كارثية فكرة “النموذج” في سوريا.. والحاجة إلى السياسة/ مضر رياض الدبس
عرف السوريون في تاريخهم السياسي الحديث والمعاصر نماذج كارثية كثيرة منها: نموذج البعث، والنموذج القومي العربي الناصري، والنموذج الإسلاموي، والنموذج الشيوعي، إلى ما هنالك. ولكن كان أكثر هذه النماذج كارثيةً هو ما يمكن أن نسميه “نموذج التفاهة” الذي تختصره عبارة “سوريا الأسد”، ويغيب عنه فعل التفكير، ومن ثم بطبيعة الحال يغيب عنه الضمير.
وثمة نموذج كارثي جديد صار بإمكان السوريين بعد 2011 ادعاء اختبار كارثيته عن قرب، وهو نموذج المعارضة، ومع أنه أقل كارثية من نموذج التفاهة المتعيِّن في “سوريا الأسد”، إلا أنه أيضًا نموذجٌ كارثيٌ بامتياز. ويبدو أن المعارضة أرادت تحطيم النموذج الكارثي الذي بناه نظام التفاهة فبنت نموذجًا مضادًا، ولكن النتيجة أن نموذج “سوريا الأسد” صار أكثر قدرةً على التعبير عن كارثيته، الأمر الذي شجع نماذج كارثية تشبهه على التكاثر والتمدد (مثل نموذج الإسلام المتطرف الدخيل على الثقافة الإسلامية السورية). وصار نموذج المعارضة نفسه تافهًا في مواضع كثيرة أيضًا، والتفاهة هنا لفظةٌ نريد منها ما أرادته منها حنا أرندت عندما نحتت مصطلح “تفاهة الشر”: غياب التفكير الذي يؤدي إلى غياب الضمير وولادة الشر.
يحفزنا هذا الكلام عن النموذج الكارثي كله على التفكير في كارثية فكرة النموذج نفسها، وذلك بوصفها أداةً للفهم والاستنتاج واتخاذ القرارات في هذا الزمن: أي زمن ما بعد 2011، زمن خيبة الأمل، ولكن في الوقت نفسه زمن العمومي السوري؛ فالثورة بتقديرنا قد دشنت عصر العمومي منذ التنسيقية الأولى.
وللمضي قدمًا في هذا النوع من التفكير نبدأ من المقاربة الآتية:
إذا كانت الثورة السورية نموذجًا، أو مثالًا يُحتذى، فهي بالضرورة من النماذج الطاردة للنمذجة. ذلك لأنها تعمل استنادًا إلى نبذ فكرة النموذج الواحد لصالح التعددية التي تعبر عن نفسها بالتواصل، أو ما يسمى بـ “التنسيقيات” – وفق مصطلحات الثورة السورية. وبهذا المعنى كانت الثورة فعلًا تواصليًا لا يقبل نموذجًا بعينه، ويضمن حق النماذج كلها في التعبير عن نفسها بوجهٍ إنساني. ويبدو أن هذا الوجه الإنساني هو بالتحديد ما يمنح الثورة بعدها الكوني، ويجعل السوري مؤهلًا للتفكير نيابةً عن الإنسانية، وبوجهٍ أكثر تحديدًا نقول إن الألمَ زاد السوري تأهيلًا للعمومية وللكونية؛ وبعد أن تعاظم ألمَهُ، وبعد أن صار يُفكِّر في ضوء ألمِهِ؛ صار كونيًا. ويمكن الحديث عن قفزة ثورية أنجزها السوريون: هي القفزة السريعة من الحالة المُغرقة في المحلية التي فرضتها تفاهة الطغمة الحاكمة، إلى الحالة الكونية والانفتاح على الدنيا. وترافقت هذه القفزة الثورية مع صدمةٍ قويةٍ نتجت من معرفةِ حجم الذات معرفةً واقعيةً غيرَ إيديولوجيةٍ لا تستند إلى قاعدة نموذجية؛ فسقطت من العقل والوجدان فكرةَ السوري الأكثر تفوقًا، والسوري الأكثر ذكاءً، والسوري “الحربوق” الذي يعرف كيف يخرج من المآزق كلها، وصرنا نعرف أننا مثل شعوب الأرض كلها: منّا الغبي، ومنَّا التافه، ومنَّا المجرم؛ مثلما منَّا الذكي ومنّا الخيِّر ومنَّا أصحاب الأخلاق السوية، إلى ما هنالك.
واحدةٌ من أهم المقولات التي يمكن أن تُترجم إليها هذه الفكرة، هي مقولة “الحاجة إلى السياسة”، أو إيلاء السياسة القيمة اللازمة بوصفها فعلًا قادرًا على تغيير حياة البشر إلى الأفضل؛ فما دمنا بشرًا طبيعيين ولسنا من صنف “السوبر المان” ورسالاتنا ليست خالدة؛ فنحن نحتاج إلى السياسة: إلى تَعلمِها واستخدامها وتعليمها، وهذا واحدٌ من أهم معاني الإدراك السوري الجديد الذي بدأ مع بدايات الثورة. ما نريد قوله هو إن فكرة الحاجة إلى السياسة تنضج بفتور فكرة الحاجة إلى النموذج، والعكس. ويبدو أن هذا صالحٌ حتى على مستويات أقل شمولية، مثل التكتيك والتخطيط السياسي، وبهذا المعنى نستطيع أن نفهم كارثية حضور النموذج الليبي (المجلس الوطني والتدخل الخارجي) أو النموذج اليمني (مبادرة تشبه المبادرة الخليجية)، في السياسة السورية التي كانت تقودها المعارضة في بداية الثورة قبل أن يفقد السوري ثقته فيها، وبهذا المعنى أيضًا يمكن أن نفهم كارثية “نموذج الإدارة الذاتية” و”نموذج المُحرر” وإلى ما هنالك.
أن نمشي في هذا المسار المنطقي يعني بالضرورة أن نصل إلى نتيجة مفادها أن الثورة على نموذج التفاهة متمثلًا في “سوريا الأسد”، هي بطبيعة الحال ثورة على فكرة النموذج الجاهز الذي لا يحتاج إلى تفكير؛ لأن أي نموذجٍ جاهز يصير بمفردات الثورة فعلًا تافهًا يحيل على نمط تفكير ينتمي إلى ما قبل 2011، ويمكن أن نقول إن نموذجَ الثورة ثورةٌ على كلِّ نموذج. ومن ثم يعني المضي في هذا المسار الوصولَ الحتمي إلى مفترق طرق، الطريقُ الأول فيه يمر من المعارضة بوصفها نموذجًا مُقلِّدًا أو إيديولوجيًا، ويسير بنا إلى منظومةِ تفاهةٍ جديدة، ربما تكون أقل إجرامًا من منظومة “سوريا الأسد”؛ فلا شيء في الدنيا يوازي همجية هذا النظام وإجرامه، ولكنها لن تكون أقل تفاهةً منها.
ويمكن للمرء أن يلحظ إرهاصات هذه التفاهات الجديدة التي تنتجها المعارضة؛ فالسوريون كلهم يدركون التشابه بين المنظومتين عندما يعقدون المقارنة بين النظام والمعارضة، تلك المقارنة التي لم تكن منطقية قبل الثورة وفي بداياتها، ولكن يمكن تتبعها اليوم في حديث السوريين العاديين اليومي (عند المقارنة بين المُحرر ومناطق سيطرة النظام مثلًا). والطريقُ الآخر على مفترق الطرق نفسه، يمر من التخلي عن النماذج كلها، والخروج من حالة الكسل والقصور: أي تجاوز حالة العجز عن استخدام فهمنا من دون توجيه الآخرين. ويمكن أن نلاحظ أن هذه الفكرة، التي تستند إلى نبذ الكسل والقصور وتجاوز حالة العجر، تتطابق مع لحظة التفكير في الثورة ومع أولياتها؛ وهي بالتحديد ما دشن عصر التفكير السوري الجديد بعد 2011، وهي من أهم ما جعل الثورة مُمكنًا خرجَ من رحم المستحيل، ولذلك نقول إن هذا الطريق هو طريق الثورة نفسه الذي يتجاوز النظام ويتجاوز المعارضة معًا. وليس من باب المصادفة أن تكون هذه الفكرة واحدةٌ من أهم معاني كلمة “التنوير”، فقد أجاب كانط مرةً عن سؤالٍ عن ماهية التنوير بقوله “إن التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور الذي وضع نفسه بها”، و “إن الكسل والجبن هما السببان اللذان يفسران أن مجموعة كبيرة من الناس تظل قاصرة، على الرغم من أن الطبيعة تحرره من كل تأثير خارجي، وهذا يفسر لماذا يسهل على غيره أن يفرض نفسه وصيًا عليه؛ فمن السهل جدًا أن يكون الإنسان قاصرًا”.
هكذا يمكن القول إن الثورة هي مشروع تنويري يتجاوز النظام والمعارضة معًا، وإن القصور المضاد للتنوير هو غريم الثورة الأول، وهكذا يكون “الشبيحُ” الذي لا يفكر قاصرًا، ويكون المعارض الذي لا يفكر قاصرًا أيضًا، وبهذا الـ “لا تفكير” (thoughtlessness) يشتركان. ويبدو أن معتنقي الإيديولوجيات كلهم قاصرون؛ ففكرة الإيديولوجيا فكرة من صلب تكوين النماذج القاصرة المتوافرة في سوريا كلها. والثورة، إلى اليوم، فعلٌ مضادٌ للنمذجة على المستويات كلها، وكل تحليلٍ ينطلق من إسقاط نموذج مسبق على سوريا، سواء في الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع أو أي شأنٍ عمومي، هو تحليلٌ لا ينتمي إلى الثورة، ولا يزال يفكر قبل 2011. وإلى حين صناعة نموذجٍ عصري (يلائم زمن العمومي السوري)، ومخصوص (يبتكره السوريون بموجب إرادتهم وتطلعاتهم)، فإن كلَّ نموذجٍ جاهزٍ سيؤدي عند تطبيقه إلى كارثةٍ من نوعٍ ما..
يعني ذلك بالمجمل أن النموذج أيًا كانت ماهيته ينتزع من السوري ملكية السياسة في بلده، وهكذا تصير الثورة اليوم فعلَ تأميمٍ للسياسة وللوطن، بقدر ما هي مضادة للنماذج الجاهزة الناجزة التي يعتقد معتنقوها أنها حقائق اكتملت ونضجت في مرحلةٍ ما من التاريخ وستظل صحيحةً إلى الأبد. وإن مناهضة خصخصة الوطن، ومناهضة خصخصة الحقيقة، لهما جوهر واحد وماهية واحدة لدرجة يصعب تمييز النضال من أجل تحقيق أحدهما عن النضال من أجل تحقيق الآخر. وأخيرًا يبقى استنتاجا مهمًا في سياق هذا التفكير، هو أن النخبة السياسية السورية التي تنتمي إلى ما قبل 2011، هي نخبةٌ لا تعرف التحرك من دون نموذج جاهز تضعه بوصلة أمامها، ولذلك كانت نخبة غير زمانية لم تعبر إلى ما بعد 2011 على مستويات الفهم والتفكير والخطاب والسلوك.
تلفزيون سوريا