البحر الأسود.. ميدان متجدد للتنافس/ فراس زياد
نهاية القرن الثامن عشر كانت روسيا القيصرية في عهد كاثرين الثانية قد أصبحت قوة كبرى بشكل يصعب تجاوزها، فالحرب الروسية – العثمانية (1768-1774) والتي انتهت بمعاهدة قاينارجه (1774) التي شكلت نقطة تحول مهمة في التاريخ الروسي، فهي المرة الأولى في التاريخ التي تهزم فيها قوة أوروبية منفردة تتمثل في العثمانيين، الأمر الذي دفع بالقيصرية الروسية إلى مصاف الدول الكبرى، بموجب المعاهدة فقدت الدولة العثمانية سيادتها على شبه جزيرة القرم ومناطق في جنوب أوكرانيا الحالية، كما سمحت بدخول أسطول روسي لأول مرة إلى البحر الأسود وهذا بدوره ترتب عليه فقدان العثمانيين سيادتهم المطلقة على البحر الأسود بعدما اكتسب الروس شواطئ جديدة تطل على البحر الأسود وانتزعوا حرية غير مشروطة للملاحة التجارية الروسية في البحر الأسود وفي المرور عبر المضايق بين البحر الأسود والبحر المتوسط، التي فيما بعد توسعت لتشمل مرور السفن العسكرية بموجب اتفاقية مونترو (1936) التي أرست نظام العبور في المضائق التركية (البوسفور والدردنيل) في أوقات الحروب والسلام.
ومنذ معاهدة قاينارجه، ظل البحر الأسود منطقة حيوية للدولة الروسية بمختلف مراحلها القيصرية والسوفيتية وما بعد السوفيتية، وكذلك هو الوضع في الوقت الحالي بالنسبة للدول الأخرى التي تُطل على البحر الأسود (أوكرانيا – بلغاريا – جورجيا – رومانيا – تركيا)، ثلاثة من تلك الدول هي أعضاء في حلف شمال الأطلسي ( تركيا، رومانيا، بلغاريا)، مما يجعل البحر الأسود محورًا جيوبوليتيكيًّا مهمًّا يتقاطع فيه كل من المجال الحيوي الروسي مع مجال حلف شمال الأطلسي، مما أكسبه أهمية كبيرة من ناحية عسكرية وأمنية وإستراتيجية.
المشهد الحالي في منطقة البحر الأسود
في أعقاب عملية الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم واستيلائها على قاعدة سيفاستوبول البحرية؛ حيث يتمركز أسطول البحر الأسود التابع للبحرية الروسية، بدأت روسيا إجراءات من شأنها تغير ملامح المسرح العملياتي العسكري؛ إذ أعلنت عن توسيع مجال عمل الطيران العسكري الروسي ليغطي منطقة البحر الأسود بأكمله بعد إتمام عملية إعادة تأهيل وتحديث ثلاث مطارات في شبه جزيرة القرم؛ حيث ضمت إلى طائرات أسطول البحر الأسود الروسي أسراب جديدة من طائرات سوخوي 24 وسوخوي 30 الحديثة.
كما تم توسيع الدور الذي تضطلع به القوات البحرية الروسية المتمركزة في قاعدة سيفاستوبول البحرية، لتصبح قاعدة انطلاق ودعم للنشاطات البحرية الروسية خارج منطقة البحر الأسود في كل من البحر المتوسط والبحر الأحمر وبحر العرب، وبذلك يتم الربط اللوجستي مع القاعدة البحرية الروسية الموجودة في طرطوس السورية لدعم العمليات الروسية في حوض المتوسط، وكذلك الربط مع القاعدة البحرية الجديدة التى تم إنشاؤها في بورسودان والتي تم تدشينها في 28 فبراير (شباط) باستضافة الفرقاطة «الأدميرال غريغوروفيتش» المزودة بصواريخ «كاليبر بعد مشاركتها مناورات » – «أمان 2021» الدولية التي نظمتها باكستان بحضور 45 دولة في بحر العرب، كما تسعى روسيا باستمرار إلى تعزيز المجال البحري لقواتها في حوض المتوسط، فقد وقعت على اتفاقية مع قبرص وتونس تسمح للقطع البحرية الروسية بالرسو في موانئها، وكان هناك حديث عن تفاوض مع مصر على إنشاء قاعدة عسكرية بحرية هناك، وربما يكون لديها مثل هذا التطلع في لبيبا.
شهد البحر الأسود في ديسمبر (كانون الأول) من السنة الماضية تدريبات شاركت فيها كل قطع الأسطول الروسي في البحر الأسود والتي اشتملت على الفرقاطتين «الأدميرال غريغوروفيتش» و«الأدميرال ماكاروف» وسفينة الدورية «ديمتري روغاتشيف» وسفينة الحراسة «بيتليفي» وسفينتي الصواريخ الصغيرتين «أوريخوفو-زويفو» و«إنغوشيا»، إضافة إلى سفن الإنزال الكبيرة والسفن المضادة للغواصات والغواصات، وكاسحات الألغام وسفن الإسناد اللوجستي.
منح أسطول البحر الأسود أولوية في برنامج التسليح الحكومي 2020، حصل أسطول البحر الأسود على 23 سفينة حربية وزورقًا قتاليًّا، و10 سفن مساندة ست غواصات جديدة جميعها مزودة بصواريخ «كاليبر» المجنحة البعيدة المدى، وثلاث فرقاطات، وسفن سطح أخرى أصغر حجمًا وكما تم نشر المنظومة الصاروخية الساحلية «أوتيوس»، يخطط برنامج التسليح الحكومي 2027 إلى إدخال المزيد من التحسينات النوعية إلى القدرات البحرية وزيادة عدد القطع البحرية المتوسطة والصغيرة. كما يسعى الروس إلى تعزيز القدرات الصاروخية بعيدة المدى من خلال الربط بين غرف التحكم والعمليات في كل من أسطول البحر الأسود وبحر قزوين الذي تتمركز فيه قدرات صاروخية بعيدة المدى.
في المقابل يشهد البحر الأسود نشاطًا مستمرًّا من قبل حلف شمال الأطلسي، الذي تزايد حضوره في مياه البحر الأسود مؤخرًا من خلال زيادة وتواتر الدوريات، التي تقوم بها القطع البحرية الأمريكية في البحر الأسود بالإضافة إلى الاستثمار في إنشاء بنية تحتية للحلف في ميناء كونستانتا في رومانيا، كما تم البدء بإجراء مناورات ضخمة عسكرية في البحر الأسود والتي سوف يشارك فيها 31 ألف جندي من 26 بلدًا، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الحلف، والتي سوف تكون الأكبر في أوروبا منذ ما يقرب من ربع قرن، إلى جانب ذلك فهذه المناورات تأتي في سياق اهتمام متزايد من قبل حلف شمال الأطلسي لتطوير استراتيجية خاصة به تتعلق بردع ومواجهة الأنشطة الروسية في البحر الأسود.
منذ الهجوم الروسي على شمال جورجيا في 2008، تم لفت نظر الحلف إلى منطقة البحر الأسود ولكن لم يتم بذل جهد نحو تطوير إستراتيجية شاملة ومنسقة لتلك المنطقة واقتصرت الجهود على توقيع اتفاقيات شراكة مع دول تنتمي إلى المجال الحيوي للبحر الأسود (أرمينيا، أذربيجان، جورجيا، مولدوفا، أوكرانيا)، غير أن الخطوة العدوانية من قبل روسيا تجاه أوكرانيا في مارس (آذار) 2014، وتزايد نشاطات الروس لزعزعة الاستقرار في أوروبا وحوض المتوسط، هذا بالإضافة إلى التطوير الذي قام به الروس لقدراتهم العسكرية في البحر الأسود الذي من شأنه جعلهم قوة مهيمنة على تلك المنطقة زادت من اهتمام الحلف بمنطقة البحر الأسود؛ حيث تطل على هذا البحر ثلاث دول أعضاء في الحلف ( تركيا، بلغاريا، رومانيا).
من الجدير بالذكر أنه كانت توجد اتفاقية بين الاتحاد السوفيتي وحلف شمال الأطلسي تمنع وجود سفن عسكرية أجنبية في البحر الأسود خارج إطار الدول الستة المطلة على البحر لأكثر من شهر، أو غواصات تعمل بالطاقة النووية أو تحمل صواريخ نووية، الاتفاقية لم يتم تجديدها ولكن ما يزال العمل ساريًا بها حتى الآن.
ملامح الإستراتيجية الجديدة المحتملة لحلف شمال الأطلسي في البحر الأسود
يجب النظر إلى هذه الإستراتيجية الجديدة المحتملة على أنها جزء من الإستراتيجية العامة العريضة التي يعمل حلف شمال الأطلسي على تطويرها لردع التهديدات الروسية للأمن الأوروبي، وكبح جماح المحاولات الروسية لزعزعة الاستقرار في أوروبا، كان اهتمام الحلف في الفترة السابقة منصبًّا بشكل رئيسي على منطقة بحر البلطيق؛ حيث يوجد ثلاث دول أعضاء في الحلف ( ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا).
في خريف العام الماضي نشرت مؤسسة راند (RAND) تقريرًا مطولًا لدراسة تم إجراؤها لصالح المبادرة الإستراتيجية الخاصة بردع روسيا والتي تتبناها القيادة الأمريكية الأوروبية (USEUCOM) ومعهد أبحاث الدفاع الوطني (NDRI)، وهو مركز بحثي تموله الحكومة الفيدرالية برعاية مكتب وزير الدفاع وهيئة الأركان المشتركة ومؤسسة استخبارات الدفاع، وحاول البحث أن يجيب عن أربعة أسئلة هي:
ما هي الأدوات غير العسكرية والعسكرية التي استخدمتها روسيا لكسب النفوذ وتحقيق الأهداف الجيوسياسية في منطقة البحر الأسود؟
كيف ينظر حلفاء وشركاء حلف شمال الأطلسي في المنطقة إلى إستراتيجية روسيا ويستجيبون لها؟
ما هي بعض العناصر المحتملة لإستراتيجية غربية جماعية لمواجهة النفوذ والعدوان الروسي في المنطقة؟
ما الذي يمكن أن يساهم به حلفاء وشركاء حلف شمال الأطلسي في المنطقة لدعم هذه الإستراتيجية؟
وخرجت الدراسة بالتوصيات التالية:
· الاستجابة الانتقائية والاستباقية للإجراءات الروسية من خلال إبراز فوائد التكامل الغربي بدلًا من الانخراط في الرد على الروايات المختلقة التي ينشرها الروس.
مضاعفة جهود منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي لمساعدة بلدان منطقة البحر الأسود على مواجهة التهديدات المتنوعة، بما في ذلك التهديدات الإعلامية، والسيبرانية، والاقتصادية، والسرية، والتهديدات الهجينة.
دعم قوي للامتثال للقوانين الدولية، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار واتفاقية مونترو، التي تكفل حرية الملاحة، وتسهم في التنمية الاقتصادية والاستقرار الإقليمي.
تطوير موقف رادع تقليدي أكثر قوة بحيث يكون أبعد من الحضور المواجه المصمم لحلف شمال الأطلسي، والذي ليس بالضرورة أن يكون متطابقًا مع القدرات الروسية، وهذا يمكن أن يشمل التدريبات الموسعة ومزيدًا من التكامل بين القوات البحرية والاستجابات غير المتماثلة، بالإضافة إلى نشر أنظمة الدفاع الجوي والساحلي المتقدمة في رومانيا وربما بلغاريا.
مواصلة الدعم الأمني لتعزيز صمود الشركاء وقدراتهم الدفاعية.
الاعتماد على الشراكات الثنائية والمتعددة الأكثر فعالية ومرونة بشأن الأولويات والترتيبات المتبادلة، والاحتفاظ بخيار الاستبعاد للدول غير المتعاونة، تعزيز الهياكل والآليات القائمة للتعاون الإقليمي، والدون إقليمي مثل العملية الوزارية للدفاع في جنوب شرق أوروبا (SEDM)
و ليس ببعيد عن تلك التوصيات، جاءت أيضًا الورقة الإستراتيجية التي أعدَّها الجنرال المتقاعد «بن هودجز» والتي وضعت خطوط رئيسية لما يجب أن تكون عليه هذه الإستراتيجية، هودجز جنرال ذو ثلاث نجوم خدم بوصفه قائدًا للجيش الأمريكي في أوروبا بين عامي 2014-2017، وهو حاليًا رئيس قسم الدراسات الإستراتيجية في مركز تحليل السياسات الأوروبية، هودجز يقترح في ورقته مقاربة (DIME) والتي ترمز إلى أربعة محاور هي: المحور الدبلوماسي والمحور المعلوماتي والمحور العسكري وأخيرًا المحور الاقتصادي.
المحور الدبلوماسي: يشير هودجز إلى أهمية التنسيق بين العواصم الكبرى دبلوماسيًّا لإيجاد استجابة متسقة وذات فعالية، ويشدد هودجز على أهمية الحزم في متابعة دولية لأي سفن تنتهك العقوبات الدولية من خلال إبحارها مباشرة من موانئ شبه جزيرة القرم، وكما ينبغي حرمانهم من الرسو في الموانئ الغربية أيضًا من التأمين البحري وعدم الاكتفاء بملاحقة السفن، بل أيضًا الشركات التي تتعاقد معها أو تستخدم موانئ شبه جزيرة القرم، وهذا يتطلب مواجهة الضغط الروسي الفعال داخل المنظمة البحرية الدولية (IMO)، ومقرها لندن، التي أبدت حتى الآن محدودية في رؤية هذه الانتهاكات المتكررة؛ إذ تبحر كل عام مئات السفن من موانئ شبه جزيرة القرم، ويرى هودجز أن ألمانيا هي الأكثر تأهيلًا وقدرة على قيادة الجهد الدبلوماسي مع دعم وثيق من قبل الولايات المتحدة.
المحور المعلوماتي: ينبغي تطوير إستراتيجية إعلامية ومعلوماتية لمواجهة حملات التضليل المعلوماتية التي تشنها الأجهزة الروسية عبر وسائل الاعلام وسائط التواصل.
المحور العسكري: يحتاج البحر الأسود إستراتيجية عسكرية خاصة به تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات القانونية والعسكرية التي يتمتع بها، ولذلك فإن المبادرات العسكرية التي يتبعها الحلف في مناطق بحرية أخرى مثل بحر البلطيق على سبيل المثال لن تكون ذات جدوى في البحر الأسود نظرًا للتفوق العددي للقطع البحرية الروسية، لكن على الأقل من الممكن وضع خطط من شأنها تقييد حرية البحرية الروسية في الملاحة والمناورة في تلك المنطقة وخفض سقف قدراتها العملياتية لدعم العمليات الخارجية.
من ناحية مثالية، يجب أن تكون تركيا مركز العمليات؛ لما تتمتع به تركيا من إمكانيات وقدرات عسكرية كبيرة، غير أن علاقتها بموسكو وتركيزها على شرق المتوسط ربما يجعلها تتردد في دعم إستراتيجية كتلك، ولذلك على المدى القصير والمتوسط يمكن الاعتماد على رومانيا لتلعب هذا الدور، إلى جانب ذلك فإن الدول الشركاء مثل أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، سيكون لها دور متصاعد، ولذلك ينبغي الإسراع بضم جورجيا إلى الحلف وترشيح أوكرانيا لعملية الانضمام السريع.
المحور الاقتصادي: يرى هودجز أن الاقتصاد يلعب دورًا حيويًّا في بناء الاستقرار والأمن في تلك المنطقة، وفي الوقت نفسه، فإن أحد التحديات الكبيرة في تلك المنطقة، أن الدول المطلة على البحر الأسود تتشارك بدرجات متفاوتة المشاكل نفسها المتعلقة بسيادة القانون والشفافية والفساد، كما لا يزال بعضها مثل أوكرانيا يعاني من سيطرة الأوليغارشية على الاقتصاد مما يقلل من جاذبية الاستثمار فيها، ولذلك يقترح هودجز العمل عن قرب مع تلك الدول لمعالجة تلك المشاكل ودعم الهياكل الإقليمية ومبادرة البحار الثلاث (3SI) التي توفر إطار عمل جيد لدعم تلك الدول وخاصة أن اقتصاديات الطاقة في تلك المنطقة على جانبي البحر الأسود تؤمن فرصة جيدة للتطور الاقتصادي والاستثمار.
يشير هودجز إلى ثلاثة اعتراضات في مواجهة الأخذ بهذه الإستراتيجية وأهمية الاستثمار الإستراتيجي في منطقة البحر الأسود:
«تركيا ليس حليف مثالي»
الميزات الداخلية الهائلة التي تتمتع بها روسيا في المنطقة قد تجعل الاستثمار الإستراتيجي غير مجدٍ مقارنة بالعائد، أضف إلى ذلك ثقة الأمريكيين بالتماسك الأوروبي بشأن مواجهة روسيا.
يفند هودجز هذه الاعتراضات بالإشارة إلى أن تركيا لم تكن يومًا حليفًا مثاليًّا، والتعامل مع الأتراك كان دومًا ما يستند إلى رؤية براغماتية والمصالح المشتركة، ويعتقد أنه هناك ثمة سبل كفيلة بجذب الأتراك، بما يتعلق بميزات روسيا الداخلية، فإنه يذكر بأن روسيا لا يوجد لديها حلفاء ضمن حوض البحر الأسود، كما تفتقر إلى الموارد الكافية، أما بالنسبة للأوربيين، فإن هودجز يعتقد أن لدى الأوروبيين إدراك للمخاطر وفي الوقت نفسه لديهم فجوة في القيادة والولايات المتحدة تستطيع ملء هذه الفجوة.
ما هي إستراتيجية روسيا؟
تدرك روسيا بشكل واقعي أمرين مهمين، أولهما حجم المخاطر المترتبة على الحضور الكثيف لحلف شمال الأطلسي على أمنها الوطني وعلى خططها في مجال العلاقات الدولية، والأمر الثاني محدودية الموارد التي تتمتع بها روسيا في مواجهة كتلك، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تكون إستراتيجية روسيا للتكيف في مواجهة وضع كهذا برأسين:
استراتيجية فرق تسد: إذ إن العيب الرئيسي في إستراتيجية حلف شمال الأطلسي هو أنها تحتاج إلى حشد عدد من الدول التي تتفاوت في قدراتها واهتماماتها والانسجام بينها مما يسهل على الروس اللعب على نقاط الاختلاف وتغذيتها ولذلك من المتوقع أن يستمر الروس بالتالي:
الاستمرار في حملات التضليل والاختراق المعلوماتي التي ما تزال فعالة، بل تزيد من قوتها في دول مثل بلغاريا، مولدوفا وتركيا.
الاستمرار في سياسات الطاقة مع الاتحاد الأوروبي من خلال استمرار الإمداد بالغاز الرخيص ومشروع السيل الشمالي.
الحفاظ على علاقات ومصالح قوية مع تركيا في القوقاز وسلاشك؛ فإن روسيا سوف تكون تحت ضغوط هائلة مما سوف يسمح بتركيز حلف شمال الاطلسي على البحر الأسود، ولكن في الوقت نفسه ربما يكون وراء تشتت القوى وانزياح الاهتمام الأمريكي تدريجيًّا باتجاه التعامل مع الصعود الصيني فرصة للروس لإيجاد حلول وريّ وإمدادات الطاقة لإبعادها عن الانجذاب إلى مشروع الحلف في البحر الأسود، خاصة أن تركيا ليس لديها ثقة في الجانب الأمريكي.
الاستراتيجية العسكرية: الاستمرار بزيادة القدرات العسكرية لأسطول البحر الأسود وتحسين التكامل ما بين أسطول البحر الأسود وبحر قزوين لتقوية القدرات الصاروخية الإستراتيجية وبعيدة المدى.
لاشك أن روسيا سوف تكون تحت ضغوط هائلة مما سوف يسمح بتركيز حلف شمال الاطلسي على البحر الأسود، ولكن في الوقت نفسه ربما يكون وراء تشتت القوى وانزياح الاهتمام الأمريكي تدريجيًّا باتجاه التعامل مع الصعود الصيني فرصة للروس لإيجاد حلول تخترق هذا الوضع المحتمل.
————————————–
البحر الأسود ساحة مواجهة/ علي العبدالله
شهد البحر الأسود، أخيراً، نشاطاً عسكرياً محموماً، مناوراتٍ روسية وأخرى أطلسية. بدأت الأولى في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بالقرب من شبه جزيرة القرم، بإجراء تدريباتٍ بالذخيرة الحية لـ “تدمير أهداف معادية”. وبدأت الثانية في الخامس منه وتستمر أسبوعين، شاركت فيها قوات كبيرة قوامها نحو خمسة آلاف جندي ونحو 18 فريقاً من فرق القوات الخاصة للدول المشاركة وحوالى 30 سفينة و40 طائرة، من 28 دولة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأربع دول عربية؛ مصر والإمارات وتونس والمغرب، بالإضافة إلى باكستان والسنغال والبرازيل وأستراليا، بصفة مشارك أو مراقب، أجرت تدريباتٍ على حربٍ برمائيةٍ واعتراضٍ بحري وحرب ضد الغواصات، وعمليات الغطس. وقد اعتبرت الأضخم منذ بدء برنامج مناورات “نسيم البحر” عام 1997.
جاء رد الفعل الروسي على مناورة “الناتو” حادّاً؛ إذ لم يكتفِ القادة الروس بالاعتراض الدبلوماسي والنقد السياسي، بل ذهبوا إلى اتخاذ خطواتٍ عسكريةٍ ردعية. اعتبر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، المناورات “استفزازية” و”تحدّياً خطيراً لروسيا” وأنّها غير مقرّرة سابقاً. وكرّست السلطات الروسية، التشريعية والتنفيذية، كثيراً من اجتماعاتها وجلساتها لمناقشة هذه القضية، محذّرة من اللعب بالنار. فقد أعلن نائب وزير الخارجية الروسية، المسؤول عن ملف العلاقات الروسية الأميركية، سيرغي ريابكوف، في مجلس الدوما، أنّ “واشنطن تواصل ممارساتها الاستفزازية، وتدفع مقاتلاتها وسفنها البحرية إلى مقربة مباشرة من الحدود الروسية”، واعتبر بيان وزارة الدفاع الروسية المناورات العسكرية الأميركية في البحر الأسود دليلاً على أنّ الولايات المتحدة تدرس مسرح الحرب المزعوم في حال تصاعدت حدّة التوتر في الدونباس في شرق أوكرانيا. كما وجّهت تحذيراتٍ عديدة من خلال القنوات الرسمية، وغير الرسمية، منعًا لتجاوزاتٍ في البحر في أثناء المناورات، وأجرت مناورات بحرية مع البحرية الجزائرية غرب البحر الأبيض المتوسط. كما تم الإعلان عن إطلاق صاروخ باليستي جديد عابر للقارّات من مركز “بليسيتسك” الفضائي في شمال غربي البلاد، واختبار الفرقاطة “الأميرال غورشكوف” صاروخ “تسيركون” الفرط صوتي؛ مداه ألف كيلومتر. قال الجيش الروسي، في بيانه، إنّه أطلق الصاروخ باتجاه هدفٍ بحري في مياه البحر الأبيض، وتمت إصابة الهدف بـ”ضربة مباشرة”، وإجراء تجربة ناجحة لصاروخ مضادّ للأقمار الاصطناعية. وكانت أعلنت قطع علاقاتها مع حلف شمال الأطلسي (الناتو) اعتباراً من أول نوفمبر الجاري، وإلى أجل غير مسمّى.
ارتبط رد الفعل الروسي الحادّ بعاملين رئيسين: الخشية من تمدّد جديد لـ”الناتو” نحو حدودها الغربية بانضمام أوكرانيا، الذي سبق لها واعتبرته خطّا أحمر، ترى في انضمام أوكرانيا للحلف تهديدا لمصالحها الأمنية، واستيطان قوات الحلف في البحر الأسود، الذي طالما اعتبرته بحيرةً مغلقةً يحظر دخولها والإبحار فيها من دون ضوابط، بموجب بنود اتفاقية مونترو عام 1936، ورغبت في السيطرة عليه، خصوصا بعد احتلالها شبه جزيرة القرم وضمها. ومنذ ذلك الحين، ضاعفت ساحلها الفعلي على البحر الأسود ثلاث مرات، كانت، قبل انضمام بلغاريا ورومانيا لحلف الناتو، قادرة على الوصول إلى معظم شواطئه، وعزّزت قواتها الصاروخية في المنطقة، ما منحها فرصة زيادة نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما جعلها تتحفّظ على مشروع تركي لشق قناة جديدة غرب إسطنبول، تصل البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط، لتخفيف الضغط على البوسفور والدردنيل، لأنّها لن تكون خاضعة لاتفاقية مونترو، التي تضمن حرية مرور سفن الشحن عبر المضائق التركية في أوقات السلم، وتفرض أحكاماً في تنظيم مرور السفن الحربية، مثل ضرورة إخطار تركيا بتحركاتها مسبقاً وتحديد مدة بقائها فيه بواحد وعشرين يوماً.
استغلت روسيا لحظة سياسية مواتية للتصعيد، أساسها انشغال الغرب برأب الصدع داخل تحالفه وبقضايا المناخ والأوبئة واحتواء الصين، من جهة، وارتفاع أسعار الغاز والنفط مع حلول فصل الشتاء، حيث تزداد الحاجة إلى الوقود لمواجهة البرد، ما جعلها في موقع قوة في مواجهة دول الاتحاد الأوروبي، من جهة ثانية، فعملت على توتير العلاقات بين دول الاتحاد الأوروبي، في ضوء تباين مواقفها من الهجرة والمهاجرين، بدفع مهاجرين إلى الحدود البيلاروسية البولندية.
اختارت قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) توقيت المناورة، التي لم تكن مقرّرة، في ضوء تنامي الضغوط الروسية على أوكرانيا، حيث لم تكتف روسيا بحشد قواتها على الحدود، بلغ عدد القوات المنتشرة قرب الحدود الأوكرانية المائة ألف جندي مع دبابات وعتاد ثقيل، بل ذهبت بعيدا بإعلان بوتين “أن الأوكرانيين والروس شعب واحد”، وسعيه إلى إعادة دمج أوكرانيا في روسيا الكبرى، واعتباره التعاون الأوكراني مع “الناتو” تهديداً للأمن القومي الروسي، واتخاذه قراراتٍ تفاقم التوترات أكثر، مثل توقيعه مرسوما يقضي بتقديم الدعم الإنساني لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين، بذريعة الحصار الاقتصادي الذي يتعرّضان له، اعتبر مقدّمة للاعتراف بهما وضمهما إلى الأراضي الروسية، فزادت المخاوف من توغل روسي موسّع في أوكرانيا. لذا جاءت المناورة الأطلسية لتوجيه رسالتين إلى روسيا، تتعلق الأولى بردع أي عمل عسكري ضد أوكرانيا ومفادها: سيكون هناك ردّ قوي ومنسّق. والثانية وتتعلق برفض السعي الروسي إلى السيطرة على البحر الأسود. بعد مطالبة روسيا بالمياه الإقليمية حول شبه جزيرة القرم، باعتبارها مياهاً روسية، أرسلت المملكة المتحدة يوم 23 يونيو/حزيران 2021، المدمرة البريطانية “أتش أم أس ديفندر” إلى تلك المياه، حيث دخلت فترة وجيزة إلى المنطقة الإقليمية الممتدة على مسافة 12 ميلاً حول شبه الجزيرة، عملا بحق “المرور البريء” الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، فردّت القوات الروسية بإطلاق طلقاتٍ تحذيرية، كانت القوات الروسية قد تعقبت يوم 1/7/2021 فرقاطة إيطالية وأخرى هولندية، للسبب نفسه. وهذا بالإضافة إلى التخوّف من أن تعمد روسيا إلى غزو دول البلطيق أو أوكرانيا، دفع حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى تعزيز وجوده في دول “المواجهة” مع روسيا، دول البلطيق الثلاث وبلغاريا ورومانيا وبولندا، والاستفادة من خدمات موانئ جورجيا وأوكرانيا اللوجستية، وتوسيع ساحة عمليات الأسطول السادس الأميركي لتشمل البحر الأسود، خطوة في خطة تعطي البحر الأسود دورا خاصا في احتواء روسيا، والتحضير لضم أوكرانيا وجورجيا إلى صفوفه، فـ”الطريق إلى الناتو مفتوح دائماً أمام كييف وتبليسي” كما صرح وزير الدفاع الأميركي، الجنرال لويد أوستن، لتوسيع ساحة عمل الحلف وشرعية وجود قواته في البحر الأسود وحمايتهما من أي اعتداء روسي، واستنزاف روسيا وإنهاكها اقتصادياً وعسكرياً، وصرف اهتمامها عن القضايا الملحّة في مواقع أخرى.
وقد زاد اتفاق وزراء دفاع حلف الناتو على “خطة شاملة للدفاع عن أراضي دوله” وإعلان أمين عامه، ينس ستولتنبرغ، أنّ الحلف “يعتبر منطقة البحر الأسود منطقة استراتيجية” ودعوة رئيس الأركان البريطاني، الفريق أول سير نك كارتر، إلى الاستعداد للحرب مع روسيا، وتعهد الولايات المتحدة وألمانيا بالوقوف معاً في وجه أي “استفزاز روسي”، من حدّة الاشتباك وارتفاع منسوب الضغوط المتبادلة في ضوء تخوف روسيا من احتمال زيادة “الناتو” وجوده العسكري في أوروبا الشرقية ونظرتها إلى تعاون أوكرانيا العسكري مع “الناتو”، قالت “إنها تحوّلت إلى حاملة طائرات غربية”. بلغت الضغوط المتبادلة حد التلويح بالحرب. قال الخبير العسكري الروسي، أوليغ كوزنتسوف، في حديثه لـ”الجزيرة نت”، إنّ “روسيا حشدت عدداً كافياً من القوات في منطقة البحر الأسود لصدّ أيّ عدوانٍ بالأسلحة التقليدية” فروسيا تمتلك أوراقاً لزعزعة استقرار دول على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، والذهاب إلى حرب نووية في حال تهديد “الناتو” حدودها الغربية، في ضوء اقتناع الرئيس الروسي، بوتين، بأنّه حان وقت تغيير توجهات السياسة الخارجية الروسية، لأنّه بات يؤمن بأنّ الغرب لا يفهم سوى لغة القوة، وفق قول مدير مركز “كارنيغي” في موسكو، ديمتري ترينين، خصوصاً بعدما نجح في حشد الشعب الروسي، من خلال إظهار روسيا بمظهر ضحية إساءات الغرب وخداعه وتطويقه لها.
تنطلق روسيا من اعتبار “الناتو” مصدر الخطر المركزي عليها في منطقة أوراسيا، وأنّه لا يزال يمثّل التهديد الأكبر لها كقوة دولية تسعى إلى استعادة مكانتها قطباً دولياً. في حين ينطلق التحالف الغربي من أهمية الموقع الاستراتيجي للبحر الأسود الذي يضعه في مكانةٍ مهمةٍ لأمن الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الناتو، والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الكبير، ومن ثم فإنّ احتلال روسيا شبه جزيرة القرم ووجودها العسكري في جورجيا وتعزيز قدراتها العسكرية في المنطقة يقوّض أمنه، ما يستدعي، برأي قادته، تطوير استراتيجية جديدة تنطوي على إعطاء البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط دوراً خاصاً في احتواء روسيا في المستقبل. يثير هذا الاشتباك المتصاعد الهواجس والمخاوف من الانزلاق نحو مواجهة مدمرة.
العربي الجديد