مراجعات الكتب

“ذاكرتان وخمس مدن”.. استعادة لذاكرة العراق وإصرار على الحرية/ دارين حوماني

يقول الشاعر إسكندر حبش إن كتاب “ذاكرتان وخمس مدن” (خطوط وظلال، 2021)، الحواري بينه وبين الشاعر صلاح فائق (1946)، ليس سيرة ذاتية للأخير، إنما أشياء عديدة تنتمي إلى سيرته الذاتية، فصلاح فائق لا يستغرق في لعبة الذاكرة التي هي بحاجة إلى حفر أكثر بل هي مفاتيح سيعود إليها لاحقًا ليكتب سيرته الذاتية الكاملة، وأما نحن، فسنعثر على عراق زمننا الحالي وذلك الزمن، زمن طفولة ومراهقة وشباب صلاح فائق. ثمة سيرة ذاتية للعراق؛ مقتل الملك فيصل وعائلته يوم 14 تموز/ يوليو 1958، كركوك المدينة الصاخبة بالصراعات القومية والأيديولوجيات والأديان واللغات والأوهام حول الانتماء والهوية، مكتبة كركوك العامة، مكتبة شركة النفط البريطانية ومجلتها “العاملون في النفط” التي كان يحرّرها جبرا إبراهيم جبرا، المكتبة الأميركية التي أُغلقت فيما بعد بسبب المشاعر المعادية لأميركا بعد انقلاب العسكر على النظام الملكي عام 1958، ثم استبدال كل ذلك بمساجد وحسينيات “بهدف الحفاظ على النظام الطائفي التافه”، مجزرة رهيبة بين التركمان والأكراد في كركوك في الذكرى السنوية الأولى للثورة أدّت عام 1963 إلى سقوط حكومة عبد الكريم قاسم واستلام حزب البعث الحكم في العراق لتبدأ سلسلة أخرى من الانقلابات والمجازر، عدم السماح بأي حقوق قومية للأكراد والتركمان والأشوريين، انطلاق المقاومة الفلسطينية، نكسة حزيران/ يونيو 1967، مطاردة الشيوعيين، انقلابات ومحاولات فشلت وفي كل مرة يُساق ضباط إلى ساحة الإعدام، وانشقاق في الحزب الشيوعي عام 1967 ليظهر حزب شيوعي جديد اسمه “القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي”.

عشر سنوات منتميًا إلى الحزب الشيوعي، سيتخلى صاحب “رهائن” عن هذا الحزب بعد أن انهارت قناعاته به ليبدأ بذاكرة أخرى خارج العراق: “لست ماركسيًا الآن، كنت شيوعيًا لعشرة أعوام، واكتشفت في هذا الزمن الطويل أني لا أعرف ماركس، حين قرأت بعض أعماله تأكدت من عدم علاقته بالشيوعية التي كان يروّج لها الحزب الشيوعي العراقي أو الأحزاب الشيوعية الأخرى”، ومنتميًا إلى جماعة كركوك الأولى التي ضمت فاضل العزاوي، مؤيد الراوي، وجليل القيسي، وأنور الغساني، ثم جماعة كركوك الثانية التي ضمت صلاح فائق وسركون بولص وجان دمو والأب يوسف سعيد وفاروق مصطفى ويوسف الحيدري، سيتم سجنهم وتعذيبهم بالتوالي على يد البعثيين بسبب انتماءاتهم الشيوعية وإصرارهم على حرية الفكر قبل أن يتشتتوا جميعهم في المنافي على سطح هذا العالم الحزين، وما بين سطور هذه الذاكرة الجماعية سيستعيد صلاح فائق شريط الأمس بحنين بالغ وسيمرّ على صور فوتوغرافية لطفولته “غير السعيدة”، ولأيام دراسته، وأول كتاب قرأه “مذلون مهانون” لدوستويفسكي في صف الخامس ابتدائي، وشربه النبيذ لأول مرة، وتسلمه أول نسخة شعرية له، وعشقه لصوت أسمهان، ويد أمه الكردية التي لا يزال ممسكًا بها رغم وفاتها قبل عشرين عامًا، وعلاقته المتوترة بوالده التركماني وتهديده المتواصل له بإخراجه من المدرسة وسخريته من شعره؛ “سألني أبي ذات مرة: قل لي أيها الشاعر، هل بإمكانك بيع قصيدة واحدة، وبذا اختصر فشلي ومحاولاتي الأدبية”.

أحزان مكتومة

ذاكرة صلاح فائق يكتبها إسكندر حبش مثل سلسلة مترابطة من الحكايات ثم يعود الأخير إلى استدراجه من جديد لبداياته وكأنها أحزان مكتومة يطلقها شاعرنا على دفعات، لنكون أمام عالم صلاح فائق الشخصي والخاص، ثم ننفتح معهما على ضياع الشعوب العربية وخيباتها. يتذكر الشاعر العراقي طفولته: “ربما كنت في الرابعة عشرة من عمري حين شعرتُ أني خارج كل دين، رجال الدين من مختلف الطوائف هم من المستغلين للجماهير الفقيرة ذهنيًا وسياسيًا وماليًا، أنظر إلى البلدان العربية لتجد تحالفًا بين السياسيين وقادة الدين للهيمنة بالعنف والكذب على مقدرات الملايين من الناس المعدمين.. ماذا حقّق رجال الدين لملايين الفقراء أو أضافوا للاقتصاد الوطني، لا شيء، استبدلوا فقط الجيوش بميليشيات طائفية وحولوا النساء إلى جاريات”، أما حكام العراق الحاليين فـ”لصوص.. نهبوا أموال العراق بمئات المليارات منذ الاحتلال الأميركي للعراق، وهذه الأموال موجودة في البنوك الأوروبية والأميركية والإيرانية.. العراق بلد محتل من أميركا وإيران ولن يعود إلى وضعه طالما هناك احتلال يكرّس بالعنف التخلف والأكاذيب الطائفية”.

هاربًا من ملاحقة البعثيين له وبمساعدة الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي كان مسؤولًا في وزارة الإعلام العراقية عام 1974، سيتمكن صلاح فائق من مغادرة بلده إلى سورية حيث كانت تتم طباعة مجموعته الشعرية الأولى “رهائن” (1975) على نفقة اتحاد الكتّاب العرب بتوصية من البياتي “الذي كان مشهورًا باكتشاف المواهب الجديدة والعمل على إنمائها أو عرضها، لم يساعدني أي أحد من أصدقائي إلى هذه الحد”. سينتقل فائق إلى بيروت ويلتقي بأدونيس وينشر في مجلة “مواقف” قصيدة “تلك البلاد” وبسببها سيعتقل البعثيون أخاه في كركوك وستبحث السلطات العراقية عنه. سيعود إلى سورية عند اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وبمساعدة مقاتلين شيوعيين سابقين سيتم تحضير هجرة أخرى له إلى لندن الباردة. وفي لندن سيعمل المناضل القديم مضطرًا في صحف ومجلات كان يحتقرها فكريًا وسياسيًا، “لأنها كانت ممولة من أنظمة تافهة كنظام القذافي أو العراقي أو السعودي”، وعند حصوله على الجواز البريطاني سيترك لندن إلى تركيا ثم إلى الجزر الفليبينية حيث سيبدأ بـنومه الطويل لنحو ربع قرن. هناك وبوعيه المتفرّد وجد خلاصه من “النفق الإعلامي الكريه”، فقد كان يحلم بالعيش في بلد هادئ بلا مشاكل وحروب وبلا عمل صحافي. في الفليبين خرج من ماضيه تمامًا وقرّر إحداث قطيعة مع كل عذاباته السابقة، قطيعة لم تحدث فعلًا، لكن تهدمت أوهام كثيرة في داخله وتجاوز تناقضات كانت تعيق آماله في أعوام كئيبة، والأهم من ذلك أنه “تحرّر من كوابيس الأديان ووعودها العجيبة وتهديداتها المضحكة بعقوبات ونيران”. ورغم أن الشعر الفليبيني لم يقدّم لصاحب “تلك البلاد” أي شيء مؤثر، إلا أن كتابة صلاح فائق تغيرت بشكل جذري لنجد شعرًا أقل قسوة وغضبًا ومفتوحًا على الطبيعة بعد أن تخلص من الكوابيس والشكوى في شعره ومن مازوخية شكّلتها الأوضاع الكابوسية في العراق إبان شبابه، “تعلمتُ أن أغني في شعري.. تمرنتُ على السخرية من معظم كتاباتي السابقة”، وكان ذلك نوعًا من النقد الجذري وتمهيدًا لمنعطف جديد حياتيًا وكتابيًا. وبينما كتب في لندن قصيدة “رحيل” (1987) من مائة صفحة، وصل شعره في الفليبين إلى قصيدة من سطر واحد وصورة واحدة.

تدمير العراق

عاد صلاح فائق في زيارة إلى العراق عام 2003 بعد احتلاله ليجد أن أمه وأباه وأخاه قد قتلوا جميعًا بسرطانات سبّبتها القنابل الفوسفورية والكيميائية التي ألقاها الأميركان على كركوك، وأن كركوك لم تكن كركوك الستينيات نفسها، “لم تعد مدينتي هناك، خرائب بعد خرائب.. واقتنعت أن كركوك خُطفت إلى مجرة غير معروفة”، فعاد إلى جزر الفليبين محمّلًا بشقاء العراق بعد نهب المتحف العراقي وإسقاط تمثال “الحاكم البائس” صدام حسين، “ما سقط لم يكن التمثال لكنه رمزيًا كان سقوط بغداد ثم فيما بعد العراق.. الاحتلال كان هدفه تدمير العراق وليس القضاء على صدام حسين وحزبه”.

لم يكتب صاحب “دببة في مأتم” (2013) يومًا قصيدة لتأييد حاكم أو سلطة في العراق وغيرها، “كنت كل حياتي ضد السلطات التافهة بسبب القمع وانعدام الحريات وحظر الإبداع”، وكان مثل أصدقائه في جماعة كركوك يعملون في مهن لا علاقة لها بالكتابة بسبب عدم الموافقة على نشر كتاباتهم في العراق، فلم يوفر لهم الأدب متطلبات العيش، كان الشعر بالنسبة إليهم توثيقًا لهمهم الوطني والثوري فقط، وكانت التهمة جاهزة، تخريب التراث العربي وتقليد الغرب، وأن كتاباتهم الشعرية تخدم أعداء الأمة العربية من استعمار وصهاينة. ومثلما خرج دوستويفسكي بعد حركة الديسمبريين في روسيا وبودلير ورامبو بعد الثورة الفرنسية ووالت ويتمان بعد تحرير أميركا، كانت جماعة كركوك نموذجًا للالتحام الفكري والنقدي والثوري والنص الأدبي والشعري المختلف والتخريبي، ويرى صلاح فائق أن هناك فرقًا بين جماعة كركوك وجماعة “شعر” اللبنانية، “على الرغم من إنجازاتها الرائعة، كنا جماعة متجانسة فكريًا وحزبيًا وسياسيًا، ولم تكن هذه حال الناشطين وكتّاب وشعراء مجلة شعر”. وفي سردية مشبعة بالحزن العميق والنوستالجيا إلى تلك الصداقات التي لا تموت، يحكي صلاح فائق عن مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة، وعن سركون بولص الذي ترك معه حزمة كبيرة من الأوراق ورجاه أن ينشرها بعد رحيله، فالتقى بالناشر خالد المعالي وسلمه إياها لينشرها الأخير في دار الجمل، وعن مؤيد الراوي، الرسام والعازف الذي هرب إلى لبنان فانتمى إلى المقاومة الفلسطينية ثم إلى ألمانيا الشرقية حتى رحيله المؤلم، وأنور الغساني صديق التشرد في أزقة بغداد والتي لا تزال عائلته تحتفظ بكتاباته التي لم ينشرها خلال حياته، وجلال القيسي الذي بقي حارسًا لمدينة كركوك. 

المطلوب تحرير المخيال

يتفادى صلاح فائق قراءة التنظيرات حول الشعر لأنها محاولات “لعقلنته”، والشعر لا يموت بل حماس الشاعر هو الذي قد يموت، والأدب ليس تحليلًا لأوضاع وإنما نقد راديكالي لها بلغة غير سياسية تدعو للشراكة العاطفية مع الأحداث. أما قصائد ماركس إلى جيني وكتاباته عن كومونة باريس ونقد نظرية الحق لدى هيغل فكلها شكلّت عمارة صلاح فائق الفكرية، و”كيف يتم تلفيق أصول عربية لعالم فارسي عظيم مثل الخوارزمي مخترع الأرقام العربية أو سيبويه مؤسس قواعد اللغة العربية، هي محاولات تافهة ضد تاريخ ثقافي كبير”. والقراءة عند صاحب “طريق آخر إلى البحر” لا تنتج وحدها شعرًا متميزًا ومختلفًا فالمهم هو التجربة الحياتية للشاعر، والمطلوب تحرير المخيال والذاكرة من ماضيهما الإرغامي أو القمعي في البيت والمدرسة والمجتمع، وقراءاته الأدبية تشكل واقعًا بديلًا عن البؤس والعنف والكآبة اليومية، وأما كتاباته الشعرية، ورغم انتمائه لمجموعة سوريالية في إنكلترا ووضعه في خانة الشعر السوريالي إلا أنه يتفادى الكتابة الآلية والمجاز والاستعارة والتشبيه التي هي كلها من أسس الشعر السوريالي، وكان شعره قريبًا منا ومن الأزقة والطرقات والعاطلين عن العمل والباحثين عن معنى لهذه الوجود المشبع بالحزن، ولكن كولاجاته كانت سوريالية وشارك في عدد من المعارض الفنية في لندن وويلز. وعن فلسطين قال إنه عندما كان شيوعيًا كان مؤمنًا بمفاهيم ماو تسي تونغ وجيفارا “وغيرها من الأوهام آنذاك” التي تبناها “الحزب الشيوعي الجديد” بأنه “لا يمكن حل قضية فلسطين بدون إسقاط الأنظمة العربية، لأنها من خلال خياناتها وتواطؤها مع الإمبرياليين صارت المعوق الأكبر لحل قضية فلسطين”، والحرب الأهلية في لبنان التي “لم تكن داخلية، وإنما كانت أنظمة عربية تغذيها بالسلاح”، والفساد في لبنان شأنه شأن بلدان عربية أخرى شرعي ويحميه القانون، وانفجار مرفأ بيروت الذي أكمل ما دفنته التيارات الدينية والطائفية من تحديث هو حدث عالمي والنظام هو المسؤول.

خلال إقامته في لندن اشترى صلاح فائق آلة الكلارينت وأصبح عازفًا، “كان سركون بولص يقول حين أعزف له بأن هذا ليس صوت الكلارينت بل صوت الـلـه”. وخلال إقامته في الفليبين صار صلاح فائق بوذيًا، ورغم أنه قرر أن يتوقف عن كتابة الشعر بعد تركه لندن إلا أنه كتب كثيرًا ولم ينشر أيًا من كتاباته. لكن ثمة معجزة أعادته إلى الحياة الشعرية وبشكل يومي، يرى فائق أن الإنترنت هو المعجزة، وأنه أنقذه من عزلته وينشر الآن يوميًا قصائده على الفضاء الأزرق منذ أن تعرّف على الفيسبوك عام 2012، وكما يرى إسكندر حبش فإن كتابة صلاح فائق الشعرية اليومية على صفحته الفايسبوكية هي نوع من استدراك زمن ضائع يحاول البحث عنه أو كأنه يغسل ذنوبه تجاه عمره الذي مضى بعيدًا عن الشعر فيعتذر بذلك له، ويردّ صاحب “سنواتي الأخيرة” (2017): “وجدتُ صعوبة في التعامل مع دور النشر فإما أنها تطلب مالًا لنشر مجموعاتي أو تنشرها بأعداد غير معروفة دون أي مكافآت لي، لذا قررت أن أطبع مجموعاتي نسخًا إلكترونية ليتسنى لمن يريد قراءتها أو حفظها مجانًا طالما أن دور النشر لا تعطيني حقي كمؤلف”.

لا يتردد صلاح فائق الذي نعت نفسه ذات يوم بأنه “عازف بيانو تحت حافر حصان” في إخبار إسكندر حبش أن هذه المراسلات معه يمكن وضعها في خانة الاعترافات، ورغم ذلك فإنه يعترف أيضًا بصعوبة الحديث عن مشاهد قاسية ومؤلمة عاشها في السجن وعن الأمراض التي أصيب بها خلال القتال في كردستان مع الحزب الشيوعي بمواجهة حزب البعث، هو أيضًا سيتفادى الحديث عن مشاعر الغربة التي تمكنت منه كثيرًا ومرارًا، وعلى طريقة فرويد في تفكيك الحالات النفسية المعقدة سيلجأ إلى كتابة سيرته الشخصية بكامل تفاصيلها ذات يوم.

عنوان الكتاب: ذاكرتان وخمس مدن المؤلف: إسكندر حبش

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button