عصر الهجرة: اللاجئون ودورهم في تشكيل عالم أجمل/ محمد تركي الربيعو
في العقدين الأخيرين، كان موضوع الهجرة قد اجتذب تغطية إعلامية كبيرة، وصار موضوعا يهم الجماهير بشكل عام. مع ذلك عادة ما يدور النقاش حول الدور السلبي للمهاجرين أو اللاجئين، وتأثيراتهم في الاقتصاد والخدمات والواقع السياسي للبلدان المضيفة، كما تبدو أحيانا المفاهيم في هذا الحقل غير واضحة، بالإضافة إلى أن عالم الإحصاءات المرافق، يثير الذعر ويصبح مادة للنقاش العام، وهو ما نراه اليوم في تركيا واضحا بشكل جلي مع قرب الانتخابات الرئاسية التركية، إذ أصبح موضوع اللاجئين السوريين أحد حوامل مشروع المعارضة للتغيير، الذي أخذ يرسم صوراً عنصرية حول السوريين وثقافتهم، وحتى على مستوى الخدمات التي تقدم لهم. لكن في مقابل هذا التوجه السلبي، تحاول بعض الكتابات في الآونة الأخيرة، التي تعمل على رصد ظاهرة المهاجرين واللاجئين، التركيز على الجوانب الثقافية، أو حتى الاقتصادية البديلة التي أخذ يخلقها هؤلاء في البلدان الجديدة، ولعل من بين هذه الكتب نشير إلى كتاب «الهجرة الدولية» لخالد كوزر، ترجمة محمد فتحي خضر، كلمة للترجمة، اذ يرى المؤلف في هذا الكتاب أن ثمة حاجة إلى اكتساب منظور متوازن نحو الهجرة، فقد أضحت وجهات النظر التي تتناول هذا الجانب أكثر استقطابا، وتشددا وقطعية، كما كثرت التعميمات، ولذلك فهو يسعى في كتابه إلى تبني منظور إيجابي إجمالا، يقوم على فكرة أن الهجرة وبقدر ما تفرض تحديات جديدة على البلدان المضيفة والعالم عموما، إلا أنها في المقابل تمثل فرصة لكسر الحواجز الثقافية بين البلدان، كما أنها تسمح بولادة أفكار أخرى، بالإضافة إلى أنها أخذت تساهم أحيانا في تطوير البلدان التي خرج منها اللاجئون، من خلال دورهم اللاحق في تطوير هذا الجانب، عبر الحوالات المالية والثقافية. وهنا لا ينفي الباحث ردات الفعل السلبية، والمخاوف التي يعبر عنها أحيانا سكان البلدان المضيفة، مع ذلك يرى أن الفرص التي يولدها اللاجئون أو المهاجرون على عدة أصعدة تبقى أكثر وضوحا.
ويرى كوزر أن الهجرة ليس وليدة ظروف جديدة، بل هي وليدة قرون طويلة، وفي القرن التاسع عشر تطور هذا الوضع، إذ عملت القوى التجارية الكبرى مثل بريطانيا وهولندا وإسبانيا وفرنسا على توطين مواطنيها في الخارج، ولم ينطبق هذا على العمال فقط، بل شمل أيضا الفلاحين والجنود المنشقين والأيتام، لكن هذه الهجرة المرتبطة بالتوسع الاستيطاني، إلى حد كبير، ستتراجع مع صعود الحركات المناهضة للاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر. وقد تميزت الفترة التالية من الهجرات ببروز الولايات المتحدة الأمريكية كقوة صناعية ومركز استقطاب للمهاجرين، فقد هاجر ملايين العمال من المناطق الاقتصادية الراكدة، أو التي تحكمها أنظمة سياسية قمعية في شمال أوروبا وجنوبها وشرقها، وجاءت فترة الحرب العالمية الثانية، لتدعم فكرة هجرة العمال من أجل دعم اقتصادات ما بعد الحرب المزدهرة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، وكانت هذه الفترة هي التي وصل فيها العديد من المهاجرين الأتراك للعمل في ألمانيا، والمهاجرين من شمال افريقيا للعمل في فرنسا وبلجيكا، لكن في السنوات الأخيرة، أخذنا نشهد موجة أكبر من السابق، ولعل ما ميز هذه الموجة أولا، زيادة نسبة النساء ضمن المهاجرين أو اللاجئين بسرعة؛ ففي عام 2013 كان ما يقرب من نصف المهاجرين من العالم من النساء، وربما يعود ذلك كون قوانين لم الشمل أخذت تتيح لهن استقبال الأزواج والأطفال لاحقاً، فضلا على أن تغيير العلاقات بين الجنسين في بلدان المنشأ، أخذ يعني أن النساء صرن يتمتعن باستقلالية أكبر للهجرة مقارنة بذي قبل. وأخيرا، وفي آسيا خصوصا، زادت معدلات هجرة النساء من أجل العمل المنزلي.
وثمة اتجاه آخر في ظاهرة الهجرات الجديدة يتمثل في تلاشي التمييز التقليدي بين بلدان المنشأ والعبور والمقصد، واليوم تقوم كل دولة في العالم تقريبا بجمع الأدوار الثلاثة؛ إذ يغادرها المهاجرون، أو يعبرونها او يقصدونها، كما أن النمط التقليدي المتمثل في الهجرة مرة واحدة، ثم العودة للوطن، أخذ في التلاشي تدريجيا. ويهاجر عدد متزايد من الأشخاص عدة مرات خلال حياتهم، غالبا إلى بلدان أو أجزاء مختلفة من العالم، ويعودون إلى ديارهم في الفترات الفاصلة.
التحويلات الاجتماعية
وعلى صعيد الدور الثقافي للمهاجرين اليوم، يرى المؤلف أن الهجرة الدولية تلعب دورا مهما في الشؤون الوطنية والإقليمية والعالمية. وفي العديد من البلدان النامية تعد الأموال التي يرسلها المهاجرون إلى أوطانهم مصدر دخل أهم من المساعدة الرسمية التي تقدمها البلدان الغنية، وتظهر التقديرات أنه في عام 2015، أرسل المهاجرون نحو 586 مليار دولار إلى بلادهم، لكن المهاجرين أو اللاجئين لا يسهمون في النمو الاقتصادي وحسب، ففي الواقع، ومن المرجح أن ثمة فكرة مثيرة للاهتمام وهي فكرة «التحويلات الاجتماعية» وهو أن الأشخاص لا يرسلون الأموال إلى الوطن وحسب، بل يمكنهم أيضا نقل الأفكار الجديدة والممارسات الاجتماعية والثقافية وقواعد السلوك، كما نلاحظ أنه في بلدان مثل أستراليا والولايات المتحدة وبريطانيا، بات المهاجرون يتحدثون لغات مختلفة، ويحافظون على عادات وديانات وأساليب عيش مختلفة، وهو ما يخلق الظاهرة التي يخشاها القوميون أكثر من غيرها، وهي الولاء المنقسم المحتمل للأشخاص الذين لديهم توجه نفعي، وليس عاطفيا، نحو عضوية الدولة، وهو ما يعني أن نمو النزعة عبر الوطنية على المدى الطويل قد يؤدي إلى إعادة التفكير في محتويات المواطنة ذاتها.
وعلى مستوى تشكل شبكات المهاجرين، يرى المؤلف أن ثورة الاتصالات قد لعبت دورا كبيرا في هذا الجانب لسببين: أولها انها جعلت الناس على دراية بالفوارق وكيف تبدو الحياة في أجزاء أخرى من العالم، والثاني هو توعية الناس بفرص الانتقال والعمل في الخارج، ولذلك أخذ معظم المهاجرين ينتقلون إلى بلدان لديهم فيها أصدقاء أو أقارب، بحيث يشكلون ما يشار إليه غالبا باسم شبكات الهجرة عبر الوطنية. وقد أظهرت بعض الدراسات أن شبكات الهجرة تشجع الهجرة بثلاث طرق رئيسية: أولا، أنها توفر المعلومات، وغالبا ما تستفيد من تكنولوجيا الاتصالات الجديدة. ثانيا، أنها تمول الرحلات عن طريق إقراض المال للمهاجرين، وثالثا، ثبت أيضا أنها تلعب دورا حاسما في مساعدة المهاجرين الجدد على الاستقرار من خلال توفير مكان مبدئي للإقامة، ومساعدتهم في العثور على وظيفة.
هل يعود اللاجئون لأوطانهم؟
وحول عودة المهاجرين أو اللاجئين لأوطانهم، في حال استقرت الأوضاع التي دفعتهم للرحيل، يعتقد كوزر أن المسألة ليست بتلك البساطة، لأن فكرة الحرب التي دفعت بملايين السوريين مثلا للهروب والهجرة، لا تنتفي بمجرد وقوف إطلاق النار، أو توقف القتال. وفي هذا السياق، يعود المؤلف لسرد الخصائص التي وصفتها الباحثة ماري كالدور حول الحروب الجديدة، خلافا للحروب السابقة؛ فالنزاعات اليوم كما ترى ماري كالدور، تدور تقريبا داخل الدول على أسس عرقية ودينية، وليس بين الدولة، كما أصبحت الحرب غير رسمية أو مخصصة، ما يعني أنه بشكل متزايد لا تخوضها الجيوش المحترفة، وإنما الميليشيات، أو مجموعات المرتزقة، كما أن النزاعات الحديثة غالبا ما تنحو إلى الاستمرار أو التجدد مرة أخرى، وأحد الأسباب هو أنها قائمة في الأساس على الانقسامات التي تستمر إلى ما بعد أي تسوية سلمية، ومن الممكن أن تعاود الاشتعال، ولذلك يعتقد المؤلف ان فكرة عودة اللاجئين لأوطانهم تبقى صعبة، وهو ما يثير عادة إشكاليات في البلدان المضيفة، حول تأثيرات بقائهم السلبية، وبالأخص الاقتصادية، وهنا يقترح المؤلف النظر لهذا الجانب من زاوية الأمد الطويل، إذ يؤدي استعداد المهاجرين أو اللاجئين لتولي الوظائف المنخفضة الأجور، والمستويات العالية من الطموح، التي يظهرها العديد من المهاجرين، والمرونة التي تأتي من الحصول على امداد منتظم للعمالة، إلى زيادة العوائد على رأس المال المستثمر، ولذلك يمكّن عملهم البلد المضيف من الحفاظ على قدرته التنافسية في صناعة ربما تخسر أمام المنافسة الدولية، لولا وجود المهاجرين واللاجئين، وهنا لا ينفي أن هذا الأمر قد يتسبب في إرجاء إعادة هيكلة الصناعات وإعادة تنظيمها، أو على صعيد توافر فرص العمل للمواطنين الأصليين، وعلى مستوى أجورهم، مع ذلك فهو يقلل من هذين الجانبين لأنه في معظم دول العالم يسمح للمهاجرين بسد الفجوات في سوق العمل المحلية.
ويخلص المؤلف لفكرة، وهي أن الصورة الأوضح التي أثرت بها الهجرة في المجتمعات والثقافات في جميع أنحاء العالم، هي جعلها أكثر تنوعا. وهناك أمثلة كثيرة على هذا، فقد نشأت أنماط موسيقية متنوعة من موسيقى الجاز والريغي والبانجرا في مجتمعات المهاجرين، كما أتاح هذا العالم التعرف على مؤلفين مهاجرين مثل حنيف قريشي، كما أن ازدياد النزعة العابرة للحدود، باتت تعني زيادة أعداد المهاجرين ممن لديهم هويات ثقافية مزدوجة، أو متعددة، كما أن وجود هؤلاء أخذ يؤدي إلى إعادة بناء الأماكن والمواقع، وبعبارة أخرى يمكن للمهاجرين تغيير شكل مجتمعات المقصد، بحيث تذكرهم بمسقط رأسهم، وهو ما نراه اليوم بشكل جلي في حي الفاتح في إسطنبول، الذي تحول مع قدوم السوريين إلى حي تجاري واسع، ما خلق مئات الفرص الاقتصادية، ليس على صعيد اللاجئين السوريين فحسب، بل على صعيد الأتراك أيضاً، كما أن الزائر لحي زيتن بورنو في المدينة ذاتها، سرعان ما سيلاحظ ما أضافه الأفغان من نكهات جديدة على الحي وإسطنبول عموما، خاصة عندما يتذوق الأرز الكابولي (كابول) إذ يدرك حينها أن كل ما ذاقه من أرز في طرف، وتجربة تذوق الأرز الأفغاني في طرف آخر، وقد يدفعه مذاق هذا الأرز ربما إلى السؤال حول أسباب عدم تخصيص جائزة نوبل الثقافية لأحد الطباخين، خاصة أن دورهم اليوم بات أكثر تأثيراً من عالم الأدباء والرواية، وهو ما كان ليتم لولا عالم اللجوء والهجرة.
كاتب سوري
القدس العربي