صفحات الثقافة

علاقات سامة أو الفرد بوصفه شركة صغيرة/ محمد سامي الكيال

يثير انتشار مصطلحات، من المفترض أنها مستمدة من قاموس العلاج أو الإرشاد النفسي، كثيراً من الجدل والسخرية مؤخراً، خاصة أنها تتعلق بالحياة الخاصة والعلاقات الحميمية. فجأة اكتشف بشر عديدون أن علاقاتهم «سامة» وشركاءهم «مؤذون» عاطفياً، وأنهم غالباً يعانون من شكل من أشكال «الصدمة» أو ما بعدها.

فحوى النقد السائد لهذا النمط من قوعدة ما هو شخصي، أن تعميم مصطلحات العلاج النفسي، بهذا الأسلوب التبسيطي، وعبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي غالباً، يساهم في خلق ذوات نرجسية هشة، تعوّض انسلاخها عن سياقات اجتماعية مستقرة، كانت تمنح الرعاية والتوجيه للأفراد، باللجوء المبالغ به لآباء جدد: معالجون نفسيون قادرون على ترويج أنفسهم في السوق الافتراضي المتوسّع، أو مؤثرون على مواقع التواصل. وبالنتيجة يعجز البشر عن الخروج من دائرة سحرية، رسموها حول ذواتهم الفردية. وبناء علاقات إيجابية مع محيطهم الاجتماعي، مختصرين أنفسهم بالأذى والمعاناة النفسية التي يعيشونها، سواء كانت فعلية أو مبالغاً بها.

قد يتمتع هذا النقد بوجاهة وصحة كبيرة، إلا أن هذا لا يمنع من طرح سؤال مهم في هذا السياق: متى كانت العلاقات الإنسانية، سواء على الصعيد العام أو الخاص، غير «سامة»؟ ألم تشهد العلاقات بين الأفراد والجماعات دائماً كثيراً من العنف والاستغلال والميل للسيطرة أو الخضوع؟

البنى الاجتماعية التقليدية فسّرت ما نعتبره «ساماً» اليوم بأسلوب مختلف.. وأمدت أفرادها بعلامات تواصلية معمّمة ومتفق عليها، تحدد، بل تقونن في أحيان كثيرة، معنى ما يتضمنه التواصل الإنساني من ألم، أو إرغام لأحد أطرافه، وفقاً لهرمية اجتماعية معينة، غالباً ما تكون أبوية أو طبقية، فـ»التعنيف» مثلاً قد يعتبر شكلاً من أشكال التأديب.. والخضوع احتراماً وتبجيلاً.. والألاعيب العاطفية والنفسية، من صدّ وردّ وإهمال، أو اهتمام مبالغ به، نوعاً من الغنج أو القوة، بل كثيراً ما أُسبغ عليها نوع من القداسة. فنرى شعراء التصوف والغزل العفيف العرب مثلاً، يفتخرون بذلهم في الحب. الأهم هنا أن البنى التقليدية لم تفترض أن تلك العلاقات يجب أن تكون توافقية أو تعاقدية. فالهرمية الاجتماعية تحدد سلفاً لكل فرد دوره وما هو متوقع منه، وبالتالي فقد يبدو أن «اكتشاف» مدى سمّية العلاقات الإنسانية، ومحاولة الوقاية منها، دليل على تقدّم البشر نحو مزيد من المساواة، وتمكّنهم لأول مرة من بناء علاقاتهم الخاصة والعامة بشكل أكثر رضائية. فهل تقرّبنا حساسيات الذوات المفردنة من المساواة والعدالة فعلاً، وتضعف الهرميات الاجتماعية؟ وهل يمكن أن نصل يوماً لتواصل إنساني خالٍ مما هو سام؟

الذات القانونية عاشقةً

لا ترفض الذاتية الجديدة بشكل مبدئي، في سعيها لتطهير التواصل الإنساني من سمّيته، علاقات السيطرة والخضوع، بل حتى العنف ضمن حد معيّن، لكنها تربطه بالتعاقدية الكاملة: كل علاقة تم التعاقد عليها برضا الطرفين، حتى لو كانت نمطاً من العبودية، علاقة مشروعة. ما يحوّل العنف والسيطرة إلى نوع من اللعب المقونن. ويفرغهما من محتواهما السلطوي الفعلي، المتعلّق بهرمية اجتماعية مكرّسة سابقة على التعاقد. وإذا كان هذا التقنين للعلاقات الشخصية يقبل معظم أشكال اللعب فهو لا يقبل التلاعب، فكل ممارسة يُفهم منها الاحتيال، أو عدم إدراك أحد الأطراف حقوقه كاملةً، مرفوضة ومدانة. ومن هنا يأتي التصنيف السلبي لمن يمارسون «الأذى العاطفي النرجسي» مثلاً، فهم يتلاعبون بمشاعر ضحاياهم، ولا يعطونهم بيانات واضحة عن منظورهم للعلاقة، ونواياهم تجاهها. ويستغلّون جهل الطرف الآخر بذلك، لتحصيل ما يمكن تسميته مكاسب عاطفية غير مشروعة. يبدو ذلك أقرب للحديث عن علاقة تعاقدية قانونية بين شخصيتين اعتباريتين في الحيز العام، يجب أن يكون فيها كلا الطرفين على بيّنة واضحة بكل الظروف المتعلّقة بتعاقدهما المحتمل، ومراعاة قيم الشفافية في التواصل المشترك بينهما. وبالتالي فربما يكون تعميم التحذير من سمّية العلاقات، لا يرتبط بتقدم علم النفس في الثقافة الشعبية، بقدر ما هو مدّ لشروط وحقوق الذات القانونية، وهي أساس المنظومات الحقوقية المعاصرة، إلى عمق الحيز الخاص والحميمية الفردية.

عملت كل المنظومات القانونية بالتأكيد، بما فيها الشريعة الإسلامية مثلاً، على تنظيم الأحوال الشخصية بكثير من الأحكام، إلا أن ذلك التنظيم ارتبط أساساً بالحقوق المادية، من نفقة ومسكن ونقل ملكيات، وكذلك السلامة الجسدية للبشر بالحد الأدنى، وضمان الأنساب والحقوق المعنوية للأبناء، دون محاولة التدخّل في عمق المشاعر والانطباعات الذاتية للناس في علاقاتهم الحميمية، وهكذا فإن السعي لتعميم التعاقدية، وصولاً إلى أدق التفاصيل، يبدو سابقةً لم تخطر على بال أكثر حقوقيي الثورات البورجوازية، راديكاليةً.

يمكن البحث عن أساس اجتماعي لهذا في التحولات في سوق العمل المعاصر، فمع ازدياد عدد العاملين لحسابهم الخاصFreelancers ، ومطالبة العمال والموظفين بكثير من «المرونة» تصبح الذات الفردية للعامل، بعواطفها وهويتها وحساسياتها، ملكيته الشخصية الأساسية، التي يجب الحفاظ عليها في كل المجالات، ومن ناحية الأنظمة الضريبية والمالية يصنّف العمال «الأحرار» هؤلاء بوصفهم شركات صغيرة، وبالتالي يجب حماية الذات/الشركة هذه بكل قواها، المادية وغير المادية، من أي إساءة، قد تخلّ بإمكانياتها في الدخول بتعاقدات حرة.

ومع انهيار العائلة البورجوازية الأحادية، التي كانت أساساً نظرياً لفصل الخاص (العائلي والحميمي) عن العام (السياسي والحقوقي) بات كل ما هو شخصي سياسي فعلاً، في تحقيق باهر للشعارات المتمردة على أبوية الدولة الاجتماعية، سواء دولة الرفاه في الغرب، أو دولة التحرر الوطني في العالم الثالث. لم يعد هنالك آباء/أمهات، عشاق/عشيقات، تتوقف الحوكمة السياسية والقانونية عند حدود حميميتهم، بل أفراد، أول ملكياتهم الخاصة ذواتهم، يسعون لحماية قواهم النفسية والعاطفية والثقافية من أي انتهاك، قد يعيق تسويقها بحرية.

عقود الإذعان

إلا أن تطبيق المساواة القانونية الشكلية في مجال العلاقات الحميمية، قد يواجه عدداً كبيراً من المعوقات: يدخل البشر في الحيز العام بعلاقات متساوية شكلياً من الناحية القانونية، غير أنها شديدة التمايز والتفاوت من ناحية القوة المادية والاجتماعية، ويناضلون، بقدر ما هو متاح، لأجل تحسين شروطهم التفاوضية، وأن لا تكون العقود التي يبرمونها مجرد عقود إذعان. في ما مضى سعت النقابات لإعطاء القوة للطبقات العاملة، في مواجهة الدولة وأرباب العمل، لتصبح شخصية اعتبارية نديّة، تدخل في تعاقدات تحمل الحد الأدنى من المساواة الفعلية، وليس الشكلية. في المجال الحميمي تصبح المساواة الشكلية مشكلة، أكثر من كونها ميزة لتحقيق شروط تعاقدية أفضل، تؤدي للمساواة الفعلية. فالبشر لا يمكنهم الدخول في علاقات لصيقة، تقوم على التفاوض والبيع والشراء وشفافية البيانات، في كل تفصيل من تفاصيل حياتهم. سبق لعالم الاجتماع الألماني نيكلاس لومان اعتبار الحب ترميزاً للحميمية، و»وسيلة تواصل معممة رمزياً» قامت على مخزون دلالي كبير من الآداب الصوفية والرومانسية، مهمتها التأسيس لعلاقات شخصانية ضمن أنظمة اجتماعية غير شخصانية، مثل أنظمة السياسة والاقتصاد والقانون. وإذا فقدت الحميمية وظيفتها الشخصانية هذه، وباتت أحكام الأنظمة الاجتماعية غير الشخصانية تسري عليها، فمن الصعب على البشر بناء أي علاقات في الحيز الخاص. ولن يروا في تواصلهم مع شركائهم إلا كثيراً من «السم» غير المبرر.

دفاعاً عن الإيروسية

كثيراً ما تخفي العلاقات القائمة على المساواة القانونية الشكلية أنماطاً متعددة من الاستغلال واللامساواة، وبالتالي قد لا تكون مراعاة حساسيات البشر، في الحيزين العام والخاص، أكثر من «تحرير» القوى العاطفية والثقافية للفرد، مما تبقى من أطرها الاجتماعية، كي يتسنّى تداولها وشراؤها بحرية أكبر. قد يقبل الإنسان بيع قواه بأبخس الأثمان ضمن تعاقد «حر» لكن هذا لا يعني أنه فعل هذا في ظروف غير «سامة» تتسم بالمساواة والعدالة الفعلية، بقدر ما خضع لهرمية قوى جديدة أكثر مرونة. كل هذا لا علاقة له بتحرير الرغبة الإنسانية من قيود الهرميات الأبوية والطبقية. وهو حلم الثورات الاجتماعية والجنسية في القرن العشرين، التي دعت لعالم يعيش فيه البشر حميميتهم، ويطلقون رغباتهم، بعيداً عن كل حوكمة وتدخّل فوقي، ما يجعل الإيروسية، أي القيمة المعطاة للشبق واللذة الإنسانية وجمالياتهما، منفلتة من القيود الكابحة والمستغلّة للرغبة.

من الصعب تصوّر الإيروسية دون كثير من «الأذى» و«السميّة» فالبشر يبنون تجربتهم الحياتية والأخلاقية، من خلال تراكم الآلام واللذات في سياق تواصلهم المعقد مع الآخرين، ومحاولة «حمايتهم» من تلك الآلام قد يكون اعتداءً على حقهم في تكوين تجربتهم الخاصة، ودفعهم لعيش حياة معلّبة ومطهّرة، قد تنفع لموظفي أو مديري شركات ناجحة، لكنها قاتلةٌ للحيوية الإنسانية، وللروابط الحميمية، التي يمكن أن تكون مقاومة للسلطة أحياناً. كما أنها مدمّرةٌ لما تبقى من إيروسية في عالمنا.

كاتب سوري

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى