في ما يخص الوطنية/ نجيب نصير
تعج الصحف والمجلات هذه الأيام، الورقي منها والافتراضي، بمقالات ودراسات وخواطر حول “الوطنية” في هذا العالم العربي الثالثي، ما يذكرنا بهمروجة الكتابة حول “الهوية”، و”الهويات”، و”الهويات المتداخلة” و”الهويات الصغرى والكبرى”… إلخ، حتى ليبدو موضوع “الوطنية”، هذا، استطرادًا إنشائيًا للهمروجة أعلاه، خصوصًا: من خلال ترسيمها، على شكل تهويم نظري يقارب المنتجات الأدبية من حيث فعاليتها التربوية المستقبلية، على ما عبر أحدهم عن حاجة حديث “الوطنية” إلى عقول كبيرة تحكي فيه، وإلى مؤسسات ثقافية تدعمه وتعممه… إلخ من هذه الاشتراطات التي تجعل مفهوم الوطنية نفسه خارج التطبيق والممارسة، معلقًا في نقطة وسطى إشكالية، بين المفهوم الاستعماري (الكولونيالي) للوطنية، وبين الممارسة اليومية “للمواطن” المأمول توفره، مع إنهاء التأثير الكولونيالي بهمة “الوطنيين”، وهذا ما يحيل المسألة برمتها، إلى بقعة التفكير وفقط التفكير، في رؤية أنموذج “وطنية” على الورق، من دون البحث عن التطبيقات العملية لها، التي تنقل “الوطنية” من حيّز المأمول إلى حيّز التواجد. وهذا ما يحيلنا أيضًا إلى رؤية نمط التخلف الواقعين فيه، وليس كميته ونوعه فقط، وذلك من خلال تلازم مقومات “الوطنية” العملية مع إنجازات العقل البشري لهذا العصر.
والوطنية مصطلح حديث وحداثي، وجد أثناء احتدام عصر التنوير العالمي (وليس الأوروبي فقط)، وظهور عصر المجتمعات الحديثة التي تطورت إلى قوميات (ما بعد وستفاليا)، هذه المجتمعات التي تأسست على تحقيق مصالح الأفراد والجماعات بواسطة الدورة الاقتصادية الاجتماعية، وذلك ضمن حيز جغرافي محدد ومتطور في آن معًا، وكذلك في منأى عن تأثيرات الفولكلور والتراث، فهذه منتجات تظهر لاحقًا، وليست سابقة لتحقيق المجتمع (بمعناه الحديث)/ الوطن (بمعناه الحقوقي وفقط الحقوقي)، وهذا ما قاد الوطنية في الجماعات الأنوارية إلى التطبيق العملي لاستحقاقاتها. وعلى الرغم من جميع الصعوبات والمشكلات المرافقة، ظهرت الوطنية مترافقة ومتطابقة مع هذه الجنسية أو تلك، في سباق تنافسي على تحقيق أقصى ما يمكن من المصالح لسكان الإقليم، فجميع السكان وطنيون طالما يحملون الجنسية، بناء على قيمة المساواة المحققة للاجتماع الراقي على صورة مجتمعات (سوسايتي)، وليست صفة خاصة بمن يحمل شعارًا سياسيًا، أو هدفًا تحرريًا من استعمار عابر أو مقيم، فالوطنية هي ملك الجميع، مقسمة على الجميع وبالتساوي، إن كان بالمسؤولية (الواجبات)، أو بالعيش والعمل وصيانة الكرامات (الحقوق)، وهذا ما هو بعيد عن متناول الاجتماع في العالم العربي، فالمجتمع (السوسايتي) لم يتحقق في جنبات العالم العربي، لا ضمن الحدود الكيانية “القطرية”، ولا ضمن العروبة كإطار ثقافي جامع، ولا تزال قابلية البلدان العربية للتفتت إلى شكل هو ما قبل حالة اللامجتمع هذه حاضرة في شهية البنية السكانية، مستندة إلى أوهى الفروقات البينية من أجل تكوين كيانات على صورة ومثال كيانها الحالي. وعلى الرغم من وجود حدود سياسية حقيقية، لم تستطع التجمعات العربية تحقيق مجتمعات مبنية على مصلحة السكان، وحتى بعد وعيها لحقائق المعرفة المعاصرة، القائمة على الكثير من التجارب الناجحة، بقي المجتمع (السوسايتي) بعيد المنال عنها، فهي في حالة انتظار الفرج الأيديولوجي، تتأخر ولا تتقدم، تمارس الحروب الأهلية داخل حدودها، من دون النظر في فساد نمط الاجتماع، ونتائجه الكارثية.
والوطنية هي أحد منتجات الاجتماع الحديث، منظمة ومرتبة على مقاس المصلحة العامة التي بدورها تستند إلى خدمات دولة متفرغة ومسؤولة عن الفشل والنجاح في الوجود والاستمرار الذي يعني الارتقاء. وفشل الدولة يعني حتمًا انتفاء الوطنية، نظرًا للاختلال في العقد الاجتماعي، إن كان من ناحية أهلية طرفيه، أو كان من ناحية التلاعب بالقوانين والدساتير وإخضاعها لمشيئة الأقوى فيزيائيًا، ما يجرّف البنية المعرفية/ الثقافية للوطنية، ويجعلها غير ذات جدوى، أو يضعها في إطار نظري مؤجل إلى ما بعد قيام التربية المدنية/ الوطنية، بدورها، ومن ثم البناء على نتائجها. وهذا أمر في منتهى التهويم والهيولية، فالوثائق التي تصدرها “دولة”، أو “سلطة”، تشهد على وطنية حامليها جميعهم وبالتساوي، وترى أن مرحلة التربية المدنية/ الوطنية قد اكتملت بوجود “دولة”، وجميع السكان وطنيون بدلالة الوثائق التي يحملونها. إذًا، أين المشكلة؟ إنها في اختلال مرئي وغير معترف به في العقد الاجتماعي! فلا مجتمع (سوسايتي) أفرز دولة يستطيع تصويبها ومحاسبتها، ولا دولة قامت بدورها التربوي للتجمع السكاني (كواجب أساسي من واجبات الدولة)، من خلال خضوعها المخلص للدساتير والقوانين، وإشعار وطنييها بالمساواة، بما تعنيه من عدالة وتكافؤ ومبادرة ونظام. في عكس هذا السياق، تتحول حتى هذه الوثائق إلى ذريعة لممارسة الاستبداد على حامليها، وبالتالي تفضيل الاستغناء عنها واستبدالها بوثائق “دولة” أخرى، حيث يظهر أن الوطنية مسألة حقوقية بشكل عميق، تتجاوز المظاهر العواطفية والثقافوية، إلى وقائع محمية بمقتضيات العقد الاجتماعي، وفي مقدمة هذه الوقائع هو قيام المصلحة وخدمتها، وبالتالي تحقيقها على الصعيدين التوأمين، الفردي والجمعي، وهذا ما يصنع التنافسية السياسية، التي تقوم على جدل الأفعل والأصدق في خدمة المصالح المجتمعية، لتصبح الوطنية من هذه الزاوية هي تبادل المواقع بين الحق والواجب، فالحق هو الواجب، والواجب هو الحق. الخدمة العسكرية، على سبيل المثال، هي حق، لا يظهر إلا عندما يتم حرمان المواطن منه، مع أنها (الخدمة العسكرية) في السياق العام واجب على المواطن تأديته، ويحاسب إن لم يقم به.
والوطنية في سياق مواز هي تجميع الجهود وصبّها في المسار الارتقائي للمجتمع (السوسايتي)، بمعنى أنها وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، فالغاية هي الشبع والمنعة، والدخول في المسار الارتقائي للبشرية. وبمعنى آخر، لن تكون الوطنية مع الشبع والمنعة محدودة بحدود الوطن، وإنما سوف تفيض خارجه معلنة مشاركة البشرية إنتاجها وقيمها، فهي كممارسة على أرض الواقع ممارسة إنسانية كونية غير عنصرية، يتجاوز فيها الأداء الذاتي (من إنتاج وإبداع) الحدود الجغرافية القومي منها والإثني والديني، بما يتعاكس مع مفهوم “الغيتو” للوطنية المشتق من فولكلوريات الأداء السياسي، المتمثلة في إنشاء كيانات هوامية تعتمد على التشابه في الأصول والمعتقدات والرقص الشعبي واللغة. والوطنية لا تعرّف بما فيها من تشابهات بينية قد تكون معيقة، أو حتى معاكسة، لوجودها، فالوطنية اليابانية تعرّف بإنتاجها، وليس بكونها غير ألمانية، أو غير برازيلية. وهنا واحد من أكبر المآزق لـ”الوطنية” في العالم العربي، فالعراقي على سبيل المثال (وكذلك غيره)، يعرّف بأنه ليس سوريًا، أو مغربيًا، أو مصريًا، طبعًا مع غض البصر عن تصنيفات لاحقة، كعربي، أو كردي، أو آشوري، أو صابئي، أو شيعي، أو إيزيدي، مما يجعل من وضوح الصفة الوطنية مستحيلًا، خصوصًا مع انعدام الإنتاج العابر للحدود بوثائق “عراقية مثلًا”، مدمرة حقوقيًا ضمن واقعها المعاش. وهنا علينا الربط بين الوطنية وحقوق الإنسان العالمية، الشرعة الحداثية التي أرست الحقوق التأسيسية لوجود البشر على شكل مجتمعات ذات دول، وليس مجرد جماهير تضبطها سلطات. وعلى عاتق هذا الربط تقع مهمة إنتاج الوطنية المعاصرة، وهذا ما عبرت عنه الدسترة، كعرض مغرٍ للتعاقد بين طرفين، (وهذا ما يفسر إلى حد بعيد موجات الهجرة الفردية والجماعية في اتجاه البلدان ذات العقود الاجتماعية الأكثر إغراءً)، فتأمين المياه والكهرباء كمثال تبسيطي يقع على عاتق الدولة حسب العقد، ما يحولهما (الكهرباء والمياه) إلى حقّ من حقوق الإنسان، والتقصير في تأدية هكذا حق يؤدي إلى تقويض العقد، وإحلال الاستبداد في الفراغ الذي تركه التقصير، لتتحول الهجرة (كمثال فقط) إلى هروب من الاستبداد. وهنا تغدو “الوطنية” على المحك، إذ ليست هنالك من “وطنية” خارج عقد اجتماعي حداثي يعمل به بكل إخلاص وعزيمة صادقة، (وهذه شروط إضافية ملزمة لإنجاح العقد). وعليه، تبدو “الوطنية”، كممارسة على أرض الواقع، مرتبطة بحفظ المصالح الفردية، وبالتالي الجمعية، إخلاصًا لعقد اجتماعي علني قادر على إنتاج قوانين مخلصة له.
في العالم العربي، لا تبدو الوطنية متمأزقة تنظيريًا بالتصنيفات التفتيتية فقط، على ما تظهر هذه التصنيفات للوطنية من تعاكس مع المساواة كحجر أساس لتصنيع “المجتمعات” بالإرادة السكانية، ولكن مأزقها الأكبر هو “العروبة”، من حيث الرؤية إلى مكانتها، ودورها المفترض، وفعلها الواقعي، وبالأخص تعريفها، بالإضافة إلى علاقتها الوثقى بالأديان والمذاهب والطوائف، ففي غالب الأحوال تم تعريف العروبة على أنها “بدهية” لا تحتاج لأي شيء لإثبات موجوديتها. وفي أحوال أخرى، تم تعريفها كونها إطارًا ثقافيًا جامعًا، يجمع الشامي بالمغربي أخلاقيًا أو معلوماتيًا (اللغة والدين). وفي حالة ثالثة، كانت العروبة قضية قومية كاملة الأركان علينا النضال في سبيل تحقيقها واقعيًا. كما أن هنالك أحوالًا أخرى يصعب تعدادها، ولكنها، جميعًا، تخبرنا عن “وطنية” عليا (ضخمة ومرهوبة) يجب التدبر في شأنها، وجعلها في مكانها المناسب في الأولويات الثقافية المنتجة للاجتماع السكاني، الذي بدوره لم ينضج بعد، ولا يعوّل عليه، بسبب سوء التربية الحقوقية التي يتعرض لها، لتظهر وطنيتان متوازيتان في العالم العربي لن تلتقيا لا معلوماتيًا ولا معرفيًا، إلا في الإطار “القطري” الدولتي، كما أفضت إليها الأحداث الاستعمارية في القرن العشرين، وعلينا منعها من التفتت أكثر وأكثر. فعلى الرغم من عدم ترك الدورة الاقتصادية الاجتماعية تفعل فعلها، وحوربت في خضم تضارب المصالح السياسية للأقطار، أو تضارب مصالح الرعاة، على اعتبار أن وجود هذه الأقطار جاء بالاصطلاح الخارجي أولًا، أو حتى تضارب الأمزجة بين القادة، تتحول “العروبة”، خصوصًا مع موجات التدين السياسي، إلى إعاقة عملانية “للوطنية” بكافة تجلياتها المعلوماتية والمعرفية، بما فيها الدورة الاقتصادية الاجتماعية، أي أنها لا تشكل أي إطار أو مبنى حقوقي، يبنى عليه مقتضاه. حتى الجامعة العربية، التي تشكل تجمعًا وطنيًا مستقبليًا مأمولًا، لم تستطع أن تقدّم للمواطن “العربي” أي إجراء حقوقي حتى لو كان حرية التنقل بين “الأقطار”. واليوم تتزايد دعاوى ترسيم الحدود البينية بين الأقطار، تأكيدًا على توقيف وقمع الدورة الاقتصادية الاجتماعية بينها، ولو عبر التهريب، فيما يتعاكس تمامًا مع افتراض أن العروبة وطنية عليا يمكن حدوثها في الواقع.
هنالك عماء حقيقي في النظرة إلى “العروبة”، جعلها لا تتجاوز لحظة الاستقلال عن العثماني، من دون أي شيء آخر، ومن دون أية مراجعات نظرية لمعاني المجتمع والأمة والقومية، كمنجزات للفكر الإنساني، والذي تفاعل معه التنويريون في شتى الأقطار، قبل لحظة الاستقلال وبعدها، ولم تفضِ إلى نتائج ملموسة واقعيًا، ليس بسبب الانتداب اللاحق، بل بسبب القبول السياسي العام بما أرساه هذا الانتداب، وأيضًا بسبب إسكات التنويريين وإزاحتهم عن ساحات التأثير العام، وبالتالي إعفائهم قسرًا عن نقد “العروبة”، واعتباره انتقادًا مسيئًا لها، وهذا ما أغفل نقاش كثير من المواضيع الاجتماعية الحاسمة، التي تحتاج إلى حلّ قبل الولوج إلى مرحلة المجتمع، وأهمها الطائفية، والإثنية، وهما مسألتان عويصتان بالنسبة للعروبة الشعبوية، التي تتخذ من التاريخ الماضي مجالًا معلوماتيًا لإثبات بديهيتها، وهو ما جعلها في مواجهة معلوماتية، مع الإثنيات، التي رأت فيهم العروبة قوميات انفصالية، في تعاكس كبير مع مفهوم القومية الأنواري، فصادمت الأكراد، والأمازيغ، والنوبيين… إلخ. على هذا الأساس، غير المجتمعي، وحتى يومنا هذا، يطالب المثقفون السياسيون العرب بمجتمع متعدد “القوميات”، وليس الإثنيات، وفي هذا خطأ وتعاكس فاضح مع المفاهيم الاجتماعية التي يتبنونها، متجاهلين أن مفهوم المجتمع مبني على القيم الحقوقية، وليس على التشابهات السلالية اللغوية، أو الفولكلورية، أو الدينية، التي تنتج وطنيات متنافرة بدلًا من أن يعاد إنتاجها من قبل هذه “الوطنيات” بما يتناسب مع جِدَّةِ مفهوم الوطنية كمفهوم أنواري حديث. فالمساواة التامة، كقيمة حقوقية، قادرة على تفكيك الإشكاليات المتوارثة، ولكن هذا مستحيل في هكذا نوع من التفكير بالعروبة. وعلى هذا، يمكن تفتيت فكرة الدولة المنبثقة من المجتمع وتحويلها إلى سلطة الغلبة، وهو ما يجعل الصراع حتميًا بين فئات الشعب التي يعول عليها في إحداث وإعلان المجتمع بالإرادة المعرفية، المجتمع القادر على إنتاج دولة بالمعنى الأنواري، التي يمكنها إصدار وثائق الوطنية المتساوية بالضرورة، وتبقى “العروبة” إطارًا ثقافيًا جامعًا للعواطف والفولكلوريات، وهي مسائل ذات ضرورة للعيش البشري.
لم تعد الوطنية مفهومًا محليًا هذه الأيام، ولم يعد الإنتاج، بوصفه ممارسة وطنية، مرشحًا للاستهلاك المحلي فقط، بل أصبح تبادليًا مع جميع أنحاء المعمورة. ولعل جائحة كورونا تعطينا فكرة عن هذه التبادلية، فمقاومة هذا المرض بقدر ما هي محلية هي عالمية بالمقدار نفسه، ولا يمكن إخضاعها لشروط “الوطنية” المشاعرية الضيقة، وإلا تحولت إلى عنصرية، على الرغم من تنافس الدول للحصول على فرص أحسن لخدمة مواطنيها والمقيمين على أراضيها، حيث لا يمكن للعنصري أن يكون وطنيًا بهذا المعنى، فالوثائق التي يحملها كوطني تجبره على أن لا يكون كذلك، وهنا لا بد لنا كـ”عرب” من وقفة تأمل ومراجعة لمفهوم الوطنية المعمول به جماهيريًا، والمبني على لحظتي استقلال ماضيتين توقفتا عن النمو، الأولى هي الاستقلال عن العثماني، والثانية هي الاستقلال عن الأوروبي، على ما يكتنف اللحظتين من تعقيدات في الثقافة الاجتماعية، حول الوجود القطري، أو التقسيمي، وكذلك من ضياع فلسطين، والأراضي السليبة الأخرى، من دون أية نقاشات اجتماعية حول من نحن، وكيف نحن، وماذا نريد أن نكون نحن، في خضم عصر حديث وواضح، لا مجال فيه للأخطاء في ممارسة تقنيات الاجتماع البشري. كما أنه لا يمكن ترك الموضوع في عهدة السلطات من أجل أن تقرر بشكل بعيد عن الوضوح من نكون، ما يؤدي إلى عقد اجتماعي فاسد. وعلى هذا، تبدو الوطنية بالنسبة لنا، نحن سكان العالم العربي، بعيدة المنال، لأنها مرتبطة بأمور تأسيسية فاتنا تحقيقها، وبالتالي تطويرها بما يتسق مع مفهوم الوطنية في أرجاء المعمورة.
ربما يقودنا ما ذكر أعلاه إلى رؤية “نمط” التخلف الذي نعانيه، فقد ولّى زمن التشخيص بواسطة استبعاد الاحتمالات، وترجيح احتمالات أخرى، فتفقّدنا للوطنية ضمن هذا النمط لم يعد يعطينا صورة عن تشخيص واضح وعلاني، ولا عن كرامة بشرية يعتز المرء بممارستها بملء اختياره، أو إرادته، فالنمط المؤسس المطروح هنا للوطنية، انطلاقًا من هذا النمط، موارب وزئبقي وغير واضح حقوقيًا، يعتمد على تفسير الشعارات وممارستها كقائمقام عن الدساتير والقوانين، ليتحول إلى رهاب أخلاقوي قابل للتخوين في أية لحظة. والمشكلة الأساسية في هذا النمط هي قناعته التامة بأنه يمارس الحداثة (بمعانيها كافة)، والكل يعلم أنه في أدنى مكانة من قعر التخلف. ولعل وسائل التواصل الاجتماعي تقدّم الأدلة الواضحة على هذا النمط من التخلف، الذي لم يشابه تخلف أحد، ولا يمكن حصره بمجموعة من المشكلات المحددة، فالأنموذج الذي ينتج هكذا نمط وأنموذج مزيف لا يمكن بواسطته التقاط طرف الخيط (أو التشخيص) لمعالجة المشاكل التي يتسبب فيها، وذلك بسبب غياب أي حق بالمحاسبة كممارسة حقيقية للحداثة، ولذلك تبدو الوطنية في ذهن اللامواطن العربي هي لزوم ما لا يلزم، وهو يرى ويلمس انهيار الشعارات، ناهيك عن العيش الكريم. هذا النمط الغريب من التخلف هو بؤرة الجدل (الديالكتيك) المؤسس للحراك الثقافي، فداخل صندوقه يتم تداول معنى “الوطنية” في غياب كامل للصراحة في رؤية الواقع، لا بل الاندفاع في تعميق هذا النمط، باعتباره نوعًا أصيلًا وخصوصيًا، يتناسب مع متطلبات الهوية المنجزة سلفًا بفعل التاريخ، وهذا ما ينتج “وطنيات” صورية متعددة وغير واضحة، والأهم غير ناتجة عن تعاقد اجتماعي فعّال.
الوطنية، كما الدولة، هي فعل علماني بالضرورة، بمعنى أنها ممارسة دنيوية، تنحاز للمصلحة العامة، أثناء التنافس الإنتاجي داخليًا وخارجيًا، إذ لا يمكن الحديث عن وطنية ما دامت الطائفية موجودة بأي شكل من أشكالها. كما لا يمكننا الحديث عن وطنية من دون فصل الدين عن الدولة، ومنع رجال الدين من التدخل في السياسة والقضاء. هذه مسلمات بدئية للتفكير بتحقيق المصالح المؤسسة للـ”الوطن”/ المجتمع المعاصر، الذي يجب أن ننسب “الوطنية” إليه في حال حصولها. فسؤال الوطنية يجبرنا على مراجعة الأصول التأسيسية الصالحة لبناء مجتمع/ وطن قادر على العيش والاستمرار في العصور الحالية، وإلا ليست هنالك فائدة من وجود الوطنية، ما دام الوطن نفسه ليس موجودًا في العصر، حسب التعريف المعاصر له.
ضفة ثالثة