حكاية “الكرّاس” الذي تنبّأ بخراب الدورة الدمويّة: من تاريخ المقاومة الثقافيّة في سوريا/ محمد ديبو
في نهاية سنوات السبعينات أصدر عدّد من المثقفين/ات السوريين/ات كرّاسا ثقافيّا يكتب على الآلة الكاتبة وبخط اليد دون أن يطلقوا عليه اسمًا. شكّل الكرّاس حالة ثقافية خاصة في سوريا المحكومة بالحديد والنار، وقد توقف صدوره بعد حوالي عام على صدور العدد الأول بسبب قمع السلطات. نبحث في هذه الحكاية عن هذا الكرّاس ونحاور من أسّسه وأصدره.
“استقلي باص جسده
أو انتظريه في المحطة التالية
فهو الآن متهم لأنّه قتيل
ومتهم بتخريب الدورة الدمويّة:
القبلة الأولى رصاصة،
الطلقة الأخيرة حُب”.
ربّما يعرف الكثير من السوريين قصيدة “خراب الدورة الدمويّة” للشاعر رياض الصالح الحسين، لكن قلّة قليلة، وربّما نادرة جدًا، تعرف أنّ هذه القصيدة نُشرت للمرة الأولى في كرّاس لم يكن له اسم ولم يحمل أيّ اسم طوال فترة صدوره، سوى ما توافق مؤسسوه على تسميته به، أي “الكرّاس”، وذاك لأنّ “الاسم سيقيده بهويّة معينة، ولم نكن نريد ما يقيّد حريتنا” كما يقول وائل السوّاح أحد مؤسسي الكراس لحكاية ما انحكت، ولأنّه “إذا ما أعطينا الكراس اسمًا، ستسأل السلطة عن الترخيص والتبعيّة، ولكن وبكل الأحوالّ هذا لم ينفع عند المخابرات في نهاية المطاف” حسب قول الشاعر السوري فرج بيرقدار لحكاية ما انحكت، والذي انضم لاحقًا إلى أسرة تحرير الكرّاس واعتُقل مع الشاعر رياض الصالح الحسين وخالد درويش بسبب هذا الكرّاس.
حقًا، لمَ خافت المخابرات من مجرّد كرّاس أدبيّ ثقافيّ يكتب بخط اليد أو على الآلة الكاتبة ويطبع ويوزّع بشكل شخصي؟
ليس من الفراغ وُلِد الكرّاس
أحد مؤسسي الكراس هو الكاتب والمعارض، وائل السوّاح، يقول لحكاية ما انحكت، إنّ أعوام نهاية السبعينات في سوريا كانت عاصفة على أكثر من مستوى، “ففي عام 1976، وفي يوم عيد الأرض الفلسطيني، تمّ الإعداد لمظاهرة بهذه المناسبة، ولحظة خروج المظاهرة من جامعة دمشق كانت عناصر المخابرات تنتظر خارجًا، فتمّت ملاحقة الجميع واعتُقل البعض وضرب البعض الآخر، ليتحول يوم الأرض من يوم فلسطيني إلى حدث سوري، أدى بدوره إلى زيادة المد الثوري اليساري في سوريا. في نفس العام أيضًا أُعلن عن تشكيل رابطة العمل الشيوعي في سوريا”.
يقول فرج بيرقدار لحكاية ما انحكت عن هذا المناخ السياسي: “في عهد حافظ الأسد اتسعت وتعمّقتْ الديكتاتوريّة السياسيّة، لتغدو ديكتاتوريّة شموليّة، أي بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي، إلخ. في ظلّ ديكتاتوريّة من هذا النوع يصبح حتى التظاهر لتمجيد الأسد أو نظامه ممنوعًا إلّا بقرار مخابراتي”.
هذا الواقع أفرز مدًا ثوريًا ويساريًا في سنوات السبعينيات، وجد صداه لدى أفواج كثيرة من الشباب السوري، ولم يكن هذا الصدى بدوره معزولًا عن المناخ العربي والإقليمي العام، وربما تعود جذوره إلى سنوات العقد الذي سبقه، يقول الباحث جوزيف ضاهر إنّه و”بعد هزيمة 1967، ظهرت موجة عامّة من الراديكاليّة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ضمن الأحزاب القوميّة العربيّة واليساريّة، والتي كانت قد نشأت قبل بضعة أعوام”.
يتابع ضاهر: لم تكن سوريا في منأى عن عملية الجذريّة. وفي هذا السياق، نشأت «الحلقات الماركسيّة» في منتصف الستينيات، وتلك كانت مجموعات نقاشيّة منتشرة في جميع أنحاء سوريا، تناقش المسائل السياسيّة في العالم العربي من خلال نظرة ماركسيّة. معظم الأعضاء الأساسيين في هذه المجموعات كانوا طلّابًا وقوميين عربيين سابقين منخرطين في عمليّة “الجذريّة”، يرغبون في تحدّي الاستبداد وإيجاد سبيل للسير قُدُمًا في سوريا بعد هزيمة العام 1967.
الكاتب والمعارض وائل السواح، والشاعر فرج بيرقدار، والقاص جميل حتمل، والشاعر والصحفي بشير البكر، والكاتبة فادية اللاذقاني، والشاعران حسان عزت وخالد درويش (فلسطيني)، كانوا جزءًا من هذا المناخ السياسي والراديكالي العاصف.
“كنّا مجموعة أصدقاء لدينا موقف ونريد أن نبلوره، لم يكن لدينا حزب، وعلى الصعيد الشخصي لم أكن أريد الدخول في أي حزب، لقد كنّا نقف أمام سدود الأحزاب والسلطات التي تشكّل مناخًا مغلقًا. في هذا الوضع لم نكن نريد أن نكون مثلهم، بل أن يكون لدينا القدرة على الرفض، وأن نحافظ على هذا الرفض”. يقول أحد مؤسسي الكراس، الشاعر حسّان عزّت، لحكاية ما انحكت.
يتابع عزّت: “طرحتُ الكثير من الأسئلة ولم يجبني عليها أحد، بقيت أبحث، حتى سمعت بالماركسيّة وقبلها كانت الناصريّة قد انتشرت. ومن خلال الكتب المصريّة التي كانت تصل سوريا، وصلتُ إلى الماركسيّة التي تعاكس المسار الذي كنت أسير فيه. بدأت قراءتها بحس نقدي، وبعدها لم أعد قادرًا على العودة إلى الخلف. أردتُ أن نكون مختلفين عن غيرنا. خلال تلك الفترة التقيت مع جميل حتمل وكان لدينا موقف مما يحصل في البلاد، وكنت قد درست في الريف ورأيتُ الفقر المدقع قبل أن أصل المدينة، وهذا أعطاني صورة أخرى مغايرة لما ينشره النظام في الجريدة والإعلام. باختصار لقد كنّا جيلًا يريد تغيير العالم، ولكن، كيف؟”.
تغيير العالم لم يكن بالنسبة لهم من خلال السياسة التي انخرط فيها لاحقًا أغلب مؤسسي الكرّاس، بل من خلال كسر سدود الثقافة المهيمنة آنذاك أيضًا، وذلك “من خلال قصيدة جديدة وذات رؤى جديدة تتطلع نحو القادم وتستشرفه”، كما يقول حسّان عزّت، في حين يقول وائل إنّ “المناخ الثقافي كان ضيقًا علينا آنذاك. فكرة الكرّاس بدأت من واقع أنّ الشباب من جيلنا لم يكن لديه منبر للنشر يستطيع أن ينشر فيه ما يشاء. مثلًا أنا كنت أنشر ولكن لا أستطيع أن أنشر أيّ شيء، فالمناخ الثقافي في سوريا ستينيات القرن الماضي، كان يهمين عليه اليسار البعثي عبر أسماء ممثلة في محمد عمران (ملحق الثورة) وعلي كنعان (القسم الثقافي لصحيفة تشرين) وعلي الجندي وعادل محمود (القسم الثقافي لصحيفة البعث) وممدوح عدوان (القسم الثقافي لصحيفة الثورة)، بعضهم كان بعثيًا آنذاك، وبعضهم الآخر كان قد ترك البعث، إلى جانب بعض المثقفين اليساريين أيضًا”.
يوافق الشاعر فرج بيرقدار رفيقيه: “كنّا ناشطين ننشر في الصحف الرسميّة، ولكن كان واضحًا لنا في الوقت نفسه أنّ هذا الإعلام محدود حتى فيما يخص الإبداع. لذا كنّا نبحث عن كسر كلّ القيود وكلّ أنواع الرقابة. بعد ذلك أخدتُ قرارًا بعدم النشر في الصحافة الرسميّة، حتى سياسيًا لم نكن قادرين على النشر مع صحف النظام وإعلامه آنذاك”.
ضمن هذا المناخ الثقافي، فازت قصيدة حسّان عزّت “الغزال الاسكندراني والحواة” بإحدى المسابقات الأدبيّة في جامعة دمشق، وفازت قصة “لماذا مات يوسف النجار؟” لوائل السواح بنفس الجائزة عن فئة القصة القصيرة. هكذا تعرّف الصديقان، ومن ثمّ عرّف حسّانٌ وائلًا بجميل حتمل الذي كان يكتب قصة “الموت حاضر بها بشكل دائم”. هكذا التقى “الفرسان الثلاثة” الذين شكلوا لاحقًا هيئة التحرير الأولى للكراسة إلى جانب الآخرين ومنهم فادية اللاذقاني التي كانت صديقة لوائل السواح. تقول اللاذقاني لحكاية ما انحكت إنّ “وائل كان من فتح لي إلى أقصى مصراعيه، بابَ أوساط دمشق «الثقافيّة» العريض. تعرّفتُ على دمشقَ أخرى غير التي كنتُ أكبر في جنباتها قبل لقائي به، دمشق بكتّابها وفنانيها وأدبائها وشعرائها المعروفين آنذاك. كوني صديقة وائل الخاصة، جعلني عضوةً دائمة الحضور في حلقاته العاجّة بالمعارف والصداقات”.
في مهرجان العام التالي فازا أيضًا بالجائزة، لكن دون أن يتمكن حسّان من النشر في الصحف السوريّة الرسميّة، بسبب “طبيعة كتابتي، وطبيعتي التي لم تكن تسمح لي بالنشر في الصحف السوريّة. وهذا ما دفعنا للبحث عن منافذ للنشر، وخاصة بعد عدم نشر قصيدتي التي فازت” حسب قوله لحكاية ما انحكت، “هنا بدأت فكرة الكراس، بدأنا نفكر ونبحث عن مكان يشبهنا، يشكّل مناخًا حرًا غير مشبوه. مكان يُوصل صوتنا إلى الناس”، أو، وبحسب تعبير فرج بيرقدار، “مكان يوصل صوت الكتّاب السوريين الشباب الذين ضاقوا ذرعًا بهذا الواقع وبالصمت عليه والاستسلام له”.
بدء العمل
“في هذا المناخ ولدت فكرة الكرّاس، وكان أكثرنا وعيًا بها وحماسًا لها هما وائل السواح والراحل جميل حتمل، لينضم إليهما فادية اللاذقاني وحسّان عزّت وبشير البكر ورياض الصالح الحسين وخالد درويش وأنا” يقول فرج بيرقدار شارحًا البدايات الأولى للكراس، فيما تقول فادية: “لا أستطيع القول بالمعنى الحرفي للكلمة إنني كنتُ من المؤسسين. وفي الآن ذاته، نعم، كنتُ منهم، حيث حضرتُ الجلسة التأسيسية الأولى. كان دوري إذن، والحق يُقال، ثانويًا ورئيسيًا في آن! أذكر وصولي مع وائل، ذات يوم من هاتيك السنة، وكانت الفكرة مُناقشةً وشبه مختمرةٍ في رؤوس الشباب. راح وائل يكمل حديثه عنها ونحن نتجه إلى باب الجابية، لعقد الجلسة الأولى”.
عن هذه اللحظات يقول وائل: “حسبما أذكر، بدأت الفكرة الأولى عندي، كنت أنا وجميل وحسّان وربّما فادية، قد بدأنا التفكير، ماذا يُمكن أن نفعل؟ أيمكن أن نفعل أيّ شيء ولو كتابة على ورق… وهكذا بدأنا نفكر، وقد استفدت لاحقًا من كون أبي يعمل في مجال الطباعة”، ليتقرّر في النهاية الاتفاق على إصدارها.
يكتب السوّاح في أحد مقالاته: “كان هدفنا من الكرّاس الخروج عن سلطة الرقابة وسلطة الشعر التقليدي وسلطة الأحزاب السياسيّة المهيمنة على الأدب والفن، الأحزاب التي فرضت علينا أيمن أبو شعر شاعرًا كبيرًا، ورائق النقري فيلسوفًا معاصرًا. لم تكن الصحف تنشر قصائدنا وقصصنا، فقلنا ننشرها نحن، وفعلنا، مخلّفين وراءنا موجة نقديّة أعطت ما كتبناه حقّه وقتها”.
كرّاس دون اسم
حين فكروا في مسألة الاسم، استقر الرأي على أن يبقى دونه، لأنّ “الاسم سيقيدها بهويّة معينة، ولم نكن نريد ما يقيّد حريتنا، عدا عن أنّ الكراسة لم تكن منتظمة الصدور، فكلّما جهز العدد ننشره، وهكذا” يقول وائل السواح لحكاية ما انحكت، في حين يقول فرج إنّ لعدم التسمية بعدا آخرا قانونيا “فإذا أعطينا الكراس اسمًا، ستسأل السلطة عن الترخيص، ولمن تتبع؟ هكذا توقعنا حينها، ولكن بكلّ الأحوال، هذا لم ينفع عند المخابرات”.
ومع ذلك، قرّروا في النهاية العمل على العدد الأول الذي صدر في العام 1977، وضمّ مجموعة من القصائد والقصص القصيرة، منها قصة لوائل السواح بعنوان “فادية تأكل الجيليه وتصفّف شعرها ثم تموت في حادث سيارة”، وقصيدة لحسّان عزّت بعنوان “الغزال الإسكندراني والحواة” وقصة لفادية اللاذقاني تحت عنوان “هنا سانتياغو، هنا دمشق”، وهي “قصة طريفة تحكي عن سانتياغو وكأنّك تحكي عن دمشق في دلالة على أنّ سوريا تشبه تشيلي وحافظ الأسد مثل بيونشيه” يقول السوّاح.
يضيف حسان: “أن الأعداد الثلاثة الأولى أعدها كل من حسان ووائل وجميل في بيتي في البرامكة، وبقية الأعداد حتى الخامس قام بإعدادها كل من حسان ووائل وجميل وفادية التي كتبتها على الآلة الكاتبة، ثم قمت بطباعتها مع فادية وجمعت في بيتي على شكل ملازم ثم تم تدبيسها وإعدادها للتوزيع”.
شكّل العدد الأول، والذي طبعت منه مئة نسخة نجاحًا هائلًا بالنسبة لأسرة التحرير، حيث “تفاجأنا (والقول لوائل السوّاح) بالإقبال، كانت النسخة الواحدة بليرة، ولكن البعض دفع لنا ليرتين، أتذكر أنّ الشاعر علي الجندي دفع لنا خمس ليرات كنوع من الدعم والتشجيع، وأيضا اشترى العدد كلّ من علي كنعان وأحمد دحبور ونايف بلوز وممدوح عدوان. هكذا ومن الطبعة الأولى أصبح معنا حوالي مئة ليرة سوريّة. شعرنا في النهاية أن هناك إقبالا وقرّرنا توسيع العدد وتوسيع أسرة التحرير أيضًا، فانضمت لنا فادية اللاذقاني، وانضم فرج بيرقدار وبشير البكر، ولاحقًا رياض الصالح الحسين وخالد درويش فأصبحنا ثمانية”.
وحين سألنا فادية اللاذقاني عمّا يمكن قوله عن كونها المرأة الوحيدة في أسرة تحرير الكراس، أجابت قائلة: “كوني كنت المرأة الوحيدة لا يعني لي شيئًا على الإطلاق”.
نشر ما لا ينشر
لم يكن للكرّاس مطبخ تحرير خاص أو رسمي إن صح القول، كانوا يجتمعون أغلب الأحيان في بيت جميل حتمل، أو في بيت أحد الفنانين، أو في أحد المقاهي مثل الإيتوال أو اللاتيرنا، يتداولون فيما بين أيديهم من مواد، ثم يقررون ما يودون نشره، “كان هناك لقاء (آخر) لتبادل المواد الإشكاليّة للاتفاق على نشرها بعد التصويت” يقول فرج بيرقدار لحكاية ما انحكت.
أغلب المواد التي وجدت طريقها إلى النشر في الكرّاس كانت “موادًا تُرفض من قبل الجرائد الرسميّة، مواد فيها نوع من المعارضة الأدبيّة والثقافيّة” حسب حسّان عزّت. وهذا ما يوافقه عليه فرج بيرقدار الذي نشر في الكراس تحت اسم “البراق”، ويقول عن الأمر أنّهم نشروا “ما لا ينشر في الإعلام الرسمي، وكانت (المواد المنشورة) دون سقف. لم يكن لدينا سقف. مثلًا نشر معنا ممدوح عدوان قصيدة عن تل الزعتر، ونشرنا قصيدة لعلي الجندي، وقصة بالغة الجرأة اجتماعيًا لمحمود شاهين”.
يقول وائل السواح إنّ ممدوح عدوان وغيره “كانوا ينشرون لدينا ما لا يستطيعون نشره في الصحف الرسميّة حيث يعملون، وكنوع من التشجيع لنا أيضًا”.
“نشر الشباب لي في الكراس قصتين أو ثلاثَاً من قصصي”، تحكي فادية اللاذقاني عمّا نشرته في الكراس :أذكر الآن عنوان الأولى «هنا دمشق… هنا سانتياغو». كنتُ أحتفظ بجميع نسخ الكرّاس، لكني تركت ذلك على رفّ سقيفة في بيت أسرتي في منطقة شورى (في مدينة دمشق). بحثت عنها آن زيارةٍ لي إلى الشام، فقال لي الرفّ: كل شئٍ إلى مضاء. كل شئ يمضي. ( لكن هل يمضي حقاً؟)”.
هكذا نشرَ في الكرّاس على امتداد عمره القصير، عدد كبير من المثقفين والكتاب والشعراء، منهم رياض الصالح الحسين، وممدوح عدوان، وعلي الجندي، وخالد درويش، وعلي كنعان، وعادل محمود، وسليم بركات، ومحمود شاهين الذي نشر “قصة لم يجرؤ أحد على نشرها، وهي أول قصة ينشرها وبعدها سطع نجمه وصدرت في كتاب وتُرجمت إلى لغات كثيرة” حسب وائل السوّاح، في حين يقول فرج بيرقدار عن هذه القصة “قررنا بأغلبيّة التصويت أن ننشرها”.
يكتب وائل السواح في مقالته المذكورة سابقًا: “في الكرّاس نشر بشير أجمل قصائده آنذاك، ثمّ جمعها في ديوان أول، وأعطاها لصديق له فنان لكي يصمّم له غلافه، فأضاعها الصديق. وفي الكراس أيضًا، نشر رياض الصالح الحسين أول قصيدة له، خراب الدورة الدموية، وقد أثارت لحظة ظهورها لغطًا حادًا، وانقسم الناس انقسامًا حادًا بين مرحّب بالقصيدة ورافض لها. المعارضون قالوا هذا مهرطق، يصفّ كلماتٍ جنب كلمات ليكتب شيئًا أشبه بالكفر، أمّا المؤيدون فقد اندهشوا بحرارتها وبساطتها ومقدرتها الهائلة على الوضوح المستحيل”.
الطباعة والتنضيد والتوزيع
شكّلت الطباعة أصعب مسألة في الكرّاس، إذ كيف يمكن طباعة كرّاس في زمن هيمنة البعث؟ كيف يمكن التحايل على الرقابة؟ أي مطبعة قد تتجرأ وتطبعها؟
استفاد وائل السوّاح من خبرته، والده كان ناشرًا. كانت الكرّاس تكتب كاملة بخط اليد أو على الآلة الكاتبة “كنا نستعير آلة كاتبة أو نذهب لأحد الأصدقاء الذين يملكون آلة كاتبة” يقول وائل، “ثمّ نصوّرها على الورق الحساس (جستتنر والورقة فيها أكثر من طبقة ويمكن الكتابة عليها بالقلم أو الآلة الكاتبة) ثمّ نطبعها، ونجمع الأوراق سويّة ونخرزها، وننطلق إلى الجامعة ومقاهي الأدباء والشوارع لنبيعها”.
بعدها اكتشفوا ورقًا حسّاسًا يسمونه “البلاك” وهو يعطي عددًا أكبر. صاروا يطبعون حوالي 200 نسخة من العدد الواحد، ومن ثمّ 300 ولاحقًا 400، حتى وصلوا إلى 500 نسخة، وهو أكبر عدد وصله الكراس كما يتذكر السوّاح.
أصعب مرحلة في الطباعة كانت عملية طباعة العدد في أحد المكتبات، لذا تحايلوا على أصحاب المكتبات الجامعيّة في الحلبوني وقالوا لهم إنّها رسالة جامعيّة. في أحد المرات انتبه أحد أصحاب المطابع وخاف طباعتها، فبحثوا عن غيره.
أما فادية، فقد كان لها دور هام في هذه المرحلة من عمر الكراس، إذ تقول إنّ “مصادفات الحياة أضافت إلى دوري هذا، دوراً تقنيًا رئيسيًا، إذ كنتُ من ينضّد الكراس مستفيدةً من عملي كمنضّدة على الآلة الكاتبة، وأيضا من تعلمي استخدام السحب على ورق الحرير، مما كان سائدًا آنذاك”
الصفحة الأولى من الكرّاس كانت دائما تضم لوحة تشكيليّة، وقد رسم لهذه الصفحة ألفرد حتمل (والد جميل)، وسعد يكن، ويوسف عبدلكي، وغيرهم.
ما إن يجهز العدد حتى تبدأ عملية بيعه وتوزيعه باليد،”أصبحنا نرسل نسخًا منه إلى حلب وجامعتها، يأخذها معه رياض الصالح وخالد درويش” يقول حسان. أصبحت هذه الكرّاسة تشكّل حالة خاصة، “بدأ الكراس ينتشر بين الناس وعَمِل البعض على منعه، ففي جامعة حلب عمل اتحاد الطلبة على قطع الطريق عليه”.
لكن لم تنجح هذه المحاولات في التشويش على الكراس، الذي شكّل نقلة إبداعيّة في السياق السوري، حسب السوّاح، الذي يضيف: “كان الكراس أول من طرح القصيدة الجديدة. لم نكن مع الفن للفن، ولم نكن مع نظريّة الالتزام، كنا بين الاثنين. الكراس لفت نظر الناس بأنّ الإضافة هنا إضافة نوعيّة وليست كميّة. لقد قدمنا رؤيّة جديدة لقصيدة النثر”.
علي الرغم من أنّ الكراس كان في حقيقته ثورةً في وجه المشهد الثقافي السوري، إلّا أن القائمين على هذا المشهد آنذاك، لم يشعروا بتهديد الكرّاس بل احتضنوه بحب، “فالوسط الثقافي السائد حينها كان محتضنًا لنا ومشجّعًا” حسب فرج بيرقدار، “ممدوح عدوان مثلًا لم يكن يُشعرك بأنّك شاعر صغير بل ينظر لك كند. كما لقينا دعمًا معنويًا من كلّ الكتّاب” وهو ما يؤكد عليه وائل أيضًا.
حزب العمل الشيوعي والكرّاسة ومحاولات الاحتواء السياسي
لأنّ الكراس قد وُلد بعد عام من إعلان ولادة رابطة العمل الشيوعي (والتي تحولت لاحقًا إلى حزب العمل)، ولأنّ عددًا ممن أسّسوا الكرّاس وحرّروه كانوا أعضاءًا في الرابطة (وائل السواح، جميل حتمل…)، أو مقرّبين منها، أو انتسبوا إليها لاحقًا وأصبحوا من أعضائها وقياديين فيها (وائل السواح، فرج بيرقدار)، ربط بعض القرّاء والقارئات بين الرابطة والكراس، وهو أمر لم يكن صحيحًا ولم يوّده أيّ من مؤسّسيها، يقول وائل السوّاح لحكاية ما انحكت: “لم يكن للحزب أيّ دور فيها لأنّ الشباب كانوا بعيدين عن حزب العمل ثقافيًا وبنفس الوقت كانوا في الحزب سياسيًا. كما لم يطلب الحزب ضمّ الكراس إليه ولم يكن هناك أيّ لوم أو انتقاد، وإن كانت الرابطة تمنت ضمّ الكراس لها. كانت الحالة بين الكراس والرابطة، تشبه حالة رسام يريده والده أن يكون محاميًا، لكنّه في الوقت نفسه سعيد برسومات ابنه”.
يؤكد فرج بيرقدار أنّ “الكراس لم يكن مرتبطًا بالحزب أبدًا”، وأنّ “الكراس نجح لأنّ الأشخاص الذين قاموا به كان لهم حضورهم (في الوسط الثقافي)”. لكن حسّان عزّت يقول إنّ “الكراس أخذ سمعةً على أنّه محسوب على حزب العمل، كما حاولت بعض الأحزاب الأخرى، مثل الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش، دعم الكراس بشرط احتوائه”.
فيما تقول فادية: “لا أستطيع الآن الإجابة عن دخيلة وذات كلّ فرد منا. لم يكن تجمع الكرّاس حزبًا أو حركة سياسيّة، ولا حلقة تعد نفسها للانضمام إلى حزب. لكن من المؤكد، كما دائمًا، أنّ هناك حبلًا سرّيًا يربط بين السياسي والثقافي والاجتماعي والمجتمعي. وائل مثلًا، كان يعمل في السرّ مع الحلقات التي ستفرز الرابطة، دون أن يتفوه عن ذلك بحرف واحد. رياض كان يعاشر حلقاتٍ صداقيةً أدبيّة وفنيّة ذات “ميل سياسي” مختلف وإن كان قريبًا”.
بقي الكراس محافظًا على استقلاليته طوال فترة صدوره. يختلف المؤسسون حول أعداد الكراس، إذ يقول وائل إنّ التجربة استمرت حوالي السنة، نشروا خلالها ثمانية أو تسعة أعداد في حين يقول حسان إنّه قد تمّ نشر حوالي أحد عشر عددًا ، وإنّه لم يستمر مع الفريق حتى النهاية (بقي حتى العدد الثامن)، لأنّ “الكراس ذهب نحو مناخ لا أحبه وبدأ بنشر مواد خطابيّة”.
الاستبداد لا يترك حرًّا
يبدو أنّ الربط ما بين الرابطة والكراس، انعكس بطريقة ما على الكرّاس وعلى مؤسسيها، فبعد “ثمانية أعداد اعتقلت المخابرات رياض الصالح الحسين وخالد درويش، وحين أُطلق سراحهما، بعد أسبوعين، أخبرانا أنّ التحقيق معهما كان بشأن الكرّاس وكيف وأين نطبعه ومن يموِّله، إلخ. في الواقع رياض وخالد لم يكونا معنيين بمثل هذه الأمور” حسب فرج بيرقدار. فهل كان رياض يتنبّأ بمصير الكراس حين كتب في عدده الأول عن مذبحة الأبجدية؟
أصبح الصوت سوطًا
والحذاء قبعة
والحدائق مستشفيات
ومكاتيب الغرام قنابل موقوتة.
فمن أين أبدأ؟
قلتِ: فلتكن في البداية مذبحة الأبجدية!
لكن هيئة تحرير الكراس قررت مواصلة النشر حينها، “تناقشنا طويلًا فيما سنفعل، وانتهينا إلى قرار مواصلة إصدار الكرّاس” يقول فرج، ولكن “بعد إصدار العدد التاسع صيف 1978 اعتقلتني المخابرات الجويّة، وجرى التعتيم على اعتقالي بضعة شهور. كانت تجربتي في الاعتقال وأساليب التعذيب أشد وطأة ممّا نعرفه أو ممّا هو معهود في اعتقالات شعبة المخابرات العامة وشعبة الأمن السياسي”.
يتابع فرج الذي اعتقل آنذاك حوالي أربعة أشهر دون أن يستطيع أن يجزم إن حدث هذا الاعتقال بسبب الكراس بشكل مباشر أم لأسباب أخرى تتعلق بالسياسة: “لقد سُئلت عن الكرّاس خلال التحقيق وواجهوني باسم البراق الذي كنت أنشر تحت اسمه موادي، وحاولت وضع المسألة كلّها عندي لإبعاد الشبهات عن رياض وخالد، وساعد على هذا الأمر أنّ رياض وخالد لا يعرفان شيئًا عن طباعة الكرّاس، وقد اقتنع الأمن بأقل المعلومات، حيث قلت لهم إنّنا نكتبها بخط اليد، ومن ثمّ نطبعها، وقد ساعدني على ذلك أنّ هناك عددا مكتوبا بخط اليد فعلًا”.
هذا الخط هو خط فادية التي تقول عن أسباب توقف الكرّاس: “وائل بات مطلوبًا، وعاش متخفيًا في دمشق ثم في مدن أخرى قبل أن تحتضنه بيروت. فرج، الذي كان قد اعتُقل سابقًا في حمص، اعتُقل من جديد على ما يبدو على «حساب» الكرّاس، جميل اعتُقل”.
لحظة الإفراج عن فرج هدّده المحقق بعدم نشر أيّ شيء، وهو ما جعل “أسرة التحرير تجتمع وتقرّر وقف الكراسة لأنّنا لسنا حزبا سياسيا كي نصارع، خاصة بعد أن شاهدنا الضرب الذي تعرّض له الشباب”، يقول وائل السواح، “سبب انزعاج السلطة من الكرّاس هو خشيتها أن تكون هذه الكراسة مقدمة لخطوات أخرى باسم الأدب والفن والثقافة”.
مع هذا الاعتقال، أسدل الستار على واحدة من التجارب الثقافيّة التي بقيت تشكّل مصدرَ فخر للمشاركين في إطلاقها حتى اليوم. تقول فادية: “لستُ نادمة على شيء طبعًا. كل ما عملتُه ساهم في وصولي إلى ما أنا عليه. وأنا به سعيدة السعادةَ كلّها… في الجلسة التي تقرّر فيها نشر قصتي «هنا دمشق.. هنا سانتياغو»، وعلى أساس أن عملَنا سرّي، ولا أريد لاسمي الذي منحني إياه أبواي في سجلات الأحوال الشخصيّة أن يظهر. تساءلت، وساءلت الشبابَ عن الاسم المستعار الذي أريد له الظهور على ما أنشر. أذكر تلك الجلسة جيدًا، سوف يلتصق الاسم بي وبحياتي. كالحوادث التي نقول عنها: قبل، وبعد. في تلك الجلسة، قفز إلى وعيي عنوانُ قصةٍ كان وائل قد كتبها مستلهمًا شخصيتها الرئيسية مني، نُشرت في مجموعته القصصيّة الأولى والأخيرة (حتى الآن) “لماذا مات يوسف النجار”، قال لي إنّه نحت اسم شخصيّة القصة موسيقيًا من اسمي الولادي: ف. ا. طِ. مَ. ة= ف ا دِ ي ة. في تلك الجلسة صحتُ برفاقي: وجدته! سوف يعرفني الناس فيما بعد بهذا الاسم، حيث أضحى اسمي الذي أضحت حتى والدتي تناديني به!”.
يحكي وائل عن أنّ “الكراس مشروع فخر بالنسبة لي، الكراس خطوة ثوريّة بالمعنى الفني والمعني السياسي. لكن أولًا ثوري بالمعنى الفني الثقافي. كما أفتخر أنّ محمود شاهين ورياض عُرفا واسعا بعد أن أن نشرا في الكراس الذي كان له اليد في تقديمهما إلى الوسط الثقافي الأدبي، عدا عن كون الكراس يربطني عاطفيًا بأصدقاء الزمن الجميل الذين رحلوا باكرًا: جميل حتمل ورياض الصالح الحسين” الذي كتب في قصيديته (خراب الدورة الدموية) في العدد الأول من الكراس:
“أيتها البلاد المصفحة بالقمر والرغبة والأشجار،
أما آن لك أن تجيئي؟!
أيتها البلاد المعبأة بالدمار والعملات الصعبة
الممتلئة بالجثث والشحاذين،
أما آن لك أن ترحلي؟!”.
فهل رحل الكرّاس مع تلك البلاد “الممتلئة بالجثث والشحاذين” والمخابرات والعسس؟
ملاحظة: تم إجراء تعديل على هذه المادة بتاريح ٦ يناير ٢٠٢٢، حيث تم استبدال عبارة “نّ محمود شاهين ورياض انشهروا بعد الكراس الذي كان له اليد في تقديمهم إلى الوسط الثقافي الأدبي”، بعبارة “عُرفا واسعا بعد أن أن نشرا في الكراس الذي كان له اليد في تقديمهما..”.
كما تم إضافة المقطع التالي: “يضيف حسان: “أن الأعداد الثلاثة الأولى أعدها كل من حسان ووائل وجميل في بيتي في البرامكة، وبقية الأعداد حتى الخامس قام بإعدادها كل من حسان ووائل وجميل وفادية التي كتبتها على الآلة الكاتبة، ثم قمت بطباعتها مع فادية وجمعت في بيتي على شكل ملازم ثم تم تدبيسها وإعدادها للتوزيع”.
رئيس تحرير موقع حكاية ما انحكت (النسخة العربية). باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها.
حكاية ما أنحكت