دستويفسكي: وشاح روسيا أم العداء للسامية؟/ صبحي حديدي
في التوقف عند الذكرى الـ200 لولادة الروائي والقاصّ الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 1821 – 9 شباط/ فبراير 1881)؛ لن تناقش هذه السطور، وليس في هذا المقام تحديداً، السمات الكثيرة التي اقترنت بأدبه، حول المحتوى والشكل والسياقات التاريخية والموقع الخاصّ ضمن الأدب الروسي والعالمي. ثمة، في المقابل، قضايا أخرى عديدة، شائكة بقدر ما هي شيّقة، تصحّ الإشارة إليها حتى بما هو متاح في هذا العمود من اشتراطات الحجم والطابع الصحافي للمادّة.
الواجب، في مستوى أوّل، يقتضي استذكار سيرته الكبرى، الفريدة، التي وضعها الناقد الأمريكي جوزيف فرانك، في خمسة مجلدات، تبدأ من سنة الولادة وتنتهي عند سنة الوفاة؛ وتسجّل محطة كبرى فارقة، ليس على صعيد الأعمال الكثيرة التي كُتبت في تدوين سيرة دوستويفسكي، وبعضها اتخذ صفة الأعمال الروائية والتخييلية («معلّم بطرسبورغ»، 1994، للروائي الجنوب أفريقي ج. م. كويتزي مثلاً)، فحسب؛ بل كذاك، وجوهرياً ربما، في مستوى ما يمكن للسيرة أن ترتاده في، وتكشفه عن، مفاعيل الكتابة السياسية والأخلاقية والنفسية والميتافيزيقية خلف سرد وقائع حياة الكاتب ذاتها.
وهكذا، حمل المجلد الأوّل عنوان «دوستويفسكي: بذور التمرّد 1821-1849»، حيث دشّن فرانك أطروحته المركزية بأنّ أعمال ذلك الأديب الروسي «تركيب فنّي عامّ ولامع للمسائل الكبرى في زمنه»؛ ينتهي إلى إعادة بناء الحياة الاجتماعية – الثقافية لعصره. المجلد الثاني صدر بعنوان «دوستويفسكي: سنوات المحنة 1850-1859»، وتناول أنساق العزلة التي سيق إليها الرجل، إرادياً أحياناً أو قسراً أحياناً أخرى، ضمن مناخات استقبال أعماله الأولى والسجن والمنفى السيبيري والخدمة العسكرية. المجلد الثالث، «دوستويفسكي: حراك التحرير 1860-1865»، يساجل بأنّ هذه السنوات الخمس كانت حاسمة تماماً لجهة تكوين سياسي -ثقافي وفلسفي نجم عن سلسلة عوامل؛ بينها العودة من المنفى، والعمل في الصحافة المباشرة، والاقتناع أكثر فأكثر بالأبعاد السلافية للقومية الروسية. الرابع، بعنوان «دوستويفسكي: سنوات الإعجاز 1865-1871»، يذهب فيه فرانك إلى مرحلة النضج القصوى كما تمثلت في ثلاث روايات («مذلّون مهانون»، «بيت الموتى»، و»الجريمة والعقاب») وروايتين قصيرتين، نقلته من صدارة الرواية الروسية إلى مصافّ عالمية. المجلد الخامس والأخير، «دستويفسكي: وشاح النبي 1871-1881»، يختتم حياة الرجل، ويمنح فرانك فرصة تبيان منهجيته المركزية في المجلدات الخمسة، من حيث أنه كان فيها ناقداً أدبياً وليس كاتب سيرة تقليدياً.
الواجب، في ظنّ هذه السطور أيضاً، يقتضي تالياً عرض (وليس البتة المساجلة مع) الرأي الذي أشاعه عدد من النقاد في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة خصوصاً، القائل بأنّ دوستويفسكي كان معادياً للسامية؛ على أساس من أدلّة نصّية مستقاة من بعض أعماله الروائية (شخصية المرابي اليهودي إشعيا فوميتش في «بيت الموتى»، أو آراء أيليوشا حول اليهود واليهودية في «الأخوة كارامازوف»، مثلاً)، من جهة أولى؛ ولكن أيضاً اعتماداً على أقوال وكتابات وتصريحات صدرت عن دوستويفسكي خارج سياق الكتابات الأدبية، من جهة ثانية. معروف، على سبيل المثال فقط، أنه كتب التالي: «ليس من دون سبب أنه هناك في أوروبا يتحكم اليهود بكلّ أسواق البورصة ويسيطرون على رأس المال، وهم سادة الإقراض، وأنهم سادة السياسة الدولية، وما يمكن أن يحدث في المستقبل معروف من جانب اليهود أنفسهم: سيادتهم وتمكّنهم!».
والحال أنّ الاحتكام إلى شخصية هنا أو اقتباس هناك، للجزم بعداء دوستويفسكي للسامية، قد يحقق بالفعل الغرض القريب المرجوّ من هذه الممارسة، غير أنّ النتيجة الأبعد سوف تتمثل في إسقاط «وشاح النبيّ» الروسي/ السلافي عن كتفَيْ أديب عذّبته روح روسيا بعد أن فتنته، وكانت الشروط الاجتماعية والاقتصادية والنفسية التي لم تتوقف عن نقل الروسي من محنة إلى أخرى هي المعمار الأكبر في أدبه. وأن يُقال بأنه كان معادياً للسامية، قطعياً هكذا، يعني التعامي التامّ، والبليد الغبيّ السطحي، عن مستويات الإيمان الميتافيزيقي المركّب التي تجذرت عميقاً في باطن الرجل؛ إذْ أنّ احتساب التاريخ في تلك الأزمنة، بمعنى أن يكون مُصدِر الحكم على دوستويفسكي تاريخانياً في الحدود الدنيا، سوف يضع في قلب النقاش حقائق الفلسفة الخلاصية المسيحية التي آمن بها دوستويفسكي، وكانت ترى أنّ الروس، وليس اليهود، هم شعب الله المختار!
لا يخفى، كذلك، أنّ الآراء التي يسوقها دوستويفسكي حول هيمنة اليهود على أسواق المال والصيرفة والسياسة لم تكن «علامة فارقة» نادرة تُعتمد لوسم الرجل بالعداء للسامية، لأنّ قناعات مثل هذه كانت سائدة وشائعة وشبه مسلّم بها على نطاقات واسعة في الغرب عموماً، وليس في روسيا وحدها؛ فضلاً عن أنّ خلفياتها السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية كانت، بدورها، على مقادير مماثلة من الرواج والتسليم. ومن البائس، جرياً على تسعة أعشار رفع فزّاعة العداء للسامية في وجوه روائي أو شاعر أو مفكّر، أنّ اختلاق التهمة يعادل عند المختلِق التضحيةَ بالقسط الأعظم من منجز الضحية موضوع الاتهام.
وأن يتحلى المرء بالحدّ الأدنى من الموضوعية، في سياق كهذا، يفترض ببساطة الإبقاء على ألوان الوشاح الذي خلعته الإنسانية على كتفَي دوستويفسكي، حتى إذا شاء البعض ممارسة المزيد من التفرّس والحملقة والتمعّن والتدقيق؛ بحثاً عن لون ما، أيّ لون، يفضي إلى تثبيت التهمة العتيقة.
القدس العربي