سماح إدريس لم يتلمّس طريقه إلى الثورات/ عمار ديوب
بعد أن أَسّست الثورات العربية، منذ 2011، لتاريخٍ جديد للعرب، أصبح تأييدها، إضافة إلى نقدها ونقضها أيضاً، المقياس الذي يتم به تقييم التيارات الفكرية والسياسية. لم يعد ممكناً تقييم تلك التيارات انطلاقاً من أيديولوجياتها أو أهدافها؛ حيث دخلت الشعوب العربية، وبقوة شديدة، معترك التاريخ والمشاركة السياسية، راغبةً بإحداث تغييرٍ عميقٍ في المجتمعات العربية أولاً، وهذا سيقتضي، بالضرورة، صداماً مع الكيان الصهيوني في المرحلة التالية من إسقاط الأنظمة.
فَشِلَ الكاتب والناشر اللبناني، سماح إدريس، في القبض على اللحظة الثورية التأسيسية. لقد ظلَّ الراحل على آرائه المؤيدة لقضية فلسطين، وكان بذلك فلسطينياً لا يُمارى، وهو اللبناني المولد؛ عمل كثيراً من أجل مقاطعة كل أشكال تطبيع، وأسس لحملة مقاطعة الكيان الصهيوني، ورفض كل ما يتعلق باتفاقيات أوسلو وما تلاها، أو أي تفريطٍ لصالح الكيان الصهيوني. ولهذا تمسّك بالميثاق الفلسطيني لعام 1964. تُرفع للرجل القبعات في هذا كله.
مشكلتنا مع سماح أنه لا يطأ أرض الثورات أبداً؛ حتى الانتفاضة اللبنانية لم “تحرّك” عنده مشاعر وطنية، وتتجلّى بمواقف ومشاركات؛ لقد تنحَّى جانباً. لم يعلن موقفاً جاداً. منعه “تحالفه” مع حزب الله، باعتبار الأخير “يقاوم” إسرائيل، من رؤية الجديد في التاريخ، سيما أن الانتفاضة اللبنانية في وجهها الأساسي ضد هذا الحزب بالذات. فهو الحزب الذي يُثبت أقدام النظام الطائفي في لبنان. أيضاً، لم يعلن سماح موقفاً رافضاً تدخل الحزب في سورية للمساعدة في قمع الشعب السوري، وإلى جانب النظام المستبد. هذا لا يليق بمثقفٍ قومي عربي، رفعَ لواء فلسطين بالأشكال كافة، ومن دون توقفٍ. لا يتوافق تأييده المسألة الفلسطينية، واعتبار “فلسطين حاضنة العرب” وليس العكس، مع عدم انشغاله بقضايا الثورات العربية، حيث يقول: أنزلت معظم تنظيمات “الربيع العربي” القضية الفلسطينية عن “عرش الأولوية” لمصلحة مقاومة الاستبداد الداخلي” لا يلمس صاحبنا الجديد، كما ذكرت؛ فالثورات انطلقت بسبب التأزّم الشديد في الوضع العربي، وانتقلت من بلدٍ عربي إلى آخر. ألم يكن هذا يستدعي تعاطفه “القومي”. يؤكّد ذلك الهشيم، من زاوية ما، العلاقة القومية بين الدول العربية، وكذلك قضية فلسطين، وإن لم تُطرح بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ.
تقود الفكرة السابقة إلى البحث، ولماذا أشاحت الثورات العربية عيونها عن القضية القومية “عرش الأولوية”، أليس الأمر متعلقاً بالتشّوه الكبير الذي فعلته الأنظمة القومية بالشعوب وبقضية فلسطين، وبالتالي ضرورة تغيير الدواخل العربية لتهيئة الشروط الوطنية والقومية لمناهضة الكيان الصهيوني. الغريب هنا أن سماح إدريس يعارض فكرة جديدة، أصبحت تتبنّاها أكثرية تيارات الفكر العربي، ونستثني جماعة القومجية والممانعجية، وتقول: لا يمكن إحداث أيِّ تغييرٍ في القضة الفلسطينية من دون الانتقال الديمقراطي العربي، وفي الدول العربية كافة. إن تغيير المعادلات العربية وضد إسرائيل متعلق بما ذكرنا.
تخلي سماح عن الانتفاضة اللبنانية لا يعوّضه مطلقاً الانشغال السابق واللاحق بالموضوع الفلسطيني. شخصيات وازنة في الحياة الثقافية اللبنانية لم تعِ ضرورة الانخراط في الشأن اللبناني، فكيف ستنشغل بهموم الثورات العربية! غابت الأحزاب اليسارية عن قيادة الثورات العربية، وهي من يتحمل ذلك، وليس الشعوب. وعدم طرح عرش الأولوية يجب ألا يقود إلى الصمت أو التشكيك بها أو تأييد مقاومة طائفية، تعلن ولاءها لإيران؛ وقد كشفت تلك المسائل بشكل خطير “تهافت” علاقة المثقف التقدمي بالشعوب. المقصد هنا إن الشعوب تنتفض، وتحتج، وتتظاهر وفقاً لأوضاعها هي، وبطرائقها هي، وليس بالضرورة أن تخضع لمقاييس الأحزاب اليسارية أو القومية أو الإسلامية والتيارات الليبرالية، وكذلك ليس بالضرورة أن تَرفع راية فلسطين في كل احتجاج أو ثورة. التعقيد الذي أصبحت عليه القضية الفلسطينية والقومية العربية وأوضاع الشعوب يفترض أن يدفع المثقف إلى كثيرٍ من الحساسية تجاه مطالبات الشعوب، وتأييدها، وتصويبها، ونقدها، بل ونقضها كذلك. ما قلته شيء، والإشاحة عنها، والصمت حيالها شيء آخر. لا أحد يقرأ ما في الأفكار أو الجوف، كأنّ نقول إنّه كان مؤيداً للثورات، وصمت عن ذلك “كرمى” لعيون عرش الأولوية. هذا ليس موقفا، ولا يُعتدّ به، حينما يتحرّك التاريخ وترتكب المجازر، حيث لأوّل مرة، تهزّ الشعوب العربية أسس الأنظمة، وتسقط بعضها.
لم يعد للفكر القومي أو اليساري بعامة قيمة تذكر خارج أطر النظر بأحوال الشعوب؛ والانطلاق من تأييد قضاياها المحلية بالترابط مع قضاياها القومية وقضية فلسطين بخاصة؛ نعم تُنتقد الثورات لغياب المسألة القومية عن أولوياتها، ولكن لا تشيْطن أو يُجعَل منها مؤامرة لصالح الخارج، وبالضد من فلسطين مثلاً. ضرورة الفكر القومي ضمن عالم الأفكار المشوشة عربياً وبشكلٍ كبير يستدعي من هذا الفكر ذاته مغادرة ذاته، أو تضمينها أفكاراً جديدة، تضع قضايا الشعوب في صميمها؛ فمن سيُعيد فلسطين، أو سيُحدث التغيير الديمقراطي في المجتمعات العربية، ومن يمنع ذلك كله فيما بعد 2011؟
تميّز الراحل بالدفاع عن الفكر العلماني، وحقوق المرأة، وانتَقد حزب الله لطائفيته، وحاول جاهداً إيجاد رؤى وأفكار “تقدّمية”، ولكنه فشل في اختبار الثورات العربية ومنها الانتفاضة اللبنانية. سقطت الأيديولوجية القومية واليسارية السائدتان في معركة الشعوب ضد أنظمتها؛ حيث أيّد أغلبية أعلامها، وحتى معارضوها من الأيديولوجيات ذاتها، النظام السوري أو حزب الله، وشكّكت هذه الأيديولوجيات في الثورات التي انشغلت بمحلياتها المجتمعية “حقوق العمل، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتصالح مع تيارات الإسلام السياسي”. ولا يعني هذا السقوط انتصار رؤيتها، وقد أخفقت الثورات، حيث يرى بعض أدعيائها أنّهم كانوا على حق! لا، إخفاق الثورات في مرحلتها الحالية لا يعني انغلاق أفق التاريخ وتأبّده تحت الأنظمة المستبدّة الحاكمة، ولا يعني أن الأخيرة تمتلك أيّة مشاريع للإصلاح، توهمتها الأيديولوجيات السابقة بديلا عن الثورات. التأزم المجتمعي الشديد، وهو المغيب الأكبر عن أعين أسياد الأيدولوجيات السابقة، هو الذي أطلق الثورات، وسيُعيد إطلاقه.
.. لترقد بسلامٍ، أيها المناضل من أجل فلسطين، وضد الكيان الصهيوني وكل أشكال التطبيع. الشعوب العربية وحدها من يستطيع تحرير فلسطين، والمدخل نحو ذلك إحداث التغيير المجتمعي متعدّد الأوجه في الدواخل العربية، وبدءاً بالتحوّل الديمقراطي، ومتابعة رفض كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني.
العربي الجديد