الدولة الأمنية في سوريا وتأثيرها على الحياة السياسية/ بسام يوسف
نقل الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد 1970، وقاده إلى السلطة، مسار التجاذبات السياسية التي كانت سائدة في الساحة السياسية في سوريا إلى مرحلة جديدة، خصوصاً بعد قيام ما عُرف بـ”الجبهة الوطنية التقدمية”، وبعد إقرار ميثاقها، وإقرار الدستور الدائم الذي كرّس حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وفق المادة الثامنة منه، والتي رسّخت احتكار السلطة له.
يمكن تكثيف السمات الأهم للحياة السياسية في سوريا، بعد وصول حافظ الأسد للسلطة بثلاث سمات:
تضييق وتقييد الحياة السياسية، بحجج وذرائع التحديات الخارجية، وأن العمل السياسي خارج ما حدده “ميثاق الجبهة”، يُضعف هيبة الدولة، ويضعف من قدرتها على مقاومة التدخلات الخارجية، وعليه فإن الشعب يجب أن يخضع للأحكام العرفية وقانون الطوارئ، وبناء عليه فقد جاء ميثاق الجبهة ليكرّس قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، والقوانين الخاصة بمعاداة أهداف ثورة 8 آذار، وتجميد بعض القوانين مثل قانون الجمعيات (الأحزاب)، والمطبوعات.. الخ.
تفتيت القوى السياسية وانقسامها بين اتجاهين أساسيين، اتجاه التحق بالصيغة التي طرحها حزب البعث الذي نصبه الدستور قائداً للدولة والمجتمع، وبالتالي محدداً للحياة السياسية، واتجاه ذهب إلى رفض هذه الصيغة لأسباب متعددة.
بدء تكريس الدولة الأمنية الشمولية ذات الطابع العقائدي الدوغمائي، والمرتكز على ثقافة إيديولوجية جوهرها التلقين والعدمية الفكرية، وتغييب أهمية وضرورة الاختلاف والنقد، بهدف السيطرة على مجمل مفاصل الدولة والمجتمع.
اضطرت الأحزاب السياسية التي لم توافق على العمل وفق ما عرف بـ”ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية”، إلى مواجهة خيارات بالغة القسوة، وكان عليها أن تختار بين مواجهة علنية مع سلطة قمعية، أو أن تصمت، أو أن تذهب إلى خيار العمل التنظيمي السري.
وسمت هذه الخيارات الصعبة المشهد السياسي في سوريا، ولما كانت القبضة الأمنية التي اشتغل حافظ الأسد على تمكينها من إحكام سيطرتها على المجتمع، لاتزال في طور النمو خلال عقد السبعينات من القرن الماضي، فقد ظلّ الحراك السياسي السوري يتقلص شيئاً فشيئاً، متناسباً بشكل عكسي مع تطور أجهزة القمع، وجاء صراع “الإخوان المسلمين” في نهاية عقد السبعينات ومطلع الثمانينات، ليفرض أجهزة المخابرات والجيش كسلطة مطلقة، تتحكم بسوريا من ألفها إلى يائها، وليسحق تماماً كل الهوامش الضيّقة أصلاً للعمل السياسي.
الدولة الأمنية المتغولة على المجتمع، لم تكتفِ بسحق هوامش العمل السياسي، بل سحقت أيضاً ما يمكن أن نسميه طبقة “المجتمع المدني”، أي النقابات، والمؤسسات الحقوقية، والإغاثية والتعليمية، والتي تلعب دوراً مهماً في تخفيف ظلم السلطة، وقمعها تجاه المجتمع وقواه السياسية، وتدافع عن الحريات والحقوق الأساسية.
باختصار، كان عقد الثمانينات هو عقد استحكام سيطرة الأجهزة الأمنية على الدولة والمجتمع في سوريا، الأمر الذي أرغم الناشطين السياسيين على أحد خيارين، إما المهادنة وربما الصمت، وإما العمل السري.
لا أهمية للحديث عن الأحزاب السياسية، التي التحقت بجهة النظام الشمولي السوري، أي أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، فقد جعل منها حافظ الأسد مجرد واجهة لديمقراطية مزعومة لا وجود لها، ولم يكن لها أي دور حقيقي في الحياة السياسية، أو حتى أي إمكانية للفعل، وبدأت تتشظى، وتتقلص، لتتحول إلى هياكل صغيرة بلا أي فاعلية، وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى القوى التي عملت خارج إطار الجبهة، والتي ارتأى معظمها الذهاب إلى العمل السري.
سيفرض تغوّل الدولة الأمنية، وشروط العمل السري للأحزاب السياسية شروطه المجحفة على آليات عمل هذه الأحزاب، وعلى بنيتها الداخلية، ومدى علاقتها بالمجتمع الذي تعمل فيه، وبالتالي على مجمل نشاط هذه الأحزاب، وعلى ديناميكيتها، أي فعاليتها وحضورها في المشهد السياسي، ولا سيما أن هذه الأحزاب خسرت بحكم شروط القمع الشديدة، وبحكم سريتها، أهم الأدوات السياسية التي تمتلكها الأحزاب السياسية في الظروف الطبيعية للعمل السياسي، كالتظاهر، والاعتصام، والتجمعات وغير ذلك، يضاف إلى هذا حرمانها التام من امتلاك وسائل إعلام، ومنع حرية النشر، والطباعة.
لم تقيّد ظروف العمل السري للأحزاب السياسية حركة هذه الأحزاب وحسب، بل وتسبب أيضاً بتشوّه هذه الأحزاب، بسبب غياب الديمقراطية داخل بنيتها التنظيمية، وبسبب ابتعادها القسري عن العمل داخل البيئة المناسبة لنموها، أضف إلى ذلك أن هناك عاملاً بالغ الأهمية وسم معظم هذه الأحزاب، وهو أن الإيديولوجيا صاغت الركيزة الأساسية لمعظم أفكارها وبرامجها، وبالتالي فإن انغلاق المساحة التي عملت بها هذه الأحزاب، وانعزالها عن المجتمع، لم يكن فقط بسبب القمع، بل وبسبب بنائها المرتكز على الإيديولوجيا.
خاض معظم أعضاء الأحزاب السرية تجارب مريرة، سواء عبر الاعتقال أو التخفي، أو الهروب خارج البلاد، وكان لهاجس الملاحقة الأمنية تأثيره الشديد على علاقتهم، وتصورهم للعمل السياسي وشروطه، الأمر الذي أنتج في معظم حالاته بنى سياسية مشوّهة، تمارس السياسة بشكل نظري، وليس لها علاقات حقيقية داخل المجتمع، وهذا ما سوف يتضح لاحقاً عندما انفجرت الثورة السورية.
كشفت الثورة السورية الغطاء عن بنية هذه الأحزاب، ومدى قدرتها على الاستجابة لمتطلبات الثورة وتعقيداتها، وتبيّن بالملموس أن تجربتها السياسية المريرة، لم تمنح هذه الأحزاب المقدرة على التعاطي مع مستحقات الثورة، ولا المقدرة على استنباط أدوات أو برامج بدلالة اللحظة والواقع، وللأسف فإنها – أي الأحزاب – أصرّت على مقاربة اللحظة التاريخية المغايرة كلياً، بأدواتها الإيديولوجية التي استحضرتها من وحي تجارب أخرى لأحزاب أخرى، وفي بلدان أخرى.
ربما ساهمت هذه الأحزاب بمشكلة أخرى، هي أيضاً بالغة الأهمية، فقد أعاقت – وربما لا تزال – بشكل موضوعي ولادة أحزاب سورية أكثر ديناميكية، وأكثر فهما لحاجة المجتمع وبنيته، وكان لمراهنة الشباب الذين فجروا الثورة السورية على هذه الأحزاب نتائجها السيئة جداً على مسار الثورة، ورغم محاولات بعض هذه الأحزاب إجراء مراجعات نقدية لمسيرة عملها السياسية، فإن أغلب هذه المحاولات كانت بلا جدوى، فالواقع اختلف كثيراً، والأدوات المعرفية والسياسية التي تصر هذه الأحزاب على استعمالها، لم تعد تصلح لفهم الحاجات الحقيقية لمجتمعنا.
بتكثيف شديد، لقد استطاعت الدولة الأمنية التي بناها حافظ الأسد، أن تنهي الحياة السياسية في سوريا طوال عقود طويلة، وأن تسحق ممكنات عودتها السريعة، وما نشهده اليوم من عجز السوريين عن استعادة السياسة، والعمل بها بدلالة احتياجات وطنهم وثورتهم، هو جزء من الحصاد المرّ لما فعلته الدولة الأمنية في مجمل أوجه المجتمع السوري، ولما أفرزته هذه الدولة من أمراض داخل بنية هذا المجتمع.
تلفزيون سوريا