صفحات الثقافة

الشتاء المظلم: هل لدى الثقافة المعاصرة ما تقوله عن قضايا «الخبز والزبدة»؟/ محمد سامي الكيال

يبدو أن العالم، في أزمة وباء كورونا الراهنة، يواجه مخاطر ملموسة، أكثر من تحذيرات بعض المفكرين والسياسيين من نمط جديد من الديكتاتورية وأنظمة الرقابة والتحكّم، بناءً على «حالة الاستثناء الصحي». فالأزمة الاقتصادية، الناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وانقطاع سلاسل التوريد، وديون الشركات العقارية الصينية، باتت أمراً واقعاً. وهي لا تهدد فقط المنظومة المالية، أو حتى فرص عمل ملايين البشر واستقرارهم في مساكنهم، كما حدث عام 2008 بل وصل الأمر ببعض المختصين للتحذير من مجاعات كبرى.والحديث عن شتاء مظلم طويل، قد يعاني فيه الناس كثيراً لتأمين وقود التدفئة والمواد الغذائية الأساسية.

رغم هذا لا تتخذ قضايا مثل التضخّم وفقدان المواد الضرورية للحياة مكانة مركزية في النقاشات الثقافية – السياسية المعاصرة، ولا تبدو لائقةً بها. فمناقشة ما هو اجتماعي أو معيشي على المستوى الثقافي ما يزال يعتبر ردةً غير حميدة إلى نمط التفكير الاقتصادوي والطبقي. وحتى في أوساط ما يسمى «يساراً راديكالياً» يتخذ تفريد الهويات وتكثير الذاتيات، مكانة سابقة للمطالبة بقضايا تعاني منها أكثرية من الناس، باتت متناً اجتماعياً متشابهاً، ليس برغبتها، بل بسبب تعرّض أفرادها لمعاناة متشابهة، في ظروف عملهم ومعاشهم. وهو ما تعتبره المفكرة الأمريكية نانسي فريزر تخلّياً يسارياً عن قضايا «الخبز والزبدة» لمصلحة التماهي مع طروحات «النيوليبرالية التقدمية» عن «الاعتراف».

يظهر الوضع الحالي أكثر سوءاً من أزمات مطلع العقد الماضي، عندما انهارت الدول، التي تعتبر الحلقات الأضعف من المنظومة العالمية، ومنها عدد من الدول العربية. وحين سعت موجة الاحتجاجات العالمية آنذاك للتفكير ببدائل عن منظومات السياسة والاقتصاد القائمة، وكان أقصى ما توصّلت إليه احتلال بعض الأماكن والميادين العامة، وتكثيف ضغط «الشارع» على النخب السلطوية، دون تقديم مطالب متماسكة، أو السعي لاستلام السلطة. الأمر الذي عدّه المفكر الإيطالي أنطونيو نيغري حالة من «ازدواجية السلطة» بين الجمهور والدولة.

اليوم لا أحد في الشوارع إلا المتظاهرون ضد إجراءات مواجهة تفشي كورونا، الذين تتهمهم وسائل الإعلام السائدة بالجهل واليمينية، وما تزال النقاشات الثقافية مشغولة بقضايا يمكن إدراجها في خانة مواجهة «العدوان المصغّر» على الحساسيات الفردية والهوياتية. فلماذا تبدو المفاهيم الثقافية السائدة حالياً عاجزة عن تمثيل الأزمات، والاستجابة للتهديدات المعاصرة؟ وهل «الخبز والزبدة» لا يصلحان فعلاً لبناء ذاتية سياسية جمعية جديدة؟

مشكلة المساواة الشكلية

الحشد المبني على الذاتيات المتفردنة، يثير تساؤلات كثيرة عن قدرة الأفراد غير المتراصين تنظيمياً، في كيانات جمعية مركزية، على مواجهة القوى المتنفّذة، التي تتسم بهياكلها الراسخة: الشركات الكبرى وجماعات الضغط والدول بأجهزتها العنفية والأيديولوجية. ربما تكون الهيمنة سائلة في عصرنا، كما يؤكد كثير من المفكرين، لكن أجهزة السلطة وأدواتها ما تزال شديدة الصلابة، وتظهر صلابتها بكل وضوح وقسوة في الأزمات وحالات الاستثناء المتكاثرة مؤخراً.

الذات المفردنة، التي ألفت السيولة في تعريف ذاتها والعالم، وتم تهجيرها من كل سياق اجتماعي وثقافي مترسّخ، تواجه ورطةً كبيرة في العلاقة مع تلك الكيانات الضخمة: من الناحية القانونية البحتة تمتلك كل شركة أو مؤسسة أو حتى حكومة شخصيةً اعتبارية، تجعلها ذاتاً قانونية، تماماً كالأفراد. وهكذا قد يجد أي شخص نفسه في مواجهة مع تنظيم سلطوي هائل، يفترض القانون تساويه معه. أنت ذات وشركات ضخمة مثل «تيسلا» أو «أبل» ذات أيضاً، وعلى هذا الأساس تتم تعاقداتك وعلاقاتك وبيع قوة عملك وإجراءات التقاضي أو فض النزاعات.

لطالما أكد كثير من المفكرين والحقوقيين على التوتر بين المساواة القانونية الشكلية والمساواة الاجتماعية الملموسة. إذ لا يمكن الحديث جدياً عن مساواة بين شخصيات اعتبارية بينها فروق هائلة في القوة. والحل في ما مضى كان قدرة الأفراد، من الفئات الأضعف، على تأسيس كيانات ضخمة بدورها، ذات شخصيات اعتبارية قوية، تمثّلهم في أنظمة السياسة والقانون. والتجسيد الأبرز لتلك الكيانات كان النقابات، أي اتحادات الشغيلة، التي كانت يوماً ما قادرة على إغلاق بلدان بأكملها، وحرمانها من السلع والخدمات الأساسية، إن اعتدى أحد على حقوق عمالها، والتي دخلت في مفاوضات جماعية كبرى مع الحكومات والشركات الكبرى. وكانت ركيزة أي سياسة اجتماعية، سواء في نموذج دولة الرفاه الغربية، أو نموذج التنمية العائد لدول ما بعد الاستقلال في العالم الثالث.

بهذا المعنى مكّنت المساواة القانونية، رغم شكليتها، البشر من صياغة تنظيمات جمعية، حققت لهم شيئاً من المساواة الاجتماعية الفعلية أمام السلطات الأكثر جبروتاً، وقد تم ضرب هذا التلازم القلق بين المساواة القانونية والاجتماعية عبر السياسات النيوليبرالية، التي احتفت بتنوّع الذوات الفردية ومرونتها وقدرتها على انتهاز الفرص، وهي تحطّم النقابات في الوقت ذاته.

كان إعلاء الهويات السائلة وحساسياتها، من ضمن احتفاء الأيديولوجيا النيوليبرالية بـ«المرونة الفردية». «لا يوجد مجتمع، وإنما رجال ونساء وعائلاتهم» حسب تعبير رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر. بالنسبة للمفكرة البلجيكية شانتال موف نجحت ثاتشر بتأسيس «حس سليم» هيمنت به حتى على لا وعي معارضيها من اليساريين. وجعلت الصراع السياسي يجري ضمن مصادراته وبديهياته، فلم يعد «التقدميون» في عصرنا متقبلين للحديث عما هو كلي وشامل وعابر للتفرّدات الذاتية، لأن الاجتماعي العام، الذي ينتج شخصية اعتبارية موحّدة للناس، سيكون بالتأكيد مستبعداً لحساسيات وقضايا بعض الهويات المهمشة، المتكاثرة بلا نهاية، ولذلك فالأفضل أن يستمر اختلال القوة الهائل بين الذات المفردنة والمؤسسات الضخمة. وكله يهون في سبيل التنوّع وحساسياته. وقد يكون «حس ثاتشر السليم» هذا من أهم أسباب عجز مفاهيم ما يسمى «يساراً» في أيامنا عن تقديم بدائل للبشر، يمكن أخذها على محمل الجد.

المساواة عبر التمكين

لا يقصّر «التقدميون» المعاصرون في نقد المساواة القانونية الشكلية، أو توضيح قيامها على أساس اختلال كبير في علاقات القوة، فالنساء لا يتمتعن بقوة الرجال ذاتها في مجتمع ذكوري. وبالتأكيد يعاني المثليون والملونون كثيراً في مؤسسات «الرجل الأبيض المغاير» إلا أن الحل الذي يقترحونه يتم على مستوى التفرّدات الذاتية: «التمكين» و»تصديق الضحية» هكذا يمكن معالجة «الاختلال الهيكلي» في علاقات القوة عبر التمكين المؤسساتي لأفراد يُفترض أنهم يمثلون هوياتهم المهمشة، وانتقاد القوانين التي لا تتفهّم تجارب الضحايا، ما يجعل الانحياز، شبه القَبَلي، لإفادات الأفراد «المهمشين» ضرورةً لمعالجة التمييز البنيوي.

إلا أن هذا المنظور يسكت غالباً عن اختلال القوة على المستوى الاجتماعي الأكبر، أي بين المؤسسة السلطوية والفرد المعزول. ويجعل «التمكين» من مسؤولية المؤسسة، ما يرسّخ قوتها وهيمنتها، والأهم أنه يكرّس تشتت الذوات المفردنة، فالأفراد المحظوظون، الذين نالوا ميزات «التمكين» عبر أداء دور الضحية، يقومون بعملية غسيل لممارسات السلطة، أي أنهم يعطونها إمكانية الظهور بهيئة المتسامح المكافح للتمييز، فيما يبقى كل شيء على حاله، من حيث استمرار الإفقار والتمييز بحق المجموعات الأضعف والطبقات الأدنى. بهذا المعنى فربما لا مناص من التمسّك بالمساواة القانونية الشكلية، فصياغة شخصية اعتبارية موحّدة لتلك المجموعات أجدى من «تمكين» أفراد منها، يستفيدون من الوضع القائم، فيما يكافح البقية لتأمين الأساسيات الأبسط للحياة. حتى «العابرون جنسياً» و«الكويريون» بحاجة، مثل الذكور البيض، للخبز والزبدة ووقود التدفئة. ولشيء من حقوق العمل العادلة.

الخبز والسلام

بالعودة لشانتال موف، التي اقترحت ائتلافاً بين مختلف فئات الحشد المفردن، يجعله «شعباً» فإن بناء «دوال هيمنة» أمر ضروري لصياغة ذات جمعية في مواجهة الطغمة المتنفّذة. والمقصود بدال الهيمنة زعامة كارزمية، أو شعار سياسي أو مطالب فئة معينة، قادرة على جمع البشر متعددي المطالب تحت راية واحدة. ومن الأمثلة، التي طرحتها المفكرة البلجيكية، الحيثية التي اكتسبتها الحركة النسوية في تصليب مطالب فئات متعددة ضمن جبهة واحدة.

ربما فات موف أن الحشد القائم على إبراز وتكثير الهويات والذاتيات سيظل مائعاً ومنقسماً، ما دامت كل هوية تحمّل هويةً أخرى في الحشد نفسه مسؤولية مظالمها التاريخية. وقد يكون السعي لتشابه وتماثل رفاقي أجدى من لقاء الحلفاء المشتت ذاك. المثال الأفضل قد يكون شعار «الخبز والسلام» الذي طرحه البلاشفة قبيل الثورة الروسية: لم تكن مكانة لينين آنذاك قد ترسّخت بوصفه زعيماً كارزمياً أوحد، فقد كان له كثير من المنافسين والمنتقدين، لكن التركيز على مطالب البشر، التي تماثلت في ظل الحرب والأزمة، مكّن حزباً محدود التأثير من بناء «دال هيمنة» غيّر العالم. لا يعني هذا بالتأكيد الدعوة لاستنساخ أساليب الشيوعية في مطلع القرن الماضي، لكنه يشير إلى أفق أبعد من النرجسية الذاتوية الحالية. ربما يكون أنسب لأزماتنا المعاصرة.

كاتب سوري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى