أبحاث

عن مثقفين فلسطينيين يستكثرون الحرية على سوريا…/ ماجد كيالي

عن أي سوريا يدافع أصحاب التنكر لمعاناة الشعب السوري؟ وهل سوريا مجرد قطعة أرض أو مجرد ساحة أو موقع جغرافي، أم أن سوريا هي شعبها، ومن دونه تكف عن كونها سوريا؟

الفكرة، أو الفرضية، الأساسية أن الضحايا يتعاطفون مع ضحايا مثلهم، وأن ذلك يفترض، أو يجب، ألا يكون مشروطاً، لأنه بحد ذاته قيمة إنسانية عليا، وهو أمر عابر للجغرافيا والأعراق والثقافات، ودلالة على تطور أخلاقي. وضمن ذلك فإن حقك في الحرية والعدالة والكرامة مثل حق غيرك، ولا يلغيه، أو يقايضه، ولا لأي سبب، وهذا ينطبق على كل الشعوب، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالشعبين الفلسطيني والسوري.

المعضلة عند بعض الفلسطينيين، مثقفين وقادة سياسيين، أنهم لا يتصرفون وفقاً لتلك الإدراكات، مع ثورات “الربيع العربي”، لا سيما مع القضية السورية (برغم كل الانتكاسات والنواقص)، في دلالة على التشوهات أو الانزياحات التي تعرضت لها ثقافتهم السياسية.

قد تجوز إحالة ذلك إلى تكلّس وترهّا العمل الوطني الفلسطيني (المنظمة والسلطة والفصائل)، ببناه ومفاهيمه وعلاقاته، مع مرور 56 عاماً على قيامه، بالتعقيدات والتحولات التي شهدها أو أخضع لها، وضمنها التحول إلى سلطة في جزء من أرض لجزء من الشعب، مع جزء من الحقوق والصلاحيات.

يأتي ضمن التشوهات والانزياحات البقاء عند مربع مفاهيم ثبت بطلانها، أو زيفها، أو هشاشتها، في الواقع، وفي حيز التجربة، كمثل اعتبار فلسطين كقضية مركزية للأمة العربية، بل وللإسلامية، من دون أن يوضح أحد كيف يترجم ذلك، في واقع لا يستطيع أفراد تلك الأمة التعبير عن ذاتهم أصلاً، في ظل الأنظمة السائدة، ولا التحرك من أجل أبسط مطالبهم في الحق في الرأي والعيش الكريم وتأمين فرص العمل ووضع حد للفساد.

ثمة بعد أخر لتلك المسألة، أيضاً، نجم عنه إنكار بعض الفلسطينيين (مثقفين وسياسيين) ثورات الربيع العربي (بخاصة في سوريا) باعتبارها مزاحماً لقضيتهم، أو كأنها احتلت مكانها، أو صرفت الأنظار عنها، وهو ادّعاء غير صحيح البتّة، لأن القضية الفلسطينية، أو حركة التحرر الفلسطينية، لم تكن بخير قبل ذلك. والفصائل لم تكن على أبواب تل أبيب، وجاء الربيع العربي فأوقفها! وكذلك الجيش السوري لم يكن على أبواب الجولان!

أن الضحايا يتعاطفون مع ضحايا مثلهم، وأن ذلك يفترض، أو يجب، ألا يكون مشروطاً، لأنه بحد ذاته قيمة إنسانية عليا، وهو أمر عابر للجغرافيا والأعراق والثقافات، ودلالة على تطور أخلاقي.

وفي الواقع، فإن هؤلاء يتناسون كل ما فعله ذلك النظام، من تضييعه الجولان (1967)، إلى دأبه على إضعاف حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وفرض الوصاية عليها، حتى إن ياسر عرفات كان شرّع مقولة “القرار الفلسطيني المستقل” في وجه النظام السوري أصلاً. وهذا يذكر بلائحة طويلة من الأحداث من التدخل العسكري السوري في لبنان (1976)، ومجزرة تل الزعتر، ثم حروب أمل على المخيمات في بيروت (أواسط الثمانينات)، وصولاً إلى دعم “فتح الإسلام” وتدمير مخيم نهر البارد في طرابلس، شمال لبنان (2007)، وصولاً إلى تدمير معظم مخيم اليرموك بعد تشريد سكانه؛ هذا من دون أن ننسى أن آلاف الفلسطينيين اختبروا معتقلات هذا النظام منذ قيامه قبل نصف قرن (وضمنهم قيادات من فتح والجبهة الشعبية)، وقد أطلق اسم “فرع فلسطين” على أبشع فروع مخابراته.

بيد أن هذا الأمر (مركزية القضية) تفاقم أكثر مع اعتبار البعض (لا سيما في حماس) أن فلسطين أرض مقدسة، دوناً من كل أرض في الكرة الأرضية، علماً أنه يمكن التمييز هنا أن ثمة أماكن مقدسة للمسلمين، أو للمسيحيين، أو لليهود، في هذه المنطقة أو تلك، لكن ثمة مئات ملايين، أو مليارات، من البشر يعتبرون أماكن أخرى مقدسة لهم بالمقدار ذاته في آسيا وأفريقيا مثلاً. وقد يمكن أن نفهم هنا، أيضاً، توظيف الدين في الصراع السياسي، وهو أمر مشروع، مثل توظيف أية أيديولوجية أخرى (دينية أو علمانية)، لكن فكرة وكأن ثمة حرباً دينية، أو أن فلسطين قضية إسلامية، فهي تحمل شططاً كبيراً، وغير مجدٍ، لا سيما مع مضي 73 عاماً على إقامة إسرائيل، و54 عاماً على احتلال القدس (والمسجد الأقصى)، في حين أن العالم الإسلامي لا يترجم ذلك، ويستمر في العيش، ولا يصدر سوى البيانات، من أندونيسيا إلى الباكستان إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق.

المشكلة، أيضاً، عند بعض الفلسطينيين (مثقفين وسياسيين) ليس إنكار حق المجتمعات العربية في الحرية والكرامة والعدالة والمواطنة والديموقراطية، بالثورة لتغيير واقعها، أو لكسر الجوزة الصلبة التي تمثلها أنظمة الاستبداد والفساد، كونها السبب الأساسي لاستعصاء التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية، وبخاصة في سوريا، بل إنهم تنكروا أيضاً لحقوق تلك المجتمعات، وهي الحقوق التي يطلبونها لأنفسهم، والأقسى والأكثر مرارة التنكر للمآسي والأهوال والمظالم التي تتعرض لها تلك المجتمعات، والتي تعرض لها جزء من شعبهم (من الفلسطينيين السوريين). 

مثلا، بعض هؤلاء يتحدث عن الجيش العربي السوري وبطولاته، لكنه ينسى، في غمرة حماسته، أن “بطولات” ذاك الجيش كانت ضد شعبه، وأن التوازن الاستراتيجي الذي ظل نظام الأسد يجوّع شعبه من أجله، وينهب موارده، لم يكن ضد إسرائيل، التي ظل يعدها بالرد في المكان والزمان المناسبين، في حين رد على الشعب ببراميل متفجرة، وبقصف متواصل، وبتشريد الملايين، بدل أن يذهب للحوار أو الديبلوماسية، أو للتغيير السياسي الذاتي. ومشكلة هؤلاء، أيضاً، انهم يتخيلون دوراً لإيران ولا يرون سياساتها التي أدت إلى تصدّع بلدان المشرق العربي على أسس طائفية، والتي خدمت إسرائيل، أكثر مما أضرتها، وكأنهم لا يرون أن الأذرع الميلشياوية لإيران باتت تهيمن في العراق وسوريا ولبنان، وباتت الحامي لنظام الطائفية والفساد والاستبداد.

طبعاً، ثمة يساريون بين هؤلاء يرون أن روسيا تقوم بدور تقدمي في مواجهة الإمبريالية بدفاعها عن نظام الأسد، كأنهم إزاء روسيا لينين، لا روسيا بوتين. هذا ما تنتج عنه خلطة غير مفهومة، أو غير منطقية، إطلاقاً، إذ ثمة شيوعي فلسطيني في إسرائيل، مثلاً، ضد الكفاح المسلح منذ بداياته، ومن خلفية علمانية، ويفترض أنه يناضل من أجل العدالة والديموقراطية، لكنه مع نظام الأسد، و”حزب الله”، وإيران، ومع العيش تحت علم إسرائيل؟!

اللافت أن هؤلاء من مثقفين، أو سياسيين، قوميين أو يساريين أو وطنيين يدعون أنهم في موقفهم هذا لا يحابون النظام، وإنما لا يرون أن ثمة بديلاً له، كأن الواقع السيئ أمر يفترض التمسك به. أيضاً الحجة على هكذا منطق تكمن في الواقع الفلسطيني ذاته، فإذا كانت السلطة في الضفة (فتح) أو غزة (حماس)، أو القيادات الفلسطينية لا تعجبنا، فهل هذا يقلل من مشروعية الكفاح الفلسطيني، أو من عدالة قضية فلسطين؟ ثم هل كانت التجربة الفلسطينية في الأردن ولبنان والضفة وغزة منزهة عن الأخطاء والمصائب؟

القصد أن ثمة متّسعاً، أو إمكانية، للتمييز بين المعارضة (موقع الشك أو النقد) وبين الشعب، وهذا التمييز من مقتضيات عدم الانجرار وراء النظام في إصراره على المماهاة بين سوريا وبينه، أو بين الدولة وبينه، وكأن تلك هي سوريا الأسد، فعن أي سوريا يدافع أصحاب التنكر لمعاناة الشعب السوري؟ وهل سوريا مجرد قطعة أرض أو مجرد ساحة أو موقع جغرافي، أم أن سوريا هي شعبها، ومن دونه تكف عن كونها سوريا؟

من تجربتي المباشرة في حوار مع فلسطينيين في 48 وفي الضفة، أعتقد أن بعضاً من المشكلة يكمن في هشاشة التجربة السياسية، وانتهازية الأحزاب والفصائل، كما يكمن، بشكل خاص، في حقيقة أن هؤلاء، في عزلتهم، لا يعرفون العالم العربي، ولا الأنظمة القائمة فيه، وأنهم يرون أن إسرائيل، الاستعمارية الاستيطانية العنصرية والعدوانية، أكثر ما أنتجته البشرية من مساوئ، أو مظالم.

على ذلك من حق هؤلاء أن يروا ما يرونه، بيد أن ذلك يفترض أن يروا معاناة غيرهم، فلا يمكن أن تغطي جريمة على أخرى، وحق أحدهم بالحياة لا يلغي حق غيره، وإذا طالب شعب بالحرية والعدالة والكرامة، فعليه ألا يستكثرها على الآخرين…

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى