شعر

عملٌ لا يأتي إلّا من الريح/ لويس غارسيا مونتيرو

“الجحيمُ هو الآخرون”، هذا ما وصل إليه سارتر في مسرحيته الوجوديّة “جلسة سرّية”. ولكن هنا الأمر مختلف تماماً، فمكان الأزمات الوجودية والاجتماعية والسياسيّة ليس الآخر فحسب، بل الذات أولاً. حقاً، إن الجحيم لا يكمن إلا فينا.

لقد أغلق الشاعر الإسباني لويس غارسيا مونتيرو Luis García Montero (مواليد غرناطة، 1958)، باب الوجود على ذاته، ليبحث، شعرياً، في جلسة سرّية مع نفسه، جذور أزمة الوجود الكامنة فيه. والنتيجة كانت ديوانه الشعري الصادر عن دار Visor تحت عنوان “سرّياً”، والذي نترجم هنا مختارات من قصائده.

على مفترق زمن مظلمٍ، يكتبُ الشاعر معالم يوميات هويّة لا تعيش إلا في هشيم الجحيم. يعكس الشاعر إلى أيِّ مدى أصبحت الأزمات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي يعيشها إنسان اليوم أزماتٍ حميميةً، وإلى أيّ مدى تتداعى الأسس والقيم والمشاعر التي شيّد عليها عالمه. هكذا في لحظة وجوديّة حاسمة، يقرّر الشاعر أن يبحث في خريطة الفشل الجماعي عن أسباب الحيرة، والتدهور، وخيبة الأمل، والغضب، والحزن، ولكن عن الحبّ والحنين والصداقة أيضاً.

هنا، بشكلٍ خاصٍّ، يسأل الشاعر: هل ثمة من إمكانية لإعادة البناء وسط هذا الخراب اليومي الذي نعيشه؟ هل ثمة إمكانية للمسامحة؟ هل هنالك مكانٌ للحب؟ لعل الأنقاض تسعفنا، كشكل من أشكال الأمل، يصرخ الشاعر بحسرة، واثقاً بقدرة الشعر على أن يكون الشعاع الذي ينير هذا العالم المظلم، على أن يكون عنصر الوضوح، والوعي والتحوّل.

يحلم مونتيرو بزمن جديدٍ وأفكارٍ تجعل ذلك ممكناً، فهو يعيش في زمن “يحتضر الضوءُ فيه”، لكنه مع ذلك لا يزال يحتفظ بأمل الانتظار.

طرقٌ، ذاهبةً عائدة

خارجاً مني

داخلاً إليَّ،

الذئبُ يفتحُ فيَّ طريق ذهابٍ وعودة.

يعضُّ قلبي لكي يزرع شجرة

يعدو بين ذكرياتي بحثاً عن مرآة.

وحين يرى المدينة خارج جسدي

يقتربُ حتى الدمع

ثم يطأ ظلّي لكي يبقى مع الخوف.

ريحُ الجسد تأخذه إلى ألمي

والملاءات تتجعد بين دعساته.

طريقُ الرّجعة حلمٌ فيّ،

والبقية كلماتٌ:

كلماتٌ في العين،

كلماتٌ تذهب

وأخرى تعود القهقرى.

■■■

وقت بين موسمين

ضد جسدي

ضد ذاكرتهِ وأسبابهِ،

التاريخُ يعودُ بي إلى امتحان الحياة

كما لو أنني أعيش مراهقةً ثانية.

وأعودُ لأخافَ مما أحبُّ:

رفاهية هذا الوقت من زمني المتأخر.

لا أريدُ عالماً يفكرُ ويحبُّ ويفيض بقوانين

الآخرين الصاعدة من الطابق السفلي. 

أريد غرفةً حتى في بيتٍ يكون شجرةً مريضة.

هنا الذاكرة، هنا سنوات الحلم،

مطرُ الطّرق في كلّ كتابٍ قرأته،

ونافذةُ كل مدينة زرتها

لا أحتفظ بها إلا في ثوبي.

وأتقصّى في مدينة اليوم

خطى الحلم،

أتقصّى النجاح وقلقي،

أتقصّى كل خيانةٍ وولاءٍ

مع كل فجرٍ متآمرٍ

غير أنها لا تُدرَكُ في دفتر خيباتي وأملي.

لهذا أجول في هذا العالم،

أتحدّث، أرفضُ، ألعنُ، وأثمل

أحمل عبء الوقت العابر

لكلّ من يحرقُ يديه بهذي الشمس الجديدة،

وهذا القمر الفتيّ.

داخلاً، خارجاً،

أهرب من مرايا المقاهي،

كي لا أتعرّف، صدفةً،

على نفسي.

لا يهمُّ

سافرت أم بقيت

ما يهمّ، حقاً، أن تكون متوجّساً

وأن تعيش في أرقِ.

■■■

المرآة الأخرى

أراكَ تقودُ على طريق المساء.

بعيونٍ مسمّرة.

تعود إلى مدينتك

تاركاً على حافة الطريق،

خلفك،

حياتك، والحبَّ

كأنهما شجرةٌ عارية.

لا تنخدع،

إنَّ أوراقها دائمة الخضرة.

الشيخوخة

هي عادة الوجه أن يفاجئ التجاعيد،

أن يواجه هويته الخاصة،

تلك السيرة الملتبسة

للقاتل البريء.

كمثل كل الأقدار المبتذلة،

قدرُكَ يقيمُ في بِقعِ جلديّ:

وهنٌ بجلدٍ ذئبي.

السرعة والبطء

لا يتجادلان من أجلنا

على جانبي المرآة.

إشاراتٌ، إرثٌ وآثار.

حين تصلُ إليَّ

لن يكون قلبي،

سأكون أنا من يفكرُ في كلّ شيء.

■■■

طريق الظل

أنتَ لا تسكنُ في هذا العالم

لا تستطيع أن تقيمَ في أُغنية مجروحة

أو في وردة ربما كان اسمها العام 2014،

أو في أثرٍ تركته الذكرى

حين مست ساعات الموت بيديها.

أنت لا تسكن في هذا العالم.

مع ذلك، لست غائباً.

أنتَ من لم تكن

أنتَ من لم يحدث

وأنت ما مرَّ دون أن يرى الفجر.

ربما لأن الظل كان أكبر،

إمبراطورية هذا العالم لا تريد أن تراني.

■■■

إرادة

في مقعدِ القمرِ الأصفر

أجلسُ وأقلّب دفتر أيامي.

بنافذة مكسورةٍ

ورأسٍ شامخ أصرخ:

لم أعد موجوداً.

أنهضُ وأتركُ مدينة نائمةً

وأخرى ساهرةً خلفي.

لا أريد أن أكون هناك،

أريد أن أقلِّبَ دفتر أيامي

أن أقرأ فيه أنني

لن أضيع في مقعد القمر الأصفر.

■■■

جغرافية

لا يابسة خلف البحر،

لا شيء إلا سفنٌ

ونسيان من زبدٍ رمادي.

لا ليلَ خلف الجبل الذي يعلن الفجر

لا مدينةٌ نائمة

ولا زرقة،

العالم مسجونٌ

والكلمات محاطة بأظافر قطّة.

لا حلزون خلفي،

ولا يابسة خلف البحر.

ليس ثمة إلا حبٌّ حيث يُسمَعُ الموج.

■■■

بطالة

كلماتُ الشتاء تنده لي

أدخل فيها.

تتأسف مني دون أن تنظرَ إليَّ:

لم أعدْ أعمل فيها.

أعود للربيع

وأحزم فيه صندوقَ أشيائي الأسود:

الشمسُ، الغصن الأخضر

وأشعاري.

آخذ أشيائي إلى صيفٍ مغلق

لا عمل فيه

إلا صوت منبّه حزين.

أتنهدُ الخريف

وكياني الممحي.

همس أوراق صفراء يخبرني

عن عملٍ لا يأتي إلا من الريح.

■■■

نوافذ مغلقة

كانت الكلماتُ البسيطة مرتاحةً

في أفواه البشر تحت شمس الظهيرة

حين جاءت هذه القصيدة

وأغلقت عليها في البيت،

وصارت ضحية الظل.

لا شيء يمكن أن أتوقعه من زيارتها

لذلك الغيتار الأسود،

إلا أفكارٌ بائسة

وخيبات أملٍ ملتهبة.

يتحدثون عن الفجر ويسقط الرماد

يبحثون عن البصر ويجدون العماء

كلما لفظنا كلمة العالم.

إن لم يبق شيء داخل الحلم،

دع الكلمات تتنفس لغة الشارع.

■■■

الساعة الأخيرة

ليس الوقت نهراً.

ليس صوتاً في نبعٍ

أو رملاً يمرّ بين الأصابع.

ساعة على جدار

هذا هو الوقت.

وعلى الجدار أضع نفسي،

بلا احتجاج،

بعينين وذراعين مفتوحين

لكي تطلق النار عليِّ.

* تقديم وترجمة: جعفر العلوني

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى