مراجعات الكتب

«قلب من حصى» لعبد الرزاق غورناه: تصوير صادق لعالمين متباينين/ مولود بن زادي

كانت أمنية عبد الرزاق غورناه الكبرى، كسب المزيد من القراء وهو ما كشفه إثر فوزه بجائزة نوبل للأدب هذه السنة عندما قال، «كنتُ في حاجة إلى مزيد من القراء». فبعد مشوار أدبي طويل وحافل بدأه في ثمانينيات القرن الماضي برواية «ذاكرة الرحيل» 1987 وكلِّل بنشر عشر روايات كاملة، لم ينل عبد الرزاق غورناه حظه من الشهرة بعد – لا في بلده الأصلي تنزانيا، ولا في بريطانيا. شاءت الأقدار أن ينتظر إلى غاية 2021 لتتحقق أمنيته أخيرا بإقبال الجماهير المذهل على مؤلفاته، ما أدى إلى نفادها في الأسواق والمكتبات.

من الروايات المفقودة لكثرة الطلب «قلب من حصى» الصادرة عام 2017 التي لم أحصل على نسخة منها إلا بعد حجزها وانتظار أسابيع لاستلامها في إحدى مكتبات لندن.

ثورة جزر زنجبار

تحط بنا «قلب من حصى» مع بدايتها في جزر زنجبار في أعقاب الحكم البريطاني وما حلّ بها من اضطرابات وعنف وقمع على أيدي الثوار والنظام الجديد. وقد اختار المؤلف في هذه الرواية سردا يستخدم تقنية الراوي بضمير الأنا، متمثلا في البطل سليم، الطفل البالغ من العمر 7 سنوات. ويطبع الرواية نسق زمني كلاسيكي متنامي ومتسلسل في تطوره السردي والكرونولوجي في كامل أطوار القصة، انطلاقا من سنوات الثورة (1964-1975) التي أعقبت انهيار الحكم البريطاني والتي وصفتها عالمة الأنثروبولوجيا ماري أود فوري، من المعهد الفرنسي للأبحاث في افريقيا، بـ»السنوات المظلمة».. «كانوا يشاهدون ضباط الشرطة البريطانية وهم يتجولون مجردين من السلطة والنفوذ.. فخروج القوى الغاصبة وعملائها كان أمرا لا مفر منه».

معاناة بعد خروج البريطانيين

هلل كثيرون لانتصار الثوار وخروج البريطانيين وهم لا يدرون ما ينتظرهم في منعطف الطريق، «قالت والدتي: لا يمكنك أن تتخيل الوضع في ذلك الزمن! لا يمكنك أن تتخيل ما عاشه المواطن من رعب، واعتقالات، وموت، وإذلال». فبينما احترم البريطانيون حق الملكية العقارية، ها هم الثوار يستولون عليها قسرا، «تمت مصادرة أرض الأسرة ومنزلها ليكونا ممتلكات الدولة، ويتم تسليمهما لمتعصب أو مسؤول بالثورة أو لعشيقته أو ابن عمه. وجاء الإعلان عن المصادرة عبر الإذاعة، والتعليمات بإخلاء جميع المنازل المصادرة على الفور.. فانتقلوا للعيش مع جدتهم، تاركين وراءهم كل شيء باستثناء ما يمكنهم حمله في حقائبهم» ومن ممارسات الثوار المرعبة عمليات الاختطاف، «اختطف الثوار والدهم فلم يروه مرة أخرى، ولم يتم إرجاع جثته، ولم يتم الإعلان عن وفاته». وهكذا عاش المواطنون في ذعر لم يعرفوه من قبل، في وطن يرضخ للاستبداد والقمع، فلا مفر من أن «يفعلوا جميعا ما في وسعهم ليظهروا للرجال المسلحين أنهم مطيعون وغير مؤذيين ومثيرون للشفقة، لا يعرفون التحدي أو التمرد».

المعاناة من الحرمان

تستحضر «قلب من حصى» زمن وطن مغتصب وطفولة مغتصبة يعيشها سليم الذي يحرم من حنان والده بعد انفصاله عن والدته، ومغادرته البيت دون عودة، «لم أدرك معنى غياب والدي، حتى بدأت أخيرا أفهم أنه لم يعد يعيش معنا بعد الآن». غياب الوالد الطويل أثار اهتمام الصبي الذي راح يستفسر، «عندما سألتُ والدتي عن بابا في الأيام التالية، أخبرتني مرارا وتكرارا، أنه غادر لبضعة أيام. وعندما انتهت الأيام القليلة قالت إن والدي لم يعد يريدنا». ظلّ الطفل متعلقا بوالده، ولما علم بمكانه، زاره يحمل له طعاما، ففوجئ ببرودة قلبه وجفائه، «حتى في وقت لاحق، عندما قمت بتسليمه سلة طعامه، لم يتحدث معي ولم يسألني شيئا عما كنت أفعله أو كيف أشعر». كانت أمنية الطفل أن يدرك سبب انفصال والديه، لكنهما احتفظا بالسر، فصار مع مرّ الزمن لغزا يطارده في كل مكان.

الرحيل إلى بريطانيا

وبينما تخلى عنه والده، ها هو خاله المقيم في لندن يرأف به ويمنحه فرصة لبناء المستقبل في بريطانيا، «عندما أنهيت دراستي وأبلغتني والدتي بفرصة الذهاب إلى لندن، سألتها لماذا يفعل الخال أمير هذا، فقالت لأنك مثل ابنه». عيب خاله أنه كان متملكا، أراد أن يرسم له مستقبله حسب مزاجه، دون استشارته. أراده أن يدرس للحصول على وظيفة في مجال الأعمال، بينما كانت أمنية الطفل التخصص في الأدب. ولما صارحه بذلك، ثارت ثائرته، فأهانه وطرده من منزله، صارخا فيه، «أغرب عن وجهي… لن أدعمك. لا أريدك هنا بعد الآن!». خرج الصبي من منزله الفخم في أحد الشوارع الراقية لينتقل بعد ذلك من غرفة إلى أخرى في أحياء لندن الفقيرة.

الحياة في عالمين متناقضين

يسعى المؤلف من خلال هذه الرواية إلى إبراز الواقع المصطبغ بالسواد في أوطان متحررة من الاحتلال، وإماطة اللثام عن التناقضات بين بيئتين أمضى في كلتيهما شطرا من حياته. فحِرْص الخال على أخذه إلى بريطانيا، يُترجم بخوفه على مستقبله في مجتمعات لا تراعي الشباب ولا تقدّر المواهب، «قال الخال أمير إنه سيأخذني إلى لندن لأني كنت فتى مجتهدا وذكيا، وسيكون من المؤسف إضاعة تلك الموهبة». سليم نفسه يكتشف مدى تخلف مجتمعه بعد حلوله في المجتمع البريطاني المتقدم، «عندما جئت إلى لندن، أدركت مدى هشاشة أوراق الاعتماد التي كسبتها من قبل، ومقدار الكتب التي أحتاج إلى قراءتها، ومقدار الجهد الذي أحتاج إلى بذله لتدارك النقص». تفوُّق بريطانيا لا يكمن في العلوم والمعارف واستغلال المواهب وحسب، بل أيضا في معايير النظافة والصحة العالية التي لا تتوفر في مجتمعات تؤمن بأنّ النظافة من الإيمان، ويغسل أفرادها وجوههم عدة مرات في النهار. فترى المغتربين في حيرة من أمرهم عند عودتهم لأوطانهم أمثال أحد شخوص الرواية الذي يعبر عن قلقه، «هل المياه آمنة للشرب؟ هذه الدجاجة قاسية جدا، لا يمكنني أن أكل هذا الخبز، ليس لدينا ذباب كهذا في لندن».

بريطانيا التعايش

غادر سليم زنجبار بينما كان الثوار يشنون حملة تطهير عرقي أدت إلى هلاك خمسين ألف شخصا، أغلبهم من العرب وترحيل آسيويين وأجانب آخرين. فألفى نفسه في مجتمع معروف بتعدد أجناسه وألوانه وثقافته المشتركة منذ العهد الأنكلوساكسوني، وهو ما أثار اهتمامه، «لندن مليئة بالناس من كل مكان في العالم. لم أكن أتوقع أن أرى ذلك، هنودا وعربا وأفارقة وصينيين، ولا أعرف من أين يأتي كل الأوروبيين، لكنهم ليسوا كلهم إنكليز». صار سليم ينفق وقته بين الدراسة والعمل والبحث عن المتعة، فتعرَّف على أشخاص من أجناس مختلفة وكانت له علاقات مع نساء متعددات، «كان لديّ الكثير من العلاقات القصيرة مع النساء اللواتي التقيت بهن وتعرفت عليهن، اللائي أردن أيضا أن يعشن حياة مليئة بعلاقات غير معقدة». وفي بريطانيا عاش قصة حب واحدة حقيقية مع امرأة تدعى بيلي رحلت عنه في يوم ما وتركته في عذاب، «لقد أحببت امرأة قبل فترة تدعى بيلي، لكنني فقدتها بعد أن ثبط أهلها عزيمته، أو لعلها لم تحبني في المقابل بقدر الكفاية».

تصوير صادق للعواطف

«قلب من حصى» ليست أول رواية تتناول مسائل الحرمان والهجرة والحياة في المنفى. تناولها عبد الرزاق غورناه نفسه من قبل في روايته السادسة «عن طريق البحر» إصدارات 2001. وسبقه إلى ذلك كثيرون – بعضهم بريطانيون من أصل أجنبي – أمثال الروائية الإنكليزية الجامايكية أندريا ليفي على منوال رواية «جزيرة صغيرة» الصادرة عام 2004 وتدور أحداثها في عام 1948 وتروي قصة مهاجرين جامايكيين فروا من قساوة الحياة في جزيرتهم الصغيرة، واستقروا في إنكلترا. بيد أنّ رواية غورناه اتسمت بقدرته المميزة على وصف عالمين مختلفين وصفا حيا بحكم حياته في البيئتين معا، وتصوير الأحداث والعواطف تصويرا طبيعيا دقيقا صادقا. الرواية تبرز أيضا قدرته على رصد المحيط المجتمعي، والتعبير عن المعاناة والحرمان بحرفية وفنية عالية وبأسلوب مؤثر. يضاف إلى ذلك أسلوب التشويق بإدراج لغز محير عن انفصال الوالدين، وتفكك الأسرة في الصفحات الأولى للقصة، يرافق القارئ عبر فصول الرواية المؤلفة من 261 صفحة، ما يغذي في المتلقي نهم القراءة وشغف الترقب.

العودة إلى الوطن الأم

الرواية أيضا تصوير للحب اللاعقلاني مجسد في حب الابن لأب لا يعرفه حق المعرفة، وحب الأب لزوجة غير مرغوب فيها، وعودة الابن إلى وطن لم يعد متعلقا به. فبعد سنوات طويلة في المهجر، يسافر سليم إلى زنجبار، لا لأجل البقاء فيها كما كان يأمل بعض أفراد أسرته، وإنما لزيارة قبر والدته التي كانت تجمعه بها علاقة وثيقة واستمر في مراسلتها من بريطانيا إلى حين وفاتها. يلتقي في رحلته القصيرة بوالده الذي يطلعه أخيرا على سرّ انفصاله ودمار عائلته. وقبل مغادرته، يسأله والده عن الدافع إلى عودته إلى بريطانيا قائلا، «ما الذي يجذبك إلى هناك؟ هل تحب شخصا هناك؟ هل ينتظرك شخص عند عودتك؟ فيرد الابن، «لا، لا ينتظرني أحد».

وهكذا يختار سليم العودة إلى بريطانيا التي أتاحت له فرص الاستقرار والدراسة والعمل والنجاح. صحيح أنه لم يكن ينتظره أحد مثلما أبلغ والده، لكن كان ينتظره في المقابل مجتمعٌ برمته ـ محيطٌ متعدد الأجناس والثقافات، متسامح ومنفتح على العالم، منحه من الاحترام والرعاية وحسن المعاملة ما لم يمنحه والده من لحمه ودمه، ورُبَّ غَرِيبٍ صَادِقٍ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ قَرِيبٍ مُنَافِق.

كاتب جزائري

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى