهلية اللبنانية بالصراع بين شمس وقمر. “الشمس بركة دم” تقول وتردف “شاهدتُ بيروتَ المجنونة تكتب بالدم: الموت للقمر”، و”أيها الشعراء غيروا العالم أو اذهبوا إلى بيوتكم”. “سفر الرؤيا ” نص متفرّد إذا قررت الشاعرة فيه “ان تتحدى اللغة بواسطة الحرب. والحربَ بواسطة اللغة”، بحسب توصيف صديقها فواز طرابلسي…
في العام 1977، بعد عامين على بداية الحرب الأهلية، غادرت اتيل عدنان بيروت “كانت لي أسبابي الخاصّة لأنْ أعود إلى كاليفورنيا، بعد سنوات من ذلك، إذ ازدادتْ صعوبة العودة إلى بيروت أكثر فأكثر. أغلقت الصحيفة التي كنت أعمل فيها. وكان لا بدّ من مواجهة مصاعب أخرى”. حصل ذلك بعد صدور روايتها “ست ماري روز”، التي باتت من كلاسيكات أدب الحرب الاهلية. كتبت إتيل روايتها بالفرنسية ومن ثم تُرجمت إلى الإنكليزية سنة 1982. تقول “عندما كنت في باريس، سمعتُ عن أمر رهيب حدث في لبنان: امرأة عرفتها قليلاً، لكنّي احترمتها كثيراً، تعرضتْ للخطف من قبَل أفراد مليشيا مسيحيّة وعُذّبتْ وقتلتْ.(…) ألّفتُ كتاباً، روايةً مبنيّة على الواقع، عن ذلك الحادث المفجع”. وجاء في مقدمة الكتاب أن إتيل تصوغ هذه الواقعة المأسوية، “واقعة قتل امرأة كرّست حياتها للمستضعفين ونادت بحق الفئات المسحوقة، متحررة من الصورة السلبية للمرأة التي يروّج لها المجتمع ومن أسر التدين المنحرف والمتعصب، لتنخرط بحياتها وموتها، بفعلها وبشهادتها، في جوهر الدين بمبادئه السامية وتمحوره حول التضحية. تصوغ إِتيل عدنان هذه الواقعة في عمل روائي متميز بنيةً وتقنيةً، مضفيةً على النواة التاريخية، وعبر تخييل فني، تفاصيل معبّرة وحوارات مؤثرة”. وبسبب طبيعة الرواية المثيرة للجدل، لم تُعرضْ الترجمة العربية للرواية في أسواق بيروت “الشرقية”…
وكتبت إتيل عدنان العام 1982، شعراً عن بيروت الاجتياح، تقول:
آهٍ لوحشةِ القلبِ الرّقيقة
يومَ ماتت بيروت
تحتَ وابلٍ من الأزهار الحمراء.
قبلَ ذلك، غادرتنا أمّ كلثوم
كانت تغنّي للملائكة والأحصنة
ثم لحق فلسطينيّون
صامتون
بالموكب
كما في جداريّات
أسلافهم.
الوحوش الضاريـة ليســـــت في حدائق الحيـوان.
«بِ» يعني «بيغن»
الذي انضمّ إلى ميثولوجيا الشرّ
بثلاثةِ مليارات من الدولارات
لقتلِ طفل
لقتلِ غابةٍ من الرجال.
آنَ الأوان
لمنعِ الكلماتِ المُستعارة
من أن تغادر
حضيضَ
حُزننا”.
ربما اليوم نحن في قطار بيروت نحو الجحيم..
———————————
إيتيل عدنان: امرأة الأسئلة والبراءة/ الياس خوري
ماتت إيتيل عدنان في باريس، لكن موتها اتخذ إيقاعاً بيروتياً خانقاً، فكل موت صار اليوم استعارة لموت المدينة.
لم تستطع الهجرات القسرية والمنافي تحرير الموت من رمزيته. فالموت هو حق الحياة علينا، لكنه يتخذ اليوم وسط هذا الأسى والشقاء شكل الجريمة.
وإيتيل عدنان لا يليق بها الرثاء، ففي لوحاتها اجتمعت أرواحنا وقد تحررت من الأجساد، كأن الأرواح عصافير من الألوان التي تعزف موسيقى الحب.
امرأة الأسئلة والبراءة، عرفتها طفلة في الخمسين، حين كانت بيروت تواجه العنف بالشعر، وتصنع من كوابيس الخراب حلماً.
وماتت إيتيل طفلة في السادسة والتسعين، نقرأ شعرها فنعثر على أول الشعر، ننظر إلى لوحاتها فنرى نوافذ الروح وبراءة الألوان، نقرأ روايتها فنعثر على الكلمات الأولى التي تواجه عالم الوحشية بسذاجة ذكية، وحب للحياة.
سر هذه الفنانة المتعددة في اللغات والأشكال الفنية هو الدهشة.
أشعر كأنني لم أقرأ شعرها يوماً، فشعر إيتيل عدنان كان مكاناً نلتقي فيه بالقصيدة التي تقرؤنا ونحن نقرأ. فتلتبس علينا الأمور، خليط من اللغات والبلاد، أب سوري وأم يونانية، وطفلة بيروتية. ننتقل من الفرنسية إلى الإنكليزية إلى ترجمات فواز طرابلسي لأشعارها، وكأن اللغات كلها امتزجت في لغة واحدة لا اسم لها، لغة شفافة كالماء، تعكس الأعماق وتخاطب أرواحنا.
نتأمل لوحاتها فلا نرى سوى الألوان، فإيتيل لم ترسم لوحات بل رسمت اللون، كأن الألوان تطير فوق القماش كي تلتقط عيوننا، فهذه المرأة لونت عيوننا، فصار عالمنا الوحشي مصبوغاً بالطفولة والدهشة والحب.
من الصعب القبض على شعرية إيتيل أو تصنيفها، فشعرها ملوّن وألوانها شعر، ولغتها كل اللغات. تقرأ نصوصها فتشعر أنك ذهبت إلى ما بعد اللغة، وأن لحاقك بها من فيتنام إلى فلسطين ومن الهندي الأحمر إلى بيروت، أخذك في رحلة لا تنتهي كي تقول لك إن الشغف بالحرية والعدالة هو مدى إنساني واحد لا يتجزأ.
عاشت إيتيل برفقة شريكتها الفنانة سيمون فتال في كل الأمكنة، من كاليفورنيا إلى بيروت وباريس، لكنها كانت أشبه بمدينة متعددة الشوارع والحارات، مدينة تحاكي بيروت وتحكي معها.
كانت إيتيل بهوياتها المتعددة، فنانة بيروتية، فهي غريبة كبيروت وأليفة كبحرها، سورية- يونانية- تركية، فرانكوفونية-إنكلوفونية، جمعت كل الهويات في إيقاع بيروتي عربي، بحيث صارت تخاطب فينا أعماقنا الإنسانية التي تولد جديدة ومدهشة مع كل كلمة وكل ضربة ريشة وكل جناح يطير.
كان منزلها هي وسيمون في بيروت فسحة حرية، هناك في أسفل «الجبل الصغير»، ومن شرفة تطل على مرفأ بيروت، كنا كمن يكتشف العالم من جديد. وكانت هذه المرأة لا تشبه إلا فنها وقصائدها. كنت أتساءل دوماً كيف تستطيع إيتيل أن تكون فنانة 24 ساعة في اليوم، ألا تتعب؟
الفن والشعر والكتابة كانت بالنسبة لها نمط حياة وليست وسيلة للتعبير عن الحياة. تعيش الألوان وتصنع الضوء وتتعامل مع الكلمات، مهما كانت عادية، بصفتها قصيدة محتملة على وشك أن تُكتب.
لا أدري لماذا فاجأني الحزن بسبب موت امرأة لا تموت.
هل يحق لنا أن ندخل إلى أعماق الأسى، عندما يمضي من لا يمضي.
كيف يمضي من نرى لوحاته مرسومة في عيوننا، ونسمع صدى كلماته في أعماقنا؟
الموت هو كذبة الحقيقة الكبرى. إنه حقيقي بقدر ما هو وهم أو اصطلاح.
ربما هبط علينا الحزن لأن إيتيل ماتت وسط موت بيروت الفاجع والوحشي. ماتت وهي تشهد كيف تموت الكلمات في مدينة كان اسمها مرادفاً للكلمة.
إيتيل عدنان الفنانة والشاعرة غير اللبنانية، صارت أحد أسماء بيروت. بيروت صنعها أمثالها الذين اختاروا الميناء المفتوح على أفق المجهول، كي يرسموا مدينة تحتضن الأسى العربي كله، فتصير مدينة الشعراء والفنانين والفقراء واللاجئين.
بيروت كانت دائماً، منذ نشأتها كمدينة حديثة، مجبولة بالتناقضات، لكن نكهتها ومعناها تأسسا في المغامرة الإبداعية اللبنانية والعربية، التي رسمت أفقاً للحرية.
نحزن بسبب موت امرأة لا تموت، لأننا نخاف على مدينتنا التي وقعت تحت رحمة من لا يرحم، والتي تتألم وحيدة.
إيتيل عدنان لم تغادر بيروت حين غادرتها.
حملت معها كل الألم ومزجته بالبراءة في زمن يقتل فيها الأبرياء وتتحول الدهشة من دهشتنا بالبدايات التي تتفتح إلى دهشتنا بخيال المستبدين المريض، وبجوع المفترسين إلى السلطة، وبوحشية عصابات أمراء الطوائف والمال.
أمسح الحزن عن عينيّ فأرى غيمة تحمل رذاذ الألوان وإيقاع الكلمات الجديدة.
هل يصير الشعراء سحاباً حين يموتون؟
هل تصير الألوان عصافير تخرج من اللوحة لتملأ فضاء حياتنا؟
هل الموت مجرد استعارة للحياة؟
أسألك يا سيدتي، فلماذا لا تجيبين؟
القدس العربي
————————-
إيتيل عدنان.. انفتاح على زخم الثقافات، وجرح الكائن وهشاشته/ أشرف الحساني
بين الشعر والرواية والرسم والصحافة والتدريس الجامعي عاشت الشاعرة والفنّانة اللبنانية إيتيل عدنان (1925-2021) حياتها في صخب، مُوزّعة بين لبنان وأميركا قبل أنْ يخطفها الموت داخل العاصمة الفرنسيّة باريس مساء يوم الأحد. بدا العالم العربي برحيلها منكوبًا. حزنٌ لا تحدّه السماء. صور يُعاد نشرها. قصص وحكايات يرويها عرب رافقوا مسار رحلتها بين الشعر واللوحة منذ أنْ تعرّف العالم العربي على قصائدها مُترجمة من جانب يوسف الخال وسعدي يوسف وسركون بولص، الذي ترجم على صفحات مجلّة “شعر” ديوانها “إنجيل العدو”. هذا الديوان يُشكّل مرحلة أولى وهامّة في حياة إيتيل عدنان كشاعرة، قبل عزمها على دراسة الفلسفة في جامعة السوربون ثم هارفارد. كانت في ذلك الوقت تملك من الجرأة وفتنة المخيّلة، ما يجعلها ربما من المُفكّرين داخل العالم العربي، لكنّها اختارت الفنّ تفكيرًا وممارسة وعيشًا، حيث الجسد أكثر تحرّرًا من ربقة النظريات والمفاهيم والوقائع، ومُلتصقًا بجمال العالم من شمسٍ وقمر وجبال في مشاهد طبيعية صغيرة مُبهجة تُعيد إيتيل صياغة أنفاسها والقبض عليها داخل لوحة. فهل كانت إيتيل عدنان ستُحقّق كل هذه الشهرة الكبيرة لو أنّها اتجهت إلى مجال الفكر المجرّد، في وقتٍ كانت فيه الجامعة الفرنسيّة تشهد مُنعطفًا قويًا مع ميشيل فوكو وجيل دولوز وبيير بورديو، والذي سيُؤثّر تدريجيًا على صناعة مفهوم الحداثة داخل الثقافة العربيّة المعاصرة؟ قد يكون من الصعب الحدس بنجاح إيتيل كمُفكّرة تخترق حدود فكر الآخر، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أنّ ما وصلت إليه من منزلة داخل مؤسّسات ومتاحف العالم، قد لا تقوى اليوم على مُجابهته أيّ فنانة عربية خلال الحقبة الحديثة أو المعاصرة.
يندهش المرء من قدرة إيتيل عدنان بلوحاتها على اختراق العالم، إذْ تُباغتنا معارضها الفنّية من كل مدن العالم، ما يُعطي الانطباع الأوّل بأهميّة المرأة في تكسير الحدود الوهميّة التي يُقيمها مؤرّخو الفنّ داخل البلاد العربيّة. لا توجد محلية أو قومية أو عروبة داخل أعمال إيتيل، لأنّها ظلّت مشرعة في وجه التجريب الفنّي المُنطلق أساسًا من سيرتها الذاتية والمُلتحم بشكلٍ غير مرئيّ مع سير الناس وحيواتهم داخل الطبيعة والمكان الأوّل. وهذا الأمر بقدر ما فتح شهية الجمهور العربي على نافذة جديدة داخل الفنّ العربي الحديث، بعيدًا عن قهر التاريخ ونزعة التراثية، بقدر ما جعله يُدرك ذلك التعدّد الغني من الرموز والهويات التي يُمكن أنْ تختزنها لوحة فنّية، بعيدًا عن موقعها وانتمائها وجغرافيتها وأيديولوجيتها.
انفتاح على زخم الثقافات
لا شيء في لوحات اللبنانيّة إيتيل عدنان يشي بأنّها فنّانة عربيّة، إنّها أعمال مفتوحة على زخم الثقافات، وعلى جرح الكائن وهشاشته الوجودية. من ثمّ، فإنّ هذا التعدّد الخفيّ في سيرة إيتيل عدنان الشعريّة والفنّية وانفتاحها على أفق الحداثة ومشاربها، رغم أنّه نابعٌ من ذاتٍ مُفكّرة عارفة بمسارات انبثاق الفكرة وتبلورها داخل السيرة، يبقَى من العوامل الفطرية. إذْ لا يُمكن أنْ يتصنّع المرء التعدّد أو يدّعيه، فهو وليد بيئتها وتنشئتها الاجتماعية العائلية من لدن أبٍ سوري عمل لسنواتٍ طويلة داخل الجيش العثماني، وأم يونانية ولدت وعاشت في إزمير. إلاّ أنّ إيتيل عدنان ولدت وعاشت في بيروت سنوات الطفولة والدراسة، قبل أنْ تُكمل دراستها في فرنسا وأميركا، حيث ستكون سان فرانسيسكو أكثر مدينة احتضنت حياتها وفيها كتبت مجمل أعمالها الشعرية وأنجزت أعمالها الفنّية، على خلفية عملها هناك كأكاديمية متخصّصة في فلسفة الفنّ.
تنتمي إيتيل إلى الجيل الذي ارتاد مدرسة الراهبات الفرنسيات داخل لبنان. وكان من الطبيعي داخل هذه المؤسّسات التقليدية منع الطالبات من الحديث باللغة العربيّة أو ذكرها داخل حجرات الفصل أو حتى داخل ساحة المدرسة. وهي تحكي أنّه حتّى داخل بيتها، لم تكُن تتكلّم العربيّة أمام أم يونانية الأصل وأب يتكلم اللغة التركية. لكنّ هذه التنشئة الاجتماعية المختلفة بالنسبة لطفلة، بقدر ما شكّلت حاجزًا لغويًا منيعًا أمام إيتيل لتعلّم العربيّة، بقيت في مرحلة لاحقة وكأنّها من الأقدار الجميلة في حياة هذه الطفلة. فقد قادها هذا الانشطار اللغوي إلى تشرّب ثقافات العديد من البلدان وانصهارها داخل اللوحة. وتُصبح هذه الأخيرة هي الوطن الأصل لها، بعيدًا عن اليونان وتركيا وبيروت وباريس وأميركا. لا وطن رمزيّا لها سوى اللوحة. إنّها فضاء للذكرى والتذكّر. مختبرٌ للتجريب والحلم.
أمّا القصيدة فهي عيشٌ يوميّ في سراديب اللغة واستكناه شغاف الوجود وعزلته. إنّ مفهوم اللغة عند إيتيل مرادفٌ للتّرحال، فهي ليست مجرّد لغة أو مجموعة من الرموز المُتّفق عليها بتعبير القدامى والمُحدثين. وإنّما ترحال أزليّ وشكل من أشكال المُثاقفة التلقائية، التي تتمّ بين الجسد وثقافة الآخر. إنّ اللغة جسد أو حلول هذا الأخير في ضيافة الآخر. كما أنّها ليست وليدة تمركز غربي أو انتماء مُعلن من طرف إيتيل لثقافة الآخر المُستعمر. لكنّها مجرّد طريقة أخرى في التفكير والتجربة والعيش ساهم في التأثير عليها مفهوم التنشئة الاجتماعية أكثر من لغة الفنّ والحداثة. والحقيقة أنّ إيتيل بفرنسيتها وإنكليزيتها تبدو الأكثر عروبة على مستوى التحامها في سنواتها الأولى بقضايا عربية ذات علاقة بفلسطين والفيتنام والجزائر ولبنان وسورية والعراق، حيث رصدت في بعض أعمالها الشعريّة موقفها من الحرب والعنف، لكن بطريقة بدت للبعض محتشمة “أيديولوجيًا” بالنّظر إلى طبيعة المرحلة التاريخيّة آنذاك، ثمّ بحكم البُعد اللامرئي الذي تُسبغه على كتاباتها ورسوماتها، حيث لم يكُن يهمّها كفنانّة وشاعرة إلاّ تصوير الحالة النفسية للإنسان خلال الحرب وقدرتها على تغيير أنماط تفكيره ونظرته إلى ذاته والمجتمع والعالم ككلّ. تخلّت إيتيل عدنان عن الكتابة بالفرنسيّة لصالح الإنكليزية بعد حرب فرنسا على الجزائر، إنّه موقفٌ يُسجّله التاريخ كانحياز لقضايا الشعوب المُستعمرة والمنكوبة من الآخر الاستعماري. وحتى وهي تكتب أعمالها الأدبيّة ويُترجم بعضها عربيًا، لم تكُن أشعار إيتيل عدنان قد اخترقت الآفاق، لا لكونها ليست مُهمّة، بل لصعوبة وجودها وتناثر أعمالها الشعرية بين لغاتٍ عدّة، ما يجعل متنها الشعري غريبًا عن القارئ العربي. وهذا الأمر بالضبط، هو ما يحدث عربيًا الآن، إذْ يكاد شعرها يكون غائبًا في العالم العربي ولا يحظى بالأهمية الكبيرة التي عرفتها أعمالها الفنّية. ورغم البُعد الجماليّ الذي طبع نصوصها الشعرية، في وقتٍ كان الشعر العربي مُتأرجحًا بين التنصّل من مفاهيم العروبة والقومية واليسار وكل ما له علاقة بالسياسيّ والأيديولوجي وبروز مجلّة “شعر” كقاطرة لصناعة حداثة شعريّة عربيّة، كانت إيتيل مشغولة في شعرها وكأنّها تعيش حداثة غربية بكامل وهجها ونضارتها، وهي ترصد في قصائدها جماليّات الطبيعة والأثر.
لقاء الصدفة
هل كان العالم العربي سيعرف إيتيل عدنان لولا صدفة اللقاء مع الشاعر اللبناني يوسف الخال في “غاليري وان” وعزمه على تعريب بعض قصائدها ونشرها في مجلة “شعر”؟
الحقيقة أنّ ذلك اللقاء ظلّ مجرّد محطّة في حياة إيتيل الشعرية والفنّية، بحكم التغيّرات التي طالت سيرتها الإبداعية في فرنسا وأميركا، والتي قادتها إلى أنْ تكون أكثر فنّانة عربيّة ثباتًا وتجذرًا في حداثة الفنّ العربي. لا سيما وأنّ أعمالها الأولى لم تعرف أيّ تماهٍ مع ما كانت تشهده الحركة الفنّية العربيّة خلال الخمسينيات والستينيات، إذْ أبصر النقاد في أعمالها طريقة غير مألوفة في تطويع الكتل والألوان، غير مُهتمّة بما كانت يشهده الفنّ العربي من تغيّرات وموجات تجديد تتأرجح بين الأصالة والمعاصرة وما يدور في فلكهما من خطاب جماليّ بين العودة إلى التراث العربي الإسلامي أو الدخول في معترك الحداثة الغربية بأشكالها ونماذجها وقوالبها وحواملها وتقنياتها وموضوعاتها.
لذلك بدت الطفلة إيتيل عدنان وكأنّها تعيش في جزيرة فنّية تنأى بنفسها عن زعيق تلك الثنائيات التي شغلت ولوقتٍ طويل الحركة الفنّية العربيّة، حيث اكتفت إيتيل بجسدها وما تراه عيناها وما تشعر به لحظة الافتتان بالطبيعة والأمكنة المسحورة بنور المُتوسّط. لذلك فإنّ جلّ رسوماتها وأعمالها الفنّية يكاد النور لا يُفارقهما، بل إنّ الافتتان بتوهّجات اللون وألقه يبدو بارزًا حتى في معارضها الأخيرة بباريس وغيرها. يتشكّل العمل الفنّي عندها من وحدات تركيبية وعناصر جماليّة رافقت مسارها الإبداعي منذ مرحلة الشباب. تلك الشمس المُتوهّجة وذلك القمر المائل إلى اللون الرمادي وتلك الجبال الشامخة أبد الدهر تُثير في المُشاهد فتنة المجهول وتجعل العين تدخل وتسرح في صمت الطبيعة وابتهاج الألوان. إنّها ترسم وتُلوّن لا كما تُحدّد ذلك قواعد الفنّ. بل إنّ للون دلالة نفسية. إنّه سفرٌ في شغاف الجسد وتوقُ الروح إلى مسكنها. هكذا تغدو العين طرفًا مُشاركًا في صناعة العمل الفنّي وتصدّر مركز اللوحة. إنّ شموس إيتيل عدنان تُعطي الانطباع الأجمل لكل من يُحدق فيها باسمًا، إنّها إشارة إلى الحياة وإلى فصول جديدة من سيرة الكائن على درب الحياة. ففي أعلى اللوحة يتغيّر لون السماء من الأزرق مُتّخذًا ألوانًا عدّة ومُتنوّعة، وهي دلالة رمزيّة على قلب عنصر اللون في العُرف الأكاديميّ. ثم إنّ اللون في أعمالها يبرز كفعل مُقاومة وحياةٍ لمُختلف أشكال الموت. ولا يرتبط بدلالاته العادية. فهو يلعب دور المُوجّه للعين ويُعطي الانطباع الأوّل لتلك الروح المرحة والمُتوهّجة والساحرة والطفولية في شخصية إيتيل عدنان. وليس ببعيدٍ أنْ تكون أغلب أعمالها مُستلّة من طفولتها وعلاقتها مع المُحيط والجبال والشمس والقمر والكتل والخطوط، لأنّها عناصر ثابتة في اللوحة. إنّها تتجذر في رحم اللوحة مثل نبتة ظلٍّ تكاد لا تُفارق الأصل. وحتى إنْ غابت في بعض المعارض، تظلّ بشكلٍ أو بآخر حاضرة كعلامة على الوجود أو أثر على الافتتان بالحياة. وفي هذا الأمر، ما يُفسّر تعلّق إيتيل عدنان بالعالم العربي، فرغم كتابتها بالفرنسيّة والإنكليزية واتقانها للتركية واليونانية وعيشها بشكلٍ دائمٍ وأبديّ بين باريس وأميركا، إلاّ أنّ قلبها ظل مطلًّا كل مساء على طفولتها العربيّة الأولى.
*ناقد مغربي.
ضفة ثالثة
—————————
قرن من إيتيل عدنان… جبل يترك وراءه جبال/ نادين نور الدين
توفيت إيتيل عدنان، الشاعرة والكاتبة والفنانة التشكيلية السورية/اللبنانية/ الأمريكية المؤثرة، يوم الأحد عن عمر يناهز 96 عاماً، بسلام في منزلها في باريس. تترك وراءها شريكة حياتها الفنانة السورية اللبنانية الشهيرة سيمون فتال.
على مدار حياتها التي امتدت لما يقرب من قرن من الزمان، عاشت عدنان حيوات متعددة، من خلال عملها في الصحافة والتدريس والكتابة والرسم والشعر، كان لها تأثير عميق على العديد من الناس. يستمر سيل من عبارات التحية والذكريات والتعازي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يحتفل العديد من الناس بحياتها، اعتزازاً بذاكرتها، ويأسى الكثيرون على فقدانها في جميع أنحاء العالم.
تأتي جوانب حياتها المهنية التي لا حصر لها جزئياً من هوياتها المتعددة، حيث نشأت في أسرة مختلطة، مع والدتها اليونانية المسيحية من سميرنا (الآن مدينة إزمير) ووالدها السوري المسلم من دمشق، والذي كان ضابطاً عثمانياً رفيع المستوى، في مدينة بيروت التي كانت عزيزة على قلبها. ألفتها للغات ومعتقدات متعدّدة منذ صغرها، بالإضافة لفترة إقامتها في لبنان، شكلّت هذا التكوين المميّز لهويتها.
كانت تعتبر سنّها “هدية من السماء” (un cadeau du ciel) بفضل المنظور الذي قدمه لها. في التسعينيات من عمرها، زعمت أن لديها منظوراً فريداً لبلد لبنان، لأنها ولدت عام 1925، بعد سنوات قليلة من تأسيس الدولة اللبنانية. اعتبرت نفسها حارسة ذكريات لبنان، في مقابلة مع ريكاردو كرم في عام 2019، وتحدثت عن نشأتها في لبنان كوزموبوليتاني، وشهدت فترات عديدة من تاريخه. ووصفت رؤيتها لفترة الحكم الفرنسي، الحرب العالمية والجيل الأول من النساء اللاتي استطعن السباحة واستطعن العمل، وشهدت تحرير نساء جيلها.
شاركت بنشاط في تحرير جيلها، وكانت من أوائل النساء اللبنانيات اللواتي عملن في مكتب. في سن السادسة عشر عملت في مكتب صحفي، حيث كتبت عن نهاية الحرب. رسمت عدنان الحرية من خلال لوحاتها النابضة بالحياة، وهي ترسم وتنشر ألواناً مشبعة من الحيوية بسكين لوح الألوان الخاص بها. كانت تؤمن أن الحرية هدية يجب كسبها، بالنسبة لها، كان الحب يولد بين حريتين. حريتها المطلقة تكمن في قدرتها على الحفاظ على روحها الطفولية وقدرتها على الحلم. في نفس المقابلة، وصفت حلمها بعالم أفضل: “أحلامي ليست لي، لكن بالنسبة لبيئتي، أحلم بلبنان متصالح مع ذاته، ولبنان على مستوى جودة الناس التي تعيش في هذا البلد”. شعرت طوال حياتها بالمسؤولية تجاه لبنان والعالم العربي، وشيدت جبالها من حولهما.
تلقت إيتيل عدنان تعليمها في مدارس فرنسية في بيروت، ودرست الفلسفة في جامعة السوربون في باريس. انتقلت لاحقاً إلى الولايات المتحدة للحصول على دراساتها العليا في الفلسفة في جامعة كاليفورنيا، بيركلي وهارفارد. درَّست عدنان بتدريس الفلسفة وكتبت بشغف القصائد والمقالات والمسرحيات لتلقى استحسان النقاد على نطاق واسع. عادت إلى لبنان عام 1972، حيث عملت كمحررة ثقافية في مجلتين ثقافيتين، الصفا ولوريان لوجور (L’Orient le Jour)، والتقت سيمون فتال في بيروت. هربت مع فتال من الحرب الأهلية إلى باريس، حيث كتبت روايتها الحائزة على جوائز ست ماري روز (Sitt Marie-Rose)، والتي أصبحت من كلاسيكيات أدب الحرب. تصف سيمون فتال كتاباتها بأنها “قاطعة وشجاعة وشرسة”، وصف مناسب لشخصيتها وعملها عبر التخصصات.
في مقابلة مع متحف الفن الحديث في سان فرانسيسكو عام 2018، وصفت أول لقاء لها مع الرسم في سن العشرين، عندما ذهبت للدراسة في فرنسا. ذهبت إلى متحف اللوفر ووصفت أنها كانت “بريئة تجاه الفن” فأثار إعجابها لحدّ بعيد. حول ذلك قالت: “لقد اعتبرت نفسي محظوظة لأنني لم أتواصل مع الفن من قبل. لقد ضربني بكامل القوة”! على الرغم من أنها وصفت حبها للرسم في المدرسة، إلا أن إيتيل عدنان لم تبدأ الرسم إلا في منتصف الثلاثينيات من عمرها، وكانت الفنون البصرية مرتبطة بكتابتها. رأت أن الكتابة هي الرسم والرسم هو كتابة، وجوهر كل منهم شكل من أشكال تصوير الروح، يتم إنشاؤه للآخرين في حوار مستمر.
شعرت عدنان بالألفة في تضاريس بيئة حضرية محاطة بالطبيعة. ووصفت العثور على الجمال في البيئة الطبيعية الحضرية في سان فرانسيسكو، حيث كانت تزور ريدوود ويوسميتي وجبلها، جبل تامالبيس، الذي أصبح مصدر إلهام رئيسي لعملها كان يذكّرها ببيروت العاصمة القريبة من الجبال. في كتاباتها ورسوماتها ولوحاتها، كانت الجبال كائنات حسية، يُنظر إليها في التقاء السماء والأرض، وتثور في البراكين.
تكرر ظهور جبل تامالبيس في لوحاتها، في كل مرة بألوان وأشكال مختلفة. عن تامالبيس، أخبرت سيمون فتال أن عملية الرسم والكتابة أعطتها اليقين الضمني لما هو الجبل، وما يمكن أن تراه، لكنها نسبت استقلالية الوجود إلى كل من الجبل وتصويرها له. وظفت لوحة ألوان مشرقة وغنية ربما تأثرًا بهويتها “كفنانة من كاليفورنيا”، حيث وجدت الفرح في خلق الأشياء بالألوان. عندما كانت طفلة، أرادت عدنان أن تصبح مهندسة معمارية. عند الفحص الدقيق، تكشف لوحاتها عما تسميّه سيمون فتال “مفردات مهندس معماري”، والتي يمكن رؤيتها في نهجها للتركيبات المصممة بعناية.
من خلال اللوحات والرسومات والمنسوجات وleporellos (كتيبات صغيرة مطوية بالكونسرتينا)، نسجت عدنان القصص والقصائد بلغتها التجريدية المميزة المضيئة. في مقابلة مع مجلة ابولو، تصف استحضار مشهد داخلي “منظر طبيعي بداخلي”. أقيمت معارض لأعمالها في مؤسسات في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك متحف سان فرانسيسكو للفن الحديث، وزنترم بول كلي، بيرن، ومعهد العالم العربي، باريس وصالات غاليري سيربنتاين في لندن. عرضت أعمالها في دوكومنتا 13 في كاسل، ألمانيا، بينالي الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، وبينالي ويتني في نيويورك.
الفنانة والكاتبة الأمريكية اللبنانية في منزلها في ورشة العمل الخاصة بها في 8 أبريل 2015 في باريس، فرنسا. تصوير كاثرين بانتشوت / سيغما عبر Getty Images
يتم عرض أعمال عدنان حالياً في متحف سولومون ر. غوغينهايم في نيويورك، في معرض “إيتيل عدنان: مقياس الضوء الجديد (Etel Adnan: Light’s New Measure) وفي معرض غاليري صفير-سملر في هامبورغ، في معرض للأعمال الجديدة بمناسبة جائزة لتفارك (Lichtwark) 2021 التي ستمنح لعدنان بعد وفاتها في 18 نوفمبر.
من منطلق الالتزام والمسؤولية تجاه العالم، أعطت عدنان بسخاء من وقتها وهباتها ونفسها، بوتيرة أكثر حدّة وإلحاحًا في سنواتها الأخيرة. كتبت عن الكون والحياة والموت والطبيعة، والمدن، والجبال، والنساء. في صباح الأيام بعد وفاتها، يرثي الكون “صديقته المفضلة”.
اعتقدت عدنان أن الذاكرة تعمل ضد الموت، فالذاكرة الجماعية تحفظ من الماضي وتعمل فيما وصفته بالجنون المتنكر (la folie déguisée). في مقابلتها مع ريكاردو كرم، سألها كيف تريد أن يتذكرها العالم، قالت إنها تريد الناس “أن يتذكروا أنني أحب العالم، وأنني أحب الكون وأن البقاء على قيد الحياة كان هدية من الكون”
رصيف 22
———————————
قلبها يشبه علبة الألوان.. في محبة إيتيل عدنان/ رشا عمران
رغم أنها لم تكتب حرفًا واحدًا (أدبيًا) باللغة العربية، لغتها الأم، إلا إن إيتيل عدنان التي رحلت قبل أيام عن ستة وتسعين عامًا (1925- 2021) كانت وما زالت تعد، عربيًا ودوليًا، إحدى أهم وأشهر الشاعرات العربيات في القرن العشرين وما تلاه، ولعل هذه واحدة من المفارقات المدهشة التي لطالما ميزت شخصية إيتيل عدنان، فهي ابنة والد سوري مسلم، ووالدتها مسيحية يونانية، لكنها ولدت ونشأت في لبنان، الفرانكوفوني بقدر ما هو عربي، وحملت جنسيته، ثم أثناء الحرب اللبنانية انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية وحملت جنسيتها، ثم عاشت فترة في اليونان، وهي أيضًا تحمل الجنسية اليونانية، لتستقر أخيرًا في فرنسا حيث سيكون مستقرها الأخير، ومنذ سنوات طويلة من حياتها لم تتفارق عن شريكتها التي رافقتها في كل تنقلاتها، التشكيلية والنحاتة والخزافة سيمون فتال، وهي مثل شريكتها من أصل سوري نشأت في لبنان ثم انتقلت إلى أميركا لتتعرف فيها إلى إيتيل عدنان ثم تبدآن معًا رحلة شراكة استثنائية في الحياة والفن، ذلك أن إيتيل عدنان التشكيلية لم تكن أقل أهمية من إيتيل عدنان الشاعرة والكاتبة، بل ربما أضافت تجربتها التشكيلية إلى شعرها تلك البراءة النادرة التي تميزت بها كتاباتها، أو ربما اختلطت تجربتاها معًا، بحيث لم يعد ثمة حدود للفصل لديها بين الشعر والتشكيل، فهي في الحالتين تعصر قلبها، وتضع تلك العصارة النادرة في مواجهة العالم، لنقرأها شعرًا، ليست البراءة سوى واحدة من صفاته، فشعر إيتيل مشحون بعاطفة بالغة القوة، بقدر ما هو مشحون برؤية خاصة للعالم وللكون وللطبيعة وللحب، رؤية ملونة، إن صح التعبير، ففي كل قصيدة لها سوف تدهشنا بقدرتها على الكشف عن ألوان الكون بكل ما فيه، حتى في كتابتها عن الحرب وعن الشرور ثمة لون لكل تفصيل، فإذا كان يقال عن قصيدة النثر إنها تملك موسيقاها الداخلية، فإن قصيدة إيتيل عدنان تملك ألوانها الداخلية، الألوان الخام، بخفتها وعفويتها الأولى، تمامًا كما ألوانها في لوحاتها وأعمالها الفنية، إذ يخيل إليك أن إيتيل لم تكن ترسم (رغم أن الاحتفاء العالمي بها كتشكيلية فاق الاحتفاء بها كشاعرة بدرجات)، بل تلعب بعلب الألوان المختلفة، تجرّب أثر اللون على القماش أو على الكرتون الأبيض، كما لو أنها تفتح أصابع الألوان وتبدأ بعصرها على القماش دون أي تخطيط مسبق، هكذا يظهر اللون لديها شديد الوضوح، كما لو أنه السماء أو البحر أو الشجرة أو الجبل، كما لو أن الحياة لديها تنتقل بين لون وآخر بتلقائية فاتنة، دون أن نرى الخطوط الفاصلة بين لون وآخر، نرى خفة الانتقال وخفة اللعب، لكنه اللعب بالغ الجدية، تماما كما الأطفال، يمارس الأطفال ألعابهم وهم في كامل جديتهم، هم لا يدركون أنهم يلعبون، هكذا، بنفس الطريقة، أظن أن إيتيل عدنان كانت تكتب وترسم، هكذا كانت فرادتها، وهل ثمة ما هو أكثر فرداة في الفن من الانشغال به بوصفه لعبة بالغة الجدية؟!
لكن، خلف ذلك اللعب الإبداعي كانت هناك شخصية مهمومة بالشأن الإنساني ومنشغلة بالشأن السياسي العالمي وبقضايا البشرية وحق الإنسان كفرد وحق الجماعات في تقرير مصيرها، وكانت منغمسة تمامًا في تفكيك ظاهرة الكولونيالية ونقدها، وتأثيرها على حاضر العالم ومستقبله، وكانت تساؤلاتها عن العالم المتقدم الحضاري الذي يقدم نفسه كعالم معني بحقوق الإنسان، قادمة من وعي بتاريخه الإستعماري، وتسلطه على الشعوب الفقيرة، وربما تعدّد انتماءاتها وهوياتها الشخصية، حولها إلى كائن أممي، أو إلى كائن عابر للانتماءات كلها بما فيها الجنسية، مثلما جعلها إتقانها للغات عدة ( فرنسية ويونانية وتركية وعربية وإنكليزية)، قادرة على التماهي مع جميع البشر، كما لو أن كل ذلك كان بمثابة نافذة تطل على الكرة الأرضية، تخرج منها وتنتقل بخفة عصفور من مكان لآخر، فجذورها المتنوعة تلك ربما هي ما كونت شخصيتها المتفردة، الناقدة والرائية لخراب العالم الذي صنعته الحروب، والمتفائلة في ذات الوقت بمستقبل معافى قد يأتي يومًا ما، فـ”الحرب أداة تنظيف للبشرية”، كما قالت ذات مرة، غير أن هذا الانشغال لم يكن يومًا انشغالًا أيديولوجيًا، بقدر ما كان عاطفيًا ومثاليًا وآتيًا من حلمها بعالم خال من الحروب والقهر والظلم والعبودية والتمييز، عالم ملون بألوان حارة وطازجة كما هي ألوانها وكما هو شعرها وكما هو قلبها الذي لم يفقد براءته وطزاجته حتى وهي تعاني من المرض في سنواتها الأخيرة، حتى وهي تطلب من طبيبها أن يخفف ألمها بالموت الرحيم قبل عدة أسابيع حين أصبحت عاجزة عن الرسم وعن الكتابة، كما لو أن هذا العجز عن فعل الإبداع كان هو الموت لها، كما لو أن الحياة هي أن ترسم وتكتب فقط، هي التي عاشت كل هذه السنوات الطويلة دون أن يشكل التقدم في السن أي أزمة لها، استنفدت طاقتها الإبداعية حتى النهاية، عصرتها تمامًا كما تعصر علب ألوانها.
ما الذي جعل من إيتيل عدنان تصنف كأهم وأشهر شاعرة عربية معاصرة وهي التي لم تكتب حرفًا واحدًا بلغتها الأم؟ وهل تكفي الجذور الأولى لشيء كهذا؟ لماذا لم تنصنف إذًا كأهم شاعرة يونانية كون نصف جذورها من هناك؟ وإذا ما كانت اللغة لدى المبدع هي الهوية فهوية إيتيل فرنسية أو أميركية، وهما اللغتان اللتان كتبت بهما كل أعمالها الأدبية، من أين أتى هذا التصنيف إذًا؟ في ظني أن حياتها المبكرة في بيروت واشتغالها بالصحافة فيها، حتى لو كانت صحافة فرنسية، شكلت لديها أرضية ثقافية أخذتها نحو أمميتها من جهة، ومن جهة أخرى جعلتها دائمة الصلة بالحدث العربي السياسي والإجتماعي، فهي كتبت عن الحرب الأهلية في لبنان، وكتبت عن قدر هذه المنطقة المبتلية باستعمارات متعددة، كتبت بالفرنسية وتخلت عن الكتابة بالإنكليزية احتجاجًا على التدخل الأميركي في العراق، كتبت عن الاستعمار وظله الثقيل وأثره المديد على بلاد العرب، ومن كان على تواصل معها في باريس خلال العقد المنصرم، لا سيما من السوريين، يحكي عن اهتمامها بالحدث السوري، وانشغالها بمآلاته ونتائجه، وحديثها المستمر معهم عن مناصرتها لحرية السوريين، وألمها من رؤية الخراب الحاصل. يحكي أصدقاؤها اللبنانيون أيضًا عن حزنها لما وصلت إليه بيروت من خراب، وكأنها لم تمت بسبب التقدم في السن بل بسبب التقدم في الحزن على حال البلاد التي أحبتها.. أفلا يكفي هذا الحب كي تصنف أهم وأشهر شاعرة وفنانة عربية معاصرة مهما كانت اللغة التي تكتب بها؟!
لم يتح لي يوما اللقاء بإيتيل عدنان، لكنني لا أتذكر أنها غابت يومًا من ذاكرتي، كما لو أنني التقيتها عشرات المرات، كما لو أن حديثًا طويلًا جرى بيننا ذات يوم غيّر من رؤيتي للشعر وللفن وللنضال، هل يمكن للإبداع أن يكون بالغ التأثير أكثر من ذلك؟! وأعترف أنني كنت مرارًا سوف أكتب عنها، وفي كل مرة أقول ربما ألتقيها ذات يوم في باريس وأكتب عنها، لكن ذلك لم يحدث يومًا، ولا أعرف إن كانت ستهتم لو أنني كتبت عنها أم لا، لكنني أثق أنها، حيث هي الآن، وهي تكتشف نبع الألوان الأول، سترى ذلك الخط الطويل الذي يربطنا، نحن من نراها أجملنا وأهمنا، بكل ما أبدعته خلال حياتها الطويلة، وبتلك الطفولة التي نحسدها عليها حتى عند رحيلها.
ضفة ثالثة
——————————
إيتيل عدنان… الجبل يرسم غيومه/ محمد شرف
رحلت إيتيل عدنان بعد عمر مديد. يُخيل إلينا أن روحها القوية جعلتها تتعدّى السنين وتتجاوزها، وصولاً إلى قمة “جبل”، كذاك الذي رسمته ذات يوم مع سيمون فتّال، باللون الأصفر، وسماء ورديّة وزرقاء، وكأن النهار والليل يندمجان فيه، وذلك عبر أسلوب طفولي بسيط، لكنه يعبق بالحياة وبالعودة إلى الجذور:
“بزغت الشمسُ
وغـَرُبَ الألم
نافذة ٌ تطلّ على الجبل الوحيد
صرتُ شجرةً
أنزلت عن صليبها
رُدّتْ
إلى جذورها”.
لن يكون من الضروري العودة إلى أصول إيتيل عدنان، التي صارت معروفة للجميع، لكثرة ذكرها خلال السنوات الماضية، وفي الفترة الأخيرة بعد وفاتها. لكن ينبغي القول إن سلالة الإغريق والروح الغربية إجتمعتا فيها، وأدى تنقلّها بين بلدان في قارات ثلاث، آسيا وأوروبا وأميركا، إلى تكوين ثقافة متنوّعة ومتعددة المصادر. هذا الأمر يصبح مفصلياً وذا أهمية جليّة لمن شاء أن يكتب شعراً أو نثراً أو يرسم ويلوّن. مزيج من هذا النوع كان من شأنه أن يجعل من الهمّ الإنساني، في شموليته، أحد صفات الكاتبة والشاعرة والفنّانة، ولو أن ثمة فروقاً في التعبير يتطلّبها كل فرع من هذه الفروع، المتّصلة حيناً، والمنفصلة عن بعضها البعض في أوقات أخرى. في هذا “الإشتباك” بين المؤثرات المتعددة، إنحازت، كأي شاعر حقيقي، لعذابات الإنسان وآلامه، وإلى الناس المقهورين، لذا، فقد كتبت عن الثورة الفيتنامية وحرب الجزائر وإحتلال العراق، والقضية الفلسطينية في طبيعة الحال، وهي التي ظلّت لازمتها الدائمة، إضافة إلى تطرّقها إلى تراجيديا العرب في العصر الحديث.
بين البحر والجبل
لو شئنا الإنتقال، من دون مقدّمات، إلى إهتمامات الشاعرة في المجالات ذات الطابع الشعوري، لقلنا إن إيتيل عدنان التي ذكرت الجبل مالت إلى البحر في شكلٍ موازٍ. البحر والجبل اللاين يتجاوران، كما في “المعجزة” اللبنانية، أو يتباعدان ليشكلا نقيضين، لطالما خُيرت الخليقة في تفضيل أحدهما على الآخر، في حوارات متلفزة سطحية المستوى، يصبحان، من حيث مدلولاتهما الرمزية والشعورية، رافدين شعريين وتشكيليين لدى الشاعرة – الفنّانة. تقول إيتيل عدنان إنها كانت تسبح في سن الرابعة، وتضيف: “كنت، مذّاك، أشعر وأحس أنني أسبح في وجود مطلق.. كتبت في شعري ما معناه: ما أحببت الرجل لأنني أحببت البحر أكثر من حبي للمخلوقات الأخرى”. كتبت أولى قصائدها عن البحر وهي في سن العشرين. اهتدت حينذاك إلى الشعر بالفطرة، وعادت إلى البحر غير مرة كلّما إصطدمت بحضوره المادي، أو بما يذكّر به. وهي تضيف في مكان آخر، ولو في إتجاه قليل الإختلاف، لكنه ذو علاقة بالحقيقة الوجودية: “وطّدت علاقة سليمة بالكون. هذا أمر أنا متأكدة منه. أتنقّل بحريّة بين الشمس والقمر، وأذهب أبعد وأغوص في ثقوب سوداء وأخرج منها سليمة”.
في رحاب التشكيل
وكما تنقّلت إيتيل عدنان، ذهنيّاً، بين عناصر الكون، تنقّلت أيضاً بين الكتابة والرسم. ولو شئنا البحث عن علاقة تجمع ما بين شعر عدنان ورسومها، لكان الأمر سهلاً من جهة، وأكثر تعقيداً من جهة أخرى. هذا الحكم يحيلنا إلى تساؤل، قد يبدو مستهلكاً، لكنه لطالما خطر في بالنا: أيهما أكثر قابلية للتعبير عن كوامن النفس: اللغة أو التصوير التشكيلي؟ ويبدو أن الشاعرة شاءت، بعدما ركبت موجة الشعر، أن تبحر أيضاً في عالم التشكيل، مسلّحة بإستعداد فطري وبحريّة كاملة، من دون قيود أو إلتزام بمعايير من شأنها أن تنتقص من إمتدادات الشعور وآفاقه. هذه الحرية، الشبه مطلقة (على أساس أن المطلق يبقى في نهاية المطاف مستحيلاً، كما نعتقد) شكّلت أحد أسلحتها التي رافقتها طوال مسيرتها الفنيّة، ولم تتخلَ عنها يوماً.
كتبت إيتيل عدنان قبل أن ترسم، كما تقول، وهي تعتبر أن الكتابة والرسم، بداهة، يصدران عن روح واحدة، إنما يتم التعبير عن هذه الروح بوسائل مختلفة. الكشف عن كامل العلاقات التي تجمع بين الإثنين ليس في مقدور أحد أن يفعله. وهي تضيف في هذا المجال: “نحن نقوم بعمل أشياء كثيرة لا ندركها. نحن نمشي مثلاً، ولا نعرف ميكانيكا المشي في جسمنا. حتى الإخصائي لا يعرف ذلك على نحو نهائي. هناك سر دائماً.. في الكون أسرار كثيرة، ونحن لا نعرف إلاّ القليل القليل من الحقائق”. لكنها، كما يبدو، اعتبرت أنّ الصورة أقوى من الكلمة، فهي أيضاً لغة، وفيها من الفلسفة الحيويّة ما يمكّنها من إحداث تأثير أكبر على الآخرين. لذا، يمكننا ملاحظة إهتمامها الزائد بالتشكيل خلال سنوات حياتها الأخيرة.
كانت الفنّانة تكنّ تقديراً خاصاً للرسام الإيطالي فرا أنجيليكو، الراهب الدومينيكاني، الذي سعى إلى ربط المبادئ التصويرية لعصر النهضة، كالإنشاءات والمنظور وتمثيل القامة البشرية، بقيم الفن القديمة في العصور الوسطى كالوظيفة التعليمية والقيمة الصوفية للضوء. تصوّرت إيتيل عدنان الفنّان وهو منهمك في رسم الملائكة، التي لا يرسمها، كما تعتقد، بل يخلق تلك التي فات الله خلقها، ويرشّ الذهب فوق رؤوسها. كانت إيتيل عدنان تتلمّس واحداً من جدرانه المزدانة بالتصاوير (مع العلم أن تلمّس الجدران ممنوع في الواقع، لذا علينا أن نشير إلى المعني المجازي للعبارة)، فتشعر وكأنّ ملاكه المرسوم قد بُعث حيّاً. أناس مثل أنجيليكو لا يفدون إلى هذ العالم جماعات، كما تقول. وفي ما يخص الفنانين الحداثويين الذين تأثرت بهم، تلفت عدنان إلى حبها العظيم لبعضهم مثل كازيمير ماليفيتش وبول كلي وفاسيلي كاندينسكي، وكذلك الكندي أغنيس مارتن، والألماني سيغمار بولك، أما الفرنسي نيكولاس دي ستايل (1914 – 1955) فهو يمثّل نقطتها المرجعية الواضحة، بحيث أن أعمالها تذكّر الناس به، بالرغم من أنهما غير متشابهين على الإطلاق. أمّا من الناحية التقنيّة، ففي حين استخدم دي ستايل السكين في الكشط والتلوين، كانت الفنّانة أستعملتها في رسوماتها الزيتية.
“أكتب ما أرى، وأرسم ما أنا عليه”
تناولت الفنّانة في أعمالها موضوعات متنوّعة مثل الهويّة والحرب والإنقسامات التي تحدث في وطنها، مستلهمة ذلك من تجربتها الشخصيّة، ومما يحوطها على حدٍ سواء. تستعير الكاتبة – الرسّامة اقتباساً من “كتاب البحر” تذكر فيه: “أنا أكتب ما أرى، وأرسم ما أنا عليه”، ثم توضح في مكان آخر: “إن كتاباتي ولوحاتي ليس فيها إتصال مباشر بما هو في ذهني، وهما بالتأكيد يتأثران ببعضهما، حيث إن كل ما نقوم به يرتبط بشيء فينا، ويتضمّن كل ما قمنا به. لكن بشكل عام، فإن كتاباتي مرتبطة بالتاريخ كما هو (ولكن ليس فقط)، ورسومي هي إنعكاس لحبّي الكبير للعالم، والسعادة التي ستكون، وللطبيعة والقوى التي تشكّل مناظرها”.
إيتيل عدنان هي رسّامة الشعر، إذا جاز القول. عالمها التشكيلي عابق بالألوان التي لم تعرف الكمود إلاّ لماماً. العذوبة والشفافية التي تميّز عالمها الشعري يمكن رؤيتها، من دون جهد، في لوحاتها. يقول الناقد الفرنسي جان – مارك بودسون، الأستاذ الزائر في جامعة لوفان الكاثوليكية: “إن ما يجذب العين في لوحات إيتيل عدنان، قبل أي شيء آخر، هو الفرح وسعادة التأمّل. إلاّ أن هذه البساطة المطبوعة بالفرح، التي تنكشف عن الإنطباع الأول، لن يكتمل معناها، ولن تترك بصمة فينا، إلاّ إذا وجّهنا إنتباهنا إلى تنوّع شخصيتها وعمقها وحيويتها”. ويتحدّث الناقد، أيضاً، عن تلاقي “عمل اليد وعمل الروح في لوحاتها، على غرار الحركة والكلمة اللتين أصبحتا محط النظر”. لا بد هنا أن نتذكّر، مرّة أخرى، عبارة الفنّانة الأثيرة: “أرى لأرسم، وأرسم لأرى.. إن الرسم يعبّر عن مكاني السعيد، ذلك الذي يشكّل واحداً مع الكون”. هكذا، فحين تقول، في مكان آخر، أنها سافرت في غضون ثوان إلى حافة الكون، أو “أنا مشهد ومياه جارية” تصبح الصورة التي تسمّيها حقيقة شعرية أكثر غموضاً من أن تمثلها قماشة. أمّا حين تقول: “الجبل يرسم غيومه / يرتعش الضوء فوق أشجار الصبّار..”، فيخيّل إلينا أن لوحاتها العديدة التي ظهر فيها جبل، أو جبال، تستجيب لهذه الصورة الشعرية، من دون أن يكون ذلك ترجمة مقصودة للصورة الشعرية. وكما كان شعرها يحمل نقاءً وشفافية، فقد سارت لوحتها على الدرب ذاتها، فلا أثر لشيء في اللوحة من خارج المشهد. لوحة من دون حضور بشري، لا شيء يعكّر صفو اللون فيها، إذ لا نرى حتى توقيعها، كما هو سائد في عالم التشكيل، وهو ما لاحظناه خصوصاً في السنوات الأخيرة، إذ يبدو أن المشهد يحمل صورتها: “تلك الجبال والبحار هي وجهي الآخر. الوجه الأكثر ثباتاً في الزمان”.
نهاية، من الصعب أن تُصنّف أعمال إيتيل عدنان ضمن إتجاه فني محدد. كانت تبحر بين الأساليب أحياناً بحسب ما يتطلّبه الموقف الشعوري. من ناحية أخرى، ليس من السهل تأطير لوحاتها في زمن محدد. كانت الفنّانة تفضّل الأحجام الصغيرة، إلاّ أن ذلك لم يقف حاجزاً أمام الروحية المنبعثة من المساحات الفارغة، بالرغم من صغر حجم اللوحة. وهي، حين ترسم المشاهد الطبيعية، والجبل والبحر من ضمنها، تلجأ إلى فرشاة عريضة ومساحات لونية مغمورة بالضوء. قد نرى لديها بعض الإشارات إلى الواقع، في حين أن أعمالاً أخرى تقترب من التجريد. هكذا، بقيت الفنّانة خارج المدارس والنظريّات الفنيّة، وهي تعي، في طبيعة الحال، أبعاد تلك النظريّات وأهمية الإتجاهات التي تعددت وتمازجت خلال العقود الماضية، لكن اللوحة لم تكن، بالنسبة إليها، سوى تجربة، وليس مجرّد معرفة: “لا يكفي أن نعرف، بل أن نعيش تجربة ما نعرفه”، كما كانت تقول.
المدن
————————–
========================
مختارات شعرية ونثرية لإيتيل عدنان رفقة مترجمين عدة
————————-
أزهار كبيرة تسقط بعد الأمطار (مختارات شعرية)
ترجمة عن الفرنسية: خالد النجار
يوم في نيويورك أو من ألف إلى ياء
أ
هل تؤثر
عليّ
الغراب والبقرة
أنا:
اللغة
والغيمة؟
ب
نيسان
أقسى الشهور
كانون الأوّل
الأكثر عتمة
سماء الغبار الذرّي
والإيست ريفر
اختفيا
ومانهاتن تعلو
من جديد
مكان
الشمس
ت
أزهار كبيرة
تسقط
بعد الأمطار
وصموئيل بيكت
يشرب
شايه
في ركن شارعي
ووستر
وسبرنغ
ث
أخبار…
واحد
وثانٍ
حاكم المدينة مات
من أقصى الشرق
حتى الغرب
كانت القطارات
تسقط
قِطعاً
كما
قبلاً
سقطت مارلين مورو
ج
لرونالد
بنطلونات فضفاضة
للمستنقع قمر
بين رجليه
لاعباً
بالكرة
ح
قرشان
يلقيان فوق البساط
يجعلان امرأة
تنحني
مثل جندي
عاد
من الحرب
خ
هناك ضجيج كبير
في هذه الأزمنة
حتّى الملائكة
مغطاة الوجه
بالدّم
لو قلت لك أُحبّك
فهل تعتقد
أنّ القطارات
ستحلّق
في الليل
د
ليكن
أتيت
حاملاً فيك
المدرّج
حاملاً
القهوة
وأنا أضعت
مفتاح
الزّبدة
■■■
سحب تتمدّد
أيتها السحب التي تتمدّد حاملة الرصاص
إنّك تثقلين على هذه الأرض
كنتُ أردت أن أُغنّي أوبيريتات من نحاس
تحيّة لجبال السييرّا
وأمام الأجسام الميّتة
للأطفال الزّهور
ولكن كلّ شيء ينتهي إلى صراخ وصمت
الأجداد الجدد يثوون
في أسافل جبال أخرى
وفي قبور أخرى
مالكولم إيكس، مارتن لوثر كينغ
عبد القادر المتصوّف والمحارب
وأنتم يا قوّاد الهنود الحمر دموعكم
تشكل العواصف الكبرى
لكاليفورنيا
أجيء أقول لكم
أنّنا نقف وحيدين
سيّارات مصفّحة
تحشّ الحياة كما لو كان
حصاد موتى
أيها السائرون المتمردون الثائرون
المقيّدون الغاضبون
نشيد عقيم فوق شفاهكم
يمنح أضحية لإله السلام
الأخير
حتّى هذا الإله يجب أن نتخلّى عنه
لأجل الذرة التي تنبت فوق
سفوح غواتيمالا
أيتها الأمم الهندية الحمراء ضروريّة لنا
الحكمة التي تتنزّل
في رؤاكم اليوميّة
ها هي حالة أمّنا التي تشملنا:
الأرض
نحن جميعنا جزء فاعل
من عمليّة خلق مستمرّة
ثقل المياه التي تسقط لم يكن رعباً
ونحن لا نريد تفجير
ذرات ولا أقوام…
في خلايا السجون الأكثر عتمة
ثمّة نور يضيء
العالم
لا تكونوا آخر من يمارس الإبادة
من يقذف بأطفالنا
في المحرقة الكبرى
آه أيّها الجمال اللعين
الذي يسكن كلّ سلطة
*
أرى هنوداً حمراً يحملون
جسد تشي غيفارا
عبر غابات تذبل كما تذبل الورود
بسبب عبوره
عندما تأتي الأمطار السّوداء الشاسعة
ملائكة متراتبة تطلب
الغفران:
الجنس البشري كما تقول
في خطر.
ما الذي سيحدث للملائكة
عندما نزول نحن؟
أرى عيني أمّي الاغريقيتين
تنحنيان فوق احتضار
أبي العربي:
حضارتان تموتان معا
عاشقان غريبان كانا يقولان
لهذا العالم وداعاً…
لا أريد لكوكبنا نهاية
مثل هذه
كأنّما على مضض تقبلا السرّ الأكبر
لحظة الشروع في السفر الكبير
ونحن لسنا بدائيين لدرجة
نغسل فيها أقدام
الأقوياء
طالبين منهم أن يوفروا
قارّاتنا
أسلحتكم تزيل سلطتنا
لنقل لأنفسنا في وضوح جديد
أن المسيح لن يعود
أبدا
نحن وحيدون
وموزّعون في شكل أغصان عديدة
الشجرة حاملة الانساب تعبر
المحيط الكبير
ذهبت صديقتي إلى نيكاراغوا
تتعلم مناخاً
جديداً
هي لا تستطيع أن تعيش بعيداً
عن فصل خاص
هو فصل حبها
قرون من ممارسات محاكم التفتيش
لم تستطع هدم لغة
الرّيح
هي تدرك غياب
أميركا اللاتينية
إنما تعني
أميركا الهندية
جالسون نحن في غرفنا البائسة
نعدّ ثروات غائبة
مباراة كرة القدم هي إلياذتنا
والطائرة الرئاسية
بالنسبة لنا
بيد أنّه هناك
هناك حيث ترتعش الحرارة
تشرع السماء بالدّوران
لأنها قريبة من مناطق الاستواء
ثمّة شعوب عيونها
لا تموت أبداً
وهي تملأ الفضاء
الكبير
الهنود الحمر بصدد
المجيء
لديهم مناجل لقطع
الأعشاب العالية التي تغطّي
وجه الشمس.
■■■
هذه السماء الغائبة
ليس هناك ضفادع
في هذه السماء الوسيعة
ولا رسالات
ليس هناك سماء
داخل هذا الدّماغ
ولا كلمات
لا يوجد دماغ
في هذا الجسد
ولا روابط.
*
الروابي جافّة
والذّهب لا يجعل الحشائش
تنمو
أسود وفيلة
نفقت
*
هل كانت ذاكرتي منذ زمن طويل
أرضاً محروقة؟
الجفاف
في الرّوح
وفوق الأرض.
*
قتلوا رجلاً
بمضرب البيسبول
“آه” قال البوليس
“يا له من لعب سيّئ!”
*
لا أحد يعرف جمال
كاليفورنيا الكامل
بقدر ما أعرفه
إنّها آلهة عارية
من مناجمها
لها رائحة بنزين
بيد أنّها تتذكّر…
كل ما ينساه أي كان.
*
هم يتحدّثون عن الحريّة…
يربون قططاً لتغذية
الكلاب
ويقتلون حوت البالين
لتوفير طعام القطط
وهم يبكون الصّين
لأنّه لم يعد ثمة
هنود
في هذه النواحي.
*
أنا امرأة
أأكون الأرض الأمّ؟
أنا نصف الكون
ألا أصير أبداً كائناً مكتملاً؟
أنا الصّمت الذي يحيطني
أنا الحديقة الخاوية
أسرع عبوراً من غيمة
أنا نقطة.
*
عندما نكون على وشك الوقوع في الحب
في ذاك التشتّت
والانكسار
لا يصير للزمن قياس
بالنسبة للجسد
والريح تهب
في احتكاك خريفي
ثمة دائما دم
فوق بعض الطرقات
وصداقة الموت
الفاسقة.
*
ثمّة ضجيج
في قلوبنا
جيئة وذهابا
تنفّس غير مكتمل
بنياط مشدودة:
ألم ممض في المفاصل
والثنايا.
*
صف الجسد
إن استطعت
وستكتشف أن روحك
لا تمتّ للحقيقة بصلة
لأنّ المادّة
هي متاعنا الشخصيّ الحميم.
*
انظر: النيزك
هو صورة الموت،
إنّه ضوء يعدم نفسه
بعيداً عن منابته.
*
مشابه للغبش حيث
ينام المحيط الهادي،
عزلته مكونة من اشكال
رماديّة: إنه يبحث عن صوره الاستعارية
في الإلكترونيك، وهو لا يعيش
في غير شحوب الرّموز
*
هي، في النشيد الورديّ
لغرفة، حب
مقفر، وزمن الأشجار
الضّائع….
*
التلفزيون متعلق
بطرف غابة الوحوش
لا تدخل في الجوهر المقدّس
للحاضر.
■■■
العودة من لندن
1.
ألمح أثناء عبوري
شرخاً في نسيج
النّهار.
2.
يتناقص عدد الملاحين
والبحر ينتظر
نهاية الكائن الحيّ.
3.
سآخذ القطار بعد قليل
ثمّ سأوغل في الجدار
المغطى بالكروم الحمراء.
4.
غير وارد
النّزول إلى الحديقة
على الزّمن
أن يغادرنا.
5.
ضعوا تيجانا
ذهبية فوق رؤوسكم
فالجحيم ليس وحده
من يمتلك النّار.
6.
نسمّي التاريخ آباراً
مفعمة بالارتعاش الجنسي
وهذه الشجرة مشدودة
إلى ظلّها.
7.
اللّعنة جلبة،
انفصام، نظرة تنغلق
وضربة نتلقاها على الرّأس.
8.
بعض المقتنيات تموت
قبلنا، وقبل الحرب
كانت البيوت تنهار
تحت ثقل الأثاث.
9.
لا برودة في هذا الصيف
لا خبز أيضاً،
محاط بالثروة
ثقب قي خاصرة السفينة الفضائيّة.
10.
زاغ التفكير منذ اللحظة
الأولى قلت لكم امضوا
إلى الجبل فمن فوقه لن تروا أي شيء.
11.
الحمى أصابت الزمن والضوء يدهشه بريقه
الخاص
حينئذ يبدأ السؤال النّهائي
ماذا فعلت بطفولتي.
12.
يبدأ الانتباه من ضباب
لا يدرك، وفي أيام
المطر نصير نباتات.
13.
لا تضع تلك الرغبة في الوجود
التي تسبق الولادة يولد التاريخ
في أماكن لاماديّة ثمّ يتبع القدر.
14.
الحبّ هو تمرد الموت،
وبقاؤنا رهين
بقدرة الواقع على الانفلات
من هجمة اللغة.
15.
الكسل ذو التّأثير المسكر
هو خمرة الفقراء وأولئك الذين
يضلّون بينهم.
16.
ثمّة أشكال من الحبّ تتضخّم
كالسرطان ونحن نتشبث بها
كما يتشبث الجسد بمرضه والقمر بالشّمس.
17.
ونحن فضّلنا الغياب
والألم والصّمت على الرّغبة الوالهة
لرؤيتك
سوف نظلّ نسدّده إلى آخر الأبديّة.
18.
أريد أن أفكر كقارب نجاة
لفظته الأعماق إلى
السطح المضيء والقاتل
للبحر.
19.
لتعلموا أن بلاد الإغريق هي نفسها
مسرح وهناك صعد الفكر
فوق الركح
وأعشى أعيننا بصفائه.
20.
وهناك ألم حيث ذهبنا
في غفلة عن القوى في شباب
ضائع، وبضوابط غير مميّزة
وأيد خاوية.
————————–
بعض قصائدها بترجمة عيسى مخلوف
اللعنةُ ضوضاء،
فراق، نظرةٌ
تلتئم.
٭
بعض الأشياء تموت
قبلنا. قبل الحرب،
كان ثمة أثاث
في المنازل.
٭
يفتقد هذا الصيفُ النداوةَ.
لا خبز والرخاء يحوط
بالخبز، المكّوك الفضائيّ
يعاني من ثَقبٍ في بطنه.
٭
هَذَى الفكرُ منذ اللحظةِ
الأولى. قلتُ لكم: اذهبوا
إلى الجبل.
من هناك لا نرى شيئًا على الإطلاق.
٭
دُحِرَ الأطفالُ والنساءُ
والمقاومون. يا أصدقائي، تظاهروا
بأنكم بعدُ أحياء.
هذا ما يجلب لكم الحظّ.
استولت الحمّى على الوقت.
النور يُدهَش من لمعانه.
هنا يبدأ السؤال الأخير:
ماذا فعلتُ بطفولتي؟
٭
مصدرُ الانتباه
سحابةٌ دقيقة. أيام المطر
نستحيلُ نباتات.
٭
لا تفقدوا الحاجة إلى الانوجاد،
الحاجة السابقة للولادة. يولد التاريخُ
في الأماكن غير المادية،
كالقدَر.
٭
الحبّ هدمٌ
للموت. يرتبط بقاؤنا
بقدرة الواقع على الإفلات
من اقتحام اللغة.
——————————
إيتيل عدنان، قرينة الماء والنور
اعداد: قمر صباح
“اقترنت بالنور وأنجبت الأجنة
أنا نهر يا حبيبي
ولا تستطيع إلا أن تبكي على شاطئي
( من ديوان ما يخص أزهار الربيع وتجليات الرحلة (بالإنجليزية ) لإيتيل عدنان )
إتيل عدنانقليل منا من يعرف إتيل عدنان وأقل من أطلع على شعرها ونثرها المكتوب بالإنجليزية والفرنسية ولا أعرف كم منا تسنى له الاطلاع على المترجم من أعمالها إلى العربية وهو ليس بالقليل فأدبها لم ينل الرواج الذي يستحقه في حياتنا الثقافية.
هي شاعرة وروائية ورسامة إيتيل عدنان مزيج من أعراق ومعرف ينبوع عطاء ثري ومسيرة ثقافية تمتد على مدى حقب بين بيروت وباريس وكاليفوؤنيا إنها نبع بلاد الشام ونتاج ثقافات العالم ، كتاباتها ذات نسيج فريد ونادر في أدبنا العربي أقول أدبنا العربي على الرغم من ان إتيل تكتب بالانجليزية والفرنسية ، ذلك لأن جوهر هذا الأدب محض عربي شرقي .
ولدت إتيل في بيروت 1925 م لأب مسلم سوري كان ضابطا في الجيش العثماني وأم يونانية مسيحية تقول إيتيل عدنان :
” ولد في بيروت ، لبنان لأن والدي تركا تركيا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى . كانت بيروت قريبة من دمشق وطن أبي وبعد سنوات كثيرة ولدت أنا في عالم يختلف كل الاختلاف عن العالم الذي عرفه والدي ،”
تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية فرنسية ( في دير كاثوليكي ) في بيروت فأصبحت الفرنسية لغة التعبير الذي جبلت عليه ثقافتها ومن خلال مسيرتها الدراسية تعلمت العربية فطلب منها نسخ كتاب تعليم القواعد للأتراك ، فذلك ما كان يعرفه ولمدة طويلة واظبت إيتيل على نقل حروف وكلمات لم تدرك معناها فقد تعلقت إيتيل بالحرف العربي وشكله وغن لم تصل إلى حد إدراك المحتوى من أدبياته وهو ما سيظهر تأثيره عليها لاحقا في مقالتها الشاملة بعنوان ” الكتابة بلغة أجنبية” .
ولصبية يافعة مثل إيثيل كانت بيروت آنذاك مجالا للقاء وجوه جديدة والاستماع إلى لغات عديدية كانت المدينة كما تصفها ” عاصفة صغيرة من حرب ومتعة
ظلت إيتيل بحكم نشأتها تعتبر الفرنسية لغة خطابها وتفكيرها وفي مطلغ الخمسينات ذهبت إيتيل إلى باريس لدراسة الفلسفة في السوربون ثم واصلت الطريق إلى أمريكا لتحل عام 1955 م في جامعة بيركلي في كاليفورنيا . فأدركت من خلالها انخراطها في دراسة الفلسفة بالإنجليزية ، أن هذا الانتقال كان يعني تحولا شاملا في طبيعة التفكير والمشاعر بل هو : ” زلزال خفيف يضرب حياة المطالب ” فتوقفت إتيل عن الكتابة بعض الوقت لأنها كانت في حالة اكتشاف متواصل .
لم يستمر بقاؤها في الجامعة أكثر من سنوات قليلة ، ولم تقدم أطروحتها بل أثرت العمل بوظيفة في كلية صغيرة بالقرب من سان فرانسيسكو تدرس فيها العلوم الإنسانية وعن طريق هذا العمل الوظيفي ، الذي أسست من خلال حياة مهنية جديدة أعادت إيتيل صلتها بكتابة الشعر ولكن بأى لغة ستكتب ؟
كانت الفرنسية لا تزال لغة الشعر لديها لكنها اصطدمت بواقع سياسي مرير تمثل في مشكلة الجزائر وحرب تحريرها ضد الاستعمار الفرنسي تنبهت إيتيل الاستعمار لطمس معالم الآخر وإنكار حقوقهما جعلها تنحاز بالضرورة تقول إيتيل :
” كنت اخوض الحرب بمشاعري ” وفي جامعة بيركلي ( 1955 م) كاليفورنيا ثم في هارد فارد وجدت أمامها حروبا أخرى كانت أمريكا تخوضها ضد كوريا ثم فيتنام وفي تلك المرحلة كان الوعي القومي العربي والدعوة لإقامة دولة عربية واحدة في ذروة عنفوانه فأصبحت غربة إتيل غربتين ، اللغة والوطن . لقد لقد أوجد هذا التداخل ما بين وعيها السياسي ووعيها الثقافي أزمة ظلت تلازمها على مدى سنوات العمر لتشكل عاملا حاسما سواء في توجهها الفكري أو صياغة تعبيرها اللغوي أو اللجوء إلى وسائل تعبير فنية أخرى خارج ميدان اللغة المكتوبة في ذلك الوقت انفتح أمامها أفق رحب آخر حين توجهت إلى الرسم وقالت لنفسها ” سأرسم بالعربية”.
مع الوقت أصبحت إتيل أكثر تلاؤما مع اللغة الإنجليزية بل أصبحت ” تعيش فيها ” فاقتحمت فضاء الشعر الانجليزي بقصيدة مناهضة لحرب فيتنام لتجد نفسها بعد ذلك في قلب الحركة الشعرية في أمريكا تقول إيتيل عن تجربتها هذه : ” دخلت اللغة الإنجليزية مثل مكتشف. كل كلمة كانت تولد حية وكل تعبيير كان إبداعا . كانت الكتابة ضربا من الرياضة والجمل بكل ما تحمله من طاقات مخزونة خيلا من الممتع ركوبها لاقتحام الفضاء المفتوح أمامها “.
ولم يفارق العالم العربي وجدانها عام 1972 قررت التخلي عن التدريس وعن العيش في أمريكا واتجهت إلى بيروت لتقيم فيها كانت بيروت تعيش أجمل سنواتها وسرعان ما انجرفت إتيل في التيار الثقافي العارم ووجدت نفسها ثانية تمارس الفرنسية كتابة وحديثا فقد أنيط بها رئاسة الصفحة الثقافية لصحيفة تصدر باللغة الفرنسية.
لكن الحرب اللبانية التي اندلعت عام 1975 فجرت الناس والمباني معا وفرقت الناجين منهم وبعد عامين من الحرب توجهت إتيل إلى باريس على أمل العودة إليها بعد أن تخمد نار الحرب وهناك كتبت رائعتها ورويتها الوحدية ” الست ماري روز ” والتي تدين بها الحرب اللبنانية وتتحدث عن الانهيار الخلقي الذي تفرزه الحروب . كتبت الرواية باللغة الفرنسية وصدرت في فرنسا قبل أن تترجم إلى عدد من اللغة .
في كتابات إتيل يتداخل الشعر والنثر تداخلا حميما وللشعر سطوته على نصوصها يتسلل إلى مفردات النص وروحه بتلقائية وعفوية فهي نصوص معدنها شعر ذائب في قطع نثرية مكثفة ما إن تلامس الأعماق حتى تشيع في العقل اضطرابا غامضا وحيوية تستثير الفكر والروح معا بحسها الإنساني المرهف في شعرها دعوة للمحبة وصرخة ضد الظلم احتضان المغفلين والمهمشين الواقعين تحت سطوة اإمبراطوريات الكبرى فلسطين والجزائر ولبنان والعراق شعر يزخر بالأسئلة أسئلة الوجود والعدم الحرية والقيود الذات والآخر أسئلة تمتد امتداد الزمن لا أجوبة لها مع ذلك فهي تطرح باستمرار ومن منطلق حض إنساني تتسلل القضايا السياسية إلى لب جملها بطريقة لطيفة وحاذقة :
” قتلت ذبابة هذا الصباح
لو كنت دولة
لكنت دمرت المدينة “
ومع أن إتيل تقيم في قلب الغرب فإن عينها الناقدة قادرة على تعرية الظاهر والنفاذ إلى ما وراء الوجه الجميل ذلك أن فكر إيتيل المشبع بالفلسفة جعلها مفكرة من الطراز الأول ولأنها معينة بالشان الإنساني فقد استطاعت بموهبتها الفذة أن تحول أفكارها إلى أدب شفاف وأخاذ يتداخل فيه الخاص بالعام في نسيج محكم متوازن يضع الشرط الفني فوق كل اعتبار تقول عن باريس “في المقهى تجلس صديقتي كلود ومعها كتاب شعر لا يدور بيننا أى حديث مهم سوى أن باريس . ولكن كلمة جميلة تلك تتضمن قرونا من حياة وحروب وأشياء عن العمل والإيمان والوفيات باريس جميلة بكل تأكيد وهي آخر مدينة عظيمة في العالم حافظت على روحها وتعمل مثل ماكينة زيتت بشكل جيد باريس جميلة إنه قول يؤلم فذراعا المرء لا تكفيان أبدا لاحتضان اتساع كهذا بوسع كلود أن تقول ذلك بكل براءة لكن قوله أشد صعوبة علي وأشد إيلاما أيضا إنه يمزقني إربا فباريس القوة الكولونيالية الباقية على قيد الحياة وهذا إدراك يرافقني كل ليلة إلى سريري .”
ولعل من أبرز أعمالها الشعرية السياسية مطولتها ” يوم القيامة العربي ” وقد صدرت بالإنجليزية عام 1998 م أما ” 27 أكتوبر ” فهي قصيدة مقطعية طويلة كتبتها على إثر الغزو الأمريكي للعراق 2003 م ولأنها كانت أنذاك في باريس فقد كتبتها باللغة الفرنسية وكلا العملين مترجمان إلى العربية :
” كنت أستطيع أن أذهب إلى المقهى المجاور
أتامل البرد وهو ينسل في الخارج
بينما أنعم بالدفء ، أو حتى بممارسة الحب ….
بيد أن القنابل كانت تنهمر على بغداد”
يحتل البحر الأبيض المتوسط خاصة في أدب إيتيل وشعرها مكانة مهمة رمزا وواقعا وهو محور أساسي تتمركز حوله رؤية الفنانة منه تنطلق وإليه تعود ومنه تبحر في اللامنتهى .
وليس من محض الصدفة أن نجد اقتران النور بالماء يتكرر على امتداد تجربتها الأدبية بدءا من كتاب البحر أول ديوان لها حين كانت لا تزال في الثانية عشرة من عمرها إذ يظل الماء عنصرا جوهريا يتغلغل في نصوصها كيفما كانت : ” أعشق نافورة مديتشي لذلك أبطئ الخطى أتطلع إليها ألاحق سطحها المتموج أعوم ( ذهنيا ) من أسماكها أقترب بقدر المستطاع من جوهر ظلالها الخضر التي تجعل قلبي يخفق بعد ذلك أطير يتمهل فوقها مثل الفراشة أمتص برودتها حين أتحرك بمحاذاة حواجزها ثم أصير ماء صديقة للماء “
تتكون قصائد إيتيل من مقاطع صغيرة كما هو شأن نثرها الذي يعتمد فصولا قصيرة إنها في واقع الأمر نصوص مفتوحة ذات خصوصية فريدة مقاطع منفصلة لكل منها استقلالها ولكنها ترتبط بما قبلها وبعدها ارتباط الفكرة بالفكرة والنغمة بالنغمة والموجة بالموجة قد يمتد إلى ما لا نهاية لغتها رقيقة ونبرتها خافتة لكنها تنضح بألم يخترق الوجدان اختراق مدية حادة .
كانت إيتيل تدرس فلسفة الفن في سوسليتو ( كاليفورنيا) ثم بدأت تمارس الرسم بتصوير أشكال مجردة تعتمد التوصل إلى إيقاع منتظم لكتل لونية متضادة تستمد طبيعة اشكالها من المحيط الطبيعي كان هذا الاسلوب معادلا للشعر وحلا مرضيا لمعضلتها اللغوية .
ظل الشعر والرسم عالمين منفصلين لدى إيتيل عدنان لحين ما شرعت بمحاولات إدخال النصوص الشعرية العربية في تكويناتها الفنية بأسلوب معاصر مستعينة بالألوان المائية والأحبار أقدمت إيتيل على تنفيذ مشروعها الفني عندما إكتشفت الدفاتر اليابانية المطوية وبدأت تضمنها قصائد لشعراء العرب على غرار الكتب اليابانية القديمة المنفذة بتقنية الحفر على الخشب وبتأثير أيضا من التجربة اليابانية إنبثق في ذهن الفنانة شيء من سنوات الطفولة عندما كانت مجبرة على استنساخ جمل عربية لم تدرك معناها أخذت تستعيد تلك الحروف والكلمات وسحرها الغامض حين شرعت بتقديم تجربة تؤكد الصلة بين الشعر والرسم وبين الرسم والموسيقي من خلال هذا الشكل الممتد للورق .فاتخذت من قصائد الشعراء العرب مادة لتصوير دفاترها المرسومة تكتب فيها جملا :” لم أفهم منها سوى كلمة واحدة كنت أتخذها مفتاحا كأنني أنظر من خلال حجاب ، أو أتطلع إلى منظر خارق الجمال من وراء ستارة كأن الستارة لم تمح الصور بقدر ما منحتها درجات لونية وجعلتها تبدو أشد غموضا مما كانت عليه” تستنسخ إيتيل عدنان قصائد الشعراء العرب بخط يدها قاصدة من خلال هذه التجربة أن تقدم كتابا مسوما بالخط واللون لا يتوخى تقديم صور إيضاحية للنص ، وإنما يقدم صورة موازية له . وهي صورة لا تلتقط من نظرة واحدة ، وإنما تتكامل في سلسلة الصفحات مثل موجات متعاقبة ومثل نغمات موسيقية ومثل مقاطع شعرها وفصول نثرها عن بعضها والمتصلة مع بعضها في آن واحد .
من خلال تجربة رسم هذه الدفاتر المطوية الشبيهة بآلة الأوكورديون التي كانت رائدتها في العالم العربي عرفت إيتيل فنانة ورسامة وتغلغلت في النسيج الثقافي العربي فشاركت في المعارض الجماعية إلى جانب المعارض الخاصة التي بدأت تقيمها في بعض العواصم العربية كالرباط وبيروت والقاهرة ولا يقتصر فن إيتيل على الرسم بالمائيات فقط بل أبدعت أعمالا بالزيت إلى جانب أعمال السجاد والخزف.
وفي هذا أو ذاك فإن هذه الأعمال توحي بأنها تحمل الشيء الكثير من لهو الطفولة بل إنها تبدو أشكالا صورتها ريشة طفلة لكن المتمعن في هذه الصور المعبرة يمكن أن يرى أشياء أخرى تختبئ وراء الحس الصافي للون وتداخله العميق مع الضوء ثمة براءة تشع من هذه الرؤى فالإشراق الصادر من سطح هذه الألوان المشعبة بالضوء رديف أدبها الذي يزخر بالبحث عن تخوم الضوء ومدلولاته .
لعل العربية لدى إيتيل عدنان ظلت فردوسا محرما وحين تسأل اليوم عما إذا كانت تشعر بأنها منفية لعدم قدرتها على التعبير بالعربية تقول:
” نعم ولكنه نفي يمتد إلى حقب من الزمن حتى أصبح جزءا من طبيعتي ” لذلك ترى أنه من غير المجدي البكاء على الظروف السياسية والاجتماعية التي وضعتها أمام هذا الاختيار ولا مجال للنظر إلى الوراء إنها ابنة المكان والحاضر تكتب شعرها أينما تكون وباللغة التي تتقنها وعليها أن تتطلع بإستمرار إلى الأمام وهذا ما فعلته وتفعله وهي تعيش موزعة على أمكنة ثلاثة : بيروت وباريس وكاليفورنيا .
***
ماء، يجري سعيداً وسلسلاً
ترجمة: فوزي محيدلي
بالحديث عن المحيطات، فقد جبتُ بعضها ثم طرتُ، طرت فوق حكايتي، إلى بلدة في المكسيك حيث ثمة بحّار وسيم الطلعة. اكتشفت هناك حانة، والتقيت بامرأة عالقة بين شخصين، غريب يسرف في الشراب وفتاة يافعة. انجذب الاثنان إلى المرأة، والى النسيم في الخارج، فيما صوت موج المحيط يدغدغ الشاطئ.
ثمة أيام تأبى فيها العاصفة أن تنقشع، فيغزو الألم أطرافي ويغدو كأرواح تتصرف على هواها، ثم يتركني لا حول لي ولا قوة تجاه هذا الغزو. فيما أنا ذات مرة أعبر حديقة فسيحة مزروعة بالتوليب الأحمر النبيذي، المنثور بين أزهار زرقاء زاهية لم تزل بتلاتها تحتفظ بالندى، خطرتْ في بالي الفكرة التالية: في يوم كهذا نظرت شخصية تاريخية أحبها إلى هذا المدى مرحّبة بهذا النوع من الطقس. كانت ملكة منفية في فرنسا وسط محيط عدائي وما لبثت أن ماتت لاحقا في كولونيا.
أحرص غالبا على شراء كتب خاصة بالمنازل، واشرع في تقليبها صفحة بعد صفحة، مستعرضة كافة أنواع الشقق أو المساكن التي تجعل المرء يتساءل إذا كانت الجدران الزجاجية تحول بيننا وبين الطبيعة، أو أُريد لها أن تشعرنا بتوحدنا مع الأشجار. أشجاري المفضلة حول تلك المنازل، أو البيوت الخشبية أو الأكواخ… هي السنديان.
الناس والخيانة توأمان. ثمة امرأة أحبّتني حتى الموت، ليس موتي أنا أو موتها هي، بل موت شخص آخر حدث أن تعلقتُ أنا به. وعندما تقدّم بها العمر، كان غضبي لم يزل على أواره فمنعني من مصارحتها. تركت لها أن تخمّن سبب غضبي، وهذا كان عقابا كافيا. أتساءل الآن من ذا الذي اخترع كلمة (عقاب) البشعة. الأرجح أن الله هو من ابتدع الكلمة والفعل.
لُقِّنتُ في الصغر أن الخط المستقيم ينفع لتعليق الملابس، لكني شاهدت أسلاكا يُصار إلى ليّها لتستعمل تيجان شوك. كما وقع نظري على قفص من الأسلاك التي أُريد لها حماية عصفور الكناري من حيوانات يمكن أن تفتك به، كالقطة والكلب. لكن ذات صباح، وجدتُ العصفور ميتا بسبب خلو القفص من الماء. حدث في الليلة السابقة أن رويت الحديقة بكاملها، لكني نسيت ملء الوعاء الصغير بقطرات الماء الثمينة التي يحتاجها العصفور.
تقرع الأجراس أيام الآحاد ليبتلع بناء أبيض، لم ادخله مرة، النساء المتشحات بالسواد، تخرج تلك المخلوقات من الكنيسة وعلى وجوهها نفس التعبير السابق، فيما رائحة البخور والشمع تنبعث منها. هكذا هي الحال، في هذه الجزيرة، وفي غير مكان.
تتميز غرف الفندق بسحر ما: أشعر فيها أحيانا بإحساس بالعزلة لم يزل يلازمني. كيف تأتى لي تحمل ذلك الشعور بالخواء، بالاقتلاع، أو العقم، الذي تملكني مرات عديدة في مدن مثل باريس ونيويورك! كيف تسنى لي تسلق ذلك الجدار من العدم لأحوز مدى للنظر يهوّن عليَّ تحمل اليوم التالي؟
بالمقابل، يمكن للمنازل أن تكون أكثر سوءا، فهي أحيانا سلال منقولة تتسرب منها حياة المرء لتغيب في المجاري. اكتشفتُ بالصفة، في أحد الكتب، إن ذاك المولع بالطبيعة، ثورو، كان مولعا بالديار الثابتة. لم تكفه الغابة ولا القارب، أو حتى الهواء العليل لحيازة الصفاء والهدوء… لم ينقطع عن البحث عن منزل!
يختلف مفعول التلفزيون عن الكوكايين: انه يخدر الروح، ويُولّد قرابة مع الرسوم المتحركة. يغدو للأطفال اذناب،_ ويطالبون بإداء شخصيات ديزني في مدينة (ديزني لاند)، ولا يملك الأهل سوى المسارعة إلى قول نعم لهم. والحال هذه، لا تعارض الحكومات من إدارة كوكب خاو من السكان.
أثبتت الأبحاث المؤكدة أن الناس يلوّثون العالم ويلوّثون بالنتيجة ذواتهم كونهم جزءا من هذا العالم… بالمقابل، يبدو أن البشر غير الماديين يعيشون على الأرجح على كواكب أخرى، فيما نحن نتوق إلى بلوغهم. هؤلاء لا يحتاجون إلى الزيتون والخبز، أو إلى سيارة مرسيدس سبور… واشك فيما إذا كانت أفكارنا تهمهم في شيء… لعل لديهم أفكار أفضل، أو انهم متخففون من الأفكار، من يدري؟
وطّدتُ علاقة سليمة بالكون. هذا أمر أنا متأكدة منه. أتتنقل بحرية بين الشمس والقمر،_ واذهب أبعد، و أغوص في ثقوب سوداء واخرج منها سليمة، اركب المذنبات، أحصى المجرات، أنا على علاقة وثيقة بالسنوات الضوئية. حدث كل هذا عندما سافرت في غضون ثوان إلى حافة الكون، وشُبِّه لي أن الحركة الغربية التي شهدتها مرة هناك، كانت بداية هاوية ما.
غالبا ما أفكر في الماء: لا يمكنني الاحتفاظ به في يدي ولو لفترة وجيزة من الوقت، ولا أن اقطعه بالسكين، أو أفهم سبب جريانه بذلك القدر من السلاسة والسعادة. نخال أن شيئا ما في غاية الكمال، لكنا سرعان ما نكتشف أن ثمة برغيا مفقودا، بل لا شيء يسير على ما يرام، فيبقى العقل في حيرة. مع ذلك، حين احبُ الماء لا أواجه مشكلة في الاقتراب من كينونته.
ينقطع، أولئك الذين يجنون بسرعة مليارات الدولارات، عن الأكل والشرب، والمضا…ة، وشراء الأزهار… تراهم يقضون أيامهم وهم يفكرون في المزيد من المال.
بعضهم لا يحلمون، بل يمارسون القتل.
قابلتُ أشخاصا من هؤلاء في مطعم في الدائرة الخامسة عشرة في باريس. ذات ليلة، حدث أن كنت في مكان مميز ومعروف بطعامه الجيد، فوقع بصري على مائدة حولها ثلاث نساء ورجل، أدركت في الحال من يكون لأني اعتدتُ رؤية صورته… مرارا في الصحف. بدا شعره كالمصمّغ فوق صدغيه، وثمة لمسات مكياج على وجنتيه… راح يتحدث بلكنة أهل إحدى دول أفريقيا الشمالية، وينضح بالكثير من السم.
في الصف الأمامي من المطعم وقريبا من أحد الجدران كانت ثمة طاولة يجلس إليها حراس مهمتهم التطلع بالناس، وكانوا يتقصّدون إعلان وجودهم بالتحدث بصوت عال. بدا فرحهم مقرفا. أما إلى الجانب الأيسر من المدخل فجلس ثلاثة أشخاص عليهم سيماء القتلة، وأمامهم جبل من الطعام، تحرك شيء في معدتي، شعور بالامتعاض. من الواضح انهم حراس شخصيون، ومسلحون بالتأكيد. لم يكن المطعم مكانا للصيد، لكنه يتمتع بكل مظاهر ما يتبقى من عملية صيد أو افتراس.
تشع الشمس من خلال نوافذي بدون صعوبة، فجميعها مفتوحة على مصراعيها. ما إن أحاول ملامسة النور حتى يختفي ولا يتبقى لي سوى ظلال أصابعي. من ثم أقول لنفسي إن العالم هو في مكان آخر، في المكسيك، في الهند… لماذا نفترض دائما العالم في مكان يحمل اسما معينا؟ بل لماذا نفترضه بالأحرى موجودا؟
هل أنا في التحليل الأخير عبارة عن جسدي، أو روحي، وهل إن ملاكا يرى واحدنا بطريقة مغايرة؟ الأمر قد لا يبدو مهما، لكن عندما احمل وجعي كلما كنت صاحية وحيثما اذهب، يلح ذاك السؤال. لا شك أن معرفة المرء القوية لنفسه ليست دائما نعمة.
أعود دائما إلى موضوعي المفضل: الطقس، دأبت منذ الطفولة على الإصغاء إلى الرعد لأنه والرهبة صنوان. لطالما أحببت المطر الرقيق، استمالتني جاذبيته الجنسية مع عدم حضور الجنس… لا يمكن للحبيب الغيور التغاضي عن المنافسة التي يمثلها المطر. حين تمر غيمة فوق أخرى ارتجف، وحين تخترق شقفة من الزرقة السماء الرمادية احلق مثل مخلوق ملائكي.
بعض أنواع المطر مهلكة من حيث أنها تعلن حدوث ذوبان كارثي نهائي، بمعنى الدمار الذاتي للأوقيانوس الكوني. إنها تسلبنا كل أشكال العلائق من خلال توليدها برك شوارع تغرق فيها جميع المواصفات. إنها تؤوب بنا قسرا إلى تجريداتنا، وفي تلك الحالة الموحشة نقترف في المدى الأخطاء مع إدراكنا أن تلك الكارثة هي آخر متاعنا. يدهم الارتياب موظفي الفنادق فيرفضون إعطاءنا المفتاح. ونتحوّل لبعض الوقت في إحدى محطات القطار، وبعد أن يتبدل مزاجنا نعود إلى لمدينة لنمضي الليل ونحن سائرون.
لكن ماذا عن العواصف الداخلية حيث بحار الغضب العاتية تجلد الفكر بسياطها؟ الفكر؟ في أوقات كهذه يندمج الذهن والمعدة، وينصهران أشعة قاتلة، ليسبرا الروح مثلما يفعل الإعصار الاستوائي بسواحل الأطلسي. ولا تلبث أن تأخذ هذه البطاح الداخلية أحيانا شكل الأراضي الحقيقية لبعض البلدان والمناطق، سوريا، لبنان، كاليفورنيا… حيث نعيش كلا الحالتين، داخل وخارج أنفسنا، غير مميزين بين صاروخ يقصف منزلا وبين فكرة مدمرة. بدوره يولد انقضاض ” التاريخ” على الذهن عواصف تدك المخيلة بقوة اكثر دماراً من الطقس المزلزل. لا شك أن بعضنا قد ألف تلك الكوارث الخاصة التي تتراكم متحوّلة إلى تجربة يومية، بل إلى خبز يومي.
تفاحة جالسة في وعاء خزفي من صنع الراحلة ايلين كيرتيس. كل غرض من مجموعتها التي كانت تأنس إلى صحبة بعضها على رفّ مربّع راح يفترق في الأصقاع بعيدا عن البقية. هل تشعر هذه الأغراض أخيرا بالأمان في مواضعها الجديدة أم أنها، ولسوء حظها، غدت مثلي غير قادرة على الاستقرار؟ كانت تشكل وحدة بديعة إلى درجة أن الرسامين وحدهم يمكن أن يبلغ تقديرهم لها حد التضحية بحياتهم من اجل أن يولدوا من جديد في زمن ما، وبأية مادة متوفرة، نشوة كنشوة التفاحة والوعاء.
أحبّ بشكل خاص الرسام فرا انجيليكو وهو منهمك في رسم الملائكة. إنه لا يرسمها، بل يخلق تلك الملائكة التي فات الله خلقها. يقوم برش الذهب فوق رؤوسها وحولها. ما زرته مرة إلا وكان خارج فلورنسا، في دربه إلى اريزو، أو عائدا من مدينة بادوا، لكن لم أجده مرة في المنزل… أتلمس واحدا من جدرانه المزدانة بالتصاوير فأشعر بملاكه المرسوم وقد بُعث حيا، ملاكه الذي لم ينقطع يوما عن التبشير بقدوم الطفل. أناس مثل انجيليكو لا يفدون إلى هذا العالم جماعات.
منزلي، قطعتي، وصحبي
سأتحلّى بالجرأة لأقول أن الثلاثة كانوا ملك أمي، لأن هذه هي الحقيقة، الحقيقة التي عجنت صحتي وصاغت رغباتي. قطتها، المسماة جوهرة، اعتادت النوم فوق ” ناموسية” سريرها الخاصة بإبعاد البرغش. أحبت أمي الشعور بذلك الوزن معلقا فوق ” نومها” . كان لجوهرة منزل فسيح لتقوم بنزهاتها: نوافذ مقنطرة لمراقبة فئران الحديقة، كنبايات مغطاة بالمنخل الدمشقي لتمرين مخالبها، و” صوبا” المطبخ لتدفئة عظامها. لا اذكر إني عشت في ذلك المنزل، مع تلك القطة، أو بصحبة أمي، بل إني عبرت كل هذا كما هبّة ريح مبارحة.
تآكلت المفازات والأبعاد ونفثت المصانع أعمدة من الدخان والحقد حتى غدا ذاك الحقد أشبه بولع شديد يحرقنا معه. ترانا نكسو أعداءنا بالحرير والقطن، نصنع الأحذية لأقدامهم، نطعمهم زبدة الكستناء، نحرق البخور على مذابحهم، نعاجلهم بالسلام، نكتب الموسيقى لنشنف آذانهم، ومن ثم، من ثم… إما أن يأكلونا أو نفقد نحن الاهتمام.
يتنامى من حولنا شعور باللاواقعية، ونتساءل إذا لم تكن التربية توجهنا اليوم نحو الحلم باستمرار. أليس الفردوس، ذاك الغاية المطلقة للدين مجرد نسخة يباب لتلك التي نعرفها؟ ذات مرة أعطيت ليمونة إلى قرد، فماذا فعل بها؟ أكلها. أصابتني الدهشة. فقد توقعت منه اللعب بها، أو شمها، ضغطها، أو شكري عليها… لا ادري. شعرت من تصرفه هذا بالخيبة. أدركت أننا من جهتنا نحن بني البشر مدربون كما العصافير المغردة، ومدجنون كما الأسود المحتضرة، ومبرمجون كذلك على التفكير والتردد. جل ما فعله القرد أنه أخذ البرتقالة وفي لحظة تتسم بالذكاء أكلها.
إذا كان هدف الحياة السعادة، سأصف لك، إذن، ملاءة سريري. إنها ناعمة، هانئة، ولينة. بوسعي القول أنها ودودة، ودودة معي ومع أي شخص يفد. ثم سأنظر إلى حائط ما، أجل، حائط في الصحراء. تصفه من جهتك بأنه خراب، فأخالفك الرأي، ويقوض الخلاف متعتنا. في منطقة كاش كريك بكاليفورنيا يتميز النهر بأنه يافع وصاحب نزوات. يحدث السماء، يلتف حول الصبايا بتعرجاته، ويثير الشباب بنعومته. هناك في وادي يوزمايت تلقي الغزلان نظرة العارف على نبات السرخس. الثلج حِِرام واقٍ يحتبس الماء إلى أن تخرج الشمس من جديد لتندهش من ذاك الجمال الأبيض. لكن في بعض الأمكنة مثل نبراسكا، يحرق الناس ملابسهم واغطيتهم من السأم. لم يتوغلوا غرباً بما فيه الكفاية.
المنزل، أنفاسي والنافذة
تشاد المنازل من نوافذ تحضنها الجدران. تحاذر أشياء عديدة دخول المنزل عبر الباب لتلجه من النوافذ المفتوحة على وسعها نحو السماء الصافية. وبهذه الطريقة دخل الملاك جبرائيل مخيفا بذلك العذراء. لم تكن المناسبة بالطبع ليلة عيد البربارة (عيد جميع القديسين).. ولد يومها المسيح ولم يولد، لان مريم العذراء ارتكبت، فهي لم تدر أنها حامل أم لا. عاش فرام انجليكو قريبا من النوافذ، النوافذ السماوية. كان يجعل الإطار من ذهب، مستغنيا عن الجدران، ويترك بالمقابل أنوارا وامضة مع بقع من الأحمر الخالص. أما كرات النار والتيجان المطعمة بالماس فقد أضفت نورها الخاص على لوحاته، هذا إذا استطعنا تسمية الرؤى الطيفية التي يحولها مرئية على القماش ” أعمالا بحت فنية” . هذه ليست نتاج ابتكار بارع لكن تعود إلى قوى سرية للطبيعة نادرا ما نتعامل معها. تعزف ملائكته على الأبواق فنخال أننا نصغي إلى الموسيقي الإيطالي بير غوليزي. لا بد أن تلك الأبواق دمى ملائكية. ينسلّ صوتها عبر نافذتي لتغدو نسيما يدغدغ وجهي حين استلقي، في الربيع، في غرفة ما بعيدا عن دياري. يوقظ فرا انجليكو براءة الإنسان، ثم يقرب أنفاسه منه، ليطفئ الشمعة برفق. بعدها تسطع الشمس بكرم محسوب.
بيانات مهمة أخيرة
لكوننا من نتاج العائلة ترانا مسوقين للتحدث عنها لتحديد أنفسنا وتعريفها. هذه مجرد عادة، وقد تفسر مشاهداتي الكثيرة لأفلام الحيوان، أما الحيوانات التي أود مشاهدتها عادة فهي القردة، والنمور، والأسود، والفيلة، والحيتان، والدلافين. لكل من هذه الحيوانات مزايا أتمنى امتلاكها، فهي تمثل احتمالات الكينونة موزعة بين كل أصناف النوع الحيواني. لكن حدث ذات يوم لن أنساه إني شاهدت على شاشة التلفزيون قرود شيمبانزي تتسلق الأشجار قافزة من غصن إلى آخر. ما لفتني أن نور اللحظة التي صورت فيها تلك الحيوانات أعطى للصور إحساسا بكونها في ذهني انه بعد أن يؤدي سلوك بني البشر المدمر إلى اختفاء معظم الحيوانات التي تعيش على كوكبنا، سيعمد عندها (العلماء) أو (الفنانون) إلى استبدالها بحيوانات مختلفة الصور، فيصبح لدينا في حدائق الحيوان صور هولوغرام ثلاثية الأبعاد وهمية، للأسود، وفيلة ذات صور من ثلاثة أبعاد في السينما، مضافا إليها المخاطر والأهوال المطلوبة…، فضلا عن حيتان مطاطية ودلافين وهمية تؤدي حركات في البحر. ارتعدت للفكرة، وشعرت بنوبة ألم مبرح، وبمرارة في فمي وثقل في أطرافي. يخالجني شعور راسخ، يعمل على تفاقم حالة الأرق المزمنة التي أعاني منها، مفاده انه فات الأوان لتجنب الكوارث التي نعدّها لأنفسنا.
لماذا تنطوي فكرة التربية على نكهة حزن؟ لقد سلخت العفوية عن المدارس، وغدت التربية عملية تكييف للعقل لا تحريره… نقوم بخلق تعاليم اكراهية فضلا عن معبودين جدد. لكن البعض قد يرد، يبقى هناك الشعراء؟ بلى، يبقى الشعراء، وهناك أيضا القراء، والحالمون، وأيضا العشاق… يشكل هؤلاء القارات الجديدة التي يجب العمل على اكتشافها.
الشخص الأول
يمكنك مشاهدتها من أي شارع نظرت إليها، ومن مختلف الزوايا، لتستسلم من ثم إلى أحلامك. كانوا يأتون من البعيد لمجرد قضاء بضع ساعات معها. أنفقت ساعات وساعات في مقاهٍ غير مكيّفة وان انظر إليها عبر زجاج النوافذ، متأملة جمالها الذي ينتمي إلى مملكة تخصها وحدها. كنت اقطع خلال الصيف شارعا متعرجا كالمتاهة لأبلغها، فأخلع ملابسي في قمرة ضيقة طويلة، ثم ادخلها هي واشرع في السباحة.
ثمة كنيسة ليست كنيسة، فيها رسوم ولوحات ليست لوحات. ولم لم اكن قد وقعت قبلا في طفولتي على فردوسي لكنتُ اعتبرت تلك الكنيسة مكانا للنشوة المطلقة. اكتشفتها عرضا، بعد أن خرجت من محطة القطارات متوجهة إلى بادوا، في شمال إيطاليا، قررت بسبب ثقل أمتعتي ولعدم انجذابي إلى شيء في الجوار الدخول إلى كنيسة وقعت عليها عيناي. الهدف هو مجرد (قتل) الوقت. كانت تلك كنيسة جيوتو الصغيرة. وبدلا من أن يتحول الوقت إلى (قتيل)، فانه انبعث كقصيدة بصرية مقدسة، وذلك حالما دخلت جو الجنة الزرقاء المزدحمة بملائكتها المنشغلة أبدا وبيوم الحساب الوشيك الحدوث. حل يوم حسابي في تلك الكنيسة، كنيسة كروفيني، والحمد لله أني وفّقت بالخلاص.
***********
الأرض شجرة زيزفون
أنا الضوء
تكسرني الدقائق
تغويني
كأجراس كنيسة ريفية
أنا العتمة
تسللت الريح إلى السلالم وأنا أصعدها
وراء أوراق زيزفون
سبقتني عجلى
متراقصة
لتحدثني عن الحب والجنون.
في حفيفها
سمعت
أنني كنت ملكتها
وأن رايات جيوشي كانت معطرة
كم من أشياء عذبة أخبرتني بها الأوراق
وهي في زهو خضرتها !
الهذا استنكفت جيوشي عن خوض الحروب؟
هذه الشجرة شبه عارية
وعريها
يثير الشائعات في المدينة
***
تتناثر أوراقها واحدة إثر أخرى
وتتبعثر
فيتمدد الفضاء لإيوائها
وأبقى
في دوامة خضراء صفراء…
عالم النباتات يطلب عظامي …
****
المنفى والهجرة والسفر
استراحات المعرفة
لكن الورود
سرعان ما تغطي الأحياء المدمرة بالقنابل
بينما تكسو أشواك الزعرور
وجه الصحراء
وحين نبت الصبار
في عيني من أحب
تقيأت حمل شاحنة من القطع الذهبية
آه، ما أشد انتصار الموت
على الحياة !
الدوار يطوق سلالم بيتي
وإذ هجرت المادة قوانينها
أبحرنا في عباب الجحيم
قاصدين الفردوس.
****
على امتداد السلالم الخشبية
تنتقل الظلال
تحت وطأة صمت الأشياء
وصمت آخر:
لا علاقة له بالرحيل أو الموت
صمت رأسه متوج بالعصافير
طفل يتراكض في بيت مهجور
بينما السلالم
تكتشف مدى فراغها
أنا السلالم التي صعد الوقت درجاتها
في سباقه الجنائزي
في حماة،
تصعد النواعير مثقلة بالماء
لتروي الحدائق
ثم تهبط غير عابئة برؤية النهر
وهو يطفئ الحرائق
السلالم التي لفصل بين
غرفتي وذاكرتي
تصفر في أذني…
أنا لست تحت رحمة الرجال
فالأشجار تعيش في مخيلتي
أنا، عاشقة الأمطار التي تحمل الرغبة
إلى المحيطات.
بين طائرتين
بين الفضاء
وتختفي النجوم في الفجوات
بينما تذهب العوانس عاريات إلى المقاصير
وتحت أنظارنا
تتلاشى براءتهن.
أنت وأنا خلقنا من شجر نخرته ديدان التراب
تغور العبارة
ونغور، نحن، مخذولين
دون إيماءة صراخ
أو نظرة رعب
والصمت محرم علينا.
لا الحياة تخيفنا
ولا الموت
ولسنا مرغمين على التمتع بالربيع
عند حافة سيول الصحراء
عثرت على القلاع الترابية
حملت درجاتها الرخام
لكنني لم أجد طريقي
لم اعرف إن كان علي أن أصعد
أو أن أهبط
فأدركت ساعتها أنني
كنت في مدينة لا هي العقل
****
ولا هي الجنون
وأن حدائق الأندلس
كانت تنتصب
تأهبا للموت .
****
مدينتان دمعتان
ما يكفي لجعل الجنون
يخفي تحت تنورته
أو بين ساقيه
رعب مراهقتي
ومسيراتي الليلية على التلال:
أية تلال؟
أعني المملكة التي يحملها رجل
في أحشائه
حين ينعم بالحب المكتمل.
مدينتان ليستا بيروت ولا دمشق
دمعتان ليستا خمرا ولا مطرا
بلى، كانت هنالك شاحنة
وامرأة زرقاء العينين
من روسيا
– شجرة زيتون رمادية-
وكنت فراشة قبضت عليها النار:
لم تكن نار الليل ولا نار النهار
بل كانت توهج أشعة منبعثة
من جسد أشبه بمرض
اخذ في الشفاء
انفتحي الآن أيتها القبور؟
من بابل استعارت معادنها
درجات السلم
المؤدية إلى غرفتي.
وكان المعراج نقلتين.
سقطنا في دوامة وحل.
كانت الريح تتبع حصانها
حين راحت عاصفة تطارد خطوات الشمس
بينما يعوم نبي
في أمواج الغيوم
على سفينة تتقدم في نهر من ذهب
وبعيدا عن الشمس
بلغنا الفردوس
فردوس النور المطلق.
درجات السلم المؤدية إلى غرفتي
تقود بلى مرصد
كان منظاران في يدي
واحد لرصد النجوم
والجيوب السوداء
والثاني لركوب سلالم آلية
تتقدم دون تقدم
شعري يتغزل
بأزهار عباد الشمس.
خارجة على القانون.
هذه الزيزفونة
التي ترتعش على بابي
آن أن نستعد للجحيم !
****
هل عصف الريح
أسرع من خطواتنا؟
ربما لأن النور أخمد حركتنا !
وهذه الزيزفونة المنتصبة أمام بابي
ترزح بثقلها على أيامي…
سوف أتزوجها في نهاية المطاف
وسيكون لنا أطفال
محوم عليه بالرعب
نظرات الزيزفونة مسلطة علي بإلحاح:
سأبقى منذورة لانتظار
حتى نهاية الزم
****
موقف الضوء
ترجمة: فايز ملص
1
ذات نهار
كهذا النهار
مشوّشاً بالأبدية
ينقطع حبل أفكاري
يتلاشى ببطء
في ضباب الرأس
من قال ان الجنون
يعمي الملائكة
يقص أجنحتها
ليخترق خيطُ الرغبة
جدارا أملس؟
ولماذا نزرع الرعب
في قلب المريخ المحروم
من الماء؟
لماذا نقصد
ما دمنا عاجزين
عن اجتياز الطريق
المفضي الى
عالم الموتى…
2
تقطير الواقع
ترشيحه
تقليم الأشجار
دوار الأفكار
في حريق لحمنا
الجريح
والممزق
في يوم كهذا
يفقد الجسد كينونته
بينما الجنود
يغتصبون ضحاياهم
ويلعنون آلهة الخصب
ذات يوم
كهذا اليوم
فقد الوقت قيمته
في سوق المال
كما في هذه الغرفة
وفي الغابة المتحجرة
والخشبة المتسللة
والريح
وكل هذه الجحيم
من الفزع
3
ذات نهار كهذا النهار
نقرأ الاغتيالات
سيول الدم المنهمر
من الأفواه
من الرؤوس
في الهاتف نسمع صراخا
ولا نرى الدموع
ولا نرى العيون
نسمع
ما ازدردناه من تلوث
ما تعلمناه في أوقات الفراغ
بين قذيفتين
نسمع
نحيب أصابعنا
المعضوضة
رغائبنا المنسية
وذلك العار المتسرب الى أقدامنا
ها هو اليأس يطل
يملأ غرفنا
ها هو المحيط
يمعن في الاغتراب
وها هم رجال الشرطة
يصغون بلامبالاة
الى صراخنا
عبر كثافة الغابة
لا مخرج للانتظار
للرعب
لا مخرج للحب الآثم
أو للأخبار
التي حلت محل المطر
4
لن اشتري الخبز
لن افتح نافذة للضوء
لن أتابع الألعاب
عبر الأقمار الصناعية
لن امسح وجهي
بمنشفة ناعمة
لكني سأسألكم:
هل سددتم ديونكم الصغيرة؟
هل أحصيتم الجثث؟
هل قلتم للطبيب أنكم كنتم
تفضلون لو كان ساحرا؟
هل أمرتم شرايينكم بأن
تكف عن اللعب بدماغكم؟
هل قستم طول الشاطئ
المليء باللاجئين الأشرار؟
هل أخرجتم البندقية
من الخزانة
أو من تحت الفراش؟
هل أخرستم أصواتهم،
ابتساماتهم،
خطاهم؟
رائحتهم الكريهة؟
هل نعمتم
على الأقل
بليلة مريحة؟
5
ليلة القيامة
السرعة المفرطة
الكحول
وممارسة الحب بجنون
لا داعي لمكبرات الصوت
حين يكون دماغك
مصدر الضجيج
لا داعي للموسيقى
حين يتعذر على أصدقائك
الإصغاء في أكفانهم
يوم عادي
ورقة تتطاير
مثل سواها
تغادر شجرتها
أو التقويم المعلق على الجدار
إنها حقا ليلة عادية
عادية كالمعتاد
عادية مثلما دوّنتها
الموظفات
بخط يدك أنت
بخطنا
أو بخط الساقية
قبل ان تمحوه
6
حين يمنعونك من التنفس
لا تستسلم
بل تمتع بمذاق البوظة،
اللحم،
السمك،
النباتات…
تمتع بطعامك
كل وجبتك
كل جارك
أو الجبل
فالعالم لن ينتهي
أثناء حياتك
ولا أثناء حياته
بل سينتهي مثلك
بعد انتهائه
سينتهي مثل أي رابح
أو خاسر
لا تلتفت كشبح
فلم يعد في العالم مكان
للأرواح
للأجداد
أو الأنبياء
الدرب طويلة
والموج يتراجع
مودعا المراكب
تعلّق المرأة غسيلها
على حبل السطح
فيحسبه المجنون
راية الاستسلام
ويسرع في إلقاء
التحية العسكرية مصفراً
7
في هذا اليوم
هذا اليوم بالذات
تقتلع العاصفة
كل ما يصادفها
اذهب معها
ادخلها
وكن الريح
خلف الانفجار بصماته
على الروح
في الشرايين
والأقدام
وفي الرحم
افرك عينيك
بالرمل
لتستقبل زيارة
اليقين اللامرئي
المودع في بلد
مفقود
في وصية
الأب
كان الحديد
8
في يوم كهذا
ذكريات مشتتة من
حصى وحجارة
تقاوم الفناء
هكذا تتلقى البلدية
إشارات وتحذيرات
وتهديدات
وأعمال سحر
ولعنات
تمضي كلها
في اتجاه العدم
وعلى واحد
من شطآن الجحيم
ينتهي نهار
لم يرده احد.
9
ثمة جريمة
تفوح رائحتها
في الأفق
أطفال ليسوا
من هذه الأرض
على ما يبدو
ينتظرون ان يتحولوا
الى رماد
عسيراً علينا
كان هذا النهار
الثقيل المزاج
الغضب يتصاعد
يبلغ ذروته
وراء نعش
غضب لا يخبأ في
قبضة اليد
غضب يتغذى من خزانات
شتى
تواكب الانحدار الطبيعي
للعقل
لم يحن الوقت بعد
لترسم الشمس
دوائر الغيوم
ففي صدرها
جرح يمور
وثأر
10
في يوم كهذا
أولى بنا ان نسير
بلصق الجدران
وان نعلن ذلك
جدول الأعمال:
تدمير وإبعاد وظلام.
لأنها تؤخذ غلاباً،
سيستحيل علينا النوم
في سرير الشيخ الأكبر
فنحن بلا بندقية
11
أمطرت ثم توقف المطر
فكفّ الندى
عن زيارة الورود
رفع أرنب أذنيه
نحو هذه الحدود
حيث تنزلق الجبال
وكتل الجليد
بينما النوافذ
مفتوحة لتدخل
العصافير
وتحكّ مناقيرها
مرتلةً صلاة
لريشها المقتلع
كل يوم
يتخمر العجين
بدم خبز يومي
جديد
12
عليّ ان امنح صوتاً
لأسرى الجدران
ان امنحهم مجرد كلمات
أليست الكلمة
أولى ذرات اللغة؟
أليست الكلمة
قنبلة منزوعي السلاح؟
كل هذا
انتهى خرابا
هناك…
لوهلة،
لوهلات طويلة
في السماء
كان القمر المكتمل بدرا
كان
خيانة
لكن عليّ ان أقول
لمن ينتظرون انتصارهم
موقف المواقف
عليّ ان أقول لهم
لأنهم ينتظرون
لأنهم تعوّدوا انتظار
الموقف الأخير
إنني سعيدة…
عليّ ان أطمئنهم
لأنهم
يموتون.
13
الاضطراب من سمات العالم
والألم من طبيعة هندسته
حتى العظم
لكن هذا اليوم
مفعم بالظلام
حتى انه لا يبدو
مظلماً.
الظلمة تسربت داخل
تلافيف الدماغ
وهذا ليس مكانا
في وسعنا ان نرى من خلاله
الضوء.
********
قصائد حب
ترجمة : علي مزهر
1
لي غجرية ٌ
تغطّي الفضةُ الهنديةُ
جسدها كلّه
لها سرّةٌ
مثل نجمة الصباح
وعينان
مثل مروج
الجبال
كانت غزالاً
وأثراً
يقودُ
إلى بحيرة
قديمة
يوماً لمعت الشمس
على شعرها
فالتهبت الغابة ُ
السيارة ُ وحدها تعطّلتْ
عند منعطف
الطريق
ونمنا على سرير في المستشفى
لننهض ثانية
مثل قوس قزح هندي.
2
بزغت الشمسُ
وغـَرُبَ الألم
نافذة ٌ تطلّ على الجبل الوحيد
صرتُ شجرةً
أنزلت عن صليبها
رُدّتْ
إلى جذورها.
ألفان عام من الشقاء استعيدت
في رحلة امرأة
استغرقت يومين
من جنّة إلى جنّة
لم نتـَقـّل ببغل
أو بقطار
بل بأيدينا
وعيوننا.
3
ذهبتُ إلى الصيدلية
لأبيع َ ألمي
نلتُ فلساً واشتريت سجّادة هندية
قرأتُ على الصوف الرمادّي
خطوات
خروف
وعلى الخط الأسود اقتفيتُ
أثراً
فوصلنا مرجاً
هناك، لم يحادثنا سوى
الماء
تكّلمنا عن المطر والنار
ونمنا ثلاثتنا
معاً
لأننا صرنا ندى الصباح.
4
لم يسألك أحدٌ أنْ تكوني ملاك
الخوف
أو الموت
أردنا جـِلـْدك
ناعماً
كنعومة البحر
في عصر تشريني
في بيروت، في لبنان
بين حربين أهليتين.
جئت بألم
شفيف
وابتسامة
شقـّت الأرض تحت أقدامي
كما هزّة أرضية
عندما يلتقي اثنان.
5
أنتِ غيمة بيضاء
هبطت على ظهري
النارُ تمسّد بأصابعها
ألمي
ولكن ثمة عينان سوداوان
لا تفارقهما الدموع
و
الغيمة أصبحت أغنية
أنصتُّ إليها في الضباب
وهي تطوف المدينة
فيما أنت كنت تعدّين النقود
لدفع كلفة سرير مستشفى
الأمس.
نحنُ لا نلعب لعبة
الندم
بل نحاول أن ننمّي
أجنحة
و
نطير.
6
أنت تحت يدي
نارٌ
لا تخمد
أبداً
تبكين مع المطر
وتضحكين كل صباح
عند بزوغ الشمس
أراك
مع بنات عمومتك الأيائل
وأنتن تطاردن أشباحاً
حول أشجار البلوط في المزرعة
رفضتِ
رحلة ً إلى القمر
لكي
تبقين
هنيهة أخرى
في السرير.
7
بيضاء كشجرة مكشوفة
لشتاء مبكّر
حسب مواقيت الشمس
ترسمين جسدي العاري
على جدران المدينة
المرئية
ومليون دربونة
تفضي إلى موضع فريد.
بيضاء كشحوب أوفيليا
لفقــّتِ عباراتٍ هزيلة ً
حتى
يتصالح الجنون والعقل
إلى الأبد
ودفء
عاطفتك
يتلّون
بلون الثلج
أبيض كربيع دائم.
8
يدي على يدك
كلاهما
في تجويف
شجرة
سماءُ واحدة ُ تلاحق
سماءً أخرى
كلاهما
تلتهمان العناصر
وتصعدان صوب القمر.
أخضرُ هو لون
الفضاء.
شفتان تتذوقان الفطر
ونهر كولورادو
يلازم القرية…
من البحر الأبيض المتوسط الشاسع
إلى المحيط الهادي
الشاسع
قطعنا دروباً على أقدامنا
تقاسمنا الحقائب
والطعام
متقدمتين دائماً بثانية واحدة
على تدفق
الزمن
نرتحلُ بسرعة
هائلة
ولسنا خائفتين.
—————————
إيتل عدنان مختارات من شعرها
إيتل عدنان الشاعرة والناثرة الدائبة على الكتابة والرسم وإعطاء الحوارات والسفر بين القارات واللغات عاشت متنقلة بين بيروت ودمشق وباريس وكاليفورنيا والجزر اليونانية وتكتب بالفرنسية وبالانجليزية دون ارتباط سيكولوجي مرضي بهذه اللغات كما هو شأن أبناء المستعمرات فهي تعيد خلق اللغة في كلامها الشعري لأنها متخفّفة من أي عادات وأساطير لغوية…
ايتل تعيد للكلام بكارته في هذا العصر الذي لم تعد فيه الكلمة بكرا لم تعد الكلمة بيت الكائن كما أرادها هيدغير لم تعد الكلمة تقول العمق الانطلوجي للإنسان وحقيقته الوجودية اذ أفرغتها العلوم والتقنية والسياسة والميديا من ذاك البعد الشعري أي الأنطولوجي ومحضتها للتعبير عن المنطق والتقنية والإديولوجيا والاعلانات
إيتل الشاعرة المعايشة لواقعها والقارئة لواقعها الممتزجة بلحظتها التاريخية والتي تتجلى في نصها مواقف أخلاقية وسياسية دون السقوط في المباشرة الفجة وكتابة القصيدة التحريضية
وهي في كل هذا الاشتباك وكأي شاعر حقيقي منحازة لعذابات وآلام الإنسان المستلب والمقهور والمغيب وفي هذا السياق كتبت عن الثورة الفيتنامية وحرب الجزائر واحتلال العراق وفلسطين التي ظلت لأزمتها الدائمة وكتبت عن تراجيديا العرب في العصر الحديث قصيدتها الملحمية قيامة عربية
رموزها الهندي الأحمر الذي يتماهى في شعرها مع الفلسطيني الذي يعاني هو بدوره ما عاشه وعاناه الهندي الأحمر من إلغاء على يد عصابات قادمة من أركان العالم الأربعة بتعبير واضح الفلسطيني الذي ظل يتعرض ومنذ سبعين سنة لتراجيديا تطهير عرقي بتأييد صامت وصارخ من الديمقراطيات البيضاء التي تقدم نفسها وبكل صفاقة كحارسة لحقوق الانسان وهي المؤسس والممول والحامي لهذا الكيان الفاشي.
و الشاعر لدى ايتل هو الانسان الكامل وهذا الإنسان الكامل يتجلى بأقنعة كثيرة بيد أنه واحد في تعدده فهو الشاعر والثوري والمتصوّف والهندي الأحمر والحلاج وتشي غيفارا وبدر شاكر السياب وبتريس لوممبا وجمال عبد ناصر … هو مالكولم إيكس ومارتن لوثر كينغ وعبد القادر الجزائري المتصوّف والمحارب والشعر لدى ايتل يتماهى مع الخلق مع العالم. شيء شبيه بالحلول الصوفي
سألتها ذات سنة بعيدة في تونس عن الشعر عن الفعل الشعري
قالت: فعل الخلق فعل شعري والعالم قصيدة كبيرة وما نكتبه هو نتف تتجلى لدينا من هذه القصيدة/ العالم
تقول ايتل
نحن جميعنا جزء فاعل
من عمليّة خلق مستمرّة
ثقل المياه التي تسقط لم يكن رعبا
هكذا هي ايتل شاعرة حلولية وحدة الوجود لديها هي وحدة العالم والشعر
في شعرها تتجلى أيضا عزلة الإنسان الأساسية الأنطولوجية في العالم وفي الآن اشتباكه بالتاريخ: الانسان الذي يعاني مفارقة بين نداءات المطلق والحرية والتعالي وبين ضرورات التاريخ وشروط وضعه البشري
شعر إيتل كرسمها تجريدي ولكنه التجريد الذي يعبر عن حقيقة الإنسان العميقة وتوقه وجرحه أكثر من تلك الواقعية المدعية والفقيرة والمختزلة للواقع في صوره المباشرة وتوصيفه الذي هو أقرب للتقرير الصحفي منه للإبداع الأدبي.
أخيرا…
للتعرف على شعر إيتل لابد من قراءته لأن كل كتابة عن الشعر هي اختزال وتشويه له
و الابداع يظل متعال عن كل تعريف. لأن ما يقوله الشعر لا يمكن أن يقال إلا من خلال جسد القصيدة
بتعبير آخر مضمون الشعر هو شكله لأنه لا يقول شيئا خارج الطريقة التي كتب بها مثل الموسيقى والبحر والوردة ووالأعمال التشكيلية جسدها هو حقيقتها العميقة المتخفّية في تجليها.
خالد النجار
سحب تتمدد
أيتها السحب التي تتمدّد حاملة الرصاص
إنّك تثقلين على هذه الأرض
كنت أردت أن اغنّي أوبيريتات من نحاس
تحيّة لجبال السييرّا
وأمام الأجسام الميّتة
للأطفال الزهور
ولكن كلّ شيء ينتهي إلى صراخ وصمت
الأجداد الجدد يثوون
في أسافل جبال أخرى
وفي قبور أخرى
مالكولم إيكس ، مارتن لوثر كينغ
عبد القادر المتصوّف والمحارب
وأنتم يا قوّاد الهنود الحمر دموعكم
تشكل العواصف الكبرى
لكاليفورنيا
أجيء أقول لكم
أنّنا نقف وحيدين
سيّارات مصفّحة
تحشّ الحياة كما لو كان
حصاد موتى
أيها السائرون المتمردون الثائرون
المقيدون الغاضبون
نشيد عقيم فوق شفاهكم
يمنح أضحية لإله السلام
الأخير
حتّى هذا الإله يجب أن نتخلى عنه
لأجل الذرة التي تنبت فوق
سفوح غواتيمالا
*
أيتها الأمم الهندية الحمراء ضروريّة لنا
الحكمة التي تتنزّل
في رؤاكم اليوميّة
ها هي حالة أمّنا التي تشملنا :
الأرض
نحن جميعنا جزء فاعل
من عملية خلق مستمرة
ثقل المياه التي تسقط لم يكن رعبا
ونحن لا نريد تفجير
ذرات ولا أقوام…
في خلايا السجون الأكثر عتمة
ثمّة نور يضيء
العالم
لا تكونوا آخر من يمارس الإبادة
من يقذف بأطفالنا
في المحرقة الكبرى
آه أيّها الجمال اللعين
الذي يسكن كلّ سلطة
***
أرى هنودا حمرا يحملون
جسد تشي غيفارا
عبر غابات تذبل كما تذبل الورود
بسبب عبوره
عندما تأتي الأمطار السوداء الشاسعة
ملائكة متراتبة تطلب
الغفران :
الجنس البشري كما تقول
في خطر.
ما الذي سيحدث للملائكة
عندما نزول نحن ؟
أرى عيني أمي الاغريقيتين
تنحنيان فوق احتضار
أبي العربي :
حضارتان تموتان معا
عاشقان غريبان كانا يقولان
لهذا العالم وداعا…
لا أريد لكوكبنا نهاية
مثل هذه
كأنّما على مضض تقبلا السر الأكبر
لحظة الشروع في السفر الكبير
ونحن لسنا بدائيين لدرجة
نغسل فيها أقدام
الأقوياء
طالبين منهم أن يوفروا
قارّاتنا
أسلحتكم تزيل سلطتنا
لنقل لأنفسنا في وضوح جديد
أن المسيح لن يعود
أبدا
نحن وحيدون
وموزّعون في شكل أغصان عديدة
الشجرة حاملة الأنساب تعبر
المحيط الكبير
ذهبت صديقتي إلى نيكاراغوا
تتعلم مناخا
جديدا
هي لا تستطيع أن تعيش بعيدا
عن فصل خاص
هو فصل حبها
قرون من ممارسات محاكم التفتيش
لم تستطع هدم لغة
الرّيح
هي تدرك غياب
أمريكا اللاّتينية
إنما تعني
أمريكا الهندية
جالسون نحن في غرفنا البائسة
نعدّ ثروات غائبة
مباراة كرة القدم هي الياذتنا
والطائرة الرئاسية
بالنسبة لنا
بيد أنّه هناك
هناك حيث ترتعش الحرارة
تشرع السماء بالدّوران
لأنها قريبة من مناطق الاستواء
ثمّة شعوب عيونها
لا تموت أبدا
وهي تملأ الفضاء
الكبير
الهنود الحمر بصدد
المجيء
لديهم مناجل لقطع
الأعشاب العالية التي تغطّي
وجه الشمس
هنا مقاطع رثاء من كتاب تلك السماء… والقصيدة مرثية جنائزية لصديقتها دومينيك أدّة…
المقطع الثالث
1
كل ما تبقي
طيات البنطلون،
و الجفون المسبلة،
و العضلات المشدودة :
إنه ميّت.
2
ملزمة حديدية وجدت
في أحد السهول
… ثمة حصان يتعثر.
3
أنا لست اصطرلابا
يحدد السماء ولا أنا دورة
دموية. في أسفل الصفحات
تنام التواقيع.
4
ويبقى
الاختناق.
وإرادة
تتماها مع إرادة السماء.
5
لا تألف
المرارة المريرة.
اذا لم يكن لك وطن
سيبقى لك الكون
صديقا.
6
بدأت أعــدّ
السيّارات
ثم شرعت أجمع
الأرقام،
فوجدت نفسي
في بيت الموتى
7
في هذه الكاليفورنيا
الورديّة والزّرقاء
ثمّة قلق الجرائم
غير المكتملة:
الطرقات تختفي
في الغابات.
8
الضوء المنهمر
له صوت مثل خرير الجدول
الذي هو لغة
المادّة.
9
الحقائق
هي متاجر كبيرة
حيث نصعد مشيا
أو بالسلالم الكهربائية
و لا نعود أبدا.
10
في العتمة
الغامضة
لحبّ الزبيب
هناك
نصف
الشمس
و
ظلال الماضي.
11
أحيانا أتهيّأ
لسفر بلا عودة،
ثمّ
يرفع الفجر الستائر،
وتنزوي
مراهقتي
في اللامكــان.
12
تحت سحر
السماوات الباردة
يعيد القديس سان كانتان
إحكام الأقفال :
ثمّة انقطاع
في كهربيّة الأدمغـة. والسجين رقم 116
يعتقد أن حارسه
تزوّج بيسي سميث.
13
و الآن بــدأ هفيف
الخريف،
و لم تعد هناك أسرار
في دهليز بيتي،
أمّا فضاء
الحديقـة
فإنّه لا يقلّ بياضا عن الورود.
14
أهي الفواصل والنقاط
التي تدل على نهاية النصّ
أم الكلمات.
15
إنّها جزر
منعزولة
تدين بشهرتها
لموت الهنود الحمر،
الذي يلفه الخيال.
16
ثور يدوّم
في السماء.
و المسافة التي تفصلنا
هي عبارة
عن صحن بيننا : حول أيّ موضوع
سنتحدّث؟
17
ليست لي
ذات داخليّة،
أنا مشهد ومياه جارية:
بين حرب
و أخرى ثمّة دائما
ظـلّ.
18
لقد حبست نفسها
ثم وجدت بابا
للخلاص : هو الانتحار.
مرآتها هي التي سمعت
الطلقات.
19
لم تعد هناك خراتيت
في الشارع.
أطلب البوليس
فيسألني
أوراقي.
20
الانهيار
مستمر
منذ هذا الصبــاح
لا توجد ثقـوب
في السمـاء،
ولا نـــداء.
21
باريس
هي الصحاري المسكونة
برامبــو
ليالي رمضــان
التي زارها نرفال
و بودلير
في المدارج الخلفية…
22
هبوط الليل
في قلب الحلم
يشظّي الحيـاة
إلى أجزاء .
السلطة تعجّل سرعة
الموت.
23
الجبل يرسم
غيـومه.
يرتعش الضـوء
فوق أشجار الصبار.
والرغبة تغادر هذا الجسد.
24
ليست شجرة التي تقف
أمام بابي، بل
فارس العـدم.
و الغناء حاسة أخرى
تضاف إلى حواسّنا
والأوبرا لا تعزف
سوى في المرآة.
25
في بهاء الصباح
الرمادي
في معسكر الموت
ببيت ساحور
صنعنا
الحياة
بقليل من النـدى
وبقبضة من طين
المقطع الرابع
1
حول القطيعة
تتشكل دوائر تورط
صامت.
2
ثمّة دم
في هذا الضياء
و رائحة ما بعد الموت
في سهول
فلسطين
3
عندما يكف القلب
عن تحديد الساعات، ينمو
العشب على حواف
الجــروح.
4
المحبّة نضارة زمن
انمحاء الجسد
بالجسد
و انطلاق
الرّوح
5
الأصابع والقبضات
هي أدوات العنف،
و القلب مكان بلا
نوافــذ….
6
هاهو أيضا ما يحيط بي :
جار يقدّم للسلطات،
بريد متأخّر،
لحظات إلهيّة مبثوثة
في شرودي
و صمود المفاصل
أمام ضغط الغياب.
7
ثمّة شرايين،
وعروق ومسالك أخرى
كلها تفضي إلى الموت.
8
أخيرا اعتكاف
يخول للشك الدخول
بقوّة ـ فَصد دم ـ
و فوق هذه الهضاب
ثمّة قمم أخرى.
9
بيد أنّ أسباب الغبطة
هي نفسها أسباب الذعر
إنّ ضياع الأندلس
كان بداية صعود
الملائكة
نحو الرفض
و هذا الحب عديم الجدوى.
10
هناك في البعيد حيث كل شيء
أخضر،
والنباتات تنمو لئلا تقول
شيئا،
وأنا ! ضربني
إعصار
11
الكائن أعزب
إنّه ينزل
كالأنهار، ومثل الحدائق
ينطفئ على عتبة
المطلق.
المقطع الخامس
1
منبهرا بحركة الأمواج
الدائمة يتراجع البحر
حتّى خط الأفــق
2
يسوّي القلب معادلاته
بينما تتتالى أحداث التاريخ
في الغرفة المجاورة
المقطع السادس
1
في أي اتجاه ترسل النّظر؟
في داخلك،
تجد نفس الأشياء والعوائق
ذاتها التي تلقاها
أمامك.
2
أمام الفراغ الذي يحيط
بالذاكرة فالكم الأقيانوسي
الذي أنتجته المادّة
يخيفنا
المقطع السّابع
1
التأخر الممنوح
للرغبة يفرط مجرى
الزّمن. ونحن لن نكسر
أيّة كثافة بينما يظلّ
أكبر راقص
محلقا في جنونه.
* قصيدة سحب تتمدد منشورة في مجلة ›HIPPOCAMPE حصان البحر الفرنسية العدد الثاني أبريل .1984
تقديم وترجمة: خالد النجار
—————————–
ظللنا في نعومة الغيوم – شعر
( ترجمة خالد النجار )
لأجل ذلك
لتقرأ شعر إيتل عدنان لابدّ لك أن تنسى كلّ ما قرأته عن الشعر وأشكاله ومواضيعه. أن تمحو الذاكرة وأن تدخل في طقس ممارسة النسيان المطلق وتفتح حواسّك الداخلية. أن توسّع مسامّ روحك، أن تترك ذاتك العميقة تتخفّف من أسر الماضي كما طفل يرى ولأوّل مرّة زهرة بيضاء في حديقة. لأنّ إيتل عدنان تقول الشعر كما مشى آدم فوق اليابسة أوّل يوم نزل فيه على الأرض. لم يكن له مثال سابق يتبعه ويحتذيه، كلّ حركة كان يقوم بها هي إبداع. هكذا هو شعر ايتل عدنان شعر بدايات فليس لإيتل مدرسة تنتمي إليها ولا تيار تنضوي تحته ولا تقنية ولا أسلوب تتبعه وفعل الخلق لديها ينبثق تلقائيّا ووحشيّا كما تلطخ اللوحة بالفرشاة… فعل آني مادّي مباشر ينبثق من ذاتها. لذلك، فأنت إذا ما تأمّلت هذا الشعر وجدته متفردا بسيطا وذا تأثير مباشر… في غموضه وضوح تستشعره ولكن لا تراه.
النّشيد الأول
1
لا ضفادع
في هذه السّماء الوسيعة
لا رسالات.
ولا سمــاء
داخل هذا الدّماغ
لا كلمات
ولا دمــاغ
في هذا الجسد
لا روابط.
2
الروابي جافّــة
والذّهب لا يجعل الحشائش
تنمو
أسود وفيلة
ميّتة
هل مضى الآن زمن طويل
على ذاكرتي
وهي أرض محروقة؟
الجفاف
في الرّوح
وفوق الأرض.
3
لجيراني عيون
بيضاء بالكامل
وأنا أحرق يديّ
بملامسة سيّاراتهم
ثقافات العالم تحملها لنا
الصّحف
واللّحم الذي في السوبر ماركت
مفرغ من دمه.
4
قتلوا رجلا
بحذاء البيزبول
“آه” قال البوليس
“أيّ لعب سيّئ!”
5
لا أحد يعرف كلّ جمال
كاليفورنيا
أكثر منّي
إنّها آلهة عارية من ملابسها
من مناجمها
لها رائحة البنزين
بيد أنّها تتذكّر…
كلّ ما ينساه أي كان.
6
كانوا يتحدّثون عن الحريّة…
هم يربون قططا لتغذية
الكلاب
ويقتلون حوت البالين
لتوفير طعام للقطط
ويبكون الصّين
لأنّه لم يعد ثمة
هنود
في هذه النواحي.
7
أنا امرأة
أأكون الأرض الأم؟
أنا نصف الكون
ألا أصير أبدا كائنا مكتملا؟
أنا الصّمت الذي يحيطني
أنا الحديقة الخاوية
أسرع زوالا من غيمة
أنا نقطة.
النّشيد الثاني
1
عندما نكون على وشك الوقوع في الحب
في ذاك التشتّت
والانكسار
لا يعود للزّمن حساب
بالنسبة للجسد.
والريح تهبّ
في حضور خريفي
ثمة دائما دم
فوق بعض الطرقات
وصداقة الموت
الخبيثة.
2
ثمّة ضجيج
في قلوبنا
حركة مدّ و جزر
تنفـّس غير مكتمل
بعضلات مشدودة:
ألم ممضّ في المفاصل
وفي الثنايا.
3
صف الجسد
إن استطعت
وستكتشف أنّها غريبة
هي روحك
لأنّ المادّة
هي متاعنا الشخصيّ.
4
أتطلّع إلى النيزك
هو صورة للموت،
ضوء يمحي نفسه
بعيدا عن منابته.
5
ولنستعر الظّلال التي
ينام تحتها المحيط الهادئ،
فعزلته تتكوّن من أشكال
رماديّة: إنّه يأخذ صوره الاستعاريّة
من الالكترونيك، ولا يعيش
سوى في انمحاء الرّموز.
6
هي، في النّشيد الورديّ لغرفة،
حب مقفرة،
وفي زمن الأشجار
الضّائع…
7
يظلّ التلفزيون
على تخوم غابة الوحوش
و لا يدخل في الجوهر المقدّس
للحاضر.
8
الزّمن احترق
لأجل ذلك ظللنا
في نعومة الغيوم
مشدودين إلى السفر
الليليّ.
النشيدان الأوّلان من كتاب إيتل عدنان الشعري تلك السّماء غير الموجودة ترجمة خالد النجار.
( عن الدستور الثقافي )
———————–
إيتل عدنان تتهجّأ العالم شعراً
*ترجمة: خالد النجار
يمتزج لديها الشعر، ويتداخل مع النثر، مع الرسم، مع حياتها.
هي تسكن- شعرياً- العالم، وهي مأخوذة، باستمرار، بكل ما تقع عليه حواسها.
تبدو طفلة، رسولة منبهرة وممتزجة بأشياء العالم.
إيتل تذكّرني بتعريف غوته للشاعر.
… كلما أراها أستحضر كلمات غوته لصديقه إيكرمان في تلك العشرينيات من القرن التاسع عشر. يقول غوته: «الشاعر هو ذاك المأخوذ، وباستمرار، بعجائبية العالم، بروعة العالم والأشياء، لأن الشعر ينبثق من ذاك الحيِّز المجهول، حيث اللقاء السعيد للأنا مع العالم…»
كأن غوته كان قبل قرنين يصف إيتل عدنان.. الكلمات نفسها قرأتها لهنري ميللر في حواره، هو- أيضاً-، مع دي بارتيا.
هكذا هو الشعر لديها، لا يأتي من اللغة، وإنما ينبثق من تلك الإقامة الشعرية في العالم.
وهي، إذ تسافر من باريس إلى باثموس، إلى جبل تاملباييس، إلى الأندلس، إلى كاليفورنيا، أو تجلس في المقهى، قرب كنيسة سان سولبيس، في الدائرة السادسة، تتأمّل رغوة القهوة، والمطر الذي يغسل نصب باريس، أو تتأمّل شمس أغسطس فوق بحر أصيلة المغربية، وتستعيد حياة أناس ماتوا من زمان.. إنما تقوم بأعمال واقعية وحلمية في الآن نفسه.
لأنّ الواقع لديها حلم، والحلم حقيقة واقعية…
قالت لي: عندما كنت طفلة صغيرة كنت أكلِّم الزهور في حديقتنا، وكنت أعتقد أن الزهور تراني. هكذا هي إيتل تبعث الحياة السرّيّة الكامنة في الأشياء.
وهكذا أحَبَّت جبل تاملباييس، ورسمته في جميع حالاته،
وعندما سُئِلت، يوماً، من هو أهم شخص التقته في حياتها،
أجابت فوراً:
جبل تاملباييس
إيتل تلامس ذاك العالم الخفي في الأشياء، العالم الذي ذكره أفلاطون، واستعاده بودلير في «LES CORRESPONDANCES»،
والشعر لديها فعل آني ينبثق تلقائياً (أقول: غريزياً)، ويجعلنا في تواصل مع ذاك العالم، كذلك هو التشكيل لديها.
كنت، ذات مساء بعيد، في شقّتها الباريسية بشارع جاكوب… أتذكّر: كان ضوء المساء يتدفّق عبر النافذة، برتقالياً ناعماً مالئاً فضاء الغرفة.
أخذت ورقة، ورسمت أمامي بأقلام البستيل الملوّنة، وبسرعة مذهلة، عملاً تجريدياً : حروفاً من أبجدية ابتدعتها لحظتها، وأشكالاً هندسية كأنها رموز طقسية من ديانات شعوب منقرضة…
وأخالها تكتب الشعر- أيضاً- بالطريقة نفسها، كما لو أنها تطلق آليّة شبيهة بآليّة السرياليين، أو هي خاضعة لصوت آخر يملي عليها ما تكتب، سرّيّ يأتي من الأعماق، وهي على نصف وعي به.
واليوم، إيتل عدنان، وهي في أواخر العقد التاسع، وبعد مسار طويل، ما تزال تفاجئ القارئ بقصائدها الجديدة وأعمالها التشكيلية.
وهذه القصيدة «العودة من لندن» هي الكتاب الأخير من رباعية، وهي عبارة عن يوميّات شعرية، وكل كتاب منها أُنجِز في يوم، تقوم على تاريخين هما:
-1 يوم 27 تشرين الأول، 2003.
-2 الجمعة 25 آذار، الرابعة بعد الظهر.
-3 في الثانية بعد الظهر.
-4 العودة من لندن.
العودة من لندن
ألمح في أثناء عبوري
شرخاً في نسيج
النّهار
…
يتناقص عدد الملّاحين
والبحر ينتظر
نهاية الكائن الحيّ
…
سآخذ القطار بعد قليل
ثمّ سأوغل في الجدار
المغطّى بالكروم الحمراء.
…
غير وارد
النّزول إلى الحديقة.
على الزّمن
أن يغادرنا.
…
ضعوا تيجاناً
ذهبيةً فوق رؤوسكم،
فالجحيم ليس وحده
من يمتلك النّار.
…
نسمّي التاريخ آباراً
مفعمةً بالارتعاش الجسدي
وهذه الشجرة مشدودة
إلى ظلّها.
…
اللّعنة جَلَبة،
انفصام، نظرة تنغلق
وضربة نتلقّاها على الرأس.
…
بعض المقتنيات تموت
قبلنا، وقبل الحرب
كانت البيوت تنهار
تحت ثقل الأثاث.
…
لا برودة في هذا الصيف
لا خبز أيضاً،
محاط بالثروة
ثقب قي خاصرة السفينة الفضائيّة.
…
زاغ التفكير. منذ اللحظة
الأولى قلت لكم: امضوا
إلى الجبل، فمن فوقه لن تروا أي شيء.
…
الحمّى أصابت الزمن، والضوء يدهشه بريقه
الخاصّ
حينئذ، يبدأ السؤال النّهائي:
ماذا فعلت بطفولتي؟
…
يبدأ الانتباه من ضباب
لا يدرك، وفي أيام
المطر نصير نباتات.
…
لا تضيّعْ تلك الرغبة في الوجود
التي تسبق الولادة يولد التاريخ
في أماكن لامادّية، ثمّ يتبع القدر.
…
الحبّ هو تمرُّد الموت،
وبقاؤنا رهين
بقدرة الواقع على الانفلات
من هجمة اللغة.
…
الكسل ذو التّأثير المسكر
هو خمرة الفقراء، وأولئك الذين
يضلّون بينهم.
…
ثمّة أشكال من الحبّ تتضخّم
كالسرطان، ونحن نتشبّث بها
كما يتشبّث الجسد بمرضه، و
القمر بالشّمس.
…
ونحن فضّلنا الغياب
والألم والصّمت على الرّغبة الوالهة
لرؤيتك
سوف نظلّ نسدّده إلى الأبد.
…
أريد أن أفكِّر كقارب نجاة
لَفَظَته الأعماق إلى
السطح المضيء والقاتل
للبحر.
…
لتعلموا أن بلاد الإغريق، هي نفسها
مسرح، وهناك صعد الفكر
فوق الركح،
وأعشى أعيننا بصفائه.
…
وهناك ألم حيث ذهبنا،
في غفلة عن القوى، في شباب
ضائع، وبضوابط غير مميّزة
وأيدٍ خاوية.
…
ثمّ جاءت العاصفة والقوارب التي ألقت
مراسيها، فوق البحر النّديّ تبادلت
المعارف ونحن، نحن
تشبّثنا بحجراتنا العابرة وبكلمات الأب المتعفّنة.
…
وإثرها، بعد ساعات كثيرة،
وبعد حالات الإرهاق، وعديد الاسفار
أوهمنا أنفسنا بأنّنا نحيا.
…
والشباب ينتظر فوق الشواطئ
أن تتكرَّر الشمس
يريدون الرحيل، ليموتوا،
في أماكن أخرى، مثل حيوانات
الغابات.
…
الأسرة هي الأمّ. إنّها تدرك أنها الاصل
لقد منحت الموت القادم،
وحافظت على الحياة،
وهي تتورَّم على امتداد النظر.
…
لا تحطِّم قلب الفتيات
ستستقلّ قطار المنفى،
ويصبح الخبز صلباً بين أسنانك.
…
أنا، انتظرت أن أكبر، وفجأةً
انفجر الحبّ وسط البلاط، أُصِبت
بشظايا قاتلة.
ذاك الشّخص
الذي أتحدّث عنه اختفى.
…
لأنّه ثمّة أَسِرّة في المستشفيات
تتمسّك بحرفائها
وسدود تشوّش مياهها
لتطلب الحساب
من قدرك.
…
نغلق كتاباً، كما نغلق
حياتنا على أنفسنا.
…
قلبت الدمية المطليّة
بالجير على الطّاولة
حوّلتُ، من خلالها،
موتي.
…
حَدَقَتُه ترتعش على إيقاع
دقّات قلبه. إنّه
الموسيقار شوسكاتوفيتش.
…
يعود النّاس في أحلامنا
ليحملوا لنا حقيقتهم،
تلك التي رفضت عيوننا
أن تراها، وبسببها أحرقونا، فيما
أحرقوا أنفسهم.
…
لا تقولي لخالد إن الحقيقة هي
خطأ العقل، لأنّه سيمضي مباشرةً
إلى الميناء، ويضيع في صخب
المسافرين.
…
الضّوء يعشي عيون الحيوانات،
إنها تنتظر الليل، ومسيحها
محتمَل الوجود أكثر من مسيحنا.
…
خرجت أتطلّع الى البحر من شرفتي.
نظر إليّ فأدركت أنه عليّ
ألاّ أندفع في
أمواجه الوحشيّة.
…
أطفئوا مصابيحكم قبل النوم.
والشمس التي قبلتكم تركت
حروقاً على الوجوه،
لقد عادت إلى عزلتها.
…
عبادة الموتى ليست سوى ذريعة
لترك الفقراء يتخبّطون
في السجون، والسيارات تنتظر.
…
في ضوء وهميّ، وفي فضاء
مسكون بالإلهي، تغنّي العصافير،
في آذان الشموع، ألم العيش
ذاك أن السعادة
لا تحتمل.
________
*مجلة الدوحة
———————-
البحر والضباب
هلمّ إلي أيها الضباب
هلمّ لسمائي الرمادية
السماء أبدية
والضباب جاثم على ركبتيه
أيها الملائكي الحبيب
يا غبار يومي العادي
لا تخشى هذا الصباح
حيث أستيقظ على غرّة
هلمّي إلىّ
أيتها الطريق
أيتها الريح الحانية
هلمّي إلي برفق
فالعمر يحزم أمتعته
واصغ إلي، فالروح
والبحر والأصدقاء
كلهم قد رحلوا صوب المنفى
حيث البياض،
والنافذة المهجورة وحيدة
لا تخف يا حبيبي
فليس ثمة أثر للضباب
وليس ثمة معنى للضباب
هو محض غيمة عابرة
ولا أحد قادم
في هذه الليلة الضبابية
فالتلّة تدلف وحيدة صوب
هذا الليل
رويدا رويدا
ونحن نسينا النبوءة
والعشب الطري
تحت أقدامناـ
والخوف دائما
تمر أيامنا
مثلما نمرّ بها
تتلاشى بعيدا
هنا حيث تتسمّر الحياة
تأخذنا الملائكة الأنيقة
من أيادينا
نحثّ الخطى
صوب الشاطىء البعيد وحدنا
والشاطىء يتسمّر خدرا
وأنا أعود للضباب
لأن الضباب أناي
للضباب جاذبية
لا يحوزها جل البشر
والضباب يملأ المدى
كم هو وحيد هذا الإنسان
وأكثر هشاشة من الحلم
متجذّرا
كالشجرة
ليس للدم رائحة العطر
لكنه في بعض المدن
ينزف كالحرية
فالضباب
هو النذير
هو البشير
هو الوفي
هو الرفيق
هو وحدة المفاهيم
—————————–
قصائد
1
احك لي قصة الطيور التي رحلت
وأنا نائمة،
وقل لي ما الذي جعلها تمطر
عند وصولك،
ولماذا تعالت من القطار أغنيات
بدلا عن الصفير.
2
كنا نتكلم في الحب
لكي لا نأتي على ذكر المرض،
كنا نفلت الأيام
فتطير مبتعدة،
كنا نعرف أنها لن تعود
3
نعيش، كلٌّ في زمانٍ
عصيٍّ على الترجمة،
وصوتك يولج نفسه في عروقي
دون أن يحذرني
أنه نبتة سامة.
4
ستدركن يا بنات اليونان
أنكن منحتن براءته للعالم
فيما كنتن تحلمن
بالحرائق والدم
5
يختفي الأبيض المتوسط
عن أعيننا.
الماء ليس كما يبدو وحسب.
=====================
تحديث 23 تشرين الثاني 2021
——————————
«سفر الرؤيا العربي» *
■ قصيدة 4
شمس صفراء في الوادي خمر أحمر بلون الدم مخطّط في السماء الشمسيّة!!!
شمس خضراء مخطّطة بهنود حمر أيّتها المجزرة المكلّلة بالعار!!!
شمس شديدة الحرارة رحلة حارقة في حدائق البنزين أيّها الموت!
مستوى شمسي وطنٌ شمسي قبيلة شمسيّة صه! منحدرُ وادٍ
عالمٌ أصفر شمسٌ زرقاء شمسٌ صفراء دوارٌ أبدي في يدي
هويس قناة النيل موقفاً أرعبَ القمر أيّتها الأسطورة المسحوقة؟؟؟
شمس؟؟؟ صفراء؟؟؟؟ شمس؟؟؟ خضراء؟؟؟ مركب؟ أزرق ووردي
نجمةٌ شمسيّة على جبين عينُها القمر قبر الفرعون
يا للخوف يا لوجع في الورك وفي عمود فقري فكّكه الغزو
نخلةٌ شمسيّة سرطانٌ متفشٍّ على مجرّة نجوم العذاب
منظر طبيعي تجريدي لإيتل عدنان (زيت على كانفاس – 20×30 سنتم – 2015)
شمس صفراء ترتجف فوق المكسيك. مكسيك يرتجف الشمس تنام
شمس خضراء وأخضر شمسي بُطء المراكب الشمسيّة على ذراعك
عالمٌ عشتُ فيه كعشبةٍ أكلتُ الحلزون وأزهاري مقطوعة
ربيع «نوبي» مدرك اغتصابٌ لشجرات لوز غير مزهرة. أزهار باهتة
عربيّ مشوّه معذّب يتقيّأ الشمس معلّقاً مشنوقاً من قدميه
شمس صفراء شمس زرقاء شمس خبازيّة شمس خضراء
أورشليم مبغى الإله أورشليم محترقة أورشليم من زجاج!
شمسٌ، قلتَ؟ صفراء، قلتَ؟ قلتَ صفراء لا لم تقل!
تلفاز كوكبي كرة صاعقة تعطي قبلةً لشمسٍ دويدة خبازية اللون
وشمس خضراء على مرج الدموع شمس في جيبي ما أفقر شمس الجيب
شمسٌ صفراء غبار ضجيج نقطة نقطة نقطة والحلقة زرقاء
يا للخوف يا لوجع في وركي شمس ساكنة وفي رأسي وفي عيون لعب الأطفال
شمس شتويّة ليليّة مخدرة جدلية ويمنية
يمنٌ أصفر كلقاح زهر اليمن وثلج جبال السييرّا. موت النهار
شمس صفراء دوار بلا لون شمس تأكل شجرات اللوز.
نخلة شمسيّة متاحف نواويس وعفونة البحر أرمل. نعم.
شمس دمّاعة مخدرة بالورد سابحة الآن في السديم
شمس خضراء وخبازية متوارية نخاع عظام في المحبرة أفق مسدود
عالم ينتظر شمسٌ شمسيّة قارعة الباب تأكل كلماتها
شمس قاتلة للإله. في الفوضى الصفراء سيارات تشارك في سباق الرالي
شمس نائمة على الطريق السريع وشريفٌ يفحص دقّات قلبها. أمرٌ يضحكني كثيراً.
؟؟؟ عندما فتح المبغى أبوابه وجدنا شمساً تمارس الحب
شمس صفراء تتثاءب فوق بيروت فيما باريس تحتضر ونيويورك يُغمى عليها.
أيها الزمن المفكّك.
■ «قصيدة 7»
شمس حربٍ في بيروت نيسان صاخب ريح باردة في السفن
شمس صفراء على صارية عين في فوهة بندقية ميت من فلسطين
شمس خبازية في جيب صديقتي نزهة في باريس
طير على إصبع قدم فلسطيني ميت ذبابة لدى الجزار
بيروت – حمض – الكبريتيك قف الكرنتينا تحرق مجانينها قف بيروت
شمس في الإصبع شمي في الشرج شمس تمتطي الفيل
شمس وحش أرمني آكل لحوم البشر دملة على مراكب الشحن!!!!
شمس صفراء على الوجه سرطان على الفلسطيني مصيبة النخيل
سافرت على مركب تحت البحر حيث الأموات والأحياء نعم نعم نعم
شمس سوداء 24 جثّة سوداء في نعش واحد عين سوداء ساهرة
شاهدت صقراً يلتهم مخّ طفل في مزبلة في «الدكوانة»
شاهدت شمساً منطفئة تُستخدم كرةً في «صبرا» شطرتُ السماء
شمس معطوبة نخرتها الديدان تخيّم على بيروت الصمت يباع بالكيلو
أيّها البدو المغطّون بنواويس قمر موشوم سيمطركم بالديناميت
شمس ملغّمة طفل ملغّم سمكة ملغّمة والشارع ملغّم
كلوا وتقيّأوا الشمس كلوا وتقيّأوا الحرب سمعتُ ملاكاً ينفجر
شمس حيوانية تزحف على عمودي الفقري وتأكل عنقي. شعرها
شعرها يتساقط في الشوارع، الفاشية بلباس أخضر تستمني بنادقها
أيتها المغامرة المعكوسة! رأيت بيروت المجنونة تكتب بالدم الموت للقمر!
صاروخ يخترق البيت. رصاصات تفرقع. مخزنٌ يُخلع. هرّة تُداس
أنا أخذت الشمس من ذيلها ورميتها في النهر. انفجار بمْ بمْ…
بيروت عاهرة قذرة ناقلة لمرضى السفلس والشمس مصابة بعدوى المدينة
شمس زرقاء متقهقرة كرديّ يقتل أرمنياً أرمنيّ يقتل فلسطينياً
الدولاب الشمسي لأعراق سوريا أيها البدو المغفلون يا شاربي الغبار
شمس خبازية مُحِبّة للماء شمس صفراء كاذبة شمس حمراء مزهوّة
بيروت – الدهاء حزبٌ نشوان بالبترول وميليشيا الزوابع نشوانة بالمجرّة
شمس في بطن مغذى بالبقول نظام نباتي دسم لشمس ليّنة
شجيرات الأوكالبتوس مزهرة العرب تحت الأرض الأمريكان على القمر
الشمس أكلت أطفالها وكنتُ صباحاً سعيداً.
■ قصيدة 33
شمس العرب نوويّة مسلولة تبصق دماً ساديّاً وتشرب الحليب
شمس تلامس مياه الفرات بأصابعها الملتصقة ببعضها
تهرول من الأطلسي إلى الخليج لتهرس عشبة طريّة
شمس موشومة تنهش الذراع التي ترفعها والأظافرَ أيضاً
تهرول من بغداد إلى بيروت لتذبح 8000 حصان
شمس معتلّة تلقي مبيداتها في غابة الصنوبر
وتذهب إلى صيد الغزال على درّاجة ناريّة
شمسٌ كسيحة تتزوّج من البدوي لتنجب له طفلاً مشوّهاً
تذهب إلى البحر ليس إلا لتبيد سمكات القرش الزرقاء
شمسٌ كتلة من دخان تحرق ميناءً بعد آخر قف دخان أسود
تلتهم غلال القمح أمام أفواه الجائعين
شمس مصابة بالكوليرا تنتقل في تيه المخيّم
تعذّب المقاتلين الفلسطينيين المنطرحين على أسرّتهم القذرة
شمس معتزّة بمجدها تشرب من مجارير الأحياء الفقيرة قف نقطة على السطر
تظن نفسها ملكة وتجلد عبيداً مشبوهين
شمس تهوي في الوادي تتضرّع إلى الجبل
تختبئ تحت الرمل لتأكل النمل بهدوء
شمس مسمومة تشتّي جواهر في العواصم الكبرى
تواكب قطيعاً من الشحاذين إلى صلاة الجمعة. تمزّق سوريا
شمس مجنونة تطارد ذيلها في السوق التجاريّة ______
الشمس تغرق في كسوف وفي غياهم الغسق.
■ قصيدة 39
حين الأحياء ينحلّون فوق أجساد الموتى المنحلّة
حين أسنان المقاتلين تصبح سكاكين
حين الكلمات تفقد معناها وتصبح بطعم الزرنيخ
حين أظافر المعتدين تصبح براثن
حين الأصدقاء القدامى يهرعون للانضمام إلى المجزرة
حين عيون المنتصرين تصبح قذائف مشتعلة
حين رجال الدين يحملون المطرقة أداةً للصلب
حين القادة يشرّعون الأبواب للعدو
حين أقدام الجبليين يوازي ثقلها وزن فيلة
حين الورود لا تنبت إلا في المقابر
حين الفلسطينيّ يؤكل كبده قبل أن يموت
حين الشمس نفسها لم تعد تصلح إلا كفناً للموتى
المدّ البشري يتقدّم…
■ قصيدة 53
وقع صراع بين الجيف والجثث أنا أحببت جثة
علّقوه من شعره على سيارة شفروليه قديمة مطلقين النار!
ساقاه متباعدتان خصيتاه معروضتان كحبّتي شمندر
ظهره قشط الإسفلت فصفّق الأولاد
الشمس هاجرت وجه النساء منذ زمن طويل
قلن الفلسطيني لا يتعب قط بما يكفيه. والأرمني كذلك
كان ذلك في حيّ “البدّاوي” في شهر آب يوم السبت
الشمس سارت في الشارع راعدة المنازل نضحت من شدّة الحرارة
رأيت رجالاً سمر البشرة ينتعلون جزمات صيد وسترات مرتخية
حتى الحمير والخنازير رفضت صحبتهم هو! هو! هو!
امرأة تنتعل حذاءً مختلفاً في كلّ قدم وقفت تنظر إليهم
كانت أجمل من العذراء أكثر امتلاءً أكثر حناناً
أرَتهم يديها الفارغتين أسنانها المذهّبة ووساعة عذابها
عذاب أوسع من البحار من المحيطات من القارّات
راحوا يضحكون يحكون هؤلاء الأنذال.
* صدر بالإنكليزيّة عام 1998، ثم تُرجم إلى الفرنسيةّ. أما القصائد المنشورة هنا فهي مأخوذة من النسخة العربية التي صدرت بعنوان «سفر الرؤيا العربي» (دار «التنوير» – 2016) ترجمتها أوديت خليفة.
ملحق كلمات
—————————
الموت يختبئ وراء كلّ كلمة نكتبها
رغم تأثرها الشديد بنيكولا دو ستايل، تعْتبر إيتل عدنان نفسها، أدباً وفنّاً، خارج المدارس والتيارات المعروفة. تكاد تكون وريثة كڤافي وريتسوس في استلهام الأسطورة الإغريقيّة وإسقاطها على الرّاهن. هي أيضاً شريكة الثلاثي الإغريقي العملاق ريتسوس، إليتيس، سفيريس في حضور الضوء والشموس الطاغية على سينوغرافيا قصائدهم. منذ 1997، دأبت على كتابة نصوصها في شكل مَقَاطع نثرية وجيزة تمتزج فيها الأجناس الكِتابية بين شعر وتأمل فلسفي ونقد فنيٍّ. نقلنا المقتطفات أدناه عن الطبعات الفرنسية
■ من ألف لياء: يوْم في نيويورك [1982]
الكنيسة الصّغيرة من خشب
قرّرت الذّهاب إلى المحيط
يصل بحّار عبر
سفينة جديدة
نجدّف على ضفاف
الجنون
بدموع
وقليل من المال
«سفر الرؤيا العربي» (حفر ـــ 29.5 × 20 سنتم ـــــ 2020)
■ هناك [1997]
إلى ذكرى خليل حاوي
والْأرض؟ بعض طين، بعض غراء، نيزك، أهي سيّدة نفسها؟
■ ■ ■
كنت ألقي بذكرياتي من النافذة فتعود، غريبة، في ثوب شحّاذين أو ساحرات، تتركني منغرسة هنا كسيف. ألهذا الشمس بالغة الشحوب، ولم كلّ هذا الحبّ تحت أشعّة الشمس والحقيقة؟
■ ■ ■
هناك. أيْ نعم! رست سفن كولومبس، أين، — مع العفونة، الأوبئة، الجروح والموت، أخشاب لصلب الهنود — ومتى كان ذلك ولم؟ أنت أخي اللّدود إذنْ، ظلّي التوأم، أكنّا في أميركا القارّة ومن بعثنا هناك؟
■ ■ ■
وتحدّثني عن السلام في المقهى، كما في الماضي، أقصد: بين الحملات العسكريّة ولا أحد يدرك كيف كتبت الموسيقى، من طرف من، فوق أيّ طاولة، بالحبر أم بالدم؟
■ ■ ■
هناك. مجتمعين في أحشاء الأرض لبرمجة هجمات قاتلة، هنا بالذات، غير مكترثين بقرارات البحر وها أنت بيننا — ماياكوفسكي في مطبخ فرمير — فاقداً للبوصلة: أكان موتك مبرمجاً، أكانوا سيقتلون جارك الدائم (أكانوا سيمنعونه من مشاهدة الأخبار في هذه الليلة المحتومة، أكانت روحه ستنظر إلى جسده يطفو فوق بركة دمه؟)، نعم، يستطيعون وكنت ستحذو حذوهم، تقتل أوّلاً، والذرائع في ما بعد؟
■ ■ ■
كنّا نعْبر الأدغال — أتذكر؟ — كان الحلم يكبر أسرع من نخلات جوز الهند، كنّا نحرّر العالم من سوئه. كنّا ندفن الفلّاحين البوليفيّين قرْب تشي، كنّا نمثّل من جديد قصّة المسيح بالتنقيب، ضاربين في أعماق التاريخ، أبعد من ينابيع الأمازون. كنّا هناك. هذا السفر محفوظ في سفر الذاكرة الحقيقيّة.
■ ■ ■
هناك. وكان ظلّانا جالسين هناك، وجهاً لوجه. أكنت خلف حجاب، خلف جدار؟ كانتْ عيْناك تمْتصّان أزرق الحزن الذي كنْت أرْمقه في النّيل، النهر الذي ولد في الأفق، نازلاً من المصطبات الضخمة، هائجاً، مرعباً، ثمّ التحقت بي زهرة، اقتاتت من جوهري، استحالت إلهة فراشة وواصلتْ، وجْداً.
■ ■ ■
أنْت تحيا في عتمة الرّوح، في مكان ما جنوب إسبانيا، حيْث تزوّجنا ثم تطلّقنا، كنت عليلاً، تشخص نحونا نظرة الكنيسة، عندما لا تصلبنا أو لا تحرق كتبنا.
■ ■ ■
الطين حيويّ، جوهريّ في الخلق، طبيعيّ في بلدان الأنهار، أنهار المنيّ والملح، فهو يصلح أيضاً لبناء البيوت، هناك، البيوت المطمورة تحت النّاپالم والْعلم الأميركيّ.
■ ■ ■
أقول لك هذا: النيران تبقى بعد موجة الجنون، وقبل أن تحبل زياتين بيْتي بثمار ستأْكلها، هناك، وسط الدفء، موجة الجنون والغبار، وريقات تصير الأحجار.
■ بحْر [2012]
إلى سيمون فتّال
موجة، فتحة: حصان يصل، يخْضع، يغْرق. سماء مخطّطة بالدّم. ما السّماء؟ تسلّق جبال لتأمّل الغيمات. ماء على ماء يعكس آليّات الذاكرة.
■ ■ ■
بحْر مصاب عنْوة بالْأرق، سماء تجْري نحْو الشرق. زبد أبْيض يغطّي الْماء منْ جديد. صمْت محيّر. تبْزغ الطّبيعة الْأنثويّة للمادّة كجوهر للماء.
■ ■ ■
مطر يسّاقط. أرْواح النّار تولّد فزعاً وظمأ في الحاضرين. أيمكن للماء أن يظمأ؟ بينما يركّز الرّعد الطّاقة، تصير متواليات من الموجات مقطوعات موسيقيّة. يقبض الفكر على الْأصوات وينْفثها في العاصفة.
■ ■ ■
مثْل ميديا، ينتسب البحر للأسطورة: يتلاطم على أرْصفته الصّخريّة. يغلي، ويغلي، ينقبض في تموّجات الْألق، يهبّ، ليهوي من جديد خفيفاً قبالة الشاطئ الأماميّ. عندما نرغب في رؤية اليمّ يستحسن في أغلب الأحايين إطباق العينين.
■ ■ ■
المحيط أوّل أبناء السّماء والْأرض. الزّمان يحلّ أخيراً؛ يبصق موجات مهدّدة ويستعيد شكله. هيجان ذو طابع خاصّ. وحش.
■ ■ ■
نقطة انطلاقة اللّانهائيّ تكون دوْماً في المركز، ثمّة حيث تقيم الرّوح. خلف صورة، ثمّة الصّورة. العدم أسّ الكيْنونة، بإخراج مشهدي من الشّعر الذي يجْمع الْايروتيكا والفكر. ليس بحياة، لكنّه حيويّ.
■ متوالية الزّيزفونات [2012]
كنْت أحبّ فسْقيّات باريس. لكنّ ذلك اندثر. البحار النّاشفة للقمر والجلبة الضّاجّة للمجرّات أندر الْأشياء التي تسحر قلبي. وعليّ أنْ أعدّ لها نفسي. الانتظار لا يزْعجني.
■ الثمن الذي لا نريد دفعه من أجل الحبّ [2015]
عنْدما نعشق، نصير طيوراً: نشْرئبّ بالأعناق ونصغي لنشيد لم نكن ننتظره. نبقى خرسان. لكنّهم كثر أولئك الذين ليسوا على استعداد للمجازفة بحياتهم من أجل لحظة كهذه. لن يجازفوا حتّى بأقلّ من هذا، لنْ يتحرّكوا. إنّهم هلعون، يفضّلون البقاء في رداءتهم. بوسعنا تفهّمهم: الْأحبّ في كلّ أشْكاله أهمّ أمْر نواجهه، لكنّ الْأخْطر أيْضاً، الْأقلّ توقّعاً، الأكثر إشباعاً بالجنون. رغم ذلك، هو الخلاص الوحيد الّذي أعرفه.
■ ليْل [2016]
طرحت الرّيح حقلاً من شجر الورد أرضاً.
■ ■ ■
ظلال تشبه بغرابة أشجار الْأمْس، الْأماسي والْغدوات جدران سجوننا.
■ ■ ■
زفافات الحكاية والقهوة التّي نحسوها، في أيّامنا التي تزداد قصراً، توْقظ حاجتنا لإعادة ابتكار الحبّ.
■ ■ ■
قوقعات فارغة تترسّب في الشّاطئ في ساعات غير أكيدة دوماً.
■ ■ ■
يرفض الهنديّ الأحمر قطع الأعشاب لأنّها، حسب قوْله شعْر أمّه، وأنا أعده بألّا أكْسر حجراً أبداً، لأنّه قد يكون مسكن روحه.
■ ■ ■
تقودنا الفلسفة نحو البساطة.
■ ■ ■
الْآن، موْجات من الورود تكسو الذّاكرة، لكنّ رغبة الطّفولة باقية، رغبة النّفاذ إلى قلب الزّمن. لا شيء يتحرّك… العشب ينمو بخلاف الكلمات. في هذه الورود، لانهائيّ اللّانهائيّ.
■ ■ ■
الميلاد في بطن مختوم، مع اللّيل كأرومة. أنا متيقّنة أنّ شيْئاً مّا يتبقّى من كلّ شيء، حتّى من العدم.
■ ■ ■
قشرْت الحائط منْ كلّ أثر للضّوء. وانْزويْت في تعاريف ضبابيّة.
■ ■ ■
الْيوْم جميل: الْآلهة ثملة والفتيات يترنّحن تعباً. آن أوان قطْف الخشخاش المتكاثر والإيماء للسّفن التي ولدتْ فرْحانة.
■ ■ ■
قبالة الْمرْآة، يبْدو الرّأْس كوْكباً مضاء. أتساءل: هلْ لنا أنْ نبْقى مليّاً في قلب زهرة. يدور الخيال في حلقة كأمتعة معزولة على مدرّج طائرة.
■ انْبثاق [2018]
تعود الْأمْطار إلى صوت أصولها عندما يهمّ اللّيْل بالتّمدّد؛ اللّيل، في الأطيان، مديدة كالشّوارع المقفرة لمدينة… أو للطّريق نحو المجرّات البعيدة. الحيوانات تستشعر فقْدان الوجهة.
■ ■ ■
الْمعْنى زائل.
■ ■ ■
يمْكن لضوْء شمْعة أنْ ينمّ عنْ كلّ عبث الانتصارات.
■ ■ ■
أنْظرْ للْأحْجار هناك، للحائط المنصدع، للمطر.
■ ■ ■
لديْنا يقينيّات لنسند إليها أكتافنا، ونواصل رغم ذلك فتح المصاريع، استقبال أصدقائنا… في المدن الّتي تجنّبتْها الحرب…
■ ■ ■
يتنفّس النّاس بقوّة بين الكابوس القديم ورتابة النّهار. يمْكن لسؤال بسيط أنْ يرفع حرارة الواقع.
■ ■ ■
الْقمر أكْثر ممّا أنا عليه، لكنّه لا يستطيع أن يمنحك أكثر ممّا هو عليه.
■ ■ ■
الدّنوّ من الشمس، أمر مخيف، مخيف برهبة.
■ ■ ■
لنترك النّوافذ مفتوحة لتهدئة الرّوع النّابع من الْأثاثات. البحر يرشق موجاته أعلى فأعلى. ملْح للْأرض.
■ ■ ■
آه لوْ أمكن النّفاذ في الواقع كما تنفذ سفينة في اللّيل!
————————-
بحثاً عن «ايتيل» */ بيار أبي صعب
ى الفصلُ في مطلع الصباح/ والنجمةُ المطاطة ثقبتِ السماء/ البحرُ غارقٌ في حطام سفينة».
(إيتيل عدنان ـــ «كتاب الموت»)
أبحثُ عن إيتيل عدنان. هنا والآن. في مدينة تبحثُ عن نفسها. لا تكفي الكلماتُ والألوان. لا بدّ لي من أن ألمسَ بيديَّ المرأةَ الشفّافة التي تحوم دائماً في مكان قريب. المسافرة، المترحّلة، الغريبة عن الأوطان، ربيبةَ المنفى الحميم، منفى الداخل. أسمعُ صوتها الأليف، وأقول لا بدّ من أن أجدها يوماً.
«هل سبق لكِ أن حاولتِ ارتقاء الهواء بكل الوسائل المتاحة؟ الملائكةُ تفعل ذلك، اعتماداً على اسمائها، وتساعدها في ذلك الحرارة (…) إنّها تفوقنا عدداً، هنا بالذات، حضورها يبعث على الاختناق، هذا ما لم نتحدّثْ عنه أبداً. هل فعلنا؟ ولمَ؟ ومن يدري؟» (هناك).
أبحثُ عن إيتيل بين تركيا واليونان، سورية ولبنان. بين خمسينيات بيروت، وستينيات باريس، وسبعينيات كاليفورنيا. بين الحرب الأهليّة، والاجتياح الإسرائيلي، وحرب تمّوز. بين العصر الذهبي وزمن الانحطاط. أبحث عنها بين إيتيل وإيتيل. بين مشاغلَ سياسيّة ونصّ حميم. بين قصائد ودفاتر يابانيّة ولوحات ورسائل، بين رواية ومسرحيّة، بين تصويريّةٍ وتجريد، فلسفةٍ وشعر، مسيحيّةٍ وإسلام. أبحث عن المرأة التي صارت «صديقةً للماء»، وجارةً لجبل TAMALPAIS. أبحث عن أغنية ضاعت، «في جوار الحب»، «في انكسار النور»، في «خرير جدول».
نعم إيتيل عدنان. العابرةُ بنعال من ريح، كما قال فيرلين مرّة عن عشيقه رامبو. تحكي قليلاً وتغيب. تنتظر الوحيَ، تلك اللحظةَ السحريّة حين تأتي الكلمات، فتروحُ ترصُفها من دون وعيٍ على الورق. إيتيل بين حلم ويقظة.
«رأيت حلماً عن مجرى بين جَهنّمَ والجنّة: عندما يكون أحدُنا سيداً يتدفّق مجرى النهرِ هذا صعوداً، وعندما يكون التدفّقُ عقيماً فالمجرى نزولٌ إلى الجحيم. لكنْ، أحياناً، يسبح واحدُنا في اتجاه معاكس للتيار، فيذهبُ النهر إلى الجنّة، والسابحُ إلى القاع. تلك هي عمليّة الخلق» (تملباييس).
منذ زمن وأنا أبحث عن إيتيل عدنان. اقتفي أثرها، من خلال علامات منسيّة، تنثرها وراءها، هنا وهناك، على طريقي. كبرتُ، والطريق طالت، وأنا أبحث عن هذه الجنيّة في نص يحكي عن الحروب، والرحيل الدائم، والحبّ الخافت، والناس الغاضبين.
«أين كنتَ عندما نشبتِ الحرب، الحربُ الواحدة والحروب العديدة، لتحيلَ شعوباً كاملة إلى صفوفٍ طويلةٍ من الخراف؟» (هناك).
أبحث بين بوب ويلسون وزاد ملتقى، بين جنين وبغداد. بين ماء وزيت، وسَجاد وخزف، بين الإمبراطوريّة العثمانيّة وأرخبيلات العولمة، بين المرأة والمرأة. بين «ميترو باستيّ» ونهر «الكولورادو». بين الفيتنام والجزائر. بين ديونيزوس وسافو، بول كلي وبدر شاكر السيّاب. بين قسوةٍ وسذاجة. فرنسيّةٍ وإنكليزيّة. بين اتّساع اللّون وضيق العبارة. بين الحاضر والحاضر. بين بيوت تحترق و«هذه السماء الغائبة». بين حبّ وحبّ، أملٍ وخيبة، غربةٍ وغربة، يأسٍ ونضال، بين «باريس عندما تتعرّى» وبيروت إذ تفتح «كتابَ البحر».
«أوَدُّ أن يكون الفردوسُ مكاناً أستطيع أن أذهبَ إليه وأكلّم بول كلي. معاً سننظر إلى دوائر، ونرى فيها نُقطاً. وفي تلك النُقطِ سنكتشف أكواناً. وسنزور فيها كلَّ البيوتِ التي رسمَها» (تملباييس).
بلى إنّها هي. عرِفتها من الصورة. لم أرَها إلا بذلك الشعر القصير، الأبيض. يذكّرني ببيروتَ السبعينيات، بمدنٍ لم أعرفْها إلا عن طريق الأخبار والشائعات. بلهجةٍ لم أسمعْها من قبل. أبحثُ عن إيتيل عدنان بين «الكتابة بلغة أجنبيّة» والرسم بالعربيّة. بين لغة لها تحملها في الأعماق طلاسمَ وإشارات، ولغةٍ غريبة استوطنتها ورسمتْ بها طلاسمَ أخرى وإشارات.
«أنتِ ملاكٌ ميت/ ممدّد في جسدي،/ طينٌ عائد إلى الطين/ مطرُ شتاء في عظامي يقيم/ بقايا سفينةٍ/ نسيَها البحر،/ شمسٌ مطفأةٌ/ تقيّأها فم طفل،/ أنت ملاكٌ ميت/ ممدّدٌ في جسدي/ (…) أنتِ امرأةٌ،/ فوق صدريَ العاري،/ بلا حياة». (كتاب الموت).
أبحثُ بين بوذا ومارلين مونرو، بين الحوادثِ العابرة وزلازلِ التاريخ.
«جنح نهرُ كولومبيا عن مساره/ كنا نمارس الحبَّ فوق الأريكة/ دخل الرجل العنكبوت من النافذة/ رنّ جرسُ الهاتف/ وتفرّجنا على التلفزيون» (نيويورك).
أبحث بين القدر والمصادفة، بين الأبوكاليبس وملذات الحياة الصغيرة، بين الإحساس والفكرة، بين الجسد والمدينة، بين بناية «الست ماري روز» ومخيّم تل الزعتر.
«كنتُ أستطيع أن أذهبَ إلى المقهى المجاور/ أتأمّلُ البرد وهو ينسلّ في الخارج/ فيما أتنعّم بالدفءِ، أو حتّى بممارسةِ الحبّ…/ بيد أن القنابلَ كانت تنهمرُ على بغداد» (يوم 27 أكتوبر 2003).
أبحثُ بين «سفر القيامة العربي» و«الهنديّ الذي لم يمتلك حصاناً في حياته».
«للهربِ من ثقب الهواء/ الذي أحدثته قنبلةٌ في إحدى/ ضواحي بغداد أعيد قراءة/ كلمات السيّاب» (الجمعة 25 مارس في الرابعة بعض الظهر).
أبحث بين لوحة لإيتيل عدنان ولوحة لسيمون فتّال، بين قلب وقلب، بلد و«بلد آخر»، طفولة وكهولة… بين الهويّة والتاريخ، المدنيّة والطبيعة، «مقهى الإكسبريس» وما تبقّى لنا من أرصفة. بين سركون بولص وخالد النجّار، بين همس وصراخ، رقّة وغضب، بين الذات والواقع، بين المستتر والملموس، بين المجاز والمعنى، بين اللغة/ الأم والوطن/ المنفى.
«هذا المساء سأنام مبكّراً يا أصدقائي/ لأن الظلمةَ تكاثفت كثيراً. وسأحاول/ ألا تجرفُني الفيضانات/ كما اعتدتُ أن أراني في الأحلام/ وسأحاولُ ألا أضيّعُ المفتاح/ وأن أنام مثلما ينام الأطفال/ كما أظن». (يوم 27 أكتوبر)
أبحث عن إيتيل عدنان. بين ميّ مظفّر وأمل ديبو، جيروم شاهين وفايز ملص، فوّاز طرابلسي وعابد عازريّة. بين «27 أكتوبر 2003» و«الجمعة 25 مارس في الرابعة بعد الظهر». بين ذلك البيت العائلي القديم في بيروت وبلاد الله الواسعة. بين رثاء عالم يتفتّت وتمجيدٍ طفوليّ للحياة.
«… ورفض الليلُ أن يمطر على رؤوس الخراف، ورأينا البرقَ يختلط بالغيوم التي تضخّمت دماً ودموعاً، وراحتِ المادة تتحدّثُ مباشرة إلى الموتى الذين توقّفوا عن الإصغاء. أما الشعوب، فكانت قد فقدت صوتها، ومشينا على الشوك والقرّيص، واستنفدتْ عيونُنا مفرداتِ الظلام. وعندها نزل، بعد المطر، ملاك لم يتمكّن أحد من إيجاد اسم لهُ. راح يحصي الجراحَ لدى بعضهم، وعمليّاتِ البتر التي أجريت بسكاكين المطبخ لدى البعض الآخر، ودوّن الملاكُ كلّ شيءٍ في كتابٍ من الذهب والوحل (…)» (جنين).
أبحث عنها بين «يوم في نيويورك» وآخرَ في بيروت. في كتابة تكثّفت حتّى شفّت عنها اللغة. أبحث عن صبيّة تقف على الشاطئ، تخاطبُ الموجَ في مدينة بعيدة كأنها بيروت. عن اللغة الأنثى التي تحميها طوباويّة الشباب من معتقلات التكريس وتحنيط الريادة. أبحثُ عن قِصصٍ كثيرة لم تروِها لنا المرأةُ التي عَرِفتِ الامتلاء.
«تتحدثين عن الشعر، كما يفعلون في بلاد العرب أحياناً مع جواسيسَ سريّين. إن لم تكنِ الكلماتُ في الشوارع فهي بائدة، قلتِ لي هذا وأصغيتُ إليكِ، بينما كانتِ البراءةُ متاحةً لنا» (هناك).
لكن مهلاً، يبدو أننا سنبحثُ طويلاً. هل نجدُها خارجَ بيروت؟ هل نجدُ بيروت خارج القصيدة؟ قصيدة إيتيل عدنان.
«… وتتمدّد ظلالي/ فوق جسدي عندما ينام،/ وتكفّ السماءُ عن أن تكونَ زرقاء/ والضوءُ ينتظر» (27 أكتوبر).
وحده الشعر قادر على تكثيف تلك الحيوات المعقّدة، والمشاعر الملتبسة. نحنُ، مواطني السراب، نحتفي هنا/ الآن بالشاعرة التي رأت.
«لو قلتُ لكِ أحبّكِ/ فهل تعتقدين أن الطائرات/ ستحلّق/ ليلاً؟» (نيويورك).
نحتضنُ هذه الشاهدة الصامتة على انهيار العالم، وامحاء المدينة. نعانق طيفَها الهارب. ألم تقل لنا إيتيل ـــ طوال حياتها ـــ إننا بالشعر، وبالشعر وحده، نعيد ترميم العالم؟
(*) ألقيت هذه الشهادة ضمن تظاهرة تكريميّة أقامتها نضال الأشقر في «مسرح المدينة» ــ بيروت، بين 13 و16 أيار (مايو) 2010.
الاقتباسات في النص مستقاة من كتب إيتيل عدنان الآتية:
– كتاب البحر، كتاب الليل، كتاب الموت، كتاب النهاية/ ترجمة عابد عازريّة، دار أمواج، بيروت 1994
– هناك ـــ في ضياء وظلمة النفس والآخر/ ترجمة سركون بولص، دار الجمل، كولونيا 2000
– يوم 27 تشرين الأوّل 2003 (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2004
– يوم في نيويورك (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2006
– الجمعة 25 آذار في الرابعة بعد الظهر (بالفرنسية والعربيّة)/ ترجمة خالد النجّار، جبل التوباد، تونس 2007
– رحلة إلى جبل تملباييس – (مع 34 لوحة)/ ترجمة أمل ديبو Amers Editions، بيروت 2007
——————————-
الغرام الأول *
إذا كان الإنسان عنده ماضٍ أكثر من المستقبل، فلماذا تكتسب ذكريات الماضي دقّة مخيفة؟ أكثر فأكثر، أرى طفولتي وسنوات مراهقتي الأولى تظهر أمامي مراراً كما لو كانت شخصاً – مختلفاً في كل مرة- يوقفني في الشارع، يستجديني بأمر ما لا أفهمه، ومن ثم يختفي ليس وراء زاوية ولكن في الضباب، في النسيان.
هذا الشخص ربما كان منبعثاً من تلقاء نفسه (أو بالأحرى عائداً من وقت إلى آخر)، يطرح أسئلة، يطالب بالحساب، يسأل عن الإصغاء الذي لم يحصل عليه أبداً، متطلعاً أبداً إلى ما تشتاقه النفس من البدء ولم يتحقق أبداً. نحن مسكونون بهذه الأشباح ومطاردون عملياً منها، محجوزون بالذكريات التي لا ننجح بالتخلّي عنها لأنّ شيئاً فينا يعرف أن موتها سيكون موتنا. هذا وإذا كان بالإمكان أن تموت: ربما هي حظيت بحياة من دوننا، وإلى هناك لن نذهب أبداً.
«الجبل، لبنان» عمل مشترك لإيتل عدنان وسيمون فتال (زيت على كانفاس – 54×64 سنتم – 1973/ بيروت)
في الحقيقة كنت ولداً وحيداً، لا إخوة لي ولا أخوات، وكان لأبي من زواج سابق ثلاثة أولاد- ولقد تخلّى عنهم بطرق شتى، وهم كانوا يعيشون في بلد آخر. ما كان عندي أولاد أعمام ولا أخوال من عمري. هذا الوضع لم يجعلني فتاة تعيسة بصورة خاصة، ولكنه دفعني، بكل تأكيد، إلى أن أفتش عن أصحابٍ أقدر أن أشاركهم لعبي، مشاعري، أفكاري وألعابي. وُلدت ونشأت في لبنان، بين أطفال من عائلات متشعّبة – عائلات بدت لي إلى ما لا نهاية، أنا كنت أبداً الصغيرة الغريبة التي كانت عائلتها تبدو هزيلة بالنسبة إلى كل الآخرين. وحتى الآن، الصداقة تبدو لي عجائبيّة، قبل كل شيء، متقلّبة.
بيروت، أيام طفولتي كانت مدينة حديقة وضواحي صغيرة، شوارع هادئة، وحياة بسيطة. مدرستي كانت تبعد شارعاً صغيراً عن بيتنا؛ كانت تديرها راهبات فرنسيّات ألّفن فرعهن من المدرسة الجانسينية الكاثوليكية مع التعالي الاستعماري وأعطتنا نوعاً من التربية الغريبة- متقيّدة بحرفية الكتب التي كانت غريبة تماماً عن محيطنا- ما خلق فينا عزلة عن تقاليدنا وأيضاً عن حاجتنا الداخلية إلى عالم سعيد. في هكذا مدارس، كانت رؤية العالم ضيّقة للغاية، يهيمن عليها أب غير منظور كان يوزّع العقاب أكثر من الجوائز للبنات الصغيرات اللواتي كن يتكلّمن عن خطايا ليس باستطاعتهن اقترافها، وكنّ ينتظرن أن تأتي فسحة الراحة كما ينتظر الرفاق في السجون الخفيفة العقوبة على الأرض.
بيتي كان وحيداً، مكاناً محبوباً. كنت أعي أن أمي جميلة فوق العادة وأن أبي كان يكبرها بكثير؛ وكانت دائماً تؤكّد أن هذه المعلومة كانت معروفة. حياتي العاطفية كانت واضحة: كنت أحبّ أهلي الاثنين وهذا كان كل شيء.
ولكن هذا كان بعيداً كل البعد من أن يكون كل شيء. قلبي كان مفعماً بالمشاعر. مشاعر لأي شيء؟ لا أظن أنّ أمراً ما كان واضحاً لديّ في طفولتي. قلبي كان ينبض، أجل، وعقلي كان مشغولاً، السباحة في البحر كانت خبرة سعيدة، يوماً بعد يوم في الصيف، في المرّات التي لم تكن فيها الراهبات من حولنا.
اللعب مع رفاق الصف كان هو المكافأة العاطفية الأعلى درجة: الركض في باحة الملعب، التحدّث طويلاً في الطريق إلى البيت حوالى الساعة الرابعة، أجرجر خطواتي، أمضغ الوقت، وأصل بعد ثلاثين دقيقة من الموعد المنتظر. كانت هذه محاولة مني لأستجلب النظر. وكنت أنجح في ذلك كثيراً من الأحيان. وبما أن الأطفال عليهم أن يختاروا صديقة مفضّلة، كنت أشكل غالباً ثنائياً مع رفيقة الصف الصغيرة السنّ مثلي، أنيسة شاكر. أتذكر وجهها ومظهرها، كما لو كنت رأيتها منذ بضعة أسابيع. كانت عيناها خضراوين زرقاوين، وشعرها أسود أجعد كثيراً، جلدها على شحوب، وعظام خدودها عاليات. كانت تسكن على بعد بضع بنايات في منتصف الطريق بين بيتي وشاطئ البحر. كانت أمها قد توفيت، وكانت هي تعيش مع أبيها وإخوتها الأكبر سناً منها. أمي كانت تحبها؛ أظن أنها كانت مطمئنة لأنها كانت تأتي من «عائلة كريمة». وهكذا كنت بانتظام – وكدت أقول باحترام وبفخر- أُرسَل إلى اللعب مع أنيسة في بيتها التراثي الجميل، الذي كان مبنياً من حجر، مع قناطر وشرفة. هذا بدأ على ما أظن لما كنت في السابعة، ودام سنوات. (في الواقع ، بقيت على صداقتها حتى آخر مراهقتي، حيث وقع في حبي أصغر إخوتها، وصار صديقي الملحاح، كان يأخذني إلى سباق الخيل وإلى مشاهدة لعبة غريبة هي صيد الحمام، حيث كنا نراهن على الولد الذي يُنزل حمامة بطلقة واحدة. رويداً رويداً فقدت أخباره، ومن ثم أخبارها بعد أن ذهبتُ إلى باريس لأكمل دراستي).
في الصف، كنا نجلس على مقاعد، كل واحد أمامه طبقة كانت تُفتح عمودياً، وفي الطبقة كان بإمكاننا أن نترك كتبنا ودفاترنا. وللجهة اليمنى في الطبقة كانت توجد محبرة. الراهبة-المعلمة كانت تحدّد لنا مقاعدنا. وصدف – ربما كان عمري تسع سنوات- أنه كان مقعدي إلى جانب فتاة اسمها هيلين.
أحببت هيلين منذ اليوم الأول حين قعدنا جنباً إلى جنب. كانت هادئة، هدوءاً ملحوظاً. أنا كنت طفلة لا تعرف الراحة واجتماعية، فخورة بتحريك الأمور، محطّ إعجاب معلميّ لنجاحاتي في الدراسة وكانوا حذرين مني لأنه كان ينقصني الانتظام.
لا أظن أنه استغرقني وقت طويل لكي أنتبه بأن هيلين كانت تختلف عن كل الأولاد. تدريجياً، كنت أدرك شعوريّاً أن هناك فرقاً بنظري (أو بالأحرى بقلبي) بين أنيسيا وهيلين. أنيسيا بقيت صديقتي، مع ما ينتج عن الصداقة من مشاعر مريحة، وكل الحرية التي تحملها. كنت أود أن أركض معها في باحة المدرسة وآكل الحلوى في بيتها، نتحدث، نضحك ونمضي ساعات في حديقتها. ولكنني مع هيلين لأول مرة في حياتي شعرت بالحياء، بالخجل، مرتبكة أمام طفلة أخرى، وكنت أدرك هذا وما كنت أستطيع أن أتدبر أمري. كنت جدّية للغاية معها، شديدة الانتباه، كنت فخورة أيّما افتخار أن أمشي معها حتى نبلغ شارعها، سعيدة بالاعتزاز بدعوتها لي إلى بيتها، وكان لديها أخت وأخ أكبر منها. كل شيء يختصّ بها كان عندي بمثابة أهم الاهتمامات والألق. لماذا كان بيتها كبيراً وصامتاً وجديّاً؟ كان هذا يؤثر فيّ إلى أبعد حدّ.
ودام هذا الوضع سنتين. كنت «أحب» هيلين بشكل آخر عن كل من أحببت. أكاد أقول كما في السينما، ليس تماماً، ولكنه أيضاً ليس مختلفاً. بسببها، دخلت هذا الحيّز الذي يختبره الشباب، النصف- نكران والنصف -حقيقة بشأن ذواتهم وبما يتعلّق بمشاعرهم، وبقيت هكذا مدة طالت، العشرينيات من عمري، ومن خلال عشّاق آخرين. هي مأساة، بسبب الحاسّة السادسة التي نشعر من خلالها ما هو منتظر وما لا ينتظر منا وما يمكن اعتباره مخزياً. لماذا وكيف، نعرفه، أنا لا أعرف تماماً، ولكنه يأتي باكراً في الحياة، وعند بعض الأشخاص لا يعرف حلاً.
اكتشفت في قلبي أن ثمة مكاناً سكنت فيه هيلين، حيث كنت أكلّمها، وحيث كنت ألاحظ جمالها الخارق. كان ذلك حقيقياً، ليس مجرّد خيال. كانت تملك عينين ما رأيت أجمل منهما في حياتي كلّها. وبعد وقت، انتبهت إلى أنهما تشبهان عينَي «جاربو». كانت تبدو ناعسة بعض الشيء لما كانت تنظر إليّ (وإلى كل الأشياء). ما كانت عيناها زرقاوين ولكن كانتا عسليتين داكنتين، وكانتا تبدوان فاتحتين عندما تضربهما الشمس؛ ريف أجفانها كان يرسم ظلاً كبيراً عليهما، ينحني حتى أسفل خديها.
كنت خرساء في غالب الأحيان بوجودها، تماماً كما كنت أشعر بعد عشر سنوات أو 12 سنة عندما وقعت في حب امرأة- لا أقول أعمق، ولكن بوضوح أكبر وبعنف أكثر- كنت التقيتها في باريس في أيام دراستي.
بيروت في الثلاثينيات كانت هي ذاتها مدينة على عتبة المراهقة: جديداً توّجت عاصمة لبلد منحوت من قبل حلفاء سوريا. كان عطرها من الياسمين وزهر الليمون، وكنت ترى البحر من أغلب الشوارع. كنت قد أحببتها كطفلة، شعرت بجمالها وكنت ألتذّ بالاتصال بها كذهابي مع أبي إلى السوق أو هرولتي عبر الشارع إلى أماكن السباحة. وكان الاختبار الأكثر إثارة آنذاك حضور فيلم .آه، الأفلام، أيّما حب، أيّما هيام بالمستحيل! كانت دور السينما في المدينة قليلة والأولاد كانوا من المفروض أن لا يتردّدوا إليها، ولكن أمي كانت (فهمت ذلك من بعد) على علاقة بشاب وكانت تذهب إلى السينما وتأخذني معها، عادة في السهرة وفي الشتاء.
كنت أعبّئ رأسي من الأشعة السوداء والبيضاء على الشاشة وأشاهد أناساً بالغين جميلين يقترب بعضُهم من بعض لأجل خلق جو من الميوعة أسمّيه حباً. باكراً، كوّنت السينما إحساسي (أكان جيداً أم قبيحاً)، ونجوم السينما أصبحوا نماذج رغبتي. نساء ورجالاً كانوا متساوين في الجاذبية، متساوين ساحرين، ولقد كانت «جاربو» تلامسهم كلهم.
في ملعب المدرسة، كنت أروي للأولاد الذين يتحلّقون حولي، ما رأيته. ذات يوم، ضبطتني راهبة شمطاء، وأنا أؤدي رقصة- على ما أظن مازوركا لجاربو- لتفسير المشهد. فحرمتني من العطلة خلال أسبوعين، لكن كل هذا زاد في انبهاري بالنوعية الإباحية التي للصور السينمائية بالأسود والأبيض، إلى حدّ أنني بعد عقود عدّة ما زلت أجد فيها شيئاً من تلك النوعية التي لا تموت حتى في صور تافهة للشجر أو الأزهار لأنسل آدمز.
والذي أضاف الأمر سحراً أن صالة للسينما قد دشّنت بمقاعدها المخمل الأحمر براديها الهائلتين، وكانت «الـروكسي» من أجمل الصالات، وأكثرها أهمية، في المدينة، وكان يملكها عم صديقتي هيلين الصغيرة! وهكذا كان، من سنّ الحادية عشرة ومن بعد، كانت «الـروكسي» مرتبطة بصورة هيلين، حتى لو لم أكن أراها في ما بعد. الزيارات إلى «الـروكسي» كانت تكتسب أهمية أكثر لأن ذلك العمّ كان يشاع أنه سكن أميركا (وهذا الأمر الوحيد المرتبط بالسينما)، وعاد ليزيد المدينة صالةً جديدةً لأحلامها. كانت هذه الصالة حيث شاهدت «بلود أند ساند»، «ذي سكارلت أمبرس»، «آنا كارنينا» وبعد زمن، «ذي بير فوت كونتيسّا». وبعد وبعد…..الخجل والاحترام التي كانت تولّده فيّ هيلين، كان يقترب من الممثلين، كان حضورهم جدّياً في قلبي وعقلي ولكن نادراً ما كانوا حاضرين في يومياتي.
حدث أمر ما، ما كنت لأتذكره، ولكن كنت غاضبة عليها بسبب أمر ما – أو لا شيء، وهذا كان بيت القصيد – وكنت لا أتكلّم معها بالرغم من أننا كنّا نجلس على المقعد ذاته. كنت أشعر بخليط من الحزن وشعور آخر لم أكن أعرف أن أحدّده، وقتئذٍ كنت أنكمش على ذاتي عندما كان الأمر يتعلّق بها، وما كنت أستطيع أن أخرج من هذا الجو الذي يمتلكني. حزني كان يبدو واضحاً لأن واحدة من بين المعلمات، شابة صبيّة، أتت إليّ بعد الظهيرة حين انتهى الصف وأوقفت هيلين وهي خارجة. جمعتنا وقالت: «اقتربا يا صغيرتَيّ، عليكما أن تسوّيا أحوالكما». وقالت لي: «أعلم كم أنت تحبّينها، كفّي عن هذه التفاهة». أتذكّر أنني كنت أنتظر هكذا لحظة ولكن، كنت أتمنى أن أعرف بالتأكيد لماذا، لأن هذا الموقف أعاد نفسه لاحقاً مع آخرين، وكانت ردّة فعلي وكنت دائماً نادمة. رفضت أن أبوح واعترفت بأن الأمور لم تكن تجري حسناً وأن العاصفة الصغيرة، كلّها من أعمالي، قد ولّت. وهكذا رحت ألعب مع الأولاد من دون تلك التي كنت أشتاقها بأسى.
كان ذلك على الأغلب في السنة الثانية لعلاقتنا، بين الصداقة وشعور آخر كنّا صغيرتين لتحديد اسمه، ولكن كنّا نعي احترامه، والاضطراب، والحراك الذي يحدثه في أرواحنا. أنسب هذه المشاعر إلى هيلين لأنها حينها، ما كانت تتكلّم إلا معي دون الآخرين، ومعي كانت هادئة، بعيدة، حالمة أو راضية. بعد المصالحة المستحيلة (التي ندمت عليها)، ذهبت بحالها. ولكن ليس طويلاً. صادقت تلميذة جديرة بالاهتمام من رفاق صفّها. كنت أعرفها قليلاً، شعرها أحمر، عيناها زرقاوان روسيّة، كانت، عرفت ذلك من بعد، بنت أمير أذربيجاني منفيّ إلى موسكو حين قامت الثورة، وقدم لبنان طالباً اللجوء. تانيا ناهدشيفانسكي كان اسمها. كنت فضولية بالنسبة إلى شخصها وإلى الاسم، وعندما صارت وهيلين من أعزّ الأصحاب، كنت أنظر إليهما وأفكر كم تانيا محظوظة وأنني لا أستطيع أن أعيد بناء الحصريّة التي كنت عليها مع هيلين (أظن أن تانيا وأنا كنّا نتكلّم مع بعضنا لأن تانيا كانت طفلة معبّرة، واعية تأثيرها على الآخرين، وحضورها المميّز، وجاذبيتها الفريدة بين جماعتنا الصغيرة).
كان الولد في ذلك النظام الفرنسي التربوي أن يمرّ، عند عامه الحادي عشر، بامتحان «السرتيفيكا»، مؤشراً إلى أنه أنهى دروسه الابتدائية. الراهبات كنّ يعوّلن أهمية كبرى على هذا الامتحان في آخر السنة، لأن السقوط يعني ممنوع الترفّع إلى الصف الأعلى. وكان يلزم هذا الامتحان بطاقة وصورة ملصقة عليها كصورة الباسبور. كنّا عشرين في الصف وذهبنا كلّنا إلى المصوّر، وأعتقد أنني تكلّمت مع هيلين عندئذٍ. أعطينا كل واحدة منا صورتين أو ثلاث صور أكثر مما يلزم وبدأنا نتبادل الصور في ما بيننا، وأعطتني هيلين صورتها وأعطيتها أنا صورتي.
في بيتي، لم يكن عندي ما يخصّني، سوى درج حيث كنت أخزّن أقلامي، ممحاتي، مبراتي، وأظنّ بعض الدفاتر. وضعت صورة هيلين في زاوية، على كومة أغراض، وكلما كنت أفتح الدرج كنت أنظر اليها، أقرّبها من وجهي، وفي بعض الأحيان كنت أقبّلها بالكاد، وأضعها جانباً. ذات يوم وضعت عليها زهرة صغيرة، علقت بها غبار الطّلع مخلّفة بقعة صفراء صغيرة، وكنت مطمئنة لأنها لم تشوّه الوجه بل كانت في أعلى قرنة من الصورة.
تنقّلاتي، حياتي البدوية الجامعية، تقصيري في نقل أغراضي من مكان إلى مكان، وفي النهاية الحرب في لبنان، الذي أتت بعد سكني في كاليفورنيا… كل هذا أجبرني على التنازل عن الكثير من حياتي وانتهى بي الأمر مع وثائق قليلة من الماضي. حتى أكثر الأشياء القيّمة ضاعت، لكن تلك الصورة الصغيرة لهيلين كانت تطلّ عليّ من حين إلى آخر وأنا أخلط بعض أوراقي القديمة.
هيلين قالت لي إنها ستغير مدرستها وأيضاً تانيا كانت تفعل الشيء نفسه، وإنهما ستدخلان «الكوليج بروتستانت» المدرسة الوحيدة الفرنسية وغير الكاثوليكية في المدينة. كانت هذه المدرسة أغلى من كل المدارس الكاثوليكية. كان لها امتياز بحد ذاته، لأنها كانت تدار من قبل آنسة ويغمان، امرأة صلبة صارت مشهورة. طلابها كانوا من أغنى البنات، وأجملهن وأذكاهن. كان ثمة شيء متميّز بشأن هذه المدرسة، وفي أوساط الكاثوليك. كانت تسمع همسات بأنه لا يستحسن من الناحية الدينية أن تدخل هذه المدرسة. رجعت إلى البيت، وقلت لوالدتي إنني أريد أن أغيّر المدرسة. ردة فعلها كانت سريعة: «إنهم لا يؤمنون بالله هناك». مع أنها إغريقية، مولودة في سميرنا ومنفية إلى بيروت، لا بدّ من أنّها سمعت هذه الإشاعة وصدّقتها. ما كان لي الحظ أن أدخل هذه المدرسة. عرفت أنني خسرت رفقة هيلين. كنت أفكر بها دوماً، في حيّز هذا الذهن حيث الأفكار، الأفكار التي هي شعور، أيضاً، تتهادى على الدوام من دون وزن، كأنها غيمة محزنة، غشاء خفيف، كأنه مألوف ويأخذ سنينَ ليختفي، إذا اختفى.
سنة أو بعد سنة، يجب أن أكون بلغت الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري. كنت أقود دراجة هوائية على الكورنيش، الطريق المحاذي للبحر والذي كان على بضع خطوات من بيتي، وقد كانت أمي قد سمحت لي بأن أتعلّم قيادة الدراجة الهوائية، وكان على مقربة من عندنا، محل حيث بإمكانك أن تستأجر بمقابل قليل من القروش واحدةً من هؤلاء الماكينات الصغيرة والأنيقة. قلّة من الناس كانوا يستأجرونها للّذة وكان أغلبهم من الصبية. ولكن ذات يوم من بعد الظهر، صادفت هيلين وتانيا. كانتا تركبان دراجة هوائية على الكورنيش وحيّتاني من بعيد. تفاجأت بهما وكدت أصطدم بسيارة مارة، تعرّجت ثم وقعت. السيارة وقفت، السائق تأكّد بأنّني لم أصب بأذى، وأنا لمّا وقفت عدت إلى دراجتي، والبنتان صارتا بعيدتين، توجهت إلى الاتجاه المعاكس، أعدت دراجتي وعدت إلى بيتي.
مضى الوقت، بما فيه الحرب العالمية الثانية، السنوات الجامعية الأولى، ودراستي في باريس، باركلي وهارفرد، وسكنت في كاليفورنيا، التي أحببتها وما زلت أسمّيها وطني، ولكن قبل بداية الحرب الأهلية اللبنانية، رجعت وقتاً قصيراً إلى بيروت. (حيث أجبرني القتال إلى العودة إلى أميركا).
في بيروت، كان مقهى صغير معروف بالـ «هورس شو»، روّاده من فناني المدينة وصحافيّيها. بالقرب منه، اكتشفت أنّ محلاً لبيع ملابس أنيقة فُتح أثناء غيابي الطويل، كان المحل لأخت هيلين، ماري، وأنا كنت متأثرة لأني وقعت على أثر لهيلين. (ماري كان اسمها أميركياً لأن عائلتها هاجرت إلى الولايات المتحدة وعادت العائلة إلى لبنان بعدما وُلد الأطفال). وهنا ما يفسّر لماذا كان هناك أمر ما مميّز عند هاتين البنتين اللتين دخلتا المدرسة معي.
ذات يوم، رأيت هيلين من خلف زجاج الواجهة. دخلت المحل وقلت «هالو» إلى صديقتي القديمة. لم تظهر عليها المفاجأة، ولكن ابتسامة هزيلة وإشعاع نور مرّ في عينيها الجميلتين دائماً شجّعاني على أن أقول بضع كلمات. علمت أنها تزوجت ولها ولدان. كان هذا كل ما لديها أن تقول. «ماذا تفعلين الآن؟» سألتها.
كان الطقس صيفاً وأجابت أنها ستذهب إلى البحر. «لماذا لا ترافقينني؟»، وأنا ظننت أنني سأذهب. ولكنّي عدلت. ولاحظت أنها شاحبة بقدر ما كانت شاحبة وهي صغيرة، وساهية. لو كنت لقيتها لأول مرّة، لكنت وجدتها حبّوبة، جذّابة، ونمط الناس الذين كنت أودّ أن أعرفهم، في طريقة هادئة. كان الأمر كما لم يقع بعدُ وكنّا طفلتين، خجولتين، بريئتين، أمامهما مساحات غير مضبوطة، غير قلقتين، لا معرفة من أي نوع، من غير ماضٍ ولا فكرة عن المستقبل. مخلوقتان صغيرتان سعيدتان، إحداهما بالأخرى ولا تعيان أنهما سعيدتان.
لا لم أذهب إلى البحر. أنا لا أريد أن أعرف إن كنت على حق أو على خطأ. في مجرى حياتي تأملت بالحبّ مراراً وتكراراً وأنا لا أزال أفكر: الحب هو الأمر الأهم الذي نتعاطاه، وهو دائماً الأصعب. يأتي كموجة لامتناهية القوة تخلق الخوف من الغرق، يقمع الذكاء، يشلّ إرادتنا، ويبدو بلا أمل منذ البداية. على الأقل، هكذا يُهيّأ لأغلبية الناس وأنا اختبرته دوماً هكذا.
هو يقفز فوق طرق العقل، هو جنون بجوهره، ويبدو أنه ينبع من منطقة داخلية للذهن – أو من النفس – حيث يسكن الهلع. يخلق حاجة يائسة، الحاجة لتوقيف في الزمن والمكان والشخص المحبوب، إنه معاملة في المطلق. إنه ينتهي بمأساة لأنه في جوهره حرارة، لهب، قوّة تتحرّك بدون رقيب تأتي كانحراف إلى سلوكنا. لهذا السبب، كل واحد يقتل حبّه، بفضل الخوف: نخسر المعركة لأننا نخاف أن نخسرها، نفضّل أن نموت على أن نتعذّب، إننا محكومون ولكننا على خطأ.
* مقطع من نصّ «الغرام الأوّل» لإيتل عدنان ـــــ ترجمة: أمل ديبو
ملحق كلمات
————————-
لوحاتها شعر بصريّ يذهب إلى أقاصي الروح/ تغريد عبد العال
«تعيش في الألوان ككيانات ماورائيّة»، هكذا قالت ايتل عدنان عن فنّها. فقد بدأت ترسم عام 1960، عندما اتخذت قراراً بعدم الكتابة باللغة الفرنسية بعد الحرب الجزائرية. لا تدّعي ايتل أنها تعرف تلك العلاقة بين فنها وكتابتها لأنّ هناك أسراراً كثيرة في هذا الكون، لكنها ترسم بسعادة وهو الشيء الذي يسعدها كما تقول. تأثرت ببول كلي، وكازيمير ماليفيتش، وكاندينسكي ودولاكروا ومن المعاصرين: أغنيس مارتن، والألماني سيغمار بولك. أما الفرنسي نيكولا دو ستايل، فهو يمثل نقطتها المرجعية الواضحة.
المُطالع لأعمال ايتل الفنية الهادئة والبسيطة قد يعتقد أنّها انعكاس لحياتها، لكن حياتها كانت صاخبة لأنها ببساطة إنسانة تسكن الكون. فهي التي سكنت بيروت لأب سوري وأمّ يونانية، وكانا يتحدثان التركية في المنزل. انتقلت إلى باريس ثم إلى أميركا لإكمال دراستها في فلسفة الفن. أدركت ايتل أنها من خلال الرسم تستطيع أن تعطي عالماً ومكاناً أفضل لمشاعرها. لذلك كانت لوحاتها المجردة طبيعةً بصريةً تمتد أمامنا. إنها الأماكن التي عاشتها وتخيّلتها وأحبّتها. فهي تحب الطبيعة وتحب الكون كما قالت أكثر من مرة. عاشت في العقود الخمسة الأخيرة من حياتها في سان فرانسيسكو، وحولها جبل مارتن هيدلاند وجبل تامالبايس. وكما تأثر سيزان بجبل سانت فيكتوار، كانت علاقة ايتل بالجبال والطبيعة قوية. لذلك، فإنّ صدى الجبال والبحر والسماء يُسمع من خلال لوحاتها. في الواقع، تعود علاقة عدنان بالجبل إلى منتصف الستينيات حين انتقلت للعيش في كاليفورنيا قرب جبل تامالبايس، فقد أصبح هو منزلها كما تردد دائماً. يتناسل هذا الجبل في نتاجها الأدبي والفني، فقد خصّته في كتاب بعنوان «رحلة إلى جبل تامالبايس» (2007 ـــ نقلته إلى العربية أمل ديبو). الجبل بالنسبة إلى ايتل كتابها المفتوح، رحلة جوانية معراجية بقدر ما هي رحلة في عالم العناصر.
أما القمر، فله حكاية أخرى في لوحاتها. لعلّها استلهمت وجوده من لوحات مُلهمها بول كلي. فهو غير مكتمل أحياناً. ووراء الأحجام والألوان، هناك انكسارات خفيّة حيث نلاحظ الهشاشة التي هي أقرب إلى الطبيعة الفطرية التي تتميز بالبساطة العميقة.
إنها لغة جمالية تعطينا الإحساس بأننا أمام طبيعة من نوع آخر، لأنّ لوحاتها المجردة تتعلق كثيراً بشيء في داخلنا أكثر ما تتعلق بالطبيعة الخارجية. إنها قدرة ايتل على تحويل الطبيعة إلى أشكال هندسية هادئة وخافتة كأنّ الطبيعة تهمس لنا. هذه الأعمال الفنية هي نوافذ على ذاكرة إيتل عدنان الصاخبة بالأمكنة التي تعكس حساسية ايتل تجاه الألوان والأشكال وليس فقط تجاه الطبيعة.
لا أشخاص في لوحاتها الفنية الزيتية. وكما تتحدث عن وجه العالم الاجتماعي والسياسي في كتابتها، فهي تعكس وجهه الطبيعي والفيزيائي في لوحاتها. في بيروت، كانت ايتل مغرومة بالبحر، الذي كانت تراه في طريق عودتها من المدرسة. وكما كان حاضراً أيضاً في قصائدها، فهو يحضر في لوحاتها التي رسمتها في لبنان. وفي السنوات التي عادت فيها إلى لبنان من عام 1972 حتى عام 1975، رسمت لوحات كثيرة عن الجبال هناك، بخاصة جبل صنين.
«عندما أموت، سيخسر الكون صديقته المفضّلة» هكذا قالت لصديقتها وحبيبتها الفنانة سيمون فتال. فقد كانت ايتل صديقة الكون بكلماتها وألوانها. كانت تحب هذا الكون من خلال تلك اللوحات التي تعكس غموضاً ما كما تقول سيمون فتال التي كانت تدعوها لترسم في الاستديو الخاص بها في بيروت حيث كانت تعمل ايتل محرّرة في جريدة «الصفا». كانت ايتل تنهي لوحة زيتية في جلسة واحدة. هل هو الوقت؟ تتساءل سيمون. تعمل ايتل على لوحات صغيرة تستطيع السيطرة عليها وهي جالسة على كرسيها أمام طاولة الرسم. كانت ترسم اللحظة الآنية، لأن فعل الخلق لديها كان تلقائياً. اللون هو المحدد الأساسي للوحة كما كان يرسم نيكولا دو ستايل.
يرى كثيرون التشابه بين أعمالها وأعمال دو ستايل. لكن ايتل تختار ألوانها بدقة وتقرر استخدامها، فتبدو على اللوحة كأنها طبقة واحدة على خلاف دو ستايل الذي يترك آثاراً لألوان كثيرة قبل أن يقرر اللون الذي سيستخدمه. لا ارتباك في أعمال ايتل، هي ألوان محددة كأنها قرارها الأخير. لقد وجدت أسلوبها الفني سريعاً وباستخدام سكّين تضع عليها ألواناً متقابلة، وعندما تضع تلك الألوان على الصفحة، فلا تراجع. فالسكين التي تستعملها لا تخطئ الضربة، تمرّ لوحتها هكذا أمام عين المشاهد كأنّها جملة واحدة موجزة عن لحظة محددة.
لا تحبّذ ايتل أن تصوّر الفن كأنه فضاء بعيد عن السياسة، لأنها تعتقد أنّ الفن سعادة والسعادة مقاومة، تقول عن فنها: «بالنسبة إليّ، حتى الأشكال الهندسية في لوحاتي سياسية. لأن الفن سياسي بالنسبة إلي، ولو أنه يقرر أن لا يكون ذلك». بدأت ايتل مشوارها الفني وهي في الرابعة والثلاثين، لكنها لم تكن تعرف أنها ستصبح فنانة مهمة. إذا كان الفن قد حدث لها متأخراً، فقد عرفت شهرتها كفنانة أيضاً متأخرة.
في عام 2010، بدأت «غاليري صفير زملر» بعرض أعمالها في بيروت وهامبورغ، وكان ذلك حدثاً فاصلاً ومهماً في رحلة ايتل الفنية. بعد ذلك بسنتين، اختيرت ايتل كأحد وجوه النسخة الثالثة عشرة من «دوكومينتا»، أحد أعرق المعارض في عالم الفن المعاصر في ألمانيا. عرضت يومها عشرات الأعمال واللوحات إلى جانب فنانين مكرّسين حول العالم. بدأت بعدها أعمالها تُعرض في أماكن كثيرة في العالم.
بالنسبة إلى ايتل، الفن شعر بصري خالص، يذهب الى أقاصي الروح ليستفزّها. لاحظت أنّ الفن العربي نادراً ما يأتي من جذوره الخاصة، فهو مترابط مع حركات الفن الغربي وخاصة الفنون الحديثة التي ظهرت في الآونة الأخيرة. ورغم تأثرها بكلي ونيكولا دو ستايل، إلا أنها تدرك أنها مختلفة فنياً عنهما.
هناك محطة مميزة أيضاً في حياة ايتل الفنية، فقد قامت بصنع كتب فنية من الكرتون المطويّ على شكل أوكورديون الذي يسمى «ليبيريللو»، التي استوحتها من الفن الياباني، كل مطوية هي عبارة عن رسوم تتلاقى حول رؤية أو موضوع ما، وتبرز فيها الأحرف أو الكلمات كأنها لوحات هيروغليفية. خطت داخلها بعض القصائد بالعربية على هذا الكتاب مصاحبة برسوماتها. تقول ايتل عدنان عن هذه الأعمال إنّها «سينمائية»، يستطيع من يشاهدها أن يقرأها صورة وراء صورة، إذ اكتشفت أن الرسم كالكتابة تماماً. كانت تكتب وترسم داخل الكتاب بالحبر الأسود، وأحياناً بالألوان الأخرى. تكتب الفنانة سيمون فتال في مقالة عام 2002 عن هذه الـ «ليبيريللو» أنّ «كلماتها ترى مرتين بعين عدنان، مرّة كصورة ومرّة كنصّ». كانت تشتاق للعالم العربي ولبيروت، فتضع في هذه الكتب الفنية مقاطع لشعراء عرب معاصرين وتكتب القصائد بخط يدها. أضافت في ما بعد قصائد لشعراء أميركيين وفرنسيين. هذه الوسائط لم تكن فقط أنطولوجيا، بل إبحاراً نحو الزمن لنراه يتحرك، فنرى الطبيعة أيضاً تتحرك في الرسومات مع الكلمات المخطوطة بيدها. تشكل هذه الوسائط الفنية إضافة فنية لعالم ايتل عدنان الفني، لأنها تتعامل فيها مع الكتابة كجزء من التجربة التشكيلية. ولا ننسَ أيضاً تصميماتها المهمة في عالم الصوف والسيراميك.
لفنّها القوة على النفاذ إلى أعماقنا كما شعرها تماماً، فهو يحاور فينا لغز الفن رغم انتمائه إلى قضاياه الإنسانية والسياسية، وهي التي لا تهمل في أعمالها الشعرية والفنية الأسلوب الفني المتناغم مع روحها وتجربتها. وهذا ما يجعل وزن العالم دائماً أخفّ في لوحاتها.
ملحق كلمات
———————
الناجية من أهوال القرن العشرين احتفظت بـ «جوهرة القلب»/ محمد ناصر الدين
«اقترنت بالنور، وأنجبتُ الأجنّة
أنا نهر يا حبيبي،
ولا تستطيع إلّا أن تبكي على شاطئي».
كانت إيتل عدنان (1925 ـــ 2021) تشبه تلك الأنهار الربيعية التي تبثّ الشعر في الأرض وترغم الطبيعة أن تكون شاعرية. إنّها روح خضراء تتنفّس شعراً رسماً وتسيل على الورق والقماش من دون مكابدة أو تصنّع أو تكلّف، فتحمل الكلمة ريشة ويحمل اللون قلماً، كأنها ماء النهر يجري من تلقاء نفسه، فيتحول الفضاء بأسره إلى رئة للشعر ومجرى للرسم: ولدت إيتل عدنان ـــ من تقاطعات تشبه تلك التي تَسم الجداول التي تشكّل النهر ـــ عام 1925 من أمّ يونانية أرثوذوكسية من سميرنا، وأب سوري مسلم من دمشق تلقّى تنشئته العسكرية العالية كضابط في الجيش العثماني، إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك. جسّدت إيتل أفضل ما يمكن أن يتمخّض عن هذا التقاطع بين الشرق والغرب، وفي فترة حساسة للغاية في تاريخ الشرق عموماً وبلاد الشام على نحو خاص، بين تفكّك الإمبراطورية العثمانية وغليان كل بلدان المنطقة التي فجّر فيها الاستعمار والحروب والحلم القومي المستحيل كل أنواع الخصومات والمناحرات الدينية والثقافية والسياسية ووضعها على فالق الزلازل. أُذُن الفتاة التي انتقلت مع عائلتها إلى بيروت، كانت تسمع في المدينة الكوسموبوليتية كل أنواع الألسنة: من الفرنسية التي تتابع بها دروسها في مدرسة كاثوليكية في بيروت، إلى العربية التي تخاطب بها الأولاد الذين تلعب معهم في الشارع، إلى لكنات وأصوات كردية وأرمنية وشركسية ولهجات لكل الشعوب التي حملت أوطانها وغسيلها الموشّح بالغبار والدم إلى المدينة التي كانت «عاصفة صغيرة من حرب ومتعة. كنا نرى البحر من كل الجهات؛ إنها مدينة متوسطية بسطوح من القرميد الأحمر وبيوت ذات طابع عمراني إيطالي. السيارات وقتها كانت نادرة والشوارع تعبق برائحة الياسمين والبرتقال».
مشهدية حوّلت روح الفتاة الصغيرة إلى ما يشبه السجادة المزركشة بالخطوط الملونة لأكثر من حياة عاشتها، ومصبّاً لكل روافد الفنون: الفن التشكيلي، والأعمال الخزفية، والشعر والرواية والمسرح في تماثل مع بيروت تلك التي كانت تجمع في تناقضاتها الأكثر عالمية إلى الأكثر حميمية. وهو ما أشارت إليه عدنان صراحة في عنوان أحد كتبها La vie est un tissage الصادر في باريس عام 2016، أو أشبه بتلك الدفاتر اليابانية «الليبوريلو» ذوات الطيات العديدة التي اكتشفتها عدنان في سان فرانسيسكو عام 1964 وعرفت مباشرة أنها تشبه روحها في استثنائية التمازج بين الكلمة واللون وانسيابية النهر. كتبت عليها في ما بعد بخط اليد قصائدها ونصوصاً للمتنبي، وأنسي الحاج، وبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وأدونيس، والياس خوري وعيسى مخلوف وغيرهم: «في عام 1964، اكتشفت هذه الدفاتر اليابانية القابلة لطي الأكورديون والتي قام فيها الرسامون اليابانيون بمطابقة الرسومات والنصوص والقصائد… ووجدتها في متجر في سان فرانسيسكو حيث اشتراها الناس لإنجاز ألبومات عائلية. تخيّلت على الفور أن هذا سيكون بديلاً رائعاً للتنسيق المربّع أو المستطيل للصفحة؛ كما لو كنت تكتب النهر نفسه». بُعيد وفاة والدها في أربعينيات القرن الماضي، حصلت إيتل عدنان على منحة لدراسة الفلسفة في «السوربون» حيث سيبدأ وعيها السياسي والثقافي بالتشكّل بعد التعرّف إلى فكر سارتر، والوجودية التي كانت تؤكد إمكانية وجود أخلاقيات بلا ديانة وانبثاق للقيم من الحرية، القيمة الأولى بلا منازع، ما حرّرها من ربقة التعاليم المدرسية الكاثوليكية، فعاشت في السكن الجامعي الأميركي حيث أفادت من فسحة التلاقي بين الجنسيات. والأهم كانت رحلتها القصيرة لباريس التي ستعود إليها لاحقاً للإقامة الدائمة، إذ إنّها أثّرت في إيتل عدنان تأثيراً ثلاثي الأبعاد، فسمحت لها بداية بتشكيل حساسيتها الشعرية «أعشق نافورة مديتشي، لذلك أبطئ الخطى، أتطلّع إليها، ألاحق سطحها المتموّج، أعوم (ذهنياً) مع أسماكها، أقترب بقدر المستطاع من جوهر ظلالها الخضر التي تجعل قلبي يخفق. بعد ذلك، أطير بتمهّل فوقها، مثل فراشة، أمتصّ برودتها حين أتحرك بمحاذاة حواجزها، ثم أصير ماءً، صديقة للماء».
البعد الثاني كان في تتلمذها على غاستون باشلار الذي صاغ نظرية شعرية العناصر التي ستلمس روح الشاعرة والفنانة. هكذا، سيقترن في أعمالها الماء بالنور والتراب والنار «لقد اختفت النار المقدّسة. وهكذا ستفعل باريس. إنهم هنا، يفهمون الرماد. وقلوبنا التي تحوّلت إلى رماد، تجد إناءها في هذه المدينة الدائرية التي قلبها جسر، أليس كذلك؟ أستطيع أن أثق دائماً بمدينة ذات جسور، بغضّ النظر عن الألم. ففي المعلّق شيء شبيه بالأمل. إنه اقتحام لحيّز فارغ؛ تيار حياة إزاء الموت، وانعكاسات! هل بإمكاننا أن نعيش بلا أقواس وانعكاسات؟ لا! إنه كالعيش بلا ماء». كذلك، تعرّفت إلى إيتيان سوريو الذي سيستحصل لها على منحة للدراسة في «جامعة بيركلي» في الولايات المتحدة عام 1955. أما البعد الثالث المهم، فهو أنّ باريس وضعتها على تماس مع قضايا الاستعمار، ولا سيما حرب الجزائر ونضالها ضد الاستعمار الفرنسي «في المقهى، تجلس صديقتي كلود ومعها كتاب شعر. لا يدور بيننا أي حديث مهم سوى أنّ باريس جميلة. ولكن، كلمة «جميلة» تلك تتضمن قروناً من حياة وحروب، وأشياء عن العمل والإيمان والوفيات. باريس جميلة بكل تأكيد، وهي آخر مدينة عظيمة في العالم حافظت على روحها، وتعمل مثل ماكينة زُيّتت بشكل جيد. بوسع كلود أن تقول ذلك بكل براءة، ولكن قوله أشد صعوبة عليّ، وأشدّ إيلاماً أيضاً. إنه يمزّقني إرباً. فباريس قلب القوة الكولونيالية الباقية على قيد الحياة، وهذا إدراك يرافقني كل ليلة إلى سريري». خلق هذا في داخلها الإشكالية الكبرى التي عاشها مالك حداد، وكاتب ياسين، وآسيا جبار وغيرهم حول التفكير بلغة المستعمِر والتعبير بها شعراً ونثراً. ولو أن إيتل لم تحول اللغة إلى «مخزن ذخيرة» يحارب به الكتاب الفرنكوفونيون فرنسا بسلاحها، إلا أنها لم تستنكف عن مناصرة قضايا المظلومين والمستعمَرين في العالم، وبخاصة بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة ومناهضتها لغزو فيتنام في قصيدة وضعتها مباشرة على الخارطة الشعرية الأميركية، فكانت إيتل أول من قارن بين مأساة الهندي الأحمر واقتلاع الفلسطيني من بيته وأرضه وبيارته وزيتونه في آخر قضية كولونيالية في التاريخ. وكان كتابها الأشهر «الست ماري روز» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ترجمة جيروم شاهين ـــــ 1979) الذي يروي قصة امرأة لبنانية مسيحية تحافظ على فسحة الجمال في داخلها رغم بشاعة الحرب وقباحتها، فتنشئ مدرسة للصمّ والبكم وتلتزم جهاراً بالقضية الفلسطينية من خلال إنشاء «جمعية أصدقاء القدس» لتأتي حرب الأهلية في إعصار عنفها الدموي وتُختطف ماري روز وتُجرى لها محاكمة تنتهي بإدانتها وإعدامها. لكن فيما يحاكم الجناة والانعزاليون القديسة، تنقلب الأدوار ويصبحون هم في قفص الاتهام، فتقلّب إيتل عدنان في الكتاب كل دوافع العنف في المجتمع اللبناني، وتكشف ترسبات وظواهر الذهنية العشائرية والقبلية والطائفية، هي التي بعدما استقرّت في الولايات المتحدة وأجبرت نفسها على الكتابة الشعرية باللغة الإنكليزية «دخلت اللغة الإنكليزية مثل مكتشِف. كل كلمة كانت تولد حيّة، وكل تعبير كان إبداعاً… كانت الكتابة ضرباً من الرياضة، والجُمل، بكل ما تحمله من طاقات مخزونة، خيلاً من الممتع ركوبها لاقتحام الفضاء المفتوح أمامها».
بعد مسيرة تعليمية لربع قرن لفلسفة الفن في جامعة كاليفورنيا، ما لبثت أن قامت بهجرة معاكسة نحو بيروت عام 1972 لتشارك في نهضة بيروت الثقافية الهائلة، فعُهدَت إليها رئاسة تحرير ملحق ثقافي لصحيفة ناطقة بالفرنسية (الصفا) قبل أن تندلع الحرب الأهلية عام 1975 فتقضي على أحلام المثقفين بمدينة كوسموبوليتية جديدة من حرية وكلمة ولون ونغمة، فترحل إيتل مفجوعة من دمار المدينة وقيام المسلحين الكتائبيين بقتل ماري-روز بولس التي خلّدتها في روايتها (نُقلت إلى أكثر من 12 لغة)، مودّعةً المدينة ذات الوجه المحروق لمرّة أخيرة: «ولدنا في الأصل من الحزن، لذلك أفراحنا صاخبة وتنتهي بإحراق الأطفال والبيوت». رجعت إيتل عدنان بعد المقتلة اللبنانية إلى كاليفورنيا الشمالية، ولكي تعثر على نقطة ارتكاز شعرية جديدة بعد كل أهوال العنف، انبهرت بجبل تامالبايس، قمة النطاق الساحلي بالقرب من سان فرانسيسكو الذي صار محجّاً دائماً لها تلحظ من قمته تغيّرات الأضواء، ووجود الغيوم، وتبدأ في تمثيلها رسماً وشِعراً. كانت الكتابة لديها بمثابة الـ Yin في الفلسفة الصينية في مقابل اليانغ الذي هو الرسم. وقد كانت حساسية عدنان متيقّظة لكل تلك الثنائيات اللغوية والكونية الشعرية. ففي حديث سابق مع «الأخبار» عام 2016، تقول: «كلمة «بحر» مثلاً في العربية مذكّر ترمز إلى شاب فتيّ يتحدى العاصفة. في الفرنسية، كلمة «بحر» مؤنّثة تجرّ معها صوراً أمومية ليّنة. أما في الإنكليزية فهي محايدة تماماً… ما نقوله بسهولة في لغة ما، يتعذّر قوله في لغة أخرى، فضلاً عن أن لكل لغة موسيقاها الخاصة. لذلك لا نجد شكسبير فرنسياً، الفرنسية لغة مسطحة نوعاً ما، هادئة. أما الإنكليزية، فتشعرين أنّ الريح تخترقها، حاولي نطق كلمة wind. في المجال العلمي، نقول الشيء نفسه تقريباً بكل اللغات. أما في الشعر، فيختلف الأمر كثيراً لأنه مرتبط باللاوعي، بالرغبات والجموح. إذاً اللغة نفسها تأتي بعالم كامل معها. لا أعرف ما الذي كنت أستطيع كتابته لو تعلمتُ العربية، إنها جنتي الضائعة، المغلقة إلى الأبد».
ظلّت إيتل عدنان حتى النفس الأخير محتفظة بروح الطفلة التي تلعب في أزقة بيروت، لكنها طفلة بألف عام، لا تني تدمج الريشة بالقلم، وتسائل الحروب، وتكتب حول الوضعية الصعبة للمرأة والمظلومين والمهمّشين في عالم يزداد ضيقاً وتعصباً وعنصرية بدل أن تضخ فيه الثورة الرقمية والتقنية وسقوط الإيديولوجيات الكبرى روحاً تنويرية أكثر رحابة وتسامحاً. كأن الفتاة الناجية من كل أهوال القرن العشرين، قد احتفظت بـ «جوهرة القلب» بتعبير حافظ الشيرازي، ونأت بروحها عن كل ما يهشّم الكائنات، ونقاء ضميرها أمام سكوت الكثير من المثقفين أمام مسح الغول الأميركي لكل الإرث الثقافي في بلاد الرافدين: «النار تلتهم عقولاً من الماضي. إنه تفكيك حضارة، يعدو الحلاج هائجاً ليعلن «أنا الحقّ» من أي منبر يراه، فتشبّ النار في أصابع قدميه وأذنيه وشَعره. كل ذلك جُعل إلى الأبد في طيّ المجهول باغتصاب بغداد في يوم من نيسان». رحلت إيتل عدنان، تلك التي كانت تستطيع من كلمتين أو ثلاث لا أكثر، أن تصنع قصيدة «قتلت ذبابة هذا الصباح/ لو كنت دولة/ لكنت دمّرت مدينة». كما بيكاسو الذي كان بمقدوره صناعة لوحة بلون واحد، رحلت صاحبة «قصائد الزيزفون» و«عن مدن ونساء» و«رحلة إلى جبل تمالباييس» و«باريس عندما تتعرّى» التي وصفت نفسها يوماً بأنها ترسم بالعربية، وأنها من عابري سبيل هذه الأرض المحمّلين حبّاً وشعراً ولوناً ونشداناً للعدالة والضمير: «أن لا يصيبنا اليأس حيال الماضي/ ولا ننسى/ أن نكون على يقين أن العدالة ستنتصر/ في أحد الأيام»: ماتت إيتل واضطربت أوراق الزيزفون حين أجّل النهر تجدّده.
مقطع من «الست ماري روز»
الشبّان الأربعة هؤلاء، الجالسون في هذه الغرفة ليسوا قضاة وحسب. إنهم أيضاً ضحايا سلسلة، طويلة وقديمة، من الاستسلامات للقدر. قرارات المجموعة هي وحدها الشيء الوحيد الذي يجب الدفاع عنه وتنفيذه بأية وسيلة. يتأهّبون لكي يصبحوا جلّادين فيما يعتقدون أنهم قضاة عدل. تدفعهم جنسانية مريضة، وحبّ مجنون، حيث تطغى صورة السّحق والصرخة. وليس ذلك لأنهم حرموا من المرأة، بل لأن اشمئزازاً عميقاً من الجنس يسكنهم. ثمة شعور بوساخة اللذة يقلقهم ويبقيهم في عطش مستمر. وهكذا يصرفون طاقتهم الانفعالية المكبوتة بواسطة العنف الذي يمزّق، ويقتل، ويفني. وعندما تخترع شعوب أخرى، لهوسها بالنظافة، مواد كيميائية فعالة، لا ينفكّون هم، يستعملون لغة إبادة الشعوب البدائية المطلقة، ولا يكسبون في هذه الصراعات العشائرية الأراضي بل يحذفون بعضهم البعض. وإذا ما -بعد أن يقتلوا- تهالكوا على الضحايا وشوّهوا الجثث، فما ذلك إلّا ليقلّصوا حجم الجسد العدو، ويمحوا، إذا أمكن ذلك، واقع أن يكون العدو قد وجِد. فوجود العدو هو نوع من انتهاك القدسيات، يتطلب تطهيراً متوحشاً. لم يختبروا هذا التعارض ما بين الطريق الداخلي الذي يقود إلى القبلية، وبين الرغبة، التي يشعر بها الناس تحت سماوات أخرى، بهدم السدود، وبالخروج لرؤية ما يجري في الخارج، وبالرحيل في مغامرة تبغي اكتشاف إنسانية تسير على وقع الكواكب السيّارة. ليست المرة الأولى، التي تقف فيها امرأة عربية في وجههم بشجاعة مطلقة. غير أنّ ذاكرتهم تخونهم. يقرّون بمزايا لسياراتهم أكثر من نسائهم. ونساؤهم يمارسن عليهم سلطات غير مباشرة. تلك التي تبدو لهم غير مؤذية، أو تلك التي تطغى إلى حدّ أنهم لا ينتبهون لها. أما المرأة التي تقف منتصبة وتنظر إليهم في العيون، فهي شجرة يجب قطعها، ويقطعونها. فتسقط بصوت خشبة يائسة، ويضيع الصوت عبر الأحياء، الشوارع ووسط احتجاجات النساء الأخريات اللواتي ارتضين وسُررن بانتصارات الذكور. لا يقرّون بمزايا إلا لأمّهاتهم، إذ إنهم يتذكّرون الطمأنينة فيهنّ وحولهنّ. وحتى أنهم لم يتركوا أبداً أمهاتهم، إلا لقتل العصافير وبعض الناس. والمحبة المحصورة بالأم تدفع من جديد دورة العنف. فعندما يطلّ في الأفق غريب أو إنسان غير محبوب، وعندما ينمو بُغضه كمحروم، ويكبر أمام العيون، كالنبتة في غابة موحشة، لا تنتظر أن يقف الشتاء لتتكاثر، عندها يقف المحبوب من أمّه والمبارك بالغنى، فيأخذ بندقيته ويبدأ بالهجوم. يشعر أنه الأقوى ولا يعرف أن رصاصاً سوف يكتب على صدره العاري كلاماً دموياً، قاتلاً. هو أيضاً كالغريب، سوف يغيب.
(المؤسسة العربية للدراسات والنشر-ترجمة جيروم شاهين ـــــ 1979)
——————————
إيتيل عدنان وضربات أجنحتها/ فاروق يوسف
اخترقت إيتيل عدنان في وقت مبكّر من حياتها الحدود التي تفصل الثقافة العربية عن ثقافات العالم. وفي الوقت نفسه فإنها اخترقت الحدود التي تفصل بين الفنون الأدبية والفنون البصرية.
كانت شاعرة ورسامة في الوقت نفسه. الشعر والرسم بالنسبة إليها هما الشيء نفسه. كما كانت روائية. مسافرة بين اللغات لم تسع إلى العالمية. كانت في طبعها كائنا عالميا. فهي سورية ولبنانية ويونانية وأميركية وفرنسية.
كلما سألت عنها في باريس قيل لي إنها كانت هنا منذ بضعة أيام. ولا أدري لمَ علقت في ذهني فكرة أن إيتيل كانت ابنة باريس في ما تكتب وابنة كاليفورنيا في ما ترسم. ذلك ما يفرضه هواء رسومها، وقد رأيت لها غير مرة معرضا في غاليري سربنتين بلندن وفي متحف غوغنهايم بنيويورك. كما أن لغتها في النثر والشعر وهما الشيء نفسه تنبعث من قارة نقية الهواء. ما الذي يمكن أن نتنفّسه يا إيتيل إذا كان عطرك كل شيء؟
عاشت عدنان حتى بلغت السادسة والتسعين ولم تفقد ملامح الطفلة التي سكنت فصول حياتها. حين رأيتها آخر مرة كانت تقف بصعوبة. حدث ذلك في لندن قبل سنوات.
قبّلت يدها فنظرت إليّ مندهشة مثلما تفعل دائما. “لم نعد نلتقي”، قالت. ياه كم أنت حبيبة أيتها السيّدة الجليلة. لقد غمرتني برقتها في الوقت الذي كنت أخشى غروب ذاكرتها. سيكون عليّ دائما أن أتحدّث عن إيتيل باعتبارها كائنا عذبا. حين يلتقيها المرء يعرف ما معنى الكائن الجميل العذب.
كتبت ورسمت لكي تكون علاقتها بالعالم شفّافة كما هو الألم. عاشت إيتيل حياتها باعتبارها نزهة تجمع بين العذاب والشعر. تبدو رسومها على قدر هائل من البساطة. غير أنها البساطة المدهشة التي تقول كل شيء من غير تعقيد. غموضها المرهف يزيد من متعة النظر إليها.
رسمت مناظر مستلهمة من الطبيعة من غير أن تحاكيها. كان الإيحاء البصري هو ما تسعى إليه. كانت تضع يدها على أكثر المناطق حساسية.
عاشت إيتيل عدنان حياتها بعمق وكانت دائما ذلك الكائن الشفّاف الذي يمسّ مواقع الجمال بضربات جناحي طائر.
العرب
———————————–
إيتيل عدنان «هناك»!/ حيدر المحسن
يفاجؤك في قصيدة إيتيل عدنان أولا تركيب الجملة الشعرية التي صممت الشاعرة منذ البدء على أن يكون مختلفا؛ يتقدم الاسم على الفعل، أو أنها تبدأ الكلام بظرف الزمان، أو الصفة، أو الموصوف، مع علامة استفهام تتكرر مثل نغمة تتواتر في موسيقى القصيدة: «هل مطلوب من الجبل أن لا يتحرك وهل على السماء أن تكون مفتوحة على وسعها؟» وتعود هذه النغمة، ويتألف منها تساؤل جديد، وجودي وفلسفي وجمالي في الوقت نفسه، لكن ما يخفف كل هذا الكم من المعنى هو شكل القصيدة السمح، والبراءة العجيبة التي تحافظ عليها الشاعرة على طول الخط:
«إلى أين سنذهب عندما تنطفئ الأنوار ويبدو أننا متشابهون؟».
هو سؤال يطلقه الطفل والشيخ الحكيم، وتجتمع في قصائد إيتيل عدنان هذه الروح التي تجتمع في روحها البداية والنهاية، الوجود والعدم، الأعلى والأسفل، الحياة والموت.. وإلى آخر المتناقضات الغريبة التي تتكون منها حياتنا، ويشمل هذا الموجودات أيضا، فالحجارة والوردة شيء واحد: «هل تدري أنني هنا، مثل نهر، مثل سكين، أو أي شيء يمكن لك أن تشتريه وتأخذه إلى البيت» لا توجد علاقة أو آصرة تجمع بين النهر والسكين، ولا حتى في أعلى مراتب شعرية اللغة، لكن البراءة الناصعة التي تشع من الحروف منذ البدء، تجعل البحر ينتمي إلى النخل والقاطرة ودماء القتيل. إنها صوفية جديدة تدعو إليها الشاعرة بواسطة السؤال، وهذا يُطرح في القصائد بصيغة الجواب، أي أنه محلول ولا داعي لأن تتعب فكرك في البحث، أو تغلبك الحيرة في الاختيار، إنه الجواب السؤال الذي ابتكرته الشاعرة، ومن فرحتها بهذه العجيبة ظلت متمسكة بها ووفية لقانونها على طول الخط: «وكما ترى قد يحدث أن نمضي مثلما مضت الديناصورات، لكننا ما زلنا هنا».
تصنع البلاغة الشاحبة الشعر العظيم، مثلما كان يصنع بيكاسو من سكراب الأشياء أعمالا نحتية تزخر بالحياة، تلجأ إيتيل عدنان إلى فضلات اللغة ونفايات المعنى، وسقطات الفكر، وتأتي منها بالعجب، وبهذه الطريقة من صفاء الذهن تجاهد كي «تحرر العالم من خيباته». ثمة شعور مكثف بالفجيعة، الحرب تجري من حولها في كل حين، والزمان يشتبك مع المكان في معركة، تتحسسها الشاعرة وإن كانت تدور وتطحن النفوس في منابع الأمازون، أو في صحراء التتر الجليدية، تصلها صرخات الجنود الذين ينزع أحدهم حياة الآخر وهي تواجه فنجان القهوة في بيتها، ترسم، وتتناقش مع صديقتها، وحين تحضر جلسات السهرة في مقهى بوغاتي، لا فرق. الوعي الشديد بالمأساة يختصر المسافة، ويلغيها. «دماغي يفوق في حدته قمر الراديو الصناعي. لا حاجة لي بالسفر إذا ما أردت أن أزور شوارع مدينتي التي اختفت». وكأن الشاعرة تتلبسها روح الطائر الخرافي الذي يعيش في مكانين في الوقت ذاته. هنا، وهناك، إلى الماضي الذي تغرق نفسها فيه بحثا عن «التحول» ربما إلى «ربة فراشة» أو إلى نهر أو حجارة أو وردة.
إننا نحتاج إلى أن نضع حجارة بدل الفؤاد، كي نحتمل الضيم والجور والكفر في العالم: «الأحجار ليست هي النهاية، نهاية ماذا، نهاية من، نهايتك أنت أو نهايتي، وربما أنت فقط ثم فقط أنا، عندما لا يهم الأمر، فالأحجار هي البداية».
المشاهد الظلامية التي خبرتها إيتيل في حياتها مذكورة بالتفصيل في مجموعتها الشعرية ذات العنوان الغريب «هناك» التي قام بترجمتها بنجاح باهر سركون بولص، تماهى مع الشعر إلى درجة يخيل إلى القارئ أن الكاتبة أتت لنا بلساننا، وهو فرق كبير عن ترجمات شاعر آخر، هو سعدي يوسف، الذي لا يستطيع الفكاك من صوته عندما يترجم لكافافيس وريتسوس وغيرهما. حافظ سركون على نقاوة الهمسة حين تصلنا من الشاعرة، من بعيد، لكننا نسمعها بوضوح شديد، كأنها جليسة معنا. ويمتح قلم الشاعرة من الذاكرة مآسِيَ لا تعد: أبٌ يردي ابنته قتيلة عن طريق الخطإ، وشرطة مسلحة بالهراوات والقفافيز والغازات وأوامر بإطلاق النار، هنالك مذبحة تمسح دماؤها كل شيء، ومن هذا الموت الشاسع تنهض الحياة العظيمة، بل إنه ينقيها من الشوائب، وتطلع الشاعرة نافضة وراءها الحطام برؤيا جديدة وخلق جديد وآلهة جديدة: «ما أجملك، أيها الشاب يا صاحبي، ليس بوسع عيني أن ترياك، لفرط شحوبك يضيء شحوبك بيتي».
في الحرب العراقية الإيرانية عملتُ مرة بما يدعونه «طبيب القطار» حُورتْ جميع «الكرفانات» كي تكون ردهات في مشفى؛ وكان معي طاقم من المضمدين ورجال الحراسة والخدمة. على متن القطار الصاعد من البصرة إلى بغداد أكثر من 300 جريح، أُجريت لهم عمليات جراحية مختلفة، استخراج شظايا وطلقات من البطن والصدر والرأس، أو عمليات بتر الأطراف، وهنالك حالات حروق، وتسمم، وإلى آخر ما نقاسيه من جراء الحرب، الوحش المخيف لكن الجميل ومشرق الوجه في نظر البعض.
انطلق القطار من مدينة البصرة في الخامسة عصرا، وكنت عملت مع فريقي الطبي في جولة شاملة، دونت أرقام الجرحى الذين تهشمت أبدانهم، وهذا يعني متابعة متواصلة لهم، الذين إصاباتهم أقل، يحتاجون إلى رعاية تتواصل كل ساعتين، أو كل ساعة، أو أقل، أما الجنود الذين استقرت حالتهم، فإن أوقات تعاطي العلاج كافية. المساء يبلغ قطار جرحى الحرب مبكرا، وسوف يدوم اثنتي عشرة ساعة وثلاثة أرباع الساعة. جندي قصير القامة مثل صبي، وجرحه في نهاية قدمه، وملتئم، لكنه كان شاحب الوجه، ولم أنتبه للضوء الذي كان مصدره المعاناة في وجهه، إلا عندما جاءني مساعدي بهذا الخبر: الجريح رقم 234 توفي! كان الفجر في النوافذ مسيلا بنفسجيا، وعجينة ضوء الصباح تختمر. أنا متأكد أن قلبه توقف بسبب حزنه على مصير الجنود الذين ضمهم تراب المعركة. اشتد الألم في قلبه، وظل يشتد ويشتد إلى أن تبخر الخافق كليا. أي ضوء أنار المكان لحظتها؟
«انظر إلينا، رغم أننا لا ندري إلى من نتكلم، ليس عليك أن تعرفني، عندما تهب الريح تأتي إلينا بجمالك الأثيري، قبل أن يفوت الأوان».
وهل يحدث أن يفوت الأوان؟ عنوان المجموعة الشعرية «هناك» أي في المكان الآخر، البعيد، القريب. يمكننا النظر إلى الموت نظرة فنية، فيبدو جميلا، لأنه يحدث – هناك- كان الجندي الشاب ينظر إلى نقطة تقع ـ هناك – وكانت عيناه أكثر سوادا وجمالا من أي عينين سوداوين شاهدتهما في حياتي. عتمة الروح هنا، بسبب الكمد، ربما صارت ضياؤها هناك:
«وأنا في عجلة من أمري، ألست أنت كذلك، أنت من لا أستطيع أن أسميه امرأة أو رجلا».
هناك تختلف أجناسنا، حتما، وأنواعنا، وألواننا والألسن والأفئدة. يستطيع الفن أن يحيل العدم في الوجود إلى ضده، وبإمكانه أن يكشف ما يجري هناك.
«ألم أرافقك إلى ملكوت الأموات، ألم نحاور الأشباح، بعضا ممن نعرفهم والبعض الآخر ممن لا نعرف».
لا يمكن أن تكون نهاية الجندي جميل المحيا الموت، في صدى الحياة والأشياء، كما أن في نظرته الراسخة ما هو أكثر من حياة، ولم يستطع الظلام الرطب بصورة غير طبيعية في القطار أن يمتص صورة وجهه الأبيض الحنطي اللون، ويحولها إلى ضباب جاسٍ. تتحدث الشاعرة عن البيوت المبنية -هناك: «أنهار من المني والملح، ومنه أيضا يشيدون البيوت، هنالك، وهو مغطى بالنابالم والعلم الأمريكي». هذه ليست لوحة سيريالية، بل هو المشهد الذي كان يتأمله الجندي، وكان فيه نوع من العزاء، يصاحبه شعور فريد بالتشفي.
حتى لوحات إيتيل عدنان المرسومة على «الكانفاس» تحمل الرؤية ذاتها، كأنها ترسم الأرض كما تبدو من نافذة طائرة، مستطيلات من الألوان الخضراء والزرقاء تقطعها خطوط ولطخات بنية وبيضاء وسوداء. لنا أن نتخيل الشاعرة وهي تهبط الآن في واحدة من التضاريس في اللوحة، وتخلق بواسطة الفن أرضا جديدة، وأنهارا وبحيراتٍ وغاباتٍ وبيوتًا وفنادقَ.. «هناك، في حرارة الغضب والتراب، سوف تستحيل الحجارة إلى أوراق».
أخيرا: تطلق إيتيل عدنان سؤالها الرهيب:
«هل ما زلنا أحياء عندما نكون قد متنا؟».
كاتب عراقي
القدس العربي
——————————–
إيتيل عدنان: أنا دمشقية يونانية
إيتيل عدنان شاعرة وفنانة تشكيلية من سوريا تكتب بالإنكليزية وتقيم خارج سوريا منذ أكثر من أربعين عاما، وإقامتها بين مدينتين كاليفورنيا وباريس. هي ابنة لأب دمشقي هو آصاف عدنان قدري كان ضابطا في الجيش العثماني وأم يونانية مولودة في أزمير هي روز ليليا لاكورتي. عاشت ردحا من طفولتها في بيروت، وربيت في ظل هيمنة اللغة الفرنسية على العربية في الاستعمال اليومي لعائلات ميسورة. درست الأدب الإنكليزي وهاجرت إلى فرنسا أولا، ثم اتجهت إلى أميركا حيث تخصصت في الفلسفة، وعملت أكاديمية في إحدى الجامعات الأميركية. أطول إقامة لها كانت في أميركا، وهناك أصدرت جل أعمالها الشعرية. الحوار معها جرى في لندن أثناء توقفها في رحلتها السنوية بين كاليفورنيا وباريس. ما سلف كان المقدمة القصيرة التي وضعتها لحواري هذا مع إيتيل عدنان الشخصية الفريدة من نوعها بين مبدعي الشعر والرسم وكنت أجريته معها قبل ربع قرن من اليوم عندما كنت أحرّر مجلة “الكاتبة” في لندن مطالع التسعينات. صداقة شعرية من نوع خاص ربطتني بهذه الشخصية الطفولية إيتيل عدنان بعدما فاجأتني ذات يوم بإنجازها عملاً فنيا كبيرا مستوحا من كتابي “مجاراة الصوت”. عرضته في عدد من متاحف العالم، من نيويورك إلى جنيف، إلى باريس، ، وكانت آخر محطة له في معرض لندني. وبعد العرض أهدتني العمل الذي يشبه الأكورديون. واليوم أعترف بألم أنني فقدت تلك النسخة اليتيمة. ولم أتمكن من أن أكشف الأمر لهذه الفنانة والشاعرة الكبيرة بأن العمل الفني الذي أنجزته وأهدته لذلك الشاب الطائش الذي كنت لم يعد موجوداً. الشعراء كائنات طائشة. لكن هذا الحوار معها كان فوزا بليغاً. فلم يسبق لي أن قرأت أو أنجزت حوارا مع شاعرة أو شاعر يتحدث بالطريقة العميقة والبسيطة بساطة آسرة كتلك التي تتحدث فيها إيتيل عدنان عن الشعر والشاعر والكلمات وعن الفن والفنان والعالم. شيء لا يشبهه إلا العمق الطفولي المذهل في الشعر نفسه. لن أضيف أكثر، ولكن أترك صوت الشاعرة يتكلم.
الجديد: كيف تنظرين إلى الخيط الفلسفي الذي ينظم عملك الشعري “كتاب البحر” الصادر مؤخرا في ترجمة عربية، وهو عمل كتب في فترة مكبرة. هل توافقينني، من الأساس، على وجود مثل هذا الخيط في شعرك عموما؟
إيتيل عدنان: شعري الأول في “كتاب البحر” كتبته قبل دراسة الفلسفة. درست أولاً الأدب ثم تخصصت في الفلسفة. وفي أميركا عملت أستاذة للفلسفة في إحدى الجامعات على مقربة من سان فرانسيسكو. “كتاب البحر” وضعته قبل أن أبلغ العشرين. ولا بد أن يكون اختياري الفلسفة مبنيا على رغبة وأساس طبيعيين، وبالتالي مبكّرين. وهذا الاهتمام ركز اجتهادي في فقه الكون. قبل بضع سنوات كنت مريضة جدا، وخفت أن أموت. والآن أتذكر شفقتي على نفسي من الموت، لأنني كنت أحس وأعتقد بعمق وقوة أن الكون سيخسر بموتي صديقا كبيراً. هذا ما كنت أشعر به. أحب الكون. منذ صغري أحببت الطبيعة، السماء والشمس والقمر والزرقة العميقة. أبي كان ضابطا سوريا من دمشق في الجيش العثماني. درس إلى علومه الحربية اللغة والفلك والجغرافيا، وكان مثقفا مطلعا نال قسطا وافرا من معارف مختلفة. في صغري كان ينبهني إلى ظواهر الطبيعة وموجوداتها. ومازالت صورة إشاراته وملاحظاته المحرضة مطبوعة في ذاكرتي، كأن ينبهني إلى القمر، قائلا: انظري إليه، لا أحد يستطيع الوصول إلى هناك. القمر كان صورة مجسمة للمستحيل. الشيء الآخر الذي أحببته كأكثر ما أحببت كان البحر.
الجديد: أيّ بحر؟صورة
إيتيل عدنان: بحر بيروت. كنت أسبح في سن الرابعة، وكنت، مذ ذاك، أشعر وأحس أنني أسبح في وجود مطلق. وأنا، أيضا، من برج الحوت. قبل عشر سنوات كتبت في شعري ما معناه “ما أحببت الرجل لأنني أحببت البحر أكثر من حبّي للمخلوقات الأخرى”. وكما ترى فإن الإنسان يكتب ثم يدرك لاحقا الدلالة الخاصة لما كتب. ولكن هذه حقيقة شعرية وليست حقيقة إنسانية. نحن نحتاج لأن نفرّق بين ما هو حقائق شعرية وما هو حقائق إنسانية لئلا يبطل التمييز بين الواقع والفن.
على قدر حبي للبحر كنت مهجوسة بالرغبة في الوصول إلى الماء، وكنت أتابعه وأوخذ إليه من وراء الأبنية عبر الشوارع التي تحجبه وتلك التي تفضي إليه. ولم تكن عيناي فقط تتوقان إلى البحر، وإنما جسدي كله بكامل كيانه كان يستشعره وينجذب إليه. منير العكش، لو كنت تعرفه، قال لي، بعد قراءة “كتاب البحر” إن في هذا الشعر نظرة إلى البحر لا تماثلها إلا نظرة الإغريق إليه، شعره يعكس في القارئ إحساسا بحركة البدء، ويجسد شيئا من صور الخلق في الكون، عندما كان الوجود ما يزال سديما. وفي نظري هو كتاب يجسد زواج الشمس والبحر.
شعري لا يخرج من تاريخ الشعر، وإنما من خبرة الكائن الفطرية، ومن تفكره في الوجود بصفاء. لذلك أحس عندما أكتب أن الدنيا تتحول إلى وجود جديد. أكتب بلا ذاكرة أدبية. وهذا النمط من العلاقة مع الكتابة بدأ مع كتابي الشعري الأول، ورافقني خلال أعمالي اللاحقة. إنه ينطبق على كل ما كتبت.
الشعر والحقيقة
الجديد: هل يقدم الشعر، في رأيك، حقائق عن الوجود؟ هل مطلوب من الشعر أن يقدم أيّ حقائق؟ وإذا كانت الحقائق الاجتماعية في جلّ ما نستعرضه عبر التاريخ هي حقائق مضادة للإنسان وملوثة لوجوده، إن لم نقل مدمرة، خصوصا عندما تصدر عن خلل في الميزان الإنساني لصالح القوة المتسلطة والأنانية والشرسة، عند ذاك ما هي حقائق الشاعر وحقائق الشعر؟
إيتيل عدنان: إذا كان هناك شيء اسمه الحقيقة فهي موجودة أصلا وأساسا في الفن. الشخص يستطيع أن يكذب، لكن الشعر لا يكذب. الشعر يخرج من الأعماق، ممّا قبل الفكر. في أوقات، على المرء أن يكتب حتى يعرف بم يفكر، بالكتابة يجد الكائن حقيقة ذاته، ومن حقيقة الذات يمكنه العثور على حقيقة أكبر. ولكن إذا لم يبدأ المرء من الذات، فهو لن يصل إلى أيّ حقيقة.
شعري لا يخرج من تاريخ الشعر، وإنما من خبرة الكائن الفطرية، ومن تفكره في الوجود
الجديد: ولكن هل يمكن تعيين وتسمية حقائق الشعر؟
إيتيل عدنان: هي الشعر نفسه. الشعر ليس ترجمة لأيّ حقائق مفترضة. ويجوز أن تكون هناك حقائق بلا أيّ فائدة. وإذا حاول المرء مع الشعر بحثا وتفسيرا لكل شيء إذ ذاك سوف تتبدد الحقيقة. فالشعر كالموسيقى. الموسيقى لا يمكن ترجمتها في كلمات. كذلك الشعر فالشعر لا يترجم.
الجديد: الشعر يكتب بالكلمات. والكلمات لها دلالات تاريخية واجتماعية وإنسانية مختلفة. وهذه لا يستطيع الشاعر تجنبها، أو تجاهلها. كيف إذن تصير كلمات سابقة على الشاعر كلماته وحده؟
إيتيل عدنان: هنا المشكلة الجوهرية في الكتابة. فالشعر موجود بين الكلمات كأدوات استعمال للجميع، والكلمات كأدوات خاصة.
الجديد: أين تكمن، إذن، الحياة الخاصة للكلمات؟
إيتيل عدنان: الكلمات شيء مثل الأرض التي نمشي عليها حفاة. وقصائدنا هي آثار خطواتنا على تلك الأرض.صورة
قوة الشعر
الجديد: هل الشعر قوة؟
إيتيل عدنان: نعم، قوة.
الجديد: كيف؟
إيتيل عدنان: في التاريخ، نعرف أن الشعر طالما أخاف السلطة منه. لذلك دأبت السلطة على محاولة شراء الشعراء. خطورة الشعر أنه يخرج من روح ويصل إلى روح. لذلك فإن السلطة الطاغية تخاف سلطة الشعر، لأنها غير مرئية. وكل ما هو غير مرئي يبعث على الخوف. الشعر له مفعول المنوم المغناطيسي، والسلطة خير من يدرك ذلك. هناك أناس يغيرهم الشعر دون أن ينتبهوا. إنه في ظني عمل مباشر. ترى رجلا جبارا يسمع الشعر فيذوب لشيء فيه ليس يدركه.
الجديد: هل إنه لو أدرك لكفَّ عن أن يكون جبارا؟
إيتيل عدنان: ربما. ففي كل إنسان، مهما كان سيئا أو شريرا هناك نقطة بعيدة متوارية تمثل إنسانه البريء. إلى تلك النقطة في نفس الكائن يذهب الشعر، ويصل. وهناك يفكك ويهدم الجدران في الكائنات.
الجديد: لكن الشعر، كما يخيل إليّ أحيانا، يصدر من منطقة الخلل، من انكسار، أو من لحظة ضعف قوية. إذن كيف يقيض للشعر أن يكون قويا؟
إيتيل عدنان: الشعر يملك قوة الحقيقة، وليس هناك شيء ثوري أكثر من الحقيقة. الحقيقة تخيف الناس. وحقيقة الضعف تخيف أكثر من أيّ حقيقة بشرية أخرى. لذلك فإن حقيقة الضعف بالغة القوة. الناس غالباً ما يخافون الوقوف أمام المرآة. وإذا تكلم امرؤ على ضعفه، فهو في اعتباري شخص أقوى من شخص آخر يستعرض قوّته، ويباهي بها، أو يدعيها. إنه شخص لديه قوة أن يرى الدنيا كما هي في جوهرها العميق. وفعل كهذا يحتاج إلى قوة عقلية وروحية كبيرة حتى يسمو في الضعف. أصعب شيء أن تسمّى الأشياء بأسمائها مهما كانت هذه الأشياء بسيطة أو عظيمة. الشعر يسمّي. الشعر يمنح الاسم.
الكلمات والألوان
الجديد: كشاعرة تكتب وتشكّل بالكلمات، وفنانة ترسم وتلوّن، أيهما الأكثر تمثيلا للروح الفني لديك والأكثر قربا من نفسك وأقدر على التعبير عن هذه النفس بالأقل من الحواجز، الشعر أم التشكيل؟
إيتيل عدنان: لا أعرف، حقيقة. أنا أكتب قبل أن أرسم. والكتابة والرسم بداهة إذ يصدران عن روح واحدة إنما يعبران بوسائل مختلفة عن هذه الروح. لا أعتقد أن أحدا يمكنه الكشف عن كامل العلاقات بين الفنين. نحن نقوم بعمل أشياء كثيرة لا ندركها. نحن، مثلا نمشي، ولا نعرف ميكانيكا المشي في جسمنا. حتى الأخصائي لا يعرف على نحو نهائي. هناك سر دائما. حقيقة نحن لا نعرف. نحس ذلك في جسدنا. كيف مثلا يبدأ طفل صغير، فجأة، في المشي. في الكون أسرار كثيرة، ونحن لا نعرف إلا القليل القليل من الحقائق.
الجديد: هل يعني ذلك أن النقاد، مثلا هم مجرد قراء قد يصدرون أحيانا عن وهم أو قصور، وبالتالي ليس علينا أن نأخذ قراءاتهم على أنها صائبة باستمرار؟
إيتيل عدنان: تماماً. ولو نحن عدنا إلى الذات الفنية المنتجة لنوعين من الفن، فإن ما ينتج عنها شيء تصعب المفاضلة ما بينه. لأننا بصدد متع مختلفة. الكتابة مثلا صعبة للجسم، لأن الذي يكتب يجلس غالبا في وضعية قد لا تكون مريحة للجسم، بينما الفن التشكيلي كالرياضة، معه يدخل الجسم في عمله أكثر مما يدخل في الكتابة، وبالتالي تحقق الفنان في عمله يكون أكبر. ومن الطبيعي أن تكون العلاقات بين الكلمات والرسم متغيرة من فنان إلى آخر. مثلا بول كلي ودولاكروا كتبا، ولكن كتابتهما كانت إما عبارة عن يوميات، أو نظرات فلسفية. أيضا فإن فان غوغ في رسائله كان كاتبا عظيما ولم يبرع فقط في الفن، وعلى الرغم من أنه يتساوى مع كلي في قدرته الفنية وتأملاته الفلسفية، إلا أنه كان مختلفا عنه كثيرا في فنه، فقد سعى فان غوغ وراء حقيقة مزدوجة أن لا يرسم وكفى، وإنما أن يرسم ليكون نقيا وميتافيزيقيا في لوحته وكتابته سواء بسواء. بينما نجد أن بول كلي يصب مشاعره وتأملاته وأفكاره كلها في لوحته. إنه يفكر في الرسم، يستعمل الخطوط والألوان ككلمات توصل معنى فلسفيا، بخلاف فان غوغ الذي يرسم ليصبح أنقى.
الجديد: وماذا عنك بين الكلمات والألوان، أيّ فلسفة تناسبك لرسم العلاقة بينهما؟
إيتيل عدنان: في البداية لم يكن في وسعي التوصل إلى خلاصات فكرية بصدد ذلك، لكنني لاحظت لاحقا أن هناك وجهين يتبادلان الظهور في شخصيتي ويعبّران عن نفسيهما في كتابتي، الأول مأساوي، والثاني فلسفي. بينما يأخذني حب السعادة والرغبة في نيلها إلى الرسم. أنا أسعد عندما أرسم. الرسم هو الشيء الذي يسعدني.
الجديد: ألهذا السبب نحن لا نجد مثيلا لرسمك إلا لدى الأطفال؟
إيتيل عدنان: ربما، أعتقد ذلك. علما أن هذا يمكن أن يوهم بأن رسومي سهلة. بينما هي أقرب إلى الفطرة، والبساطة العميقة التي تصدر عن تمثل للطبيعة الأولى.
شعرية الانكسار
الجديد: ما رأيك بشعرية الانكسار حيث خصال الحزن تولّد التأمل والرومنطيقية في الكتابة؟
إيتيل عدنان: الانكسار موجود في كل كائن. ما من إنسان إلا وفيه شيء ما من الانكسار، ما من حيوان غير منكسر، ما من طبيعة غير منكسرة. حزن الأطفال فيه انكسار، أول فقد يقدم تجربة في الانكسار. أكثر من ذلك، هناك الموت، نحن في حياتنا نموت مرارا. وما من أحد يمكن أن ينأى بنفسه بعيدا عن الموت، وألمه. هكذا هي الحياة. ولربما يكون انكسارا كبيرا لسبب صغير. عندما يضيِّع طفل كرةً تتولد في الطفل دواعي الانكسار.
الجديد: أظن أن ما من أشياء صغيرة في العالم. الأشياء الصغيرة هي أشياء كبيرة ما دام المكون الجوهري للجزء هو نفسه في الكل.
إيتيل عدنان: تماماً. عندي، مثلا، أن من يحب شخصا ولا يتمكن بدوره من نيل حبه يبلغ شيئا من الموت. في عالمنا العربي، مثلا، كل شيء يولِّد الانكسار لأبنائه. كذلك ما من عالم في النهاية من دون انكسار، لأن القوة المسيطرة لا تؤمن بالحق الإنساني، ولا بحاجة الإنسان إلى العدالة والحرية. الانكسار إذن لا يصيب الشاعر المرهف وقصيدته فقط، وإنما يصيب البشر كلهم.
شيء آخر. القوة ليست هي المهمة. وإنما الشرف، مهما كان المرء فقيرا أو سجينا، إذا كانت حريته باقية في أعماقه فهو قوي. القوة هي الشريف والمشرّف في الإنسان. ومهما يفعله جلاد لسجين إذا بقي لدى هذا السجين ما لم يتمكن الجلاد من الوصول إليه في أعماقه، فإن القوة هي هذا الشيء الذي بقي هناك.
الجديد: هل هناك معنى تطلبينه من الشعر؟
إيتيل عدنان: لا، أبدا، إلا بمقدار ما هو معنى يعبر عن وحدة النفس وانسجامها وصفائها وصدقها. بعد ذلك في الشعر لكل طريقته ورؤيته.
الهوية واللغة
الجديد: أنت شاعرة سورية الأصل، وإنجازك الشعري بمجمله موضوع في اللغتين الإنكليزية والفرنسية. على صعيد الهوية أنت في الشعر كائن مهاجر من ذاته اللغوية الأولى إلى ذات أخرى. إلى أيّ مدى خرجت هذه اللغة (الأخرى) على يدك وفي شعرك من كونها (أخرى) ودخلت فيك لتصبح لغتك الفاعلة في الأعمق من نفسك. السؤال هنا حول إشكالية الهوية.
إيتيل عدنان: أنا فعلا أنظر إلى نفسي على أنني شاعرة عربية في اللغتين الإنكليزية والفرنسية، وهذه مشكلة أعيشها، وهي بلا حل. في طفولتي ذهبت إلى مدارس فرنسية في بيروت وكانت الراهبات اللبنانيات ضد اللغة العربية، ويرفضن تعليمها لنا. في البيت أمي يونانية وأبي كان مضطرا إلى استعمال اللغتين التركية والفرنسية في حديثه معها. هكذا لم أسعد بأن أتكلم العربية وأجيدها كتابة.
الجديد: ألم يحاول والدك تلقينك العربية أقله عن طريق المحادثة؟
إيتيل عدنان: للأسف لا. لأن أبي كان ضابطا في الجيش العثماني وأمي أجادت التركية لكونها عاشت في إزمير، محادثاتهما كانت غالبا، وباستمرار بالتركية. أمي من جهتها كانت تخاطبني باليونانية. بعد ذلك، الجو في بيروت كان فرنسيا. العربية التي أتكلمها الآن تعلمتها من الشارع أولا، ومن ثم في بيت أهلي في الشام (تقصد دمشق). لاحقا كان شاقا عليّ أن لا أتمكن أبدا خلال إقامتي في أميركا أن أكتب إليهم بالعربية، وهم لا يجيدون لغات أخرى غير التركية والعربية، وتسبب ذلك في انقطاع صلتي بهم. أعتقد أن الإعراض عن تعليم العربية في بيروت، آنذاك، كان خطأ كبيرا بحق الناشئة. كان عليهم أن يعلّموا الأطفال العربية أولا ومن ثم يتركون لهم اختيار لغة أخرى.
الجديد: ما اسم عائلة والدك؟
إيتيل عدنان: قدري. ولكن في الشرق عادة التكني باسم الجد. اسم والدي كان آصاف، وجدّي كان اسمه عدنان. اغترابي في فرنسا أولا ومن ثم في أميركا بعد إقامتي في بيروت، وعملي كأستاذة في جامعة أميركية لأكثر من ثلاثين عاما، جعلني أركز بشكل نهائي على استيعاب اللغة الإنكليزية وإجادتها على نحو يمكنني من التعبير عن نفسي شعريا وأدبيا بمستوى يرضيني، لم يكن في وسعي تحقيقه بالعربية. والآن لا أظن أن لديّ مشكلة مع اللغة. إنما لديّ حزن كبير لكوني لا أجيد العربية التي أحبها وأقدرها كلغة هائلة.
على أنني في النهاية أعتقد أن الأصل هو ما تفضله أنت كشخص مفرد. في كل الحضارات هناك من كتب بلغات أخرى. في أيام الحضارة العربية العظيمة كان هناك من العرب من يكتب بالفارسية والتركية وحتى اليونانية، وهناك فرس وأتراك كتبوا بالعربية أو كتبوا باللغتين. اللغة بالغة الأهمية بالنسبة إلى الهوية، لكن الأمانة في التعبير عن أعماق الكائن بواسطة أيّ لغة هي المدخل الحقيقي إلى الهوية.
خطورة الشعر أنه يخرج من روح ويصل إلى روح. لذلك فإن السلطة الطاغية تخاف سلطة الشعر، لأنها غير مرئية
الهوية ليست دائما شيئا أصليا مصدره الخارج، إنها ذلك الشيء العميق فينا بالمولد والاكتساب أيضا. هناك من هم مزدوجو الهوية. هذه بحد ذاتها هوية. الهوية ليست شيئا فرديا بالتأكيد. ولكن أنت إذا كان لديك أربعة أولاد فأنت تملك بالضرورة طاقة على منح كل منهم على اختلافه حبك.
ليس هناك حضارة عرقية صافية. الحضارة العربية عظمتها أنها قامت على مزيج من حضارات. وكل حضارة مهمة هي كذلك. عبر هذا المنظور أرى فكرة الهوية. نعم، الهوية يمكن أن تكتسب بالاختيار. ومفهوم الهوية يختلف من زمن إلى زمن، ومن حضارة إلى حضارة ومن شخص إلى شخص.
الجديد: وماذا عن اكتسابها بالقسر؟ الكولونيالية الأوروبية انتهكت شعوبا وثقافاتها وحاولت أن تقمع خياراتها الخاصة في لحظات مفصلية من تاريخ تطورها عن طريق إكسابها ثقافة أخرى ولغات أخرى؟
إيتيل عدنان: هذا صحيح، وأنا أرى أنه جريمة اغتصاب جماعية لوجود هذه الشعوب وثقافاتها وخياراتها في وجودها. لذلك قلت إنني أعاني من ازدواجية الانتماء.
حب الجَمال
الجديد: ما اسم أمك؟
إيتيل عدنان: روز ليليا لاكورتي.
الجديد: مالأثر الذي تركته فيك هذه الأم؟
إيتيل عدنان: أمي لم تتعلم كفاية. توقفت عن الذهاب إلى المدرسة في سن الثانية عشرة. لكنها كانت نزّاعة إلى حب الجمال بهوس. في أوقات المطبخ كنت أراها وأسمعها وقد فرغت من تنظيف طنجرة الطبخ تقول: أصبحت تلمع كالقمر. كانت تحب الجمال في كل شيء، وتراه في كل شيء. منها تعلمت حب الجمال بدءا من الأشياء البسيطة والعادية. كانت سفرة طعامها ملونة دائما. مفرش المائدة كان مطرزا كغطاء السرير المطرز. كانت تنسج الستائر بالكوشيه وتسعد كثيرا بما تقوم به. لم تكن بورجوازية النزعة، لم أر امرأة مثلها مولعة بأشغال اليد. والدها كان نجارا.
أذكر أنها كانت تذهب إلى الخياطة، وتحب الفساتين الجميلة والبضاعة الحلوة في محلات المدينة، الحرير. رأيت أناسا في أميركا متعلمين كثيرا، وما كانوا يعرفون الفرق بين القطن والحرير، أمي كانت تعيش وتملك أن تعيش حياة الحواس، تلتذ بالفروق بين الأشياء، تلتذ بنظافة البيت، تفرح لأشياء صغيرة بسيطة.
أبي بدوره كان يحب السجاد، يتعامل معه كما نتعامل نحن اليوم مع اللوحات الفنية. أذكر أنه كان يذهب إلى سوق الحميدية في الشام ويزور بائع السجاد كما نذهب نحن في لندن أو سان فرانسيسكو إلى المتحف لتأمل اللوحات. كانت غايته جمالية بحتة. وكما نعتقد نحن أن تيرنر فنان كبير، كان بدوره يعتقد أن السجاد شيء كبير فنيا. العرب، للأسف، أضاعوا شخصيتهم، لم يعد في وسعهم تلمس الميزات الفنية الهائلة الكامنة في موروثهم المستمر الحي. وما دمنا نتكلم على السجاد، يخيل إليّ أن البعض منهم يظن أن السجاد غير مهم لمجرد أنه يمشي عليه. يريدون أن يقلدوا الغرب في كل شيء. الغريب أن الغربي يحترم شغل اليد ويقف مشدوها أمام السجاد كلوحات مذهلة. آباؤنا كانوا ينزعون أحذيتهم ليمشوا على السجاد. أناس العالم العربي اليوم كما اكتشفت، مرارا، لا يحترمون إلا المال.
فخّ اللغة
الجديد: من موقعك الثقافي بين أكثر من لغة كيف ترين الشعرية العربية بين الشعريات الأخرى؟
إيتيل عدنان: أحب الجيل الجديد من الشعراء. جيل مطالع الثمانينات، قرأت لكثيرين وأعتقد أن شعرهم أكثر عصرية وحداثة وجدة وشجاعة من شعر السابقين عليهم. المهم في هذا الشعر هو اختلاف الحساسية. هناك شيء يرجف فيه كما الشجر في الهواء. هناك بحث حقيقي عن الجديد. إنهم لا ينصتون إلى الماضي، إلى المعطى الثقيل القائم وإنما هم ينصتون إلى أنفسهم. لديهم إيقاعات جديدة تماما على الشعر، أعتقد أنها المصدر الثري لهذا الرجف الذي تكلمت عنه. الشعراء الجدد لا يتكلمون عن اللغة، وعبر اللغة كتاريخ موضوع، ولكنهم يستندون إلى تجاربهم الشخصية. لأن الشاعر إذا أعطى ثقته الكاملة إلى اللغة، هناك خوف عليه من أن يكتب بأوتوماتيكية، خصوصا أن اللغة العربية جميلة إلى درجة تمكّن من استخدامها بسلاسة آسرة، وجمال اللغة بهذا المعنى فخ للشاعر. أدونيس يتكلم عن جمال اللغة. وهو مثال في هذا السياق. لكن هذا فخ. لأنك تقول أيّ شيء فيبدو جميلا. على الشاعر أن يخاف من جمال اللغة. أشبّه جمال اللغة بسكة حديد تحمل عربة مندفعة. هذا شيء مخيف. الجميل المعاكس أن أكثر الشعراء الجدد لا يقعون في هذا الفخ. إنهم يبدأون من نفوسهم الجديدة وإلى نفوسهم الجديدة ينتهون.
_________
• أجرى الحوار في لندن: نوري الجرّاح
الجديد
—————————————
=====================
تحديث 27 تشرين الثاني 2021
———————-
اسمع يا حسن…/ إيتيل عدنان
إيتيل عدنان، شاعرة وفنانة تشكيلية سورية، (تقول ويكيبيديا إنها لبنانية، ويذكر ذلك في أغلب المقالات عنها في شوفينية مرهقة، بينما تقول بوضوح “أنا دمشقية يونانية” في حوارها مع الشاعر نوري الجراح) تكتب بالإنكليزية، عاشت خارج سوريا ما يزيد عن أربعين عاماً، توفيت في 14 نوفمبر الماضي.
النص المنشور هنا نشر أول مرة في مجلة “شعر” العدد 41 عام 1969. ومكتوب بالإنكليزية بلغته الأصلية. ننشره مجدداً كتحية لروحها العظيمة، وهو حسب علمنا لم ينشر مرة أخرى. نحتاج أن نقرأه لنجد صورة دقيقة لنوع من التبصّر لصورتنا الحالية. نص مدهش وبريء عن دمشق القديمة التي أفضت إلى دمشق المعاصرة، وعن الكآبة والشمس والجنون، وعن الكآبة التي تدفع الشمس إلى الجنون.
هذه الشمس التي تغلي تدفعني إلى الجنون. فأنا أفتقد كاليفورنيا، وقد جئت إلى هذه البلاد لأتخلّص من دولارات مزيفة. هل أنت مصغ؟ أعطيكم دولارات رديئة مقابل نقود جيدة، وأن النقود يمكن أن تكون جيدة. في الوطن يقولون: حافظوا على خضرة كاليفورنيا. والجميع يضحكون لأن الدولار هو أخضر ويراه الناس في كل مكان. التلال مغطاة بذلك السراب الأخضر. نعم، يا حسن، لقد جئت لأغطي سوريا بنقود زائفة.
أفتقد كاليفورنيا يا حسن: رائحة البنزين والأرضية المهتزة لمدنها الصغيرة وتلك الطرق التي كنت أندفع عليها، وبجانبي فتاة. كل يوم فتاة جديدة، عندما كنت في الرابعة عشرة، لقد كنت رجلاً، في الرابعة عشرة يا حسن. والآن فالنساء بالنسبة لي ميتات.
تدفع شمس دمشق الحامية بمساميرها في رأسي. والبوليس الأعمى هنا يملك عليّ حواسي. وفي الوطن، رجال البوليس سريعون. وهم يتحركون على دراجات بخارية عنيفة. إنهم رياضيون، ولهم أنف مرهف وسرعة تكمن في كل خلية من خلاياهم، وهم يشربون الخمر بكثرة.
اليوم، كان بودي لو أن كاليفورنيا وجود من لحم أستطيع أن أتنفس أو أحطم يدي تلقاءه. وددت لو أنها في هذه الغرفة. إنها تفوح برائحة المرائب والكلاب غير المغتسلة، إلا أنها طفولة سعيدة.
ليس للإنسان أصدقاء في بلادي يا حسن. للمرء أصدقاء صدفة. إنك تحدّث من شئت. وفي مدينة دمشق هذه أتجوّل في دوائر وأنتهي وحيداً في سريري. لا أحد أشاركه عرقي، لا أحد ألصقة بجلدي. إنني أكره الاغتسال يا حسن، فمع كل دوش آخذه أشعر بأن عريي قد زاد قليلاً، ووحدتي قد زادت قليلاً.
حتى الآن تخلّصت من محفظة واحدة، محفظة كبيرة تضم في بطنها الملايين. المال قذر بما يكفي وحين يكون زائفاً فهو سمّ خالص. في هذه المدينة الأكثر قدماً بين المدن، تلقحت أنا، تواً. وبعد ذلك سأكون حراً. ينبغي لي ألا أشتغل ثانية أبداً.
هذه الشمس الحامية تغيظني. إنها تستحضر في داخلي كراهية ليس لها موضوع. إنني بحاجة إلى الكراهية يا حسن. فأنا أقضي ساعات، أياماً، ليالي، وأنا أطوف في دوائر. وعندما لا تكون حاضراً لتترجم لي من الصحف العربية، لا يكون لدي شيء أعمله. وما أن ينزل ما في المحفظة إلى السوق، حتى أكون قد خرجت.
يكفيني بلداناً عربية. لقد انتهيت من البلاد العربية. كلا، لا آسيا ولا أفريقيا أريد. أريد أن أذهب إلى الوطن وأشتري سيارة من تلك السيارات وأقوم بغسلها كل يوم… وربما زوجة… إحدى هاته النساء الوقحات والجامدات تمضغ لي هويتي.
أنا أحبّك يا حسن، لأنك صامت. ففي الوطن يتكلم الجميع. لكل واحد ما يقوله عن المناخ. أما أنت، فتستطيع أن تسكت. جعلتني أحب الصمت، وأنت تتركني أحدثك، فتسبح في كلماتي ولا تهجريني. لقد غسلن يديك باعتناء بعد أن فرقت دولاراتي، وعند ذاك عرفت بأن لي فيك صديقاً حقيقاً.
علمتني دمشق ما يمكن أن يكون عليه الحب في فوريته. لم تكن لي ارتباطات بها ولا ذكرى. ما أحببته كان الشوارع الضيقة الفائحة برائحة الجبن، والأسواق الفائحة بول الجمال، والنافورات الفائحة بالطين. تعلمت فيها الرغبة في أن أكون طائراً، كلباً، حماراً. رأيت بعيني هاتين، الخيط الرفيع الذي يفصلنا عن الحيوان، إذا كان هناك خيط ما. لا حيوانات في بلدي. فهي قد سبق موتها وتقطيعها وتعقيمها إذ نلتقي بها.
عندما بقيت هناك يوماً بعد آخر، دون أن أمارس الحب، ارتبط شيء ما في بالمدينة. إن المدينة هي التي تشبع الآن ذلك التحرّق الذي يقطن أعضائي وعيني. فأهالي دمشق يخبئون زوجاتهم، بينما أن ما اشتهر هو مدينتهم. لقد جلبت إليهم أوراقاً نقدية محملة بالجريمة، فشغلهم حبها. وبالمقابل، منحوني هم عصوراً مطبوعة بذات التراب الذي أتنفسه.
إلهي، لكم استفظعت المدينة عند مجيئي. الذباب على اللحم المعلق، الأطفال ذوو العيون المريضة، المتسولون. وقلت لنفسي إنني لا أتعامل مع أناس، بل مع جيش من الهوام. فهناك، في الوطن، كل شيء نظيف.
قابلتك يا حسن في السوق عندما عرضت نفسك كمترجم لإرادتي. وفي عينيك الحزينتين رأيت أنك بحاجة إلى مال. وبدا لي أنك تشتهي كل شيء دوماً بلا رجاء. كذبت عليك عندما تظاهرت بأنني أضعت السبيل إلى غرفتي. أردتك أن تأتي لتخدم خططي، وكنت سأخدم رغبتك في امتلاك الأشياء. ومذاك، أنت مفسّري، وأنت بين بوليس بلادك وبين محفظتي. عندما أكون قد صببت جميع الأوراق القذرة في السوق سأعطيك نقوداً حقيقية، نقوداً سيمكنك أن تشتري بها الأشياء التي تريدها بلا خوف.
أول ما لاحظته في دمشق يا حسن، هو الشمس. فلنورها ألق ذهبي تجاهلته. إننا نحب السماء في كاليفورنيا وأطفالنا يشترون كتباً فلكية. وإذ ليس لدينا ماض حقيقي، فإننا نحاول غزو فضاء أكثر هولاً من أي شيء آخر عرفه العالم. نحن نحب الكواكب، يا حسن، حتى لو أننا نادراً ما ننظر إليها. لقد فكرت دوماً بأن الشمس أميركية.
اكتشفت شمساً صفراء غريبة على ظهائر كالفورنيا، حتى أنه تملكني، وأنا أكتشف ذلك، جنون أن أقرر بأنني سأستقر في دمشق إلى الأبد. واستمر هذا أسابيع عدة. ورويداً رويداً، مثل مصل سام، ولجت الشمس ذهني وأخذت مكانها في دماغي الخاص. والآن يا حسن، فإن لي عدواً. لا أعرف، بعد، من ذا أحب، ولكنني أعرف ما أتفاداه. فأنا أهرب من الشمس.
اليوم أنا مريض بوجه خاص. إنني بحاجة إلى تشرينات كالفورنيا، إلى إحدى تلك الأمسيات البطيئة التي تلي فورة لعبة كرة قدم رابحة. إن فتياتنا، بأسنانهن المثالية، في تلك الليالي، لدنات وهن في السيارات، فشخصية كل سيارة تأسرهن كعقاب.
وفي مدينة دمشق هذه لا نصر أستطيع المشاركة فيه. وأنا لا أرى أي نصر.
لماذا يرددون لي دوماً أننا وطن فتي؟ فما نحن أكثر فتوة من العالم ذاته. أعرف ذلك، فغالباً ما رأيت حفرة كبيرة، أمامي، وأنا أسوق على طرقات كاليفورنيا. كنت في حوالي العشرين عندما بدأت أرى تلك الحفر. ربما هذا هو سبب سفري.
افتح الراديوـ، يا حسن. لا، لا صلوات أيضاً. جد لي شيئاً من الجاز يا حسن، واخرج. سأراك غداً.
حسن، بحثت عنك بجنون. ذهبت إلى بيتك فصفق والدك الباب في وجهي. لم يكن هذا من عادتهما. وتبعني أخوك الصغير، مبرزاً لي لسانه. حاولت أن أطاله، فهرب وهو يصرخ.
حدث شيء فظيع. الأحد، خرجت في مهمة. سرت بمحاذاة النهر. كان فيه ماء قليل جداً. مجرى أكثر منه نهراً. بلغت السوق وعبر المسجد وأبعد بقليل.
حسن، ما الذي تفعله النساء عندما لا يكن متزوجات؟ إلى أين يذهبن؟
يبدو أنهن يلازمن بعضهن بعضاً، ناظرات بعضهن إلى بعضهن. ما الذي يفعلنه بهذه الكثرة من الصمت؟ يبدو وكأنهن ينظرن إلى كل شيء بازدراء.
الأحد، في ما بعد الظهر، كان الطقس حاراً. وعندما يكون الطقس حاراً، يا حسن، يبدأ تفكيري بالفتيات. لا أحب أن أكون وحيدة عندما ترتفع درجة المحرار. وكانت الشمس تلتهب. كان عدوي منتصراً في السماء. عندما يكون الطقس حاراً فجسد المرأة غدير.
أفتح الراديو. الجاز قطرة ماء في هذه الصحراء. يقولون لك إن الجاز بارد، وأنا أقول إنه كالخمر. يبدأ بارداً وسرعان ما يشتعل في عروقك بعد لحظات. أعرف أشخاصاً في وطني كانوا يقولون أشياء فريبة حين ينزرون إلى هذه الأبراج. غريبة هذه المآذن بصلواتها المسجلة.
حسن، لست أعلم كيف ستتقبل ما سأقوله لك، كان الأمر فظيعاً. لن أقدر على ملامسة امرأة بعد الآن. سيكون عليّ أن أغتسل وأن أغتسل. وجدت بيتاً صغيراً. غرفة مربعة على سقف مخزن، في السوق، في نهاية الشارع يمين المسجد. قالوا لي إنني يمكنني إغواؤها، وإن من يتولى أمرها هو أخوها نفسه.
ستنال هذه المدينة جلدي. دخلت إلى تلك الحفرة الكبيرة، تلك الغرفة المعتمة، فوجدت البغي قتيلة وهي لا تزال جالسة على كرسيها، منكفئة إلى الوراء. وأخبروني أن من قتلها هو أخوها. فكل النقود التي كانت تجلبها مؤخراً كانت أوراقاً مزيفة. وفي عضبه سحقها. أعتقد أننا نحن القاتلان… وما زالت لدينا محفظة مليئة بتلك النقود.
بحثت عنك في كل مكان. راغباً في أن أكلمك، أن أراك. أردتك أن تجد لي بعض الخمر، وأن ترعاني فيما بعد.
أتسمع الراديو؟ كنت في الرابعة عشر عندما كتب ألينغتون هذا اللحن. كنت يا حسن رجلاً في الرابعة عشرة مليئاً بالشجاعة، خيالياً. وكنت أقيم وحيداً، وعندي مسدس صغير في العلية. وكنت أصفرّ الأغاني الشعبية، كان هناك بار في علبة موسيقى، وكنت أجلس على الرصيف منتظراً أن يدخل الناس ويخرجوا لتخرج معهم الموسيقى إلى الشارع. وكنت لأقتنص المقاطع. أما الآن فهناك مرآب في ذلك الركن.
حسن. كيف لا تستطيع حتى أن تكرهني. إنك لا تقول شيئاً. أنا لست حزيناً حقاً بسبب المرأة الميتة، ولكن من الآن فصاعداً سأرى صورة رعب مرتسمة على وجه كل امرأة. ليس الأمر أنني أهتم لهن، يا حسن. فليس هناك سعادة كبيرة فيهن بالنسبة لي، لكن كيف أمارس الحب مع شيء مفزع؟
كنت أتمنى لو أننا انتهينا من هذه النقود، هل ندمرها؟ لكنني لا أستطيع أن أفعل هذا، فسيعتقد الذين بعثوا بي إلى هنا، أنني سرقتها، وسيأتي انتقامهم عاجلاً.
حينما بدأت أعمل لحساب هذه العصابة فكرت أنني سأتركهم حالما يصبح لدي مال كاف يتيح لي ذلك. وسواء كان المال حقيقياً أو زائفاً، يا حسن، فما هو غير قطعة ورق. ولنا، نحن الأميركيين، فإنه يأخذ موضع أشياء كثيرة. فهو نوع من الأفيون، يا حسن، مخدر لا يراه البوليس.
في باب مدرستي الثانوية كان هناك فتى مكسيكي يبيع الماريجوانا. لم أستسلم له قط. ولكنني فيما بعد، عندما حصلت على عملي هذا في دمشق رأيت المكسيكي بمخدره، وشعرت بأنني في نوع من الحلم، نوع من التبرير… تبرير أشياء عديدة.
إنك لا تردّ يا حسن. أنت مثل العرب جميعاً: فلهم عيون معبرة لا يمكن الإنسان أن يقرأ فيها شيئاً واحداً. ربما كان وهماً ما تعبر عنه. أو لا شيء. وربما كنتم شعباً ينظر إلى عدم ما.
ربما كنتم شعباً من البُله يستورد من بلادي أسوأ ما يمكن أن نعطي: آلاتنا، تبغنا، موادنا الميتة. كنت آمل سراً أن أجد هنا ملجأ لحياتي. من المحتمل جداً أنني جئت إلى هنا باحثاً عن شيء آخر غير المال.
أحب وجهك يا حسن. عيناك بنيتان وحزينتان. أما العيون التي أتذكرها من بلدي فهي عيون كلاب صودفت هنا وهناك. إن أكثر ما رأيت في أميركا إنسانية هي وجوه الكلاب. لا تأبه يا حسن. فأنا لا أهين أحداً، إنني أحب كاليفورنيا. وهذه ليست غلطتي إذا كانت الكلاب تؤثر بي.
هذه الأغاني العربية التي لا تتوقف أبداً، هي أقرب ما يكون إلى جازنا. لكن الجاز شيء آخر، إنه يمنحني السلام وأغانيكم تجرّني إلى الجنون. إنها تجعلني أصرخ. هناك في الوطن، يا حسن، يدخل رجل إلى بار ويجلس مع أي كان، ويسرد سيرة حياته… أما هنا، فليس لي غيرك، أنت يا من أفسدته… ومع ذلك تنظر إلي بعينين ممتنتين.
منذ أن رأيت هذه المرأة، هذه المجزرة، لم أعد أفكر إلا في شيء واحد، الذهاب. وكل ما تبقى من الأوراق المالية سأعطيك إياه.
تدبر أمر كلينا، وسوف أتقاسم معك. كنت أعتقد أن ألينغتون يمكنه أن ينشلني من أي شيء. لكن تلك الموسيقى، الليلة، أكاد لا أسمعها. تلك النغمات، كيف أقول، ذلك الأرجوان الذي تحمله، بترف، سأفكر بأن دمشق قد قضت عليه إلى الأبد.
حسن، أنت لا تعرف ألينغتون. إنه رجل. وهو يأخذ النغمة ويجعل منها مخملاً. في الرابعة عشرة كنت على استعداد للموت من أجله. كان يعطيني نشوة لم تعطني إياها امرأة. وهناك ترف في موسيقاه أكثر مما في كاديلاكات الشارع الخامس. وهناك الليل برمته في أوركستراه، كما أن فيها جميع النسوة التي يمتلكهن المرء في حياته.
لدمشق تلك الشمس اللقيطة التي هزمتني. وفيها رائحة الجمال، رائحة الغزلان. إنني لم أمسك بوجوه نسوتها بين يدي. فبالنسبة إليّ هي مدينة جافة بأكملها. في البدء أحببت مصابيحها الكهربائية العارية، وسوقها لبيع الجلود، ومراهقيها الذين يتحدّونك وهم يسيرون. لا بد أن دمشق حافظت على بقائها بقدرتها على الازدراء. لكنه ازدراء لدي منه الكثير ضد نفسي.
حسن، أبعد عني هذه المحفظة. افعل بها شيئاً ما. سأمنحك نسبة مئوية أفضل. والآن عليّ أن أذهب لأتناول طعام العشاء مع قنصلي. ينبغي أن يستمر على جهله بأي شيء. سأراك غداً.
هذه الشمس التي تغلي يا حسن. أود لو أنك تبعدها عني. وهذا الضوء المصفرّ على الحجارة سيخدرني ذات يوم. أعجب كيف أنكم جميعاً تستطيعون السير بعيون مفتوحة في هذا النور الفظ.
بعثت إليهم ببرقية أخبرهم أن العملية نجحت. من يدري من ستكون ضحيتنا المقبلة. كلما لمست مالاً حاولت أن أتخيل حياة الذين سينفقونه.
سأكون في بلدي قريباً يا حسن، فأنا إنسان غني. إنني غني حتى لو أنني لست إنساناً تماماً. إنك غني أيضاً يا حسن. وما زلت تبدو كئيباً. لم يتبدل وجهك. بل إنه تبدل. نعم، قليلاً، في نظر من يعرفك جيداً. لو أنه توجب أن يفعل الأمر ثانية، لو كان لي أن أراك بوجهك الحالي، فلا أعتقد أنني سأصحبك معي إلى غرفتي في الفندق. إنك شيء أقرب لما أدعوه صديقاً.
مادامت الأموال جميعها أصبحت في السوق، فأنني أشعر بالعري. لا بمزيد من السعادة. وها أنا الآن عائد إلى بلدتي الصغيرة في كاليفورنيا، إلى سمائها الحديدية، وزواياها المستقيمة، وسأشتري هناك زوجة وجيراناً. فشوارعنا لا تداجي كشوارع دمشق. فالمرء فيها يعرف إلى أين تؤدي.
وأنت يا حسن، ستبقى هنا. ولبضع سنوات أخرى ستلعب مع أخيك الصغير. سيكون له رداء النوم نفسه. ولن تخبرهم في البيت أنك غني. ستبدأ بذكر عمل غير حقيقي، ورويداً رويداً تريهم قوتك الجديدة. ستصغي إليك أخواتك وأمك ستباركك. ستقول لك بأن الله اختارك.
لا أعلم ما سأفعله حين أعود، فالشهور القليلة التي قضيتها هنا قد أضاعتني. لقد كان جنودنا العائدون من اليابان وكوريا يفتقدون ذينك البلدين بينما هم يكرهونهما أيضاً. كانوا جميعاً يقولون بأن أميركا تبدو فارغة. لكنني لم أفكر قط بإمكانية وجود أي شيء، في مكان ما، لم يصبح لنا.
لا مساجد في مدننا، بل فيها أنواع عديدة من الكنائس. وهناك أنصاب لم أحببها قط. الطرق ليست فوضى كما هي هنا، والأحياء الشعبية لا يرتادها أحد. فليس هناك ما يعمل. نعم، إنني أتذكر أمسيات ضجر طويلة. إلا أن هناك على الدوام باراً تستطيع فيه أن تتحدث إلى أحدهم.
في برقيتي أخبرتهم أيضاً أنني نفضت يدي من هذا النوع من الأعمال. لقد قمت بواجبي. قلت، ولم يعد هذا الشيء يثير اهتمامي بعد أبداً. دعنا نحتفل هذه الليلة بإثرائنا وحريتنا. لسوف أشتري أي شيء كان ونلقي به في المهر. هذا اليوم يا حسن، هو يوم عيد.
قريباً سأكون قد ذهبت. فلينته عندي ذكر البلاد العربية. كانت لي فيها تجربة غريبة أريد أن أنساها. لسوف أفتقدك. أين سأجد شخصاً له عينا حيوان أصيب بأذى كعينيك؟ أين سأجد شخصاً يصغي إلي ويتركني أتكلم، شخصاً له وجه يقظ وحزين كوجهك. إنني أدير ظهري إلى بلادك يا حسن. كفاني
حسن، هذه بداية المساء. لو لم يكن الجو حاراً هكذا، لخرجنا في هذه اللحظة. لكن انظر، إن عدوي في السماء يبدو وهو يرتعش كانعكاسة نهر. هذا الوقت غريب حقاً. أنا خارج يا حسن، خارج لأسلّم نفسي إلى البوليس، ذلك البوليس الذي أمقت.
رصيف 22
—————————————
الشاعرة والفنَّانة اللبنانية إيتيل عدنان- صوت اللغات وسفيرة الثقافات
تعدّ الشاعرة والأديبة والفنَّانة إيتيل عدنان نقيبة الأدب في الشرق الأوسط وهي بطبيعتها مواطنة عالمية عاشت في عدة أماكن وكتبت بلغات عدة، كما استطاعت في سن مبكرة شق طريقها في عوالم مختلفة. والآن قاد معرض دوكومنتا الثالث عشر هذه المبدعة التي يبلغ عمرها سبعة وثمانين عامًا إلى مدينة كاسل الألمانية، حيث التقتها فيرا كيرن وأجرت معها الحوار التالي.
خصَّك معرض دوكومنتا الثالث عشر بمعرض استعادي لعرض أعمالك منذ بداية إبداعك يضم سبعًا وثمانين لوحة وسجَّادتين جداريتين وفيلمًا وكذلك كتابًا. ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟
إيتيل عدنان: كنت أتمنى لو جاءت هذه الدعوة قبل عشرين عامًا! ولكن من المثير للاهتمام أنَّني أعتقد في الوقت نفسه أنَّ هذا التوقيت تم اختياره بشكل جيِّد. وربما كان ما يزال لا يوجد لديّ في السابق هذا الوعي الفنِّي لمثل هذا المعرض الفنِّي الذي يعدّ من أهم معارض الفنِّ العالمية. إذا كان المرء ناجحًا ينتابه القلق أحيانًا من أنَّه لم يعد قادرًا على إعطاء مستواه الفنِّي ما يستحق، ومن ثم يكون الأمر مثل تمجيد فنِّي عندما يتم تقدير أعامل الفنَّان وتُعرض في مثل هذا المعرض العالمي. ومن الطبيعي أنَّ كلَّ فنَّان يحلم في المشاركة ذات مرَّة في معرض دوكيومنتا. وكذلك لأنَّني أشارك في هذا المعرض الكبير غير التجاري فهذا شرف كبير بالنسبة لي.
صدر لك بمناسبة معرض دوكومنتا ضمن سلسلة الكتب التي تم أطلاقها حديثًا تحت عنوان “مائة ملاحظة ومائة فكرة” كتاب يحمل عنوان “ثمن الحبّ الذي لا نريد دفعه”. ما سبب تأليفك هذا الكتاب؟
عدنان: لقد طلبت مني المديرة الفنِّية لمعرض دوكومنتا كارولين كريستوف باكارغيف أن أكتب شيئًا حول أعمالي الفنِّية. غير أنَّني نشرت في السابق كتابًا حول هذا الموضوع. وهكذا اختارت استراتيجية ذكية وسألتني كما لو كنا نخوض حديثًا خاصًا: عن ماذا ترغبين الكتابة؟ إنَّ ما يثير اهتمامي وجود الكثير من الأعمال التي تدور حول العنف والجنس والبورنوغرافيا ولكن لا أحد يتحدَّث حول الحبّ. لذلك قرَّرت أن أكتب كتًابا حول الحبّ ومن دون أية رقابة ذاتية. وقد كنت مهتمة بعدم اقتصار الحبّ على العلاقات بين الناس. فالحب يمثِّل طاقة تجري عبر قنوات مختلفة. وبالتأكيد الحبّ الأصعب هو حبّ شخص ما. وذلك لأنَّ الأشياء تنصاع لك وإذا كنت تحبين الرسم فستتعاملين فقط مع الألوان والقماش، ولكن إذا كان المحبوب شخصًا فسيُدخل مشكلاته وقضاياه الخاصة إلى الحبّ.
يشعر بعض الأشخاص بأنَّهم مرتبطون على نحو خاص باللغات. وكذلك تمثِّل اللغة موضوعًا أساسيًا في حياتك…
عدنان: كانت والدتي امرأة يونانية من تركيا من المدينة المعروفة في يومنا هذا باسم أزمير وكان والدي ضابطًا في الدولة العثمانية وقد ولد في دمشق. ووالداي كانا يتكلمان مع بعضهما اللغة التركية، بينما كانت أمي تتكلم معي اليونانية. وكان الناس من حولي في بيروت يتكلمون اللغة العربية وفي مدرستي الفرنسية. واليوم تعتبر اللغة الإنكليزية لغة العمل بالنسبة لي.
ما هي اللغة التي يمكنك اعتبارها لغتك الخاصة من بين هذه اللغات؟
عدنان: إذا أردنا الصدق لا توجد لغة محدَّدة من بين هذه اللغات. كما أنَّني لا أعتقد أنَّ لديّ لغة خاصة بي. وكذلك يعتمد دائمًا ارتباطي بأية لغة على العمل الذي أقوم به وعلى البلد الذي أتواجد فيه. ويتوقَّف هذا على وضعي الخاص. اشتريت في اليونان بيتًا صغيرًا وذلك فقط لأتمكَّن من سماع اللغة اليونانية في أذني، هذه اللغة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا للغاية بذكريات والدتي، وعندما أكتب أكاد أكتب فقط باللغة الإنكليزية. وكذلك يرتبط هذا أيضًا بسيرتي الذاتية، إذ تعتبر اللغة الإنكليزية بالنسبة لي لغة الحرِّية فقد هاجرت بمفردي إلى أمريكيا وخضت طريقي بمفردي وكنت أعتمد فقط على نفسي. ولذلك فإنَّ اللغة الإنكليزية تمثِّل هذا الشيء الذي اكتسبته أنا بمفردي ومن دون مساعدة أسرتي. وفي اللغة الإنكليزية يستطيع المرء التعبير بحرِّية، على عكس ما هي عليه الحال في اللغة الفرنسية التي عندما يبتكر فيها المرء بناءً لغويًا جديدًا فعدئذ يعتبر ذلك خطأً لغويًا. وأنا بقدر ما أحب شعر اللغة العربية! بقدر ما أتمنى لو نظمت قصائدي باللغة العربية!
إذا كنت قد اعتدت منذ طفولتك إلى هذا الحدّ على التنقّل هنا وهناك بين اللغات ومن ثم في وقت لاحق بين الأماكن – بيروت وباريس وكاليفورنيا، فهل تشعرين من خلال هذا الوعي الكوسموبوليتي بأنَّك مواطنة عالمية؟
عدنان: لا أعرف. وصحيح أنَّ أهمية فكرة المواطنة العالمية تزداد باستمرار، ولكن لكلِّ هذه التطوّرات ثمنها. دعينا ننظر فقط إلى المشهد الفنِّي العالمي. عندما لا أقول إنَّني لبنانية أو من كاليفورنيا، فمن أين لك أن تعرفين من أين أتت لوحاتي؟ إنَّ كلَّ مكسب يعتبر أيضًا خسارة. والعولمة لها دائمًا وجهان.
ما هو تأثير خلفيَّتك متعدَّد الثقافات على أعمالك؟
عدنان: عندما يكون لدى المرء مثل هذه الخلفية متعدِّدة الثقافات – الأمر الذي سيكون في المستقبل طبيعيًا جدًا – فأين ستكون إذًا الهوية؟ كثيرًا ما أطرح على نفسي هذا السؤال. الهوية هي مزيج من أشياء مختلفة، مزيج من ذكريات الوطن الأصلي والأسرة والحياة الخاصة. ولكن في آخر المطاف نحن من نقرِّر كيف نريد أن نعيش. كان بإمكاني أن أنكر أصلي وأن أصبح أمريكية. أو كان بإمكاني أن أرفض أمريكا وأن أكون امرأة عربية. ولكنني في الحقيقة لا أطرح على نفسي في أغلب الأحيان مثل هذه الأسئلة حول الهوية الوطنية. والهوية بالنسبة لي مثل شجرة تنبت أحيانًا براعمها بسعادة وتفقد أحيانًا أوراقها. وهي عملية تتغيَّر باستمرار.
يرد في مقدِّمة كتاب لك أنَّ “بيروت تلتصق بي مثل الشمع الساخن”. هل ما تزال بيروت وطنك بعد كلِّ هذه الأعوام التي قضيتها في المنفى؟
عدنان: بيروت تصبح وطني عندما تعاني من مشكلات، كما أنَّها ليس وطني الوحيد، فقد قضيت حتى الآن في كاليفورنيا وقتًا أطول مما قضيته في بيروت. وكذلك تكيَّفت مع المجتمع الأمريكي ونشأت مع نظام تعليم فرنسي. ولكنني عندما أقرأ في الصحيفة عن الحرب الأهلية في لبنان أو عن أعمال العنف في سوريا فعندئذ أحدِّد هويَّتي في هذه المنطقة. إذ إنَّ السياسة لا تسمح لنا أن ننسى جذورنا أو أن نتناسى ببساطة من أين أتينا. وبصراحة أنا أشعر بأنَّني أحصل على رعاية حسنة في العالم. ولكنني أشعر بأنَّني مرتبطة مع بيروت وشمال كاليفورنيا ارتباطًا خاصًا. حيث أجد نفسي في وطني عندما أكون في هذين المكانين اللذين يعتبران في غاية الجمال. لقد كانت بيروت جميلة في الماضي، ولكن في يومنا هذا يدمِّر القائمون على تخطيطها بالكتل الخرسانية الجديدة جمال هذه المدينة أكثر من الدمار الذي أحدثته الحرب فيها.
هل تعتبرين نفسك فنَّانة أمريكية عربية أيضًا لأنَّك اخترت بيروت وشمال كاليفورنيا وطنًا لك؟
عدنان: صحيح أنَّني من دون ريب فنَّانة أمريكية عربية، ولكن أنا شخصيًا لا أصف نفسي كذلك. ومع ذلك أمريكا قائمة على هذا المفهوم الخاص بإضافة الأصل إلى هوية الفرد مثل أمريكي أسود وأمريكي من أصل إسباني – وأنا أقبل ذلك، ولكنني أشعر بالراحة في أوروبا أيضًا وأقدِّر بصورة خاصة الإبداع في أوروبا.
كثيرًا ما كانت الأزمات تثير إبداعك. الحرب الجزائرية وحرب فيتنام والحرب في لبنان – أحداث عالمية كثيرًا ما ترد في أعمالك. كيف تجري لديك عملية الإبداع الفنِّي؟
عدنان: أنا أتفاعل ببساطة مع ما يحدث في العالم أو مع ما يحدث في محيطي المباشر. ولا أفكِّر بأي موضوع يمكنني البدء قبل أن أبدأ العمل. وكذلك لم أضع أية تصاميم وخطط لأي عمل من أعمالي قبل البدء بإنجازه. وهذه الأعمال أنجزت كلّها بالصدفة ونتج كلّ منها عن وضع معَّن.
كيف تقيِّمين التطوّرات الأخيرة في العالم العربي؟
عدنان: لقد كان العالم العربي برمَّته في أيدي أنظمة استبدادية تعتبر في غاية الفاسد ولا تريد الرحيل ببساطة، لأنَّها مترسِّخة في البنى الهيكلية وذلك أيضًا بسبب الدعم الذي تتلقاه من الخارج. وبناءً على ذلك فإنَّ المشكلة لها وجهان، إذ إنَّ كلَّ بلد لديه مشكلاته المحلية ويعتبر نفسه بالإضافة إلى ذلك معرَّضًا لتأثير القوى العالمية. وعلى سبيل المثال سوريا التي تحكمها حكومة فاسدة منذ أكثر من أربعين عامًا؛ كانت الأوضاع هناك على وشك التحسّن حيث قامت ثورة ما تزال مستمرة ولكن النظام مع ذلك يرفض بشدة إجراء أية إصلاحات. روسيا والصين تساعدان النظام السوري، وصحيح أنَّ بإمكان الشعب السوري المسلكين أن يثور على حكومة بلده، ولكنه لا يستطيع بمثل هذه السهولة أن يثور على روسيا والصين. ولذلك فإنَّ الدول العربية غير متحرِّرة لا من حكوماتها ولا من بقية حكومات العالم. وهذا وضع مأساوي.
إذًا هل تميلين إلى مراقبة الأحداث عند بعد من موقع المراقب غير المنحاز؟
عدنان: لا فأنا قريبة جدًا من التطوّرات، ومثلما ذكرت سابقًا أنا سعيدة في الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا ولكنني مع ذلك أتأثَّر مباشرة عندما أراقب كلَّ هذه الأزمات. فأنا لا أستطيع ببساطة تخليص نفسي من ذلك وأحيانًا أرغب في التمكّن من ذلك ولكن فجأة تنهال عليّ العناوين والقصص وتكسر لي قلبي. على سبيل المثال مصر التي قامت فيها ثورة رائعة! ولكن الجيش الآن لا يريد التخلي عن السلطة على الإطلاق. ونحن لا نعرف في الواقع من الذي يقف خلف الجيش ومَنْ مِنْ الحكومات الأجنبية لديها يدّ في هذه اللعبة. وإذًا ما الذي لم يفعلة المواطنون حتى الآن؟ لقد قدَّموا حتى الآن أفضل ما لديهم. إنَّ قلبي ينكسر عندما أشاهد ذلك.
أجرت الحوار: فيرا كيرن
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012
ولدت الشاعرة والأديبة والفنَّانة إيتيل عدنان في عام 1925 في بيروت لأب سوري مسلم وأم يونانية مسيحية من مدينة سميرنا. ونتيجة الاستعمار الفرنسي لم يكن بوسعها تعلم اللغة العربية في المدرسة. ودرست فيما بعد الفلسفة في باريس وهارفارد وبيركلي كما أنَّها عملت في التدريس في كاليفورنيا، وتعيش الآن متنقِّلة بين باريس وبيروت ومدينة سوساليتو في ولاية كاليفورنيا.
—————————–
كتاب إيتل عدنان: “محادثات مع روحي“
إضاءة المبهم…تجسيد حيوي للمواطَنة العالمية والتمازج الثقافي
نشرت الفنانة والكاتبة اللبنانية إيتل عدنان في سنة 1980 ديوانها الشعري “يوم القيامة العربي” الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم من أهم الأعمال التي تناولت الحرب الأهلية في لبنان. وقد صدر كتاب آخر للمؤلفة حمل عنوان: “محادثات مع روحي”. كلاوديا كراماتشيك تستعرض لموقع قنطرة هذا الكتاب، الذي يجسد التمازج الثقافي كغيره من كتابات إيتل عدنان ذات الأم اليونانية المسيحية من مدينة إزمير التركية والأب السوري المسلم الضابط في الجيش العثماني.
يَخبَر قارئ هذا الكتاب الشخصي للغاية للمؤلفة والفنانة التشكيلية اللبنانية إيتل عدنان أنها كانت قد بدأت بالتفكير بالشمس وهي طفلة. وكانت إيتل عدنان قد شرعت بكتابة قصيدةٍ عن الشمس سنة 1975 عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية وكانت آنذاك ترى القنابل وتسمعها من شرفة منزلها.
طالت القصيدة وطالت، واشتهرت بعنوانها “يوم القيامة العربي”. وقد عالجت إيتل عدنان فيها ارتياعها مما يفعله الإنسان بالإنسان، واضعةً الشمس كقطبٍ نقيضٍ باعتبارها سيدة الحكمة والحياة، وشاهدةً ومدمِّرةً في آنٍ واحدٍ، لكن أيضًا بصفتها الثابت الوحيد في عالمٍ منفلتٍ من عقاله.
يضع كتاب “محادثات مع روحي” من هذا الجانب فلسفة تساؤلٍ تمعن عن وعي بالتفكير في فضاء منفتح. لذلك نرى القصائد حوارية إلى حدٍّ بعيدٍ، ومتقلِّبة كالغيوم في السماء.
مواطنةٌ عالميةٌ ذاتُ وعيٍ سياسيٍ
أي أنَّ العناصر لعبت على الدوام دورًا في تفكير وكتابات هذه المؤلفة، التي يمكن وصفها بأنَّها التجسيد الحيوي للمواطنة العالمية وللتمازج الثقافي، إذ كانت والدتها يونانيةً مسيحيةً من مدينة إزمير، وكان والدها سوريًا مسلمًا وضابطًا في الجيش العثماني.
ترعرعت هي نفسها مع اللغة العربية واليونانية والفرنسية، وتلقت تعليمها في مدرسة فرنسية وسافرت لدراسة الفلسفة في باريس سنة 1949. لكنها عزفت عن اللغة الفرنسية منذ تصاعُد حرب الاستقلال الجزائرية. ثم عادت في سنة 1972 إلى بيروت، واضطرت بعد سنوات قليلة من اندلاع الحرب إلى مغادرة وطنها ثانية، وجعلتها روايتها “ست ماري روز” التي تناولت جرائم القتل باسم الدين من قبل جميع الأطراف المتحاربة شخصيةً غير مرغوبٍ فيها.
من الملموس إلى اللامرئي
يلمس القارئ في الكتاب الجديد أيضًا وعي المؤلفة السياسي. حيث تكتب في أحد المقاطع: ” ثمة بلدان في أجزاءٍ معينةٍ من العالم موجودةٌ من أجل تفجيرها بجهاز التحكم عن بعد. ويسمى هذا عادةً “بالإرادة الإلهية”. ومقاومة قرارات الله كانت أسهل من مقاومة القوى العظمى الحالية.
بيد أنَّ التركيز الآن ينصب بوضوحٍ على العناصر نفسها: الطقس، والغيوم، والبحر، والبحيرة، والضباب، والليل. وقد كرست إيتل عدنان لها في العقود الأخيرة أربع قصائد كبيرة – يتضمن الكتاب الراهن الثلاث الأجد بينها: “البحر” و “الضباب” و “الليل”. وهي تحلِّق حول ظواهر ملموسةٍ يستطيع المرء إدراكها بالحواس: هدير الأمواج، التألُّق الكروي للمحيط، قوة الريح المعربدة، ورائحة اليود فوق البحر، والطيور في تحليقها الحر، والنباتات على وجه الأرض.
لكنَّها تنطلق من هناك نحو استكشاف عددٍ لا يحصى من الألغاز التي تحيط بحياتنا: أين مياه الأنهار التي اختفت؟ ماذا سيحدث لنهر النيجر عندما يتقدم العالم في السن؟ أين الوقت ومن أين يأتي؟
فلسفة التساؤل
منارة ضد الحرب ولا جدواها: رواية إيتل عدنان “ست ماري روز” التي تناولت جرائم القتل باسم الدين من قبل جميع الأطراف المتحاربة جعلتها شخصيةً غير مرغوبٍ فيها.
يضع “محادثات مع روحي” من هذا الجانب فلسفة تساؤلٍ تمعن عن وعي بالتفكير في فضاء منفتح. لذلك نرى القصائد حوارية إلى حدٍّ بعيدٍ، ومتقلِّبة كالغيوم في السماء. ولا بدَّ لمن يقرأ هذه النصوص أنْ يأخذ ما يكفي من الوقت لنفسه ولها. فهي تتجلى كأقوال مأثورة أو أشعار هايكو يابانية، وكصور ألغاز، وألغاز في صور، لا يمكن فكَّها بالمنطق وحده، ففي نهاية المطاف تسعى إيتل عدنان إلى إدراك الوعي بالضبط في اللحظة التي تقوم الروح بعملها الفوضوي. عالم إيتل عدنان البصري إذن مركَّب، إلا أنَّ لغتها دقيقةٌ وواضحةٌ فهي تحاكي الأساطير اليونانية، لكنها تتحدث أيضًا عن الاحتباس الحراري والرياح الشمسية، وعن كوكبي الزُّهرة والمريخ وعن مسرِّع الجسيمات في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية “سيرن”.
كما تواجه الإرادة الإنسانية في غزو السماء بسلطة الكون القديمة، ورغبتنا في المعرفة اللامتناهية بسلطة المبهم. فقط أولئك الذين يذعنون لها يستطيعون بحسب إيتل عدنان تحرير العقل: من خلال استيعاب أننا جزءٌ من الكون، ولسنا حاكميه.
حول الرغبة في السلام
يتمتع كتاب “محادثات مع روحي” برزانة كبيرة، حيث يشعر القارئ بأهمية كل ما رأته إيتل عدنان وما خبرته في حياتها. وهي تسمي “الموضوع المتكرَّر في التاريخ” بـ “أجساد تعرضت للتعذيب، رُميت كما ترمى القمامة” ويتطلب ذبحها “التكتُّم”.
لكنها في الوقت ذاته لا تزال مسكونةً بالنظرة الطفولية. طفوليةٌ، لأنَّ المؤلفة حافظت على براءة القلب، في معمعان المذبحة. تعلن إيتل عدنان في هذا الكتاب كما في “يوم القيامة العربي” عن رغبتها الثابتة بالسلام وبعالم من شأنه أنْ يعود إلى الإنسانية الحقَّة.
كلاوديا كراماتشيك
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2015 ar.qantara.de
كتاب إيتل عدنان: “محادثات مع روحي”، نقلته عن الإنجليزية إلى الألمانية كلاوديا روشكوفسكي، صدر عن دار نشر ناوتيلوس 2015، 123 صفحة. الرقم الدولي المعياري للكتاب ISBN 978-3-89401-815-3.
———————
=====================