سوريا… استعادة لـ”روح القدس النظام”/ سامي داوود
الشرعنة البدائية
تعتّقت أشكال العبودية أكثر في #سوريا بعد 2011. وفقاً لأعراف رسخها التاريخ السوري الحديث وإرثها العثماني: تبخيسٌ لكرامة الناس، تكبيلهم في مجموعات عقائدية متنابذة، إذلالهم بالخبز والأمن. وتعويلاً على ما سلف، انبثقت الرغبة في الخلاص منه. غير أن إنتاج النظام الجديد ليس في متناول الرغبات. إنه حقٌ حصري للإرادة المضاءة بالوعي، حيث تكون الوجهة التي تسعى إليها حركات التحرر، مرسومة في حدها الأدنى، بفضيلة الخير العام، هذه التي وسعنا تجلياتها في مفاهيم سياسية وحقوقية، كالمواطنة ودولة القانون والديموقراطية بمختلف تعيناتها التي تحرص على الحق في التعاهد المتبادل بالاحترام.
إن تعاقب الشيء لا يعني تغييره، بل قد يؤدي إلى جمع الأشياء المتنافرة، أو إلى معايشة اللحظات المتفارقة كأنها تماهيات؛ فتجري الأحداث دون حوامل تجعلها معابر إلى وضعيات تاريخية مغايرة. أو تكييف المستقبل ليستلهم صيغته من فكرة جامدة، وبالتالي خضوع مستمر للتصور السلفي، الذي تؤدي بكل محاولة تغيير إلى إعادة إنتاج وترسيخ للنظام القديم. لدى آيرك هوبزباوم فكرة قريبة مما يجري في سوريا. حينما يستخدم عبارة “الشرعنة البدائية” التي تضفي أسماء جديدة لم تنتجها التجربة التاريخية للمجتمعات التقليدية، على مؤسساتها التي تظهر في سياق تغييرات جذرية، تؤدي في المحصلة إلى مجرد إعادة تهيئة القديم بأسمال مقصوصة من الحداثة السياسية التي ليس في وسع المجتمعات المحلية استيعابها، فيكون الحزب هو الاسم الحديث للقبيلة، والدولة مجرد تنظيم إداري لسير العلاقات بين العشائر المهيمنة والعشائر الخاضعة.
كان نظام البعث عدواً مكشوفاً، وبالتالي شيئاً خارجياً بالنسبة إلى كل جماعة أهلية. وبتحول سلطته إلى القوى المحلية، معطوفة على إكراهات الحرب المدمرة للمنظومة القيمية، توقفت المبادلة الرمزية بين البعث وخصومه، على مجرد التناوب في إتيان الفعل ذاته. استئنافا لإرثٍ رسّخه نظام البعث في خصومه، ليجتمع النظام ومناوئوه في الجسم ذاته. لتظهر داخل كل جماعة ثلة فاسدة. وبحكم مواءمتها لسياسة القتل وغياب السبل الأخرى للمقاومة، هيمنت هذه الفئة على النظام الاجتماعي.
مرض الخطاب
وهكذا، بدأت لعبة الخطاب في تضليل الخطاب، الذي فاضت مناصاته المتلفزة والرقمية، بتعميم الهوس بعبارات راديكالية كالثورة وإنتاج النظام الجديد. هذه التعابير التي وجدها آيرك هوبزباوم تفتقر إلى المعطيات التاريخية المعللة لعملية تحولها إلى مرادفتين لـ”أفضل” و”أكثر مرغوبية”. ناهيك عن الصبيانية الثقافية المأخوذة بـ”صرعة المصطلحات” ومحاولة مجاراة المفاهيم العلمية لتعليل النشاط الإنساني بأفكار تبدو وكأنها تشتغل كالقوانين الفيزيائية، وتمنح الطمأنينة التفسيرية ـ كتفاسير إبن سيرين للأحلام ـ لخطاب سياسي وإعلامي سريع العطب، متقلب الدلالة، ينشر صباحاً ما ينكره ليلاً حسب المنصة التي يطل منها.
ولشدة الرعونة في توظيف المفاهيم كيفما اتفق، غفل الخطاب الشعاراتي السياسي والإعلامي، عن التمايز الجوهري بين سلوك المادة والأفعال البشرية. وتناسى أنّ الناس لا يسقطون فجأة من فجوات في الزمن. فالمجتمعات رواسب تاريخية، معقدة البنى، ولن يكون في مقدورها أن تغدوَ شيئاً آخر، ما لم تكتنز بداخلها ممكنات مآلاتها الخاصة. فالثقافة الشعبية هي التي تشتغل كسببٍ لربط الناس ببعضهم، وتنتج العلاقات الاجتماعية بأدواتها غير المُستلّة من العقائد السياسية، وبالتالي تضفي المعقولية على طبيعة وخصوصية تفاعل كل مجموعة أهلية مع الأفكار التي تقترحها الأيديولوجيات عليهم. والأهم هو هذه النقطة: هنا سوريا يا سادة، حيث يُحرّمُ على الفكر دخول الحياة العامة، وينتسبُ الواقع المعاش إلى الأشكال المحلية من حسن الجوار والحدود الضيقة التي فتحتها بعض المجموعات الأهلية على غيرها. فالسوريون يجهلون بعضهم، وقد عاشوا معاً كأجانب في سكنٍ مشترك، لكل منهم تاريخه الذي لا يرغب فيه الآخر.
لذلك يستحيل أن يقود الفكر فعلا اجتماعياً إن لم يكن متوافقاً مع ما هو من لدنه الخاص. فالمجموعات السياسية المنطوية على زعيمها المقدس، والموجودة فقط لأجله ومن خلاله، لن يكون في مقدورها أبداً أن تتحرر من عبوديتها الخاصة، وبالتالي، لن تقود حراكاً متعدد المشارب الثقافية والاجتماعية، صوب حريةٍ تُترجمها كل مجموعة بما يتعارض مع مفهوم الحرية لدى مجموعةٍ أخرى.
وعلى نحوٍ مفارق، قمعت الحماسة الثورية الفكر، وأقصته من دوره الإرشادي، ليكون الفكرُ عبداً للعنف الاجتماعي الذي ربط قيم الحرية بدماء الضحايا، فباتت القراءة ملوثة بالعواطف الجياشة التي يستسيغها أصحابُ البنادق، ويفرضون استبدادهم باسم تلك الدماء. هناك حيث يكون الشهداء، تصبح الذرائع الثورية على طاولة القتلة. هكذا بدأ الانحدار إلى دائرة العجز، حيث باتت قيمنا متعارضة، ورغباتنا تقودنا إلى الجبهة التي يريدها لنا، السياسي الميلشيوي والمذهبي الميلشيوي. ليحظى نظام البعث السوري بأفضل الأعداء، الذين يمكنهم أن يكونوا السبب في الدفع بالناس، قبل المجتمع الدولي، إلى القبول ببقاء هذه المقتلة تحت حكم البعث. بعد أن بات عدو النظام ذريعته التي بها سيبقى.
أخلاقياً، نحن الذين نحاول بالكتابة أن ننتج للأحداث رؤيتها ونستشرف احتمالاتها، نتحمل جانباً من المسؤولية في إنتاج الكيانات العقائدية ومنحها ترخيصاً بالعبور. العبور من خلال صمتنا، وخطابنا الذي ظلّ كسيراً أمام حشود الفايسبوك وأصحاب المنافع المالية والاجتماعية من اقتصاد الحرب السورية. منظمات الـ NGO ومنظمات المرأة التي اختزلت مكانة المرأة إلى كوتا ظاهرية في المؤسسات الثورية الطارئة. وبكل تأكيد، وسائل الإعلام التي كانت الذراع الأسوأ لحملة المجموعات الراديكالية على تقاسم الجغرافية الحربية فيما بينها. لم نعثر في خضم هذه الفوضى، على منفذ لصوت العقل والقيم. ليكون ذلك مدخلاً، وربما مشاركة في جعل ميلشيات سياسية معادية للحرية، ترفع بيرق الحرية وتنصبه فوق مقبرة كل من عارضها.
وذلك في ظل غياب أية مرجعية ثقافية تمنح الأحداث أفكاراً لتوجهاتها المحتملة. كانت المطالبة بمفهمة الأحداث أو حتى بفهمها، ضرباً من الانتحار. فإن ارتفع صوتٌ لم تؤدلجه مؤسسات الإعلام التي كانت ـ وماتزال ـ تسوق الأحداث إلى دمارها الذاتي، وهو ما حدث بالفعل في أقل من عقد من الاحتراب الهمجي. لتحول ذاك الصوت إلى عدو داخلي، أو مُندس. كانت الرؤية محرّمة، وعلى الجميع حذو الإرشاد العسكري بالتخندق والتفاني كرمى لشوارب القائد. فتمادى الإرهاب الفكري لينتشل العقل من اللغة، وباتت كل قضية حق، خاسرةً بممثليها غير الشرعيين، سواء أولئك الذين هم على الأرض أو من هم في فنادق دول الجوار.
هذا جانب من مرض الخطاب الإعلامي والثقافي الذي قنّن عملية التلقي لتكون تلقياً دون فهم. ابتهالاً بالثرثرة وابتهالاً بثقافة الظهور حتى ولو على حساب شعوب تُنتهك كرامتها بأقصى أساليب الإذلال والإجرام.
متلازمة الحرب السورية
أفرزت الحرب السورية كإحدى تمثلات عٌصابها الخاص أو كمتلازمة لحربنا المركبة من حروب ـ أهلية، وإقليمية، ودولية ـ شيئاً أشبه بالأديان البدائية المؤسسة على فكرة الخوف فقط، والتي يمكنني قياسها بعبارةٍ ظهرت ـ من وجهة نظري ـ على نحو عرضي في كتاب “نقد العقل السياسي” لريجيس دوبريه، الذي حاول بنينة الفعل السياسي بالتجسد العضوي للمجتمع الخاضع لضوابط قسرية، تفرضها أيديولوجيا الحزب القائد، في صيغة تجعل من أجهزة السياسة تشتغل كأنها ديانة مضمحلة . وتغدو روح التنظيم بديلا لاهوتيا لديانة طارئة، موائمة للحظة الحرب، وتؤخذ بالنسبة إلى المجموعات التي لم تستطع الهروب من سوريا، كأنها ” الروح القدس” التي يتوقف على بقائها خلاص الناس. غير أن الحرب لا تزدهر، بل تعود بالناس إلى حالاتهم الأكثر بدائية.
وهكذا، ظهرت مختلف أدوات اللطم الثقافية، المتقلبة وفقاً لمؤشرات المنافع المتاحة، وبالتالي المعززة لما يمكن أن تؤول إليه العسكرة من هندسة اجتماعية، تجعل الناس سعداء بهزائمهم التي يزفونها باستمرار كانتصارات. فأفرزت في سوريا مسخاً سياسياً عالي الكثافة، والذي تجسده هذه العبارة: النظام قدس سرّه، أهم من الناس. فلا ضير من أن يفنى البشر ويبقى النظام (6.7 ملايين لاجئ. أكثر من 500 ألف قتيل. 80% تحت خط الفقر. ارتكاب جميع أنواع جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية. كلها مؤشرات ترصدها الأمم المتحدة لرسم سوريا بالبيانات). إنها استعارة مؤلفة بالأرقام، تجعل ما قاله لينين حول الإنسان الخاطئ والتاريخ البريء ، نشاطاً فاعلاً في حياة السوريين. الناس مجرد أخطاء أمام النظام الذي عليه أن يستمر حتى لو بقي فارغاً من البشر.
لم تتأخر الأقاليم السورية الثلاثة الراهنة، في استحضار روح نظام البعث إلى سياساتها العملية. المعارضة ممنوعة، والديموقراطية بضاعة إمبريالية. لكن لا ضير من أن تكون هناك مؤسسات لكل شيء، طالما أنها جميعاً تعمل لتلميع شوارب القائد. أتذكر فقرة من رواية “صاحب الفخامة الديناصور” للبرتغالي خوزيه كاردوسو بيريس، واستدمجها هنا كالتالي: شارع سيادة الديناصور، ملعب الديناصور، علم المرأة لفخامة الديناصور، مخبز القائد الديناصور، نقابة محامي الديناصور، شبيبة ثورة القائد الديناصور، نقابة فناني الديناصور، استديو الديناصور لالتقاط الصور التذكارية مع صور فخامته، فجسده متوفر أينما توجهت. جسد القائد هو الفضاء العام.
يتضمن التاريخ الأوربي على إرث مشابه، تكفلت الثقافة الأوربية ممثلة بأسماء مدرسة فرانكفورت وغيرها، في الاعتراف بأن هتلر وموسوليني، والتعويم الثقافي لأعمال ستالين وثورة ماو تسي تونغ، كانت تجسيداً لمرض العقل الأوربي في مرحلة ما بعد التنوير والعصر الحديث. وأن مجتمعاتهم تتحمل المسؤولية الأخلاقية عما أفرزته من أيديولوجيات مسوغة لجرائم الأنظمة السياسية. بينما ظهر في سوريا مسعى نقيض، حيث تلقت المعارضة راية النظام، كما يحدث في سباق الجري بالتناوب Relay Race، العدّاءُ مُسلماً الراية لعضوٍ آخر في حلبة الجري، لإتمام مهمة الحفظ على “روح قدس النظام” . هذا التبجيل المفرط لصراطية النظام المهيمن، الذي لا يربطه بالناس سوى الدم. بات مفارقاً لنفسه، إذ يعادي ما يدعي أنه يسعى إليه.
واقع الأمر، أنه ليس لدى نظام البعث في سوريا معارضات، بل وإنما مجرد خصوم، يشاركونه سماته، ويفاوضونه على تقاسم الأدوار في لعبة القمع العام في سوريا.
توبيخ الحضارة
حضور الثقافة في العالم الناطق بالعربية، ليس حتى حجر عثرة. فهي هشة لدرجة أنها عاجزة حتى عن أن تكون مؤشراً على الانحلال القيمي. وتشتغل كأنها جزء من جسم النظام السياسي وهي تعارضه. فالمستوى النقدي الذي تستهدفه هذه الثقافة، يتوقف في الحدود التي يستفيد منها النظام السياسي، إذ يتحول نقد النظام إلى منفعة للنظام، بتحويل الانتباه فقط إلى الفقرات الفاقعة في الذهنية السياسية، كالتركيز على الحكم السلالي في الأنظمة الجمهورية، وتجاهل الثقافات الشعبية المعززة للخضوع الجماعي للفرد/القائد. أو تتفيه الفكرة السياسية إلى حدود النظام الحاكم، ليعتقد الناس أن النظام والسياسة متطابقان. مع السذاجة المفرطة في تنابذ العلاقة بين الأخلاقي والسياسي. إذ لطالما تجنبت الثقافة البحث في الأخلاق التي ترفد السياسة بفضائلها ورذائلها أيضاً. كان أفلاطون يرى في السياسة بأنها علمٌ في الخير العام. ومن جوهر السياسة أن تجعل المنافع المتعارضة ـ هذا فعل دبلوماسي طبعاً ـ قابلة للتوافق ضمن حدود الممكن. لذلك يكون التفاوض فنّاً للممكن الاتفاق عليه، ويكون ذلك بجعل منافعنا الخاصة منفتحة قيمياً على احترام حق الآخرين بالانتفاع بما ننتفع به نحن أيضاً في المجال العام.
لن يتغير شيء دون الاعتراف بهذه الهزيمة. الاعتراف بهزيمة السياسي أمام السياسة، وهزيمة الثقافي أمام الثقافة. علينا الاعتراف بأن المجتمعات السورية المتنافرة، قد تشبعّت بالكراهية، وشحذت فيها الحرب الخوف من قيمها الخاصة، قبل الخوف من مشاركة الوجود السياسي مع المجموعات المختلفة عنها ثقافياً.
لا يجانب فرويد الصواب، حينما يقول إن الحرب تحررنا من وهم الاعتقاد بأن “الزمالة في الحضارة” لن تجعل حروبنا أقل همجية. بل ستؤدي، كما آلت إليه دائماً، بالمجتمعات التي لحفتها الحرب كمصير لا مهرب منه، إلى الارتخاء في الروابط الأخلاقية بين المجموعات البشرية، والتي ستؤثر في المحصلة كما يقول فرويد في:
” أخلاقيات الفرد. وذلك لأن ضميرنا في أصله هو “رُعب الجماعة”، وحينما لا يكون لدى الجماعة توبيخ توجهه، حينها يرتكب الناس أفعال القسوة والتدليس والوحشية… التي اعتقد المرء أنها مستحيلة.
وأضيف… يا سادة
سوريا هناك، كزرافة مصبوغة بألوان الكوماندوس المموهة، ليست نحيلة بما يكفي لتخطئها الطلقات.
النهار العربي