سياسة

سجّان بشار الأسد “أنور رسلان ” خلف القضبان إلى الأبد ومحاكمات ألمانيا الأخرى لجلاديه-مقالات وتحليلات مختارة-

أنور رسلان: سجّان بشار الأسد خلف القضبان إلى الأبد/ كارمن كريم

هل ستتحقق العدالة خارج سوريا حصراً؟ وكأن لا مكان للعدالة في الداخل. إنها هواجس تلاحق السوريين الخائفين في الداخل والذين يواجهون كل يوم المزيد من القتلة الذين لا تشملهم أي محاسبة.

أنور رسلان اسم يستطيع السوريون استبداله بمئات الأسماء الأخرى من ضباط وسجانين ومحققين، اسم مرادف للموت والمعتقلات والقتل.

 أنور رسلان اسم آخر لبشار الأسد، للقتل والديكتاتورية والاغتصاب والمجازر، وهو بات اليوم خلف القضبان. 

إذاً تحققت العدالة لمرة واحدة، وربما سيتمكن الآلاف اليوم ممن عذبهم رسلان وممن شتمهم وقال لهم: “بدك حرية؟” ثم صفعهم، الارتياح قليلاً بانتظار عدالة ناجزة من خلال إسقاط ومحاكمة النظام الذي لا يزال متشبثاً بالسلطة على حساب أرواح آلاف السوريين!

فهل كان الحكم بداية للعدالة أم هو اعتراف بعجز العدالة الدولية عن إسقاط نظام الجريمة القابع في دمشق وملاحقة أذنابه الصغار!

بارقة أمل في ملف الشتات السوري

أنور رسلان العقيد السابق في الفرع “251” أو فرع “أمن الخطيب”، كان ضابطاً بارزاً في المخابرات السورية، وبعد تعذيبه أكثر من أربعة آلاف شخص وقتل 58 منهم، إضافة إلى ارتكابه حالتي عنف جنسي واغتصاب، قرر الانشقاق وقدم لجوء سياساً إلى ألمانيا، إلا أن العدالة التي تجاهلها في سوريا لاحقته إلى بلد اللجوء، ليتعرف إليه أحد ضحاياه، ويحاكم في كوبلنز غرب ألمانيا، بعد توقيفه عام 2019.

المحكمة العليا الإقليمية في كوبلنز، أعلنت الحكم بالسجن مدى الحياة بحقّ رسلان، وهو قرار يأتي بعد أكثر من عشر سنوات على الثورة السورية، ما يعيد  للسوريين بعض الأمل بتحقيق العدالة ومعاقبة من شارك في قتلهم وتشريدهم.

ووسط غياب شبه كامل للعدالة على مر أكثر من عقد هو عمر الثورة السورية وعمر الحرب والمجازر التي لم تنته حتى اللحظة، اعتبر عدد من السوريين أن الحكم بداية، فاعتبر عمر الشغري، المعتقل السابق ومدير ملف المعتقلين في “المنظمة السورية للطوارئ”، أن الحكم هو “إعادة تكوين للأمل” الذي يحتاجه كل شخص سوري، وعلى رغم أهمية الحكم إلا أنه لن يرمم الكسور والمعاناة التي عاشها المعتقلون وعائلاتهم، لكنه فرصة لتجديد الأمل، مشيراً إلى أن التوسع في تقديم أمثال رسلان للمحاكمة سيقدم إثباتات لدول العالم على أن النظام السوري هو مجرم حرب وبالتالي لن تطبع مستقبلاً دول مثل ألمانيا معه.

الحكم عنوان عجز عن العدالة!

الحقوقي السوري حسام القطلبي لـ”درج” يرى أن أهمية كوبلنز معنوية وأخلاقية، “إذ إنه أول حكم يصدر بحق أحد مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا منذ استقلالها حتى اليوم، إلا أن هذا الحدث بالنسبة إلى الفظائع التي ارتكبها النظام، لا يعد كافياً أو مهماً بما يكفي، أولاً لأنه لا يشكل بأي حال جزءاً من استراتيجية شاملة للعدالة، كما أن البناء عليه محدود للغاية، وثانياً لأن السوريين أنفسهم لا يمتلكون هذا المسار ولا يساهمون في صياغته إلا من خلال دورهم كشهود وضحايا، في مقابل الملكية الكاملة لمنظمات دولية وللقرار السياسي الألماني، وثالثاً لأنه يشكل عنواناً عريضاً لعجز العدالة الدولية أمام الملف السوري وتقديمها بدائل سريعة ومجتزأة كهذه المحاكمة، كما يشكل الحكم بحسب القطلبي جزءاً يتم تكريسه لمحاكمات بحق هاربين وخارجين تحت عناوين مختلفة من المنظومة والهيكلية الإجرامية في سوريا، وبهذه السياقات فالحكم هو عنوان عجز كبير عن العدالة بدل أن يكون عنوان انتصار لها.

أما عن تأثير الحكم في النظام السوري وحلفائه، فلا يعتقد القطلبي أن للحكم أي تأثير مهم على النظام وحلفائه، فهؤلاء يشعرون بنجاعة الحماية التي يؤمنها لهم البقاء داخل المنظومة نفسها بدل الخروج عنها والتعرض لمخاطر المحاسبة، مسلطاً الضوء على المشكلة الجوهرية في بنية العدالة الدولية وحقيقة ما تصنعه على أرض الواقع، إذ لا تقدم حتى اللحظة سوى حلول عاجزة مستعينة بالولاية القضائية العالمية لمحاكم محلية محدودة الصلاحيات والامكانيات ومرهونة بشكل بالغ لإرادة سياسية لدولها.

من جهة أخرى يرى القطلبي، أن مسار المحكمة بإمكانه أن يكون قيمة مضافة لو تمكن السوريون من استخلاص تجربة قد تشكل “بروفا” مبكرة تدفع باتجاه بناء استراتيجية فعلية لملف العدالة في سوريا، وهذا يتوقف على القراءة الصحيحة للمحكمة وشهودها ودور المنظمات الدولية وأجنداتها والتأثير السياسي الدولي فيها والأطراف المختلفة التي تستثمر في مسار كهذا سياسياً وديبلوماسياً ومالياً، كما يركز على أهمية هذه المحاكمة كنموذج جيد للقياس عليه بما يخصّ حرية النقاش المتاحة والنقد الممكن، من دون إشهار السيوف وتصعيد لغة العنف التي تحتمي بعناوين كبرى وتابوهات مسبقة، بذريعة ألّا صوت يعلو فوق صوت المعركة، قائلاً إن العدالة يجب ألا تشكل مجالاً استثمارياً لمصالح خارج مبادئها ونصوصها، ما يحتاج إلى مناخ معين وفضاء حر لنقاش كل شيء، وهذا ما لم يكن دائماً متاحاً خلال مسار محكمة كوبلنز، حيث قوبل كل صوت ناقد أو دعوة إلى فتح النقاش بالإسكات والعزل.

مع وجود 130 ألف مغيب قسراً في سوريا، تبدو العدالة عبر أنور رسلان غير مكتملة وهو ما ألمحت إليه الناشطة السورية وفا مصطفى ابنة المغيب قسراً على مصطفى منذ عام 2013. فقالت: “وماذا بعد؟” سائلة، متى سيحصل شيء حقيقي ينقذ المعتقلين والمغيبين كوالدها؟ وأشارت إلى أن أي عدالة في سوريا يجب أن تبدأ بإطلاق سراح جميع المعتقلين والمعتقلات من سجون الأسد والفصائل المسلحة.

وفي حين كانت ردود فعل السوريين متباينة على وسائل التواصل الاجتماعي إلا أن نوعاً من الحزن شاب معظمها، فأنور رسلان هو واحد من مئات القتلة في هذه المنظومة الديكتاتورية، فهل يتعرف السوريون إلى المزيد من أمثاله في أوروبا؟ وفي هذا السياق، دعا “المرصد السوري لحقوق الإنسان”، إلى جميع السوريين في أوروبا والذين يملكون وثائق تدين أشخاصاً نكلوا بأبناء الشعب السوري، بالتوجه إلى المحاكم وتقديم جميع الوثائق.

هل ستتحقق العدالة خارج سوريا حصراً؟ وكأن لا مكان للعدالة في الداخل. إنها هواجس تلاحق السوريين الخائفين في الداخل والذين يواجهون كل يوم المزيد من القتلة الذين لا تشملهم أي محاسبة.

 أمّا أهالي المغيبين قسراً في الخارج، فأنظارهم لم تبتعد عن الداخل حيث تنبض قلوب أحبتهم أو ربما لا! آخرون يرون أنه وبعد كل الظلم الذي عانوه فإن محاكمة رسلان هي انتصار حقيقي، بعدما ظنوا أن لا أحد يسمعهم، وإذا كان اليوم دور رسلان… فقد يكون الأسد غداً.

 درج”

———————————

بشار الأسد خلف القضبان/ عمر قدور

كان بشار الأسد ماثلاً خلف القضبان، وقضت المحكمة بتجريمه والحكم عليه بالسجن مدى الحياة. هذه خلاصة المبالغة في الاحتفاء بالحكم الصادر عن محكمة كوبلنز الألمانية على المتهم أنور رسلان، وهو ضابط سابق برتبة عميد في “إدارة أمن الدولة”، وخدم كرئيس لقسم التحقيق في “فرع الخطيب” الذي نال سمعة واسعة بوحشية جلاديه، أسوة بفروع أخرى لمختلف أنواع المخابرات التابعة الأسد، من “أمن دولة” و”أمن سياسي” و”أمن عسكري” وأمن جوي” وأصول وتفرعات أخرى تحتاج مجلدات لتعدادها والحديث عن “نشاطها”.

قرار المحكمة شخصي، بمعنى أنها لا تحاكم نظام القتل والإبادة، وإن كان السيستم موجوداً في شهادات المدّعين والشهود، وحتى في دفاع المتهم الأخير عن نفسه. الحكم على بشار الأسد وماكينته هو معنوي في المقام الأول، وعلى الصعيد القانوني لا يعني تجريمُ أنور رسلان التجريمَ التلقائي للرئيس الأعلى للجلادين. الحكم قد يكون مفيداً لجهة الاستئناس به في قضايا أخرى مُقامة، أو قد يبادر إلى رفعها متضررون أو جمعيات حقوقية تنطق باسمهم أمام محاكم غربية، وهي أيضاً قضايا ستثار ضد أشخاص بعينهم، أما محاكمة السيستم ككل فلا يمكن الشروع فيها من دون تأسيس محكمة خاصة بجرائم الإبادة والحرب المرتكبة في سوريا، وهذه دونها فيتو روسي وصيني، وفي الأصل لم تكن هناك مبادرة أممية لطرحها في هيئات الأمم المتحدة.

يصلح البيان الصحفي الصادر عن “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية” كنموذج للتهليل والحفاوة المطلقة، الأمر الذي قد يخلّف نتائج معاكسة على صعيد النظر إلى حكم محكمة كوبلنز. بحسب بيان المركز، هو يعتبر الحكم “قراراً تاريخياً وعلامة فارقة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”، و”القرار تاريخي لأنه يصدر بحق مجرم برتبة عالية، أدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ضمن سياق الجرائم التي يرتكبها، وما يزال يرتكبها، النظام الاستبدادي في سوريا بشكل ممنهج وواسع النطاق بمشاركة كل رموزه الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامي”، و”القرار تاريخي لأنه ولأول مرة تكون إجراءات العدالة أولاً وسابقة لأي حل وقبل انتهاء الأزمة وقبل توقف الجرائم ولا يتم التحكم بها أو تحجيمها أو إلغائها من قبل السياسيين”. القرار تاريخي لأنه لأول مرة تبدأ العدالة بطلب وجهود الضحايا والمجتمع المدني، وباستجابة من قضاء مستقل بدون تدخل الدول أو المجتمع الدولي”.

هذه اللهجة تسود عموم البيان المطوَّل للمركز المعني مباشرة بتحقيق الانتصار، من موقع الادعاء والاشتغال على إحضار المدعين الشخصيين والشهود. وإذا كان يحق للمركز الشعور بنشوة الانتصار، وهو حقاً أول انتصار سوري قضائي من هذا المستوى ضد سلطة الأسد، فينبغي التشديد على كونه “انتصاراً سورياً”، بمعنى التحلي بقليل من التواضع وعدم إطلاق أحكام من قبيل أن القرار “علامة فارقة في تاريخ القضاء الألماني وتاريخ العدالة العالمية”. اللباقة أيضاً تقتضي أن يقرر حقوقيون ألمان العلامات الفارقة في تاريخ قضائهم، وأن يُترك لخبراء قانون متعددي الجنسيات تقرير ما إذا كانت محاكمة أنور رسلان علامة في تاريخ العدالة العالمية.

أبعد مما سبق، يذهب بيان المركز إلى “أنه لم يعد ممكناً بأي شكل من الإشكال، وتحت أي عنوان، إعادة دمج زمرة مجرمين، ونظام مجرم، مدانين قضائياً بجرائم ضد الإنسانية، في المجتمع الدولي مرة أخرى”. كأن بشار الأسد حقاً مَن كان خلف القضبان، أو أن هذا المصير لم يعد بعيداً عنه رغم تصريحات قادةٍ من دول عظمى تنص على ما يخالف هذا التفاؤل المفرط. هو تفاؤل ينقصه تواضع الإقرار بأن صدور الحكم لا يعدو كونه خطوة في مسار شائك طويل جداً، وينبغي السير فيه رغم عدم وجود ضمانات ليُكلل بالنجاح المأمول.

من المؤسف حقاً أن يسيء المركز إلى جهوده الحميدة في هذه القضية بمبالغات يجانب بعضُها الصواب على نحو فاضح، فتذكّرنا بالخطاب الإعلامي الأسدي الذي نشأ عليه عموم السوريين، ولا يندر أن نراه يطل هنا أو هناك من خطابات المعارضة والثورة، وهذا هو سبب توقفنا عند بيانه، فضلاً عن أن لغته تمثّل شريحة أوسع من المحتفلين بصدور الحكم. البيان نفسه يشير بتعبير تقني محايد إلى مغادرة رسلان سوريا في نهاية عام2012، ويخلو من أية إشارة فيها قليل جداً من الإيجابية لصالح مُدان قرر، وبإرادته إذ لم يثبت وجود ضغوط وراء قراره، ترك عمله الإجرامي السابق. وإذا كان زمن الانشقاق قد ولّى، بمعنى أن الإشارات الإيجابية لن تشجّع أحداً على الانشقاق، فهي تبقى ضرورية على أمل إحياء شيء من الإنسانية لدى جلادين على رأس عملهم لدى ماكينة الأسد، وأيضاً لدى جلادين أصغر شأناً في مناطق خارج عن سيطرته.

من جهته، لم يقدّم أنور رسلان في كلمته الأخيرة إلى المحكمة ما يفترق عن الخطاب الأسدي إياه لجهة القفز عن الواقع والانتقائية وعدم الاعتراف بأدنى خطأ. هو ينكر تماماً أن يكون قد أصدر أمراً واحداً بالتعذيب أو استخدام العنف أو إساءة معاملة أيّ من السجناء، ويقول أنه كان تحت المراقبة بوصفه خائناً أو غير مأمون الجانب لانتمائه إلى بلدة الحولة الثائرة على الأسد، والتي تعرض أهلها لمجزرة مروعة. ويسهب في ذكر حوادث وتفاصيل تلقي بالمسؤولية على ضباط آخرين، بينما كان هو طوال الوقت يحاول مساعدة ما يُتاح له من المعتقلين الذين يُساقون إلى “فرع الخطيب” بما يفوق بكثير جداً طاقته الاستيعابية.

الاستدلال بأقوال رسلان نفسه يأخذنا إلى نتائج مختلفة، فمع الاحتفاظ بما يرويه عن حسن نواياه إزاء المعتقلين من المنطقي أن يمارس التمويه عليها، فيأمر أو يستخدم منسوباً ولو متدنياً جداً من العنف. ثم إن قارئاً لكلمة رسلان، لا يعرف خبايا عمله، سيظن أن العنف راح يُستخدم فقط بعد اندلاع الثورة، ولم يكن يُستخدم قبلها على نطاق أضيق يفي بالغرض، وليس أصلاً في جوهر إنشاء وعمل هذا العدد الضخم من فروع المخابرات. هو لا يُظهر أي ندم على عمله في المخابرات قبل اندلاع الثورة، وعلى ذلك لا يقدّم “من موقعه المفترض كمنشق” إدانة جذرية لسلطة الأسد بوصفها كانت وحشية قبل اندلاع الثورة، أي بطبيعتها، وزادت وحشيتها مع تعرضها للخطر. صحيح أن القضية المرفوعة وضعته في موقع المتهم، لكن كان في وسع رسلان الانتقال معنوياً إلى موقع المدّعي لو أدان ماضيه واعتذر عنه بدل محاولة التملص منه.

في المدى المنظور، نعلم أن مصير بشار لن يُقرر في قاعة محكمة، ولن نراه خلف القضبان مهما كان المصير الذي ستقرره له القوى القادرة على ذلك. ولأن الأمر على هذا النحو يجدر بمحاكمة رسلان وغيره أن تكون تمريناً سورياً على فكرة العدالة، إنما بأدوات غير أسدية، بدءاً من الخطاب المستخدم الذي رأيناه مقسوماً على جهتي الادعاء والدفاع.

المدني،

—————————————

السوريون ومعركة إحلال العدالة!/ فايز سارة

حكاية السوريين مع نظام الأسد في أحد وجوهها هي معركتهم من أجل العدالة، وهي مستمرة منذ أن قفز بعثيو اللجنة العسكرية الذين كان الأسد الأب واحداً منهم للاستيلاء على السلطة في مارس (آذار) 1963. وكان بين خطواتهم الأولى إعلان حالة الطوارئ، التي شكلت انتهاكاً لحق السوريين بالعدالة؛ إذ جعلت الحاكم القادم بليل المؤامرة لا القاضي صاحب القرار، وقد أكد الأسد الأب بعد استيلائه على السلطة في عام 1970، استمرار حالة الطوارئ، واستخدمها لإخضاع السوريين بالقوة طوال ثلاثين عاماً، وورث الأسد الابن حالة الطوارئ في سلطته، عندما خلف أباه في عام 2000، واضطر إلى إلغائها تحت ضغط ثورة السوريين عام 2011، ثم تجاوز كل مضامين حالة الطوارئ إلى الأسوأ بإصداره قانون مكافحة الإرهاب عام 2012، داعماً إياه بالمزيد من القوانين والإجراءات، التي صارت بمثابة قوة غاشمة ومتوحشة، تصاعدت في مواجهة السوريين وثورتهم في السنوات التالية.

وطوال أكثر من خمسين عاماً جهد السوريون في طلب العدالة، ليس من أجل إلغاء حالة الطوارئ فقط، فهذا استثناء كان من الطبيعي تجاوزه، بل أيضاً من أجل الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، التي همّشها النظام، وصار يتحكم بأصغر تفاصيلها وحيثياتها، كما سعى السوريون من أجل تحديث القوانين وتطويرها بما يتناسب مع محتوى حقوق الإنسان، ومتطلبات التقدم في العالم المعاصر، وحدثت مواجهات متعددة بين السوريين، لا سيما أطرهم الحقوقية والقانونية، ونظام الأسد وأجهزته، بينها معارك النقابات المهنية في الثمانينات، والصراع بين النظام والنخبة السورية في فترة ربيع دمشق التي أعقبت مجيء بشار الأسد إلى الرئاسة عام 2000، وقبل أن يحصل الانفجار السوري الشامل في عام 2011، الذي ما زالت المعارك من أجل العدالة فيه مستمرة، وإن اتخذت أشكالاً ومسارات، تأثرت بالتطورات السياسية والميدانية للصراع في سوريا.

غير أن سنوات الثورة السورية وما حملته من تطورات، خصوصاً في أمرين أساسيين؛ أولهما تصاعد وتنوع جرائم نظام الأسد، منها جرائم استخدام الأسلحة الكيماوية والجرائم ضد الإنسانية، وجريمة التغيير الديموغرافي وغيرها، والثاني خروج ملايين السوريين لاجئين ونازحين من بلادهم نحو دول الجوار والأبعد منها، وأغلب هؤلاء كانوا ضحايا نظام الأسد وحلفائه، وكلا الأمرين ولأسباب أخرى، فقد تمددت حرب السوريين من أجل العدالة من واقعها السوري المحلي لتصير معركة عامة لها امتداد حيث يوجد سوريون، وتتوفر بيئة إدارية وقانونية مناسبة، وقد اجتهد السوريون، منهم الحقوقيون والقانونيون من أفراد وتنظيمات، في تنظيم أنفسهم في كيانات لها أدوات، تجمع وتنظم الوقائع والوثائق والشهادات، وتباشر الصلات مع مرجعيات إدارية وقانونية وحقوقية عبر العالم في إطار المعركة من أجل العدالة.

وسط كل المساعي والجهود، تبلورت خطوة أولى في ألمانيا، تصب في مسار السوريين نحو العدالة، حيث انطلقت أعمال المحكمة الألمانية في مدينة كوبلنز الواقعة في غرب ألمانيا لمحاكمة اثنين من جهاز مخابرات أمن الدولة، أبرزهما العقيد السابق أنور رسلان رئيس قسم التحقيق في الفرع 251 المعروف باسم فرع الخطيب بدمشق، وطوال نحو عامين تواصلت أعمال المحكمة، فعقدت أكثر من مائة جلسة، جرى فيها سماع أكثر من أربعين شاهداً، وانتهت المحاكمة إلى الحكم على رسلان بالسجن المؤبد بعد أن وجدته مذنباً بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، و«تعذيب آلاف السجناء»، والتسبب في موت عشرات منهم تحت التعذيب، عندما كان مسؤولاً لقسم التحقيق في الفرع 251، ورغم أهمية النتيجة الأخيرة لمحاكمة أنور رسلان في سياق محاسبة مجرمي أجهزة نظام الأسد ومعاقبتهم، فإن ثمة تفاصيل بينتها المحاكمة من خلال ما قدمه الشهود، وما تم من تدقيق من جانب قضاة المحكمة، حيث تبين بصورة واضحة الطابع الإجرامي لأجهزة المخابرات السورية، خصوصاً جهاز أمن الدولة وفرعه 251 الذي يعد الفرع الأهم في أمن الدولة، بسبب حجمه وتتعدد مهماته وتدخلاته في شؤون الدولة والمجتمع، إضافة إلى اهتمامه ومتابعته السياسة الخارجية والعلاقات البينية مع دول وكيانات وتنظيمات تربطها بسوريا روابط خاصة، ولأنه على هذا النحو من الأهمية، فقد غلب إن كان لرئيس الفرع خط اتصال مباشر مع رئيس النظام، خصوصاً إبان تولي محمد ناصيف رئاسة الفرع بين سبعينات القرن الماضي ونهايته.

كان بين أولى مهمات الفرع مواجهة معارضي النظام من تنظيمات وشخصيات، ليس لمنعهم من السعي إلى ما يريدون، بل أيضاً لإجبارهم على الخضوع والموافقة على ما يريده النظام، مما جعلهم أهدافاً تتم متابعتهم واعتقالهم وتعذيبهم لانتزاع معلومات، أو انتقاماً وتخويفاً، وقد يصل الأمر إلى حد قتلهم إعداماً أو تحت التعذيب في ظل «حماية» قانونية يوفرها «القانون» الخاص بجهاز أمن الدولة الصادر عام 1968 لكل العاملين فيه من مدنيين وعسكريين، وكان ذلك أحد عوامل شجعت على إطلاق وحشية ضباط وعناصر أمن الدولة في مواجهة السوريين مع انطلاق الثورة عام 2011، وهو الوقت الذي كان فيه العقيد أنور رسلان يتولى رئاسة قسم التحقيق في الفرع 251.

وأنكر رسلان في أقواله لدى المحققين وأمام المحكمة مسؤوليته عن عمليات الاعتقال والتعذيب والقتل، التي طالت سوريين في فترة رئاسته قسم التحقيق، لكن الإنكار لم يستطع مواجهة ما استندت إليه المحكمة في حكمها بإيقاع عقوبة السجن المؤبد على المتهم بالاستناد إلى شهادات تم الاستماع إليها من معتقلين وسجناء سابقين، تعرضوا للتعذيب والاعتقال والاستجواب على يد رسلان نفسه، وإلى شهادات أقارب الذين قُتلوا في الفرع 251 في خلال الفترة التي كان رسلان مسؤولاً فيها، والواقعة بين مطلع عام 2011 وسبتمبر (أيلول) 2012، حيث انشق عن النظام، ولجأ إلى الأردن، وسافر بعدها إلى ألمانيا عام 2014، وهناك اعتُقل، وأُودع السجن.

قيل الكثير عن المحكمة ونتائجها، والأهم أنها فتحت الباب واسعاً لمحاسبة مجرمي نظام الأسد، بل إنها ستضع قَتَلة السوريين من حلفاء الأسد من إيرانيين وروس وميليشيات على قائمة المطلوب محاكمتهم لدورهم في المقتلة السورية وما تسببت فيه، والمحكمة ستشجع العالم وتعطيه خبرة هائلة لبدء موجة من محاكمات تلاحق المرتكبين أياً كانوا، وتوقع بهم ما يستحقون من جزاء، إضافة إلى أنها ستجعل من اسم مدينة كوبلنز اسماً مماثلاً في شهرته لاسم مدينة نورنبيرغ الألمانية، التي حاكمت في عام 1945 وبعده رجال العهد النازي في ألمانيا على جرائمهم التي لا تقل وحشية عن جرائم نظام الأسد وحلفائه.

قبل عام، وعندما كنت أقدم شهادتي أمام محكمة كوبلنز، كنت أسترق النظر إلى أنور رسلان فأراه بائساً، وربما يائساً وخائفاً، لكن في كل الأحوال، لم يكن يشبه في شيء ضحاياه الذين كان يحقق معهم في مكتبه في الفرع 251، وهم معصوبو الأعين ومشدودو الوثاق إلى الخلف، وبعضهم عراة وقد خرجوا قبل لحظات من أتون عذاب لا يحتمله بشر، كنت في سري أقول إنها بداية العدالة للسوريين ليس فقط للضحايا، وإنما حتى للجلادين أيضاً، حيث كان واحد منهم قبالتي يحتفظ بكل حقوقه رغم كل جرائمه. إنها معركة إحلال العدالة!

الشرق الأوسط

————————————–

ألمانيا وسوريا: مفارقات التاريخ والعدالة!

رأي القدس

اعتمدت ألمانيا مبدأ قانونيا يعطيها ولاية قضائية عالمية، ويسمح ذلك لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكابهم للجرائم.

استنادا على هذا المبدأ، حكمت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز، أمس، على أنور رسلان، وهو ضابط مخابرات سوري منشق، بالسجن المؤبد، بعد اتهامه بارتكاب 58 جريمة قتل في سجن في العاصمة السورية دمشق، والمسؤولية عن تعذيب أكثر من أربعة آلاف شخص بصفته رئيسا للتحقيق في فرع أمني خلال عامي 2011 و2012 اللذين شهدا انطلاق ثورة شعبية ضد النظام.

أثار حكم المحكمة، وهو الثاني بعد حكم بالسجن على رقيب في المخابرات السورية السنة الماضية، جدلا سوريا وعالمياً، لأن الحكمين صدرا على ضابط وضابط صف خرجا على النظام وخاطرا بحياتيهما للانشقاق عليه، وليس على كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين ما زالوا يتابعون عمليات الاعتقال والتعذيب والاغتصاب، بحيث يبدو الأمر، سياسيا، عقوبة لمن خرجوا على النظام، وإنذارا لمن يفكرون بالخروج عنه!

القائمون على الحملة القانونية التي أدت لاعتقال المذكورين (وبعض أعضائها، أو أغلبهم، تعرّض للاعتقال والتعذيب في فروع أمن النظام) رأوا أن خروج مسؤولين أمنيين سابقين على النظام لا يعفيهم من العقوبة على أفعالهم السابقة، وأن المحاكمات، التي طالت أمنيين منشقين على النظام، ستطال أشخاصا آخرين غير منشقين، كما هو الحال مع محكمة ستنعقد الأسبوع المقبل في فرانكفورت لمحاكمة طبيب لجأ إلى ألمانيا متهم بارتكاب جرائم خطيرة.

يضاف إلى ذلك، حسب القائمين على الحملة، فإن المحاكمات تعتبر تأسيسا قانونيا لمحاكمة جهاز المخابرات السرية في سوريا بأكمله، وحسب «منظمة العفو الدولية» فإن المحكمة «ثبتت بشكل واضح ورسمي ظروف الاعتقال غير الإنسانية وأعمال التعذيب المنهجية والعنف الجنسي والقتل في سوريا» كما أن المحكمة وافقت على عرض صور من «ملف قيصر» الشهير، الذي وثّق صور 6786 معتقلا سوريا قتلوا بطرق وحشية، وقد ساهمت هذه المحاكمة، بالتأكيد، في تشجيع سبعة سوريين ممن تعرضوا للتعذيب أو شهدوا عمليات اغتصاب واعتداءات جنسية في مراكز احتجاز للنظام على التقدم بدعاوى قضائية.

تحيل المحاكمة المذكورة إلى تاريخ ألمانيا نفسها، وإلى محاكمة المسؤولين الألمان الذين ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال الحقبة النازية، حيث أقامت المحاكم الدولية والمحلية والعسكرية محاكمات لعشرات الآلاف من المتهمين، وقد وضعت هذه المحاكمات سوابق قانونية ثابتة وساعدت على ترسيخ المبدأ المعمول به حاليا الذي ينص على وجوب معاقبة مرتكبي الجرائم الشنيعة مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وهذا الإرث موجود، ضمنا، في محاكمات النازيين الجدد الذين يقومون بالاعتداء على أقليات وأجانب وعناصر شرطة.

لا تقتصر دائرة المحاكمات على ألمانيا، فهناك قضايا مرفوعة من منظمات وأشخاص في فرنسا والنمسا والنروج والسويد، التي سجلت عام 2017 كونها أول بلد يدين قضاؤه عنصرا سابقا في قوات النظام بجرائم حرب، وهناك شكاوى قضائية فيها ضد رئيس النظام وعدد من كبار المسؤولين.

يسجل أيضا أن قضية رفعتها مواطنة من أصل سوري في إسبانيا ضد تسعة من كبار مسؤولي النظام تتهمهم فيها بالاحتجاز القسري وتعذيب شقيقها وتصفيته قد تم ردّها، كما أن محاكمة رفعت الأسد، عمّ رئيس النظام، أظهرت القضاء الفرنسي، والأوروبي عموما، بمظهر المتواطئ حين يتعلّق الأمر بأحد أهم الشخصيات التي أسست النظام الحالي، حيث تمّ التركيز على تهم الفساد الماليّ وغضّ النظر عن اتهامات له بالمسؤولية عن مجازر حماه وسجن تدمر، وانتهى الأمر بصوره ضاحكا بعد عودته إلى سوريا.

القدس العربي

——————————

بعد الحُكم على أنور رسلان.. ماذا عن خوفنا المؤبد؟/ علي سفر

هل تذكرون “أبو مروان”، ذلك المجرم السوري الذي ذبح زوجته السابقة، ونال حكماً بالسجن المؤبد في مدينة كارلسروه الألمانية؟ هذا الكائن، وأثناء قيامه ببث مباشر عبر “فايسبوك”، بعد قيامه بفعلته، وأثناء وقوفه مع ابنه أمام منزل ضحيته، أرسل للسوريين عبارة ما زالت ترن في الرأس، إذ قال: “هلق رح تجي الشرطة الألمانية، وكف واحد ما باكل”!

الفرق في معاملة الأجهزة الأمنية مع من يرتكب الجريمة في سوريا، أو أي بلد عربي، وبين معاملة أمثالها مع من يرتكب الجريمة أيضاً على أرض البلدان التي تحفظ كرامة وحقوق الإنسان، كان نقطة الفصل، بين تردد هذا الرجل، وبين مضيه في فعلته.

وإذا كان لنا أن ندقق في أثر اختلاف القوانين والأنظمة، في معدلات ارتكاب الجرائم، فإننا حكماً لن نلحظ وجود ارتفاع في معدلاتها في أوروبا وغيرها من البلدان المتطورة، بالقياس مع معدلاتها في بلداننا! لماذا لا ترتفع النسبة؟ رغم أن آليات التعاطي مع المجرمين القتلة، وكذلك مع من يرتكبون جنايات أخرى، تبدو غير عنفية، كما ادعى أبو مروان، وهو يشجع أمثاله، على فعل الأمر ذاته مع نسائهم؟

هذا لا يحدث، لسبب رئيس، هو أن الحريات الشخصية بمستوياتها كافة، محفوظة ومصانة بموجب القوانين، واحترام كرامة البشر، وهو أمر مؤسَّس له منذ عشرات السنين، وبما لا يترك لأي كان فرصة لأن يعتقد بأنه يمكن له أن يستحوذ ويسيطر على الآخر، لا زوجته، ولا أولاده، فلا يستطيع الاقتراب من أي عتبة قد تمكنه من تهديد حريتهم، فكيف الحال بتلك التي تهدد حيواتهم؟ فإذا كانت الأرضية التي يقف عليها الجميع، هي هذه، فإن وقوع جريمة ما، حتى الأفعال التي يرتكبها إرهابيون، لا يعني أن للشرطة أو للقوات الأمنية الحق، في إهانة شخصية المجرم، ولا مسّه، في حال لم يمانعها! لهذا، قام عدد من “الأبو مروانات”، على مدى سنوات، بارتكاب جرائم مشابهة في ألمانيا، وغيرها، فالثقافة الراسخة في عقولهم، مرتبطة بوجود العنف السلطوي، وعندما ينتفي وجوده، يعتقدون أن بإمكانهم استباحة الآخرين!

آلية الامتثال للقانون، والتعاطي مع التشريعات من دون خوف، وما يقابل ذلك من احترام لكينونة الإنسان، وكرامته وحريته من قبل السلطات التنفيذية، وضعا السوريين في مسار سينتج تراكماً، يؤدي بشكل أو بآخر إلى إصلاح الواقع المدمر، بعد عقود من سيطرة النظام القمعي على حيواتهم.

لغة “الكفّ”، التي غرزت أظافرها في العقول، ستموت شيئاً فشيئاً في فضاءات الحرية، وستحل محلها لغة مختلفة، لطالما حلم السوريون بأن يعيشوا وسط ألحانها ونغماتها. لهذا، فإن العودة إلى هذه التفاصيل، ودراستها بعد عقد المقارنات، هي أول ما يأتي إلى الذهن بعدما أصدرت محكمة مدينة كوبلنز الألمانية حكمها بالسجن المؤبد على الضابط الأمني السوري المنشق أنور رسلان، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. فهذا أول حكم في أول محاكمة لضابط مخابراتي، كان يدير فرعاً أمنياً، ارتعدتُ خوفاً ذات يوم وأنا أدخله، حينما استُدعيَت زوجتي إليه بموجب تبليغ شفوي تلقته من مكتب المدير العام للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. ولم أكن أعرف أن قيامي بمرافقتها سيؤدي إلى تحولي، بعد نصف ساعة، إلى شخص مطلوب للتحقيق أيضاً، لكن دون أن يتم ذلك، فالمحقق المكلف بمقابلة “المجرمين” الذين وقعوا بيان “فك الحصار عن درعا” في أيار 2011، رأى أن عليه تحطيم كرامتي، وجعلي أعيش الخوف والرعب، من احتمال اعتقالي، وعلى الأقل، أن أرتعد مما يجري في الغرف المغلقة، ومن صراخ المحققين على من تمّ استدعاؤهم، ومَن اعتُقلوا في فرع الخطيب، وصفعهم لهم على وجوههم قبل أن يتحول التحقيق إلى حفلة تعذيب شرسة.

نعم، لقد كنت شاهداً على آلام الآخرين عبر سماعي لأصواتهم، وهم مقيدون، يتعرضون لاعتداء “وحوش” الأمن. لكني لم أشهد في محكمة كوبلنز، لأن سماع الأصوات في فرع أمني، لا يشكل شيئاً أمام هول ما شعر به وعاناه أولئك الذين تعذبوا، وبالتأكيد سيكون بلا معنى حين نسمعهم يتحدثون عما جرى معهم!

غادرنا ذلك الفرع بعد ثماني ساعات، وفي اليوم التالي عدنا، وأُغلق التحقيق. لكن، حتى هذه اللحظة، لم يخرج المكان من رأسي ومن حياتي، وإلى اليوم تأتيني كوابيس الاعتقال، وكلما استيقظت منها أحمد الله أنني أفيق في فرنسا، على بعد آلاف الأميال من سوريا، حيث ما زالت الفروع الأمنية تؤدي دورها، وما برح عناصرها ومحققوها يفعلون ما اعتادوا فعله، يعتقلون السوريين أو يستدعونهم للتحقيق، مرحّبين بهم منذ البداية بصفعهم على خدودهم بعنف، ليحل “الكف” بدلاً من كلمة مرحبا.

الفرق الذي يحدثه حكم محكمة كوبلنز ضد ضابط عذّب سوريين في وقت ما، وانشق ليقف ضد نظام الأسد، يأتي من أن الأفعال الخسيسة التي لطالما ارتُكبت في سوريا، تحت عيون العالم كله من دون محاسبة، قد تم وضعها للمرة الأولى في التاريخ، في سياق البحث عن العدالة لملايين مروا بتجربة التعذيب، ويتأسس في أن الموقف السياسي لا يصلح لتنظيف الأيدي من الدماء التي تلطخت بها. وبالتأكيد سينهض الفرق من تحول القضية، من مجرد “حادثة سوء حظ لأحد المنشقين” إلى ثقافة، يجب على المثقفين قبل أي أحد آخر، أن يجعلوها خبزاً يومياً لأنشطتهم وفعالياتهم، لعلهم يعيشون يوماً -إن استطاعوا- من دون خوف.

المدن

———————————–

أنور رسلان .. محاكمة على هامش العدالة/ حسان الأسود

أسدلت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز الألمانية الستار على الفصل الأول من محاكمة ضابط المخابرات السوري المنشق العقيد أنور رسلان، وصدر الحكم بالحبس مدى الحياة بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية عن الفترة التي خدم بها في إدارة أمن الدولة في دمشق، والحكم قابل للاستئناف. والمحاكمة تثير الشجون والأسئلة، شجون الضحايا وذويهم، وأسئلة العدالة واستحقاقاتها، وكلّها ذات وجاهة، من أي جانبٍ نُظر إليها، خصوصا أنّ الجرائم التي حُكم عليها المتهم المدان تتراوح بين القتل والتعذيب والاعتداء الجنسي.

أوّل الشجون، هي التي ما زالت معلّقة على جدران الزنازين والمنفردات والمهاجع المكتظّة بالمعتقلين في أقبية مخابرات نظام الأسد، وفي سجونه العلنية والسرية. تلك التي لم يغادر بعضها ساحات الألم والحرمان والحسرة منذ سنين طوال. ثاني الشجون تلك التي تحملها الأمهات والآباء، الزوجات والأزواج، الأولاد والأخوة والأصدقاء، على من غيّبهم الموت أو الاختفاء القسري أو الاعتقال. وهذه شجون بجراحٍ غائرة لا تندمل، وأنّا لها ذلك، وهي مفتوحة وسع المدى تلتهم الأرواح والأجساد والذكريات!

أمّا الأسئلة فأكثر من أن تُعدّ وتُحصى، ولعلّ في الحكم إجابة عن بعضها، ولعلّ في الترحيب الكبير الصادر عن منظمات دولية وشخصيات سياسية إظهار لمدى أهمّية الحكم. لقد عبّرت القاضي كاثرين مارشي – أويل، رئيسة الآلية الدولية المحايدة والمستقلة عن ذلك بقولها: “حكم محكمة كوبلنز بالغ الأهمية، ليس فقط للضحايا والناجين المباشرين من هذه الجرائم، ولكن أيضا للضحايا والناجين من الانتهاكات العديدة التي لم تعالَج بعد، وارتكبت في الماضي وما زالت تُرتكب في سورية. ويجب أن نعترف بأن هناك عملا كثير يتعين القيام به من أجل تحقيق العدالة. ويذكرنا هذا الحكم بما هو ممكن، ويؤكد لمرتكبي الجرائم الخطيرة أنهم سيخضعون للمساءلة بسبب أفعالهم”.

الأغلب الأعمّ من هذه الأسئلة سيبقى بلا إجابات، إلى أن تنتهي مأساة سورية وأهلها، أو إلى أن يرث الله الأرض ويبدأ يوم الدينونة. هل هو كافٍ الحكمُ على ضابط منشقّ عن نظام الأسد، وهل يفي هذا بالغرض، بينما لا يزال كبار المجرمين على رأس عملهم يمارسون الإرهاب والقتل والتعذيب والاغتصاب؟ وما الفائدة التي يمكن أن يجنيها من قضى في السجون؟ وهل يعيد الحكم للضحايا اعتبارهم وبعضاً من كرامتهم المهدورة، هل يتناسب الحكم مع حجم الجرائم الهائل المرتكبة في سورية منذ 11 عاماً، وهل سيكون بالإمكان فتح كل ملفات الجرائم والانتهاكات هناك؟

عشراتُ، بل مئاتُ الأسئلة المحقّة التي يمكن طرحها. ولكنّ لا بدّ من القول إنّ الحكم يؤسّس لسابقة قضائية يمكن البناء عليها، فهو وإن كان محاكمة فردية لأحد المتهمين، إلا أنّ إجراءات المحاكمة المختلفة، وما تطرّقت إليه وما بحثته من أدلّة ودفوع، والسياق العام الذي جرت فيه وحيثيات الحكم، كلها تؤشّر إلى نسقٍ متكامل يخدم العدالة بشكل عام والعدالة في سورية بشكل خاص، خصوصا أنّ المحاكمة قد تطرّقت لما يجري في سورية بهذا الخصوص، وأنها أثبتت أنّ سياسة الاعتقال والتعذيب وارتكاب الانتهاكات ممنهجة وواسعة النطاق، ما يجعل الحكم ذا قيمة عالية.

يهتمّ القانونيّون بالأدلّة المعتمدة، وبمنهج التحليل القانوني، وبالتأصيل القانوني للجرائم من حيث الوصف الجرمي وتحديد العقاب المناسب، كما يهتمون باعتبار هذا الحكم سابقة قضائية مهمّة للعدالة في سورية. ويهتمّ الضحايا بالأثر المعنوي الكبير للحكم، وبالأمل في أن يشكل مثالاً يُحتذى لدول عديدة، لفتح ملفات الملاحقة الجنائية أمام محاكمها وفق مبدأ الولاية القضائية العالمية. كما يشكل الحكمُ أيضاً دافعاً كبيراً للأفراد من الضحايا والناشطين، وللمنظمات العاملة في الشأن الحقوقي، ويبيّن المدى الواسع لمجالات التعاون بينها، والنتائج الكبيرة التي يمكن تحقيقها في هذا المجال.

صحيح أنّ مسار العدالة في سورية طويلٌ جداً، شائكٌ، معقّدٌ ومليء بالتحدّيات، لكنّ مشوار الألف ميلٍ يبدأ بخطوة، وحكم كوبلنز جزء من هذا المشوار، وخطوة في الاتجاه الصحيح. ولعل مما يجب التركيز عليه، في هذا المجال، أنّ جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية لا تتقادم بمرور الزمن، وبالتالي المجال مفتوح لملاحقة مرتكبي انتهاكات كهذه مهما طال الزمن وتراخى، فلن يفلت المجرمون من العقاب.

سيكون علينا، في المقابل، عدم رفع سقف التوقعات، فحجم الجرائم في سورية يفوق كل تصوّر، والمرتكبون موزّعون على جميع الجبهات، فلا وجود لأيدٍ نظيفة في هذا الصراع. وتشارك القوات الأجنبية المختلفة والمليشيات الإرهابية والطائفية بهذه الجرائم مع قوات النظام، وإن اختلفت نسبة هذه المشاركة وحجم الانتهاكات والمسؤولية عنها، إلا أنّ من شأن ذلك أن يعقّد في المستقبل الملاحقة والمحاسبة. لا بدّ أنّه سيكون واهماً من يعتقد أنّ روسيا أو أميركا أو تركيا ستقبل بإنشاء محكمة دولية أو مختلطة مثلاً لملاحقة هذه الجرائم.

مع ذلك، يبقى الأمل قائماً، ويجب أن يُعزّزَ بعمل حقيقي فعّال على الأرض، كي يثمر في النهاية نتائج قابلة للقياس، فتحّيّة لكل من ساهم في هذا المسار، وبرجاء أن تنتقل الملاحقات القضائية لمرتكبي الانتهاكات من جميع الأطراف، من هامش العدالة إلى صلبها وقلبها.

القدس العربي

————————

حكم ٌألمانيٌّ بالسجن المؤبد على جرائم ضد الإنسانية، إجراءٌ ضئيلٌ للعدالة في سوريا/ كلاوس كريس

أدانت المحكمة الإقليمية العليا، في مدينة كوبلنز الألمانية، يوم الخميس 13 يناير/ كانون الثاني 2022 ضابط مخابراتٍ سوريًّا، سابقًا (أنور رسلان)، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. أستاذ القانون الجنائي الألماني والدولي ومدير معهد القانون الدولي للسلم والأمن بجامعة كولونيا كلاوس كريس، يكتب حول هذا الحكم.

ترجمة لدكتورة عنان الشيخ حيدر

أدانت المحكمة الإقليمية العليا، في مدينة كوبلنز الألمانية، يوم الخميس [13 كانون الثاني/ يناير]، ضابط مخابراتٍ سوريًّا، سابقًا، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد. وجدت المحكمة أن المتهم مسؤول عن المشاركة في ارتكاب جريمة قتل 27 شخصًا، وعن حرمانٍ من الحرية وتعذيبٍ لأكثر من 4000 شخصٍ. وقد ارتُكِبت جميع تلك الأفعال، بين نيسان/ أبريل 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012، كجزءٍ من هجومٍ منهجيٍّ واسع النطاق ضد السكان المدنيين في سوريا. وكانت محكمة كوبلنز قد وجدت، مسبقًا، في شباط/ فبراير من العام الماضي، متهمًا سوريًّا من رتبةٍ متدنيةٍ، مذنبًا بالمساعدة في ارتكاب أعمال تعذيبٍ وسجنٍ متعددةٍ، تم ارتكابها كجزءٍ من الهجوم المنهجي وواسع النطاق ذاته، في عام 2011.

قضية في محكمة إسبانية: اختبار التحديات التي تواجه نطاق الاختصاص الدولي في سوريا

15 تشرين الثاني 2017

في حكمها الأول، قضت محكمة كوبلنز بأنه، منذ نهاية نيسان/ أبريل 2011، على الأقل، قامت قوات الأمن السورية، عمومًا، والعديد من أجهزتها الاستخبارية، خصوصًا، بتنفيذ حملة قتلٍ واحتجازٍ تعسفيٍّ وتعذيبٍ ضد أعضاءٍ، فعليين أو مزعومين، في حركة معارضةٍ سلميةٍ لنظام الأسد. بالإضافة إلى ذلك، قررت المحكمة أن هذه الحملة نُفِّذت وفقًا لسياسة القضاء على الاحتجاج السلمي المتنامي بسرعةٍ، ولترهيب السكان السوريين، لمنع الاحتجاجات المحتملة في المستقبل. ووجدت المحكمة أن هذه السياسة كانت سياسة قيادة الدولة في سوريا، أي حكومة الرئيس بشار الأسد. إلى جانب ألمانيا، رُفِعت دعاوى جنائيةٌ على جرائم، بموجب القانون الدولي، في بعض البلدان الأخرى، وربما كانت السويد هي المثال الأبرز، في هذا الخصوص. لكن، على حد علمي، فإن حكمي محكمة كوبلنز لهما قصب السبق في التوصُّل إلى نتيجةٍ، في شأن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت وفقًا لسياسة الحكومة السورية، كنتيجة محاكمةٍ جنائيةٍ، وبناءً على أخذٍ وتقييمٍ لمجموعةٍ واسعةٍ من الأدلة. تم الإعلان عن كلا الحكمين، في جلسة محاكمةٍ علنيةٍ، ولما يصبحا نهائيين، بعد.

يمكن المحاججة بأن حكم يوم الخميس هو أهم مثالٍ، حتى الآن، على تطبيق مدونة قانون الجرائم بموجب القانون الدولي في ألمانيا. تحتوي هذه المدونة، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 2002، على تقنينٍ شاملٍ للجرائم بموجب القانون الدولي العرفي، وتسمح للمدعي العام الاتحادي في ألمانيا بتفعيل الولاية القضائية العالمية لألمانيا على الجرائم الدولية المرتكبة في الخارج، حيثما كان ذلك ممكنًا عمليًّا. هذه السلطة القضائية هي التي مكّنت خبراء القانون الجنائي الدولي، في مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني، من فتح تحقيقاتٍ، على نطاقٍ أوسع، في الجرائم التي يُزعم ارتكابها في سوريا، في وقتٍ مبكرٍ من أيلول/ سبتمبر 2011. بناءً على ذلك، كان المدعي العام الاتحادي الألماني ووكالة الشرطة الفيدرالية الألمانية على أهبة الاستعداد، عندما وصل المتهمون إلى ألمانيا، بعد عدة سنوات. وعلاوةً على سلطة الولاية القضائية العالمية، كانت إجراءات قضية كوبلنز ممكنةً، لأن المشتبه بهم لم يتمتعوا بالحصانة، على الرغم من أنهم قاموا بأفعالهم، بصفتهم الرسمية. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أنه قبل شهرٍ واحدٍ، فقط، من صدور الحكم الأول في قضية كوبلنز، أكدت محكمة العدل الفيدرالية الألمانية، في حكمٍ تاريخيٍّ، مبدأ عدم إمكانية تطبيق “الحصانة الوظيفية”، في الإجراءات المتعلقة بجرائم الحرب، أو بعض الجرائم الأخرى التي تهم المجتمع الدولي، بوصفه كلًّا. ويتعلق ذلك الحكم بمسؤولي الدولة ذوي المراتب الدنيا، على الأقل.

يوفر حكما كوبلنز قدرًا من العدالة لسوريا. ومع ذلك، فهو ليس أكثر من إجراءٍ صغيرٍ، بالنظر إلى الألم الذي لا يوصف الذي عانى، وما زال يعاني منه، العديد من الضحايا السوريين. ومن الآن فصاعدًا، من المأمول أن تبدأ الإجراءات الجنائية الوطنية في بلدانٍ خارج ألمانيا والسويد، حيثما كانت جاريةً بالفعل، وأن تُقام، إذا كان الأمر ضروريًّا أو مفيدًا، بدعمٍ من الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، للمساعدة في التحقيق مع الأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم المرتكبة، في الجمهورية العربية السورية منذ آذار/ مارس 2011، بموجب القانون الدولي، وفي مقاضاة هؤلاء الأشخاص. وينبغي ألا ننسى إمكانية إحالة مجلس الأمن النزاع السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية التي يمكنها، إذا دعمت الإرادة السياسية مثل هذا الإجراء، أن تسهم، إسهامًا كبيرًا، في الجهود المبذولة لتحقيق العدالة لسوريا، بطريقةٍ أكثر شمولاً.

من مواليد عام 1966، أستاذ القانون الجنائي الألماني والدولي ومدير معهد القانون الدولي للسلم والأمن بجامعة كولونيا. وهو أحد مؤلفي المدونة الألمانية للجرائم بموجب القانون الدولي. وهو قاض متخصصٌ في محكمة العدل الدولية في لاهاي، منذ عام 2019.

النص الأصلي لهذا المقال، نشر أولا باللغة الإنجليزية، يوم الجمعة الموافق 14 يناير/ كانون الثاني 2022، في موقع Just Security، على الرابط التالي، وحكاية ما انحكت تعيد نشره بعد موافقة مشكورة من الموقع والدكتور كلاوس كريس.

تمت ترجمة هذا النص من قبل الباحثة المختصة في القانون الجنائي الدولي في جامعة كولونيا، الدكتورة عنان الشيخ حيدر.

حكاية ما انجكت

—————————

الحكم على ضابط المخابرات السوري المنشق أنور رسلان بالسجن المؤبد في ألمانيا/ نورا المقداد بورجار

حكمت أمس المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز الألمانية على ضابط المخابرات السوري السابق أنور رسلان بالسجن مدى الحياة، في قضية ترقبها العالم. هذا الحكم جاء بعد 108 أيام من المحاكمة على جرائم ضد الإنسانية ارتكبها المدعى عليه أثناء خدمته للنظام السوري في سجن الخطيب أو ما يعرف بالفرع 251 التابع للمخابرات السورية العامة.

بحسب المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ECCHR وجدت المحكمة رسلان مذنباً مشاركاً ومسؤولاً عن التعذيب، بالإضافة إلى 27 عملية قتل والإيذاء الجسدي الجسيم وجرائم العنف الجنسي في فرع الخطيب.

ويمثل هذا الحكم سابقة قانونية في محاكمة هي الأولى من نوعها في العالم إذ يستخدم مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة ضابط مخابرات سوري منشق عن النظام على جرائم ارتكبت خارج الأراضي الألمانية.

وكانت محاكمة الضابط السوري المنشق رسلان قد ابتدأت في 23  نيسان/ أبريل 2020 على خلفية ارتكابه جرائم ضد الإنسانية من بينها التعذيب والقتل والعنف الجنسي.

وفي مؤتمر صحافي عقده المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في العاشر من الشهر الجاري، أكد المحامي باتريك كروكر الذي يترأس فريق المحامين الذين يمثلون 14 من الموكلين في القضية ضد رسلان “أن قانون الولاية القضائية العالمية موجود منذ عشرين عاماً، ومحاكمة كوبلنز هي إحدى هذه الحالات، وقد قررنا مع موكلينا والمجتمع السوري هنا التركيز على جرائم التعذيب لأن التعذيب موجود في سوريا منذ زمن طويل، وقبل الثورة. وبسبب تعذر عرض القضية حالياً أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، قررنا أن الطريق الوحيدة المتاحة هي استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية أمام المحاكم الألمانية”.

وكانت المحكمة الألمانية نفسها قد حكمت على أياد الغريب بالسجن أربع سنوات ونصف. والغريب كان قد أوقف منذ شباط/ فبراير 2019 ووجهت إليه تهمة التواطؤ وتسهيل ارتكاب جرائم تعذيب حوالى ثلاثين معتقلاً. وقد تم إثباتها عليه وقتذاك باعتبارها جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا.

ما أهمية هذا الحكم على رسلان؟ سأل رصيف22 وأجاب المحامي باتريك كروكر:”هذه المحاكمة تشكل حدثاً رئيسياً لأنها تقول بشكل واضح إن ما يرتكب في سوريا منذ العام 2011 الى اليوم هو جريمة ضد الانسانية. إنها خطوة على طريق العدالة ونأمل أن يكون هناك تضامن عالمي أكبر، وفي أوروبا نأمل أن نرى قوانين لجوء وظروفاً أكثر إنسانية للاجئين”.

وقال الموسيقي السوري وسيم مقداد، وهو أحد المدعين في القضية وناجٍ من سجن الخطيب، إنه ترك سوريا لأنه لم يكن يشعر بالأمان. وأضاف: “في ألمانيا أردت مقاضاة معذبيّ من خلال المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي وفر لي الفرصة لأشارك قصتي أمام المحكمة”.

ولفت مقداد إلى أن هناك الكثيرين ممن لم نسمع أصواتهم إما لأنهم قتلوا أثناء الاعتقال، أو لأنهم ما زالوا معتقلين، أو ماتوا أثناء محاولتهم الوصول الى أوروبا أو هم ما زالوا في سوريا ولا يجرؤون على الكلام بسبب ماكينة النظام القمعية. وأمل أن يكون قد ساهم بإيصال أصوات أناس كثيرين من خلال مشاركته في هذه المحاكمة.

وأكد مقداد أنه سعيد في موطنه الجديد ألمانيا ويشعر بأن معاناتهم منذ بدء الثورة ليست سدى، وأنه بالإمكان تحميل الأشخاص مسؤولية جرائمهم، معتبراً أن هذه الخطوة هي الأولى على طريق العدالة الى أن يمثل كل النظام السوري وبشار الأسد أمام المحكمة.

وختم مقداد: “بالنسبة لي المحاكمة العادلة هي أمر جديد. في سوريا ليست هناك محاكمات عادلة. أسعى للعدالة وليس للانتقام. أنا مرتاح لأن لدى أنور رسلان محامياً ويُعامل بكرامة، على عمس الطريقة التي كان يعاملنا بها في سوريا. هذا ما نريده في بلادنا، حكم القانون لا الانتقام والعنف”.

ورأت المحامية السورية جمانة سيف، الباحثة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، أن هذه المحاكمة مهمة ليست لأنها تبحث في جرائم ارتكبها النظام السوري، بل لأن هذه الجرائم مستمرة وتتعلق بالحاضر، والسوريات والسوريين يتقدمون أمام المحكمة. وتكمن أهمية هذه المحاكمة أيضاً، بحسب سيف، في دعم الناجين والناجيات وإعطائهم فرصة ليعبّروا عن معاناتهم والجرائم التي ارتكبت بحقهم.

وذكر بيان أصدره أمس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان عقب صدور قرار المحكمة أن الحكم بالسجن المؤبد على أنور رسلان هو أيضاً حكم يعتبر العنف الجنسي جريمة ضد الإنسانية. وقد فعل المركز الكثير من أجل هذه الغاية، إذ قدّم فريق المحامين التابع للمركز رينيه بانز وسيباستيان شارمر وباتريك كروكر طلباً للمحكمة بأن لا تعتبر العنف الجنسي المرتكب حالات فردية، وإنما انتهاك ممنهج ضد الشعب السوري المدني. وقد نجح المحامون في ذلك. قال كروكر لرصيف22: “حالات الاغتصاب لم تكن جزءاً من الدعوى الأساسية ولم توضع في البيان الاتهامي الأول، والآن يتضمن البيان الاتهامي هذه القضايا كجزء من قضايا الجرائم ضد الإنسانية”.

والمحكمة حكمت على رسلان بارتكابه جرائم ضد الإنسانية تتضمن 27 عملية قتل وأربعة آلاف حالة تعذيب.

ولإثبات الجرم استخدمت المحكمة دلائل عدة، منها: شهادات نحو مئة شاهد وشاهدة وشهود خبراء. بالإضافة إلى شهادة خمسين من الناجين والناجيات من السجن، وصور قيصر التي تحقق البوليس الجنائي الألماني من صحتها. وهناك مواطنون تحدثوا عن مقابر جماعية.

ورأى فولفغانغ كاليك، الأمين العام للمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، أن الدول الأوروبية الأخرى بإمكانها الاستفادة من صور قيصر في محاكمات لاحقة، لأن الدولة الألمانية ستضعها بتصرف الأجهزة القضائية الاوروبية الأخرى حتى لا تجمع الأدلة بمفردها.

وقال كاليك لرصيف22: “هذه المحاكمة تشكل سابقة قانونية يمكن أن تحتذي بها محاكم دول أخرى، لأننا سنشهد تتالي القضايا كأحجار الدومينو. يُذكر أن مبدأ الولاية القضائية العالمية ليس نفسه في كل الدول الأوروبية. نأمل أن نرى تأثير الدومينو يحدث، وأن يدرك المدعون العامون في أوروبا أهمية هذا القانون الذي هو آخر حل لتحقيق العدالة. القانون الألماني يقدّم نموذجاً يُحتذى به”.

وختم: “المحكمة الجيدة تنظر إلى مسؤولية الدولة والنظام، وليس إلى المتهم فقط، فحتى ضابط متوسط الرتبة هو جزء من المنظومة التي اقترفت الجرائم”.

وعلّق على الحكم المحامي أندرياس شولز الذي يمثل أربعاً من الضحايا في سجن الخطيب: “إنه يشكل تعافياً للضحايا. ولكن النظام السوري لن يكون مسروراً”. علماً أن المحامي الألماني الدولي الذي في جعبته قضايا دولية عديدة يرجّح عودة قريبة للنظام السوري إلى أوروبا، مشيراً إلى إعادة تطبيع الاتحاد الأوروبي وألمانيا معه، “فهذا ما تقتضيه الواقعية السياسية ولا خيار آخر اليوم أو غداً”، حسب قوله

رصيف 22

—————————-

أنور رسلان ضابط مخابرات الأسد والتأسيس لمفهوم جديد للعدالة الدولية/ جورج كدر

على مدار الساعات الماضية دار سجال كثير حصل ويحصل بين السوريين، حول الحكم على ضابط مخابرات الأسد ورئيس أحد أعتى سجونه ومسالخه البشرية أنور رسلان. بين راض عن حكم العدالة الدولية ومسخف لهذا الحكم، أو حتى من عبّر عن رأيه بأنه غير مهتم اصلا لما يجري.

أيا كان ما يحصل، علينا الاعتراف بأن حكم القضاء الألماني عليه بأقصى عقوبة لديه وهي السجن المؤبد، بني على وقائع وإثباتات قدمها القضاة ـ في واحد من أهم الأجهزة القضائية في العالم، في دولة قانون يشار لتجربتها بالبنان، وفي واحدة من أهم قضايا القانون الدولي التاريخية على الإطلاق، لدعم حكمهم.

ولنكن واضحين مع انفسنا، فبعض السوريين تعاطف من منطلق طائفي، باعتبار أنه سني، كما امتعض بعض المسيحيين من أن متهما آخر ينتظر المحاكمة أمام القضاء الألماني هو الطبيب علاء. م، وربما ستكون عقوبته مشددة لاحقا، وفي كلتا الحالتين ليس هناك علوي، وبكل تأكيد هذه الرؤى الضيقة بعد سنوات من الصراع لن تضيف لقضية السوريين، التي يتم طمسها شيئا فشيئا إلا مآسي جديدة.

البعض الآخر استخف بقيمة هذه الشخصية، وقفز إلى أن رأس الإجرام، لا يزال طليقا، وإن رسلان ما هو إلا جزء صغير لن تردع محاكمته آلة قتل نظام الأسد؟

البعض، ومن منطلق تجارب شخصية في الحياة الألمانية، اعتبره حكما تافها فكثير من السوريين يعانون في ألمانيا، وليس هناك من يدافع عن الظلم الذي يلاقونه. قد يكون الجميع محقا في التعبير عن مشاعره وله مبرراته، لكن لديّ سؤال جوهري في قضية رسلان: ماذا لو أن رسالة اعتذار أنور رسلان ضابط مخابرات الأسد المطولة، التي قرأها بلسان محاميه بالألمانية، عن دوره في نظام مجرم، كانت للشعب السوري، بعد انشقاقه في عام 2012 ولم تكن في محكمة ألمانية لتخفيف الحكم، عليه؟ لماذا أصر على الصمت حتى لفظ كلمة، نعم، عندما سألته القاضية هل توافق على مضمون الاعتذار؟ ماذا كان سيحدث لو أن ضابطا في هذا المستوى الرفيع، ومنذ انشقاقه قدم نفسه للعدالة الدولية كشاهد في إحدى أبرز قضايا الجرائم ضد الإنسانية، وقال إنه سيكون تحت تصرف أي دولة من دول القانون والقضاء العادل، وقدّم المعلومات والتفاصيل التي لديه، والتي ذكر بعضها في رسالة اعتذاره الأخيرة، منذ زمن مبكر من عمر الثورة، هل كان ليكون متهما بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ أم بطلا من أبطال ثورة الحرية والكرامة؟ ألم يكن ليحرج أصدقاء النظام من الدول الداعمة له، قبيل انغماسهم أكثر وأكثر في مستنقع الدم، وفي حساب الزمن السوري كان أي تفصيل سيكون مهما في تغيير مجريات الأحداث، فما بالنا بضابط في هذا المستوى بادر ليقدم نفسه شاهدا للعدالة الدولية منذ زمن بعيد، لا معتذرا كمجرم بعد سنوات في رسالة اعتذار قدمت إدانة لنظام بأكمله، وسيبنى عليها. طبعا كل السوريين يعرفون ذلك وخبروه، لكن العالم البليد لا يزال إلى اليوم يحتاج لإثباتات وقرائن كي يوقظ إنساتيته لوقف جرائم هذا النظام، بل نجدهم اليوم يطبعون معه بدعم ليس روسيا فقط، بل أمريكيا يعطل فيه رئيسه بايدن قانون قيصر بطريقة مثيرة للعجب.

قد نعتبر أنور رسلان كبش فداء لجرائم واحد من أعتى أنظمة القتل والإرهاب الدوليين، هذا في حال توقف من أسميهم دائما بـ»فرسان العدالة» السوريين عن ملاحقة مجرمي الحرب، لكن إن استمرت مهمتهم فلن يكون كل مجرم من أذرع النظام الضاربة يحاسب، إلا درجة في سلم طويل سيوصل في النهاية، ومهما طال الزمن إلى رأس هذا النظام، الذي يلقى دعما منقطع النظير من قوتين عالميتين تحددان مصير الامم كروسيا وأمريكا شئنا أم أبينا.

ستسجل هذه المحاكمة في كتب التاريخ القضائي عن محاكمة نظام على رأس سلطته وملاحقة جلاديه، في سعي دؤوب للبشرية نحو بناء قضاء عادل يحقق العدالة للمقهورين والمظلومين، هي خطوة أولى متواضعة نعم.. لكنها لبنة في صرح عالمي ضخم بدأ بناؤه في ألمانيا من البوابة السورية، نعم.. أصبح لدينا حكم قضائي عالمي يقاس عليه لمحاكم ستتوالى طال الزمن أم قصر، والزمن في عمر البشرية لا يقاس بالسنوات حتما، بل بتراكم ما يميز البشر عن مملكة الحيوان تلك التي يسعى فيها هذا الكائن البشري الانفصال والتمايز، ولا يزال دربه طويلا.

قد نختلف ونستهزء بالحكم، أو نشيد به، لكن ثمة باب جديد فتح بحاجة لشهود ومدعين وطلاب عدالة وفرسان عدالة لا يملون ولا يكلون في سعيهم لإعلاء قيمة القانون على سطوة وسفالة من يمتهون القتل ويستبيحون أعراض الناس عندما يجدون لذلك طريقا… سأل جلاد شيخا يقبع في سجنه أن يغفر له وقال: يا مولاي لا أستطيع رد الظلم عنك، فأنا ضعيف ولا أجرؤ على مخالفة أوامر سيدي بتعذيبك؟ رد عليه الشيخ: والله لولاك ما ظلموا؟ لولاك ما ظلموا؟ الحكم على أنور رسلان حدث يبنى عليه وليس بالأمر السهل، حدث تاريخي في حياة السوريين إن استطعنا الاستفادة منه والبناء عليه ليس في القضاء الألماني، بل في كل مكان حل فيه «فرسان العدالة» السوريين، وقد أصبحت الأرض كلها مسكنهم، سيكون لذلك حتما شأن كبيرة على طريق عدالتهم الطويل.

كاتب سوري

القدس العربي

———————–

أنور رسلان ومروان حبيب وسائر الجرائم: العدالة في الخارج/ جنى بركات

العدالة لا تمرّ من طريق بلاد الشّام، فهي مقطوعة تماماً. وترجم ذلك هذا الأسبوع مرّتين. الأولى، عند اعتقال المتحرّش من الجنسية اللبنانية مروان حبيب في الولايات المتّحدة منذ أسبوع، والثانية، عند الحكم على الضابط السّوري أنور رسلان، الذي قتّل وعذّب المعتقلين السوريين لسنوات عديدة، بالسّجن المؤبّد في ألمانيا.

قضاء السلطة

أدركت شعوبنا اللبنانية والسورية خصوصاً، أن العدالة تتحقّق خارج الحدود البريّة والبحرية والجويّة لهذه البلاد. فالقضاء هنا في لبنان منغمس أو محاصر بالتدخلات السياسية والمحصاصات. أمّا في سوريا، فحدّث ولا حرج، إذ أن السلطة والجيش والقضاء والمؤسسات تحت مظلّة نظام واحد بعثي.

رغم الشكاوى العديدة ضد المتحرّش مروان حبيب لدى المخافر والقضاء وبروز الأدلّة بالكاميرات المصوّرة، عدا عن الشّهود الذين أوضحوا الأمر في حلقات تلفزيونية، إضافة للحملات المناهضة له على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنّه بقي حرّاً يسرح ويمرح داخل الاراضي اللبنانية.

الأمر اتّخذ أبعاداً إضافية. فعندما كان موقوفاً رهن التحقيق في مخفر حبيش، أكّدت مصادر عدة أنّ ثمّة تدخلات سياسية ساهمت باطلاق سراح حبيب. وسمح له بالتجوال واستكمال حياته بشكل طبيعي، إلى أن وقع في قبضة القضاء الأميركي حيث لا رجوع ولا واسطة ولا وجود للتيارات والأحزاب السياسية.

شاء القدر أن يقع أنور رسلان، الذي سافر الى المانيا كلاجئ ومكث في أحد المخيمات، ان يقع في قبضة الناشط الحقوقي أنور البني الذي كان قد عذّبه رسلان. كان البني على يقين أن سفينة رسلان رست في المكان الصحيح. بقاء رسلان في سوريا، حتى وإن أصبح منشقاً عن النظام، لن تطاله العدالة. لكن في ألمانيا الأمر مختلف.

قام البني بكل الإجراءات القانونية اللازمة، وساعده عدد من الناشطين في ألمانيا، إضافة إلى الشهود الذين وقعوا يوماً ضحية رسلان. وحصل ما حصل، فاستمعت المحكمة الإقليمية في ألمانيا لأصوات الناجين من جرائم رسلان، وانتهى به المطاف من جلسة إلى أخرى حتى الحكم الأخير.

فرحة الشعوب

احتفل السوريون بمحاكمة رسلان، وابتهج اللبنانيون باعتقال حبيب. وكأنّ شيئاً ما أبرد النار في قلوبهم. فرحوا انتقاماً وشماتة أو انتصاراً لعدالة.

عائللات سوريّة مهجّرة ولاجئة في ألمانيا اتّجهت نحو مدينة كوبلنز حيث المحكمة الإقليمية التي اصدرت الحكم بحق رسلان بعد سنتين من التحقيقات، وهم يعلمون يقيناً أن في بلاد القانون لا يضيع حق، حتى وإن كان المحكوم عليه أهم ضابط في الجيش، أو رئيساً للجمهورية.

وبعد الاطلاع على المستندات وكل الأدلّة القانونية بتعذيب السوريين في مركز أمني في دمشق، واتهامه بقتل ما يقارب 58 معتقلاً، أصدرت المحكمة الأقليمية أو محكمة كوبلنز الحكم بالسجن المؤبّد، معتبرة أنّه حصد ما زرع في السنوات الماضية.

أمّا في لبنان، فاجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي صور وتقارير للمتحرّش مروان حبيب، الذي أبلغت عنه العديد من الناجيات، لحظة اعتقاله في الولايات المتّحدة الأميركية بالتّهمة عينها. كما أنّهم شعروا بالقوّة أكثر بعدما سأل القاضية إن كان يستطيع دفع كفالة مقابل إطلاق سراحه، فردّت عليه قائلة أنّه لن يبيت في المنزل.

انفجار المرفأ: لا عدالة

ما حصل خلال أسبوع يجعلنا ندرك أنّ تحقيق العدالة في قضايانا، من الاغتيالات إلى قضية تفجير مرفأ بيروت الذي راح ضحيته أكثر من 200 شخص وجرح أكثر من 6000 كما هجّر ما لا يقل عن 300 ألف عائلة، بعيد المنال، رغم إصرار المحقّق العدلي في هذه القضيّة طارق البيطار على الاستمرار، متجاهلاً العقبات.

السياسيون المتّهمون، أو المطلوبون إلى التحقيق، يطلّون على اللبنانيين من وراء شاشة التلفزيون، يستقبلهم الإعلاميون، ويُفتح لهم هواء البث، بمساحة واسعة ليدافعوا عن أنفسهم. فيما مذكرات التوقيف لا تتجرأ القوى الأمنية على تنفيذها بحق نواب ووزراء سابقين.

فهل على اللبنانيين الانتظار حتى يتشرّد أو يسافر أحد هؤلاء المتهمين إلى دولة أوروبية؟ أن يعبر الحدود اللبنانية -وهو متّهم بتدمير عاصمة بأكملها- بسلاسة، إلى أن تهبط الطائرة في المانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة، حتى تُقدّم الأوراق القانونية ويساق إلى المحكمة؟

ماذا لو أرسلنا هذه المجموعة المتّهمة مع القاضي البيطار إلى تلك البلاد؟ أو رفعنا هذا الملف إلى محكمة دولية أو إقليمية؟

ربما لن تسلك قضية المرفأ طريق العدالة في الدول الغربية. وسيبقى اللبنانيون عموماً وأهالي الضحايا خصوصاً منتظرين على أحرّ من الجمرّ القرار الظنيّ بعد التخلّص من طلبات الرّد ضد القاضي طارق البيطار والقاضي نسيب إيليا وبقية زملائهم.

سنبقى منتظرين.. مع ذاك الأمل بالعدالة، على مثال مصير رسلان وحبيب. 

المدن

—————————-

محاكمة أنور رسلان ومستقبل سوريا/ جويس كرم

محاكمة العقيد السوري السابق أنور رسلان بالسجن المؤبد في ألمانيا لارتكابه “جرائم ضد الإنسانية” في معتقلات نظام الأسد، تحمل رسالة مزدوجة لمستقبل زملائه في الخارج، بأن لا هرب من المحاسبة والعدالة، وللداخل السوري الذي سيزيد من رهانه وولائه للسلطة الحاكمة.

أرسلان الذي ارتبط اسمه بتعذيب 4000 شخص في الحرب السورية، ومقتل ما لا يقل عن 58 معتقلا تحت التعذيب خلال فترة وجوده في “معتقل الخطيب”، تم الحكم عليه في الغرب وفي سابقة منذ الحرب السورية. إذ تعد هذه المحاكمة، التي تمت في مدينة كوبلنز غرب ألمانيا هذا الأسبوع، أول قضية جنائية ترفع بشأن عمليات التعذيب، يتهم مسؤولو الحكومة في سوريا بتنفيذها.

الحكم الذي اعتبرته الأمم المتحدة “قفزة تاريخية”، هو بالفعل بارقة أمل لملايين السوريين ممن تم تعذيبهم وتجويعهم وتشريدهم لكي يضمن نظام الأسد بقاء سلطته الأمنية والسياسية والعائلية والمافيوية في البلاد.

فالحكم، ولو أنه يطال شخصا واحدا، يعيد مفهوم العدالة والمحاسبة والاكتراث الخارجي لمصير السوريين. فمن رفعت وماهر الأسد إلى علي المملوك وعلي أيوب ورامي مخلوف وبثينة شعبان وآل الأخرس، اللائحة طويلة من الأسماء التي لطخت أيديها بدماء الحرب، ولن يلحقها طابور العدالة لأنها ستتشبث بالسلطة ولن تنشق كما فعل رسلان بهروبه إلى الأردن بداية.

رغم ذلك، فإن محاكمة رمز من رموز النظام يحاكي ضحايا الحرب السورية، ويقول للأسد عبر البوابة الأوروبية الأقوى أي ألمانيا أن لا عودة لمرحلة ما قبل 2011. لا زيارات لباريس لبشار الأسد ولا حقائب “لوي فيتون” أو أحذية “لوبوتان” لعقيلته أسمى.

ففرنسا كانت أصدرت أول مذكرات توقيف دولية لمسؤولي المخابرات السورية في 2018 بتهمة “التواطؤ في أعمال تعذيب” تتعلق بقضايا مماثلة. كما شهدت إسبانيا والنروج والسويد دعاوى من سوريين وصلوا لها، بعضها تم رفضه لعدم وجود أدلة كافية وبعضها قيد المراجعة.

الغرب قد يكون تغاضى سياسيا عن النزاع في سوريا، إنما أنظمته القضائية هي الأعرق في القرن الـ21، لن تشتريها سلطات الأمن السورية كما تفعل في دول الجوار، ولن ترهبها أدوات النظام وعملائه في الخارج.

والمحاكمة توجه رسالة مغزاها أن لا مستقبل لأدوات النظام ممن ارتكبوا جرائم في الغرب حتى لو انشقوا عنه. فالأدلة وصور الضحايا وشهادات ذويهم سترافق النظام في أي محاولة له لتغيير صورته في الغرب.

ملايين السوريين الذين أضحوا لاجئين ومشردين من تركيا إلى ألمانيا إلى كندا لديهم ذاكرة جماعية هي سلاحهم الأقوى ضد النظام. فحيث فشلت المعارضة السورية بتفتتها ومصالحها الضيقة، نجحت السلطات القضائية الألمانية في تحقيق العدالة لهؤلاء.

في نفس الوقت، فإن محاكمة رسلان ستقلل من فرص انشقاق رجال النظام عن الأسد بسبب الخوف من مواجهة مصير قضائي مماثل في الغرب إلا إذا تم منح هؤلاء حصانة أو عفو قبل خروجهم. إلا أن تحول النظام بشكل أكبر إلى إيران ودول أخرى لتعويمه وتحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد حرب وشبكات “كبتاغون” يزيد من حالة الاعتماد عليه لمن هم في الداخل، ويقلل من فرص انقلابهم عليه، أو على الأقل ليس علنا.

محاكمة رسلان في ألمانيا لارتكابه أبشع الجرائم ضد السوريين هو مؤشر بأن السجل الدموي للنظام ليس فقط حبرا على ورق وأنه وفي حين تنعدم المحاسبة والعدالة في عالمنا العربي، فهي حاضرة وجاهزة في الديمقراطيات الليبرالية لسجن الظالم والاعتراف بالمظلوم ولو بعد حين.

الحرة

———————————

محاكمة أنور رسلان.. صرامة القضاء وميوعة السياسة/ راتب شعبو

يعرف السوريون جيدًا، ولا سيّما من كان له رأي معارض أو “مغضوب عليه” لأي سبب كان، ماذا يعني ضابط المخابرات في ظلّ نظام الأسد. يعرفون جيدًا كيف تنوء حياتهم تحت ثقل الخوف الذي تسببه الصلاحيات المطلقة لجنود السلطة هؤلاء الذين ينشؤون على احتقار الناس واحتقار كلّ قيمة خارج دائرة السلطة التي يخدمونها، وخارج دائرة مصالحهم الشخصية في ظل سلطتهم. ويعرف ضابط المخابرات أن نجاحه يتوقف على استعداده للتعذيب والقتل والاغتصاب والإذلال والافتراء وتسميم حياة الناس. أي ببساطة على استعداده لأن يكون عدوًا لشعبه. من الطبيعي أن لا يجد أي من هؤلاء الضباط ذرة احترام لدى السوريين، ويدرك ضابط المخابرات هذه الحقيقة جيدًا، وهي لا تزعجه، بلا شك، فهو لا يبحث عن حبّ الناس واحترامهم، بل عن إخافتهم وإرهابهم. هذا لأن دوره ووظيفته، في ظل أنظمة سياسية تسود فيها طغمة حاكمة مؤبدة، تتطلب منه ذلك، وإن كانت طبيعته الشخصية سوى ذلك. والحق أن الآلية الطبيعية لعمل هذه الأجهزة تقوم على طرد الأشخاص غير الملائمين (أي المحترمين) واستقطاب من تتلاءم شخصيته مع هذه الوظيفة القذرة.

مع ذلك، من المفهوم أن لا تستطيع مشاعر السوريين الناجين من قبضة نظام الأسد أن تتوحد حيال الحكم الذي أصدرته محكمة ألمانية في كوبلنز بحق العقيد أنور رسلان، ضابط المخابرات الذي كان، قبل إعلانه الانشقاق، رئيس قسم التحقيق في “الفرع 251” المعروف باسم “فرع الخطيب” التابع لأمن الدولة.

بعد حوالي سنتين من المحاكمة، وحوالي 100 جلسة، واستماع إلى عشرات الشهود؛ أصدرت المحكمة الألمانية في 13 كانون الثاني/ يناير، حكمًا بالسجن مدى الحياة على العقيد رسلان، لمسؤوليته عن موت 27 شخصًا على الأقل، وعن تعذيب الآلاف، وعن عمليات اغتصاب.

يأتي الحكم في إطار شعور السوريين بهزيمة باهظة أمام النظام الذي أنتج العقيد رسلان، وما زال مستمرًا في الحكم على النهج نفسه، أو على نهج أسوأ بكثير، قياسًا على ما كان عليه حتى تاريخ انشقاق العقيد المدان (في أيلول/ سبتمبر 2012)، بعد هذا التاريخ، بدأ “التحول الكيمياوي” الصريح في النظام. والأكثر مرارة أن البلدان الأوروبية باتت تميل إلى “إعادة تأهيل” نظام الأسد، في الوقت الذي تمارس فيه “الولاية القضائية العالمية” بحقّ أفراد انشقوا عن النظام. هذا ما يفسّر حيرة وتضارب مشاعر السوريين حيال قرار المحكمة الألمانية، ويشكل، في الواقع، أساسًا مشتركًا لمنطقين متعاكسين:

الأول يقول إن هذه الإدانة لا تطال “ضابط المخابرات” على نحو عام، بل تطال الضابط الذي انشق عن النظام وانضم إلى ثورة الشعب، وبالتالي تعمل على تعزيز تماسك النظام، حين يبدو أن خلاص ضباط النظام مرهون ببقاء “نظامهم”. ويقول إن هذا الحكم، في ظل استمرار نظام الأسد، يبدو معاقبة للضابط المذكور على انشقاقه. لم يكفّ المحتجون منذ البداية عن مطالبة الضباط بالانشقاق والاحتفاء بانشقاقهم، وعليه فإن هذا الحكم يُظهر الانشقاق على أنه “مصيدة”. ففي حين يستمر ضباط النظام في جرائمهم ويتمتعون بسلطاتهم المطلقة على الشعب، يجد الضابط المنشق نفسه وراء القضبان، وسط تهليل من سبق أن دعوه إلى الانشقاق و”الانحياز إلى صفّ الشعب”.

“غير سعيدة بالحكم المؤبد الصادر بحق أنور رسلان”، هذا ما تقوله مثلًا صبية اعتقلت في فرع الخطيب، قبل انشقاق رسلان، وقدمت شهادتها عن الاعتقال للمحكمة. وتضيف هذه الصبية أن العدالة التي نريدها هي محاكمة الأسد وأعوانه المستمرين في ارتكاب الجرائم المروعة. وتقول صبية أخرى، جعلت من قضية اعتقال أبيها وانقطاع أخباره، مع الآلاف غيره، قضيتها الثابتة: “أشعر بخليط من الحزن والغضب وخيبة الأمل، وهذا إحساس تجاه (المجتمع الدولي) والحكومات. ماذا بشأننا؟ ماذا بشأن أحبابنا الباقين في المعتقلات؟ ماذا بشأن من يتم اعتقالهم وتغييبهم كل يوم في سوريا الأسد”؟!

المنطق الثاني يقول إن إدانة جزء من النظام السوري هو خطوة باتجاه إدانة النظام ككل. نعمل ما نستطيع الآن إلى أن تتوفر ظروف محاسبة كبار المسؤولين عن الجرائم بحق الشعب السوري. من المهم جدًا أن لا يجد الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية ملاذًا آمنًا في أي مكان، وإن في اعتقاله (رسلان) ما يريح ضحاياه المباشرين الذين قد يصادف أن جلادهم يسكن بجواره، أو أن يصادفه في الأماكن العامة كل حين.

بحسب وزير العدل الألماني ماركو بوشمان: “لقد تم ارتكاب ظلم رهيب في سجون التعذيب التابعة لنظام الأسد. وإنها مسؤولية المجتمع الدولي بأسره أن يجيب على هذا بلغة القانون”. الحقيقة أن الإجابة بلغة القانون تبقى ناقصة، ما لم ترافقها إجابة، على نفس المستوى من الصرامة، بلغة السياسة.

لكي نستوعب التشّوش الملحوظ في المشاعر وفي المواقف، حيال محاكمة العقيد رسلان، ينبغي ملاحظة الفارق الجلي بين صرامة القضاء الأوروبي وميوعة السياسة الأوروبية. التباين الذي يُنتج مفارقات تصدم السوريين وتجعل البلد الأوروبي قابلًا لأن يستقبل مسؤولًا من النظام المجرم، في الوقت نفسه الذي يطبق الصرامة القضائية على مسؤول آخر، يفترض أنه أقلّ إجرامًا، على اعتبار أنه ترك سلك الإجرام طوعًا. السياسة الأوروبية، والحال هذه، تُسهّل إعادة تأهيل النظام السياسي الذي يُنتج المجرمين الذين يتولى القضاء الأوروبي محاكمتهم. هذه هي المفارقة التي تفسّر الغصة الدائمة التي لم تستطع محاكمة كوبلنز إزاحتها. وإن كان كثير من السوريين قد وجدوا فيها بداية الطريق نحو عدالة أشمل تنال كبار مسؤولي نظام الأسد.

على أن هذه المحاكمات، بنظرة عامة، تجعل ضابط المخابرات، أينما كان، يفكر قليلًا قبل أن يطلق لغرائزه الإجرامية العِنان. وهذا ينطبق أيضًا على مجرمي المنظمات العنفية غير الدولتية، مثل (داعش)، فقد سبق أن قضت محكمة ألمانية في فرانكفورت بالسجن مدى الحياة أيضًا على أحد مجرمي هذا التنظيم، بتهمة الإبادة بحق الإيزيديين في العراق. من المهمّ، بلا شك، أن يكون في خلفية ذهن كل فرد أن احتمال محاسبته على جريمته قائم، ولو بعد حين.

مركز حرمون

———————————-

للسوريين أَنْوَرَان.. فهل من سادات ؟/ نشمي عربي،

لعلها مجرد طرفة، تلك التي تداولها الشارع العربي عن الرئيس الراحل أنور السادات، أنه وفي إحدى مواجهاته الحادة مع جمهور معارضيه وأولئك الذين يختلفون مع رؤاه، وفي واحدةٍ من تجلياته التمثيلية المعتادة، هددهم قائلاً:

( إن كنتم نَوَرْ، فأنا أنور، وإن كنتم سادة، فأنا سادات ).

لا أعلم حقيقةً إن كان الرئيس السادات قد قال فعلاً هذه الكلمات، ولكن ما أعلمه علم اليقين أنه إذا كان الأمر يتعلق بالخلافات والإختلافات، على تنوعها، و بالتباينات بكافةِ صنوفها، فنحن السوريون، وخاصةً في المقلب المعارض، أصحاب الولاية، وأهل الإختصاص، وشيوخ الطريقة، وقد وصل المذهب عندنا إلى الغاية في كل مايتعلق بتبادل الإتهامات، بين المعارضين خصوصاً، ومن هنا فإن مشهدنا السوري (الرائع) لن يكفيه أنوَر واحد، فكان لابد لنا من أنوَران … بني و رسلان … نختلف فيهما وعليهما، أما الحديث عن سادة و سادات في الحوار السوري-السوري فلعله لايزال حلماً صعب المنال، أو على الأقل فهذا ماتشي به الصورة الراهنة لدى أطياف عريضة من الجمهور السوري المعارض.

أتكلم عن الزوبعة التي أثارها ويثيرها حكم المحكمة الألمانية بالسجن المؤبد في قضية ضابط الأمن المنشق أنور رسلان، و التي كان محامي حقوق الإنسان البارز أنور البني طرفاً رئيساً فيها.

أعلمُ أنه لا يستقيم أبداً أن أذكر الأنوران في سياقٍ واحد، فالرجلان (ولإعتباراتٍ عديدة) مختلفان في كل شيء، حسبهما أنه قد جمعتهما قضية واحدة، وإن كانا فيها على طرفي نقيض تماماً.

القضية شغلت الرأي العام طويلاً، وإن كانت طبيعتها تلامس نواحي إنسانية عميقة ومهمة لعلاقتها المباشرة بظلم وحيف عظيمين أحاطا بعدد هائل من السوريين الذين كانوا ( بناء على أوراق القضية و مرافعات الشهود ) عرضةً لتعذيب وإساءة واعتداءات جسدية وجنسية وربما تصفيات ممنهجة على يد الجهة التي كان رسلان يعمل لها، فقد كان من الطبيعي لقرار إدانته والحكم الصارم الذي أصدرته المحكمة الألمانية بحقه أن يُمثَّلَ نوعاً من التعويض المعنوي على الأقل للضحايا وذويهم، إلا أنه قد أثار أيضاً على مايبدو كماً مهولاً من الحنق والغضب والتوجس لدى شريحة مهمة من المعارضين، تحديداً في صفوف العديد من الضباط المنشقين الذين رأوا في الحكم جوراً وظلماً شديدين طالا ليس رسلان فقط، بل ربما (في شعورهم الذي لم يخفوه أبداً) يطالهم أو قد يطالهم مستقبلاً.

التعقيد والحساسية الشديدين في هذه القضية مبرران، فأنور البني محام سوري معارض له باع طويل في قضايا حقوق الإنسان وقد ناله شخصياً ماناله من ظلم وتوقيف وسجن، وربما تعذيب أيضاً، هو اليوم منسجم تماماً مع قناعاته التي آمن بها دوماً في أن يكون مع شعبه في الطرف المعارض للنظام بكل مايمثله من تسلط أمني طاله هو شخصياً كما طال العديد من السوريين، هذا في الإطار العام، أما فيمايتعلق بقضية رسلان تحديداً فهو طرف رئيسي فيها، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، لم يحاول أن يخفِ موقفه هذا للحظة واحدة، كان واضحاً وصريحاً ومباشراً منذ اللحظة الأولى في أنه في صف الضحايا والإدعاء، وفعل كل ما استطاع لدعم قضيتهم ضد المتهم أنور رسلان، الذي تشاء الأقدار أنه وقت إثارة القضية ضده كان قد قرر الإنشقاق عن النظام والإلتحاق بصفوف المعارضة.

لا أعلم تفاصيل ودقائق ظروف انشقاق أنور رسلان لذلك لايمكنني التعليق عليها، ولكن من ناحية المبدأ فأن يقرر ضابط أمن بأهميته من خلال موقعه وأهمية الجهة التي يعمل لها، أن ينحاز لصفوف السوريين ويغادر موقعه المهم وينضم لصفوفهم فهذا لايمكن النظر إليه إلا بإيجابية شديدة، خصوصاً وأنه (ضمن حدود ماأعلمه) لم يكن مضطراً أو مجبراً على خطوته هذه، وربما من هنا تحديداً أتفهم تعاطف الضباط المنشقين معه، فالعديد من هؤلاء الضباط كانوا أيضاً يشغلون مواقع نافذة في بعض التشكيلات المهمة و المؤثرة، عسكريةً كانت أو أمنية، وبشكل أو بآخر فهم كانوا جزءاً من النظام، وهذه لاينبغي أن تكون سبةً عليهم فهم في النهاية كانوا في عداد قوى الجيش و الأمن اللذان يفترض أنهما جيش الوطن و أجهزة أمنه، خصوصاً وأنهم في اللحظة الفاصلة اتخذوا موقفاً نبيلاً و شجاعاً ومسؤولاً وانحازوا إلى صف أبناء شعبهم في تحركهم السلمي المدني الأهلي المطالب بالحرية والديمقراطية التي طالما حلموا بها جميعاً، ولم يرتضوا أن يكونوا جزءاً من آلة القمع والتنكيل.

أتفهم أيضاً مدى الصعوبات وحجم المخاطر التي يمر بها العسكريون عموماً والضباط خصوصاً، هم وعائلاتهم، في رحلة انشقاقهم والتي من الممكن أن تودي بهم جميعاً، ولعل في ذلك ما قد يبرر هذه الحساسية الشديدة التي قابل بها العديد من الضباط المنشقين الحكم الصادر بحق أنور رسلان، خاصةً وأن الرجل انضم لصفوف المعارضة وربما قد ساهم لاحقاً في بعض نشاطاتها أو اجتماعاتها.

من الحجج التي يسوقها الضباط المنشقون وغيرهم في هجومهم على قرار المحكمة الألمانية بالسجن المؤبد بحق رسلان أنه بمثابة رسالة لكل ضابط يفكر بالإنشقاق عن المنظومة الأمنية أو العسكرية للنظام بأنه قد يواجه مصير رسلان، مما سيزيد في تماسك ولحمة النواة الصلبة المؤيدة للنظام في الجيش والأمن، ولعله من هنا كان حصيفاً تأجيل هذه المحاكمة على الأقل، أو التريث في إصدار الحكم، قد يملك بعض من لم يتعرضوا هم أو أقاربهم أو أصدقاءهم للتعذيب في فروع الأمن أن يتمسك بمنطقية هذا الطرح، ولكن هل يملك الضحايا أو ذويهم أو أصدقاءهم رفاهية الإقتناع به بعد كل الذي تعرضوا له في هذه الفروع ؟ و السؤال الأخلاقي والإنساني والقانوني الذي يطرح نفسه أيضاً هو هل باستطاعة أو من حق أي كان أن يطلب منهم ذلك؟

قد أتفهم بعض الحجج التي يسوقها بعض الضباط المنشقين وكذلك هواجسهم وتخوفاتهم، ومن حقهم انتقاد قرار المحكمة كما يشاؤون، وإن كان في هذا تناقضاً صارخاً مع فكرة انشقاقهم من أساسها والغاية التي كان من أجلها هذا الإنشقاق.

ما لا أتفهمه على الإطلاق هو هذه الهستيريا الملفته في كيل الإتهامات للمحامي أنور البني التي أقل مايمكن أن يقال فيها أنها ببساطة شديدة غير صحيحة على الإطلاق وتجافي أي منطق ولا تصلح حتى كسيناريو لأفلام الخيال الغير علمي.

هذه الإتهامات بلغت حداً من البؤس الشديد أنها جعلت أنور البني والنظام و اليمين الأوروبي المسيحي المتطرف وماري لوبان و رفعت الأسد و الإخوان المسلمين جميعاً شركاء في مؤامرة دنيئة لتجريم الضابط (السني) أنور رسلان …. وأن القضاء الألماني هو طرف في هذه المؤامرة الدولية الحاقدة على (السنة) … وكذلك بأن أنور رسلان لو كان علوياً لما تجرأ كل هؤلاء (المتآمرون الدوليون) على المساس به…!! لا تتوقف الإتهامات عند هذا الحد بل تذهب لدرجة أن كل هؤلاء المتآمرون الدوليون إنما يعاقبون (السني) أنور رسلان لأنه انشق عن النظام …!!!

هذه الإتهامات تذكرني بإتهامات شبيهة بها لحد التطابق حول المؤامرة الكونية الوهابية العثمللية الإمبريالية الصهيونية التي تعرضت لها سورية التي كانت ترفل بالنعيم السياسي والإقتصادي والإجتماعي قبل 2011 ……!!!!!

أربأ بضباط وطنيين وقفوا في صف شعبهم ولاشك لدي في وطنيتهم للحظة واحدة أن يرددوا مثل هذه المقولات التي لا تصلح حتى لمجلة تان تان والتي تسيء لهم لا لأنور البني الذي لا أعرفه ولم أتكلم إليه لمرة واحدة في حياتي، وأتمنى عليهم أن يعودوا إلى عقولهم للحظة واحدة، وسأكون أكثر صراحةً ووضوحاً وأقولها لهم بالفم الملآن وبكل صدق وشفافية ومحبة بأن طريقة التعاطي هذه مع قضية أنور رسلان لا تشي أبداً بالقدرة على القيام بدور فاعل وإيجابي في حل للمأساة السورية كان الأمل ولايزال معقوداً عليهم أن يكونوا القوة الدافعه له ومن أجله بعد أن وقفوا وقفة الضمير والشرف مع ثورة شعبهم.

أعرف وأعي تماماً كل الضغوط التي مورست على هؤلاء الضباط الشرفاء الذين رفضوا أن يكونوا ضمن آلة قمع أبناء شعبهم، وأعلم أن أغلبهم يعيشون ظروف حياتية أقل من بائسة بعد أن تم تهميشهم من قبل كافة الأطراف لصالح تنظيمات ميليشياوية لا تمت للشعب السوري بصلة، بل تنفذ أجندات غير سورية بالمطلق، ولكن الأوضاع البائسة لا تبرر مواقف وآراء أكثر بؤساً وبعيدة كل البعد عن أي منطق.

لا أريد أن أحمل مسؤولية هذه الطروحات بالمجمل للضباط المنشقين وهم الفئة التي تحملت أكثر من الجميع، وخاطرت أكثر من الجميع، وتعرضت للتهميش والحصار أكثر من الجميع، فهذه الطروحات مع الأسف ماهي إلا صدى و انعكاس لذهنية سورية كاملة كانت تستولي على عقول الكثيرين قبل 2011 بفعل التصحر و الجفاف السياسي الذي عاشته سورية منذ 1963 وحتى اليوم، ثم أتت المأساة السورية الكبرى التي طحنتنا جميعاً و حالة التنكر التي تعرض لها السوريون من قبل الكثير من الدول و الشعوب في أزمتهم لتزيد في عمق و بؤس هذه الذهنية بطروحاتها البائسة التي لاتحمل أي خير للسوريين …. فعن أي ذهنية أتحدث ؟

أتحدث عن صناعة ( المخيال السوري ) التي برعنا بها جميعاً، و سخرنا كل مواهبنا لأجلها، هذا المخيال الذي يؤمن بالماسونية العالمية والغرف السوداء المظلمة التي تتحكم بالعالم، والمجلس المللي العلوي الذي يحكم سورية ، والتآمر العالمي على السنَّة، والغرام الأمريكي الأوروبي بالشيعة، وتآمر أجهزة الإستخبارات العالمية مع الولي الفقيه ومشروع (علونة) سورية إلى آخر هذه التخرصات التي لا تمت لأي واقع بصلة، وقد اخترنا أن نؤمن بها ونضيع في تعقيداتها.

المظلومية السنية المزعومة التي من خلالها يتم النظر إلى قضية أنور رسلان وأن القضاء الألماني طرف فيها هي أمر لا يمت للواقع بصلة.

لا أنكر للحظة واحدة أن هناك خطأً أمريكياً مفصلياً تمثل في غزو العراق نتج عنه تمدد كبير لإيران في المنطقة ، وقد يكون هذا الخطأ مقصوداً ، ولكن ذلك لايعني أنه انتصار للشيعة ضد السنه، هذه الحسابات كلها غير واردة في العقل الأمريكي، الحسابات كلها سياسية وسياسية فقط.

لم أؤمن يوماً بالطرح الطائفي و الحلول للمأساة السورية لن تتم إلا من خلال طرح وطني يشمل كل سورية و سوري ولا يستثني أحداً منهم ، آخر شيء من الممكن أن يفيد السوريين في مأساتهم التي طالت كثيراً وقد تطول أكثر هو أن ينقادوا لغرائزهم و يؤمنوا بتقليعة (المظلومية السنية) التي لن تخدمهم وسيدفعون ثمنها غالياً ، السنة قبل غيرهم .

الشرفاء من ضباط الجيش العربي السوري الذين رفضوا أن يكونوا في صف الجلاد والذين تحولوا اليوم إلى ضحايا التهميش و أجندات الدول المنخرطة في الشأن السوري هم آخر من يتوقع منهم السوريون أن ينقادوا لذهنية ( المخيال ) … ذاك الوحش الذي صنعناه جميعاً … ليأكلنا جميعاً.

كاتب سوري أميركي يعيش في واشنطن

—————————

الحكم على أنور رسلان رسالة طمأنة لضباط النظام السوري/ بهية مارديني

بعد أشهر من محاكمة ألمانيا للضابط المنشق أنور رسلان صدر الحكم عليه أخيرا بالسجن المؤبد، هذا الحكم هو أعلى عقوبة يمكن لمحكمة أوروبية أن تحكم بها على أي مجرم بعد إلغاء عقوبة الإعدام منذ فترة طويلة، ورغم ترويج  بعض وسائل الإعلام وترحيب منظمات حقوقية وبعض الحقوقيين السوريين لهذه المحاكمة طوال جلساتها وتصويرها على أنها انتصار للعدالة ودعم للثورة السورية، إلا أن رد الفعل الهادر وخيبة الأمل الصادمة للسوريين في صفحات التواصل الاجتماعي وأحاديثهم وصولا لتصريحات الناشطين الميدانيين منهم وخاصة الضباط المنشقين كانت منددة بتلك المحكمة ومشككة بالعدالة التي أجمعوا عليها بأنها انتقائية!!

في البداية حتما لسنا ضد محاكمة المجرمين ومرتكبي الانتهاكات بحق الشعب السوري، ولكن لا شك أن ازدواجية المعايير التي تعامل بها المجتمع الدولي مع الثورة السورية أصابها في مقتل لا يقل ضررا عن براميل بشار وأسلحته الكيميائية التي لم يحاكم أي مسؤول عنها سواء الذي أمر أو نفذ بالقتل، بل إن هذا الحكم على رسلان جاء في الوقت التي تقوم فيه بعض الدول بإعادة التطبيع مع نظام الأسد وسط غض النظر الأميركي الأوروبي تحت مظلة إعادة تأهيل النظام.. إن تصوير أوروبا والولايات المتحدة العجز عن القيام بأية خطوة لمحاسبة نظام الأسد ومنع إفلاته من العقاب بحجة الدعم الروسي المدجج بالأسلحة والفيتو لم يعد ينطلي على أحد.. فالكل بات مقتنعا الآن أن تبادل الأدوار هو سيد الموقف وأن المواقف الروسية ما كانت لتكون لولا الدعم الغربي لها أو على أقل تقدير الموافقة عليها وغض الطرف عنها..

إن محاكمة أنور رسلان وتحول إياد الغريب من شاهد في القضية إلى متهم فيها.. والمشاهد المرعبة المخزية التي نقلت تعرض المعتقل السوري الآخر مجدي نعمة (إسلام علوش) للتعذيب في فرنسا وهو مدني من قيادات جيش الإسلام المحسوب على الجيش الحر للمعارضة السورية المسلحة، وليس على داعش أو النصرة والمجموعات المصنفة على قوائم الإرهاب، كما أن هذا الفصيل مشارك في كل العمليات التفاوضية والتسوية والهيئات والمنظمات المعترف بها دوليا ممن يسمى العالم الحر.. ورغم تشكيك كثيرين بدور جيش الإسلام في تسليم الغوطة وريف دمشق للنظام السوري، لكن ترتيب الأمور أصبح معروفا ولا يمكن أن يكون هذا التسليم إلا بترتيب دولي..

إن التعذيب الممنهج الذي تعرض له مجدي نعمة، كما قالت عائلته، في سجون فرنسا ذكرنا بتعذيب الأسد في سوريا وأعاد لأذهاننا عقوداً من الدعم الفرنسي لنظام الأسد بدءا من تقسيم سوريا إثر احتلالها من فرنسا وتأسيس دولة جبل العلويين بدعم الانتداب الفرنسي واستمرت ستة عشر عاما (192-1936)، مرورا بتأهيل بشار الأسد واستقباله من الرئيس الفرنسي جاك شيراك في قصر الإليزية في الوقت الذي كان فيه بشار ابن رئيس دون أي منصب سياسي أو عسكري أو حزبي!! وانتهاء بالتعاون الاستخباري الذي نسمع ونقرأ عنه بين فرنسا والنظام والصفقات المشتركة عندما كان السوريون يقتلون بدم بارد بالبراميل أو كيميائيا أو جوعا أو تحت سكاكين الميليشيات الطائفية من لبنان والعراق وأفغانستان.. إضافة إلى الوثائق التي نشرت عن إعطاء فرنسا لنظام القتل الأسدي قوائم بالمعارضين السوريين ونشاطهم في فرنسا مقابل معلومات استخبارية يقدمها الأسد عن قضايا خاصة تتعلق بأفغانستان وطالبان.

على الدول الغربية أن تحترم السوريين وألمهم وعذاباتهم وتضحياتهم وتقدم لنا توضيحا لكل ذلك، فهل صور تعذيب مجدي نعمة حقيقية، في فرنسا بلد الحريات وهل التعاون مع نظامه مستمر وهل ستحاكم ألمانيا وأوروبا وأميركا أعوان النظام وزبانيته وليس فقط المنشق أنور رسلان، وهل سنجد يد العدالة تطول قريبا كل من قتل وعذب أي مدني سوري؟..

على الدول الكبرى أن تحترم ثورتنا وخياراتنا وعقولنا…

ولن أتحدث هنا عن كيفية سفر ابن “رجل الأعمال” رامي مخلوف إلى الولايات المتحدة  وحصوله على الفيزا في الوقت الذي رفضت أميركا إعطاء البريطانية لين كلايف فيزا دخول وهي ملكة جمال بريطانيا، وأرادت السفر للمشاركة في احتفال ملكات الجمال الذي سينظم هناك بسبب أنها من أصل سوري، بينما حصل زوجها البريطاني عليها، وربما لأول مرة سيغيب العلم البريطاني عن حفل ملكات الجمال وهي حالة من حالات عديدة يشعر السوريون فيها بالاضطهاد والتمييز ضدهم فقط لأن أصولهم سورية، ويتساءلون كيف تميز الولايات المتحدة وكندا وسواها من الدول بين المواطنين البريطانيين وتقسمهم إلى أصلي ومجنس.. ويقول السوريون أيضا بينما يقفون في الوقت ذاته ضد إرهاب النظام وإرهاب داعش باستمرار إن بريطانيا سحبت جنسية إحدى الفتيات البريطانيات الثلاث اللواتي سافرن إلى الرقة وتزوجت من داعشي، وبالوقت ذاته ما تزال أسماء الأخرس تحمل جواز السفر البريطاني رغم تحريضها على قتل السوريين وتأييدها لزوجها بشار الأسد في كل قطرة دم نزفت من طفل سوري.

العدالة الانتقائية موجعة والتي لا يطبقها المجتمع الدولي إلا على الضعفاء ونحن منهم.. هي العدالة التي لا تطبق إلا على من وقف بوجه النظام وخاصة الضباط الذين انشقوا عنه.. هذا النظام المحبوب والعميل الذي يقتل شعبه فقط.. كيف تتجرؤون أيها السوريون وتخرجون ضده؟ كيف سولت لكم أنفسكم الثورة ضد من وضعناه ونصبناه رئيسا؟! أليست هذه رسالة تطمين لكل من قتل وقطع وسفك إذ أنك بأمان طالما أنك في سوريا، وفي ظل النظام وطالما أنك لم تنشق ومازلت تسفك الدماء؟..

لماذا لم نسمع طوال السنوات العشر عن أي محاكمة لجاسوس للنظام هنا أو شبيح هناك؟ ألم يزر برلمانيون أوروبيون السفاح في دمشق، ألم يدعموه سياسياً ومالياً واقتصادياً؟ ألم تتورط شركاتهم في تبييض أموال الأسد وعائلته، رغم أنه مجرم حرب في العرف الدولي، فضلا عن الاحتيال على ما سمي عقوبات اقتصادية والتي لم يدفع فواتيرها سوى المغلوب على أمرهم من السوريين بالداخل؟

لكن ألسنا نحن السوريين من سار بقدميه إلى التهلكة؟ ألسنا نحن من وضع القيود في أقدامنا وأيدينا؟ ركبنا الزوارق وأنفقنا الغالي والنفيس للهروب من جحيم الأسد إلى نعيم الغرب، إلى العالم الجديد.. فكنا كمن هرب من الرمضاء إلى النار.. تركنا بلدنا لبشار وزبانيته، وأعطينا شبيحته بيوتنا وأموالنا، وتخلينا عن حقنا في مقاومته والوقوف ضد من دعمه ويدعمه، والتجأنا إلى حلفائه الصدوقين معه المخلصين لمصالحه وكأننا وضعنا في إقامة جبرية.. نرى ونسمع لكن لانفعل ولا نتكلم..

إن محاكمة رسلان ورفاقه يجب أن تكون حافة الهاوية الأخيرة التي يجب أن نتوقف عندها قبل المهوار.. يجب أن نعيد التفكير بأدواتنا ومنهج عملنا.. يجب أن نغير من آليات ثورتنا على طريق الانعتاق الأبدي من الأسد الرابض فوق رقابنا بدمشق ومن الظلم والجور من أعوانه العلنيين والسريين..

تلفزيون سوريا

————————-

تحقيق العدالة من أجل سوريا

كان يوما باردا ملبدا بالغيوم من فبراير/شباط 2015 عندما دخل أنور ر. إلى مركز شرطة في برلين لتقديم شكوى. قال أنور ر.، ضابط المخابرات العسكرية السورية السابق الذي يعيش الآن في ألمانيا، إنه يعتقد أن عملاء الحكومة السورية كانوا يتتبعونه في برلين. أعرب عن خشيته من أن يُختَطَف، وفي أسفل شكواه المكتوبة، وقّع اسمه مستخدما لقبه العسكري – “عقيد”.

لم تتمكن الشرطة من العثور على دليل على أنه مُلاحَق، لكنها درست بعناية التفاصيل الدقيقة التي شاركها أنور ر. حول مهنته الاستخباراتية المزعومة.

اليوم، أنور ر. (58 عاما) يحاكَم في كوبلنز، مدينة صغيرة غرب ألمانيا، بتهمة ارتكاب جرائم مزعومة ضد الإنسانية قبل انشقاقه عام 2012.  بدأت المحاكمة في أبريل/نيسان 2020 حيث اتُهم بـ  4 آلاف واقعة تعذيب، و58 جريمة قتل، وبالاغتصاب والاعتداء الجنسي، بينما كان يترأس تحقيقات في منشأة استخبارات عسكرية تُعرف بـ “الفرع 251” في دمشق. من المتوقع إصدار الحكم بشأن الإدانة والعقوبة في يناير/كانون الثاني.

أنور ر. (تتطلب قوانين الخصوصية في ألمانيا إخفاء الاسم الكامل للمتهم) هو أكبر مسؤول حكومي سوري سابق مزعوم يُحاكم في أوروبا على جرائم ضد الإنسانية ارتكبت في سوريا.

هذه المحاكمة جاءت بفضل مزيج من المبادرات الفردية، والجهود الجماعية الدؤوبة، والتكنولوجيا المبتكرة – والصدفة والهفوات البشرية.

لكن مسرح محاكمة كوبلنز كان مُعدّا قبل وقت طويل من اعتقال أنور ر. عام 2019. كانت السلطات الألمانية تحقق في الجرائم في سوريا منذ بدء الانتفاضة في البلاد عام 2011. ثم في 2015، وصلت أعداد كبيرة من السوريين من مختلف مناطق سوريا إلى ألمانيا. أثناء البحث عن بداية جديدة في وطن جديد، لم يكن محو تاريخهم في سوريا التي مزقتها الحرب ممكنا. هذا يعني أيضا أن الضحايا والشهود والأدلة المادية – وحتى بعض المشتبه بهم – غير المتوفرين سابقا– أصبحوا في متناول السلطات القضائية الأوروبية.

عنصر أساسي آخر: تسمح قوانين ألمانيا بمحاكمة الجرائم الخطرة هناك، حتى دون وجود صلة لألمانيا بالجرائم، وهو مبدأ يُعرف باسم “الولاية القضائية العالمية“. قد يبدو حدوث هذه المحاكمة محض صدفة.

هذه المحاكمة فريدة من نوعها أيضا.

بعد قرابة عقد على اندلاع الحرب، انتهى القتال في سوريا تقريبا. أحكم الرئيس بشار الأسد ومسؤولون حكوميون آخرون قبضتهم على السلطة واستعادوا السيطرة على معظم البلاد. بالتالي عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية الجنائية عن الجرائم في سوريا، تعتبر فكرة المحاكمات العادلة داخل البلاد بعيدة المنال. في الوقت نفسه، محاولات إشراك “المحكمة الجنائية الدولية” أو المحاكم الدولية الخاصة قد أُحبِطَت. مع انعدام المساءلة، تستمر الانتهاكات الجسيمة من قبل جميع الأطراف دون رادع. العدالة الهادفة في سوريا – أقلّه حاليا – غير ممكنة.

إذن، لماذا تعتبر القضية المرفوعة ضد عميل استخباراتي مزعوم متوسط ​​المستوى على بعد آلاف الأميال من مكان وقوع الفظائع مهمة؟

المحاكمة

أ- الشاهد

دخل عامر مطر، صحفي ومخرج وثائقي سوري، إلى قاعة المحكمة في كوبلنز لمواجهة الرجل الذي زعم أنه عذّبه قبل عقد من الزمن. كان ذلك في 7 أبريل/نيسان 2021 – اليوم الـ 67 من جلسات محكمة أنور ر.

جلس مطر (34 عاما) إلى طاولة مقابل القضاة الخمسة. كان أنور ر. عن يمينه على طاولة أخرى.

قال مطر لـ “هيومن رايتس ووتش” في أكتوبر/تشرين الأول 2021: “اتخذت قرارا واعيا منذ البداية بعدم توجيه أي من كلامي أو أي من شهادتي تجاه أنور ر. أخبرنا أيضا أنه يكتم منذ زمن ما حدث له في الفرع 251. لكن في المحكمة، وبينما كان يستعد لمخاطبة القضاة، تلاشت تفاصيل الغرفة – النوافذ الطويلة، والفواصل الشفافة الموضوعة بين المكاتب بسبب تفشي فيروس “كورونا”، والجدار المكسو بالكتب خلف القضاة. قال: “عدت إلى السجن وإلى الزنزانة وإلى سوريا”.

Amer Matar — عامر مطر

In the beginning,before the trial, when I was still giving my testimony,I was seeing that things are still far awaythat it will be difficult and it may never happen.But when I saw the first picture of Anwar R.while in court,I felt a semblance of justice can be achieved.At the same time, it is painful that this would be achieved in exile,very far from our country,very far from what happened.We suddenly felt that we are in another world.I feel I have a personal right to justice from himbecause I was tortured in a monstrous way.I was degraded and terrorized.I was degraded in every way possible.This made me have a personal demand with this person.

في الأيام الأولى،وقبل المحاكمة، عندما كنت لا أزال أدلي بشهادتي،كنت أرى أن الأمور لا تزال بعيدة،وأن الأمر سيكون صعبا، وقد لا يحدث أبدا.ولكن عندما رأيت الصور الأولى لأنور رسلانوهو موجود داخل المحكمة،شعرت أنه يمكن تحقيق ما يشبه العدالة.وفي الوقت نفسه، من المؤلم أن يتحقق ذلك في المنفى،بعيدا عن بلدنا،بعيدا جدا عما حدث.شعرنا فجأة أننا في عالم آخر.بالنسبة لي، فإن لدي حق شخصي معه.لقد تم تعذيبي بشكل وحشي.تم إهانتي، وتم ترهيبي.لقد أهانوني بكل الطرق الممكنة التي كانوا قادرين على القيام بها.وهو ما جعل لدي حق شخصي.

عندما اندلعت الاحتجاجات المناهضة للحكومة في العاصمة السورية دمشق في أوائل 2011، ألقى مطر بنفسه في المعركة، وأدلى بشهادته في المحكمة، وغطى المظاهرات وناقشها على شاشات التلفزيون.

ثم في 28 مارس/آذار من ذلك العام، قال للمحكمة إن قوات الأمن داهمت منزله. في تلك اللحظة، اعتقد مطر أن حياته انتهت. ضربته قوات الأمن السورية وأهانته وبحثت في كل مكان. قال إنه اعتُقل واستُولي على حاسوبه المحمول ومعدات أخرى قبل تفتيشها. ثم قال إنه نُقل إلى الفرع 251.

شهِد مطر بأن قوات الأمن عثرت في حاسوبه المحمول على صورة التقطها لـ أنور ر.

في تلك اللحظة، قال مطر إنه يعرف أنور ر. شكلا وليس اسما.

قال في المحكمة إن أنور ر.  كان في فبراير/شباط 2011 من بين الضباط الذين ضايقوا اثنين من أصدقائه. قال إنهما كانا يخططان للتظاهر قرب البرلمان في دمشق. عندما بدأ بعض الضباط في ضرب أصدقائه، قال مطر إنه مشى إلى أنور ر.، الذي كان يقف بالقرب منه، وطلب منه التدخل.  بدلا من ذلك، ضربه أنور ر. هو أيضا، على حد قوله.

بعد فترة وجيزة من هذه المواجهة المزعومة، قال مطر إنه شاهد أنور ر. في جنازة المخرج الوثائقي السوري عمر أميرالاي، أحد منتقدي الحكومة السورية المعروفين. قال مطر إنه التقط صورة لأنور ر. وحفظها على حاسبه المحمول باسم “الشرير”.

شهِد مطر بأنه كان خائفا وعصبيا حيال التقاط تلك الصورة، وأوضح أن مجرد حضور الجنازة كان مخاطرة، لأن تصوير عناصر الأمن ليس بالأمر الهيّن في سوريا.

بمجرد بدء الاحتجاجات في مارس/آذار 2011، كان ضباط الأمن، بمن فيهم أنور ر.، يحضرون المظاهرات، اشتبه مطر في أنهم يريدون حفظ وجوه المتظاهرين، حسبما قال لـ هيومن رايتس ووتش عام 2020.

قال مطر إنه احتُجز في الفرع 251 في غرفة تحت الأرض ليس بها إنارة طبيعية. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه “أُهين، وعُصبت عينيه، وكُبِّلت يديه وضُرب من عدة أشخاص”.

شبّه التجربة بـ “الدفن في قبر” وقال: “تتعرض للتعذيب دون منطق.”

قال في المحكمة إن المحققين ضربوه في البداية بكبل، ثم استخدموا السوط لاحقا. توسّل إليهم أن يتوقفوا. وفي إحدى المرات، قال إن المحققين أمروه بالوقوف، لكنه لم يقوَ على ذلك.

كان يسمع صراخ المعتقلين في غرف الاستجواب الأخرى طوال الوقت.

قال مطر للمحكمة إنه احتُجز في عدة زنازين داخل الفرع 251، بعضها كان يضم 20 أو 30 شخصا.

لم يكن هناك مساحة كافية. كان البعض يقف أحيانا حتى يتمكن الآخرون من النوم، وفقا لشهادة مطر. كان الحراس أحيانا لا يتركونهم ينامون، وهو ما وصفه بالتعذيب النفسي. قال إنه كان يرى أشخاصا في زنازين أخرى مقيدي اليدين إلى قضبان النوافذ، مما منعهم من الجلوس.

ذات مرة قال إنه كان معصوب العينين، وسأله أحد المحققين: “صورة من هذه على كومبيوترك المحمول؟”. قال مطر إنه أجاب: “لا أعرف”.

خلع الرجل العصابة عن عيني مطر، ووصفه بـ “ابن العاهرة” وضربه على وجهه.  كان أنور ر.، كما أوضح مطر للمحكمة.

بحسب مطر، أعاد أنور ر. عصابة عيني مطر، وقال مطر إنه في تلك المرحلة كان يخشى على حياته.

لكنه نجا. بعد 12 أو 13 يوما في الفرع 251، نُقل مطر إلى سجن آخر، على حد قوله. بعد أيام قليلة، نُقل مع نحو 100 معتقل آخرين إلى فناء السجن، حيث وصفهم المسؤولون بالخونة والمجرمين، ثم أخبروهم أنهم طُلقاء بعفو رئاسي. قال مطر للمحكمة إنهم نُقلوا إلى حافلات، وإنه ذهب إلى شقة أحد الأصدقاء، ولم يعد إلى منزله بعد ذلك.

وصل إلى ألمانيا عام 2012.

قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الإدلاء بشهادته في محاكمة أنور ر. كان “من أصعب التجارب التي مررت بها على الإطلاق”. أجبره ذلك على “مواجهة الماضي من جديد”. قال إنه عانى من الشقيقة لأسابيع بعد الإدلاء بشهادته.

لكنه قال إن الشهادة شيء يجب على السوريين أمثاله الذين يريدون “الحقيقة والمصالحة” أن “يمروا به”.

الخلفية

قتلت الحرب في سوريا أكثر من 350 ألف شخص، وأجبرت أكثر من 12 مليون على ترك منازلهم، وتركت أكثر من 12.3 مليون سوري يعانون من الجوع. بينما ارتكب الفرقاء من جميع أطراف النزاع جرائم خطيرة، تعتبر الحكومة السورية والقوات الموالية لها مسؤولة عن غالبية الفظائع المرتكبة ضد المدنيين.

هناك عنف فوق الأرض: قصف المستشفيات والأسواق والمدارس، وكذلك الهجمات القاتلة بالأسلحة الكيماوية ضد المدنيين بمن فيهم الأطفال. لكن هناك أيضا عنف لا يمكن رؤيته بسهولة: السجون المخفية ومراكز التعذيب، التي اختفى فيها عشرات الآلاف من السوريين – ظهروا منها بعد سنوات أحيانا، وأحيانا أخرى لم يُسمع منهم مرة أخرى.

استمعت المحكمة إلى شهادات عن التعذيب وغيره من الانتهاكات التي تُرتكب في مراكز الاحتجاز التابعة للمخابرات. سمٍع القضاة أثناء المحاكمة أنه منذ بدء عهد حافظ الأسد عام 1971، ساعدت أجهزة مخابرات الدولة في تثبيت حكم الحكومة. راقب ضباط المخابرات السكان، وأجروا عمليات تفتيش واعتقالات واستجوابات، ومنها ما اتسم بالعنف.  تتبعوا أنشطة الجماعات الدينية والجامعات والشركات. كانت الدوائر داخل أجهزة المخابرات تُعرف بأرقامها المكوّنة من ثلاث خانات.

كان الفرع 251 واحدا من 27 مركز احتجاز تديرها أجهزة استخبارات سورية حددتها هيومن رايتس ووتش وكانت موجودة بين 2011 و2012، عندما كان أنور ر. في سوريا. (هذا التقرير وتقرير آخر أعدتهما هيومن رايتس ووتش أشير إليهما في المحكمة). لأن الفرع 251 كان يقع في حي الخطيب داخل دمشق، أطلق عليه الناس في كثير من الأحيان بشكل غير رسمي اسم “فرع الخطيب”. وفقا لشهود في كوبلنز، كان سجن الفرع وغرف الاستجواب في الطابق السفلي من المبنى.

ب – المتهم

أنور ر. متهم بلعب دور في هذا الجزء السري من آلة الحرب والقمع لدى بشار الأسد. علمت المحكمة في كوبلنز أنه انضم إلى المخابرات السورية عام 1993. منذ 2006 وحتى 2008، عمل في المخابرات قبل نقله إلى الفرع 251. قال شهود للقضاة إنه في يناير/كانون الثاني 2011 كان رئيس التحقيق في مركز الاعتقال.

فر من سوريا في 2012 بعد مذبحة في مسقط رأسه في الحولة بمحافظة حمص، وبعد مقتل أحد أحفاده، كما علمت المحكمة. في ذلك الوقت، كانت العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا غارقة في اضطرابات سياسية كبيرة. الاحتجاجات أطاحت بالحكومة في تونس في أوائل 2011. بعد فترة وجيزة، سقطت الحكومة المصرية القائمة منذ عقود، واعتُقل الزعيم الليبي معمر القذافي وقُتل.

استمعت المحكمة إلى أنه هرب بداية مع عائلته إلى الأردن في ديسمبر/كانون الأول 2012، وفقا لشهادة في المحكمة. سمعت المحكمة أنه انضم إلى المعارضة وفي 2014 شارك في مؤتمر سلام في جنيف كممثل للمعارضة. في نفس العام، وبناء على توصية من زعماء المعارضة السوريين، منحته وزارة الخارجية الألمانية تأشيرة.

خلال محاكمته، لم يصعد أنور ر. إلى المنصة مطلقا. لكن في 18 مايو/أيار 2020، اليوم الخامس من جلسات الاستماع، قرأ محاموه بيانا مُعدا للمحكمة. ذكر أنور ر. فيه نحو 20 شخصا اعتمد المدعون العامون على أقوالهم في بناء قضيتهم، ثم حاول نفي رواياتهم. قالت ريم علي، فنانة سورية، إن أنور ر. استجوبها، وفقا للبيان. زعم أنور ر. أنهما تجاذبا أطراف محادثة ودية واحتسيا القهوة وأنه لم يستجوبها. قال هـ. محمود إن أنور ر. ضربه، وقال أنور ر. إن ذلك غير صحيح.  ادعى شاهد مجهول الهوية أنه احتُجز 45 يوما وشاهد سجينا يموت كل يوم. قال أنور ر. إنه كان في مكتبه فقط.

قرأ محامي أنور ر. “لم تكن لدي أي علاقة بالتعذيب”.

 باتريك كروكر، المحامي المنتسب إلى “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” ومقره برلين والذي يمثل عددا من السوريين في محاكمة أنور ر.، “فوجئ” بأن تصريح أنور ر. كان مجرد “دحض قاطع” للجرائم المتهم بارتكابها. لكنه قال لـ هيومن رايتس ووتش إن “من حقه” الإدلاء بهذه التصريحات.

Patrick Kroker — باتريك كروكر

I was surprised by the statement of Anwar R., honestly. I would have guessed if he does say something,then it would be enlightening anybody a bit more than this.Again, it’s his right. But on the other hand, it was a very, very kind of flat denial of everything.I would have guessed that either he stay silent completely or says something that is a bit more, you know,making things more lucid for anyone, but it didn’t.

لقد فوجئت بشهادة أنور ر. بصراحة، كان لدي اعتقاد أنه كان ليقول شيئايساهم في إغناء معرفة الناس بشكل أكبر.مرة أخرى، هذا من حقه. لكن من ناحية أخرى، كان نوعا من الإنكار القاطع لكل شيء.كنت سأخمن أنه إما كان ليظل صامتا تماما أو سيقول شيئاأكثر قليلا يوضح الأمور لكل شخص، لكنه لم يفعل.

أنور ر. ليس أول مسؤول حكومي مزعوم سابق يحاكَم في ألمانيا. حوكم مع إياد أ.، موظف أقل مستوى من الفرع 251، والذي حُكم عليه في 24 فبراير/شباط 2021 بالسجن 4 سنوات و6 أشهر للمساعدة والتحريض على جرائم ضد الإنسانية لدوره في نقل المتظاهرين إلى الفرع 251، رغم علمه بالتعذيب الممنهج هناك.

قال القضاة إن مشاركة إياد أ. للمعلومات حول الهيكل الداخلي للفرع 251 ودور أنور ر. كان عاملا مخففا في إصدار الحكم، لأنه كان دليلا قيما ساهم في إدانة أنور ر.

جـ- المحامي

كان لدى أنور البني، الناشط والمحامي السوري، معلومات سرية خاصة به حول التعذيب في مرافق المخابرات السورية، ويقول إنه كان يعلم بأمر أنور ر. قبل فترة طويلة من محاكمة كوبلنز، عندما شهد أمام المحكمة في 4 و5 يونيو/حزيران 2020.

في 2006، اعتُقل البني في دمشق.  اقتاده رجال إلى شاحنة وضربوه.  رغم أنه لم يضرب البني قط، إلا أن أنور ر. كان أحد هؤلاء الرجال، على حد قول البني في المحكمة.

البني، المولود عام 1959 لعائلة سياسية في محافظة حماة في سوريا، قال لباحثة هيومن رايتس ووتش إنه دخل معمعة النشطاء في سن مبكرة، وإن عمله في الدفاع عن السجناء السياسيين جعله هدفا لنظام الأسد.

بعد هذا الاعتقال عام 2006، سُجن البني خمس سنوات، حتى مايو/أيار 2011. قال لـ هيومن رايتس ووتش إنه تعرض للتعذيب أثناء الاحتجاز.

هربت عائلته من سوريا ووصل البني إلى ألمانيا بعد فترة وجيزة. قال البني إنه بعد ذلك بوقت قصير، كان هو وزوجته يتسوقان قرب مركز مارينفيلدي للاجئين في برلين حيث يعيشان، عندما لمح شخصا ظنّه مألوفا للغاية، لكنه لم يحدد هويته.

لم تتضح الأمور للبني سوى لاحقا، عندما أخبره أحد الأصدقاء أن أنور ر. يقيم أيضا في مارينفيلدي.  قال لـ هيومن رايتس ووتش إن الرجل كان أنور ر.

Anwar al-Bunni — أنور البني

This is not a personal issue.As for me, my opponent is not a specific person.My opponent is a regime which has manipulated law process.providing spaces for killing, torturing and abduction,without any accountabilityThis is not a personal issue.It is not about if this person who detained me or not.Hit me or not.It is about the regime and what it does.Some feel the regime has won, and it is done.Thus, you feel despair and hopelessness.This is very important challenge in which we say ‘No, there is hope.There are still a lot to do’ and sure I am happy thatbecause of our work a general atmospherewhich is to believe again in meaningfulness is restored…This is first time in history where justice is being established before the political solution.

لا يوجد شيء شخصي ضدهبالنسبة لي خصمي ليس شخص محدد هنا أو هناك.خصمي هو نظام ممنهج بآلية قانونيةتعطيه المساحة ليقتل ويعذب ويعتقلمن دون محاسبة.بالتالي ليست المسألة شخصية لي؛بمعنى أن هذا الشخص اعتقلني أو لا،أو ضربني أو لا.ما كان يهمني هو النظام بالكامل وما كان يفعله.لدى البعض إحساس بأن النظام قد انتصر وانتهى الأمربالتالي ترين البعض يحسون باليأس أو الإحباط.لذلك هذا تحدي مهم لبث الأمل بحدوث شيء في المستقبل.أكيد أنا سعيدلأنه يعيد حالة الإيمان لدى السوريينبأن هناك جدوى من هذا العمل،هذه أول مرة في التاريخ تبدأ العدالة قبل الحل السياسي.

واصل البني نشاطه في ألمانيا، وواصل، مثل غيره من السوريين في أوروبا، بمن فيهم المحامي مازن درويش الذي شهِد في كوبلنز، السعي لتحقيق العدالة في سوريا. قال إنهما عملا مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، وجمعا شهادات عن الانتهاكات من السوريين لمشاركتها مع الشرطة والمدعين العامين الألمان الذين حققوا في الجرائم الخطيرة المرتكبة في الخارج. في 2017، قدم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان شكوى جنائية إلى السلطات الألمانية نيابة عن العديد من السوريين ضد ستة مسؤولين سوريين رفيعي المستوى منهم علي مملوك، الذي يُزعم أنه أشرف، بصفته رئيس “مكتب الأمن الوطني” والمستشار الشخصي للأسد، على مرافق الاحتجاز الاستخباراتية في البلاد.

ردا على سؤال حول مشاهدته لأنور ر. في برلين، قال البني: “الأمر ليس شخصيا، لا علاقة له باعتقاله أو ضربه لي من عدمهما، بل يتعلق بالنظام وما يفعله”.

النضال من أجل العدالة

ما فعلته الحكومة السورية هو تدمير أحياء بأكملها بالبراميل المتفجرة، واستخدام الأسلحة الكيماوية المحظورة ضد آلاف المدنيين.  من أجل استعادة السيطرة على الأراضي، أقامت الحكومة السورية تحالفات مع القوات الروسية والإيرانية، والتي استخدمت جميعها بشكل مروّع تكتيكات غير قانونية. اتُهمت القوات السورية والروسية بارتكاب جرائم خطيرة، وكذلك أطراف أخرى في النزاع مثل الموالون لـ “تنظيم الدولة الإسلامية” (المعروف أيضا بـ’داعش‘) و و”القاعدة”.

أجبِر أكثر من 5 ملايين سوري على الفرار من البلاد بسبب الحرب، يعيش معظمهم في تركيا والأردن ولبنان. نزح 6.8 مليون سوري آخر داخليا – أي أكثر من نصف إجمالي سكان سوريا عام 2010. اليوم، أكثر من 80٪ من السكان يعيش تحت خط الفقر.

ليس هناك ما يشير إلى أن الحكومة السورية ستوقف العنف أو ستقوم بإصلاحات، خاصة مع استعادة حكومة الأسد للاعتراف الدبلوماسي بشكل متزايد. دول عديدة، بما في ذلك الإمارات العربية المتحدة، أعادت علاقاتها مع الأسد، بينما أعاد الأردن الاتصال على أعلى مستوى وأعاد فتح حدوده مع سوريا.

إجراء محاكمة مثل محاكمة أنور ر. في سوريا اليوم أمر بعيد المنال. حُظرت مسارات أخرى للعدالة أيضا.  المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ليس لديها ولاية تلقائية لأن سوريا ليست عضوا في المحكمة. يمكن “لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”، الهيئة المسؤولة عن الحفاظ على السلام والأمن، أن يمنح المحكمة هذا الاختصاص، لكن الصين وروسيا استخدمتا حق النقض ضد هذا الإجراء عام 2014.

هذا يجعل المحاكمات الوطنية في البلدان الأجنبية الوسيلة الوحيدة للعدالة الجنائية في هذا الوقت.

رُفعت القضية ضد أنور ر. في ألمانيا لأن الدولة تعترف بالولاية القضائية العالمية. هذا يمنح السلطات الألمانية سلطة التحقيق في بعض الجرائم الأكثر خطورة ومقاضاة مرتكبيها، مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن مكان ارتكابها وبغض النظر عن جنسية المشتبه بهم والضحايا.

Alexander Suttor — ألكسندر ساتور

What it is, it is a war crimes trial held in Germany,which is unusual in some way because none of the defendants are German.None of the victims are German, and of course all the acts alleged did not happen in Germany.And this is possible due to a relatively recent addition to the German criminal code, which is called the Völkerstrafgesetzbuch,which means international crimes criminal code, where the German legislatures decided thatwar crimes and crimes against humanity should be prosecutable in Germanyeven if there’s no nexus to Germany in any way, shape, or form.This is why in Koblenz there are now two people on trial who were members of the Syrian secret services, the intelligence services.

إن هذه ببساطة محاكمة منعقدة في ألمانيا لجرائم حرب،وهو أمر غير مألوف إلى حد ما نظرا لعدم وجود متهم ألماني بين المتهمين،والضحايا ليسوا ألمان، ولم تحدث أي من الأفعال المزعومة في ألمانيا.عُقدت المحاكمة جراء إضافة حديثة نسبيا إلى القانون الجنائي الألماني دُعيت “Völkerstrafgesetzbuch”،وتعني “القانون الجنائي الدولي للجرائم”، وفيها قررت الهيئات التشريعية الألمانية وجوبمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ألمانيا،حتى لو لم يكن لها صلة بألمانيا بأي شكل من الأشكال.يفسر ما سبق سبب محاكمة شخصين في كوبلنز كانا عضوين في أجهزة المخابرات السورية.

ألمانيا واحدة من عدة دول في العالم، مثل السويد وهولندا وفرنسا، لديها قوانين من هذا النوع.

 ألمانيا، بالطبع، لها تاريخها الخاص في الجرائم الخطيرة. قال كلاوس كريس، أستاذ القانون الدولي والجنائي في جامعة كولون، إن محاكمات نورمبرغ كانت “ثورة في المفهوم الحديث للقانون الجنائي الدولي”، في إشارة إلى محاكمات 1945 – 1946 التي حاسبت الألمان على جرائم ارتُكبت خلال الحرب العالمية الثانية.

Claus Kress — كلاوس كريس

I think we have increasingly understood that a core,if not the core, mission of international criminal justiceis to express a meaning, is to convey a message.And this message is to uphold fundamental international values,to uphold the validity of international legal rules, even in a case of massive violation.This is the idea of proceedings such as the Syrian ones.To confront the world with a message. Yes, Mr. Assad and his regime.They may have felt for many years in a position to trampleupon the most fundamental international principles,but he and his regime will not prevail.

أعتقد أننا فهمنا بشكل متزايد أن المهمة الأساسية،إن لم تكن الجوهرية، للعدالة الجنائية الدوليةهي إبراز فكرة،ونقل رسالة مفادها دعم القيم الدولية الأساسية،ودعم صلاحية القواعد القانونية الدولية، حتى في حالة الانتهاك الجسيم.هذه هي فكرة الإجراءات كما نرى في الحالة السورية،حيث نقدم للعالم رسالة مفادها، “بالنسبة للسيد الأسد ونظامه؛ربما شعروا لسنوات عديدة بأنهم في وضع يسمح لهمبسحق أهم المبادئ الدولية الأساسية،لكنه ونظامه لن ينتصرا”.

التجهيز للمحاكمة

تقع محكمة كوبلنز في شارع بالقرب من نقطة التقاء نهري الراين وموزيل، على مسافة ليست بعيدة من قلعة بروسية تعود للقرن التاسع عشر، وعلى بُعد مسافة قصيرة سيرا على الأقدام من منطقة المدينة القديمة التي تعود إلى العصور الوسطى. وهي أعلى محكمة في ولاية راينلاند-بالاتيناته الألمانية. كوبلنز مدينة أكثر هدوء، ومن المؤلم “الخروج إلى هذا المشهد الشاعري بعد سماع شهادة وحشية في قاعة المحكمة”، على حد قول ألكسندر ساتور، المحامي في ” كليفورد تشانس“، شركة قانونية راقبت المحاكمة نيابة عن هيومن رايتس ووتش.

اعتمدت محاكمة أنور ر. على أدلة جُمعَت ودُعمَت بصعوبة، إثر غربلة دقيقة للحقائق من مصادرها.

إضافة لمقابلة الشهود، احتاج محققو الشرطة إلى تحديد سياق جرائم أنور ر. المزعومة. ماذا كان يحدث في سوريا في عامي 2011 و2012؟

وثّق الكثير من الأشخاص الحرب في سوريا: باحثو حقوق الإنسان، والصحفيون، ومحققو الأمم المتحدة، ومحققو الشرطة، فضلا عن المنظمات السورية غير الحكومية مثل “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير“، و”المركز القانوني السوري”، و”منظمة ملفات قيصر“.

منذ إنشائها من قبل “مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة” في 2011، جمعت “لجنة التحقيق الأممية بشأن سوريا” العديد من المواد – مقابلات مع الناجين، وتقارير الطب الشرعي، ومقاطع الفيديو، وصور الأقمار الصناعية – لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا. تقريران، أحدهما يعود لـ 2011 والآخر لـ 2012، قُرِآ في المحكمة في كوبلنز.

قال جيمس رودهفر، المنسق السابق “للجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا”، والذي يعمل الآن في ميانمار: “تحاول بذل قصارى جهدك لإعلاء أصوات الضحايا”. وثّق هو وفريقه انتهاكات حقوقية وخروقات قوانين الحرب عبر استجواب عدد مهول من الشهود وتأييد رواياتهم، وحيثما أمكن، تحديد الأطراف المسؤولة عن الجرائم الموثقة.

الأمم المتحدة، والعديد من المجموعات الأخرى التي توثق الجرائم في سوريا، استخدمت التكنولوجيا بطرق مبتكرة. مثلا، اعتمدت هيومن رايتس ووتش، التي أعدت تقريرين أُشير إليهما في المحكمة، على مواد مفتوحة المصدر وصور الأقمار الصناعية لتوثيق ما عرفنا بحدوثه في السجون الاستخباراتية والجرائم المرتكبة في سوريا والتي لم تتم محاكمتها في كوبلنز مثل الهجمات بالأسلحة الكيماوية والمذابح. تواصلنا أيضا عبر سكايب مع شهود على هذه المجازر واستخدمنا “غوغل إيرث” الذي يعرض صورا جوية وأرضية المدن – لاطلاع الشهود على ما حدث.

قالت ديانا سمعان، مساعدة أبحاث سابقة في هيومن رايتس ووتش، وهي الآن باحثة سوريا في “منظمة العفو الدولية”: “كنت أطلب منهم أن يبينوا لي على الخارطة” أين رأوا قوات الأمن أو الجثث. ثم يقوم فريق هيومن رايتس ووتش بتحديد الموقع الجغرافي والتقاط صور الأقمار الصناعية للموقع.

Diana Semaan — ديانا سمعان

Yeah, hearing these stories are extremely painful,but at some point, during the 10 years, you just learn how toto try to process all of what you’re hearing and try to look at the bigger picturewhich is, you know, these individuals or these survivors are speaking to usdespite everything they’ve been through, because they are also looking at the bigger picture,which is preservation of evidence, accountability, even if it takes another decade.

صحيح، من المؤلم للغاية سماع هذه القصص،لكنك تتعلم في مرحلة على امتداد السنوات العشر الماضية كيفيةالتعاطي مع كل هذا، وكل ما سبق، وكل ما تسمعه، وتحاول إلقاء نظرة على الصورة الأكبر،والتي هي، كما تعلم، أن هؤلاء الأفراد أو الضحايا الناجين يتحدثون إلينارغم كل ما مروا به، لأنهم ينظرون أيضا إلى الصورة الأكبر،والتي هي، كما تعلم، حفظ الأدلة والمساءلة، حتى لو استغرق الأمر عقدا آخر.

لكن كيف ساعدت هذه الأدلة في تقديم رجل انتهى به المطاف في ألمانيا للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سوريا؟

أ. محققو الشرطة

من المفيد أن يثير المُرتكب بنفسه اهتمام الشرطة الألمانية.

في 30 أغسطس/آب 2017، أجرى مارتن هولسكي، كبير مفتشي شرطة ولاية بادن فورتمبيرغ، مقابلة مع أنور ر. لجمع أدلة ضد سوري آخر يشتبه بإطلاقه النار على مدنيين خلال مظاهرة في حماة، حسبما قال هولسكي في شهادته بالمحكمة. قال له أنور ر إنه في الأيام الأولى للانتفاضة، اعتقل “الحرس الجمهوري” السوري 17,500 شخص ومررهم عبر فرع أنور ر، وإنهم استُجوبوا وأفرج عن غالبيتهم بينما سُجن وعُذب آخرون.

شهد هولسكي أنه عندما سأل أنور ر بشكل أكثر تحديدا عن التعذيب، أجاب أنور ر: “مع هذا العدد الكبير من الاستجوابات في يوم واحد، لا يمكنك دائما أن تكون مهذبا. مع الجماعات المسلحة، عليك أحيانا أن تكون أكثر صرامة”.

أخبر أنور ر أيضا هولسكي عن وقت إحضار أكثر من 700 شخص، من بينهم جثث، إلى الفرع 251، وأنه بصفته المسؤول عن التحقيقات لا علاقة له بالجثث.

أُرسِلت المعلومات إلى مانويل ديوسينغ من الشرطة الفيدرالية الألمانية، الذي فتح تحقيقا في قضية أنور ر.

شهد ديوسينغ في المحكمة أنه اتصل بشرطة ولاية برلين الذين أخبروه بما علموه عن أنور ر عندما اشتبه في أن ضباط المخابرات السورية كانوا يلاحقونه في 2015. طلب ديوسينغ أيضا من “مركز العدالة الدولية والمحاسبة” أن يشاركه أي وثائق مهربة من سوريا فيما يتعلق بأنور ر. أرسلت المجموعة إلى ديوسينغ مذكرات مقلقة بشأن استجوابات السجناء التي يُزعم أن أنور ر قدمها إلى رئيس فرعه، حسبما قال ديوسينغ. عرّفت الوثائق أيضا أنور ر. كعضو في “لجنة الاستجواب المركزية”.

قال ديوسينغ في المحكمة إن التنسيق مع السلطات الأوروبية الأخرى ساعد في دفع عجلة التحقيق. بدأت سلطات إنفاذ القانون الألمانية تحقيقا مشتركا مع السلطات الفرنسية، وتبادلت المعلومات واستجواب الشهود في فرنسا. يسّرت السلطات السويدية والنرويجية إجراء مقابلات مع شهود يعيشون هناك.

إجمالا، قابلت الشرطة الفيدرالية الألمانية أكثر من 70 شخصا أثناء التحقيق مع أنور ر.

قال ديوسينغ إنه بدأ بمراقبة هاتف أنور ر وفتّش منزله. صادرت الشرطة أجهزة خليوي وجهاز كمبيوتر محمول وأقراص مدمجة، ووجدوا دفتر عناوين صغير يحوي معلومات اتصال لمسؤولين سوريين رفيعي المستوى ونسخا من شارته من مديرية المخابرات العامة.

في 12 فبراير/شباط 2019 اعتُقل أنور ر وإياد ا.

 ب. مدير المدرسة

كان الاعتقال أكثر من مجرد نتيجة لمراقبة الشرطة الألمانية، كان تتويجا لنحو 10 سنوات من التوثيق المضني للجرائم في سوريا. قام عديد من المشاركين في هذا العمل بذلك من خلال التحدث مع آلاف السوريين الذين قدموا شهاداتهم عما حدث لهم ولأصدقائهم وأقاربهم في قرى ومدن في جميع أنحاء البلاد.

وصف ديوسينغ في المحكمة كيف استخدم فريقه من المحققين تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش التي وثقت الوفيات والأمراض الناجمة عن ظروف السجون في سوريا: الاكتظاظ، ظروف النظافة الفظيعة، ونقص الطعام والدواء، والتعذيب.

استندت هذه التقارير على شهود العيان والحسابات والتحليل من قبل الباحثين على الأرض، وعمل السوريين الذين يفهمون المشهد السياسي والجغرافي للمنطقة، والذين قرروا مساعدة الباحثين والصحفيين في التعرف على الناجين لإجراء المقابلات على أمل فضح الانتهاكات سعيا للتغيير. دون هؤلاء السوريين، لن يكون عمل منظمات مثل هيومن رايتس ووتش وعديد من المراسلين الأجانب ممكنا.

محمود موس، لاجئ فر من منزله في إدلب السورية إلى تركيا في 2011، ساعد عديدا من وسائل الإعلام وكذلك باحثي هيومن رايتس ووتش. ساعد موس، مدير مدرسة سابق ومدرس للغة الإنغليزية، في عبور الناس بأمان عبر نقاط العبور المتغيرة باستمرار على الحدود السورية التركية، معتمدا في كثير من الأحيان على مساعدة آخرين، بعضهم من طلابه السابقين. بالنسبة لموس، كان من الضروري أن يعرف العالم ما كان يحدث في سوريا، وعن القرى المدمرة والناس الذين قتلوا.

Mahmoud Mosa — محمود موسى

I didn’t know why I demonstrated. Something inside me pushed me to go out and protest.So that was the most difficult thing in my life, because I knew that was the beginning and it was the death.So when you step the first step, there’s nothing difficult after that.Of course it is important because the world should know what happened and what has happening in Syria.In the Eighties, nobody knew about the crimes of the regime, nobody saw the crimes of regime.Now, every moment is recorded inside Syria and everyone in the world can know what happens here.

لم أعرف لماذا تظاهرتُ. دفعني شيء ما بداخلي للخروج والاحتجاج.كان هذا أصعب شيء في حياتي، لأنني كنت أعرف أنها كانت البداية وأن الموت قادم.فعندما تخطو الخطوة الأولى، لن يوجد شيء صعب بعد ذلك.بالطبع هذا مهم لأن على العالم معرفة ما حدث وما يحدث في سورية.في الثمانينيات، لم يعرف بجرائم النظام ولم يشاهد أحد جرائمه،لكن تُسجّل الآن كل لحظة داخل سورية ويمكن للجميع في العالم معرفة ما يحدث هنا.

ساعد أيضا في نقل الصحفيين إلى المناطق الكردية في سوريا وحتى إلى مدينة حلب بعد احتلالها من قبل داعش.

في 2011، عمل باحثان من هيومن رايتس ووتش مع موس في مخيمات اللاجئين بتركيا. قابلوا سوريين كانوا محتجزين في معتقلات الأسد، بما فيه الفرع 251، وسمعوا وحفظوا أسماء الضباط وغيرهم من العاملين في السجون. عززت هذه المقابلات تقرير لهيومن رايتس ووتش عام 2012 الذي يوثق السجون العسكرية في سوريا، وأساليب التعذيب المستخدمة هناك، وحتى من كان يديرها.

قُرأ التقرير في محكمة كوبلنز، ليوضح الجهد الهائل الذي يمكن أن يحققه رجل واحد، موس، حتى بعد مرور نحو عشر سنوات على نشر التقرير، وقوة السوريين القادرين على سرد قصصهم.

ج.  المصور وصديقه

ثم نظرت المحكمة في صور “قيصر”.

قبل الانتفاضة، عمل قيصر (اسم مستعار) كمصور للشرطة العسكرية في دمشق وانشق لاحقا. بعد فترة وجيزة من بدء المظاهرات عام 2011، كُلّف وفريقه بتصوير جثث المتظاهرين الذين أطلقت عليهم القوات الحكومية الرصاص في درعا، وهي مدينة رئيسية في الانتفاضة ضد الأسد، وفقا للصحفية الفرنسية غارانس لوكين التي كانت من بين الأوائل والقلة الذين أجروا مقابلة مباشرة مع قيصر. قالت لوكين لـ هيومن رايتس ووتش إنه خلال الأشهر التالية، طُلب منهم تصوير جثث أشخاص ماتوا في الحجز.

قالت لوكين إن قيصر أراد الانشقاق، لكن صديقه المقرب سامي، المعارض لحكومة الأسد، أقنعه بالبقاء في مكانه من أجل نسخ الصور وتوثيق الانتهاكات. بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013، يُعتقد أن قيصر نسخ حوالي 53 ألف صورة للجثث. حفظها سامي في قرص صلب في المنزل، ثم هُرّبت الصور من سوريا.

Garance Le Caisne — غارنس لو كاين

I think Caesar and Sami are in the image of Syrians.They’re heroes and at the same time they are no more heroes than the millions of other Syrians.It is extraordinary, what they did. It’s obvious, what Caesar did copying all those photos day by day, it shows great courage.Sami also kept them at home all that time.During the two years when Caesar copied the photos, Sami kept them at home on a hard disk.It also shows great strength.How can I explain?These photos are unbelievable in the sense that you can’t believe them.Because they’re terrible.Not just terrible because you see dead bodies—just the quantity of dead bodies,the state of the dead bodies, the numbers on the dead bodies, all that means you can’t believe them.And the photos are in color.It may seem surprising, but seeing photos like that of numbered bodies immediately makes you think of the Shoah, of the Holocaust.

أعتقد أن قيصر وسامي هما صورة عن السوريين.إنهما بطلان، وفي نفس بطولة ملايين السوريين الآخرين.إن ما فعلوه لأمر استثنائي. ويتضح من خلال ما قام به قيصر، عبر نسخه كل تلك الصور يوما بعد يوم، والشجاعة التي تحلى بها،في حين احتفظ بها سامي في المنزل طوال ذلك الوقت.وعلى مدار عامين وعندما كان قيصر يقوم بنسخ الصور، كان سامي يحتفظ بها في المنزل على قرصٍ صلب،مظهرا شجاعة هائلة.كيف يمكنني أن أشرح ذلك؟هذه الصور لا تُصدق، بمعنى أنك لا تستطيع تصديقهالأنها مرعبة.لا يكمن رعبها في أنك ترى الجثث فقط، بل كمية تلك الجثث،وحالة تلك الجثث، والأرقام على تلك الجثث؛ كل ذلك يجعلك غير قادر على تصديقها.وكل الصور ملونة.قد يبدو الأمر مفاجئا، لكن رؤية صور مثل صور الجثث المرقمة تجعلك تفكّر في “الهولوكوست”.

قُبلت بعض صور قيصر، التي نُشرت عام 2014، كدليل في محاكمات أنور ر. وإياد ال. (في 2015، تعرفت هيومن رايتس ووتش على 27 من الضحايا في الصور، وتحققت من صحتها). فحص د. ماركوس روتشيلد، خبير الطب الشرعي من جامعة كولونيا، الصور وعرضها على قاعة المحكمة وشرح النتائج التي توصل إليها.

شهد روتشيلد أن فريقه حلل ما يقرب من 27 ألف صورة لـ 6,821 شخص، وقدّر أن 110 من هؤلاء الأشخاص احتجزوا في الفرع 251، استنادا جزئيا إلى رقم على جباههم.

من بين 110 قتلى من الفرع 251، قال إن كثيرين تعرضوا للتجويع و7.3٪ ربما جُوّعوا حتى الموت على الأرجح. أظهرت خمسة وخمسون جثة إصابات رضيّة بشكل رئيسي، ناتجة عن الضرب، أو الدفع، أو الركل.

أدلى روتشيلد بشهادته في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وكان لاستخدامه للصور في شرح كيف يُفترض أن المعتقلين ماتوا وقعا قويا على الناس في قاعة المحكمة.

حتى أن قوة الصور أقنعت أحد المتهمين بالتحدث علانية. في 9 ديسمبر/كانون الأول، قرأ محامي إياد ا بيانا محضّرا من قبله، وهي المرة الوحيدة التي خاطب فيها إياد ا قاعة المحكمة. قرأ محاميه: “مشاعري تجاه الصور هي: حطّمت قلبي. أثناء عودتي إلى السجن، بكيت”.

عندما أصدرت رئيسة المحكمة الحكم بحق إياد ال في فبراير/شباط، قالت عن صور قيصر: “ملاحظة شخصية في هذا: لن أنسى تلك الصور”.

قالت لوكين: “يتحدث الناس عن ملفات قيصر ويتحدث الناس عن قيصر. لكني أود أن أقول إن هناك مئات من قيصر في سوريا، حقا”- أناس يقفون في وجه الحكومة السورية ويفعلون كل ما في وسعهم لتوثيق جرائمها وشجبها.

ماذا تعني المحاكمة للسوريين

مثل ملايين السوريين الآخرين، قيصر اليوم لاجئ يعيش خارج وطنه.

لكن في السنوات الأخيرة، تحول الحديث حول اللاجئين السوريين بشكل خطير. يتزايد الضغط في دول مثل الدنمارك ولبنان وتركيا، التي فتحت أبوابها سابقا للاجئين (وإن كان ذلك بتردد)، لإجبارهم على العودة إلى ديارهم في سوريا رغم الخطر.

بالنسبة لهذه الدول، الصراع السوري “انتهى”. لكن الحقيقة هي أن الأسباب الكامنة وراء الصراع – القمع والانتهاكات التعسفية والخوف الدائم على الحياة – لا تزال حقيقية. وثّقت هيومن رايتس ووتش وآخرون كيف واجه اللاجئون من لبنان والأردن الذين عادوا إلى سوريا الإخفاء القسري والتعذيب وحتى العنف الجنسي على أيدي الحكومة السورية والميليشيات التابعة لها.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ناقشت وزارة الداخلية الألمانية ما إذا كان من الآمن إعادة السوريين المدانين بجرائم في ألمانيا إلى سوريا، رغم المخاطر التي قد يتعرضون لها عند عودتهم. أثارت هذه المناقشات مخاوف بين السوريين من أن السلطات الألمانية ربما تسعى إلى تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية.

بالنسبة للاجئين، من الصعب بالفعل تأسيس الحياة، ناهيك عن القيام بذلك مع معرفة التناقض بين الكيفية التي يصف بها السياسيون الألمان الذين “يحاولون الفوز” في الانتخابات سوريا مقابل الواقع هناك، حسبما قالت بينت شيلر، رئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في “مؤسسة هاينريش بول”.

Bente Scheller — بنت شيلر

People should not be sent to an environment that’s not safe, no matter what they did.And no matter who they are, they deserve protection.And of course, if they have a criminal record, why don’t we deal with them?We are bound by the rule of law.So we should be able to handle this to threaten people by saying, well,they should go back to an environment in which consequences for their return might be lethal—we can’t do that.So it’s clear we can’t do that.And I think documentation efforts are at the center becausewe see after the regime claims already, it has won the war.Now it is trying to win the war on narratives. It’s trying to steal the narrative from people who suffered a lot in Syria.So we’re trying to work on this, keeping up the memory, sharing the stories and also highlighting.It’s not over, it’s not a closed file, it’s going on, and it’s never really too late to act.

لا ينبغي إرسال الأشخاص إلى بيئة غير آمنة، بغض النظر عما فعلوه،كونهم يستحقون الحماية بغض النظر عن هويتهم.طبعا إذا كان لديهم سجل جنائي، فلمَ لا نتطرق إليه؟القانون فوق الجميع،بالتالي ينبغي أن نكون قادرين على التعامل مع هذا بدل تهديد الناس بالقول،“حسنا، عليهم العودة إلى بيئة قد تكون عواقب عودتهم فيها مميتة”.لا يمكننا فعل ذلك، ومن الواضح أننا لا نستطيع فعل ذلك، وعلينا ألا نفعل ذلك.أعتقد أن جهود التوثيق مهمةلأننا نرى كيف يدّعى النظام بالفعل أنه انتصر في الحرب.ويحاول الآن كسب الحرب المتصلة بالروايات عبر سرقة تلك الروايات من أناس عانوا كثيرا في سورية.نحاول بدورنا معالجة هذا، والحفاظ على الذاكرة، ومشاركة القصص وإبرازها أيضا.لم ينته الأمر، ولم تجف الأقلام وترفع الصحف، بل القضية لا تزال مستمرة ولم يفت الأوان أبدا للعمل.

كانت محاكمة إياد ا جدلية أيضا بالنسبة لبعض الأشخاص. تظهر تقارير إعلامية عقب صدور حكم إياد ا أن إدانته والحكم عليه أدى إلى تقسيم السوريين، رغم أن السلطات الألمانية ملزمة بمحاكمة الأفراد المشتبه في ارتكابهم جرائم خطيرة. أراد بعض السوريين سجن إياد ا لفترة أطول. تساءل آخرون لماذا كلفت السلطات الألمانية نفسها عناء رفع قضية ضد إياد ا، إذ أنه لم يكن ضابطا رفيع المستوى، وكم عدد الأشخاص الذين فعلوا هذا الشيء أو أسوأ منه؟

كما هو الحال مع أنور ر، طرح بعض السوريين سؤال بشأن إياد ا: هل يمكنك تغيير انتمائك؟ وإذا كنت مذنبا بارتكاب جرائم، فهل تغيير الانتماء يعفيك من هذا الذنب؟ قلق بعض السوريين من أنه أثناء محاكمة المنشقين، قد يخشى المسؤولون السوريون الآخرون الملاحقة القضائية، مما يعني أنهم لن يشاركوا معلوماتهم السرية الخاصة عن الانتهاكات المرتكبة. إلى جانب شهادات الشهود، هذه المعلومات هي التي تساعد في بناء المحاكمات.

يواجه اللاجئون السوريون تحديا آخرا بشأن محاكمة كوبلنز: لا توجد ترجمة فورية باللغة العربية. صحيح أن أنور ر والشهود السوريين لديهم مترجمين، لكن هذا لا يساعد الحضور من السوريين في قاعة المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، لا تُترجم البيانات الصحفية للمحكمة إلى اللغة العربية.

قالت أمينة صوان، الناشطة في “حملة سوريا”: “كان الأمر محبطا حقا”، فرغم تحدثها اللغة الألمانية بشكل جيد لم تستطع فهم اللغة القانونية المستخدمة في قاعة المحكمة. مع ذلك، عندما قُرأ حكم إياد ا. باللغتين الألمانية والعربية، وهو “أحدث فرقا كبيرا”، حسبما قالت لـ هيومن رايتس ووتش.

Ameenah Sawwan — أمينة صوان

There’s a huge barrier when it comes to the language.And the clarity on why the interpretation could not been provided into Arabic.I mean, this is a trial on Syrian on Syria and on Syria state torture committed in Syria where Arabic is being spoken.And but unfortunately the, the sessions were not interpreted.And that was really frustrating for me.Only the final session of the verdict was interpreted and that made a huge difference for me.I don’t feel that the procedure is being inclusive when it comes to this.And I wish that even written reports of the sessions archive are being published by the court itself,instead of expecting this to be done by others or other organizations who might be even writing shorter reports of this.But I think that’s would be the court’s responsibility.

تمثل اللغة هنا عائقا كبيرا.ولا أعرف سبب عدم تقديم ترجمة فورية إلى العربية.أعني، إنها محاكمة لسوريين حول سورية وحول التعذيب الذي تمارسه الدولة السورية في سورية والتي فيها العربية هي اللغة المحكية.ولكن لم تُوفّر للأسف ترجمة فورية للجلسات،وهو ما أحبطني حقا.قُدمت لي ترجمة للجلسة الأخيرة فقط من الحكم وهو ما أحدث معي فارقا كبيرا.لا أشعر بأن الإجراءات شاملة عندما يتعلق الأمر بهذا.وأتمنى لو تنشر المحكمة نفسها تقارير مكتوبة لأرشيف الجلسات،بدلا من توقع قيام أشخاص أو منظمات أخرى بكتابة ملخصات عنهالكن أعتقد أن هذا سيكون من مسؤولية المحكمة.

حتى أغسطس/آب 2020، كانت الإجراءات تُترجم إلى اللغة العربية للأطراف الرسمية في القضية فقط. رغم أن المحكمة الدستورية الألمانية أصدرت ردا على التماس أمرا مؤقتا لتوسيع نطاق الترجمة لتشمل الصحفيين الناطقين بالعربية المعتمدين مسبقا، إلا أن المحاكمة لا تزال غير متاحة للحضور من غير المتحدثين بالألمانية. كما ستكون الأحكام المكتوبة متاحة باللغة الألمانية فقط، ولن يكون هناك أي توثيق كامل مكتوب بأي لغة بعد انتهاء المحاكمة التاريخية.

Alex Dünkelsbühler —  أليكس دوينكلسبولير

I thought it was particularly emotional for everybody else on the gallery,who was for the first time really able to follow this story in Arabic.So that really changed the tone of the whole story and the feeling of the room.Because I was sitting between Syrians who were taking notes, and who were welling up.It was really intensely emotional, and very hard to listen to.And I know that we will have more and more victims of torturewho will come and take the stand and participate in the hearings.

اعتقدت أنه جميع من كانوا في المعرض شعروا بمشاعر جياشة،وكانوا لأول مرة قادرين حقا على متابعة هذه القصة بالعربية،الأمر الذي غير بالفعل نبرة الحكاية بأكملها وشعور الغرفة.ولأنني كنت جالسا بين السوريين الذين كانوا يدونون الملاحظات، والذين كانوا على وشك البكاء فرحا.لقد كان حقا عاطفيا للغاية، وكان من الصعب جدا الاستماع إليه.أعلم أنه سيكون لدينا المزيد من ضحايا التعذيبممن سيأتون ويتخذون موقفا ويشاركون في الجلسات.

مع ذلك، حضر عدد من السوريين المحاكمة، ومن المستحيل إحصاء عدد متابعيها. لكن ماذا تعني لهم المحاكمة؟

أ. “المختفون”

عندما سمعت وفاء مصطفى عن المحاكمة، أدركت أنها قد تكون فرصة للفت الانتباه إلى حالات الإخفاء القسري في سوريا.

وفاء مصطفى (30 عاما) تفتقد والدها. في يوم مشمس من يوليو/تموز أثناء محاكمة أنور ر، جلست متربعة على الرصيف خارج محكمة كوبلنز، وهي تحمل صورة والدها علي، الذي اختفى عام 2013. كان لوفاء حضورا جذب الناس إلى عشرات الصور المؤطرة لسوريين أقرباء أشخاص تعرفهم أو تعمل معهم. فُقد هؤلاء الأشخاص واختفوا قسريا على يد القوات السورية، أو اختطفهم داعش أو جماعات أخرى.

Wafa Mustafa — وفاء مصطفى

Justice for Syria is Syrians- and victims-centered.So we should have a role in this.I’m not going to just sit home and watch the news about Syrians being prosecuted in Germany, by German authorities, which is great.But this is not the ideal idea we have about justice.Obviously I want justice to be achieved in Syria, by Syrians.I want those criminals to be prosecuted by us in Syria,but until then, what’s going on now is good, but we all need to do more.All of us who actually feel that they can do more or they can still do something.Maybe I will not get to see a free democratic Syria,but at least I want to do my best to make sure that someone will in the future.Maybe not me, maybe not the next generation, but this is what my dad did.And this is what I want to do.

تتمحور العدالة من أجل سورية حول السوريين والضحايا.لذلك يجب أن يكون لنا دور في هذا.لن أجلس في المنزل فحسب وأراقب أخبار محاكمة السلطات الألمانية لسوريين في ألمانيا، والذي هوأمر رائع، لكنها ليست الفكرة المثالية التي لدينا عن العدالة.من الواضح أنني أريد أن تتحقق العدالة في سورية على يد السوريين.أريد أن نحاكم نحن في سورية هؤلاء المجرمين،لكن حتى ذلك الحين، ما يحدث الآن جيد، لكننا بحاجة جميعا إلى بذل المزيد.أعني، نحن الذين نشعر أنه بإمكانهم فعل المزيد أو لا يزال بإمكانهم فعل شيء ما.ربما لن أتمكن من رؤية سورية ديمقراطية حرة،لكن على الأقل أريد بذل قصارى جهدي للتأكد من أن شخصا ما سيفعل ذلك في المستقبل.ربما لست أنا، وربما ليس الجيل القادم، لكن هذا ما فعله والدي.وهذا ما أريد أن أفعله.

في ذلك اليوم من يوليو/تموز، غادر السوريون الذين شاهدوا الصور وهم يذرفون الدموع، بحسب ألكسندر دوينكيلسبويلر، المحامي والمراقب في قاعة المحكمة من كليفورد تشانس.

تعرض عدد لا يحصى من الأشخاص للإخفاء القسري في سوريا، معظمهم في مراكز الاحتجاز. ظهر بعضهم مجدداً وعادوا إلى عائلاتهم، بينما لم يحظ بذلك آخرين.

اصطحب علي ابنته وفاء مصطفى إلى احتجاجها الأول عندما كانت في التاسعة أو العاشرة من عمرها، كما قالت لـ هيومن رايتس ووتش. عندما بدأت الاحتجاجات في دمشق عام 2011، قالت إنها شاركت “بدون تردد”.

بعد وقت قصير من اعتقال والدها في مسقط رأسها، قالت إن ضباطا سوريين احتجزوها وشقيقتها، لكن في دمشق. أُطلِق سراحهما بسرعة، وبعد ذلك بقليل فروا من البلاد. انفصلت مصطفى عن عائلتها وجاءت إلى ألمانيا عام 2016.

والد وفاء مفقود منذ ما يزيد قليلا عن 8 سنوات. كل صباح، تشارك وفاء في تويتر عدد الأيام التي انقضت منذ اختفائه. قالت: “لست متأكدة مما إذا كان ذلك سليما، لكن كل ما أفعله في حياتي يتمحور حول والدي”.

تستخدم الاهتمام الإعلامي الذي أحدثته المحاكمة لتذكير العالم بأن الناس ما زالوا يختفون قسريا في سوريا، وأنه بعد عقد من الزمن، لا يمكن للمجتمع الدولي الاستمرار في سماع الفظائع في سوريا وعدم اتخاذ أي إجراء. لدى المجتمع الدولي دورا يضطلع به في وقف الانتهاكات – بما فيه إطلاق سراح المحتجزين.

قالت: “لا يزال هناك أشخاص يمكننا إنقاذهم” من الموت بسبب التعذيب أو من الإصابة بكورونا في السجن. بمن فيهم، كما تأمل، والدها.

سما محمود أيضا تتألم على عمها حجان المختفي. والدها حسن محمود أحد الضحايا الممثلين في محاكمة أنور ر، واتهم أنور ر في المحكمة بتعذيب وقتل شقيقه حجان، الذي اختفى قسريا عام 2012. قال حسن محمود في شهادته إنه سمع أن حجان أُخِذ إلى الفرع 251 ومات هناك.

Samaa Mahmoud — سما محمود

This is justice,this is what we want,this is what we strive for, honestly.I truly strive for it.I see it as a very big step that it wasn’t a dream,because it takes a long timeto try these sorts of people and to do iton an international level.This is truly something worth being optimistic about—to say that I was able to see this,and my father was able to see it,and all the families of people who have been forcibly disappeared,and former detainees have had the chance to stand in front of their tormentorsand tell them you are now the accused and we are holding you to account.My dad’s testimony in the court means a lot to me honestlyand I felt that it was a very important thing for himto feel that he did something for my uncle Hiyanand for all the other detainees,not just my uncle.Also because he is a former detaineeand he was asked about his previous arrests.I am very happy and optimistic,and I feel that this is something that is going to change our lives,even if only a little,but for the better.

هذه هي العدالة،وهذا ما نريده،وهذا ما نسعى إليه بصدق،أو ما أسعى حقا من أجله.أرى أنها خطوة كبيرة جدا، وخطوة لم أكن أحلم أن أراها تتحققلأن هذه الأشياء تستغرق وقتا طويلالمحاكمة أشخاص مثل هؤلاء أو للقيام بأمر مثل هذاعلى المستوى العالمي.وما يدعو إلى التفاؤلهو أنني تمكنت من رؤية هذا،وتمكن والدي أن يراه،وبقية الأسر التي لديها شخص اختفى قسرا.وأتيح للمعتقلين السابقين فرصة الوقوف أمام جلادهموالقول له “أنت الآن متهم ونحن نحاكمك”.شهادة والدي في المحكمة تعني لي الكثير صراحةوشعرت أنها مهمة جدالكي يشعر أنه فعل شيئا لعمي حيانومن أجل جميع المحتجزين الآخرين،وليس من أجل عمي فقط.ومن أجله هو كمحتجز سابق،حيث سُئل عن اعتقالاته السابقة.أنا كنت سعيدة جدا ومتفائلة،وأشعر بأن هذا شيء سيغير حياتنا،حتى ولو قليلا،نحو الأفضل.

هربت سما محمود من سوريا عندما كانت طفلة ووصلت إلى ألمانيا عام 2015 حيث تدرس الآن العمل الاجتماعي في إحدى الجامعات الألمانية. قالت لـ هيومن رايتس ووتش إنها فخورة بوالدها لكفاحه من أجل حجان وتحدثه عن اعتقاله مرتين (لم يكن محتجزا في الفرع 251). قرأت جميع المقالات المتعلقة بالمحاكمة، لكنها لم تذهب شخصيا. قالت: ” لا أستطيع تحمل ذلك نفسيا “.

تقول إن قدرة المحتجزين السابقين على مواجهة أنور ر في المحكمة “أمر يستحق حقا أن نكون متفائلين بشأنه”. تعتقد أن المحاكمة “ستغير حياتنا، حتى ولو قليلا، لكن للأفضل”.

“يجب بناء الطريق إلى دمشق”

بعد جلسات استماع دامت أكثر من سنة ونصف، تضمنت إفادات أكثر من 60 شاهدا، من المقرر اختتام محاكمة أنور ر. في يناير/كانون الثاني.

لم تمنع الشهادات المؤلمة- بما فيه الشهادات المباشرة عن التعذيب أو المقابر الجماعية – ولا الموقع البعيد لكوبلنز بعض السوريين من القدوم إلى المحكمة.

حضر خالد رواس 11 جلسة من المحاكمة بحلول يوليو/يوليو 2020، وهو مهندس ميكانيكي، يقول إنه اعتُقل مرتين في سوريا بسبب الاحتجاجات (لم يُنقل إلى الفرع 251)، وهرب من البلاد عام 2013. يعيش في ألمانيا منذ خمس سنوات ويعمل الآن في صناعة بناء السفن.

قال رواس لباحثة هيومن رايتس ووتش: “ذات مرة، كنت محتجزا، واستجوبت بطريقة لا تشبه الطريقة التي يُستَجوب فيها أنور ر. قال: “لأكون صادقا، أشعر ببعض الغيرة حين أشاهد كيف يُعامل أنور ر في محكمة كوبلنز، وحقوقه محمية.

Khaled Rawwas — خالد رواس

The presence of someone from this system,in the ranks of someone like Anwar R.in a courtroom being tried…This point alone,the moment he entered the courtroom, was a very strong onebecause once upon a time I was being heldand I was being interrogated in a waythat does not resemble the way Anwar R. was being interrogated.Feelings were mixed during this realization;to be honest I had a kind of envyThat the way he was being treated was very welland was given his rights,while I was completely deprived of mine when I was being investigated.[The former] should of course always be the case,but at the same time one feels this difference in treatment,in the difference between everything that this person committed in Syriaas the intelligence senior officerand the treatment he is receiving here in Germany.

وجود شخص من هذه المنظومة،شخص بثقل أنور رسلانفي قاعة المحكمة يُحاكمهذه النقطة لوحدها،لحظة دخوله قاعة المحكمة،
كانت قوية جدا؛
لأنني كنت في فترة ما محتجزا في الفرع [الأمن]،وكان يجري استجوابي بطريقةلا تشبه طريقة التحقيق التي كانت تتم مع أنور رسلان.كانت المشاعر مختلطة أثناء هذا الوقت؛كان لدي نوع من الحسدمن الطريقة التي كان يُعامل بها، كان يُعامل بشكل جيد جدا
وحقوقه ممنوحة له،
بينما كنت محروما تماما من الحقوق عندما كان يتم التحقيق معي.
ينبغي أن يكون هذا الحال دائما،
ولكن في الوقت نفسه يشعر المرء هذا الاختلاف في المعاملة،في الفرق بين كل ما ارتكبه هذا الشخص في سوريا،باعتباره رئيس فرع التحقيق،والمعاملة التي يتلقاها هنا في ألمانيا.

وصف لنا رواس الوقت الذي قضاه في محكمة في سوريا: “كانت دقيقتين. سألني القاضي سؤالا واحدا”.

بالنسبة له، كانت النقطة المهمة في المحاكمة هي البيان الافتتاحي للمدعي العام الألماني، والذي وصف احتجاجات عام 2011 والصراع الذي أعقب ذلك في سوريا بأنها “ثورة”.

قال رواس: “بالنسبة لي، هذا أمر ضخم جدا”. بالنسبة له، ما حدث في سوريا لم يكن حربا أهلية، بل كان “ثورة على نظام فاسد”.

أخبرنا رواس أن حدوث المحاكمة في ألمانيا وليس سوريا سبّب “نوعا من حسرة القلب”.

أضاف: “لكن، على الأقل بدأ شيئا ما” لضحايا العنف أو القمع مثله ولآخرين أيضا.

مختار (اسم مستعار) سوري يدير مطعما صغيرا في ألمانيا. فيه طاولات وكراسي خشبية وصور لسوريا على الجدران. الطماطم والخيار خلف المنضدة، والفلافل المقلي يصدر صوتا عال. تشمل قائمة الطعام سندويشات مقالي، وكذلك بيتزا وبطاطا مقلية.

قال مختار لـ هيومن رايتس ووتش إنه لم يشارك في محاكمة أنور ر، ولم يكن محتجزا في سوريا. قال إنه غادر بعد أن شهد مذبحة. استغرق الأمر عامين، لكن الحكومة الألمانية اعترفت في النهاية بطلب اللجوء الذي قدمه.

James Rodehaver — جيمس رودهفر

That is what is going to make sure that these people eventually find justiceand that their stories are not just dismissed as, as fake or phony.And that there is a record that, that can be used by prosecutors andin future, whenever the status quo does change.And it reminds me that there is virtue in working on human rightsand on these standards it is for those victims to, to try to make their road to justice easier,even if too far in the future.But whenever they get that exit ramp, whenever they find their, their off-rampor their waystation in Koblenz or, or any other process,then if we have helped assist that in any way, then I feel that’ll keep me going.

هذا ما سيضمن نيل هؤلاء الأشخاص في النهاية العدالةوعدم رفض قصصهم باعتبارها مزيفة أو مفبركة،وأن ثمة سجل يمكن للمدعين العامين استخدامه الآنومستقبلا، أينما تغيرت الأوضاع.يذكرني هذا بالعمل الحقوقيوأهميته لهؤلاء الضحايا، ومحاولة تسهيل طريقهم إلى العدالة،حتى لو كان الطريق طويل وفي المستقبل.ولكن كلما حصلوا على فرصة، وكلما وجدو وسلةأو طريقة كما يحدث في كوبلنز أو في أي مكان آخر،سأشعر بأن ذلك سيجعلني أستمر فيما أقوم به طالما أنني أقوم بالمساعدة بأي شكل من الأشكال في ذلك.

في البداية، كانت فكرة افتتاح مطعم “مزحة” مع أصدقائه، على حد قوله. كان في حوزته ألف يورو فقط. لكنه اقترض المال من الأصدقاء، وسرعان ما افتتح المكان. قال: “بعد عام ونصف، دفعت جميع المبالغ المطلوبة بالكامل”. اليوم، يرسل 20% من أرباحه إلى المحتاجين في إدلب ودمشق.

يجادل جيمس رودهفر من الأمم المتحدة بأنه ” يجب بناء الطريق إلى دمشق”، وهذا الطريق قد يمر عبر كوبلنز. قال رودهفر إن محاكمة أنور ر. هي “حجر الأساس الأول” لإعادة بناء العدالة في سوريا.

Mokhtar — مختار

Since the beginning, in 2011 that is the beginning of the revolutionthere were many things that had a big impact on my mind and on my heart.Among them, that I lost many loved ones.When I first wanted to leave Syria,it was after the threatsand after I saw that the situation was headed toward darkness,towards a big blackness.And the only way to survive was to leave.I am happy and content with myself here,but I am sad about my countryand I wish its conditions would improve.I wish, like you, for people to go back, that their minds would be at ease.

من بداية 2011، أي بداية الثورة،كان ثمة العديد من الأشياء التي كان لها وقع في خاطري،منها فقداني لأحبة كُثر.وعندما قررت مغادرة سورية،كان ذلك من بعد التهديدومن بعد ما رأيت أن الأمور في اتجاه الظلمةوالسواد الأعظم،والناجي هو من يتمكن من المغادرة.لكنني سعيد، وأعيش، ومتصالح مع نفسي،ولكن في نفس الوقت أشعر بالحزن لأجل بلديوأتمنى أن يتحسن وضعه،وأن ترجع الناس وترتاح.

عند التفكير في مسقط رأسه دمشق، يقول مختار، صاحب المطعم: “أنا فخور بثورتنا، وفخور بشعبي الذي وقف بأعجوبة في وجه ديكتاتور”.

بالإضافة إلى ذلك، توجه المحاكمة رسالة إلى مسؤولين آخرين وموظفين في الحكومة السورية. قال مختار: “حتى لو ذهبوا إلى أقاصي العالم، سيصل إليهم شخص ما. أنا سعيد جدا بذلك”.

Human Rights Watch logo

تود هيومن رايتس ووتش أن تعرب عن تقديرها لجميع الذين وافقوا على إجراء مقابلة معهم من أجل هذه المقالة، وخاصة جميع السوريين الذين شاركوا معنا تجاربهم. تعرب هيومن رايتس ووتش أيضا عن امتنانها لشركة المحاماة الدولية كليفورد تشانس – لا سيما مكتب الشركة في فرانكفورت الذي راقب المحاكمة في كوبلنز لمدة عامين تقريبا. ننوّه كذلك بالمساعدة القيّمة التي قدمها كل من كارولين كيتلمان، وألكسندر سوتور، وألكسندر دونكيلسبولر. يحظى عمل هيومن رايتس ووتش بشأن الولاية القضائية العالمية في ألمانيا بدعم مالي من “دويتشه بوستكود لوتيري”، وكليفورد تشانس، و” مؤسسة هامبورغ لتعزيز العلم والثقافة”.

 —————————-

ليست نورنبيرغ أيها السادة/ أحمد عمر

حاولت أن أقنع صديقًا ناجيًا من الموت تحت التعذيب، بأن يفرح بالخبر بالسعيد، لقد ظهر مستطيل أحمر على الجزيرة، المستطيل افترس ربع الشاشة، بخبر عاجل، هو الحكم بالمؤبد على ضابط سوري سابق منشق عن النظام، وتبادل سوريون التهاني والمباركات بسجن أنور رسلان، للخبر دوي سقوط نظام، ووصفت صحفٌ قرار سجن الضباط الكبير السابق “بالقرار التاريخي” في ألمانيا، والتهمة؛ جرائم ضد الإنسانية. العبارات كبيرة جدًا، وكل الجرائم ضد الإنسانية، والحكم مؤبد. لم يسعد صديقي بالخبر، ووصفه بأنه تنفيس، وإنه ضخم ليظهر كأنها محاكمات نورنبيرغ، وهي سلسلة من المحاكم العسكرية عقدتها قوات الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية وفقًا للقانون الدولي وقوانين الحرب. حققت المحاكمات شهرتها الأكبر لمحاكمة مسؤولين كبار في القيادة السياسية، والعسكرية، والقضائية، والاقتصادية في ألمانيا النازية، ضالعين في التخطيط، أو التنفيذ، أو المشاركة بوجه من الوجوه في الهولوكوست وغيرها من جرائم الحرب. عقدت المحاكمات في نورنبيرغ بألمانيا، ومثّلت أحكامها نقطة تحول في سير القانون الدولي من الكلاسيكي إلى المعاصر.

وقال الصديق إن وجه المتهم لا يظهر “حفظا” مع أنه ساهم في قتل سبعة وعشرين بريئا، وأن حقوقه محفوظة أكثر من حقوق الوزراء في بلادنا، وإن العدالة الألمانية خجولة.

سيسجن المحكوم في سجن بسبعة نجوم، ربما خمسة، سيحرسه الجنود، سيخاطَب بأدب كأنه ضيف على فندق، لن يعاني من صخب ولا نصب، وقد ينتعل نعلا من قصب، لن يطالبه أحد بأجرة البيت، السجن به تدفئة وحمامات، وإن شاء درس، ستوفر له إدارة السجن العلم المراد، قد يصير طبيب أسنان، طبيبا نفسيا، لن يقف على دور في عيادة أو دائرة حكومية، لن يعاني سوى من دور الطعام في السجن، سيحظى برعاية صحية، سيكون في حرز من الاختلاط بمرضى الكورونا، سيلقح اللقاحات الثلاثة، سيعتني بصحته ممرضون وأطباء، إذا امتنع قد يحرم من كوب الشاي المسائي، له حق الامتناع عن اللقاح، سيأكل أكلًا حلالًا إن شاء، سيصلي إن شاء، قد يحضرون له إمامًا يعلمه تعاليم دينه، الرجل يزعم أنه كان معارضًا صامتًا، شهادات رجال المخابرات  السوريين المنشقين في الفضائيات تقول إنهم ملائكة، في السجن تلفزيون بقنوات كثيرة، سيحظى بخلوة مع  زوجته إن كان متزوجًا أو مع  صديقة إن كان له صديقة، لن يحرم من الاجتماع بأولاده، سيحرم من النت فقط، النت نقمة تفسد العقل، يمكن أن يقرأ ما يريد، بعض السجون  الأوروبية تخفف من العقوبة بالكتب والقراءات..

 قال الصديق: هذا الخبر تنفيس.

تابع: الغرفة التي سيسجن فيها أفضل بكثير من الهايم الذي أقيم به، فأنا أشارك أربعة أشخاص من جنسيات مختلفة غرفة كبيرة، معاناتي كبيرة في النُزل، نختلف على كل شيء، ستكون زنزانته له وحده، وقت النوم ثابت، يمكنه سماع ما يريد، عبرت الشط على مودك، على جسر اللوزية، أنت عمري، لن نذكر التعذيب، سيمارس هوايته التي يحب، قد يقيم صداقة مع الكلاب البوليسية في السجن. النظام سيسعد بالخبر، لا تنس أن الضابط منشق، لعله ثاب إلى رشده، الانشقاق ليس سهلًا، لو عاقبت فرنسا رجلًا ارتكب جرائم حرب مثل رفعت أسد لسعدنا بالخبر، فهو من أصحاب الملايين، وعاش على الحرير، والسجن لأمثاله من الأمراء عقوبة، لكن فرنسا أخلت سبيله واعتقلت متحدثًا إعلاميًا لإحدى الجماعات الإسلامية كان يتجول في العواصم الأوروبية مندوبا عن إحدى كتائب الثورة، عاد رفعت الأسد مثل السنونو إلى عشه الأول.

تحوّلت محاكمة رسلان إلى مسلسل درامي، يشيد بعدالة ألمانيا، سمعت المحكمة شهادات بلغت نحو مئة شهادة، واجه المتهم رئيس قسم التحقيق السابق في الفرع “251” ضحاياه، الذين قدموا روايات مفصلة عن الإساءات الجسدية والنفسية، ووصفوا الزنازين شديدة الاكتظاظ، والحرمان من الطعام والماء والعلاج الطبي. وفي مرافعته الختامية عدّل رسلان أقواله بعد نكران أقواله، اعترف بوقوع تعذيب وموت معتقلين، إلا أنه أنكر مسؤوليته عن هذا التعذيب. هو عبد مأمور. عاشت العدالة الارتوازية. خطب في الناس برسالة قال فيها:

“أتوجه إلى الشعب السوري كله، أنا آسف كل الأسف لأنني لم أستطع مساعدتكم أكثر من ذلك! ولم أستطع أن أمنع آلة القتل. منذ البداية كنت معارضًا إذلال هذا الشعب العظيم، لأنني أنتمي إلى هذا الشعب، أشاركهم مشاعرهم ومعاناتهم”.

لقد فطر قلبي الرجل.

ماذا تقترح أيها الصديق؟ أوروبا ليس فيها حكم الإعدام.

قال الصديق إنه لا يريد له الإعدام، كان يريد أن يعاد إلى النظام كما تفعل دول أوروبية تعيد النازحين.

العودة معناها الحبس على أقل تقدير، الحبس يعني الموت البطيء. قد يرحمه النظام ويعفو عنه فإن أطلقه عاش براتب سوري قدره ثلاثين دولارا، ووقف في طابور الخبز وعاش بـ”الغرين كارت” السورية التي تدعى البطاقة الذكية.

أوروبا تفصل بين السلطات الثلاث غالبا، لن يكون هناك تأثير لمحكمة في إحدى المقاطعات على العلاقات السياسية بين الدول، قد تعود العلاقات بين أوروبا والأسد فأوروبا دول براغماتية، محاكم أميركا تنظر في جرائم حفتر والعلاقات بين أميركا وحفتر على أحسنها حالا، كندا أرسلت ماهر عرار إلى سوريا لاستخراج اعترافاته، الضابط السوري أنور رسلان عوقب في ألمانيا، وهذه قسمة غير منصفة. وهي حالة فردية أيضا. السجن درهم وقاية للضابط من حوادث السير وقناطير الثأر.

الخلاصة إن الشعب السوري مظلوم جدا حتى إنه ليسعد بتصريح من ممثلة سورية من الدرجة الثانية تشتكي من مياه الحمام الباردة، ويفرح بموت ضابط على سريره وهو يشاهد مسلسل ضيعة ضايعة.

العدل يروي الظمأ، لا برامج الترفيه.

تلفزيون سوريا

———————————–

حُكم أنور رسلان وبقي الفرع “251” كوبلنز.. الـ”بروفة”؟

عنب بلدي – صالح ملص

احتشدت في المحكمة الإقليمية العليا كوبلنز، جنوب غربي ألمانيا، عشرات قصص ضحايا التعذيب في الفرع “251”، التابع لإدارة المخابرات العامة (أمن الدولة) بدمشق، كانت مهمتها الوحيدة خلال عام ونصف من المحاكمة، سرد تجارب تستجدي الاعتراف، لأول مرة، بمسؤولية جنائية قضائية، تتحمّلها أجهزة المخابرات السورية، عن حقيقة بديهية لطالما عرفها السوريون، وهي التعذيب الجسدي والنفسي بحق المدنيين المعارضين للسلطة، والقتل تحت التعذيب.

محاكمة “كوبلنز”، التي انتهت في 13 من كانون الثاني الحالي، بإصدار الحكم الثاني ضد الضابط السابق في المخابرات العامة السورية أنور رسلان (58 عامًا)، بالسجن المؤبد (15 عامًا على الأقل)، أظهرت إفادة شهود قالوا إنهم احتُجزوا داخل الفرع “251”، وعاشوا تجارب متشابهة بعد أن أوقفتهم قوات الأمن.

وبموجب القانون الألماني، فإن الحكم المؤبد يعني السجن لمدة غير محددة، مع إمكانية إطلاق السراح بعد 15 عامًا، بموافقة قاضي المحكمة.

أدانت المحكمة رسلان بتهم ترتبط بجرائم ضد الإنسانية، بما فيها التعذيب، و27 جريمة قتل، و25 حالة اعتداء تشمل العنف الجنسي (قابلة للاستئناف).

وكانت المحكمة أصدرت، في 24 من شباط 2021، حكمها الأول بحق العنصر السابق في المخابرات العامة إياد الغريب (45 عامًا)، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة، لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

“إن أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها”، بحسب تعبير الكاتب الفرنسي فولتير، ولذلك فإن نتيجة الحكم التي انتظرها كثيرون من السوريين تحمل معها دلالات عدة.

تستعرض عنب بلدي في هذا الملف وجهات نظر مختلفة لحقوقيين سوريين قريبين من أحداث المحاكمة، بالإضافة إلى عاملين في مجتمعات الناجين والناجيات من سجون النظام السوري، حول الحكم الصادر بحق أنور رسلان في محكمة “كوبلنز”، بالإضافة إلى الأثر الذي يمكن أن يتركه هذا الحكم والمحاكمة عمومًا على جهود العدالة السورية في المستقبل.

تجربة ملهمة لتحسين الجهود

الحقوقي السوري والموثّق المختص بانتهاكات حقوق الإنسان ضمن نطاق القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان حسام القطلبي، يرى أن الحكم بحق أنور رسلان مهم معنويًا وأخلاقيًا، لأنه أول حكم يصدر على مرتكب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا منذ استقلالها حتى اليوم، رغم ما شهده التاريخ السوري من فظائع متتالية.

من ناحية أخرى، وبالنظر إلى حجم هذه الفظائع نفسها، اعتبر القطلبي أن الحكم “ضئيل الأهمية للغاية”، لأنه لا يشكّل بأي حال جزءًا من استراتيجية شاملة للعدالة، والبناء عليه محدود للغاية.

ويرجع القطلبي، خلال حديثه إلى عنب بلدي، ضآلة أهمية هذا الحكم بالإضافة إلى السبب الأول، إلى أن السوريين أنفسهم لا يمتلكون مسار تحقيق العدالة، ولا يسهمون في صياغته، إلا من خلال دورهم كشهود وضحايا، في مقابل الملكية الكاملة لمنظمات دولية وللقرار السياسي الألماني.

وانضم 17 ضحية على الأقل إلى محاكمة أنور رسلان بصفتهم “مدعين متضامنين”، ويحق لهذه الفئة ولمحاميها حضور المحاكمة، وطلب معلومات عن وضع الإجراءات، وإعطاء الإفادات في المحكمة، والوصول إلى الملفات، وطلب قبول أدلة إضافية، وطرح أسئلة على الشهود والخبراء.

والحكم على أنور رسلان “يشكّل عنوانًا عريضًا لعجز العدالة الدولية أمام الملف السوري، وتقديمها بدائل سريعة ومجتزأة من نوع هذا الحكم”، وهو أيضًا يشكّل جزءًا من “مسار ونمط يتم تكريسه لمحاكمات لهاربين وخارجين، تحت عناوين مختلفة من المنظومة والهيكلية الإجرامية في سوريا”، وفق الحقوقي السوري، وضمن هذه المعاني كلها، فالحكم هو “عنوان عجز كبير عن العدالة بدل أن يكون عنوان انتصار لها”.

المعلومات والبيانات المتوفرة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، لم تساعد على إحراز تقدم في الجهود الدولية نحو تحقيق العدالة على الجرائم الدولية الماضية والحالية، لأنها (سوريا) ليست دولة طرفًا في “المحكمة الجنائية الدولية“.

ولذلك، في حال لم تقبل حكومة النظام السوري ولاية المحكمة للنظر في الجرائم التي ارتكبتها خلال العقد الأخير طوعًا، ستضطر المدعية العامة في هذه المحكمة إلى إحالة الوضع في سوريا إليها من قبل مجلس الأمن، حتى تفتح تحقيقًا هناك.

وفي 2014، استخدمت روسيا والصين حق “الفيتو” اعتراضًا على قرار لمجلس الأمن كان من شأنه منح المدعية هذه الولاية، الأمر الذي حال دون القيام بأي خطوات على طريق ضمان المحاسبة الحقيقية لحكومة النظام، في سوريا أو خارجها، ما أسهم في وقوع مزيد من الانتهاكات.

وفي ظل تعطّل مسار العدالة الدولي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، سعت المراكز الحقوقية السورية والأوروبية نحو التحقيق في تلك الانتهاكات، والملاحقة القضائية لمرتكبيها، لإحراز قدر محدود من العدالة، وذلك ضمن محاكم محلية أوروبية.

مسار محكمة “كوبلنز” وأحداثها بإمكانه أن يكون بالغ الأهمية، وفق القطلبي، لكن هذه الأهمية مشروطة بإمكانية استخلاص دروس قد تشكّل “بروفة مبكرة” تدفع باتجاه بناء استراتيجية حقيقية لملف العدالة في سوريا.

كذلك فإن أهمية الحكم ضد رسلان تتوقف على القراءة الصحيحة للمحكمة وشهودها، ودور المنظمات الدولية وأجنداتها والتأثير السياسي الدولي فيها، والأطراف المختلفة التي تستثمر في مسار كهذا سياسيًا ودبلوماسيًا وماليًا.

خدمة العدالة بعيدًا عن استثمارها

محاكمة “كوبلنز” هي “نموذج جيد للقياس عليه” بخصوص حرية النقاش المتاحة، برأي القطلبي.

النقد الممكن لمسارات تتعلق بمصير حقوق مئات آلاف الضحايا هو ضرورة في أي عملية قضائية يمكن أن تحدث في المستقبل، دون “إشهار السيوف وتصعيد لغة عنيفة تحتمي بعناوين كبرى وتابوهات مسبقة، بأن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.

كما يجب ألا تشكّل العدالة مجالًا استثماريًا لمصالح خارج مبادئها ونصوصها، بحسب ما أوصى به القطلبي، وكل هذا بحاجة إلى مناخ وفضاء حر لنقاش كل شيء، الأمر الذي “لم يكن بأي حال وفي أي وقت متاحًا خلال مسار محكمة (كوبلنز)”.

خلال المحاكمة، لم تسر الأمور كما هو مأمول لها، بوجود قصور في جوانب عدة، منها تضارب إفادات بعض الشهود، الذين أدلوا بشهادات متباينة حول دور أنور رسلان بانتهاكات حقوق الإنسان في أثناء رئاسته قسم التحقيقات في الفرع “251”، منذ كانون الثاني 2011 حتى أيلول 2012.

بموجب قانون “الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي” الألماني، يمكن للسلطات الألمانية أن تحقّق في الجرائم الدولية الخطيرة المرتكبة في الخارج، وأن تحاكمها حتى عندما لا تكون لهذه الجرائم صلة محددة بألمانيا، ويمكن إجراء التحقيقات في هذه الحالات حتى وإن لم يكن المشتبه به موجودًا على أراضيها أو مقيمًا فيها.

سلطة الادعاء الفيدرالي الألماني والشرطة الجنائية الفيدرالية الألمانية، مسؤولتان عن التحقيق في الجرائم الخطيرة ومحاكمتها بموجب “قانون الجرائم المرتكبة ضد القانون الدولي”.

مصارحة علنية بشأن التعذيب في سوريا

لا يعترف النظام السوري بالتعذيب في مراكز الاعتقال التابعة له، بالإضافة إلى إنكاره صور “قيصر” التي سرّبها مصور عسكري منشق، والتي كانت الدليل الأبرز في محاكمة أنور رسلان.

أما الضحايا الذين يُقتلون في أقبية وسجون النظام، فيتم تسجيل سبب الوفاة بأنه “سكتة قلبية” أو “فشل تنفسي”، مع الحرص على توثيق الجثث عن طريق تصويرها وترقيمها بما يدل على صاحبها، وهو ما أدى لاحقًا إلى تسريب هذا الكمّ الكبير من الصور على يد “قيصر”، وهي 55 ألف صورة لجثث معتقلين قُتلوا في المعتقلات.

وفي حالة قتل المعتقل تحت التعذيب، يتسلّم أهله شهادة وفاة وقد لا يتسلّمونها، وأغلب أهالي الضحايا لم يتسلّموا جثث أبنائهم، وقد يجبَرون على التوقيع على شهادة بأن “العصابات المسلحة” هي من قتلت ابنهم أو ابنتهم، مقابل تسليم الجثة.

هذه هي الطريقة الشرعية التي يفسر فيها النظام السوري كيف مات معتقلوه، ويظهر في هذه الحالة نمط فردي في تناقل القصص والأحاديث بين الناس حول أشكال التعذيب التي يتعرض لها المعتقل داخل السجن.

إلا أن إدانة أنور رسلان بأربعة آلاف حالة تعذيب داخل الفرع “251” بحكم قضائي ألماني، هو بمنزلة اختبار لمدى جدّية الأدلة التي يمتلكها السوريون بشأن ملف المعتقلين، وجدواها في البناء عليها خلال المحاكمات في المستقبل، بحسب ما قاله مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي.

ضمن محاكمة “كوبلنز” ثمة مساحة لسرد تجارب الضحايا والناجين من السجون السورية بشكل جماعي وعلني، وفق ما قاله العبد الله، يستمع لهذه الشهادات قضاة، وتتناقلها وسائل إعلام عربية وعالمية، وهذا الحدث يعتبر سابقة في تاريخ سوريا.

كما أن حجم الشهادات التي استمع إليها القضاة كان معززًا لشرح تفاصيل الحياة اليومية داخل الفرع “251”، وإدخال القضاة نسبيًا إلى صورة التعذيب في الفرع، لأن القضاة حين يشاهدون صور “قيصر” لن يفهموا كيفية حدوث ذلك، والأسباب التي أدت إلى قتل الضحية بهذه الطريقة.

بعيدًا عن العناوين الرنانة

تضخيم المحاكمة ليس من مصلحة الضحايا

على الرغم من أهمية المحاكمة، لن يكون لتضخيم أثرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من مصلحة الضحايا، وفق ما يراه الناشط الحقوقي محمد العبد الله، إذ قد يخيّم على المجتمع الدولي الاعتقاد أن “العدالة قد تحققت وانتهى الأمر”، الأمر الذي يشجع أكثر بعض بلدان الاتحاد الأوروبي على ترحيل اللاجئين السوريين، وإجراء محاولات لعودة العلاقات مع النظام السوري.

ذكرت “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لسوريا“، أن عدد المفقودين منذ بداية الصراع في سوريا يقدّر بأكثر من 100 ألف شخص، رغم تعذّر التحقق من دقة الحصيلة.

يستخدم النظام الاختفاء القسري كنوع من أنواع العقاب والانتقام، ويمكن أن يطال أقارب لشخص مطلوب للأمن، أو يمكن أن يطال عنصر الأمن أو الجيش الذي يرفض إطلاق النار على المتظاهرين، في الوقت الذي يوجد فيه رفض منهجي من قبل السلطة للكشف عن مصير المعتقلين، حتى إنه لا يتم الاعتراف باعتقالهم أصلًا.

وتجاهلت محكمة “كوبلنز” المطالب الحقوقية بتضمين الاختفاء القسري كجريمة إضافية ضد أنور رسلان، إذ طالبت عدة شخصيات ومنظمات سورية حقوقية، خلال تشرين الثاني عام 2021، بتضمين هذه التهمة في قائمة الاتهام ضد رسلان، مستندة إلى اعتقاد يقيني بوجود ارتباط عضوي بين الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في جميع مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، ومن ضمنها الفرع “251”.

وإدراج المحكمة هذه الجريمة بلائحة الاتهام، كان من شأنه تعزيز رواية الضحايا والناجين الذين ادّعوا بوجود أشخاص دخلوا دائرة مجهولي المصير، بعد أن اُعتقلوا داخل مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، ما يجعل القضاء الأوروبي مطالَبًا بالتحقيق بمصير أولئك الأشخاص، بهدف تسليط الضوء على الجريمة والتعريف بها وبنتائجها.

وفي قرارها الصادر في 10 من تشرين الثاني 2021، أكّدت الجمعية العامة للأمم المتحدة انتشار ممارسة الاختفاء القسري في مراكز الاحتجاز المشار إليها في تقارير لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا، بما يشمل، على سبيل المثال لا الحصر، الفرع “215”، والفرع “227”، والفرع “235”، والفرع “251”، وفرع التحقيقات التابع لـ”المخابرات الجوية” في مطار “المزة العسكري”، وسجن “صيدنايا”.

الاعتراف بالانتهاك الجنسي

أهمية الحكم، وفق ما يراه مدير مبادرة “تعافي”، أحمد حلمي، في حديث إلى عنب بلدي، لا تأتي من أهمية المحكوم عليه، ولا من أهمية منصبه أو رتبته العسكرية، أو مدة الحكم الذي صدر بحقه، إنما تكمن في مكافحة الإفلات من العقاب الذي كانت تعيش ضمن فلكه جميع المؤسسات الأمنية السورية.

كما أُدين رسلان بحكم قضائي تاريخي باعتداءات عامة ضد المعتقلين في الفرع “251”، منها العنف الجنسي والتحرش الجنسي، وهو ما استخدمه النظام السوري، وفق حلمي، وهذا الانتهاك لم يأخذ مساحته الكافية من الاهتمام، كون “وصمة العار” واحدة من المشكلات التي تواجه المعرّض للاعتداء الجنسي في المجتمع بعد إطلاق سراحه، خصوصًا إذا كان امرأة.

وكان شكل الانتهاك الجنسي على درجات داخل مراكز الاعتقال في سوريا، مثل الاغتصاب، وإدخال أجسام صلبة، والتعري القسري لمدة طويلة، والتحسس الجنسي، والضرب على الأعضاء الجنسية.

النساء من المعتقلات السوريات كنّ عرضة للاعتداءات الجنسية في مراكز الاعتقال التابعة للنظام السوري، ويشكّل هذا السلوك جريمة حرب في أي وقت اُرتكب، ويصل إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية، في إطار الهجوم المنهجي الواسع النطاق الموجّه ضد المدنيين.

وفي بعض الحالات، تعرّضت فتيات لا تتجاوز أعمارهن 13 عامًا، كنّ محتجزات مع البالغات، للاعتداء الجنسي من قبل موظفي السجن وعناصر الأمن، بحسب ما ورد في التقرير التاسع لـ”لجنة التحقيق الدولية المستقلة الخاصة بسوريا”.

ويتفق حلمي مع الحقوقيين حسام القطلبي ومحمد العبد الله، بأن “الحكم حوّل وقائع وأحداث التعذيب من شهادات الناجين إلى قرار محكمة يشكّل قاعدة لمحاكم مستقبلية”.

ومن المؤكد أن “هذه المحاكم لن تحقّق العدالة للسوريين، لكن هذا الحكم حقّق نصرًا صغيرًا لهم على المستوى القانوني، وخطوة صغيرة على طريق العدالة”، وفق ما عبّر عنه حلمي.

ومن جملة الجرائم ضد الإنسانية المنصوص عليها في المادة السابعة من “نظام روما الأساسي“، جرائم الإبادة، والاختفاء القسري للأشخاص، والاستعباد (الاسترقاق)، والنفي والإبعاد أو النقل القسري للسكان، والسجن أو الحرمان الشديد من الحرية البدنية، والتعذيب، والاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والدعارة الإجبارية، والحمل الإجباري، والتعقيم الإجباري للنساء، وأي صورة أخرى من صور العنف الجنسي.

استندت محاكمة “كوبلنز” إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”، الذي يشير إلى الأطر القانونية التي تسمح للنظم القضائية الوطنية بالتحقيق في بعض الجرائم ومقاضاة مرتكبيها، حتى لو لم يرتكبها أحد رعاياها على أراضي البلد أو ضد أحد رعاياها.

تستخدم بعض البلدان الأوروبية، بما في ذلك ألمانيا وفرنسا والسويد، قوانين “الولاية القضائية العالمية” للتحقيق في الادعاءات بارتكاب جرائم خطيرة في سوريا. وفي حين أن من الأفضل، من حيث المبدأ، إقامة العدالة في البلدان التي تُرتكب فيها الجرائم، فإنه لا يكون ذلك ممكنًا في كثير من الأحيان.

“الولاية القضائية العالمية” تقلّل من فكرة “الملاذ الآمن” التي قد تمكّن مرتكبي هذه الجرائم من الإفلات من العقاب، وتوجه إشارة قوية إلى طبيعة الجرائم الأساسية وخطورتها.

“فرصة ضائعة”

كتب الصحفي والحقوقي السوري منصور العمري في مقال نشرته منظمة العفو الدولية، بعنوان “تأملات في محاكمة التعذيب السورية في كوبلنز“، أن “الحكم على الجاني وتعويض الضحايا، هما نتيجتان أساسيتان متوقعتان للإجراءات القانونية في أنظمة العدالة بجميع أنحاء العالم. ومن المتوقع أيضًا أن تكون إجراءات المحكمة نفسها عادلة لمجتمعات الضحايا”.

ومع ذلك، “لا يمكنني القول إن هذه هي الحال في محاكمة كوبلنز”، وفق ما يراه العمري، إذ حكمت المحكمة على رسلان لكنها لم تعوّض ضحاياه. ويتضمّن القانون الدولي التزامات قانونية واضحة يجب على الدول التصرف وفقًا لها مع واجب تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان.

و”يشمل التعويض الذي فوّته المدعون في محاكمة كوبلنز الفرص الضائعة، بما في ذلك العمل والتعليم، والأضرار المادية وفقدان الدخل”، وفق العمري، بما في ذلك “خسارة الكسب المحتمل”.

ويجب أن يكون هناك أيضًا تعويض عن “الأذى الجسدي أو العقلي”، وفق العمري، و”التكاليف المطلوبة للمساعدة القانونية أو مساعدة الخبراء، والأدوية والخدمات الطبية، والخدمات النفسية والاجتماعية هي أجزاء أساسية من التعويضات، وكذلك إعلان رسمي أو قرار قضائي يعيد الكرامة والسمعة وحقوق الضحية والأشخاص الذين هم على صلة بالضحية عن كثب، والاعتذار العلني، بما في ذلك الاعتراف بالوقائع وقبول المسؤولية”.

تسلّق على أكتاف المحكمة والضحايا

من حيث المبدأ، الحكم ضد رسلان جيد، وكذلك دور المحكمة، ولكن لدى المؤسس المشارك لـ”رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا”، دياب سرية، مآخذ على ما حصل بشأن محكمة “كوبلنز”، وهي أن المحكمة حُمّلت أكثر مما تحتمل من خلال تضخيم نتائجها.

وأضاف سرية، في حديث إلى عنب بلدي، أن تضخيم القضية، ووصف المحاكمة بأنها “بوابة لتحقيق العدالة للناجين والناجيات، وستحقق العدالة لكل السوريين”، جميع تلك الأوصاف أساءت لمشاعر الضحايا وللمحاكمة بحد ذاتها، من خلال “التسلّق على أكتاف هذه المحكمة من قبل بعض الشخصيات، والتسلّق على أكتاف الضحايا، كذلك بعض الأشخاص طلبوا الشهرة من وراء هذه المحاكمة، ولم يكن هدفهم العدالة صراحة”.

ولم تكن المنظمات الحقوقية السورية والدولية على قدر من المسؤولية ضمن مسار معقّد للمحاكمة، من وجهة نظر سرية، إذ لم يتوجهوا لمجتمعات الضحايا بشكل كافٍ، ولم يضبطوا توقعات الناس بما يتناسب مع حجم الأدلة، ولم يكن هناك وعي لأهمية ذلك.

التصريحات التي صدرت من قبل بعض الحقوقيين والمنظمات العاملة في هذه المحاكمة لم تكن منضبطة، بحيث رفعت سقف توقعات الجمهور بطريقة مبالغ فيها، الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على الناجين والناجيات، وبدا أنهم في حيرة من أمرهم في الحكم على نتائج المحاكمة.

المحكمة على المحك

مناقشة نتائج التجربة إلزامية

“فرع الخطيب ما زال موجودًا، وهناك أشخاص يتعرضون للتعذيب فيه حاليًا. أنور كان فاعلًا بفترة معيّنة فقط، وهذه محاكمته فقط، وليست محاكمة (الخطيب)، فرع (الخطيب) ما زال يعتقل الأفراد، وجميع الأفرع الأمنية ما زالت كذلك (…)، لذلك، الحكم هو قليل من العدالة لبعض السوريين وهذا هو سقف المحكمة”، وفق ما قاله سرية.

وبعيدًا عن أي تشنّج حدث خلال المحاكمة، من الواجب إجراء مناقشة دقيقة وشاملة بشأن المحاكمة من قبل الحقوقيين السوريين المعنيين فيها، وفق ما أوصى به سرية، أهم هذه النقاشات هي بشأن كيفية وصول أنور رسلان إلى ألمانيا بتأشيرة من العاصمة الأردنية عمان، بتزكية من المعارض السوري البارز رياض سيف، دون شعوره بأي عناء، واعتماده مستشارًا أمنيًا لـ”هيئة التفاوض السورية”، ووجوده في صف المعارضة السورية في مؤتمر “جنيف 2” عام 2014.

المحاكمة ضمن سياقها المناسب

خلال محاكمة أنور رسلان، لم يعترف أبدًا بأي جرم أسندته المحكمة إليه ضمن مسؤوليته الجنائية الشخصية.

وخلال جلسات المحاكمة عام 2020، أكّد الشاهد رجل الأعمال السوري والمعارض السياسي رياض سيف، أمام المحكمة، أنه ساعد في جهود رسلان لدخول ألمانيا عام 2014 بتأشيرة صادرة عن السفارة الألمانية في العاصمة الأردنية عمان، من خلال إرسال المستندات المتعلقة بطلب لجوئه إلى وزارة الخارجية في برلين.

وقال سيف، إنه أيّد انشقاق رسلان على أمل الحصول على معلومات قيمة تتعلق بمصير المعارضين السياسيين الآخرين داخل الفرع “251”، ومع ذلك، تجاهل رسلان إيصال أي معلومة، ووفق ما قاله سيف، “لم نحصل على شيء من أنور رسلان، ولا كلمة أو معلومة”.

وفي حزيران 2012، قرر سيف مغادرة سوريا، حيث يعيش الآن في العاصمة الألمانية برلين.

وفي ألمانيا، طلب صهر سيف تأمين الدعم لضباط في المخابرات السورية يرغبون بالانشقاق، ليسمع باسم الضابط المتهم أنور رسلان لأول مرة في آب عام 2013.

محاكمة أنور رسلان لم تكن لأسباب شخصية متعلقة بعدم تعاونه مع المعارضة السورية بإطار “تصفية حسابات”، وإنما كانت “ضمن سياق محدد وهو تحقيق العدالة لضحايا الانتهاكات في فرع (الخطيب)، وأخذت فترة طويلة لجمع وفحص الأدلة”، بحسب ما قالته المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، في حديث إلى عنب بلدي.

ويعتبر “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” طرفًا في فريق الادعاء ضد أنور رسلان وإياد الغريب ضمن المحاكمة.

لم يضع رسلان كل ما يملكه وما يعرفه عن عمليات التعذيب في خدمة العدالة، بل تكتّم عليها، فضلًا عن أن انشقاق أي مسؤول في النظام السوري وانضمامه للمعارضة، يجب ألا يكون وسيلة لتبرئته من الأفعال الجرمية التي ارتكبها قبل انشقاقه.

والحكم على أنور رسلان يخلق، بحسب ما تعتقده المحامية سيف، أساسًا متينًا للمدعين العامين الأوروبيين، لمتابعة المزيد من الإجراءات بما يرتبط بمحاكمة منتهكي حقوق الإنسان في سوريا.

وبحسب ما تراه سيف، فإن أي جانب من جوانب المحاكمة أحيطت به إشكاليات عدة، سيتم الاستفادة من هذه الخبرات لضمان عدم تكراراها في المحاكمات المقبلة، إذ يعمل “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” على رصد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في بلدان عدة، من ضمنها سوريا، بموجب اختصاص عمله الحقوقي.

وفيما يتعلق بـ”الإفادات المتضاربة” لبعض الشهود، فإن القاضي غير ملزم بأخذ ما ورد فيها حتى على سبيل الاستئناس، ولم يؤخذ بها خلال تحديد الحكم، وفق ما قالته المحامية سيف، فضلًا عن وجود شهادات شُطبت وتم تجاهلها من قبل المحكمة.

وتوجهت عنب بلدي إلى المدير التنفيذي لـ”المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، وسألته عن رأيه في الحكم على أنور رسلان، باعتبار أن المحامي البني كان أحد محامي المدعين في المحاكمة.

لم تتلقَّ عنب بلدي إجابة من المحامي البني عن السؤال، في الوقت الذي أجاب عن نفس موضوع السؤال لموقع “الحرة“، في 13 من كانون الثاني الحالي، واصفًا الحكم بـ “التاريخي”، وقال، “إنه انتصار للعدالة كمبدأ. انتصار بعيدًا عن تدخل السياسيين. العدالة الحالية صنعها الضحايا بأيديهم”.

واعتبر المحامي البني أن إدانة رسلان هي “إدانة لكل منظومة المجرمين في سوريا. رسلان هو جزء من منظومة منهجية لقتل وتعذيب واعتقال السوريين، وممارسة العنف الجنسي ضدهم”، وفق ما نشره موقع “الحرة”.

وفي 18 من تشرين الثاني 2021، رفضت المحكمة اقتراح فريق الدفاع عن المتهم رسلان استدعاء المحامي أنور البني للإدلاء بشهادته حول “إفادات متضاربة” تعود لشهود قدّمهم البني لسماع المحكمة إفادتهم.

واقترح فريق الدفاع عن رسلان على المحكمة استدعاء المحامي البني كخطوة للبحث والتدقيق في علاقته مع الشهود، وإمكانية أن تكون شهادة الشهود قد “أُمليت عليهم من قبل البني”.

أدى تمادي النظام السوري في استخدام القوة المفرطة بمواجهة الاحتجاجات السلمية عام 2011، إلى اتساع الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، وتعاظم العنف المسلح، خلال عقد كامل في سوريا، ولم يعد ارتكاب الجرائم الخطرة مقتصرًا على قوات النظام، بل إن أطرافًا أخرى داخلية وخارجية صارت ضالعة بتلك الانتهاكات التي اتسعت أشكالها، لتطال آثارها معظم السوريين، فلكل رجل أو امرأة أو طفل مأساة يتقاسمونها مع ضحايا النزاع، فقدان الأقارب، وفقدان الممتلكات، وفقدان الحقوق، وفقدان الأمل، وثمة بينهم من فقدوا كل شيء.

وأبرز معالم العدالة الانتقالية المنشودة في سوريا هو محاكمة الأشخاص الذين يتحملون أكبر قدر من المسؤولية عن الجرائم الأكثر خطورة، وقد يتحملون مسؤولية فردية مباشرة عن الجريمة.

وتعتمد الآليات القضائية أو غير القضائية على التحقيق والتوثيق للجرائم والانتهاكات التي حدثت في سوريا بعد 2011، من خلال تقصي الحقائق، والتعويض، والتحري، وتقع مسؤولية هذا الجهد على الناشطين السوريين، والصحفيين، ومنظمات المجتمع المدني، خصوصًا الحقوقية منها، وصانعي السياسات.

عنب بلدي

———————————–

الاتحاد الأوروبي والامم المتحدة يطالبان بالملاحقة القضائية للنظام السوري

دعا الاتحاد الأوروبي إلى إحالة الوضع في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد إدانة الضابط المنشق عن جهاز الاستخبارات التابع لنظام الأسد، أنور رسلان، بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وفي بيان صادر عن بعثة الاتحاد الأوروبي في سوريا، قال المتحدث الرسمي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية بيتر ستانو إن الحكم الصادر عن محكمة كوبلنز الألمانية “قرار تاريخي”. وأضاف أن “هذا الحكم هو جزء من المحاكمة الأولى في جميع أرجاء العالم، بشأن التعذيب الذي يرعاه النظام السوري، وخطوة مهمة نحو مكافحة الإفلات من العقاب، وتأمين العدالة والمساءلة في سوريا”.

وأشار البيان إلى أن الاتحاد الأوروبي “دعم وسيواصل دعم الجهود المبذولة لجمع الأدلة بهدف اتخاذ إجراءات قانونية في المستقبل، من خلال الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ولجنة التحقيق الدولية بشأن سوريا”.

وقضت محكمة كوبلنز الألمانية الخميس، بالحكم على الضابط المنشق عن جهاز الاستخبارات السورية أنور رسلان بالسجن المؤبد، في المحاكمة التي تعدّ سابقة عالمية في المحاسبة على جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

وأشادت الأمم المتحدة بالحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز على رسلان، مشيرة إلى أنه “يجب أن تحفز الجرائم التاريخية ضد الإنسانية التي أصدرتها المحكمة الألمانية زخماً للعدالة الدولية”.

واعتبرت المفوضة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليت أن حكم المحكمة “قفزة تاريخية في السعي وراء الحقيقة والعدالة”، وحثّت الدول الأخرى على “إجراء التحقيق والملاحقة القضائية في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تشكل جرائم دولية باستخدام مبادئ الولاية القضائية العالمية”.

وقالت باشليت إن المحاكمة “سلطت الضوء الذي تشتد الحاجة إليه، على أنواع التعذيب المثير للاشمئزاز والمعاملة القاسية واللاإنسانية حقاً، بما في ذلك العنف الجنسي المروع، التي تعرض لها عدد لا يحصى من السوريين في مرافق الاحتجاز”.

وأشارت المسؤولة الأممية إلى أنه “يجب أن يعمل الحكم على تحفيز جميع الجهود إلى الأمام، لتوسيع شبكة المساءلة لجميع مرتكبي الجرائم التي لا توصف والتي تميز هذا الصراع الوحشي”، مؤكدة على أن الحكم “بمنزلة رادع قوي، ويساعد على منع الفظائع في المستقبل”.

وتنظر ألمانيا حالياً في أكثر من 12 قضية تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا، وفقاً لتقرير صدر عن منظمة حقوق الإنسان، في حين تعدّ محكمة كوبلنز غير متعلقة بالحكومة الألمانية، لكن بحسب قوانين حقوق الإنسان في الدستور الألماني، يمكن إثبات انتهاك حقوق الإنسان من خلال الأدلة والشهود، لهذا لا تهدف هذه المحاكمة فقط لإدانة المتهمين، بل لإدانة نظام الأسد بالكامل.

————————-

إدانة ضابط الأمن أنور. ر بجرائم ضد الإنسانية تشكل إدانة لمنظومة التعذيب والقتل تحت التعذيب والعنف الجنسي لدى النظام السوري

الشبكة السورية لحقوق الإنسان

باريس – بيان صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان:

أدانت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بألمانيا اليوم 13/ كانون الثاني، أنور. ر، الذي استلم منذ كانون الثاني/ 2011 حتى أيلول/ 2012، رئاسة دائرة التحقيق في فرع الأمن 251 (فرع الخطيب)، التابع لجهاز المخابرات العامة في النظام السوري، حيث أدين بالتعذيب، و27 جريمة قتل وحالة عنف جنسي، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. فقد قدم الادعاء لائحة اتهام تتضمن إشراف أنور. ر على تعذيب قرابة 4000 شخص في أثناء التحقيق معهم، إضافة إلى الاحتجاز التعسفي، والعنف الجنسي، والتورط في مقتل 58 شخصاً بسبب التعذيب، وقد شاركت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ملفاً يتضمن بيانات لـ 58 مواطناً سورياً ماتوا بسبب التعذيب في فرع الخطيب في أثناء حقبة تولي المتهم أنور.ر إدارة التحقيق، وتم تسليم الملف إلى المدعي العام الألماني عبر شريكنا المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي قام مع شركائه من المحامين بدعم 14 شخصاً مدَّعي ضد المتهم أنور. ر.

إن إدانة أنور. ر بجرائم ضد الإنسانية، التي تعني بحسب ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، أنها جرائم ذات طبيعة منهجية أو واسعة النطاق، وبالتالي لا يمكن أن تنفذ من قبل أفراد في النظام السوري دون أن تكون سياسة مركزية لدى النظام السوري، ومتورط فيها على أعلى المستويات، وقد أكدت محكمة العدل الدولية أنه: “وفقاً لقاعدة راسخة في القانون الدولي، لها طبيعة عرفية، فإن سلوك أي جهاز في دولة ما يجب اعتباره عملاً من أعمال تلك الدولة”، ويتحمل القادة المسؤولية الجنائية على المستوى الشخصي لا عن أفعال وتجاوزات ارتكبوها بل أيضاً عن أفعال ارتكبها مرؤوسوهم، مما يجعل بشار الأسد القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ورؤساء الأفرع الأمنية، ووزراء الداخلية متورطون بشكل مباشر في جرائم التعذيب والقتل تحت التعذيب والعنف الجنسي، ويشكل هذا الحكم صفعة قوية لكل من يفكر في إعادة أي شكل من أشكال العلاقات مع النظام السوري، وكل من يقدم دعماً له وفي مقدمتهم روسيا، والصين، وإيران.

——————————

سوريون يرحبون بالحكم الألماني ضد رسلان: سابقة أعادت الأمل بالعدالة

السجن المؤبد للمسؤول السابق عن التحقيقات في «فرع الخطيب»

كوبلنز (غرب ألمانيا): راغدة بهنام

منح القضاء الألماني ملايين السوريين أملاً بإمكانية تحقيق العدالة ضد الذين نكّلوا بهم وتسببوا بتهجيرهم من بلادهم، بعدما أدان أمس (الخميس) ضابطاً سورياً سابقاً بجرائم «ضد الإنسانية».

ووصف ناشطون حقوقيون ومحامون سوريون الحكم بالسجن المؤبد الصادر بحق الضابط السوري المنشق أنور رسلان، بأنه سابقة أعادت الأمل للسوريين بإمكانية تحقيق العدالة.

وحكمت محكمة في مدينة كوبلنز الواقعة في غرب ألمانيا على رسلان بالسجن المؤبد مع إمكانية إطلاق سراحه بعد 15 عاماً، بعد أن وجدته مذنباً بجرائم ضد الإنسانية وتهم تعذيب آلاف السجناء والتسبب بتعذيب 27 منهم حتى الموت، عندما كان مسؤول قسم التحقيقات في «الفرع 251» في دمشق، المعروف بـ«فرع الخطيب»، التابع للمخابرات السورية.

وفصّلت القاضية الحكم الذي توصلت إليه بعد عامين تقريباً من بدء المحكمة وعقد أكثر من 100 جلسة استمعت فيها لأكثر من 40 شاهداً، وتلت مقاطع من الحكم الواقع في مئات الصفحات، لأكثر من 6 ساعات. وتحدثت بإسهاب في البداية عن شكل النظام في سوريا وكيف يقمع المعارضين منذ ما قبل ثورة عام 2011، وكيف أن عمليات التعذيب تضاعفت بعد الثورة وتحول استهداف المعارضين إلى منهجية تُعتمد لقمع الثورة. وفصّلت كذلك دور «الفرع 251» الذي قالت إنه كان مسؤولاً عن مراقبة المدنيين السوريين داخل وخارج البلاد، وإنه كان يستهدف المتظاهرين ويجلبهم إلى الفرع للتحقيق معهم وتعريضهم للتعذيب والقتل.

واستندت القاضية في حكمها إلى شهادات استمعت إليها المحكمة من سجناء سابقين كانوا قد تعرضوا للتعذيب والاعتقال والاستجواب على يد رسلان نفسه، وإلى شهادات ذوي الذين قُتلوا في «الفرع 251» في الفترة التي كان رسلان مسؤولاً فيها والواقعة بين مطلع عام 2011 وسبتمبر (أيلول) 2012 عندما انشق عن النظام ولجأ إلى الأردن قبل أن يلجأ إلى ألمانيا حيث اعتُقل وأُودع السجن.

ورفضت القاضية دفاع رسلان الذي نفى التهم الموجهة إليه، وقال عبر محاميه إنه لم يُصدر أي أوامر بالتعذيب ولا بالقتل. ورفض رسلان الحديث طوال فترة محاكمته واكتفى بإصدار بيان تلاه محاميه في الجلسة الختامية دافع فيه عن نفسه ونفى التهم. وزعم أيضاً بأنه أراد الانشقاق في وقت سابق ولكنه لم يتمكن من ذلك. ولكن القاضية رفضت هذا الدفاع أيضاً، وقالت إن الأدلة تؤكد أن رسلان كان من الدائرة الموثوقة لدى النظام السوري، وإنه لا يمكن تصديق أن النظام يترك موظفاً برتبة عالية في منصبه إذا لم يكن واثقاً فيه مائة في المائة. ورفضت أيضاً ادعاءه بأنه لم يتمكن من الانشقاق مبكراً، وقال إنه لا يمكن التصديق أن رسلان لم تكن لديه إمكانية مغادرة سوريا قبل سبتمبر 2012.

وقبلت القاضية الأدلة التي تثبت تورط رسلان بالمسؤولية عن قتل 27 سجيناً تحت التعذيب، وليس 58 كما هي التهم الموجهة إليه. وقالت إن عدد الضحايا على الأرجح أكبر من ذلك بكثير ولكن الأدلة أمام المحكمة تُثبت فقط 27 ضحية. وأشارت القاضية إلى صور قيصر التي استندت إليها المحكمة كذلك لكي تتحدث عن جرائم ضد الإنسانية وعمليات قتل جماعي، وقالت إن شهادة خبير ألماني أكدت صحة الصور المسربة والتي تُظهر على جثث 6821 سجيناً علامات التعذيب وسوء التغذية البادية عليهم.

ووصف المحامي الألماني باتريك كروكر، الموكل عن مجموعة من المدعين باسم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الحكم الصادر بأنه «في الاتجاه الصحيح». وقال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إنه «لا عقوبة كافية على هكذا جرائم، وكان واضحاً منذ البداية بأن هذه الخطوة هي الأولى ومع ذلك لديها دلالات مهمة». وأضافت: «القضية هنا مرفوعة ضد شخص واحد وهو ليس المسؤول الأرفع المتورط في هذه الجرائم، ولكنها خطوة في الاتجاه الصحيح». وعدّ القرار «تأكيداً من محكمة بأن ما حصل جرائم ضد الإنسانية ومَن شارك فيه ستتم معاقبته حسب القانون».

ورأى المحامي والناشط السوري أنور البني الذي كان أحد الشهود في القضية، أن الحكم يمثل «إنجازاً كبيراً» لأن «باب العدالة كان موصداً أمام كل السوريين، والآن الضحايا كسروا هذا الباب وأظهروا أنه يمكن الوصول للعدالة دون أن تتدخل بها السياسة». وأضاف: «عندما يصل أحد الضحايا لحقه هذا يعني كل الضحايا حتى الذين ما زالوا يتعرضون لنفس الجرائم، خصوصاً عندما يكون حق الضحية محجوباً بالوصول للمحاكمة وللعدالة لأن مجلس الأمن لم يتمكن من التحرك دولياً، ومحاكم سوريا غير قادرة». ورأى أن الحكم يؤكد أنه «لا يمكن حجب العدالة».

وأكد البني أن في الحكم إدانة لكامل النظام السوري بسبب تشديد القاضية على دور رسلان في المنظومة بأكملها، وقال: «ما قامت به المحكمة أنها سلسلت جرائم النظام منذ تسلمه السلطة، وبيّنت منهجيته بالاعتقال والتعذيب والقتل تحت التعذيب، وكم أن هذه المسألة أصبحت منهجية بعد الثورة». وأضاف أنها «جرائم ضد الإنسانية تُرتكب من نظام ودولة وليس من أشخاص أو مجموعة، ما يعني أن إدانته هي إدانة لكل النظام ولو كانت المحكمة تقول إنها غير قادرة على إدانة النظام، وقانونياً غير قادرة، ولكن حكمها أدانه قضائياً من دون أن تسميه بالاسم».

ويُتوقع أن يستأنف رسلان الحكم الصادر بحقه رغم أنه محاميه لم يؤكد ذلك بعد. ولو حصل ذلك تُرفع القضية إلى المحكمة العليا في كوبلنز للنظر بها من جديد. وقال البني إنه يأمل أن يستأنف الحكم لأنه لو تم تأكيد القرار من المحكمة العليا فهذا «يعطيه مصداقية أكثر لأنه يكون تم تمحيصه من أعلى سلة قضائية في ألمانيا».

الشرق الأوسط

———————————-

ألمانيا تبدأ كتابة «تاريخ العدالة» للسوريين

أصدرت حكماً بالسجن المؤبد على مسؤول سابق في المخابرات

كتبت ألمانيا أمس أول سطر في «تاريخ العدالة» للسوريين؛ خصوصاً السجناء والمهجرين، إذ أصدر قضاؤها حكماً بالسجن المؤبد لضابط سابق كان مسؤولاً عن فرع للتحقيق تابع للمخابرات بتهمة «ضد الإنسانية».

ووصف ناشطون حقوقيون ومحامون سوريون الحكم الصادر بحق الضابط السوري المنشق أنور رسلان بأنه «سابقة أعادت الأمل للسوريين بإمكانية تحقيق العدالة».

وحكمت محكمة في مدينة كوبلنز، الواقعة غرب ألمانيا، على رسلان بالسجن المؤبد مع إمكانية إطلاق سراحه بعد 15 عاماً، بعد أن وجدته مذنباً بجرائم ضد الإنسانية وتهم بتعذيب آلاف السجناء والتسبب في تعذيب 27 منهم حتى الموت، عندما كان مسؤول قسم التحقيقات في الفرع 251 في دمشق، المعروف بفرع الخطيب، التابع للمخابرات السورية.

وأصدرت القاضية الحكم بعد عامين تقريباً من بدء المحكمة وعقد أكثر من 100 جلسة استمعت فيها لأكثر من 40 شاهداً، وتلت مقاطع من الحكم الواقع في مئات الصفحات، لأكثر من 6 ساعات. وتحدثت بإسهاب في البداية عن شكل النظام في سوريا وكيف يقمع المعارضين منذ ما قبل الثورة عام 2011، وكيف أن عمليات التعذيب تضاعفت بعد الثورة وتحول استهداف المعارضين إلى عمل ممنهج لقمع الثورة.

ووصف المحامي الألماني باتريك كروكر، الموكل عن مجموعة من المدعين، باسم المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الحكم بأنه «في الاتجاه الصحيح». وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لا عقوبة كافية على هكذا جرائم، وكان واضحاً منذ البداية أن هذه الخطوة هي الأولى، ومع ذلك لديها دلالات مهمة».

——————————

ألمانيا: المؤبد لضابط سوري سابق ارتكب جرائم ضد الإنسانية

أصدر القضاء الألماني اليوم (الخميس) حكماً بالسجن مدى الحياة على ضابط سابق في المخابرات السورية إثر إدانته بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، في سياق أوّل قضية في العالم مرتبطة بفظائع منسوبة إلى نظام الرئيس بشار الأسد.

وقضت المحكمة العليا الإقليمية في كوبلنس، غرب ألمانيا، بأن السوري أنور رسلان (58 عاماً) مسؤول عن مقتل معتقلين وتعذيب آلاف آخرين في معتقل سرّي للنظام في دمشق، وذلك بين عامي 2011 و2012. وأشير إلى هذا المركز على أنه تابع لـ«قسم التحقيقات الفرع 251» المعروف باسم «أمن الدولة – فرع الخطيب» داخل دمشق.

ورغم مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاع الانتفاضة في سوريا، فإن هذه هي المرة الأولى التي تجري فيها محاكمة حول العالم محورها فظائع متّهم بارتكابها نظام الرئيس بشار الأسد، سعى عدد من النشطاء والمنظمات غير الحكومية إلى توثيقها. وهذا هو ثاني حكم يصدره القضاء الألماني بعد حكم على ضابط آخر من المخابرات السورية أدنى رتبة في فبراير (شباط) 2021.

وفي الجزء الأوّل من هذه المحاكمة التي تحظى باهتمام بالغ من الجالية السورية الكبيرة في المنفى، قضت المحكمة العليا الإقليمية في كوبلنس بسجن إياد الغريب، العضو السابق في جهاز المخابرات، أربع سنوات ونصف إثر إدانته بتهمة اعتقال متظاهرين في 2011 ونقلهم إلى سجن فرع الخطيب حيث تعرّضوا للتعذيب.

وقد أقرّت المحكمة في قرارها بـ«هجوم موسّع وممنهج ضدّ المدنيين» يشنّه نظام الأسد على السوريين منذ أن نزلوا إلى الشارع مطالبين بالديمقراطية في مارس (آذار) 2011. والتزم أنور رسلان الذي كان يرأس شعبة التحقيقات في «الفرع 251» من جهاز أمن الدولة الواسع الانتشار الصمت طوال جلسات هذه المحاكمة التي بدأت في 23 أبريل (نيسان) 2020.

وفي مايو (أيار) 2020. تلا محاموه إفادة خطّية نفى فيها الضابط السابق مشاركته في تعذيب المعتقلين وقتلهم. وما انفكّ وكلاء الدفاع يذكّرون بأن موكّلهم انشقّ في 2012 وحاول التخفيف من معاناة المعتقلين. وفي الواقع، فإنّ رسلان لم يحاول إخفاء ماضيه عندما لجأ إلى ألمانيا مع عائلته سنة 2014. لا بل طلب بنفسه من الشرطة في برلين أن تحميه في فبراير (شباط) 2015 وأخبرها أنّه كان ضابطاً في المخابرات السورية.

وافتضح أمر رسلان حين تعرّف عليه في أحد شوارع العاصمة الألمانية مواطن سوري آخر هو أنور البنّي، المحامي والمعارض الذي يقوم الآن بمطاردة المتعاونين السابقين مع النظام اللاجئين في أوروبا. وأوقف رسلان في فبراير (شباط) 2019 وهو مذّاك رهن الحبس الاحتياطي.

ولمحاكمة هؤلاء السوريين، تطبّق ألمانيا المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية الذي يسمح لقضائها بمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطرة، بغضّ النظر عن جنسيتهم أو مكان ارتكاب الجرائم. ومنذ بدء المحاكمة، مثل أكثر من 80 شاهداً أمام القضاء، من بينهم 12 منشقاً وعدّة رجال ونساء أتوا من دول مختلفة في أوروبا للإدلاء بشهاداتهم بشأن الفظائع التي تعرّضوا لها في فرع الخطيب.

غير أنّ شهوداً آخرين رفضوا المثول أمام المحكمة، في حين وافق آخرون على الإدلاء بإفاداتهم بشرط ألا يتمّ الكشف عن هوياتهم، فقاموا بإخفاء وجوههم أو وضعوا شعراً مستعاراً، خوفاً من أن يتعرض أقاربهم الذين ما زالوا في سوريا لأعمال انتقامية. وفي سابقة من نوعها، عُرضت أمام المحكمة صور من «ملف قيصر»، وهو أمر لم يسبق حدوثه في أي محاكمة حتى اليوم.

وقيصر هو الاسم الذي أُطلق على مصور سابق في الشرطة العسكرية السورية هرب من بلاده وبحوزته 50 ألف صورة وثّقت 6786 معتقلاً سورياً قتلوا بطرق وحشية بعدما تضوّروا جوعاً وتعرّضوا لشتّى صنوف التعذيب. وقدّم أحد السوريين شهادة عن المقابر الجماعية التي كانت تُطمر فيها جثث المعتقلين.

وقال وسيم مقداد أحد المدّعين بالحقّ المدني في هذه القضية في تصريحات لوكالة الصحافة الفرنسية: «آمل أن نكون قد أعطينا صوتا لمن لا صوت لهم» في سوريا، مؤكّداً «جلّ ما أريده هو إحقاق الحقّ وليس الأخذ بالثأر أو الانتقام». وتطرّق المدّعي العام في مرافعته إلى المسؤولية التاريخية لألمانيا، مستشهداً بأحد الناجين من محرقة اليهود.

وقد أودى النزاع في سوريا بحياة نحو 500 ألف شخص ودفع 6.6 مليون سوري إلى المنفى في الخارج. وأكّدت المحامية جمانة سيف التي تعيش في المنفى أن «هذه المحاكمة في غاية الأهمية بالنسبة إلى السوريين لأنها تتمحور على جرائم خطرة جدّاً ما زالت تُرتكب اليوم».

وفي دليل على مدى أهمّية هذا الحكم بالنسبة إلى الجالية السورية، قرّرت المحكمة التي سبق لها أن رفضت بثّ المداولات توفير ترجمة فورية إلى العربية وقت تلاوة الحكم. ومن المرتقب أن تنطلق اليوم (الخميس) في فرانكفورت محاكمة أخرى على صلة بنظام بشار الأسد تطال طبيباً سورياً لجأ إلى ألمانيا.

—————————-

مؤبد رسلان”.. شروط معينة لـ”كوبلنز ثانية” وماذا عن بقية “المجرمين”؟

ضياء عودة – إسطنبول

يفتح الحكم الذي أصدرته محكمة “كوبلنز” الألمانية بحق الضابط السابق في مخابرات النظام السوري، العقيد أنور رسلان، باب تساؤلات كثيرة. ما الذي يعنيه بعد عشر سنوات من الحرب السورية؟ وهل يمكن أن يتكرر ليستهدف البقية من “مجرمي الحرب” على اختلاف انتماءاتهم والجهات التي يتبعون لها؟

وأدين رسلان، الذي لجأ إلى ألمانيا في عام 2014، بـ27 حالة قتل و25 حالة اعتداء وتحرش جنسي، والمشاركة والتواطؤ بعمليات تعذيب وقتل المعتقلين في سجون النظام السوري، في الفترة التي كان فيها ضابطا بفرع “الخطيب 251”.

ورغم أن الحكم يعتبر “سابقة عالمية”، بحسب ناشطين في حقوق الإنسان، إلا أنه “ليس استثناء”، بمعنى أن الدول الأوروبية سبق وأن سارت في هذا المنحى تجاه أشخاص آخرين، اتهموا بارتكاب جرائم حرب، عندما كان البعض منهم في تشكيلات “جبهة النصرة” وفصائل الجيش الحر”، وآخرين ممن انتسبوا لتنظيم “داعش”.

ومن المرتقب أن تنطلق في الأيام المقبلة بفرانكفورت محاكمة أخرى على صلة بنظام بشار الأسد، على أن تستهدف الطبيب، علاء موسى، المتهم بارتكاب جرائم حرب، عندما كان في تشرين العسكري، بمدينة حمص السورية.

وقبل القضيتين المذكورتين، كان القضاء الألماني قد حكم، في فبراير 2020، بالسجن أربع سنوات ونصف على إياد الغريب (44 عاما) بتهمة المشاركة في اعتقال 30 متظاهرا على الأقل في دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية قرب دمشق، في سبتمبر أو أكتوبر 2011، ومن ثم نقلهم إلى مركز اعتقال تابع لأجهزة الاستخبارات.

“الكل مستهدف”

تعرّف جرائم الحرب، بحسب “اتفاقيات جنيف” بأنها تلك التي تنتهك قوانين الحرب، وتشمل استهداف المدنيين والتعذيب وقتل أسرى الحرب أو إساءة معاملتهم.

أما الجرائم ضد الإنسانية فهي عبارة عن جرائم تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منظم ضد المدنيين في أوقات السلم أو الحرب، وتشمل الاختفاء القسري والقتل والاسترقاق (العبودية) والترحيل أو النقل القسري للسكان وعمليات الاغتصاب الجماعي الممنهجة.

ومنذ عشر سنوات كان للحالة السورية نصيب كبير من هذين النوعين، وعلى الرغم من أن القسم الأكبر منها يرتبط بنظام الأسد والتشكيلات المسلحة المساندة له، إلا أن جزءا منها ينسحب إلى بقية الأطراف الأخرى من غربي البلاد وشمالها، وصولا إلى شرقها.

وفي يوليو 2016، أصدرت محكمة الاستئناف السويدية حكما على مهند الدروبي (29 عاما) بالسجن ثماني سنوات، بسبب تعذيب سوري آخر، عندما كان ضمن تشكيل “الجيش السوري الحر”.

بعد ذلك، في مايو 2017، حكمت السويد أيضا بالسجن المؤبد على هيثم سخانة، بتهمة إعدام عناصر من النظام السوري بعد انشقاقه.

وفي ألمانيا التي أصدرت حكم المؤبد برسلان الخميس، كانت محكمة فيها قد قضت، في أغسطس 2018، بسجن لاجئ سوري يلقب “أبو الديب” مدى الحياة، بعد إدانته بارتكاب جرائم حرب، عندما كان عنصرا في “الجيش الحر”.

وكان “أبو الديب” قد فرّ من سوريا وتقدم بطلب لجوء في ألمانيا، ثم تعرف عليه أحد الأشخاص الذين عذبهم في أحد مراكز الإيواء بألمانيا، وعقب مراقبة استغرقت شهورا من قبل المحققين الألمان، ألقت قوات خاصة القبض عليه، في أبريل 2016، في مدينة مونستر.

وإلى جانبه استهدف حكم ألماني أيضا “سليمان”، بالسجن ثلاث سنوات ونصف، بتهمة “التواطؤ” في جرائم حرب في أثناء عمله كعنصر من “جبهة النصرة”، المصنفة على قوائم الإرهاب الدولية.

“سابقة مهمة جدا”

اتفق ناشطون في مجال حقوق الإنسان تحدث إليهم موقع “الحرة” أن حكم المؤبد الصادر بحق رسلان يعتبر “سابقة”، وخطوة “هامة جدا” لمحاسبة المجرمين في سوريا.

ويقول محمد العبد الله، مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة” لموقع “الحرة” إن سبب أهميته “هو أنه لأول مرة يحاكم شخص بهذا المستوى من ضباط النظام. كان رسلان ضابط استخبارات وليس مسؤولا سياسيا”.

ويضيف عضو مكتب “جيرنيكا 37” للعدالة الدولية في لندن، المحامي السوري إبراهيم علبي، أن ما حصل في كوبلنز، الخميس، هو “إدانة للنظام السوري ككل، وليس فقط لأنور رسلان”.

ويوضح لموقع “الحرة”: “إدانة رسلان بأنه ارتكب جرائم ضد الإنسانية وليس جريمة حرب. النوع الأول من الجرائم يعطي صورة عن عمليات ممنهجة وواسعة النطاق، بمعنى أن رسلان جزء من منظومة كاملة للنظام السوري”.

من جانبه اعتبر المحامي والناشط الحقوقي، المعتصم الكيلاني، أن “بقاء رسلان مدى الحياة في السجن وحصوله على أقصى عقوبة يسمح بها القانون الألماني هو مرض للضحايا والشهود الأبطال”.

وأضاف لموقع “الحرة”: “طريق العدالة طويل جدا، وهذه خطوات من مئات الخطوات القادمة”.

ماذا بعد رسلان؟

ويملك القضاء الأوروبي صلاحية المحاكمة على جرائم لم تُرتكب على الأراضي الأوروبية، وفق ما يُعرف بـ “الولاية القضائية العالمية”، وذلك في حال كان المتهم يعيش في إحدى دول الاتحاد، ويواجه قضية رفعها ضده أحد الضحايا، وهو ما حصل في قضية رسلان.

وفي مارس من عام 2021، تعهد وزراء خارجية 18 دولة أوروبية بالالتزام بضمان عدم إفلات تنظيم “داعش” والنظام السوري من العقاب، وذلك على خلفية اتهامهما بارتكاب اعتداءات بالأسلحة الكيماوية وعمليات خطف وإخفاء.

وقال الوزراء إنه في السنوات العشر الماضية قُتل نحو 400 ألف شخص في سوريا، بينما أجبر أكثر من ستة ملايين على الفرار من البلاد هربا من “انتهاكات لا حصر لها لحقوق الإنسان”.

وتمهد الكلمات المذكورة لمسؤولي الدول الأوروبية إلى أن المحاكمات والملاحقات لمحاسبة المجرمين باختلاف أماكنهم لن تتوقف، وهو أيضا ما يؤكده ناشطو حقوق الإنسان، الذي كان لهم دورا في عمليات التحريك والمتابعة، خلال السنوات الماضية.

لكن هناك هوامش كثيرة وشروط معينة لفتح تلك الملاحقات والمحاكمات والاستمرار بها، إلى جانب “الرغبة السياسية”، والتي يتضارب الحديث عن الدور الذي تلعبه في ذلك.

وبحسب الكيلاني: “سيكون في قادم الأيام الكثير من التحقيقات التي ستقدم للمحاكم، ومن ثم سيمثل مرتكبوها أمام المحاكمة الوطنية الأوروبية، مستفيدين من اختصاص الولاية القضائية العالمية”.

أما العبد الله فلا يعتقد أن الحكم على رسلان “سيفرض نفسه على كيفية سير الأحكام والمحاكمات في الدول الأوروبية”.

ويقول: “معظم دول المحاكمات توجد فيها بالفعل دعاوى قائمة ضد شخصيات قاتلت سابقا في المعارضة أو النصرة أو النظام السوري”.

ويضيف أن “المحاكمات سيتم النظر فيها كل حالة على حدة، بناء على القضية وأهميتها وتوافر الأدلة وأيضا توافر المدعى عليهم على الأراضي الأوربية”.

وفي السابق، كانت هناك دعاوى ضد جميل الحسن وعلي مملوك، وهما من كبار ضباط الأمن في النظام السوري.

ويتابع الحقوقي السوري: “صدرت أيضا مذكرات توقيف غيابية بحق ثلاثة ألوية ورؤساء أجهزة أمنية في النظام السوري، لكن الملف انتهى في هذا الإطار كونهم خارج الأراضي الأوروبية والقانون الألماني يمنع المحاكمات الغيابية”.

ويشير العبد الله إلى “أمر أساسي” للمحاكمات، ويتعلق بإمكانية الوصول إلى أشخاص متهمين بشكل جسدي، ومن ثم توفر الأدلة والمعطيات الأخرى.

“هوامش وشروط”

في غضون ذلك يقول مدير مركز منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد” “جزء كبير من القصة (المحاكمات الخاصة بالمجرمين في سوريا) يعتمد على شروط معينة”.

ومن هذه الشروط، على حد تعبيره، توافر الرغبة السياسية للدول بأن تلاحق، بالإضافة إلى وجود الضحية والمتهم في نفس الدولة.

ويضيف الأحمد لموقع “الحرة”: “لدينا في المركز الكثير من الضحايا بانتهاكات معينة في سوريا. هم متواجدون في أوروبا، لكن نظام الدول التي يمكثون فيها لا يسمح بهذه المقاضاة، كما أن المتهم ليس موجودا”.

ووفق مدير المركز الحقوقي: ” كل دولة تلاحق أشخاصا معينين. بعض منها يركز على داعش وأخرى على النظام وغير ذلك من الأطراف. القرار السياسي حاسم لملاحقة جميع الأطراف”.

ورغم ذلك، يستبعد الأحمد أن تنتهي محاكمة مجرمي الحرب في أوروبا.

ويؤكد أن “هناك مئات آلاف الضحايا يقيمون في أوروبا وهناك مجرمون يأتون أيضا، وبالتالي يجب أن يكون هناك وقت مناسب لجمع الأدلة، وبعد ذلك الإطار القانوني الذي يسمح بالملاحقة”.

كيف تنطلق المحاكمات؟

يوضح عضو مكتب “جيرنيكا 37” للعدالة الدولية في لندن، إبراهيم علبي، أن الدول الأوروبية لديها “استقلال في القضاء وفصل بين السلطات”.

وغالبا ما تتحرك الشرطة والادعاء عندما تكون هناك مصلحة عامة، ويقول العلبي: “هذه المصلحة تتعلق بسؤال: هل هناك جهوزية لإنفاق الأموال على قضية ما أم لا؟”، مضيفا “هي تتأثر أيضا بسياسة البلد وضغط المنظمات الحقوقية”.

كما تتأثر بأمور تقنية مثل وجود الضحية والأدلة والمتهم في الدولة التي تريد أن تفتح المحاكمة، فضلا عن أسئلة كـ”هل هناك وصول لأي مستمسك؟ من هو الشخص المتهم؟ وهل هناك أي إشكالية سياسية تتعلق به؟”.

ووفق العلبي “يجب التفريق بين المحاكمات التي تحصل، حيث قسم منها يتعلق بجرائم حرب، وأخرى ترتبط بقوانين الإرهاب. هذان الأمران مختلفان، ولكل منهما جهاز شرطة وادعاء خاص”.

ويتابع: “مقاتلو أحرار الشام وجبهة النصرة أدينوا في الغالب بجرائم إرهاب مع أن أفعالهم جرائم حرب. بينما قضية رسلان فأدرجت ضمن جرائم ضد الإنسانية”، مشيرا إلى أن “تكلفة كوبلنز ليست سهلة وقد تكون بالملايين بين قضاة ومحامين وقاعات. شروطها توفرت من متهم موجود وضحايا موجودين، لتدخل بعد ذلك الرغبة السياسية”.

ضياء عودة – إسطنبول

—————————

نيويورك تايمز: محاكمة أنور رسلان إدانة مهمة للعنف الذي يمارسه النظام السوري

ترجمة: ربى خدام الجامع

عندما يصل المعتقلون إلى فرع الأمن في سوريا، “يرحب” بهم الفرع بساعة من الضرب والجلد بحسب ما ذكروا أمام محكمة ألمانية.

كانوا يحتجزونهم في زنازين ضيقة وحارة ومزدحمة، ويطعمونهم بطاطا بطعم المازوت، ويشربون من مياه المرحاض. يتذكر أحدهم كيف كان يمر بالجثث المرمية في الممر، في حين ذكرت امرأة بأن المحققين صعقوا يديها وساقيها وصدرها بالكهرباء في أثناء الاستجواب.

في أول محاكمة في العالم لمقاضاة التعذيب الذي تمارسه الدولة في سوريا، دانت محكمة ألمانية في كوبلنز يوم الخميس الماضي مسؤولاً سابقاً في المخابرات كان يضطلع بمهام ذلك الفرع الأمني، ألا وهو فرع الخطيب سيئ الصيت بدمشق، وذلك لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، وحكمت عليه بالسجن المؤبد.

وقد ورد في الحكم الصادر بأن الضابط السابق أنور رسلان البالغ من العمر 58 عاماً أشرف على عمليات التعذيب والقتل التي تعرض لها ما لا يقل عن 27 سجيناً، بالإضافة إلى إشرافه على انتهاكات جنسية “خاصة الاغتصاب الشديد” بحق المعتقلين.

محاكمة كوبلنز.. وما يطلبه السوريون

وقد رحب محامون مختصون بحقوق الإنسان وناجون سوريون بهذا الحكم واعتبروه خطوة مهمة على طريق سعي الدول كافة لمحاسبة من ارتكبوا جرائم حرب خلال السنوات التي تكاد تصل إلى إحدى عشرة في الحرب السورية. كما أن هذا الحكم مثل سابقة في محاكمة مجرمين خارج سوريا، إذ كانت تلك المرة الأولى التي يتم من خلالها استهداف فظائع وجرائم ارتكبها نظام ما يزال في السلطة، وذلك بحسب ما ذكرته ستيفاني بوك مديرة المركز الدولي لأبحاث وتوثيق محاكمات جرائم الحرب التابع لجامعة ماربورغ بألمانيا، حيث قالت: “كان ذلك الحكم بالغاً في الأهمية، والرسالة التي يوجهها هي أنه لم يعد هنالك أي ملاذ آمن لمجرمي الحرب، وإنها لإشارة واضحة بأن العالم لن يقف متفرجاً من دون أن يفعل أي شيء تجاههم”.

غير أن هذا الحكم يسلط الضوء على التقصير الصارخ في الجهود الدولية التي يجب أن تسعى لمحاكمة مجرمي الحرب في دول مثل سوريا، فأنور رسلان الذي خدم كعميد في جهاز المخابرات السوري لم يكن أكثر من جزء صغير من آلة القمع الكبيرة في سوريا، فهنالك الكثير من السوريين الذين يتمتعون بنفوذ وقوة أكبر من تلك التي تمتع بها أنور رسلان، وهؤلاء متهمون ليس فقط بارتكاب جرائم على نطاق واسع، بل أيضاً بوضع سياسات أدت إلى قتل المدنيين بصورة جماعية، وما يزال هؤلاء يعيشون أحراراً في سوريا، بينهم المستبد الذي يحكمها، أي بشار الأسد.

تقول لينا محمد التي أدلت بشهادتها حول احتجازها في عام 2012 في الفرع الذي كان أنور رسلان مسؤولاً عنه: “سؤالي هو: هل تلك هي العدالة التي ننشدها؟ إن العدالة التي أنشدها بصراحة تتمثل بمحاكمة بشار نفسه وأعوانه الذين ما يزالون يرتكبون جرائم مروعة”.

غادر أنور رسلان سوريا في عام 2012، أي في السنة الثانية للحرب، وانضم إلى صفوف المعارضة السياسية التي ساعدته على تأمين تأشيرة للسفر إلى ألمانيا في عام 2014. إلا أن الحرب في سوريا بقيت تستعر لسنوات أخرى، حيث استخدمت قوات النظام الغاز السام خلالها، كما فرضت حصاراً أدى إلى تجويع الناس في المناطق الثائرة، واستحالت الأحياء السكنية إلى ركام بسبب حملات القصف التي استهدفتها.

كما أن كلاً من الثوار الذين حاولوا ولكن فشلوا في إسقاط بشار الأسد، والجهاديين في تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية الذين استغلوا الفوضى الحاصلة بسبب النزاع، ارتكبوا جرائم حرب هم أيضاً.

غير أن حفنة قليلة من مرتكبي تلك الجرائم من كل الأطراف تجري محاكمتها.

ويرى الخبراء بأن أحد أسباب ذلك تعود إلى أنه بخلاف كبار النازيين بعد الحرب العالمية الثانية أو المسؤولين الروانديين الذين أدينوا بارتكاب جرائم، بقي النظام السوري الذي تعتبر أجهزته العسكرية والأمنية مسؤولة عن ارتكاب كم كبير من العنف في البلاد، في السلطة، فحصن بذلك قادته وضباطه من أي خوف ممكن أن يشعروا به حيال ذلك.

ثم إن بشار الأسد وكبار مستشاريه وقادته العسكريين نادراً ما يسافرون خارج البلاد، وإن حدث وسافروا، فلن يسافروا إلا إلى دول يضمنون عدم اعتقالها لهم، مثل روسيا التي تعتبر أقوى داعم لبشار الأسد.

أما السبل الأخرى التي يمكن أن تحقق العدالة فباتت كلها مقطوعة، وذلك لأن سوريا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، ولقد استخدمت روسيا والصين حق النقض لدى مجلس الأمن الدولي لمنع إحالة الملف السوري إلى تلك المحكمة.

وبسبب ذلك، أخذ ضحايا النظام السوري والمحامون المتخصصون بحقوق الإنسان يركزون جهودهم في الدول التي تقبل “الولاية القضائية الشاملة”، أي ذلك المبدأ الذي يشترط أنه في حال وقوع جرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة، عندئذ يمكن تجاوز القيود الإقليمية العادية بالنسبة للملاحقة القضائية.

وبفضل تاريخها مع النازية، أصبحت ألمانيا أول سبيل ممكن بالنسبة لتلك الملاحقات القضائية، كما أنها تؤوي الآلاف من اللاجئين السوريين، ما جعلها تمثل محور الجهود الساعية لمقاضاة المسؤولين السوريين.

غالبية اللاجئين السوريين الذين وصلوا إلى ألمانيا في عام 2015 و2016 هربوا من قوات بشار الأسد، إلا أن بعضاً منهم، من أمثال أنور رسلان، خدموا في جيش بشار ولدى أجهزته الأمنية.

ولذلك بنى المدعون العامون في ألمانيا أساس قضيتهم المرفوعة ضد أنور رسلان بمساعدة العشرات من الشهود السوريين في ألمانيا وغيرها، كما أجروا تحقيقاً منفصلاً جمعوا من خلاله أدلة على مدار عقد كامل من الزمان وذلك حتى يتبين لهم ما تمارسه الدولة في سوريا من أعمال في الداخل، إلى جانب التعرف إلى بنية وتسلسل القيادة فيها.

تعود فكرة الولاية القضائية الشاملة إلى محاكمات نورمبيرغ التي أقامها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمقاضاة من نجوا من أفراد النظام النازي. كما استعانت إسرائيل بالولاية القضائية الشاملة في المحاكمة التي أجرتها في عام 1961 لضابط نازي سابق اسمه أدولف أيخمان، وكذلك فعلت إسبانيا في عام 1998 وذلك عندما طالبت بريطانيا بإلقاء القبض على الجنرال أوغستو بينوتشيه ديكتاتور تشيلي السابق.

محاكمات كوبلنز خطوة على طريق الألف ميل

عالجت القضايا السابقة التي اعتمدت على الولاية القضائية الشاملة في ألمانيا الجرائم المرتكبة في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وخلال فترة قريبة تعاملت مع المجزرة التي جرت بحق اليزيديين في العراق على يد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية.

أما بالنسبة لسوريا، فترى ستيفاني بوك بأن الحكم الذي صدر يوم الخميس الماضي ما هو إلا جزء يسير من العمل الكثير الذي ينتظرنا من أجل تحقيق العدالة، وتعلق على ذلك بقولها: “مع الوقت ستظهر الحاجة إلى لجنة تقوم بتقصي الحقائق وآليات بديلة للتعامل مع كل أنواع المظالم، أي علينا أن نفكر على المدى البعيد”.

خضع لمحاكمات نورمبيرغ أهم رموز النظام النازي، كما خضع لها أيضاً عدد من الأفراد الذين لعبوا أدواراً مهمة في عملية القمع النازية، كان بينهم أطباء ورجال أعمال وموظفون وإعلاميون، بحسب ما ذكر فولفغانغ كاليك مؤسس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي مثل الضحايا في محاكمة أنور رسلان، ويعلق هذا الرجل على ذلك بالقول: “إن ذلك ما ساعدنا على إلقاء نظرة على كامل الجهاز الذي قام بالمحرقة” وأضاف بأن محاكمة أنور رسلان: “هي أول خطوة في محاولتنا للتعرف إلى الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد”.

يذكر أن هنالك دعاوى أخرى قيد التحضير، فقد وجهت اتهامات إلى طبيب سوري بتعذيب المعتقلين في سجن عسكري سري وقتل ما لا يقل عن شخص واحد منهم، وهذه القضية ستبدأ المحاكمة فيها في ألمانيا قريباً بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية والتسبب بضرر جسدي بالغ.

اعترف محامو حقوق الإنسان بأن تلك القضايا لم تستهدف حتى الآن سوى مسؤولين سوريين من ذوي الرتب المتدنية أو المتوسطة وكذلك استهدفت مجرد جنود عاديين، إلا أن محاكمة هؤلاء يمكن أن تسهل محاكمة ضباط أرفع رتبة مستقبلاً، وذلك عبر تقديم الوثائق وإفادات الشهود والاطلاع على العمليات التي تقوم بها الدولة في سوريا والتي ستسجل كلها في سجل المحكمة برأي فولفغانغ كاليك، الذي قال: “إن لم تبدأ الآن، فلن تصل إلى بشار الأسد وكبار ضباط المخابرات لديه حتى بعد عشر سنوات، وذلك لعدم وجود أدلة بين يديك”.

وقد أثار الحكم مشاعر متضاربة بين السوريين الذين تعرضوا لانتهاكات في السجون بسوريا، حتى أولئك الذين عانوا من تلك الانتهاكات على يد أنور رسلان نفسه.

في حين ابتهج كثيرون لدى معرفتهم بأن الرجل الذي أشرف على عمليات التحقيق لدى أحد فروع الأمن بدمشق أصبح يقف في قفص الاتهام اليوم. إذ يقول مهران عيون الذي اعتقل مرتين في السنوات الأولى للحرب: “هذا الرجل الذي اعتبر نفسه طاغية في يوم من الأيام ورئيس فرع قوي وصاحب نفوذ، أصبحت أراه اليوم وهو يقف أمام المحكمة بكل ضعفه وذله، وهكذا أصبح من عذبهم في موقف أقوى من موقفه”.

في حين يأمل آخرون أن يسلط الحكم الصادر بحق أنور رسلان الضوء على الكثير من الجرائم التي ارتكبت خلال الحرب السورية والتي لم ترفع أي دعوى ضدها، وكذلك الأمر بالنسبة للمسؤولين الذين ارتكبوا تلك الجرائم وظلوا طلقاء.

ويقول وسيم مقداد الذي اعتقل أربع مرات في بداية الثورة وقام أنور رسلان بالتحقيق معه بنفسه: “يمثل ذلك بداية الطريق الطويل الذي يتجه نحو إحلال العدالة”.

المصدر: نيويورك تايمز

————————————-

=================

تحديث 19 كانون الثاني 2022

——————

رسالة إلى أنور رسلان: أنت الآن حرّ!/ عبدالناصر العايد

أما وقد صدر حكم القضاء عليك، ووضع سطر تحت حياتك السابقة، كتبت أسفله نتيجتها، وهي السجن المؤبد، فإنني سأكتب لك هذه الرسالة المفتوحة بوصفك إنساناً جمعني به ظرف تاريخي عاصف، غير حياتَينا، وحياة شعبنا ومنطقتنا إلى الأبد، داعياً إياك للإقبال على الحياة.

فسواء كان الحكم الذي أنزل عليك، مستحقاً أم لا، من وجهة نظرك، فإن وجودك على قيد الحياة يستحق منك الامتنان، وعدم ترك نفسك فريسة للعدمية السوداء، والمرء يستطيع تحت كل الظروف أن يفعل شيئاً، ومن كانوا في الزنازين التي كنت تديرها في فرع الخطيب ذات يوم، تمكنوا عبر اختزان بضع ذكريات ومشاهدات، أن يودوا بك وراء القضبان لسنوات طويلة، فلماذا لا تستخدم ذاكرتك لتفتح نافذة على العالم وعلى السوريين وعلى الآتي من التاريخ؟

عندما التقيت بك بوصفي معتقلاً، وبوصفك رئيس قسم التحقيق في فرع الخطيب، في تلك الليلة الباردة من شباط 2011، كنت في قمة مجدك وتثق بأن أقدارك تسوقك إلى المنصب الرفيع الذي تحلم به بلا شك، وهو رئاسة جهاز أمن الدولة في سوريا، بوصفك ألمع ضابط في تلك الإدارة التي خططها حافظ الأسد لتكون من نصيب ضابط سنّي على وجه الحصر. وكنت تحسب خطواتك بمسطرة صارمة، على ما رأيت، وما أظنك تخيلت للحظة، ولا أنا تخيلت، أن أراك بعد عقد من الزمان في صباح  بارد آخر من صباحات كانون الثاني الأوروبية، وراء القضبان، معتقلاً بجهود معتقليك السابقين، وينزل بك قضاة كوبلنز حكمهم المدوي.. الحياة تحتمل الكثير من الخيال، أكثر مما نتخيل بكثير.

بدأت حياتك في بلدة الحولة كـ”ابن ضيعة”، طموح وجاد. دراستك للفرع الأدبي قادتك بعد الثانوية إلى كلية الحقوق، وتخرجت بلا تأخير. أُعلنت فجأة دورة لمدراء النواحي في كلية الشرطة، فقُبلت فيها بفضل القسمة الطائفية التي أرساها حافظ الأسد، فوزارة الداخلية هي جائزة تعويض للسنّة، نظير استئثار العلويين بالجيش وأجهزة الأمن.

اغتنمتَ الفرصة التي جاد بها القدر، ودرست بجد لتتخرج بمرتبة “ميجور” دورتك، وبينما تم فرز رفاقك قليلي العدد إلى شرطة المرور والأمن الجنائي والسياسي وغيره، استُبقيت أنت في كلية الشرطة كمدرّب، وهذا لم يكن جيداً بالنسبة إليك، فهو يعني أنك ستبقى في وظيفة تكرارية مملة حتى تبلغ رتبة الرائد، فتُفرز حينها كمدير ناحية في إحدى المناطق السورية المترامية.

عندما بلغت رتبة النقيب، قرر شخص ما في مُخيخ النظام، تطعيم الأجهزة الأمنية بدماء جديدة، واختيرت حفنة من الضباط الأكثر ولاء، وفق تقسيم عشائري، بالنسبة للطائفة العلوية، وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من الضباط الشبان السنّة والدروز والمسيحيين، من الأكثر كفاءة، وكنتَ أحدهم.

لم تفوِّت هذه الفرصة أيضاً، وسرعان ما أصبحت الضابط الأكفأ في قسم التحقيقات بفرع الخطيب، ثم رئيس القسم. كيف حدث هذا؟ في الواقع يصعب عليّ تصوّر أنك توصلت لنتائج مهمة من تحقيقاتك بأساليب عقلية محضة، ولا يخامرني الشك في كونك استخدمتَ التعذيب. لكن إسناد قضايا عالية الأهمية والتعقيد إليك، مثل التحقيق في اغتيال عماد مغنية، واغتيال العميد محمد كامل مستشار بشار الأسد، يوحي أيضاً بأنك لم تكن تستنبط كل نتائج تحقيقاتك بالكابل الرباعي، كان لديك عقل أمني ممتاز.

بحثتُ مع زملاء لك انشقوا أيضاً، في ما إذا كنت مرتشياً، فنفوا ذلك بالمطلق، وأكدوا أنك حين غادرت موقعك لم تكن تملك ولو جزءاً يسيراً من الثروات التي يتمتع بها أمثالك، والشهود القلائل الذين قالوا إنك ساعدتهم، والمُدّعون أيضاً، لم يذكروا شيئاً من هذا. كنت تكتفي بالميزات التي يمنحك إياها موقعك الحساس، وهي ليست قليلة على كل حال، لكنها ليست غنيمة أيضاً.

كنتَ تسعى إلى القوة والسلطة والمجد، لكن في زنازين فرع الخطيب، ومن معرفتي الشخصية بك، أشك في أنك كنت تقبل بأن ينتزعَ اعترافاتِ مطلوبٍ ما، عنصرٌ في الطبقة القائمة أسفل مكتبك، ليرفعها إليك في تقرير، كما أشرت أنت إلى ذلك في المحكمة. اهتمامك الشخصي يمنعك من ذلك. وقد أخبرني منشقون آخرون، أنك كنت تغادر الفرع إلى بيتك، مرة كل ثلاثة أيام، لمدة ساعات فقط، وتقضي ما تبقى في عملك التحقيقي الدؤوب الذي كان يقطف ثمراته في النهاية مديرُك اللواء توفيق يونس. أسلوب عملك هذا، الذي يقتضي إلماماً شديداً بأدق تفاصيل القضايا التي تنظر فيها، يوحي، في آن واحد، بالمثالية والساديّة، ما يجعل احتمال لجوئك لتعذيب المعتقلين عالياً.

لا يمكنني الجزم بصحة روايتك التي سردتها، في بيانك الختامي في محكمة كوبلنز، بتقييد صلاحياتك إبان الثورة. ثمّة من قال إنك عذبته، ولا أستطيع تحديد دوافعك للانشقاق. لكن ما أنا على يقين عالٍ منه، أنك أدرت ظهرك للنظام يوم انشققت عنه، بشكل كامل، وأن أقصى أمانيك كانت أن تنجو من عقاب أجهزته الأمنية ونقمة الثوار، وقد أصبحت في مأمن من الأول، لكنك ذهبت بقدميك إلى السلطة الألمانية التي اعتقلتك وقدمتك للمحاكمة جزاء انتهاكاتك بحق المعتقلين.. الحق حق.. هل ترى؟!

لنعُد إلى لقائنا الأول، في غرفة التحقيق تلك التي ما زالت حتى اليوم تعبق بدماء المعتقلين وتضج بأنينهم. قلتَ لي بأنك كنت تحلم بأن تصبح كاتباً، وأنك في الواقع تفعل ذلك كل يوم في عملك، وأضفت ضاحكاً: لكن.. فيما تحلمون أنتم بانتشار كتاباتكم، نحلم نحن بأن تصنف كتاباتنا تحت بند “سري للغاية”. وانظُر الآن، ها هي الحياة تواصل كرمها معك، وتمنحك الفرصة التي يحلم بها أعظم الكتّاب: قضية كبرى، شهرة بلغت حد العالمية، تجربة عميقة في سراديب واحد من أخطر الأماكن في العالم، حدث مثير واستثنائي، ولغز لا أحد يفككه سواك، هو لغز هذا الكيان المرعب “مخابرات نظام الأسد”.

عندما دعوتك لكتابة وإعلان تاريخك في أجهزة الأمن عقب انشقاقك، تذرعت بالفرصة والوقت، وأعتقد أنك قصدت الشعور بالأمان والاستقرار. وها أن لديك وفرة من ذلك كله، خمس عشرة سنة، مكتب منعزل وآمن، دفء وطعام أفضل بكثير من ذاك الذي كنت تطعمنا إياه في زنازين فرع الخطيب، وذاكرة متقدة إلى جانب قدرة استثنائية على التحليل والربط، فماذا تريد أكثر من ذلك؟ وما الذي يمنعك من وضع شهادتك الحيّة عن الجوهر الصلب لواحد من أسوأ الأنظمة التي عرفها عالمنا؟

لقد تمّ الاقتصاص منك، ولم يبق لأحد شيء في حسابك، وأنت الآن في السجن حرّ، فلا تكن جَحوداً لما حبتك به أقدارك، وأتمم واجبك، الذي قد لا يكون الأخير.

المدن

————————

الأسد ينقذنا من خيار رهيب/ روبرت فورد

من السهل الترحيب بقرار المحكمة في «كوبلنز» الألمانية، الذي أدان أنور رسلان، بالمسؤولية عن التعذيب والاغتصاب والقتل في «الفرع 251» في المخابرات السورية في دمشق. عندما كنت سفيراً في دمشق، سمعت من السوريين عن مراكز الاعتقال العديدة، من بينها «الفرع 251». كنا نعرف «نظرياً» عن إساءة معاملة السجناء، لكن بعد اطلاعي على صور «قيصر»، بدأت أدرك مدى الوحشية الهائلة. أدانت محكمة كوبلنز عقيد الاستخبارات العامة السورية المذكور بالتورط في 27 قضية تعذيب واغتصاب وقتل في «الفرع 251». جدير بالذكر أن خبيراً ألمانياً في تحديد الأدلة أبلغ المحكمة أن 110 ضحايا من بين 6786 قتيلاً ضمن صور «قيصر» يبدو أنهم من «الفرع 251» استناداً جزئياً إلى الرقم المكتوب على أجسادهم.

في عام 2022، حتى الموالون للحكومة لا يجادلون في وحشية النظام. ولا يستطيع الموالون الرد إلا بأن المعارضة و«داعش» يسيئون معاملة المعتقلين؛ سواءً بسواء. بيد أن حجم جرائم القتل والإساءة في المراكز الحكومية يتجاوز بكثير الانتهاكات المرتكبة لدى المعارضة أو «داعش». وإحدى المشكلات التي تكتنف النقاش حول سوريا أنه غالباً ما تعد المعارضة سيئة بالقدر نفسه، ومسؤولة بالمستوى نفسه عن المأساة. وتذكرنا محاكمة «كوبلنز» بأن المأساة في سوريا في واقع الأمر هي بالأساس مسؤولية الحكومة السورية. وأشادت مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ميشيل باشيليه، بقرار المحكمة، قائلة إنه خطوة رئيسية نحو الحقيقة والعدالة والتعويض عن الانتهاكات في سوريا. وقال أحد الضحايا خارج دار المحكمة لصحيفة «الإندبندنت» البريطانية، في 13 يناير (كانون الثاني)، إن قرار المحكمة يخبر كل سياسي وضابط أمن في سوريا يرتكب انتهاكات بأنه «لا يمكنك التهرب من العدالة، وستخضع للمساءلة يوماً ما».

لا شك في أن الرئيس الأسد واللواء حسام لوكا، مدير المخابرات العامة (وبالتالي الفرع 251 من بين مراكز أخرى) وضباط أمن سوريين آخرين، قد استمعوا لهذه الرسالة بوضوح. كما لاحظوا وجهين آخرين للقضية؛ أولاً، قررت المحكمة الألمانية أنه حتى لو لم يكن رسلان نفسه يعذب ويغتصب، فإنه لم يمنع ضباط الأمن الآخرين من الإساءة للسجناء، وبالتالي يتحمل المسؤولية. ولقد رأينا هذا المبدأ أيضاً في محاكمات «نورمبيرغ» لمجرمي الحرب النازيين. ويتحمل الأسد ودائرته المسؤولية بموجب هذا المبدأ. كما لاحظت دمشق أن انشقاق رسلان لم يمنع إصدار الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

وسيكون رد الفعل داخل دمشق واضحاً للغاية: لتفادي المساءلة والسجن، سوف ترفض دمشق التنازلات أو المهادنات مثل ما تطالب به عقوبات «قانون قيصر» الأميركي، لأن القادة سيخشون أكثر من العدالة يوماً ما. ويجب أن نكون صرحاء ونقول الحقيقة: يسهل فهم ودعم الإصرار على تحقيق العدالة في الجرائم المرتكبة في سوريا، غير أن هذا الإصرار يجعل التوصل إلى حل سياسي تفاوضي للحرب أمراً مستحيلاً. ولن يستسلم الأسد والمقربون منه، ويقبلون بمحاكمات مثل «كوبلنز». إضافة إلى ذلك، لا يمكنهم تسليم بعض ضباطهم من المستوى الأدنى لمواجهة المحاكمات، لأنهم سيخاطرون بالتمرد داخل قواتهم الأمنية. والخيار الوحيد المتاح أمام الحكومة هو السيطرة الكاملة على بقايا سوريا والتهرب من العدالة. وقد رحب فريق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بقرار «كوبلنز»، ولكن ربما أدرك الفريق السياسي التابع للأمم المتحدة بقيادة غير بيدرسون، أن عملهم أصبح الآن أكثر صعوبة من أي وقت سابق.

لقد أصدر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، عام 1999، عفواً عن قوات الأمن والجماعات الإسلامية المسلحة، وحتى عن الجماعات الإرهابية التي كانت مسؤولة عن الفظائع التي ارتكبت خلال الحرب الأهلية هناك. وقد وسع قاعدة العفو عام 2005، ومن السهل انتقاد بوتفليقة الآن. لقد مكث طويلاً في مقعد الرئاسة. كما تشكو منظمات حقوق الإنسان الغربية من أن العفو سمح للمسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان في حرب الجزائر بالإفلات من العدالة. وهم محقون في ذلك. ولكن يجب علينا الاعتراف أيضاً بأن العفو ساهم في التخفيف من حدة القتال في الجزائر بعد سنوات من القتل والعنف الشديد. وتجدر الإشارة إلى أن الجيش الجزائري حقق نصراً عسكرياً في الحرب، لكنه طالب بعفو لحماية ضباطه قانونياً بعد ذلك.

بطبيعة الحال، من المستحيل تصور أن الحكومة السورية وقواتها الأمنية قد تثق في أي وقت مضى بعرض الحصانة أو تحترم العفو.

ولن يثق الأسد ومساعدوه أبداً بمصيرهم إزاء وعود الآخرين، ولا حتى من الرئيس الروسي بوتين أو المرشد الأعلى خامنئي. وبدلاً من ذلك، تقوم قوات الأمن باغتيال مقاتلي المعارضة المسلحة الذين وافقوا على المصالحة، لأن قوات الأمن تخشى ثورة أخرى ومواجهة العدالة في نهاية المطاف. أخيراً، فإن عناد الحكومة السورية وخوفها يتيحان لنا الفرصة للإفلات من الخيار الرهيب: بين المطالبة بالعدالة للجميع أو قبول تسوية سياسية تفاوضية لا بد أن تتضمن العفو.

* خاص بـ«الشرق الأوسط»

—————————-

أسئلة على هامش محاكمة أنور رسلان/ رياض معسعس

حققت ألمانيا، لا شك، في حكمها على ضابط مخابرات النظام السوري السابق أنور رسلان مركزا عالميا في العدالة الدولية سيبقى ذكره في التاريخ القضائي والقانوني، وسابقة يبنى عليها ومثالا يحتذى به في محاكمة مجرمي الحرب، وضد الإنسانية في مواقع وأزمنة لاحقة.

لقد جاء الحكم بالسجن مدى الحياة على رسلان كبلسم لكل ضحايا المحكوم، وكل الذين كانوا ضحايا من قبل الآلاف من مخابرات النظام الذين ارتكبوا أبشع المجازر والانتهاكات بحق الشعب السوري. كونه، كما يؤمل أن يكون، الأول في سبحة تكر حباتها واحدة تلو الأخرى، خاصة وأن محاكمة ثانية في ألمانيا ينتظرها الجميع أيضا هي محاكمة الطبيب (علاء موسى) المتهم أيضا بجرائم ضد الإنسانية والذي كان يعذب المرضى ويقتلهم في مستشفى حمص العسكري.

ومن المعلوم أن عددا من أفراد مخابرات النظام كانوا قد هربوا (وليس انشقوا) في بداية الثورة ظنا منهم أن النظام على وشك السقوط، وبالتالي من الأفضل الهرب قبل غرق المركب، أو شعروا أنهم كانوا مهددين بحياتهم من قبل النظام نفسه كحالة رسلان، وهم متواجدون في أكثر من بلد تحت عباءة اللجوء، وربما بهويات مختلفة بانتظار التعرف عليهم.

لقد استطاع رسلان الحصول على اللجوء في ألمانيا دون أن تكون للسلطات الألمانية إحاطة كاملة بشخصيته لولا أن المحامي السوري المقيم في ألمانيا أنور البني (وهو أحد ضحاياه) قد تعرف عليه صدفة وقدم دعوى قضائية ضده، وتم إلقاء القبض عليه ومحاكمته بعد سماع إفادات لأكثر من ثمانين شاهدا، ودراسة صور ووثائق تقدم بها الكثير من الضحايا.

الحكم والمعارضة

من الغريب في أمر الحكم على رسلان الذي لاقى ترحيبا من كل منظمات حقوق الإنسان، أن الائتلاف الوطني السوري لم يصدر أي بيان بهذا الخصوص الذي من المفترض أن يصرح عن موقفه عن هذا الحدث السوري الهام، والدولي أيضا، ويهنئ الشعب السوري بمحاكمة أحد جلاديه.

فما هو السبب؟ هل هو عدم موافقة الائتلاف على هذا الحكم؟ هل لأن رسلان كان في وقت مضى ضمن وفود المعارضة؟ من غرائب الأمور أن المحكوم عليه مدى الحياة أنور رسلان بجرائم ضد الإنسانية، كان قد هرب إلى الأردن بداية، وقام رئيس الائتلاف الوطني آنئذ باصطحابه إلى جنيف حيث تم ضمه كعضو في الائتلاف، بل وكمستشار عسكري ضمن الوفد المفاوض في محادثات جنيف2 في العام 2014.

فلماذا لم يتساءل أقطاب المعارضة عن ماضيه مثلا، أو يتحروا عنه، ولماذا لم يطلبوا منه أي معلومات أو ملفات إذا كان أفصح عن هويته الفعلية؟ أو على أقل تقدير توثيق جميع أسماء الذين تقع عليهم المسؤولية في قتل وتعذيب مئات آلاف السوريين حتى تتم محاكمتهم يوما ما. فضابط رفيع المستوى، ومسؤول عن قسم التحقيقات في فرع الخطيب 251، خلال فترة تنوف عن العقدين لا بد وأنه يمتلك معلومات وملفات بانتهاكات خطيرة جدا ضد السوريين الذين مروا على هذا الفرع، وغيره هذا الفرع، فالفروع الأمنية انتشرت في كل أنحاء المدن السورية منذ أكثر من نصف قرن في عهد حكم العائلة الأسدية التي أجرمت بحق مئات الآلاف الذين تم اعتقالهم بدون سبب، سوى أنهم عارضوا النظام، وطالبوا بالحرية والكرامة، منهم من قتل تحت التعذيب، ومنهم من خرج بعاهات جسدية وعقلية جسيمة، ومنهم مازال مفقودا، (كما فعل مصور جثث القتلى تحت التعذيب في أحد فروع المخابرات ” قيصر” الذي وثق بالصور كل الانتهاكات بحق المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب وكان سببا في إصدار “قانون قيصر” الذي فرض عقوبات على النظام السوري). لأن مثل هذه الوثائق يمكن أن يستند عليها في محاكمات لاحقة، فإذا كان رسلان فعلا يريد أن يساعد السوريين كما قال في مرافعته أمام المحكمة، لكان قدم كل ما بحوزته من معلومات حول انتهاكات النظام، وكان في الوقت نفسه أنقذ نفسه من حكم بالسجن مدى الحياة.

فما السبب؟ هل لأنه ظن أن ضحاياه لن يغفروا له جرائمه لأن كل الوثائق والشهادات التي كانت بحوزة المحكمة تؤكد أنه اقترف جرائم ضد الإنسانية ككل الذين عملوا في أقبية النظام الأمنية، إذ لا يمكن لمحكمة في دولة قانون كألمانيا أن تحكم عليه بأقسى حكم في القانون الألماني لو أنها لا تملك كل ما يبرر هذا الحكم.

من ناحية أخرى وفي مرافعته لم يذكر مرة واحدة النظام أو يدينه برمته بل فقط أشار إلى مسؤولية الضابطين العلويين رفيعي المستوى توفيق يونس، وحافظ مخلوف اللذين كانا المسؤولين في الفرع وحملهما مسؤولية الانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال الثورة.

فهل يعقل أن مسؤولا عن ملف التحقيقات في هذا الفرع السيئ الصيت، وخلال فترة امتدت لمدة تنوف عن العقدين لم يرتكب أي جريمة خاصة وأن رؤساءه كانوا يقومون بتعذيب وقتل المعتقلين بأنفسهم، ويطالبون من كل من عمل في الفرع أن يقوموا بهذه الانتهاكات، فلماذا سيستثني المسؤول الأول عن التحقيقات من ممارسة هذه الأفعال البربرية.

تقارير منظمات دولية

لقد قدمت محكمة كوبلنز دليلا آخر قاطعا وأمام العالم أجمع بمدى وحشية النظام السوري عبر اعترافات أحد أعوانه، يضاف إلى تقارير منظمات دولية أدانته في قتل وتعذيب عشرات الآلاف في سجون صيدنايا، وتدمر، وعدرا، والمزة، ومئات مراكز الاعتقال.

وكل التقارير التي قدمتها فرق البحث عن استخدام الأسلحة الكيميائية أكدت استخدام النظام عشرات المرات الأسلحة الكيميائية المحرمة دوليا ضد السكان المدنيين وخاصة في الغوطة، وخان شيخون، ودوما، وخان العسل التي ضربت بغاز السارين والخردل، عدا عن عشرات ضربات أخرى في مناطق مختلفة بغاز الكلور، والتي أدت جميعها إلى اختناق مئات الأطفال عدا البالغين.

هذه المحاكمة تضع، وبطريقة غير مباشرة، دولا تعمل على إعادة تأهيل نظام الأسد، كدول عربية أعادت علاقتها معه، أو دول أجنبية تفكر بفك الحصار عنه محط سؤال صعب كتربيع الدائرة: كيف يمكن التعامل مع نظام قام بانتهاكات جسيمة ضد الإنسانية لا تعد ولا تحصى ضد شعب بأكمله، ودمر سوريا، وهجر نصف سكانها، ولا يزال يمارس هذه الانتهاكات ويحتجز أكثر من مئة ألف معتقل إلى يومنا هذا، وقد وثقت انتهاكاته بطريقة لا تدعو مجالا للشك من مقابر جماعية، وإحراق جثث المقتولين تحت التعذيب، وارتكاب مجازر جماعية، واغتصاب، واغتيالات سياسية، وتصدير مخدرات، ونحن كدول ديمقراطية تدافع عن حقوق الإنسان، وفي الوقت نفسه نحاكم مجرميه في محاكمنا ونحكم عليهم بأقسى أنواع العقاب؟

كاتب سوري

القدس العربي

———————

محاكمة أنور رسلان .. عودة إلى “تفاهة الشر”/ شورش درويش

في كتابها الأشهر “أيخمان في القدس .. تفاهة الشر” (ترجمة أحمد زعزع، دار الساقي، بيروت، 2018)، حاكت المفكّرة الألمانية الأميركية حنّة أرندت سرديّة خارجة عن مألوف المحاكمات التي طاولت أقطاب النازيّة، ابتداءً بالمشهديّة والبعد المسرحي لجلسات محاكمة النازيّ أدولف أيخمان في “بيث هاميشباث” (بيت العدل في القدس)، مروراً بمعالجة سياسة الحل النهائيّ الذي اضطلع بجزء منها المتهم، ووصولاً إلى الحكم النهائي/ الإعدام. وفيما ذاع صيت عبارتها الأشهر التي تحدّثت فيها عن “تفاهة الشر” الناجم عن فشل المجرم في التفكير، فإنّها جوبهت ووصمت بـ”كراهية الذات”، نظراً إلى ما أعلنته من تفاهة أيخمان، وأن ارتكاباته وفظائعه ما كانت إلّا جزءاً من طموحٍ متصلٍ بالترقّي الوظيفيّ، وأن تفاهته كانت المعبر ليصبح لاحقاً من أشهر مجرمي العالم، وهو بذلك لم يجسّد الكراهية والتعطّش للدماء، بل شيئاً أسوأ بكثير، “الطبيعة المتخفّية للشرّ النازيّ”.

تبدو قراءة أرندت شديدة الراهنية في كل ما يتصل بفكرتي الشرّ والعدالة، وكتابها المشار إليه يبقى شديد الالتصاق بمشاهد الطغاة والقتلة داخل أقفاص الاتهام. وإذا كانت محاكمة الطغاة وظهورهم بمنظر بائس قد أعادت الحيوية لقراءة أرندت مرّات عدّة، فإنّ محاكمة الضابط السوري السابق أنور رسلان، في كوبلنز الألمانية، تعيدنا مجدّداً إلى تصفّح تقرير أرندت عن تفاهة الشرّ.

انقسم سوريون، بين نطق الحكم على الرئيس السابق لقسم التحقيق لفرع الخطيب (الفرع 251) في دمشق، العقيد أنور رسلان، بين سعيدين وحزينين. ومشاعر السعادة والحزن تعبر عن انقسام يمكن وصفه بأنّه حسن النيّة، ذلك أن أرندت أنبأتنا بأن العدالة “تسمح بالحزن، لكنها لا تسمح بالغضب”، وسبب الحزن عند بعض السوريين كان لأن الحكم لم يتناسب مع هول ما جرى، فرسلان كان مسؤولاً، وفقاً لقناعة المحكمة، عن موت 27 شخصاً على الأقل، وعن تعذيب آلاف، من بين ذلك أعمال اغتصاب. وكانت السعادة لأنّ المحاكمة الماراثونية التي استمرّت نحو عامين، وامتدت على مدى مائة جلسة استماع، أفضت إلى حكم على المتهم بالسجن المؤبّد، والمؤبّد الألماني 15 عاماً يمضيها السجين في ظروفٍ تراعي الشرط الإنسانيّ.

وجه آخر للانقسام كان بين زاعمين أن العدالة انتقائيّة، لجهة أنّها تنال من مجرمين ينتمون لطائفة معيّنة دون سواها، وهذا تأويلٌ ينطوي، على تهافته، على إحساس مديد بمؤامرة كونيّة على طائفة دون سواها، فيما يبدو الانقسام الأخير بين مؤيّد ورافضٍ لمحاكمة المنشقّين عن النظام، ومعارضة ذلك تعني أن معارضة النظام تجبّ ما قبلها من جرائم وارتكابات، وفي هذا بؤسٌ لا يمكن وصفه سوى أنّه ينمّ عن تصوّراتٍ مشوّهة لمعاني العدالة والمساءلة، كيف لا وقد قفز رسلان من مركب النظام إلى مركب المعارضة بسهولة ورشاقة فائقتين. وخاتل وماطل في موضوع تسليم وثائق فرع الخطيب التي وعد بها معارضين، والأشد مرارةً أنه لم يبدِ ندمه ولم يعترف بجرائمه لا خلال انضمامه للمعارضة “الرسميّة”، ولا عبر جلسات المحاكمة. ولعلّ تصوّر معارضين وافقوا على مضض في قبوله معارضاً يتقاطع مع نظرة رسلان إلى نفسه، إذ إنّه كان “عبد المأمور”، والعبد بوصفه منزوع الإرادة لا يُساءل عمّا اقترفه من جرائم وفظاعات!

لم يبدُر التعاطف مع رسلان وفقاً لمسألةٍ كانت أرندت قد اهتمت بها، وهي علم “الفيزيوغنومي” المنصبّ على الشكل الخارجي الدال على الشخصيّة، ذلك أن شكل رسلان في قفص الاتهام لم يُثر أدنى شفقةٍ تذكر، وزاد في ذلك إصراره على رفض التهم الموجّهة إليه، وعدم قدرته على اختلاق روايةٍ مُحكمةٍ لما جرى، فيما التعاطف بدر من معارضين وجدوا بذرة التعاطف في معلّقاتٍ سياسيةٍ لا قيمة لها، منها ما هو طائفيّ، ومنها ما هو مرتبط بإرجاء تنفيذ العدالة إلى حين محاسبة النظام بكليّته. والأسوأ من ذلك أن رسلان دخل في “مطهر” المعارضة في وقت لاحق، وكأن الاغتسال بماء المعارضة يكفي لأن تُحال الجرائم إلى النظام، لا إلى المسؤولين عن ارتكابها!

قد يمثّل أنور رسلان، في صورةٍ ما، ما قالته حنة أرندت “لم يكن أيخمان شرّيراً حتى، بل أقرب إلى المخيف والمروّع”. كان رسلان مخيفاً ومروّعاً طبقاً لشهادات الناجين وذويهم، ولا تهمّ هنا أيضاً مسألة القول بتفاهة الشر أو اعتبارات الوظيفة في مسار المحاكمات ونطق الحكم تالياً، إذ إن تفاهة أيخمان، أو رسلان، في هذه الأثناء، ومحاججاتهما، لا تعفيانهما من المحاكمة ومن العقاب، على ما قالته أرندت في أيخمان، وما حكمت به المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بحق رسلان.

ينبغي القول إن محاكمة رسلان التي جرت في كوبلنز في جوهرها محاكمة لمسنّن صغير في آلة النظام العقابية في سورية، وهي إلى ذلك محاكمة من نوع خاص لرهط من المعارضين ممن يفتقرون الإحساس بالعدالة. أمّا الأهم فكان ما استبطنه حكم المحكمة، حيث أن العدالة ممكنة وأن ألمانيا لا تصلح لأن تكون أرض الإفلات من العقاب وجنّة الجلّادين والقتلة. وما قاله وزير العدل الألماني ماركو بوشمان إنّ ما حصل يعتبر “عملاً رياديّاً” يساعد السوريين/ الضحايا في تعقّب القتلة والجلّادين في دول ديمقراطية أخرى، في وسع ولايتها القضائية أن تمتد إلى حيث محاسبة مرتكبي جرائم ضد الإنسانيّة.

العربي الجديد

————————–

العدالة الناقصة وسردية المبالغات السورية/ رشا عمران

في سابقة حدثت قبل عدة أعوام رفع مواطن سوري من مدينة حماة دعوى قضائية في المحاكم السويسرية والفرنسية ضد شخص رفعت الأسد (قائد ميليشيا سرايا الدفاع في ثمانينيات القرن الماضي) وشقيق الأسد الأب وعم الأسد الحالي، الدعوى كانت بسبب مسؤولية رفعت والميليشيا التابعة له عن مجازر حماة الشهيرة في تلك الفترة من القرن الماضي، كون صاحب الدعوى أحد الناجين من المجزرة، وكون والده ضحية من الضحايا الذين مورس عليهم أنواع مهولة من العنف والتعذيب علنا، المواطن السوري، الذي نشر شهادته في المحكمة على مواقع التواصل، يعيش في فرنسا، في نفس الدولة التي كانت تستضيف رفعت الأسد، طبعا الدعوى القضائية تلك لم تأت نتيجتها، ذاك أن المحكمة طلبت شهادات أخرى من مواطنين سوريين، لم يأل صاحب القضية جهدا في محاولة إقناع سوريين آخرين متضررين من المجزرة لتقديم شهاداتهم أو تضمينها في الدعوى، وكانت النتيجة أن لا أحد وافق على ذلك، كانت ذريعة معظمهم أنهم خائفون من أن تؤثر خطوة كهذه على ملفات لجوئهم في الاتحاد الأوروبي، الدعوى أغلقت ورفعت الأسد عاش أكثر من خمس سنوات بعدها متنقلا في دول أوروبا حتى حوكم بتهمة التهرب الضريبي بالسجن لسنوات طويلة ومصادرة أملاكه، لكنه استطاع النجاة من الحكم وعاد إلى سوريا عبر المطار، لا عبر طرق التهريب التي اعتادها السوريون بعد 2011، وتناقلت أخبار عودته كل وكالات الأنباء العربية والدولية، من دون أن يعترض طريقه أحد لا السلطات الفرنسية التي حاكمته، ولا الأنتربول الدولي الذي يفترض أن القضية من اختصاصه.

هل لو تقدم (لوبي) سوري متضامن بدعوى مشتركة ضد رفعت الأسد كان سوف يحاكم لارتكابه جرائم حرب بشكل شخصي، أو لدوره في مجازر لاحقة كمجزرة سجن تدمر وغيرها؟ سيبقى هذا السؤال بلا إجابة حتما، إذ إنه حين تاريخ إقامة الدعوى تلك كان السوريون لم يزالوا تحت تأثير الخوف الذي عاشوا فيه طويلا، الخوف من عدم قبول طلبات لجوئهم كان حقيقيا، ذلك أنهم عاشوا عمرا كاملا وهم يخشون عقاب أي تصرف ضد أي أحد من السلطة الحاكمة فما بالكم بشخصية كرفعت الأسد بما له من تاريخ إجرامي يمكنه من الانتقام من أعدائه في أي وقت، كان من الصعب أن تقنع سورياً يعرف مجازر الثمانينيات وهرب من مجازر ما بعد الثورة أن ينسى خوفه كونه في بلد تملك قوانين تحميه من الانتقام وتقدم له كل وسائل الحماية الجسدية والنفسية؛ كما أن ما حدث لاحقا من تمكنه من مغادرة فرنسا والاتحاد الأوروبي رغم الحكم عليه بالسجن يدل على أن العدالة الأوروبية لن تكون منصفة مع ضحاياه، ذلك أن ما يملكه رفعت الأسد الذي خرج من سوريا بصفقة جعلته ينقل معه ما يقارب نصف ميزانية سوريا وقتئذ، يجعله ضمن شبكة مافياوية رأسمالية دولية سوف تقدم له الحماية ضد القانون، أو على الأقل سوف تضمن له مخرجا آمنا كما حدث عند عودته قبل مدة قصيرة.

لا يملك ضابط المخابرات السابق المنشق  أنور رسلان ما يحميه من العقاب، إذ إنه فقد مخالب جبروته ما إن خرج من سوريا منشقا، ولا يملك سلطة رأس المال التي تجعله جزءا من المافيات الدولية لتحميه من أية محاكمة، خصوصا بعد تخليه عن القاعدة الأمنية (النظام السوري وحلفائه) التي كانت تشكل له حماية ما، ولم يثبت (أصدقاء الثورة السورية) أنهم مستعدون لحماية المنشقين عن النظام يوما، لم يثبتوا أنهم أصدقاء أصلا، لذلك لم يخش كثير من السوريين من الإدلاء بشهادات ضده تدينه بما يكفي للحكم عليه بالسجن المؤبد، هل يستحق مثل هذا الحكم؟ بالتأكيد، فالثورة لايمكن أن تجبّ ما قبلها، وهو كان جزءا من منظومة أمنية فاشية لم تتورع عن قتل معارضيها بأي لحظة، كما أنه ظل مدافعا عن النظام الأمني السوري حتى آخر لحظة من دون أن يبرر سبب انشقاقه مادامت المنظومة عادلة كما يراها، وبالتأكيد فإن الحكم عليه ليس متجنيا رغم أنه لم يمارس من التعذيب سوى جزء بسيط مما مورس في معتقلات النظام الأمنية خلال العقد الفائت، لكن من يوافق على تعذيب معتقل سياسي واحد كمن وافق على تعذيب الآلاف، العدد هنا لا معنى له، وبالتأكيد فإن فرحة ضحاياه وعائلاتهم تكفي للثناء على المحاكمة، كل ذلك لا مجال لمناقشته أساسا، لكن دون أن نعتبر ذلك انتصارا عظيما للثورة السورية وللعدالة، ذلك أن محاكمة أنور رسلان من قبل محكمة ألمانية تبدو كما لو أنها غسل ضمير للعدالة الأوروبية والغربية مشابه لاستقبال مئات الآلاف من السوريين اللاجئين، فهذه العدالة لم تقف موقفا واحدا حاسما لمنع النظام السوري من ارتكاب جرائمه، كما أنها لم تتمكن من إيقاف بيع الأسلحة للنظام والميليشيات المنتشرة في سوريا في صفقات التفافية على العقوبات الاقتصادية على النظام، هذه العدالة سمحت لمجرم مثل رفعت الأسد من التنقل بحربة طوال مدة إقامته في أوروبا وسمحت له بالعودة إلى سوريا رغم محاكمته، مثلما سمحت لغيره من مجرمي العالم وناهبي ثروات الشعوب من العيش على أراضيها معززين مكرمين.

والحال أننا نتفهم جميعا، كسوريين، ضرورة أن يشعر أي أحد من المنظومة الفاشية الحاكمة بأنه لن ينجوَ بفعلته وسيحاكم ذات يوم، ولكن أن نهلل لمحاكمة ضابط منشق وبعيد عن سوريا منذ أكثر من ثمانية أعوام بوصفها محاكمة العصر ومفتاح طريق العدالة فهو أمر مبالغ فيه برأيي الشخصي، فالعدالة لن تكون حقيقية ومتاحة إلا بزوال النظام بكل ما فيه، وإنجاز دولة ديموقراطية حديثة تحاكم باسم الشعب السوري وبمحاكم سورية كل من ارتكب جريمة بحق السوريين من أي خلفية كانت، مفتاح طريق العدالة هو زوال النظام، وهو ما أصبح بيد المجتمع الدولي بعد أن حصل ما حصل للثورة السورية، والذي يمتلك وثائق ومستندات تأخذ النظام من رأسه حتى أصغر متعاون معه إلى المقاصل لا إلى السجون، هل سيفعلها المجتمع الدولي؟! هل سيحاكم النظام ورأسه وحلفاءه؟ هل سيحاكم الميليشيات وتجار الموت والممولين للسلاح؟ وربما سيكون السؤال هو: من سيحاكم من ما دام العالم كله تقريبا بات متورطا في الشأن السوري وجاعلا من سوريا بؤرة لتصفية الحسابات وإعادة ترتيب التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية بينما يترك السوريون في مهب الموت والقهر والحزن.

أما الحديث عن رفض محاكمة رسلان نهائيا واعتبارها حدثت لمجرد أنه (سني) فهو من أنواع المبالغات المشابهة لاعتبار محاكمته مفتاح العدالة السورية، والمبالغات والتهويل والتخوين باتت من السرديات اليومية في حياة السوريين التي يمكنها تمييع أية قضية مهما كان شأنها مهمًا.

وبالمناسبة هل فكر السوريون بتشكيل لوبي قضائي كبير يجمع شهادات سوريي الخارج والمخيمات لرفع قضية جماعية ضد بشار الأسد تحديدا كونه المسؤول الأول والمباشر عن كل الجرام المرتكبة في سوريا منذ عشر سنوات وحتى الآن؟ أليست دعوى قضائية كهذه يمكنها أن تكون هي البداية الحقيقية لتأسيس عدالة سرية يبنى عليها لاحقا؟

تلفزيون سوريا

—————————–

رسلان بداية.. بيان محكمة كوبلنز يشير إلى هرم منظم لارتكاب الجرائم في سوريا

تلفزيون سوريا ـ عبد الناصر القادري

أسئلة كثيرة أثيرت حول محاكمة أنور رسلان الضابط في جهاز الاستخبارات السابق في نظام الأسد، بعد إدانته من قبل محكمة ألمانية، بالسجن مدى الحياة لارتكابه جرائم ضد الإنسانية في سوريا.

وبعد ذلك الحكم، ما هو انعكاسه على سير العدالة فيما يخص القضية السورية، وما إمكانية أن تحمل المحاكمة أبعاداً أخرى، باعتبار أن نظام الأسد ما زال متمسكاً بالسلطة بعد كل الجرائم المتهم بارتكابها، ويسيطر على مساحة واسعة من البلاد، وملايين اللاجئين والمهجرين وآلاف المعتقلين، في ظل انسداد أفق الحل السياسي، وهل هي حقاً بداية لمشوار طويل مقبل في المحاكم الأوروبية أو الدولية؟

سجن مدى الحياة

ويوم الخميس الماضي، (13 كانون الثاني 2022) قضت محكمة كوبلنز، بعد جلسات ماراثونية طويلة، على أنور رسلان، بالسجن مدى الحياة لإدانته بارتكاب جرائم تعذيب وقتل بحق معتقلين سوريين.

وعُدت المحاكمة سابقة عالمية في محاسبة أحد المنتسبين لنظام الأسد على جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، باعتبار أن المحكمة اعتمدت على شهادات الشهود قبل إدانة رسلان في التهم الموجهة إليه، والتي حصرت في “ارتكاب جريمة ضد الإنسانية، على هيئة تسبب في إحداث موت، تعذيب، حرمان من حرية بصورة جسيمة، اغتصاب وإكراه جنسي في اتحاد جرائم مع جريمة قتل، وجرائم اعتداء جسدي خطر، وسلب حرية مستمر، واحتجاز رهائن..” وفق بيان المحكمة الألمانية الذي اطلع تلفزيون سوريا عليه.

وبدأت محاكمة العقيد رسلان في 23 نيسان من العام 2020، بعد اتهامه بالإشراف على قتل 58 شخصاً وتعذيب 4000 آخرين في فرع المخابرات المعروف باسم “فرع الخطيب” بدمشق، خلال الفترة الممتدة ما بين 29 نيسان من العام 2011 وحتى 7 أيلول من العام 2012.

ويشرح بيان المحكمة تفاصيل الجرائم التي أدين بها رسلان في فرع الأمن الذي كان يرأس التحقيق فيه، مستعرضاً شهادة 80 شاهداً، إلى جانب معلومات الخبراء، وما تم رفعه من إثباتات وثائقية وإثباتات معاينة.

الضابط السابق رسلان الذي يعتبر نفسه بريئاً من كل التهم الموجهة له، التزم الصمت طوال فترة المحاكمة، ولكن ضابط العمليات الخاصة ومكافحة الإرهاب الذي تلقى تدريبه في روسيا، تحدث بورقة دفاعه التي تلاها محاميه، أنه لم يشارك في قمع التظاهر في الشارع، وأن هذا ليس من اختصاص فرعه الذي كان يترأس قسم التحقيق فيه، قائلاً: إن ما حصل في الحولة ومقتل عدد من أفراد عائلة زوجته، كانت من الأسباب التي دفعته للانشقاق عن النظام واللجوء إلى ألمانيا فيما بعد.

وترى المحكمة أن مغادرة “رسلان” لسوريا لم تكن في حالة اضطرارية كما ادعى، حيث كان بإمكانه المغادرة في وقت مبكر ليتجنب ارتكاب هذه الجرائم.

لقراءة بيان محكمة كوبلنز الألمانية كاملاً باللغة العربية اضغط هنا

https://www.syria.tv/sites/default/files/2022-01/Pressemitteilung_Urteil_gegen_Anwar_R_in_arabischer_Sprache%20%282%29.pdf

ماذا عن العدالة؟

الحكم الذي أدين به رسلان، يفتح الباب مشرعاً أمام جرائم أكبر بكثير ارتكبت وما زالت ترتكب في سوريا على مدار العقد الماضي، ولم يتم إيقافها أو محاولة العمل جدياً على إدانتها وتجريم مرتكبيها سوى عبر البيانات أو التحرك السياسي الذي يبدو أنه فقد الجدوى منه.

ويقول وولفغانغ كاليك، رئيس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي قاد قضية رسلان، إنه “من الصعب الحديث عن العدالة نظراً لتعذيب مئات الآلاف من الأشخاص وموت عشرات الآلاف نتيجة لذلك”، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.

في حين قال باتريك كروكر، المحامي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي مثل العديد من الناجين في المحاكمة إن “المحاكمة هي الأولى من نوعها في جميع أرجاء العالم، إلا أنها لا تشكل سابقة قانونية بالطريقة التي تعمل بها القضايا في النظام القانوني الأميركي أو البريطاني. ومع ذلك، يمكن للمحاكم الأخرى الاستشهاد بالحكم والأدلة التي تم الاستماع إليها في “كوبلنز”، على حد قوله.

ولفت كروكر إلى أنه مع استخدام روسيا والصين حق النقض لعرقلة محاولات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة إحالة نظام الأسد في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن دولاً مثل ألمانيا تطبق مبدأ الولاية القضائية العالمية على الجرائم الخطيرة ستصبح مكاناً لمثل هذه المحاكمات بشكل متزايد.

وهذه المحاكمة، هي واحدة من أكثر من 12 قضية تنظر ألمانيا فيها جميعها تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا، وفقاً لتقرير صدر العام الماضي عن منظمة حقوق الإنسان، في حين تعتبر محكمة “كوبلنز” غير متعلقة بالحكومة الألمانية، لكن بحسب قوانين حقوق الإنسان في الدستور الألماني، يمكن إثبات انتهاك حقوق الإنسان من خلال الأدلة والشهود، لهذا لا تهدف هذه المحاكمة فقط لإدانة المتهمين، بل لإدانة نظام الأسد بالكامل.

أهمية استثنائية

وهذا يدفع للتساؤل، إن كانت إدانة أنور رسلان ستفتح الطريق أمام محاكمة رموز من نظام الأسد في المستقبل القريب، ولو غيابياً؟ وبالإجابة عن هذا السؤال قال “محمد صبرا” الخبير القانوني، وكبير المفاوضين السابق في الهيئة السورية العليا للتفاوض (تمثل المعارضة): “لا شك بأن قرار محكمة كوبلنز يحمل أهمية استثنائية في إمكانية ملاحقة أي مرتكب لجرائم ضد الإنسانية أو انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وسيكون لهذا الحكم أثره المعنوي في المحاكم الأوروبية الأخرى لترابط الأنظمة القضائية الأوروبية، ولذلك قد نرى في الفترة المقبلة قبول بعض الدول الأوروبية التي كانت مترددة لهذا النوع من الدعاوى”.

ويعتقد صبرا في حديث خاص مع موقع “تلفزيون سوريا” أن “موضوع محاكمة رموز نظام الأسد غيابياً، مختلف، لأنه يتعلق بالقضاء الجنائي الدولي سواء كان عبر الطريق العادي أي محكمة الجنايات الدولية أو عبر الطريق الاستثنائي أي محكمة دولية خاصة تشكل من أجل هذه الغاية تحديداً”.

وأكّد القانوني السوري، أن “المحاكم الأوروبية لا تملك الولاية القضائية اللازمة لمحاكمة النظام (كنظام سياسي ارتكب جرائم ضد الإنسانية)؛ لكنها تملك بشكل واضح القدرة على محاكمة أي عضو من أعضاء النظام وصل إلى أراضيها في حال كان هناك وقائع وأدلة تشير إلى ارتكابه لانتهاكات جسيمة وفقاً للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني”.

ا

مجرم بذاته

وبخصوص إن كانت المحاكمة التي تمت لـ “رسلان” نظرت إليه كمجرم حرب أم كأحد أركان نظام الأسد؟ قال محمد صبرا إن “طبيعة التجريم والعقاب في كل الأنظمة القضائية في العالم المتحضر تقوم على أساس فردية التجريم والعقاب، فالإنسان لا يحاكم إلا استناداً لوقائع محددة ارتكبها أو أمر بارتكابها أو اشترك بارتكابها أو ساهم بأي شكل من أشكال المساهمة الجرمية بارتكابها محرضاً أو متدخلاً أو شريكاً”.

ولفت إلى أن “هذا المبدأ أساسي في كل النظم القانونية، وأنور رسلان حوكم باعتباره مرتكباً لجريمة ضد الإنسانية ولجرائم حرب، وهذه الجرائم ذات طبيعة خاصة إذ إنها لا ترتكب إلا ضمن إطار نظام سياسي أو نظام حكم أو صيغة من صيغ القدرة على السيطرة على جزء من الأرض والسكان كما هو الحال في الميليشيات”.

وبالتالي فإن تقديم أنور رسلان للمحاكمة بصفته الفردية لا يعني على الإطلاق أن المحاكمة لا تحمل في طياتها إدانة لمجمل انتهاكات نظام بشار الأسد وهذا الأمر واضح جداً في حيثيات الحكم التي ربطت بين ارتكاب رسلان للجرائم المدان بها وبين الأوامر الصادرة من رأس النظام في سوريا، بحسب “صبرا”.

محكمة الجنايات الدولية والمحاكم الأوروبية

وبما أن محاكمة رسلان تحمل في طياتها إدانة لجرائم نظام الأسد بحق السوريين، هل تساعد في نقل الملف لمحكمة الجنايات الدولية؟ يعتقد “صبرا” أن “هناك محاولات جرت في السابق لإحالة ملف الانتهاكات في سوريا إلى محكمة الجنايات الدولية وقدمت فرنسا مشروعي قرار إلى مجلس الأمن لكن الفيتو الروسي منع وصول الملف إلى المحكمة، كذلك جرت محاولة بريطانية، وأيضاً أجهضت بسبب الموقف الروسي”.

وأردف أن “الحكم (على رسلان) كشكل يحمل قيمة قانونية ومعنوية كبيرة وسيشكل ضغطاً معنوياً على المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية للبدء بعملية جمع أدلة وإن كان ذلك لا يعني الإحالة لمحكمة الجنايات الدولية لأن الإحالة تحتاج لقرار من مجلس الأمن، وهذا غير متوفر في الوقت الحالي”.

في المقابل “لا شك أن الحكم سيشجع المحاكم الأوروبية الأخرى على قبول دعاوى استناداً لمبدأ الاختصاص القضائي الشامل، لكن يجب الانتباه أن هذا المبدأ يكون عادة ضمن الشروط الإجرائية لكل دولة على حدة، فالقضاء الألماني مثلاً لديه قانون عقوبات دولي، بينما لا يتوفر مثل هذا القانون في أغلب الدول”.

وأكّد المحامي السوري أن “مبدأ الولاية القضائية الشاملة ما يزال يعتمد على القوانين المحلية للدولة وهو لا يطبق القانون الدولي العرفي أو القواعد القانونية الدولية مباشرة، بل إنه يطبق القانون المحلي أو تلك القواعد التي أعطاها المشرع الوطني صفة القوة الإلزامية في الدولة المعنية”، مشيراً أن “الحكم في قضية رسلان يشكل خطوة مهمة إلى الأمام في سياق منع التفلت من العقاب”.

ماذا عن محاكمة المنشقين؟

وكانت هناك أصوات سورية قد نددت بمحاكمة المنشقين عن نظام الأسد، “من وازع أخلاقي”، باعتبار أن العديد منهم انحازوا إلى جانب الشعب ضد من يرتكب الجرائم بحقهم، خاصة في السنة الأولى والثانية من عمر الثورة السورية، وهنا شدد محمد صبرا على أن “الخشية من موضوع محاكمة من انشق عن النظام هي خشية غير مبررة ولا تستند إلى أساس، فأنور رسلان لم يحاكم لأنه انشق عن النظام، ولم يحاكم على أفعال قام بها بعد انشقاقه عن النظام، بل إن الوقائع التي حوكم بها تتعلق بفترة عمله ضمن أجهزة أمن نظام الأسد”.

تلفزيون سوريا

—————————–

انطلاق محاكمة «طبيب التعذيب» غداً في فرانكفورت

تلقي نظرة تفصيلية على وظيفة المستشفيات العسكرية في سوريا

برلين: راغدة بهنام

لم يمضِ أسبوع على طي محكمة ألمانية في مدينة كوبلنز غربي البلاد، محاكمة أول مسؤول سوري رفيع بتهم جرائم ضد الإنسانية، حتى بدأت الاستعدادات في محكمة أخرى بمدينة فرانكفورت التي تبعد قرابة الساعة ونصف الساعة عن كوبلنز، لمحاكمة متهم ثانٍ بارتكاب جرائم حرب بعد الثورة السورية.

وتبدأ يوم غد، محاكمة الطبيب السوري علاء موسى، البالغ من العمر 36 عاماً، والمتهم بتعذيب وقتل سجناء في سوريا بين عامي 2011 و2012. ويواجه الطبيب السوري تهماً بقتل سجين، وتعذيب 18 شخصاً آخرين، بحسب المدعي العام، في محاكمة حددت أول 14 جلسة منها. وسيشهد في القضية 9 شهود ممن تعرضوا للتعذيب على أيدي الطبيب الذي كان يعمل في مستشفيات عسكرية في حمص ودمشق.

وتحرك الادعاء العام الألماني في العام الماضي، وطلب إصدار مذكرة توقيف بحق موسى، بعد أن حصل على أدلة جمعها «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»، تثبت تعرض سجناء للتعذيب على يد موسى. ويجمع «المركز السوري» الذي يرأسه المحامي والناشط السوري أنور البني، أدلة ضد مجرمين سوريين منذ سنوات، وساعد كذلك في بناء الملف الذي أدى إلى إدانة الضابط السوري أنور رسلان، والحكم عليه بالسجن المؤبد يوم الخميس الماضي.

وأصدر «المركز السوري للأبحاث والدراسات القانونية»، بياناً رحب فيه بالاستعداد لانطلاق محاكمة موسى، وأكد على «استمرار مسيرة ملاحقة المجرمين ضد الإنسانية ومجرمي الحرب في سوريا، في محاكم ألمانيا والدول الأوروبية». وأشار إلى أن موسى كان يلقَّب بـ«طبيب التعذيب» من قبل بعض الضحايا. وروى عن أحد الشهود قوله إنه شاهد موسى يأمر بإخراج معتقل من الزنزانة إلى الممر وإلقائه أرضاً، ثم داس على جراحه المتقيحة بحذائه المتسخ، وقال له: «هذه هي الطريقة التي تعالج بها مثل هذه الجروح».

وأكمل البيان الرواية، نقلاً عن أحد الشهود، قائلاً إن موسى «صب بعد ذلك المطهر على الساعد المتقيح وأشعل فيه النار، ثم قام بركل الضحية متهماً إياه بأنه أعظم خائن في البلاد، وبقي يركله حتى فقد الوعي».

وأشار بيان المركز إلى ملاحظة من مكتب المدعي العام، تقول بأن «الأطباء في عيادة عسكرية أخرى، كانوا دائماً يحملون طلقات البوتاسيون المميتة معهم لإبادة منتقدي النظام».

وصل موسى إلى ألمانيا عام 2015؛ حيث تعلم اللغة الألمانية، وعدَّل شهادته ليبدأ العمل بعد ذلك في مستشفيات ألمانية في ولاية هسن وعاصمتها فرانكفورت. وعند اعتقاله في 19 يونيو (حزيران) من عام 2020، كان ما زال يعمل في أحد مستشفيات المدينة، وأودع منذ ذلك الحين السجن الاحتياطي، في انتظار بدء محاكمته.

وتمكن المدعي العام من جمع شهود إضافيين خلال فترة اعتقال موسى، ليصل عدد الشهود الذين ستستمع إليهم المحكمة إلى 9. وقد تعتمد المحكمة كذلك على «صور قيصر» لإثبات التعذيب الممنهج الذي تشهده السجون السورية. واعتمد الادعاء في محكمة كوبلنز على هذه الصور في محاكمة الضابط رسلان، لترسم صورة عن التعذيب الممنهج الذي كان يحصل داخل السجون السورية بحق المعارضين. وقبلت المحكمة بالصور، وقالت بأن خبيراً ألمانياً أكد صحتها، وأنها تثبت فعلاً التعذيب الذي كان يتعرض له السجناء. ورغم أن عدد الشهود في محاكمة الطبيب موسى، أقل من الذين شهدوا في قضية رسلان التي شارف عدد الشهود فيها على الخمسين، فإن التهم الموجهة إليه، لو ثبتت، ستُلحق به حكماً بالسجن مدى الحياة.

وأشار المركز الذي يرأسه المحامي أنور البني، إلى أن موسى تواصل مع السفارة السورية في برلين، لمحاولة الحصول على مساعدة في محاكمته وتزويده بوثائق تثبت براءته، كما ناقش مع موظف في السفارة مساعدته للخروج من ألمانيا.

ومن التهم الموجهة إلى الطبيب علاء، تعذيب 9 سجناء، على الأقل، بضربهم وركلهم على رؤوسهم وأجسادهم، وإحراق أعضائهم التناسلية عبر سكب مواد حارقة عليها ثم إشعالها. كذلك، يوجه الادعاء تهمة قتل أحد السجناء الذي كان مصاباً بداء الصرع، عبر منع الدواء عنه وضربه ضرباً مبرحاً، في البداية بأنبوب بلاستيكي، ثم إعطائه حبة دواء تسببت في وفاته.

ويُتهم موسى كذلك بقتل سجين آخر عبر حقنه بمادة غير معروفة، عقاباً له لدفاعه عن نفسه أمام الضرب إلى كان يتعرض له. كما يُتهم موسى بالدوس على جرح ينزف لأحد السجناء قبل أن يصب عليه مادة تعقيم تحوي كحولاً، ويشعل النار فيه، ما تسبب في حرقه بدرجات مختلفة. ونفذ موسى هذه الجرائم في مستشفى حمص العسكري، ومستشفى المزة العسكري، في دمشق.

ويعتبر الناشطون السوريون المحاكمات الحاصلة في ألمانيا لمجرمين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في سوريا، باب أمل بأن تحقيق العدالة ممكن حتى من دون وجود دعم سياسي دولي لمحاكمات دولية. ووصفت منظمة العفو الدولية، المحاكمة القادمة في فرانكفورت، بأنها «خطوة مهمة نحو التعامل مع الجرائم الجماعية في سوريا، وتحقيق العدالة للشعب السوري». وجاء في بيان للمنظمة، إن «المحاكمة تلقي نظرة تفصيلية لأول مرة، على وظيفة المستشفيات العسكرية في جهاز النظام السوري، وترسل بوجه عام إشارة واضحة ضد الإفلات من العقاب في سوريا، وتوضح أنه يمكن إخضاع؛ ليس فقط جنود وموظفي الاستخبارات؛ بل أي شخص، للمساءلة، وفقاً لمبدأ القانون العالمي».

ويعتمد الناشطون السوريون على مبدأ «الولاية القضائية العالمية»، لملاحقة المسؤولين عن الجرائم في سوريا في دول أوروبية مختلفة. ويسمح هذا المبدأ الذي تعتمده معظم الدول الأوروبية -ولكن بمفهوم يختلف بين كل دولة وأخرى- بمحاكمة مجرمين لا ينتمون للبلد عن جرائم ارتكبوها في مكان آخر. وقال المحامي البني بعد صدور قرار الحكم المؤبد على أنور رسلان، إن «هذه المحاكمات تفتح باباً أمام السوريين كانوا يعتقدون بأنه مغلق»، بسبب عدم قدرة مجلس الأمن على التحرك لمعارضة روسيا والصين، في إحالة النظام السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية. وتنظر دول أوروبية أخرى، مثل النمسا وإسبانيا وفرنسا والسويد، في قضايا مشابهة، ولكن لم تصل أي منها بعد إلى المحاكمة.

تجدر الإشارة إلى أن المدعين في المحكمة، سيمثلهم «المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية» الذي يضم محامين ألماناً مثلوا المدعين في محاكمة أنور رسلان.

——————————–

متهم بالقتل والتعذيب.. بدء محاكمة طبيب سوري في ألمانيا بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية

نظام بشار الأسد وجهت له اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السوريين (الأوروبية)

تشهد ألمانيا اليوم الأربعاء محاكمة طبيب سوري يشتبه في ارتكابه جرائم ضد الإنسانية، من بينها تعذيب سجناء في مستشفيات عسكرية بسوريا، وذلك في ثاني قضية من نوعها في ما يتعلق باتهامات جرائم تعذيب بدعم من النظام في سوريا.

فبعد حكم محكمة ألمانية الأسبوع الماضي على ضابط المخابرات السوري السابق أنور رسلان بالسجن مدى الحياة لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، ستبدأ محاكمة الطبيب علاء موسى في المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت.

ويواجه المتهم بموجب قوانين الخصوصية الألمانية، اتهامات بتعذيب معارضين للرئيس السوري بشار الأسد أثناء عمله طبيبا في سجن عسكري ومستشفيات بحمص ودمشق في 2011 و2012.

وتنفي حكومة بشار الأسد الاتهامات بتعذيب سجناء.

ويستخدم المدعون الألمان قوانين السلطة القضائية العالمية التي تسمح لهم بالسعي لمحاكمة المشتبه في ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية في أي مكان في العالم.

واتهم المدعون علاء موسى في 18 قضية تعذيب، ويقولون إنه قتل أحد السجناء. وفي إحدى القضايا، يُتهم المدعى عليه بإجراء جراحة تصحيحية لكسر عظمي دون تخدير كاف.

كما أنه متهم بمحاولة حرمان السجناء من قدراتهم الإنجابية في قضيتين، وتشمل أساليب التعذيب الأخرى التي يقول المدعون إنه استخدمها ضد المدنيين المحتجزين غمر الأعضاء التناسلية لمراهق بالكحول في مستشفى عسكري بحمص وإضرام النار فيها باستخدام قداحة.

وعمل الطبيب أيضا في المستشفى العسكري 601 بالمزة في دمشق، الذي شوهدت مشرحته وفناؤه، بحسب هيومن رايتس ووتش، في مجموعة من الصور التي تصوّر حجم التعذيب الذي تتبناه الدولة ضد المدنيين وقام بتهريبها إلى الخارج مصور يعمل مع الحكومة عرف باسم قيصر.

وقالت أنتونيا كلاين المستشارة القانونية في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الذي يدعم الادعاء في القضية، إن العنف الجنسي باعتباره جريمة ضد الإنسانية سيلعب دورا مهما في المحاكمة.

وقالت كلاين “تُظهر المحاكمة أيضا مدى تنوع الجرائم (في الصراع السوري) وبأي حجم ستواصل الحدوث”.

وقال المحامي السوري أنور البني، الذي يرأس جماعة حقوقية في برلين ساعدت في رفع القضية ضد “علاء م.”، إن المحاكمة ستتمخض عن المزيد من الأدلة على أن الحكومة السورية حرضت على التعذيب للتغلب على الانتفاضة ضد الأسد.

وقال البني “نأمل أن يحكم عليه بالسجن مدى الحياة”، مضيفا أنه يتوقع أن تصل المحكمة إلى حكم بنهاية العام الجاري.

وعلاء موسى طبيب سوري يبلغ من العمر 36 عاما، عمل في مستشفى حمص العسكري في بدايات الثورة السورية.

هاجر إلى ألمانيا عام 2015 للعمل طبيبا، واعتقل يوم 19 يونيو/حزيران 2020 بعد كشف الجزيرة ودير شبيغل، في تحقيق استقصائي مشترك بعنوان “البحث عن جلادي الأسد”، عن جرائم في مستشفى حمص العسكري، والاتهامات التي وجهها الشهود له.

وتتبع الوثائقي الطبيب في مدينة كاسل الألمانية العام الماضي، حيث أبلغ عنه ناشطون وشهود عيان، واتهموه بممارسة جرائم قتل واعتداءات بحق المعتقلين في سجون النظام السوري.

ويواجه علاء موسى تهما بالقتل العمد والتعذيب وحرق الأعضاء التناسلية وإلحاق أضرار جسدية ونفسية بالمعتقلين.

أحد الشهود ذكر أن الطبيب موسى لم يكن يكتف بالتعذيب وحسب، بل أضاف أنه رآه وهو يحقن أحد المعتقلين بحقنة مميتة.

وبعد كشف تحقيق البحث عن جلادي الأسد عنه، أشارت دير شبيغل إلى أن الطبيب حاول اختراق حساب فيسبوك لشخص تسبب في اعتقاله، وعندما فشل طلب مساعدة الجيش الإلكتروني السوري لتنفيذ الاختراق.

وبعد انكشاف حياته السابقة، ذكرت دير شبيغل أن علاء موسى تواصل مع أحد الموظفين في السفارة السورية، واقترح الموظف عليه ترتيب رحلة محتملة على طائرة ومغادرته ألمانيا، لكن الشرطة الألمانية أحبطت محاولة الفرار واعتقلته.

والخميس الماضي قضت محكمة ألمانية بالسجن مدى الحياة على الضابط السوري السابق أنور رسلان لإدانته بارتكاب جرائم تعذيب وقتل بحق معتقلين سوريين.

وكانت المحكمة الإقليمية العليا في مدينة كوبلنز التابعة لولاية راين لاند فالس الألمانية، قد وضعت يدها على قضية المتهم أنور رسلان، الضابط السوري اللاجئ في ألمانيا والذي كان يعمل في فرع الأمن المعروف باسم “فرع الخطيب” في العاصمة السورية دمشق، وهو أحد الفروع الأمنية التي يقول ناشطون إنها مارست أبشع الجرائم على السوريين.

ووجه المدعي العام لرسلان تهما، وهي: تعذيب أكثر من 4 آلاف معتقل، وقتل 58 شخصا نتيجة التعذيب الشديد، والمسؤولية عن حالتي اغتصاب وعنف جنسي. وبحسب الادعاء، فقد ارتكبت هذه الجرائم في الفترة الممتدة من أبريل/نيسان 2011 حتى أيلول/سبتمبر 2012.

المصدر : الجزيرة + رويترز

——————————-

محاكمات ألمانيا.. هل تطال النظام السوري؟

أصدر القضاء الألماني حكمًا بالسجن مدى الحياة على الضابط السابق في المخابرات السورية أنور رسلان لإدانته بالمسؤولية عن مقتل عشرات المعتقلين وتعذيب نحو 4 آلاف آخرين في “فرع الخطيب” بدمشق عامي 2011 و2012.  وعليه، ناقشت هذه الحلقة من “الحكي سوري” دلالات الحكم القضائي الألماني، ومصير الدعاوى المماثلة المرفوعة في ألمانيا ودول أوروبية أخرى في ضوئه، وما إذا كان الحكم سيشجّع على رفع المزيد منها ضد مسؤولين سابقين في النظام السوري.

https://www.alhurra.com/episode/2022/01/18/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D9%83%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A7-%D8%AA%D8%B7%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%9F-937921

——————————

“من كوبلنز إلى فرانكفورت”.. سوريون يتنقلون لحضور محطات طريق المحاسبة “الطويل”

ضياء عودة – إسطنبول

من كوبلنز الألمانية إلى فرانكفورت يتنقل حقوقيون سوريون ومعتقلون سابقون في سجون النظام السوري، كي يكونوا شاهدين على ثاني محطات طريق المحاسبة “الطويل”. وهذه الرحلة لها “ميزة مختلفة ومشاعر فريدة” لم يسبق وأن عاشوها في بلدهم سوريا، رغم أنهم كانوا يتمنون حصولها، بحسب تعبيرهم.

وبدأت، صباح الأربعاء، محاكمة الطبيب السوري، علاء موسى أمام محكمة ألمانية بتهم خطيرة، منها القتل والتعذيب الذي وقع بحسب لائحة الاتهام على معتقلين سوريين، في أثناء تلقيهم العلاج بالمشفى العسكري بمدينة حمص وسط البلاد.

وتشمل قائمة الاتهامات بحق “موسى” البالغ من العمر 36 عاما، تعذيب سجناء في مستشفى عسكري، وفي سجن تابع للمخابرات العسكرية في مدينة حمص بين عامي 2011 و2012.

كما وجه المدعي العام الألماني تهمة القتل العمد بحقنة طبية، وإلحاق أضرار جسدية ونفسية خطيرة بالمعتقلين المعارضين.

وتأتي هذه المحاكمة بعد أيام من صدور حكم المؤبد بحق العميد السابق في مخابرات النظام السوري، أنور رسلان، بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، من قبل محكمة في مدينة كوبلنز الألمانية.

ويصنف حقوقيون وضحايا سوريون هذه المحاكمات بأنها “خطوة أولى في طريق العدالة الطويل”، كما يعتبرونها “محطة يمكن البناء عليها كركائز للمحاسبات المستقبلية، والتي لم يقطع منها الأمل حتى الآن”.

“لها رمزية كبيرة”

على مدى السنوات العشرة الماضية من انطلاقة الثورة السورية قصد الملايين من السوريين دول مجاورة وأوروبية كمحطات لجوء، للخلاص من الحملات الأمنية والعسكرية التي أطلقها النظام السوري وحلفاؤه في عموم محافظات البلاد.

وكان من بين هؤلاء الآلاف من المعتقلين السابقين في المعتقلات الأمنية، والذين مورست بحقهم عمليات تعذيب وإهانة نفسية وجسدية، بحسب ما تقول عدة تقارير حقوقية لمنظمات دولية وأممية.

وعلى الرغم من صدور هذه التقارير، والتي وثقت انتهاكات النظام السوري بشتى أصنافها، من تعذيب وقتل وحرق، إلا أنها بقيت حبيسة الصناديق، دون تحرك دولي فعلي لإيقاف الجرائم بحق الشعب السوري.

وبذلك يكون حكم المؤبد بحق رسلان، قبل أيام، والمحاكمة التي تستهدف الطبيب علاء موسى الآن خطوة لم يسبق وأن شهدها الناجون وآخرين من السوريين.

الصحفي السوري شيار خليل معتقلٌ سابق وأحد الناجين من معتقلات النظام السوري، بعد اتهامه بالانتماء لـ”جماعة إرهابية” كان قد وصل إلى فرانكفورت في الساعات الماضية، قادما من مكان إقامته في العاصمة الفرنسية باريس.

وقف خليل منذ صباح الأربعاء أمام باب محكمة فرنكفورت حاملا لافتة تتضمن صورة للطبيب “محمد بشير عرب”، والذي كانت سلطات النظام السوري قد اعتقلته في عام 2011 من مدينة حلب، وتخفيه قسريا إلى الآن.

يقول الصحفي السوري لموقع “الحرة”: “نقف اليوم لكي نكون شاهدين على أولى جلسات المحاكمة بعلاء موسى. هذا الطبيب مارس عمليات تعذيب وقتل، ووصلت بجزء منها إلى سكب الكحول على عضو تناسلي لأحد المعقلين، ومن ثم أضرم النار فيه”.

ويضيف خليل: “محكمة علاء موسى لها رمزية كبيرة كونها جاءت بعد حكم رسلان. ليست عدالة كاملة لكنها خطوة مهمة للسوريين، خاصة أن الطبيب تحول إلى جزار”.

وتم توقيف موسى في 19 يونيو عام 2020، في ولاية هسن الألمانية، بناء على مذكرة توقيف صادرة عن قاضي تحقيق ألماني، ويشتبه بقيامه بتعذيب 18 شخصا على الأقل.

وكان قد ارتكب هذه الانتهاكات في مستشفيين عسكريين في حمص (وسط) ودمشق، وفي سجن سري تابع لأجهزة الاستخبارات العسكرية في حمص، ما بين أبريل 2011 ونهاية عام 2012.

ويشير الصحفي السوري إلى أن رمزية المحاكمة تأتي أيضا “من كونها دفع لأهالي المعتقلين، بأن السعي مستمر وراء هؤلاء المجرمين الذين قدموا إلى أوروبا وأصبحوا خارج سوريا، ظنا منهم أنهم سيهربوا”.

“هذه القضية لن ننساها. هي قضية عليا وحقوقية وإنسانية. لها أهميتها الكبيرة لدى السوريين”.

ويتابع خليل: “الخطوة مهمة أيضا لنرفع صوتنا عاليا ونشجع الأهالي للمطالبة بمعتقليها، لاسيما أن المنصات السياسية وعلى ما يبدو نسيت الأمر، ونست من هم في سجون نظام الأسد”.

“جرائم ضد الإنسانية”

وكان علاء موسى قد غادر سوريا، منتصف عام 2015، ووصل إلى ألمانيا على غرار مئات آلاف السوريين آنذاك، عندما فتحت المستشارة الألمانية حدود بلادها أمامهم.

وبعد ذلك استأنف ممارسة الطب في مستشفى أحد المنتجعات الألمانية حتى اعتقاله.

وأطلقت ألمانيا، منذ العام 2011، تحقيقا حول الجرائم المرتكبة في سوريا، وجمعت وثائق وشهادات حول هذه التجاوزات.

وتستند هذه الدعاوى إلى المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، والذي يسمح للدولة بمقاضاة مرتكبي الجرائم الإنسانية الخطيرة، ولا سيما جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن جنسيتهم، وموقع ارتكاب هذه الجرائم.

فضل عبد الغني أحد السوريين الذين وصلوا إلى فرانكفورت أيضا، وهو مدير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، التي توثق منذ سنوات انتهاكات النظام السوري والقوى المحلية الأخرى في البلاد.

واعتبر عبد الغني أن محاكمة فرانكفورت “مميزة، لأننا نتحدث عن طبيب يعذب في المشافي العسكرية. هذه المشافي جزء من الأفرع الأمنية، والنظام السوري حولها لتكون بمثابة فرع أمني، كما هو الحال لمحكمة الإرهاب”.

ويقول الناشط الحقوقي لموقع “الحرة”: “النقطة المهمة فيها أن الادعاء الألماني اتهم موسى بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. هذه إدانة لمنظومة النظام السوري ككل”، واصفا إياه بـ”طبيب المسالخ البشرية”.

من جهته، ومن أمام محكمة فرانكفورت قال ميشال شماس، ناشط في مجال حقوق الإنسان، وعضو “لجنة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير”: “اليوم تاريخي يضاف إلى اليوم التاريخي الذي حدث الأسبوع الماضي بصدور الحكم على أنور رسلان العقيد السابق في المخابرات الجوية”.

ويضيف شماس لموقع “الحرة”: “هي تاريخية ومهمة لأنها تثبت أننا لا نستهدف المجرمين لانتماءاتهم الطائفية أو من كونهم منشقين. نستهدفهم لأنهم ارتكبوا جرائم حرب وضد الإنسانية”.

وزاد الحقوقي السوري: “علاء موسى درس الطب لكي يخفف من معاناة وآلام الناس ويداويهم. بدلا من ذلك زاد من آلامهم بقيامه بعمليات تعذيب. من المفارقة أن يقوم طبيب بالتعذيب وضابط أمن يقوم بذات الإجراء أيضا!”.

“انتظار في فرانكفورت وترقب لبرلين”

وسبق وأن حكم القضاء الألماني في فبراير 2020 بالسجن أربع سنوات ونصف على إياد الغريب (44 عاما) بتهمة المشاركة في اعتقال 30 متظاهرا على الأقل في دوما كبرى مدن الغوطة الشرقية قرب دمشق، في سبتمبر أو أكتوبر 2011، ومن ثم نقلهم إلى مركز اعتقال تابع لأجهزة الاستخبارات.

ويعتبر إياد الغريب المسؤول الأدنى رتبة في ذات القضية المتعلقة بأنور رسلان، وكان قد وصل إلى ألمانيا في 2018.

ووفق الحقوقي السوري، ميشال شماس: “بعد ثلاثة أشهر من الآن وفي مايو المقبل ستبدأ محاكمة مجرم آخر، وسبق وأن ارتكب جرائم عندما كان ينتمي للميليشيات الفلسطينية في سوريا”.

ويقول شماس: “يدعى موفق وكان يتبع لأحمد جبريل. ستتم محاكمته في برلين”.

بدوره يوضح المحامي والحقوقي السوري، أنور البني أن محكمة فرانكفورت “وضعت جدولا للجلسات حتى الشهر الثالث من العام الحالي. تم تحديدها بـ20 جلسة”.

ويضيف لموقع “الحرة”: “هناك شهود فيزيائيين، ومن المتوقع أن يزيد عددهم عن 9”.

ويتوقع البني أن يكون الزمن المحدد لمحاكمة علاء موسى أقل من محاكمة الضابط، أنور رسلان، وذلك يرتبط بأن “عدد الشهود والضحايا أقل”.

ويتابع الحقوقي السوري: “حكم علاء موسى بما أنه يوجد حالة قتل فسيكون مؤبدا أيضا، لأن القتل بالقانون الألماني لشخص واحد حكمه مؤبد. محكمة فرانكفورت لن تأخذ وقتا طويلا”.

أما مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني فيشير إلى أن محكمة فرانكفورت ستجري جلسة أو جلستين في الأسبوع، وذلك حتى شهر مارس المقبل.

ويوضح عبد الغني: “الطبيب سيكون له محامي دفاع، وله الحق في استدعاء الناس. هذا الأمر لا يتمتع به المواطن السوري في سوريا التي يسيطر عليها نظام الأسد. هناك لا يوجد قضاء. المواطن يعتقل ويخفى قسريا”.

وتنبع أهمية محاكمة موسى من أنها تلقي الضوء على ممارسات تعذيب يقوم بها عناصر النظام السوري ليس في المعتقلات والسجون فحسب، بل في المستشفيات التي ينقل إليها من تعرضوا للتعذيب لتلقي العلاج، بحسب، محمد العبد الله، المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة، ومقره العاصمة الأميركية واشنطن.

ويقول العبد لله لموقع “الحرة” إن الاتهامات التي ينتظرها موسى شملت أيضا “القيام بإجراء جراحة على معتقل نقل للمستشفى العسكري بحمص بدون تخدير”، وأيضا “سكب الكحول وإشعال النار بعضو تناسلي لمعتقل آخر”.

وتشمل الأدلة في القضية إفادات زملاء لموسى في المستشفى، قال العبد الله إن بعضهم “سافر إلى ألمانيا لتقديم شهادته في القضية”.

ضياء عودة – إسطنبول

الحرة

——————————-

أنور البني: أهالي أحد الشهود في قضية علاء موسى يتعرّضون للتهديد من النظام السوري

صرّح المحامي أنور البني لـ ليفانت نيوز، من أمام حكمة فرانكفورت الألمانية بأن أهالي أحد الشهود في قضية الطبيب السوري المتهم بجرائم حرب ضد الإنسانية يتعرضون للتهديد من قبل النظام السوري في سوريا، لحمله على سحب شهادته من المحكمة.

وقال البني بأن أحد الشهود وهو كان معتقل سابق وتعرّض للتعذيب على يد الطبيب السوري علاء، أفاد بأن عائلته في سوريا تعرّضت للتهديد من قبل النظام السوري.

وداهم أربعة عناصر من الأمن السوري منزل أخت وأم الضحية وهددهم الأمن بقتلهم في حال أدلى لم يسحب المعتقل شهادته.

وأخبر الشاهد المحكمة بتهديدات النظام السوري لعائلته في سوريا، وكان الرد بأن المحكمة لاتستطيع فعل شئ حيال ذلك، وهي قادرة فقط على حمايته هو كونه متواجد في ألمانيا.

وبرر المحامي أنور البني تحركات النظام المكثفة في هذا الملف بأنه خطير جداً، فاستخدام الجهاز الطبي بجرائمه ضد الإنسانية، لم يحصل عبر التاريخ، قائلاً: ” حتى النازيين لم يستخدموا الجهاز الطبي في ذلك”.

اقرأ أيضاً: ثلاثة محامين لـ “علاء موسى” أحدهم من طرف السفارة السورية والادعاء يمدد الحجز الاحتياطي

وأشار البني إلى أن الحكم في هذا الأمر سيكون له تداعيات خطيرة جداً على سمعة النظام وإدانته كمنهجية، فمنهجية القتل والتعذيب لاتقتصر على الأمن والجيش، والنظام يستخدم كل إمكاناته بما فيها الجهاز الطبي الذي من المفترض أن ينقذ حياة السوريين أو يساعدهم، وبدلاً من ذلك يقوم بقتلهم ما يشكل إدانة كاملة لكل أركان النظام.

ليفانت نيوز_ خاص

——————————-

===============

تحديث 24 كانون الثاني 2022

—————–

المؤبد لأنور رسلان وغياب الآخر في سورية/ عمار ديوب

تنفّس أهالي الضحايا في سورية أخيراً. لقد أَصدرت محكمة كوبلنز الألمانية حكم السجن المؤبد على ضابط استخبارات سوري سابق رفيع المستوى، أنور رسلان. دامت المحاكمة عدّة سنوات، وتعدّدت آراء المعارضين للنظام السوري بشأنها، وتركّزت على محاسبة شخص انشقّ عن النظام، سنيّ المذهب، وهذا سيسعد النظام ذاته، ويعطي درساً للموالين بألا ينشقوا. فيما رأى آخرون أن الرجل مجرم حرب، وعليه قضايا كثيرة، وانشقاقه لا يَجِبّ تلك المسائل، وهو لم يعلن انشقاقه من أصله، هَرِبَ فقط، ولم يضع نفسه لدى المحاكم الدولية، وسنّيّته لا تعفيه. انتصر الرأي الثاني عبر القضاء؛ فالأخير هو من أَنزل الحكم، واستبعد بعض الشهود وأبقى بعضهم. وباعتبار القضاء في ألمانيا من أفضل النظم القضائية العالمية، يصبح الرأي الثاني الأكثر جدارة وأهمية، ويُبنى عليه في محاكمات لاحقة.

لقد هَجَرَ سورية، وقد صارت لعبة إقليمية ودولية، شبّيحة ومجرمو حرب وقادة فصائل وقادة سياسيون فاسدون، وفئات كثيرة تستحق المحاكمة لما فعلته بالشعب السوري. المؤبّد هذا لم يكن ليصبح حكما لولا جهود كبيرة بذلها محامون تُرفع لهم القبّعات. ويمكن مقارنتهم مع محامين آخرين، لم يلاحقوا رفعت الأسد، وهو مجرم حرب كبير، طوال عقود في فرنسا. والأنكى أن القضاء الفرنسي سمح بهروبه ضمن عملية استخباراتية قذرة ومموّلة بالتأكيد، وتؤكد تقارير دور روسيا فيها، وهذا يسجّل فارقاً هاماً بين القضاءين، الفرنسي والألماني، وبين المحامين السوريين وغيرهم من المدافعين عن حقوق الضحايا، بينما لم يفعل رفاقهم المهجّرون السوريون من قبل شيئاً بخصوص رفعت وآخرين، كانوا يصولون ويجولون في تلك البلاد!

المؤبد هذا أيدته منظمات حقوقية كثيرة، والاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية، ومحاكم عالمية، وهيئة قضائية كثيرة. إذاً، لم يعد أمراً هامشياً، أو بسيطاً. هو سابقة ويُبنى عليه. وقد بدأت محاكمة طبيب سوري، مسيحي، عليه قضايا ثابتة بتعذيب معتقلين مصابين في المستشفيات. ومحاكمته أمر جيد، وسيكون الحكم السابق مساعداً في سلاسة المحاكمة الجديدة، وهكذا يُمكن تبيّن أهمية ما جرى ورؤيتها.

تسخيف الأمر، وكذلك تعظيمه، ليسا محبذين؛ فهو مجرد بداية جيّدة، دونها ألف تعقيد وتعقيد، هناك مصالح دول كبرى تتعارض في سورية وتمنع الوصول إلى اتفاقٍ سياسي ينهي هذه المأساة المهزلة، والتي لم يعد لها من مبرّر منذ أعوام، وسبب استمراريتها ذلك التعارض في المصالح. المقصد هنا أن المحاكمات الجارية ستشكل عامل ضغطٍ قوّي لتطبيق العدالة الانتقالية والعادلة، وستقف بوجهها مصالح روسيا والصين وإيران خاصة؛ وسيعطّلون بالتأكيد مشاريع قضائية كثيرة من أجل نصرة حقوق الضحايا. الاستمرار في ملاحقة مجرمي الحرب، ومن كل الأطراف، رسالة قوية إلى المجتمع السوري، مفادها بأن القضية لا تتعلق بمذهب ذلك المجرم أو دينه أو طائفته، بل بتحقيق العدالة، وأن تلك المحاكمات ستسمح بتنظيف البلاد منهم، وستخيف المنفلتين الهمجيين هنا وهناك، والمستخفين بحقوق الناس وكراماتهم، ولا يتورّعون عن أذيتهم وقتلهم، وهذا يحصل لدى النظام وهيئة تحرير الشام، وفصائل مدعومة من تركيا، ولدى قوات سورية الديمقراطية (قسد).

قلت، يجب ألا يتم تضخيم الأمر، ولكن تتفيهه، بحجة بعض المخالفات، أو الأخطاء التي قد يقع بها محامو الضحايا، كأن يؤتى بشاهدٍ كاذب، أو يضخّمون دورهم القانوني، أو سواه، فلا أراه سديداً أبداً؛ المحامون في النهاية مثلنا، يشعرون بالسعادة، يخطئون هنا وهناك، أمّا من يصوّب ما أُفسِد فهو القضاء. هنا الدرس الذي على السوريين أن يتواضعوا ويتعلموه؛ القضاء هو من يحكم، لا عامة الناس أو القانونيون حتى.

هل شعر قادة النظام السوري بالخوف بعد الحكم؟ بالتأكيد، ويجب أن يشعر قادة المعارضة والفصائل أيضاً بالخوف، والمحاكمات ستشملهم في مقتبل الأعوام أيضاً، وهذا يقتضي انخراط قطاعاتٍ واسعةٍ من الفاعلين في الصحافة والقانون والقضاء، والتنسيق فيما بينهم، من أجل إعداد الملفات. ما حصل للشعب السوري، والجميع يعرف المآسي، يطيح أية مرجعية، أصبح العالم يتأفف منها، ومعه كل الحق، ويقلّص مساحات تغطيتها؛ فالقضايا التي تخصّ الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة وهيئاته ولجانه لم تعد تستحق أية تغطية، أو تحليل، نظراً إلى الانحطاط الكامل الذي أصبحت عليه هذه القوى، وضرورة أن تُشطب.

خوف النظام لن يدفعه أبداً إلى البدء بخطواتٍ معينةٍ من أجل التصالح مع الشعب، وكذلك قادة المعارضة والفصائل و”قسد”. سيتجاهل أصحاب المصالح هؤلاء طويلاً الحكم المخيف، ولن تسمح الدول الداعمة لهم بأية أفكار تصالحية، فهذا فات أوانه، وأعمالهم ستقودهم، ومهما فعلوا، إلى المحاكمات.

الآخر في النقاش السوري الجاري ليس موجوداً. كلُّ طرفٍ يتهجّم على الآخر، ويعتبره مخطئاً جملة ًوتفصيلاً. لم يراعِ فيه خطأً أو تعجّلاً أو عاطفة أو ألماً أو جهلاً أو نقصاً في المعرفة. حقيقة الأمر، هذا لا يشجّع الشعب السوري على تأييد تلك المحاكمات، ما دام المدافعون عن ضرورتها يتقاتلون وكأنّهم أصحاب سلطة، أو يحكمون دمشق أو تجري المحاكمات فيها. تفترض حقوق الضحايا ممن يصف نفسه بالنخبة، أو المثقف، أو مالك المعرفة، أن يخجل ويتواضع، وأن يعيد حساباته جيداً. الآخر، وليس فقط المعارض، الآخر، ومهما كان له من حقوق، ومن حقه أن يدافع عن قناعاته، أمّا الحكم فهو للقضاء فقط. غياب التعقل والاعتراف بالآخر في سورية يعني أن ثقافة الاختلاف ومبادئ الديمقراطية والمواطنة وحق القول وسواه كثير غير موجودة، وإذ نتفق مع الرأي أن الاستبداد السياسي أسّ البلاء هنا، فإننا نضيف: بعد كل ما جرى في سورية، تتحمّل المعارضة والمثقفون وأصحاب العقل دوراً كبيراً في ذلك الغياب، وطبعاً يمارسونه هم بذاتهم.

الحكم المؤبد لأنور رسلان يؤسّس لجديدٍ صلبٍ في إطار ملاحقة مجرمي الحرب في سورية وغير سورية، وأينما كانوا؛ هذا ما يجب الشغل عليه، فهل تعي النخب المثقفة ذلك؟

العربي الجديد

———————-

في أهمية البناء على محكمة كوبلنز/ عمر كوش

تكمن أهمية الحكم الذي أصدرته المحكمة الإقليمية العليا في مدينة “كوبلنز” الألمانية بحق الضابط المنشق عن النظام الأسدي، أنور رسلان، في قيمته الرمزية الكبيرة بالنسبة للضحايا السوريين وذويهم، وفي مبانيه ومعانيه المتعددة، التي تجد تجسيداتها في أن تحقيق العدالة يتجاوز الحدود والجنسيات، وأن الانتهاكات والجرائم لا تموت بالتقادم، وبالتالي لا يفيد تغيير الصفوف وتبديل رايات المجرمين في الإفلات من العقاب، إضافة إلى كونه أول حكم قضائي، صدر عن محكمة في دولة أوروبية، بحق أحد ضباط المنظومة الأمنية لنظام الأسد، تطبيقاً لمبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي تعتمده المحاكم الألمانية، ويسمح بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بصرف النظر عن جنسياتهم، وعن مكان وزمان الجرائم التي ارتكبوها، إلى جانب استناده إلى قانون الجنايات الدولية والقانون الجنائي الألماني وقانون العقوبات الألماني، وذلك على خلفية إدانة رسلان بارتكابه جرائم قتل 58 سورياً وتعذيب 4 آلاف معتقل سوري، في الفترة الممتدة من أبريل/ نيسان 2011 حتى سبتمبر/ أيلول 2012، وذلك خلال ترؤُّسه قسم التحقيق في “الفرع 251″، المعروف باسم “فرع الخطيب” الأمني الواقع في مدينة دمشق.

وبصرف النظر عن المماحكات والخلافات بين كثير من السوريين حول المحاكمة وحيثياتها، فإن المطلوب من المنظمات والهيئات الحقوقية السورية هو أن تسعى إلى تحويل حكم محكمة كوبلنز إلى سابقة لها ما بعدها، بحيث يمكن البناء عليها قانونياً وسياسياً، وبما يشكل مرتكزاً لجهود وأعمال حثيثة، من أجل السعي إلى تحويل ملف جرائم النظام الأسدي برمته إلى المحاكم في مختلف دول العالم، وخاصة الدول الأوروبية، كون الحكم الذي صدر ضد أرسلان، يعدّ أول وثيقة رسمية صادرة عن جهة قضائية معترف بها، ولا أحد يمكنه التشكيك في شرعيتها، وتتضمن توصيفاً قانونياً لجرائم ضد الإنسانية ارتكبها أحد ضباط نظام الأسد ضد السوريين، الأمر الذي يعطيه قيمة رمزية ستؤثر بدورها على أي محاكمة مقبلة لرموز نظام الأسد في المحاكم الأوروبية وسواها.

وعلى الرغم من أن الحكم على أنور رسلان يخص متهماً واحداً من أفراد النظام السوري، مثله مثل الحكم الذي صدر من نفس محكمة كوبلنز على إياد غريب في 24 فبراير/ شباط الماضي، فإنه يسهم في فتح باب محاسبة أفراد آخرين من نظام الأسد، ويعطي دفعة قوية للمساعي العديدة في عدة دول أوروبية، الرامية إلى إجراء محاكمات لأشخاص متهمين بارتكاب جرائم ضد السوريين خلال سنوات الثورة السورية، ويدخل ضمنها محاكمة “طبيب التعذيب”، علاء موسى، الذي انطلقت جلسات محاكمته في مدينة فرانكفورت فور صدور حكم محكمة كوبلنز على رسلان، حيث يواجه تهماً بارتكابه جرائم ضد الإنسانية، من بينها القتل العمد والتعذيب والعنف الجنسي ضد سجناء في مستشفيات عسكرية في سوريا، الأمر الذي يسلط الضوء على ممارسات أجهزة النظام الأسدي داخل المستشفيات والسجون الكثيرة، التي حولها إلى معتقلات تعذيب، ويظهر مدى تنوع الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد ضد السوريين.

وإن كان الحكم على رسلان لا يقتصر على الآثار القانونية والمعنوية له، وهي ليست قليلة، إلا أن الأهم هو الآثار السياسية التي يجب أن تبنى عليها، في وقت تحاول فيه روسيا تلميع نظام الأسد وإعادة تأهليه، في حين تهرول بعض الأنظمة العربية إلى التطبيع معه، حيث ينبغي على القوى السياسية والمنظمات الحقوقية والمدنية السورية في مختلف بلدان أوروبا وأميركا الاستفادة من حكم المحكمة الألمانية، من أجل الدفع بملف جرائم النظام نحو المحاكم الوطنية الأوروبية وسواها، بالتعاون مع القوى السياسية والمنظمات الحقوقية الفاعلة فيها. إضافة إلى أهمية مواصلة الجهود المنظمة للجمعيات والمنظمات الحقوقية السورية، للضغط على حكومات الدول التي تحترم حقوق الإنسان، من أجل اتخاذ خطوات لإظهار التزامها بحماية حقوق الإنسان في سوريا، ووضع حد لانتهاكات نظام الأسد لها، وبالتالي تكتسي أهمية خاصة مطالبات منظمات حقوقية سورية إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، بإعطائها “الدعم الكامل للمنظمات التي تعمل على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان والفظائع الجماعية، والدفع على أعلى المستويات من أجل مساءلة نظام الأسد وغيره من منتهكي حقوق الإنسان، والاستثمار السياسي المتجدد في قيادة قرار مجلس الأمن الدولي بشأن المعتقلين والمفقودين في سوريا للإفراج عن جميع المعتقلين”.

ولعل من اللافت أن ترحب منظمات حقوقية سورية ودولية عديدة بالحكم على أنور رسلان، في حين صمت الائتلاف السوري المعارض تماماً، ولم يصدر عنه أي شيء، الأمر الذي يشي بأن هذا الكيان السياسي بات غائباً تماماً عن أحداث القضية السورية، في حين أن من المفترض أن تبذل هيئاته السياسية والحقوقية، وخاصة لجنته القانونية، جهوداً مكثفة من أجل الدفع بمحاكمة مجرمي النظام في كل المحافل الدولية.

ويبدو أن أسباب صمت الائتلاف لا تخرج عن الحرج الذي يعتري بعض أعضائه، أولئك الذين سارعوا إلى الترحيب بانشقاق رسلان، من دون أي دراسة عنه، أو تمحيص بماضيه في المنظومة الأمنية للنظام، وبما ارتكبه من جرائم ضد المعتقلين السوريين، ثم قاموا بالتقرب منه إلى درجة ضمه إلى الوفد الاستشاري العسكري للائتلاف خلال مفاوضات جنيف عام 2014.

ولا جدال في أن عطالة الائتلاف وتخلفه عن القيام بدوره، لن تثني المنظمات الحقوقية والناشطين السوريين عن البحث في مسارات يمكن العمل عليها للسير في طريق تحقيق بعض العدالة للضحايا، وذلك في ظل عدم إمكانية إحالة ملف جرائم النظام الأسدي برمته إلى محكمة الجنايات الدولية، بسبب الفيتو الروسي والصيني في مجلس الأمن الدولي، لكن بانتظار أن تطول يد العدالة كل رموز الإجرام الأسدي وسواهم، فإن من المهم إبقاء الضوء مسلطاً على جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب السوري.

تلفزيون سوريا

————————-

فرع التعذيب الطبي التابع للنظام السوري في مواجهة العدالة الألمانية/ آدم مهران

“العنف الطبي في سوريا ليس استثناء إنما عمل ممنهج، يعود إلى فترة الثمانينات خلال الأحداث الأمنية التي عصفت بسوريا حينها، إذ كان الأطباء يشرفون على عمليات التعذيب ويصدرون شهادات وفاة”.

يدخل المتهم علاء موسى قاعة المحكمة متخفياً بقبعة الجاكيت الزيتي الجديد، واضعاً على فمه القناع الطبي حانياً رقبته، حتى إنه بالكاد يرى الطريق أمامه. يتعثر بخطاه أمام حاجز بلاستيك وضع للتباعد بين الناس من أجل الوقاية من فايروس “كورونا”. يتدخل المحامي الذي يسير خلفه فوراً، يسنده ويوصله إلى كرسيه. ترتفع أصوات النقاش، وضجيج العدسات التي انهالت على الرجل. يغوص المتهم بكرسيه وينقبض على نفسه، يجلس ساكناً من دون حراك. يقطع الضجيج دخول القضاة قاعة المحكمة، ينسحب المصورون الى خارج القاعة حاملين معهم كاميراتهم.

يطلب القاضي من المتهم الكشف عن وجهه، يخلع علاء الجاكيت الزيتي الغامق، ويجلس بطريقة متزنة، بلباسه الأنيق، بدلة كحلية رسمية، قميص أبيض، حذاء أسود ملمع بعناية، شعر محلوق بطريقة عصرية…

علاء لم يركب البحر ولم يغامر بحياته مثل اللاجئين للوصول إلى أوروبا، إنما سافر بتأشيرة عمل في شهر أيار/ مايو 2015 إلى ألمانيا. وما سهل عليه الحصول على تأشيرة العمل، هو نقص الأطباء في ألمانيا. أما موافقة العمل التي على الطبيب إبرازها لكي يحصل على التأشيرة، فرتبها له خاله الذي يعيش في مدينة كيمنتس في ألمانيا منذ نحو 20 سنة.

استطاع المتهم الحصول على شهادات اللغة المطلوبة بعد وقت قصير من وصوله إلى ألمانيا، لأنه بدأ دراسة اللغة منذ عام 2009 عندما كان في سوريا، بهدف الهجرة. في شباط/ فبراير 2016 حصل الرجل على أول عقد عمل محدد المدة في مستشفى الجامعة في غوتنغن. في أب/ أغسطس 2019، منحته نقابة الأطباء في ساكسونيا السفلى لقب “مختص في جراحة العظام والكسور”. ومع ذلك، لم يتم تمديد العقد في غوتنغن. كما يتذكر زميل سابق. تنقل بعدها بين مستشفيات عدة كان آخرها عيادة إعادة التأهيل في باد فيلدونغن، حيث اعتقله مكتب الشرطة الجنائية الفيدرالية من عمله في الثامنة مساء في 19 حزيران/ يونيو 2020. يقول المتهم خلال الجلسة الأولى إنه كان يحب عمله، لدرجة أنه كان يعمل من 200 إلى 300 ساعة في الشهر ويحصل على أجر بين 7 إلى 12 ألف يورو.

استطاع الرجل البالغ من العمر 37 سنة إخفاء ماضيه الطبي في المستشفيات العسكرية، حتى زميله الذي كان معه في الجامعة في غوتنغن صدم حين شاهد صور علاء في الأخبار، وقال إنه “ادعى في سيرته الذاتية أنه كان يعمل في أحد مستشفيات دمشق، ولم يذكر حمص في أي مرحلة في حياته”، لكن بحسب ما نقلت مجلة “شبيغل” فإن الشرطة وجدت في منزل علاء أوراقاً يعتقد أنها مزورة، جلبها علاء فترة عمله في مستشفى “الشهيد عبد القادر شقفة”. وهو الاسم الرسمي للمستشفى العسكري رقم 608 في حمص.

 تفتتح الجلسة الاولى بقراءة بعض الجمل الروتينية ثم تقف ممثلة النيابة العامة، تقول بصوت عالٍ، “أنا أدعي على المتهم علاء. م بسبب ارتكابه 18 جريمة خلال عمله طبيباً في سوريا، منها حالات تعذيب، إساءة وإهانة، حرمان من القدرة على الإنجاب، حرمان من الدواء، واعطاء ادوية تتسبب بالألم أو حتى القتل”. قرأت النيابة قصة رجل مريض في الزنزانة قال له علاء سوف ترى الحوريات اليوم فوق وأعطاه حقنة، وبعد نصف ساعة، تدهورت حالة الشاب حتى مات. إضافة الى ذلك، يتهم علاء بالتحرش الجنسي واحراق قضيب صبي يبلغ من العمر 14 سنة وشاب آخر، وتفاخر علاء بين زملائه بأنه اكتشف بذلك أسلوباً جديداً للتعذيب، بحسب ما ذكرت النيابة العامة.

يجلس علاء على الجهة المقابلة لممثلي النيابة العامة، ينظر إلى ممثلتها. جلوسه يختلف تماماً عما كان عليه بحضور المصورين، يجلس بظهر مشدود، رافعاً رأسه بكل ثقة. يتدخل في ما بعد ويعلق باللغة الألمانية، من دون أن يستعين بالمترجم الذي يجلس بجانبه، يضيف بعض المعلومات ويشرح بعض المواقف بعد عرض القضاة ملفه الشخصي.

يخيم الصمت على القاعة، يبدو على وجوه الناس من مستمعين وصحافيين الذهول، بعد سماع التهم الموجهة لعلاء، تهم تدل على القسوة والجحيم في مستشفيات النظام السوري. ممثلة النيابة العامة تكمل قراءة التهم، التي نفاها علاء كاملة، واعتبرها عبارة عن تشهير ضده من المتطرفين الإسلاميين الذين يكرهونه لأنه مسيحي. لكنه سيواجه بسبب هذه التهم السجن مدى الحياة في حال تم إثبات تورطه.

تعتبر الباحثة الأكاديمية أنصار شحود أن “العنف الطبي في سوريا ليس استثناء إنما عمل ممنهج، يعود إلى فترة الثمانينات خلال الأحداث الأمنية التي عصفت بسوريا حينها، إذ كان الأطباء يشرفون على عمليات التعذيب ويصدرون شهادات وفاة”.

تطور النظام الصحي الموالي حتى انطلاق الثورة السورية، وترى شحود أن “ما يميز عمل الاطباء بعد عام 2011 أنه أصبح لهم دور سياسي، وعملوا على انتهاج العنف بتعذيب الناس وقتلهم بطريقة ممنهجة في السجون أو في المستشفيات، إذ أشرف الأطباء على عمليات إعدام المدنيين وخصوصاً المساركين من التظاهرات أو المدنيين غير المسيسين وإنما حسبوا على المعارضة لانتمائهم إلى مناطق تعتبر معارضة”. وكانت شحود أجرت بحثاً، تضمن لقاءات مع أطباء وممرضين وممرضات وعاملين في مستشفيات سورية، إضافة إلى ضحايا. وتوضح أنه “بعد عام 2012 تطور العنف ليتخذ شكلاً جديداً يهدف الى الابادة، فبعض الاطباء صمموا لانفسهم نظام تعذيب، من حرمان المساجين المرضى من الطعام أو الدواء، وعمدوا أحياناً إلى إعطائهم جرعات ادوية غير مناسبة أو قاتلة، فيما واصلوا إصدار شهادات وفيات غير صادقة من اجل اخفاء الادلة على القتل الطبي الممنهج”. لهذا السبب كان المعتقلون في السجون يخشون الذهاب الى المستشفيات، وبحسب الدراسة التي أجرتها شحود فإن نسبة النجاة من سجون الأفرع الأمنية هي أعلى بكثير من نسبة النجاة من المستشفيات، والأسوأ أن الطبيب كان أحياناً يختار ضحيته بنفسه إلى الزنزانة ويقودها إلى المستشفى الذي يطلق عليه السوريون اسم “مسلخ”. قدمت شحود أبحاثها إلى جامعة امستردام وأكدت من خلال البيانات أن هذا العنف ليس مجرد حالات فردية.

قبل اعتقال علاء وبعدما انتشر اسمه في تقارير إعلامية، حاول مع أحد أصدقائه تهكير حساب “فايسبوك” لأحدهم، لأنه تكلم عن جرائمه في لقاءات صحافية واتهمه بارتكاب جرائم التعذيب، بحسب ما نقلت “شبيغل”. وبعد فشل الهجوم الالكتروني طلب علاء ان ترسل صفحة الشخص الى الجيش السوري الالكتروني. اضافة الى ذلك وجدت الشرطة رسائل “واتساب” بين علاء والسفارة السورية، بحسب مجلة “شبيغل”، إذ طلب علاء مساعدة السفارة السورية في برلين، بعد انتشار الاخبار عنه، واقترح موظف السفارة عليه مغادرة ألمانيا فوراً، لكن الشرطة اعتقلته قبل ذلك.

يعتبر المحامي أنور البني أن تصرف علاء ليس غريباً، وهو لا يزال ينتمي للنظام وعقليته. وقد قام عناصر من المخابرات السورية بتهديد اقرباء أحد الشهود الرئيسيين في محاكمة علاء، بأنهم سيقتلون أخته المقيمة في سوريا في حال لم يتراجع عن شهادته أمام المحكمة ضد علاء في ألمانيا.

يأمل كثيرون بأن تعمل المحكمة على كشف دور النظام الصحي في التعذيب، من خلال التحقيق في دور بعض العاملين في المجال الطبي ومشاركتهم المباشرة في التعذيب في المستشفيات والمعتقلات في سوريا. فقد نوهت محكمة كوبلنز (محكمة الخطيب) التي انتهت راهناً، إلى دور الأطباء ومرافق الرعاية الصحية الموازي لرجال الأمن. وقد تحدث شهود عن نقص الرعاية الطبية وعن دور الأطباء في التعذيب كجزء من ظروف الاعتقال التي يعاني منها الناس عموماً في الأفرع الأمنية في سوريا. 

معظم ضحايا التعذيب الطبي، هم ممن خرجوا في تظاهرات بعد عام 2011 من أجل المطالبة بالحرية وحقوق الإنسان. وأولئك الذين اعتبرهم النظام السوري خونة وإرهابيين، لهذا اعتقلوا واختفوا من دون محاكمة في أحد معتقلات الأجهزة السرية، وتعرضوا للتعذيب في السجون أو في المستشفيات.

درج

———————————

اللواء الدكتور عمار سليمان وإدارة خدمات الجريمة الطبية/ حسام جزماتي

إلى ذكرى الطبيب الشهيد محمد أسامة البارودي

في دمشق يتابع رجل بنظارات سميكة وقائع محاكمة الدكتور علاء موسى في فرانكفورت. ورغم أنه حسم خياره منذ وقت طويل بركوب سفينة الأسد حتى النهاية فإن معرفة موقعه في العالم الخارجي ما تزال مهمة. قد لا يعرف أن هناك شهوداً على إصداره أوامر مباشرة بترويع المحتجين المصابين في مشفى حمص العسكري، وهو المكان الذي مارس فيه علاء انتهاكاته المفترضة في حقهم؛ لكن عمار سليمان يعلم تماماً أنه المسؤول الأول عن الجرائم الطبية التي ارتكبها القطاع الصحي في الجيش المسمى «إدارة الخدمات الطبية»، ليس فقط منذ أن تسلّم إدارتها عام 2017، بل لأكثر من عقد سبق كان المتحكم الفعلي فيها بوجود مديرين صوريين، عندما كان مجرد رئيس للفرع العلاجي منها.

عام 1964 ولد عمار سليمان لعائلة تتحدر من قرية صغيرة يصعب العثور عليها في الخريطة مهما كانت دقيقة. وهي «المقليسية» التي تبعد عدة كيلومترات عن «عرين الأسود» القرداحة. فكان الانتساب إلى الأخيرة أفضل بما لا يقاس. كما كانت زمالة المصادفة التي جمعته مع بشار الأسد، الذي يصغره بعام، على مقاعد كلية الطب بجامعة دمشق، وتحولت تدريجياً إلى صداقة مع مرور السنوات وتطوّع الاثنان في الجيش وهما طالبان جامعيان، ثم توجههما للاختصاص في مشفى تشرين العسكري؛ الأسد في العيون وسليمان في الجراحة العصبية.

لم تكن صداقة بشار تعني الكثير في ذلك الوقت، في ظل هيمنة شقيقه باسل على المشهد وإعداده الواضح لخلافة أبيه. لكنها كانت نقلة في حياة عمار الذي نشأ في بيئة متواضعة كابن بكر لوالده منير مهنا، الموظف الحكومي الذي تفرغ آخر عمره لمتابعة سيرة أجداده في التدين حتى نعته صفحات علوية عديدة، عند وفاته قبل عامين، بوصفه «الشيخ الجليل».

لكن حادث السير الشهير الذي أنهى حياة باسل في مثل هذه الأيام قبل ثمانية وعشرين عاماً، فتح الباب لمستقبل بعضهم وطوى صفحة آخرين. وفي حين كان الابن الأكبر لحافظ واعياً لمسيرته المرسومة فبدأ باختيار فريقه الواسع لحكم سوريا من الزملاء والأصدقاء وأبناء المسؤولين؛ فإن شقيقه الطبيب، المستدعى على عجل من بريطانيا، حيث كان يتابع اختصاصه، ليستكمل مسيرة أخيه في وراثة الحكم؛ لم يعتمد من «جماعة باسل» إلا القليلين، بحكم التنافس بين الشقيقين واختلاف طباعهما. ومن هنا فقد جمع «رجاله» بطريقة تلفيقية هجينة ضمت بعض الحرس القديم المتبقي من إرث والده إلى شبان عصريين تلقوا تعليماً شبه غربي رشحتهم زوجته أسماء، مع آخرين دفعتهم المصادفات أو المحسوبيات أو الأقدار. غير أن ثقته الكبرى ظلت تتركز على أصدقائه الشخصيين قبل كابوس الوراثة وجنة الرئاسة. وهؤلاء قلة بحكم طبيعته المنزوية قبل أن تسلط عليه الأضواء، وفي مقدمتهم عمار سليمان.

خلال سنوات إعداد بشار اختار لصديقه مساراً مشابهاً، فحجز له مكتباً بالغ الصغر في مشفى تشرين، درة تاج المؤسسات الطبية العسكرية في البلاد، مكلفاً بضبط مواعيد قدوم الأطباء وخروجهم. ولأن أكثر هؤلاء كانوا ضباطاً، وفيهم ذوو رتب عالية؛ فإنه لم يكن من المتوقع أن يستجيبوا جدياً لهذا الإجراء الذي يشرف عليه ضابط صغير، لولا أن سمعة علاقته بالرئيس القادم قد سبقته. فصار مكتبه المتواضع مقصد من طمح في ترقية أو احتاج إلى «خدمة»، أو أراد إظهار الولاء وحجز مكان في قطار العهد الجديد. أما سليمان فكان يشبك علاقاته في الوسط الطبي العسكري وعينه على قيادته في «إدارة الخدمات الطبية».

نشأت هذه الإدارة مع تأسيس الجيش السوري، كفرع من مكتبه الرابع (الشعبة الرابعة) المسؤول عن التموين والإمداد. وظلت قطاعاً هامشياً من الجيش، رغم تحولها إلى إدارة مع توسعه، حتى تولاها ماجد العظمة فشهدت في عهده الطويل عصرها الذهبي.

في العموم اشتهر العظمة بأنه زوج نجاح العطار، وزيرة الثقافة التاريخية أيام الأسد الأب والنائبة الشكلية لبشار، غير أن عارفيه يروون له سيرة خاصة.

ينتمي العظمة إلى عائلة دمشقية من أصول تركمانية لم تكن بعيدة عن الحياة العسكرية، كما هو معروف. تطوع في الجيش طبيباً واختص في الخمسينيات في بريطانيا، مصطحباً نجاح التي تزوجها بعد أسبوع واحد من تعارفهما. ويُنسب إليه شباب يساري قبل أن تعاوده شاميته وينشغل بالعمل، ليلاً نهاراً، في إدارة الخدمات الطبية التي يعدّ مؤسسها الفعلي، إنشاء للمشافي العسكرية الضخمة في العاصمة والمحافظات، وتوسعاً كبيراً في شبكة المستوصفات العسكرية، ونمواً هائلاً في شركة «الديماس» المنتجة للأدوية. مع ما يستلزم الأمر من إعداد الاختصاصيين والكوادر في جامعات بلدان غربية استورد منها أحدث التجهيزات. وقد صوحب ذلك بالانضباط اللبق واحترام الكفاءات وغياب واضح للفساد.

وفي حين ينسب مؤرخو الإدارة الشفويون للعظمة فضل تأسيسها فعلياً في مرحلة إعادة بناء الجيش في عهد حافظ الأسد، فإنهم يقولون إن عراب فسادها وتطييفها مدير آخر مديد لها هو محمود زغيبة، طبيب الصدر من قرية قرقفتي بريف طرطوس الذي وصل إلى الإدارة محمولاً على علاقات أمنية متينة واسعة. فقد استمرت الميزانية الكبيرة التي تحصل عليها من وزارة الدفاع لكن من دون تطوير يذكر، بل إن مسيرتها أخذت بالتراجع. ومن الجدير ذكره هنا أن هذه الإدارة لا تجري فقط المناقصات الطبية الضخمة للجيش والقوات المسلحة، من تجهيزات ومستهلكات، بل تشرف أيضاً على «المجلس الطبي العسكري» الموكل بفحص المجندين وتقدير نسبة عجز المصابين وقرارات أهليتهم للخدمة الميدانية أو الثابتة أو التسريح وتقدير تعويضات الجرحى. وهي كلها أبواب عريضة للنهب. ومن جهة أخرى تضافرت جهود زغيبة في التعيينات والاستبدالات الطائفية مع ميول آخرين مسؤولين عن قبول الأطباء المتطوعين في الجيش والإيفاد الداخلي لصالحه، وسواهم ممن بيدهم قرارات الإيفاد الخارجي لنيل الاختصاص. وهكذا لم تمض سنوات حتى تمت علونة القطاع بنسبة لافتة تكثفت بشكل جلي في مشفى تشرين، أطباء وجهاز تمريض وإداريين وموظفين وحتى عمالاً.

قبل الثورة كان من المعروف في المشفى، وفي إدارة الخدمات الطبية التي يتبع لها وتقيم في مبنى بكنفه، أن الكلمة الأولى فيهما لعمار سليمان بغض النظر عن المديرين الذين تعاقبوا شكلياً. أما بعدها فصار حضوره مباشراً حتى قبل أن تسمح له التراتبية العسكرية بتسلّم الإدارة أخيراً بعد وصوله إلى رتبة لواء. وطوال هذه الأعوام كان سليمان المسؤول فعلياً عن الجرائم الطبية التي مورست في المشافي العسكرية كتشرين والمزة (601) وحمص والصنمين، والأجهزة الأمنية، والسجون العسكرية بما فيها سجن صيدنايا الشهير، من تعذيب وإهمال للرعاية الصحية مما أدى مراراً إلى الموت، وأخيراً تغطية ذلك بتقارير وفاة كاذبة عن «توقف القلب» كتبها مئات الأطباء المفرزين إلى هذه المنشآت باختيار مدروس من قبل إدارة الخدمات الطبية.

في مكتبه الفخم تابع أبو بشار وثائقي «حفار القبور»

الذي بثته قناة «الجزيرة» مؤخراً وتحدث عن مسؤوليته عن المقابر الجماعية للمعتقلين. لكنه لا يبدو قلقاً بشكل خاص، فمنذ أن جمعته المصادفة بذلك الشاب الأشقر النحيل حُدِّد مصيره. وعندما قرر الطبيبان أن يصبحا قاتلين أحرقا مراكب العودة. لن تنفعه الثروة التي جمعها خلال سنوات كحصة مما يجنيه لصالح بشار وزوجته. إنه يحتاج إلى بقاء النظام كي يحافظ على أمانه الشخصي وتُحمى عائلته؛ شقيقه المقدم فراس الذي يحتل موقعاً مهماً في اللواء 105 حرس جمهوري، وصهره اللواء سمير الحجل مدير إدارة التجنيد العامة، وحتى يستمر في رعاية أسرته؛ زوجته وأولاده الثلاثة، دون أن تفرقهم أي قضبان تلوح من الغرب المتآمر البعيد.

تلفزيون سوريا

——————————–

معتقل سابق يشاهد محاكمة علاء موسى ويروي عن عيادات “القتل اللئيم” في سوريا/ منير الفقير

أيام قليلة بعد نقلي من سجن صيدنايا العسكري إلى فرع التحقيق التابع لإدارة المخابرات الجوية ربيع عام 2013، والذي يشغل الجزء الشمالي الغربي من مطار المزة العسكري في دمشق، كنت على موعد مع نقل جديد لي إلى مشفى المزة العسكري 601، والذي سبق للطبيب علاء موسى الذي يمثُل هذه الأيام أمام القضاء الألماني بتهمة مشاركته في جرائم تعذيب بحق مرضى معتقلين في مشفى عبد القادر الشقفة العسكري في حمص، أن عمل فيه.

بالنسبة إلى وافد من مجاعة صيدنايا وبردها، يغدو كل طعام يُقدَّم في الجوية نعيماً غير متوقع، حتى ولو كان ملوّثاً ببقايا متناثرة للبراز على أكف 12 معتقلاً محشورين في زنزانة لا تتجاوز مساحتها المترين. يتقاسمون الطعام في ما بينهم، بعد عودة دموية من أحد خروجين يوميين إلى جورتي مرحاض على الجميع أن يقضي فيهما حاجته، وينظّف نفسه خلال 10 إلى 15 “عدّة” (أي تعداد). المهم أن كمية الطعام جيدة، ولا مجاعة بعد اليوم.

ينتقي العقيد الطبيب محمد، من الساحل السوري خمس حالات شديدة المرض من المعتقلين، ليحيلها في مساء يوم من أيام الأسبوع إلى المشفى العسكري 601. ويشغل العقيد محمد منصب طبيب إدارة المخابرات الجوية، وهو كما علمنا آنذاك، مقرّب من رئيس الإدارة السابق اللواء جميل حسن، ويمتلك صلاحيات واسعة في الإحالة إلى المشفى، والإحالة من المشفى إلى الفرع مجدداً، أو حتى إلى القضاء، بناءً على تقييم الحالة الأمنية من حيث انتهاء التحقيق من عدمه، وتقييم الحالة الطبية أيضاً.

كانت إجراءات التحقيق والإحالة إلى المشافي، أو القضاء، في المخابرات الجوية على الأقل تتكامل بشكل ممنهج مع المنظومة الطبية العسكرية، من أجل ضبط مستويات التعذيب دون الحد المميت، ريثما يتم انتزاع أكبر قدر من المعلومات من الضحية، ومعالجة الحالات الحرجة جراء التعذيب، لتعود إليه مجدداً، وأيضاً لإيجاد مخارج طبية لتبرير حالات الوفاة تحت التعذيب، بالإضافة إلى المساعدة في عمليات التفريغ والتعبئة من سجون الأفرع، وإليها.

للعقيد محمد، مجموعة من العيادات في مختلف سجون إدارة المخابرات الجوية في دمشق، سواء في فرع التحقيق في مطار المزة العسكري، أو في آمرية الطيران، أو في فرع ساحة التحرير، أو في فرع العباسيين، بالإضافة إلى مكتبه في المشفى العسكري 601، حيث يعاين من خلالها جميعاً كل الحالات الحرجة الناجمة عن التعذيب، والحالات الحرجة التي تسببت بها ظروف الاعتقال المأساوية في أفرع الإدارة الدموية، وقد رافق وصولي إلى الجوية انخفاض نسبي مؤقت في جرائم التعذيب والقتل على الأقل في فرع التحقيق في المزة، و في المشفى 601، وتحسن نسبي ملحوظ في تعامل العقيد محمد مع المعتقلين المرضى، ومتابعته لحالاتهم الصحية.

انتهى العقيد محمد في أحد أيام العشر الأخير من شهر نيسان/ أبريل من العام 2013، من معاينتي. كنت أعاني من جفاف وإسهال خطيرين للغاية، ونحول شديد، وضيق في التنفس، وصعوبة في المشي. في مساء اليوم نفسه، نادى عليّ السجان، واقتادني إلى الباب الداخلي للسجن الجديد. هناك كان في انتظاري خمسة معتقلين من زنازين ومهاجع أخرى من السجن نفسه، أُمرنا باختيار بنطال وقميص لكل منا، من كومة ثياب مركونة جانباً، حيث أن كل معتقلي الجوية يجرَّدون في العادة من كل ثيابهم، عدا السروال الداخلي، ثم وضُعت على جبين كلٍّ منا لصاقة عليها رقم من أربع خانات، سيكون الرقم الذي سيلازم هاماتنا وألسنتنا، إن سئلنا عن أسمائنا في المشفى، أو سيظهر في صورنا إن التقطت صور جثاميننا عدسة المنشق قيصر الذي كان يمضي في المشفى ذاته الذي سنذهب إليه، أشهره الأخيرة قبل انشقاقه.

وصل الميكرو باص الذي يقلّنا إلى مشفى المزة العسكري 601، وبعد اجتيازه بوابة المشفى توقّف الباص عند مستوصف داخلي، ليقوم أحد الممرضين بأخذ عيّنات من دم المعتقلين، ثم صعوداً صوب البناء الفرنسي القديم، أو قسم الرضوض المعزول في أقصى الزاوية الشمالية الغربية للمشفى، ليتوقف الميكرو باص، فننزل منه مع بعض النعرات والركلات، ولتستقبلنا مفرزة الجوية في المشفى، وعلى رأسها المساعد عزرائيل كما عرّف بنفسه، وتحت الضرب متوسط الشدة أمرنا بالتعري الكامل، ثم تم سوقنا إلى عنبر المرضى.

وهذا العنبر، عبارة عن غرفة واسعة تزيد مساحتها عن 45 متراً مربعاً مليئة بالنوافذ المطلة على أجزاء من المشفى ومدينة دمشق، لا تغادرها الشمس طوال النهار، وهذا من حسنات المكان النادرة. أكثر من 30 سجيناً موزعين على سبعة أسرّة، أي بمعدل أربعة أشخاص على كل سرير، وفي إحدى الزوايا سريران من الأسرّة نفسها يكتظ فوقهما مرضى التهاب الكبد C، كهياكل عظمية شديدة الصفار، كان من بينها يوم دخلنا المهجع متوفى سيبات جثمانه الليلة بين زملائه، ريثما يتم سحل الجثة إلى الحمامات في اليوم التالي، سأكتشف أنه نادراً ما يتم عزل الوفيات وسحبها إلى مكان آخر، وسأنام أكثر من مرة بين جثث لشباب يموتون في المساء، ليلاصق جسمي أجسامهم طوال الليل، مع كل إفرازات عضلاتهم المنحلّة بحكم الموت.

على سرير آخر، مرضى فشل كلوي كما شخّص حالتهم الدكتور محمد، سيُساقون في اليوم التالي إلى غسيل الكلى، ليكون الموت مصيرهم المحتم، بعد فترة، بسبب إصرار الممرضين والأطباء على عدم تعقيم مدخل غسيل الدم. بُرك من البراز على بعض الأسرّة، وتحتها، وبعضه في أكياس خبز فارغة. هؤلاء هم مرضى التجفاف الذين سأكون واحداً منهم، إذ لا يُسمح للجميع بالخروج إلى المرحاض إلا مرةً أو مرتين في اليوم، وفق مهلة زمنية ضيقة جداً يمر خلالها السجين حافياً فوق أكوام الجثث الممددة في بهو الحمام.

على طرف أحد الأسرّة الأخرى، أحمد المصاب بتفتت في العظام، وقد وضُعت أسياخ علاجية من فخذه إلى ساقه، وسيُسحب في اليوم التالي ليتم فك أسياخه بلا تخدير، وليزلزل صوت عذاباته المشفى، ولا نراه بعدها. إلى جانبه مريضان أو أكثر، يعانيان من تضخّم مرعب للخصيتين بلغا فيهما حجماً مرعباً يقارب حجم حبة الباذنجان الكبيرة، مع التهاب شديد، تركا لحتفهما، وحالات أخرى كثيرة لعل أبسطها حالة مهند، الشاب الإدلبي الصغير الذي يعاني من داء السكري، وقد تدهورت حالته الصحية في مكان احتجازه في سجن المخابرات الجوية في آمرية الطيران.

وصلت قبل دفعتنا دفعة أخرى أحالها الدكتور محمد من فرع آخر يتبع للجوية إلى المشفى. في كلتي الدفعتين ثمة حالات إسعافية ستكون الأسوء حظاً، إذ سبقت يوم قدومها إلى المشفى جولة العقيد محمد، وعليها أن تنتظر جولته القادمة بعد أسبوع. فإما أن يعاينها ويصف لها العلاج المناسب، أو يكون الموت أسرع إلى واحدة من الحالات على الأقل، فيهز الدكتور محمد عندما تحين جولته برأسه لا مبالياً، ومتناولاً إضبارة المريض التالي، بعد إعلامه بأن صاحب الإضبارة السابقة قد توفي. ثمة حالات أخرى لا تصل إلى قسم الرضوض، بل تُعزل في عنابر ضباط النظام، وتحظى بعناية فائقة، وهم كما علمنا لاحقاً معتقلون يحتاج مدير إدارة المخابرات الجوية إلى إنقاذهم من الموت، بعد جولات من التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له. ووفق خبرة السيد اللواء، فإنه يمكن الحصول منهم على المزيد من المعلومات، بعد أن يتكفل الدكتور محمد وغيره بمعالجتهم.

يدخل العقيد محمد الذي يحاول أن يكون لطيفاً وأبوياً في بعض الأحيان، فيما يبدو حاقداً موالياً في أحايين أخرى، ويشتم المرضى، ويشتم مواقفهم ويجرّمهم، ويعاين كل الحالات. يصف أدويةً ومراهم ومعقمات، ويحيل البعض إلى عيادات المشفى حسب الاختصاص المطلوب، ويعيد عدداً آخر إلى الفرع، ويحوّل آخرين إلى القضاء العسكري، خاصةً أصحاب الحالات المستعصية التي انتهى التحقيق معها، ويشتم من استعصت حالته، ولا إمكانية لإحالته الآن إلى القضاء، ويهدده بالتصفية كما حدث معي. يقع على العقيد جزء من مسؤولية المساعدة في إفراغ المشفى والفرع من المرضى، ليكون عنبر المرضى جاهزاً لاستقبال نزلاء جدد.

في الأيام التالية، يتجاهل المساعدون والممرضون وبقية الأطباء الصغار، تعليمات العقيد محمد بتقديم الأدوية اللازمة للمرضى، ويضربون أي مريض يتجرأ على المطالبة بها، إلا أنهم قد يمررونها لاحقاً، ويتم نقل الحالات المرضية التي تحتاج إلى علاج في عيادات المشفى الخارجية، إلى هذه العيادات، وسط تعذيب شديد في الذهاب والإياب.

خلال النهار، يحضر أحد المحققين من الفرع ليستكمل استجواب أحد المرضى بالصفع والضرب، برفقة الممرض الموجود وبمساعدته، وقد يتزامن التحقيق الوحشي مع جولة العقيد محمد. أحياناً يطلب المحقق نقل أحد المرضى إلى غرفة التحقيق المجاورة، حيث يقوم باستجواب المريض بوحشية عبر ضربه على أماكن الإصابة، وسكب الماء المغلي عليه، وغير ذلك. أما بقية المرضى، فيقضون بقية يومهم في محاولة الحصول على أفضل فرص الغذاء والعلاج، وأيضاً قضاء الحاجة إذ تصطف ثلاث عبوات ماء للشرب، ومثلها للتبول، يتناوب المعتقلون على إدخال أعضائهم الذكرية من أجل قضاء الحاجة، ولا يُفرغ أي منهم كل مثانته، من أجل أن يترك حيّزاً في العبوة لبول زميله، خشية تسرّب البول إلي خارج العبوة، فينزل العذاب بكل المرضى على السرير.

وصف العقيد محمد للشاب مهند حقن أنسولين. كان يتناولها بشكل دوري. ولكونه لم يعد يرغب في مغادرة المشفى، فقد صار يطلب من عامل السخرة (معتقل يحظى بظروف أفضل في المشفى مقابل خدمة بقية المعتقلين)، تزويده بكميات من الحلاوة، ليتناولها قبل قدوم العقيد محمد، فيرتفع السكّر، ويقوم العقيد محمد بإبقائه في المشفى. ذات يوم، أبلغ أحد الوشاة العقيد بذلك، فأمر بعزله في غرفة منفصلة، وحرمانه من الماء والأنسولين أياماً عدة، ليعود إلى العنبر وهو فاقد للتركيز، فيهجم على الماء الذي بحوزة زملائه، حتى إذا ما فرغت قواريرنا انقضّ مهند على قوارير البول، ليشرب منها، ثم ليخرّ على السرير فاقداً القدرة على الحركة والتعبير إلا بالأنين، بعد أن دفعه المعتقلون عنها، ثم ليسلّم روحه إلى بارئها، وهو يتكئ رأسه على فخذي، قبل يوم من جولة الدكتور محمد الذي سأل عنه في بداية هذه الجولة، فأعلمه الممرضون بأنه توفي، فأجاب بـ “تمام”.

مهند ليس إلا واحداً من عشرات الشبان الذين كنّا نودعهم كل يوم في المشفى اللعين، والذين كانوا يتساقطون بهدوء كالورود الذابلة باستهتار متعمد من كادر نظام بشار الأسد الطبي، وفي كثير من الأحيان بتعمد التصفية، أو تبريرها طبياً. سبق معظم حالات الوفاة دخول المريض بما كنا نسميه “الفصلان”، إذ يفقد المريض تركيزه تدريجياً على مرأى وعلم من الأطباء والممرضين والعناصر، ثم لا يلبث أن يفقد إحساسه بالمحيط بشكل كامل، ثم يموت.

لا يمكن أن أنسى هذه المشاهد وقصصاً أخرى رُويت لي، خاصةً تلك التي سمعتها في زيارتي الثانية للمشفى، بعد شهر، وقد التهبت قدماي بشدة نتيجة الجرب الشديد. لا يمكن أن أنسى قصة أبي بسام الذي ارتأى الطبيب بتر قدميه لاستمرار الالتهاب فيهما، على الرغم من أنه كان ما يزال سطحياً، ولم يصل إلى مرحلة الغرغرينا. كيف يمكن للمرء أن ينسى تكليف العقيد محمد لعناصر الجوية بحقن المرضى بإبر في نقاط عشوائية في الخلف، وتعمّدهم عدم إفراغ بعض الحقن من الهواء بشكلٍ كافٍ، أو جهلهم بذلك.

في طريق العودة من المخابرات الجوية إلى صيدنايا، اختلى أحد العناصر بي، وطلب مني إزاحة العصبة عن عينيّ، ثم قال لي: هل تذكرتني؟ قلت له: “لا يمكنني أن أنساك”. كان العنصر هو مساعد المشفى عزرائيل الذي أمرني هناك ذات مساء مع أحد المرضى الذين فقدوا عقلهم في المشفى، بأن نصفع بعضنا حتى الإغماء. هو نفسه الذي كان يتسلى بإعدام بعض المرضى في الليل، بضربهم بهراوة معدنية على كل أجسادهم ما عدا الرأس، حتى يصل المعتقل إلى حالة النزيف الداخلي، فيموت، ثم يسجل الطبيب المناوب أن الوفاة حدثت بسبب النزيف الداخلي. استغرب المساعد عزرائيل جوابي، ثم أردف: “يعني إذا شاهدتني في الطريق فستقتلني؟”، أجبته (كاذباً): لن أفعل، فنحن جميعاً أبناء هذا البلد، فما كان منه إلا أن قال: “جيد أنك أدركت ذلك، ولو متأخراً!”

في لحظة دخول علاء موسى ذليلاً مطأطأ الرأس، إلى قاعة محكمة فرانكفورت، يمثل أمامي في اللحظة ذاتها عزرائيل، وأبو شاكوش، والمساعد كريم، وعناصر مفرزة الجوية والأمن العسكري في المشفى 601، والطبيب علي، والعقيد محمد، وثلاثة أو أربعة بين أطباء وممرضين، لا أذكر غير جرائمهم، إلا أنهم كانوا يتكلمون بلهجة جبال الساحل السوري. يمثلون صاغرين أمامي، وأمام مهند وعمر وعامر ويحيى ونبيل ومهند ومعاذ ومحمد وأحمد وهيثم وصفوان والعشرات من زهراتنا المسحولة بوحشية، بعد توقيع الطبيب المناوب على وفاتهم بنوبة قلبية، أو نزيف حاد، وسحبهم من السرير صوب الحمامات، ثم جرّاً على الدرج إلى المرآب، حيث عدسة قيصر، ثم مقابر الشاهد Z30.

ما اقترفته يدا المجرم علاء موسى، هو غيض من فيض منهجية إجرام طبي معممة على مشافي النظام العسكرية، وبعض مشافي النظام المدنية، ولن تكون محاكمة موسى إلا بداية انهيار جبل الجليد لفضح جرائم القطاع الطبي التابع للنظام، سواء وزارة الصحة السورية، أو إدارة الخدمات الطبية المسؤولة مباشرة عن مشفى الـ601، ومشفى الشقفة العسكري، وتشرين، وحرستا العسكريين، وغيرها. وهي، أي المحاكمة، مدخل لازم وغير كافٍ لتجريم هذا القطاع مهنياً وأخلاقياً، ومحاسبته مستقبلاً ضمن منظومة عدالة انتقالية مرضية للناجين والناجيات وللسوريين عموماً.

إلى ذلك الحين، سيبقى مهند متكئاً على رجليّ، يلفظ نفسه الأخير، وأنا أنظر إليه من دون أن أفارقه، حتى نرى معاً، من تلك الزاوية التي لن تخرج من رأسي، العقيد محمد وكل من معه، في محكمة ما، كتلك التي تنتقم لنا من علاء موسى اليوم.

* منير الفقير ، ناشط سياسي وحقوقي ومعتقل سابق في سجون النظام السوري – مؤسس ومنسق في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا

رصيف 22

————————

======================

تحديث 25 كانون الثاني 2022

————————–

حكم الإدانة في ألمانيا يحقق عدالة محدودة لضحايا الأسد السوريين

ترجمة: أحمد عيشة

تمثل إدانة محكمة ألمانية، الأسبوع الماضي، لأنور رسلان، وهو ضابط مخابرات سوري أشرف على تعذيب وقتل المحتجزين في ذلك البلد خلال الأعوام الأولى من حربه الأهلية، نقطة الذروة في السعي المستمر إلى المساءلة ضد نظام بشار الأسد. ولكن صعوبة تأمين إدانة جرائم الحرب حتى بالنسبة إلى بيروقراطيين من المستوى المتوسط، مثل رسلان، تؤكد أيضًا صعوبة متابعة مساءلة الأسد نفسه. إذا كانت مقاضاة مرتكب جرم منخفض المستوى مثل رسلان فرصةً صعبةً وضئيلةً، فما مدى احتمال تقديم الأسد إلى العدالة بسبب جرائمه؟!

سيدات سوريات (من اليسار: سماء محمود، مريم الحلاق، ياسمين مشعان) يحملن صورًا لأقارب لقوا حتفهم في سورية، قبل النطق بالحكم أمام المحكمة في كوبلنز، ألمانيا، 13 كانون الثاني/ يناير 2022 (صورة مارتن ميسنير/ أسوشيتد برس).

لم تنظر أي محكمة دولية أو سورية في القضية التاريخية، بل نظرت فيها محكمة في مدينة كوبلنز الألمانية، لأسباب متنوعة، تساعد جميعها في تفسير حالة المساءلة المفككة عن جرائم الحرب، سواء في سورية أو في أي مكان آخر.

أحكم الأسد قبضته على السلطة إلى حد كبير، من خلال حملة الأرض المحروقة ضد مواطنيه، وهو الهدف الذي أكده شعار محازبيه: “الأسد أو نحرق البلد”. وقد قصدوا ذلك فعليًا، كما فعل الأسد. وهو يحكم اليوم بلدًا مزقته الحرب، بعدما سيطر عليه باستخدام القوة الوحشية، وعبر مجموعة من مراكز الاستجواب والتعذيب والاحتجاز، في جميع أنحاء البلاد، التي لا تزال سليمة إلى حد كبير.

كان انتصار نظام الأسد سببًا في محو آمال الثورة المبكرة في الخلاص من الطغيان -أو التخلص من تحميل المسؤولية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات- وبناء المصالحة في دولة سورية ديمقراطية جديدة شاملة للجميع. وكان اللجوء إلى هيئة دولية بعيد المنال، بالقدر نفسه. وقد جاءت المحكمة الجنائية الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (محكمة لاهاي المدعومة من الأمم المتحدة التي حاكمت مجرمي الحرب من يوغوسلافيا السابقة، ومنهم الرئيس السابق سلوبودان ميلوسيفيتش) بنتيجة فترة مثالية تلت الحرب الباردة في التسعينيات. في ذلك الوقت، كان أنصار السعي إلى المساءلة يؤمنون بوعد المحاكمات المدعومة دوليًا بالتوصل إلى شيء آخر غير “عدالة المنتصر” التي لا تردع مجرمي الحرب في المستقبل [“عدالة المنتصر” مصطلح ازدرائي يشير إلى محاكمة الطرف المنتصر لأفعال الطرف المهزوم في الصراع. وتتضمن عدالة المنتصر عمومًا عقوبات مفرطة على أفعال الطرف المهزوم، وعقوبات خفيفة على جرائم الطرف المنتصر].

ومع ذلك، لم تلتزم الولايات المتحدة قط بفكرة مثل التزامها هذه المقاربة الدولية في التعامل مع العدالة الانتقالية، التي تتعارض بطبيعتها مع النظام المكيافيلي وسياسة القوة، ولم تلتزم أيضًا القوى الكبرى الأخرى.

من دون مناصرة كافية بين هذه الحكومات القوية لدعم تلك المقاربات، فقدت محاكمات جرائم الحرب الدولية زخمها. وهناك مثال صارخ على ذلك، المحكمة الخاصة للبنان المدعومة من الأمم المتحدة، التي أنشِئت بقصد تقديم قتلة رفيق الحريري (رئيس الوزراء اللبناني السابق) إلى العدالة، حيث تشير الأدلة التي بثتها تلك المحكمة إلى أن الأسد وحلفاءه في حزب الله هم المذنبون. لكن المحكمة عملت، تحت ضغط لا يصدَّق؛ فقد قتِل أحد المحققين الرئيسين، وواجه كثير من الشهود الآخرين ومؤيدي المحكمة وموظفيها تهديدات أو تعرضوا لهجوم. وبعد ستة عشر عامًا، ما يزال قتلة الحريري أحرارًا. وأكثر الأمور إثارةً للاكتئاب هو عدم ظهور أيّ سردية مقبولة بخصوص قتلة الحريري، على الرغم من كل الحقائق والصلات التي ربطتها المحكمة ببعضها البعض وكشفتها.

تعلّم الأسد من تلك التجربة أنه يستطيع أن ينتظر جهود العدالة الدولية حتى تنتهي، وهو يعتقد أنه سينجو من أي مساءلة، سواء كانت محلية أو دولية، ما دام متمسكًا بالسلطة.

ولذلك أتت المحاكمة في كوبلنز. باستخدام مفهوم الولاية القضائية العالمية، حيث يمكن للمتقاضين في ألمانيا رفع دعاوى ضد مجرمي الحرب المزعومين الذين ينظَر إليهم على أنهم انتهكوا القوانين الدولية التي تكون ألمانيا طرفًا فيها. ولأن ألمانيا استقبلت أكثر من مليون سوري مشرد، في أثناء رئاسة أنجيلا ميركل، فقد غدت البلاد موطنًا لكتلة حرجة من الناس القادرين على دعم الملاحقات القضائية ضد جرائم الحرب بشهاداتهم، وهو أمرٌ لا يستطيع المحققون الدوليون الوصول إليه بين السوريين الذين لا يزالون في بلدهم الأصلي. وعلى النقيض من ذلك، فإن المحققين والمحامين والناشطين والشهود السوريين المقيمين في ألمانيا مستعدون وقادرون على جمع الأدلة اللازمة لتقديم القضايا إلى المحكمة. ويمكنهم أن يفعلوا ذلك في أمان نسبي، إذا حصلوا على الجنسية الألمانية، على الرغم من أن السوريين الذين يقاومون النظام حتى في المنفى يخاطرون بأن يتعرض أقاربهم وأصدقاؤهم الذين ما زالوا في سورية، للانتقام.

يعيش كثير من مرتكبي جرائم الحرب في ألمانيا أيضًا، حيث يمكن إلقاء القبض عليهم وتقديمهم إلى العدالة، على الرغم من أن بعضهم -كما يقال- يتمتعون بالحماية من أجهزة الاستخبارات، ويتمكنون من التهرب من المساءلة.

بالنسبة إلى أولئك الذين يحلمون بالعدالة وبمساءلة مجرمي الحرب، فإن إدانة رسلان تشكل خطوة طيبة تلقى الترحيب، ولكنها تكاد تكون ضئيلة نحو المساءلة. وعلى الرغم من انشقاق رسلان عن النظام وانضمامه إلى المعارضة السورية في عام 2012، فإنه مجرمٌ خطير يستحق الحكم عليه بالسجن المؤبد. كما يستحقه كثير من المسؤولين الآخرين عن التعذيب والموت في سورية الأسد. ولكن ما يبعث على القلق أن قلة قليلة فقط من المجرمين المزعومين، وأولئك الذين هم في مستوى رسلان المنخفض نسبيًا، من المرجح أن يواجهوا العدالة، ومن الواضح أنهم لن يواجهوا العدالة، إلا إذا انتهى بهم المطاف في ألمانيا.

في أثناء ذلك، تستمتع القيادة السياسية السورية بالتقارب في العلاقات مع جيرانها ومع المجتمع الدولي، على نطاق أوسع. تمضي الجغرافيا السياسية إلى الأمام، وما دام الأسد في السلطة، فإن كثيرًا من منتقديه السابقين سيجدون دائمًا طرقًا للتعامل معه.

هذا يعادل إلى حد ما المسار في الشرق الأوسط، حيث كانت محاسبة الدكتاتوريين ومجرمي الحرب تاريخيًا غير كافية. حتى الاستثناءات العرضية لم تؤسس لمعايير المساءلة. فقد شنِق صدام حسين بإجراءات موجزة ضمن جوقة من الهتافات الطائفية، في بداية ما كان من المفترض أن يكون سلسلة طويلة من القضايا المصممة لفضح جرائمه المتعددة وخلق وحدة وطنية في العراق، واُعدِم معمر القذافي على أيدي رجال الميليشيات الذين قبضوا عليه مختبئًا في حفرة، وظل باقي طغاة المنطقة الذين أطيح بهم في العقد الماضي يعيشون برخاء، أحيانًا في المنفى، وأحيانًا أخرى في بلادهم، مثل حسني مبارك. ولم يواجه أي منهم محاسبة على جرائمه.

وعلى نطاق أوسع، يظلّ الإفلات من العقاب هو النظام السائد اليوم. تزعم بعض القوى، مثل إسرائيل والولايات المتحدة، أنها تؤمن بالاستقامة الأخلاقية وتنبذ جرائم الحرب، بينما تحمي بشكل منافق قواتها العسكرية من المساءلة، حتى من قبل محاكمها المحلية. وهناك قوى أخرى، مثل روسيا والصين، تعارض صراحة حتى نظرية المساءلة الدولية تمامًا، ويدعون إلى حق الحكومات الوطنية ذات السيادة في أن تفعل ما يحلو لها داخل حدودها أو مناطق نفوذها.

بكلمات أخرى: إن الأحلام التي ظهرت قبل 20 عامًا، عندما حوكم ميلوسيفيتش من قبل محكمة دولية ذات مصداقية، تلاشت تمامًا الآن.

يقدّم الحكم الذي أصدرته محكمة كوبلنز سببًا للرضا الصامت، فقد تحققت العدالة ضد مجرم حرب سوري واحد. وكشفت القضية بعض الحقيقة حول أهوال نظام الأسد وأظهرتها إلى العلن، وكرّمت الخسائر التي تكبدها جميع السوريين الذين تعرّضوا للعنف والقمع من قبل حكومتهم. ولكن الحكم يطرح أيضًا سؤالًا مهمًا عن السبب في عدم وجود سوى القليل من الاهتمام بقضية العدالة العالمية لمجرمي الحرب.

(*) – الآراء الواردة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز

اسم المقالة الأصلي     A Conviction in Germany Brings Limited Justice for Syrian Victims of Assad

الكاتب* تاناسيس كامبانيس، Thanassis Cambanis

مكان النشر وتاريخه      WORLD POLITICS REVIEW، 18 كانون الثاني/ يناير 2022

رابط المقالة      https://bit.ly/32uXJqR

عدد الكلمات     1196

ترجمة  وحدة الترجمة/ أحمد عيشة

تاناسيس كامبانيس، باحث ومدير برنامج السياسة الدولية في مؤسسة القرن في نيويورك. يدرّس في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا. من مؤلفاته “كانت ثورة ذات يوم: قصة مصرية”، و”امتياز الموت: داخل فيالق حزب الله”.

          مركز حرمون

———————————

سورية تحت المقصلة/ سميرة المسالمة

تضعنا أرقام التقرير السنوي للشبكة السورية لحقوق الإنسان عن عام 2021، أمام حقائق مؤلمة، توضح من جديد حاجة سورية إلى حل “فوق محلي”، أي ليس بين الأطراف السورية التي تمارس حكم الأمر الواقع في الجغرافية السورية الممزقة؛ لأن منطق العدالة التي فتح بابها أول أحكام القضاء الألماني، بحق (أنور. ر) ضابط سابق في أمن النظام، وما يمكن أن تؤول إليه محاكمة الطبيب (علاء. م)، يعني تحييد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، لا مكافأتهم والسعي لإدراجهم كأطراف في تسويةٍ سياسيةٍ تمكّنهم من جديد من فرض سطوتهم عبر تقاسمهم سلطة جديدة، أو تماهيهم في السلطة الحالية بالشراكة مع النظام المسؤول الأول عن ارتكابات مسؤوليه السابقين والحاليين.

وثقت إحصائيات الشبكة في نسختها (11) والتي أخذت عنوان “انهيار الدولة وتفتيت المجتمع” جرائم قتل خارج القانون كحد أدنى بحق 1271 مدنيًا، بينهم 299 طفلًا و134 سيدة بالغة، تتوزع مسؤولية هذه الجرائم بين جميع أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سورية على مناطق النفوذ الخمس، وهي قوات النظام السوري والقوات الروسية وميليشيات شيعية (1032)، وهيئة تحرير الشام (121)، وفصائل المعارضة المسلحة/ الجيش الوطني (420)، وقوات سوريا الديمقراطية (645)، وقوات التحالف الدولي (2)، إضافة إلى مقتل (820) لم يتم تحديد الجهات المسؤولة عنهم، بينهم 22، منهم 7 أطفال و2 سيدة، على يد حرس الحدود التركي.

بالمختصر: يمكن الحديث عن تفاوت عددي لضحايا الأطراف السورية والدولية في العام الماضي، الذي يفترض أنه الأكثر هدوءًا، بعد جملة تسويات واتفاقيات جرت بين فصائل المعارضة مع النظام برعاية روسيا، درعا مثالًا، وفي ظل مسار آستانة ومباحثات سوتشي حول إدلب ومناطق الشمال السوري باتفاق ثلاثي روسي – تركي – إيراني، لكن هذا التفاوت في عدد الجرائم المرتكبة بحق السوريين، ومنها مقتل 104 أشخاص تحت التعذيب، منهم 75 في زنازين النظام، و15 لدى “قوات سوريا الديمقراطية”، و5 عند فصائل المعارضة، و4 لدى “هيئة تحرير الشام”، و2 عند جهات مجهولة، لا يعني الخيار بينهم على أساس الأفضل أو الأقل جرمًا، بل يؤكد أننا إزاء سلطات متشابهة في السلوك، ومختلفة في الإمكانيات ومساحة الجغرافية التي تحكمها.

وعلى ذلك، فإن الحديث عن تسوية سياسية بين مرتكبي ذات الأفعال هو حديث يتضمن فعليًا قرارًا بالتنازل عن العدالة، بشقيها الشخصية والانتقالية (المجتمعية)، حيث لا يحاكم مجرم مجرمًا، وهو ما يمكن فهمه من سياق مقال السفير السابق روبرت فورد، المنشور في الشرق الأوسط 19 كانون الثاني/ يناير 2022، فهو عندما يضع العملية السياسية أو التسوية، كما سمّاها، مقابل العدالة كخيار للسوريين، فإنه يفعل ذلك استنادًا إلى حقائق الأدوار المتبادلة بين قوى الأمر الواقع في انتهاكات حقوق الإنسان، التي لا يستطيع أحد إنكارها، مع احتفاظ النظام في كل وقت بالصدارة والريادة، وذهبية أعلى أرقام الجرائم بحق السوريين، ومسؤوليته حتى عن تصنيع بعض الفصائل المتطرفة المحسوبة على المعارضة، وإهداره فرصة الحل السوري – السوري، منذ انطلاقة الثورة عام 2011 حتى انبعاث (داعش) من جديد، الأسبوع الماضي، وصحوتها لتكون سادس القوى المسيطرة والمرتكبة للجرائم في سورية.

صحيح أننا أمام مشهد الانهيار السوري، بكل أبعاده العسكرية والسلطوية والمجتمعية والمعارضة وحتى الهوياتية، ولكن كل هذا لا يعني التسليم بأن أي تسوية حول سورية يجب أن يكون أطرافها مرهونين للخيار الذي يضعنا أمامه مقال “سعادته”، الذي يأتي متأخرًا جدًا بعد أدوار سابقة لفورد في سورية، من كونه دبلوماسيًا إلى مناصرًا للثورة، ومتجولًا بين ساحاتها، إلى مشجع على التمرد، ومشرف على تشكيلات المعارضة، ومشارك في سياساتها، إلى محذر من التسويات مع النظام، ثم مهدئ وناصح للكرد بالتوجه إلى أبواب دمشق وطرقها، ثم إلى صائد تجارب ومضمونها العودة إلى تصفير الحرب وتبييض الصفحات بالعفو المتبادل والمصالح المشتركة.

لم تسعَ مؤسسات المعارضة إلى انتزاع حقّ الضحايا من المجرمين القتلة، بل فعلت ذلك منظمات ليست على خارطة التسوية التي يدفع إليها المجتمع الدولي السوريين، وهذه المحاكمات بقدر ما هي رسالة مؤلمة للنظام السوري، هي كذلك لكل مرتكبي الانتهاكات في سورية، وربما صبّت محاكمة رسلان في مصلحة شدّ الوثاق بين جميع أزلامه خشية هذا المصير، لكنها قد لا تعني أنها رفعت معنوياتهم، وأهّلتهم لاستكمال معاركهم دفاعًا عن حكمٍ يقول منطق التاريخ إنه لن يستمر إلى الأبد، ويمكن للسفير أن يلحظ ذلك على التجربة الجزائرية التي يقدّمها للمعارضة، لتحفيزهم على خيار التسوية مقابل العدالة، لأن كلّ تسوية لا تواكبها عدالة انتقالية تشدّ عضدها هي محاصصة على الخراب القادم، والانتقام الذي لا يحول بين الضحية وجلادها إلا محاكم عادلة.

تستمر أطراف النزاع المحلية والدولية في تقديم نموذج حكمها عبر أرقام انتهاكاتها، ما يفسر مطالب السوريين وتأكيداتهم بضرورة تخلي المجتمع الدولي عن النظر إلى الكيانات الحالية التي تمثل قوى الأمر الواقع “المرتكبة” على أنها أطراف تسوية ممكنة، حتى وإن اجتمعت مصالحهم اليوم خشية محاكم محتملة وأحكام مؤبدة، حيث لن ينسى الضحايا أن تحت أقنعة المتفاوضين وجوهًا خبروها وسيحاكمونها، طال الزمن أو قصر. ما يعني أن خيار التسوية لن يفضي إلى خيار “اللاعدالة”، فلكل طريقه، وناسه عليه يمشون!

وأخيرًا، أستميح الزميل محمد برو باستعارة بعض عنوان كتابه “ناج من المقصلة”، لأن سورية بكل ما فيها ومن فيها تحت المقصلة، فهنيئًا لكل ناج.

مركز حرمون

———————————–

الطب السوري بين بشار الأسد وعلاء موسى/ عمر قدور

وعندما كان طبيباً مقيماً “في مرحلة التخصص” في مستشفى تشرين العسكري، قبل ذهابه إلى لندن لإكمال تخصصه، طرد مريضاً من المستشفى لأن ابن المريض “الطبيب المقيم هناك أيضاً” صفع زميلة له متهماً إياها بالتأخر عن تلبية نداء أبيه الخارج من غرفة العمليات. صفع الطبيب زميلته بسلطة أخيه ضابط المخابرات المعروف، لينال أباه المريض العقاب بالطرد من السلطة الأعلى. الحادثة التي يرويها لنا طبيب شاهدٌ عليها في تلك الحقبة لا صلة لها بحوادث أخرى ألمّت في ما بعد بعائلة المريض كمقتل واحد من أبنائه، ثم “انتحار” ابنه ضابط المخابرات الكبير ثم الوزير، فما يهمنا في هذا السياق هو التشديد على قيام طبيب بصفع زميلته، وقيام طبيب آخر بالانتقام لتلك الزميلة بطرد مريض خارج قبل ساعات من غرفة العمليات ليؤكد أنه السلطة الأعلى التي تصفع الجميع.

الحادثة السابقة التي جرت في نهاية الثمانينات لا علاقة لها بمثول الطبيب علاء موسى اليوم أمام المحكمة العليا في فرانكفورت، في الجلسة الثانية من محاكمته، فصفع طبيبة وطرد مريض يحتاج إلى الرعاية هما بمثابة مزحة بالمقارنة مع التهم المنسوبة إليه. إلا أن تلك الحادثة المبكرة “في أيام السلم” تنذر بأن من يطرد مريضاً “لابن سلطة مدلل أيضاً” لن يتورع عن الإبادة، وهي تشرح كيف أن المستشفى نفسه جاهز لإكمال عمل فروع المخابرات عند الطلب.

وصفَ بشار الأسد الثائرين عليه بالجراثيم، وكان ذلك في مستهل الثورة. الطبيب علاء موسى في مراسلاته مع سفارة الأسد في برلين، قبل توقيفه من قبل الادعاء الألماني في حزيران2020، وصفهم بالصراصير. الجراثيم تستحق الإبادة، ومن المباح سحق الصراصير، وكانت حنه آرندت قد وضحت جيداً وهي تشرّح النازية كيف يعمل عقل الإبادة بدايةً على تنزيل قيمة الخصم إلى ما دون البشر، لتسهل إبادته ولتكون الأخيرة مقبولة على نطاق واسع. لعل هذا ما يفسّر أيضاً تمتع قتلة الإبادة براحة بال، وعيشهم حيوات اعتيادية بما في ذلك حيواتهم العاطفية وعلاقاتهم التي قد تزخر بالحب والحنان تجاه محيطهم القريب.

أداء المتهم علاء في الجلسة الأولى يعكس بالضبط العقليةَ التي تدفعه إلى وصم آخرين بالصراصير، فهو من دون أن يُسأل أسهب في الحديث عن مسيحيته، إذ بها يختلف عن “صراصير السُنّة”، ومن المرجح بشدة أن لا يراه اختلافاً بقدر ما يراه تفوقاً نوعياً. ثم إنه بمسيحيته ينتمي إلى غرب مسيحي متطور، لا يُقارن مع عموم الشرق المسلم المتخلف. حتى إنه اختار التحدث بالألمانية التي سبق له البدء في تعلمها منذ عام2009، أي أن انتماءه إلى الغرب المتطور سابق على الانتماء الاضطراري لأولئك المتخلفين الذين ساقتهم موجات اللجوء إلى البر الأوروبي الذي لا يستحقونه. إنه ليس منهم هناك في سوريا، وليس منهم هنا في ألمانيا.

التكتيك ذاته اتبعه بشار الأسد منذ بداية الثورة، فهو قدّم نفسه بوصفه الحداثي التقدمي العلماني الذي يواجه إرهابيين متخلفين. إنه بهذا المعنى ينتمي إلى الغرب المتقدم، بل بمثابة خط أول للدفاع عنه ضد الإرهاب السني. من نافل القول أن الإرهاب السني، بمعنى مغاير عما يقصده بشار الأسد وعلاء موسى، أدى واجبه كاملاً في استهداف الغرب وفي صناعة الإسلاموفوبيا، ورهاب الإسلام يظهر حالياً كاستثمار مفضّل لليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية. مع دعم الميليشيات الإيرانية ثم الطيران الروسي، نجح التكتيك الذي اتبعه بشار الأسد. لكن ما ينجح لتوافقه مع رغبات الساسة الغربيين ستكون مهمته شاقة جداً في مواجهة القضاء.

تفاصيل التهم المنسوبة إلى علاء موسى فظيعة إذا كان مرتكبها جلاد محترف، مثل سكب الكحول على عضو ذكري لمراهق وإشعال النار فيه وإعطاء حقنة مميتة..إلخ، والأمر يبدو للوهلة الأولى أفظع بكثير مع تذكر كون المتهم بها طبيباً، لتأتي مقارنته بزميله الطبيب بشار الأسد فتهوّن من الفظاعة بما هو أفظع منها. ثم، كما صار معتاداً في الحالة السورية، يأتي ذكرُ الدوافع الطائفية لتفسّر ارتكاب الجرائم والأهوال، فيُطرح التفسير الطائفي جامعاً ومانعاً لمزيد من التفكير.

من دون دحض الدوافع الأخرى، بما فيها الطائفية، يجسّد علاء موسى مآل نمط من الأطباء السوريين مع عقدة حرف الدال. من نافل القول أن الأطباء السوريين ليسوا جميعاً على هذه الشاكلة، وقد حمل نشطاء أمام محكمة فرانكفورت صور أطباء قدّموا مثلاً مغايراً تماماً لنموذج بشار وعلاء. المقصود بعقدة الدال أولئك الأطباء الذين كرّسوا جلّ اهتمامهم للحصول على لقب دكتور، ومع حيازته حملوا ذلك الشعور الفاضح بالتفوق الاجتماعي، ما يشمل تعاليهم على مرضاهم واعتبارهم مجرد أدوات لتعزيز ذلك التفوق.

لندع الرياء المتعلق بأولوية العامل الإنساني جانباً؛ لم يُنظر في سوريا إلى مهنة الطب كمهنة ذات غايات نبيلة بقدر ما هي مهنة مجزية مالياً واجتماعياً. التراتبية ذاتها موجودة في معدلات القبول الجامعي التي تضع الطب في الأعلى، بل وصلت إلى حد يُقارب العلامة التامة، بمعنى أن المقبول لدراسة الطب هو من ضمن “صفوة” ينقسم أفرادها بين المثابرة والذكاء الدراسي التامين. لا مكان للميول والرغبات في هذا السلم، إذ مَن الأحمق الذي يحصل على معدل يؤهله لدراسة الطب ويختار اختصاصاً آخر؟!

من المفهوم أن نسبة لا بأس بها من المثابرين للوصول إلى مقعد في كلية الطب تحتوي على مساكين عليهم التضحية بحيواتهم الاجتماعية، والتنسك بين كتبهم الدراسية لخوض سباق لا يرحم. هذا يسهّل عليهم لاحقاً النظر بفوقية إلى واقع لم ينغمسوا فيه على النحو الذي فعل زملاء لهم لم يدخلوا السباق، وهذه الفوقية قد لا توفر أحداً بدءاً من المجتمع العائلي الصغير الذي لا يندر أن يحتفي بإنجازه هذا الدكتورَ المتعالي عليه.

ما نُقل عن ظهور علاء موسى في الجلسة الأولى للمحكمة، ويُستخلص منه استعلاؤه وبذل جهده لإثبات تفوقه، ليس استعلاء طائفياً فحسب. أيضاً، التعالي الذي يُظهره بشار الأسد في كل إطلالة له لا يُرد فقط إلى وريث سلطة مطلقة، بل نستطيع أن نرى فيه أصالة تنبئ بشعور بالتفوق على محيطه القريب لا يُستبعد أن يكون قد اضطر لكبته حتى واتته فرصة الانفجار. هذا التعالي الأصيل، بالتساند مع الدوافع الأخرى، يجعل من مساهمة الطب السوري في الإبادة أوسع وأشمل وأكثر تطوعاً وابتكاراً مما حدث في تجارب فظيعة أخرى كأطباء النازية مثلاً. إنها مساهمة مَن تربوا طوال عقود على كون حرف الدال له مكانة فوق اجتماعية، مثلهم مثل من كان له امتياز الحصول على سيارة جديدة قبل التسعينات، نزولاً إلى من كان يستطيع شراء الموز!

المدن

—————————-

=====================

تحديث 27 كانون الثاني 2022

————————-

وماذا لو لم تكن هذه المحكمة؟/ أكرم البني

أثار حكم السجن مدى الحياة الذي أصدرته محكمة كوبلنز الألمانية بحق العقيد “أنور رسلان” رئيس قسم التحقيق فيما يعرف بفرع الخطيب / 251 / عقاباً له على ما ارتكبه من اعتقال وقتل وتعذيب للسوريين، وقبله صدر الحكم لمدة أربع سنوات ونصف السنة، من المحكمة عينها بحق صف الضابط “اياد غريب” بسبب مساعدته على اعتقال سوريين وتعذيبهم. وبعده، منذ أيام، انعقدت أول جلسة لمحكمة فرانكفورت لمحاكمة طبيب سوري متهم بتعذيب المرضى وايذائهم وقتل أحدهم في المستشفى العسكري الذي كان يعمل فيه… أثارت هذه التطورات جملة من الأسئلة وردود الفعل حول جدوى هذه المحاكمات، هل تحيي الموتى وتعيد المفقودين إلى أهاليهم والمشرّدين الى بلادهم؟ ألا يصح اعتبار ما جرى ويجري مجرد عبث غايته حرف الصراع السوري عن مجراه السياسي الحقيقي، ربما لأن أحد تداعيات هذه المحاكمات هو نسف الحل السياسي أو على الأقل عرقلته؟ ولم لا يكون الغرض من محاكمة مجرمين سوريين يعيشون في أوروبا هو تقديم أكباش فداء تمهيداً لتبرئة النظام السوري والرؤوس الأكثر إجراماً فيه؟ ألن تخلق هذه المحاكمات خشية لمن يريد من رجالات النظام الانشقاق عنه وتدفعه للالتصاق أكثر بالسلطة الأمنية وارتكاباتها، ما دام الضابط “أنور رسلان” قد هرب من سوريا والتحق، مدعياً انشقاقه، بالمعارضة السورية؟ إلى آخر هذه التساؤلات التي تحمل في صلبها انتقاداً لما جرى وأحياناً رفضاً صريحاً له.

صحيح أن هذه المحاكمات لن تخرج الزير من البير ولن تعيد للقتلى أراوحهم، لكنها هي على الأقل تشكل عنواناً صريحاً لبدء مواجهة “سياسة الإفلات من العقاب” التي طمأنت النظام السوري وغيره من الأنظمة القمعية، وأشعرتهم بالأمان وبأن لا أحد يمكنه مراجعة ما يقومون به ومحاسبتهم عليه ولو بعد حين. ثم لنسأل، ألا يفضي رفض هذه المحاكمات والاستهزاء بها إلى الاستهانة بضحايا الاعتقال والتعذيب، وممن تجرأوا وقدموا شهادات حية عما عانوه، وتالياً مصادرة حق هؤلاء الضحايا في مقاضاة جلاديهم، خاصة أن بعضهم يغامر بمصيره ومصير أقاربه في سوريا، حين يتمسك بتقديم شهادته ويتجاهل ما يصله من تهديد ووعيد؟ ألم تفضي لائحة الاتهامات التي قدمت ضد المرتكبين، إلى وضع النظام السوري بمختلف أركانه وشخصياته في قفص الاتهام، فكيف الحال وقد تضمنت حيثيات قرار الحكم وقرائن ملف الشهود ومطالبة النيابة العامة عبارات صريحة وأمثلة تاريخية، عن مجازر ارتكبت في السنوات المنصرمة وكانت استمراراً لمجازر قديمة كأحداث حماة /1982/ ومجزرة تدمر /1980/ وغيرها، مما يؤكد حصول جرائم منظمة وممنهجة في سوريا على يد سلطة حكمت البلاد بالحديد والنار والإرهاب! أليست قيمة نوعية لإدانة النظام السوري عندما تسمح المحكمة للشهود بتوثيق ما قامت به الآلة السلطوية الجهنمية، بالأسماء والأزمنة والأمكنة، من اعتقال المدنيين وإخفائهم قسراً وقتلهم تحت التعذيب وطمر جثامينهم بطريقة يندى لها الجبين، كالشهادة المرعبة لأحد المأمورين بحفر قبور جماعية لعشرات آلاف الهياكل البشرية الممهورة برقم الفرع الأمني الذي اعتقلها؟

ربما هو أمر صحيح أيضاً، أن تفضي هذه المتابعات القضائية الى خوف النظام من الحل السياسي خشية استتباعه بمحاكمات ومحاسبة وعقاب، أو أن تشكل فضائح ارتكاباته موقفاً دولياً يستمر في رفض تعويمه والاعتراف به، لكن من من الشرفاء يريد إعادة انتاج الوطن مع نظام مجرم؟ ثم متى كان هذا النظام راغباً في الحل السياسي؟ أليس هو نفسه الذي رفض التقدم خطوة في المفاوضات التي جرت لسنوات طويلة بعهدة الأمم المتحدة بل لم يقدم وهو في أشد لحظاته ضعفاً أي تنازلات ذات قيمة تسهل التقدم نحو الحل السياسي، فكيف الحال اليوم وهو الذي يتغنى بالانتصار، ويعتقد أنه أصبح القوة الوحيدة التي تؤثر في مجرى الصراع؟

بلا شك لن تشجع هذه المحاكمات من يرغب من ضباط النظام على الانشقاق عنه، لكن من الذي سوف ينشق اليوم بعد كل ما تم ارتكابه، وبعد واقع لم يعد هناك فيه أمل من معارضة مفكّكة ومشتّتة ولم تعد تحوز الثقة والصدقية لدى السوريين، ولنقل لم تعط صورة جاذبة لاحتواء المنشقين العسكريين، بل أهملتهم؟ ثم هل يمكن لانشقاق أي مسؤول في النظام السوري ووقوفه على الحياد أو انضمامه للمعارضة أن يبرئه من مسؤوليته القانونية والأخلاقية عما ارتكبه قبل انشقاقه ما دامت أفعاله تدرج ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، ويزيد الطين بلّة حين لا يبادر هذا المنشق الى الاعتراف بجرائمه والاعتذار لضحاياه، وكشف ما يمتلكه من معلومات وأدلة، تفضح التسلسل الهرمي المسؤول عن إصدار الأوامر، كي توثق الأسماء والجرائم؟

أما لمن حاول العزف على الوتر الطائفي أو القومي غامزاً من قناة انتماء هذا المتهم أو ذاك إلى هذه الطائفة أو تلك، فالحقيقة تقول أن هذا المسار من العدالة والمحاكمات هو عابر للأديان والقوميات وجوهره محاسبة كل مرتكب تبعاً لملفه الاجرامي من دون النظر الى منبته وأصله، ومثلما هناك دعاوى ضد مرتكبين من مختلف الطوائف والإثنيات، فإن القصاص لا يقتصر على جلادي النظام وشبيحته، أصحاب السجل الأوسع والأفظع من الانتهاكات، بل يمتد ليطاول الجرائم الخطيرة التي ارتكبها قادة وأفراد في مناطق المعارضة، وفي مناطق الفصائل الكردية، بمن فيهم قادة الميليشيات الموالية لإيران وامراء التنظيمات الاسلاموية الذين عاثوا إجراماً وفساداً حيثما حلوا.

طبعاً، ما كان لهذه المحكمة أن تنعقد لولا التوظيف العالمي المغرض لمبادئ حقوق الانسان، وتعطيل بعض الأطراف الأممية، كروسيا والصين، ولأسباب سياسية، دور مؤسسات الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية في متابعة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، يحدوه تواطؤ وصمت البعض الآخر، ولأسباب سياسية أيضاً، على فظاعة ما تعرض له المدنيون السوريون من انتهاكات، مما فتح الباب لتفعيل واستثمار مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي اعتمدته بعض الدول الأوربية، ومنها المانيا عام / 2002 / وتبيح ملاحقة المشتبه باقترافهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كجرائم التعذيب والإبادة، أياً تكن جنسياتهم وأيا يكن موقع الجريمة، ومقاضاتهم على ما ارتكبوه.

ويبقى أن هذه المحاكمات ليست سوى حلقة من سلسلة حلقات تتمفصل وتتكامل لفضح انتهاكات النظام السوري وارتكاباته، وكي لا يفلت أي مرتكب من المساءلة والعقاب، ومن هذه الحلقات، ملف صور قيصر، ومحاكمات مماثلة تجري في غير دولة أوروبية، ودعوى قضائية رُفعت في المانيا من قبل ثلاث منظمات حقوقية “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح” و”الأرشيف السوري” و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” حول استخدام السلاح الكيمياوي عامي / 2013 و2017 / ثم ما أثير مؤخراً عن وجود أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية جُمعت خلال سنوات الحرب وتم تهريبها لتشكل أدلة قوية على تورط النظام السوري، بمختلف رموزه، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

أخيراً نسأل ببساطة، وماذا لو لم تكن هذه المحكمة؟ وماذا لو لم ينعش حياتنا هذا الجهد الذي يقوم به حقوقيون في جمع الأدلة والوثائق وتحضير الشهود لقول شهادتهم أمام محاكم متخصصة بإدانة المرتكبين ومحاسبتهم على جرائمهم؟ هل المشهد سيكون أقل سوءاً أم أسوأ؟ الم يشكل ما يجري بداية اختراق لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها السوريون بعد عشر سنوات عجاف من اعلان ثورتهم، خاصة أن الأمم المتحدة وكثير من المؤسسات والمنظمات الحقوقية اعترفوا بأن هذه المحاكمات هي خطوة تاريخية غير مسبوقة في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة؟

موقع لبنان الكبير

—————————-

محاكمة كوبلنز: خطوة صغيرة نحو تحقيق العدالة/ حسين غرير

ظننتُ أنني لن أرى جلادي يمثل أمام العدالة قط. وها قد رأيته. وآمل أن يجد جميع الضحايا السوريين العدالة أيضاً

لن يحقق الحكم الذي صدر في محكمة بلدة كوبلنز الألمانية بإدانة العقيد السابق للمخابرات السورية أنور رسلان لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، العدالة لجميع السوريين، ولكنه مع ذلك يعد إنجازاً بالغ الأهمية.

هذا يوم اعتقدنا أننا لن نراه قط، أنا وآلاف الناجين من أمثالي، ممن اعتُقلوا ظلماً واستُجوبوا وعُذبوا بوحشية في فرع الخطيب الأمني في دمشق، الذي ترأسه أنور رسلان بين عامي 2011 و2012. خلال الفترة التي كان فيها رسلان مسؤولاً عن الفرع، تعرض أكثر من 4000 شخص للتعذيب، ويُعتقد أن 58 شخصاً على الأقل لقوا حتفهم نتيجةً لذلك.

اعتُقلتُ مرتين: الأولى عام 2011، ثم مرة ثانية في عام 2012، بعد مداهمة المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، حيث كنت أنشط. ونُقلِت في اعتقالي الأول إلى فرع الخطيب الأمني، المعروف على نطاق واسع باسم الفرع 251 للاستجواب، حيث احتُجزِت سراً وتعرضت للضرب والتعذيب. 

في سوريا، كنا نحلم بأن نرى ولو واحداً من مجرمي النظام يحاكمُ على جرائمه.

وفي حين أن أنور رسلان هو مجرد واحد من مئات عناصر أجهزة الأمن والاستخبارات التابعة لبشار الأسد، المسؤولين عن التعذيب الذي ترعاه الدولة، وعن الفظائع الأخرى التي لا تحصى والتي ارتُكبت على مدار السنوات العشر والنصف الماضية، فإن إدانته الفردية تحمل معنىً أوسع بكثير من شخصه. إنها لائحة اتهام قانونية دامغة للنظام السوري ككل.

بموجب القانون الدولي، يتم تعريف الجرائم ضد الإنسانية على أنها هجوم منهجي وواسع النطاق ضد السكان المدنيين. وتوفر هذه الإدانة الفردية دليلاً ملموساً على الفظائع التي ارتكبها النظام على نطاق واسع.

ويمثل هذا تذكيراً مهماً لأي دولة تفكر في إعادة العلاقات مع الأسد أو إجبار اللاجئين على العودة إلى سوريا بما يمكن للنظام السوري أن يقوم بفعله.

ومع ذلك، لا يزال جزءٌ مني مكسور القلب. إذ يصعبُ الترحيب بأخبار كهذه، وعشرات الآلاف من الأشخاص الأقل حظاً مني ما يزالون مختفين قسرياً ومعتقلين سراً في سجون الأسد المرعبة. فالعدالة لهم لا تلوح في الأفق.

لا شيء يمكن أن يصف رعب الإخفاء القسري في سوريا بشكل دقيق. يطلق ضباط المخابرات السورية اسم «الإخفاء وراء الشمس» على هذه العملية. وتعني العبارة العيش في الظلام، والنفي من الحياة. الإخفاء وراء الشمس حياةٌ أشبه بالموت.

بعد الحبس عدة أيام في مكان مظلم وضيق، يختلط الليل والنهار على المرء، ويفقد النور والظلام معناهما. ويبدو الأمر كما لو أنك لم تعد موجوداً على الإطلاق. تنسى التفاصيل الصغيرة للحياة، وكيف تبدو الأشجار أو ما هي رائحة الزهور.

بعد إطلاق سراحي عام 2015، هربت من سوريا بسبب الإرهاب الذي تعرضت له على أيدي ضباط الأمن والمخابرات، بمن فيهم أنور رسلان. غادرت سوريا لخشيتي من الأسر مجدداً، ولم أرغب بأن تعاني عائلتي غموضَ مآلي، في تساؤلٍ أبدي: هل هو ميت أم حي؟ أهم يعذبونه في هذه اللحظة؟ هل جثته معلقةٌ بحبل المشنقة في مكان ما؟

ربما كنت سأتمكن من مسامحة جرائم أنور رسلان ضدي لو أظهر ذرةً من الندم. لكنني شعرتُ في المحكمة أنه كان متغطرساً، ورأيتُ نظرة ازدراء في عينيه. يثابر أنور رسلان حتى اليوم في إنكاره ممارسة تعذيبٍ ممنهج في فرع الخطيب، على الرغم من الأدلة الدامغة على عكس ذلك.

لن تتحقق العدالة الحقّة لسوريا والسوريين إلا بمحاسبة بشار الأسد وأفراد قواته الأمنية وجميع أمراء الحرب وأعضاء الجماعات المسلحة في سوريا المسؤولين عن جرائم الحرب.

لم أكن متأكداً من الدور الذي ستلعبه شهادتي في السعي لتحقيق العدالة حين قررت أن أدلي بها في هذه المحاكمة. لكني أعلم أنني سأغتنم أي فرصة مستقبلية للمشاركة في مثل هذه التجربة. لا يسعنا إلا أن نأمل أن تشجّعَ كل محاكمةٍ مثل هذه على المزيد من الملاحقات القضائية لمجرمي الحرب السوريين، وأن تقرّبنا خطوةً أخرى من مستقبلٍ مختلف لسوريا.

لقد أتيحت لي فرصة رؤية الجاني يواجه المحاكمة، وهي فرصةٌ حُرم منها الكثير من السوريين بقسوة. ولا يسعني إلا أن آمل أن يمهد هذا الحكمُ الطريقَ لتحقيق عدالةٍ أوسع لجميع السوريين.

حسين غرير هو مدون سوري وناشط حقوقي، تعرض للاعتقال التعسفي والتعذيب على يد أجهزة أمن النظام السوري، وشارك بين المدّعين المشتركين في محاكمة كوبلنز.

يُنشر هذا المقال بالتعاون مع حملة من أجل سوريا- The Syria Campaign

* الصور المرفقة: (Paul Wagner- The Syria Campaign)

موقع الجمهورية

——————————

========================

تحديث 28 كانون الثاني 2022

——————————

محاكمة كوبلنز و”الفرع 251″… حتى لا تموت القصة ولا ينجو النظام/ تريسي جواد

“نضالنا هو من أجل بلد ديموقراطي، ومن أجل حماية حقوق الإنسان الأساسية، ومن أجل الكرامة والمساواة والحرية. لن أتوقف عن النضال والكفاح من أجل تلك المبادئ”.

في شباط/ فبراير 2019، أُلقي القبض على رجلين سوريين في ألمانيا، هما أنور رسلان وإياد الغريب، للاشتباه في ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية. عَمل الرجلان في مركز احتجاز “الخطيب” في دمشق حتى انشقاقهما عن النظام عام 2012. ووجهت لهما المحكمة الفيدرالية الألمانية- بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية- تُهم ارتكاب أعمال تعذيب واعتداءات جنسية وجرائم قتل أو المساعدة في تنفيذها وتسهيلها.

هذه هي المرة الأولى التي يحاكم فيها ضباط سابقون في المخابرات السورية جنائياً بسبب الفظائع التي ارتكبت في عهد نظام بشار الأسد.

بعد فشل محاولات إحالة ملف جرائم الحرب في سوريا للمحكمة الجنائية الدولية، منحت محكمة كوبلنز الفرصة للسوريين لمواجهة الجناة وسرد جرائم النظام الوحشية بالتفصيل. تشهد قصصهم على العنف الواسع والممنهج الذي ارتكب لقمع المعارضة بصورة أساسية. وساعد أعضاء المجتمع المدني والنشطاء والمنظمات الحقوقية في رسم صورة عن الفظائع التي يبررها المجتمع المدني- بل ويمحوها- عندما يُطبِّع مع نظام الأسد.

“تحقيق العدالة أمر مهم للسوريين، من المهم أن تشعر بالرضا، أن تشعر أن هناك أناساً ما زالوا يهتمون بما يحدث لنا، وبقِصصنا، وبِمآسينا”.

قدمت جمانة سيف، المحامية السورية والحقوقية والباحثة الزميلة في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الدعم النفسي والاجتماعي للشهود الذين اعتقل كثر منهم في فرع “الخطيب” وواجهوا الأوضاع غير الإنسانية هناك. فقد أطلعتهم، منذ بداية المحاكمة في نيسان/ أبريل 2020 على حقوقهم وشرحت لهم الإجراءات القضائية الألمانية بالتعاون مع فريق المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، الذي ساند الشهود خلال استعادتهم ذكريات الزنازين المكتظة والإهمال الطبي والحبس الانفرادي.

تطلع السوريون في مختلف أنحاء العالم لهذه المحاكمة ووعدها بتقديم عملية قضائية عادلة ونزيهة. تأمل جمانة بأن يُحدث الحُكم تغييراً سياسياً حقيقياً في الجهود العامة تجاه سوريا. لكنها تعتقد أيضاً أن الأحكام ليست سوى البداية. إذ لا يزال مصير 130 ألف شخص مجهولاً، ولا يعرف أحد هل هم مختفون قسراً أم محتجزون تعسفياً أم موتى.

“تقدم محاكمة كوبلنز رسالة مطمئنة لكل السوريين، فعلى رغم صعوبة نضالنا، وعلى رغم محدودية نطاقه، لا يزال هناك أمل. سيُمهد هذا الحكم الطريق للأعمال الأخرى، ونأمل أن يرسي أساسات قوية للمستقبل”.

لم يكن من السهل على جمانة مطالعة هذه القصص الآتية من موطنها مرة أخرى. فوالدها رياض معارض بارز للنظام، وتعرض طوال مسيرته المهنية للتهديد والاعتقال من الحكومة. حضر رياض المحاكمة بوصفه شاهداً، ووصف للمحكمة آلية القمع في سوريا. كانت صور قيصر من بين الأدلة التي قُدمت في المحاكمة. تُظهر الصور الضحايا الذي قتلوا في المعتقل وأصناف التعذيب الوحشي الذي مورس في المنشآت الحكومية. وتحدد الصور القاسية، التي سربها عسكري سوري منشق عن النظام، عدد المحتجزين الذي لاقوا حتفهم وتوضح السبب المفترض للوفاة.

“ما من أحد متورط في هذه المحاكمة، مر ما يقرب من عامين، ولا يزال الوضع كما هو”.

على رغم أهميتها التاريخية، عُقدت جلسات المحكمة باللغة الألمانية فقط. ولم يُسمح بأيّ تسجيلات داخل قاعة المحكمة، وهو ما حال دون توثيق المحاضر والتصريحات والشهادات لاستخدامها مستقبلاً. واضطر المراقبون والصحافيون والنشطاء الناطقون باللغة العربية إلى ترجمة المصطلحات القانونية من تلقاء أنفسهم، لتشجيع المتحدثين بغير الألمانية على متابعة المحاكمة.

زَوَّد بودكاست “الفرع 251: جرائم سورية قيد المحاكمة” المستمعين بمستجدات المحاكمة مرتين شهرياً، وقدم تحليلاً دقيقاً لمجريات المحاكمة ومواضيعها الخلافية والمحظورة. على مدار ثلاثة مواسم، ناقش الخبراء والضيوف الاعتبارات الأخلاقية للمحاكمة، وحثوا المستمعين على التمعن في قيود العدالة والتمثيل والاختيار باعتبارها جزءاً من القيود التي يفرضها النظام السوري.

يتناول البرنامج الذي يُذاع باللغتين العربية والإنكليزية، بالتفصيل، وجهات النظر التي يستند إليها الرأي العام. تجمع الحلقات بين تقديم تقارير صحافية موجزة والتوثيق الرقمي للقصة ذاتها من خلال الذهاب لما هو أبعد من أحداث الجلسات ونقل التجربة المروعة لِلشهود والناجين.

التزم فريتز شترايف، مؤسس البودكاست والمشارك في تقديمه وتحريره، بتقديم مصدر معلوماتي “مدروس جيداً ومُدقق ومُراجع ومُحقَّق” للجمهور السوري والدولي. يسعى شترايف- المحامي الحقوقي، ومنتج البودكاست المتحمس- إلى تقديم سلسلة موضوعية مُنقحة من المعلومات المضللة والإشاعات، من دون التخلي عن قناعة تامة بأن ما يحدث في سوريا هو عمل إجرامي بالغ.

“نسمع من زملاء سوريين أن هذا الأمر يُمَكّن السوريين من رواية هذه القصة المؤلمة بأنفسهم فيمسكوا بزمامها، مع عدم السماح للآخرين بسردها بدلاً عنهم، أو بشكلٍ خاطئ، أو تشويهها والافتراء عليها بحملات بروباغاندا من جميع الأطراف المختلفة”.

نجح البرنامج في صوغ التفاصيل والجوانب الفنية للقانون الدولي والجنائي بأسلوب بسيط وتحويلها إلى حلقات سهلة الاستيعاب وذات محتوى شامل متاح للجميع. تُقر نور حمادة، وهي محامية دولية سورية/أميركية انضمت إلى البودكاست في موسمه الثاني، بأن هذا العمل تطلب منها التنحي جانباً والتعلم من الأصوات الأخرى. جعلها البرنامج أيضاً تواجه التحدي المتمثل في التعاطف مع المتهمين، وفهم ولاءاتهم والتزاماتهم في سياق النظام الدكتاتوري الذي يتخلل جميع جوانب المجتمع.

“كنا انتقائيون في ما يتعلق بالمواضيع التي نرغب في تناولها، وبما هو مقدار المعلومات التي علينا عرضها، والتي من شأنها دعم القصة، دون إرباك المستمع بكثير من التفاصيل الصعبة”.

يوفر “الفرع 251” مساحةً للضحايا لإثبات صحة تجاربهم وإعادة تعريف أنفسهم في المجتمع باعتبارهم ناجين. عازف عود يحمي يديه من الأذى؛ وابنة محتجَزة مع أمها في اعتصام، تعرَّضتا للاعتداء والتعذيب للحصول على معلومات عن نشطاء شباب آخرين؛ وصانعة أفلام خضعت لعملية جراحية بعدما اغتصبها ضباط؛ وكاتبة وممثلة غائبة يمكنها تذكر ولع رسلان بالفنون؛ إضافة إلى محامٍ حقوقي أمضى خمس سنوات في السجون بسبب معتقداته الصريحة ضد النظام قبل اندلاع النزاع بوقت طويل. هذه القصص، وإن كان من المؤلم تذكرها ولها آثار محزنة في الخيال، لا بد أن نسمعها ممن عاشوا ونجوا ليرووها لنا.

“غرض التطبيع مع نظام الأسد هو محو جميع الجرائم التي وقعت. لذا فإن تأثير هذه التجارب هو الحفاظ على هذه المعرفة حية؛ لإثبات أن هذا قد حدث، ولا يزال يحدث”.

بالنسبة إلى المستمعين، فإن “الفرع 251” يقوم بما يقوم به البودكاست: الإعلام والاستكشاف والمشاركة. يثير الفريق أسئلة حول فرضية المحاكمة، وعواقبها، وحدودها فيما لا يزال الأسد يتولى السلطة. وقد تناول بعض الحلقات قضايا مثل: الإكراه، وتأثير هذه المحاكمة على كسر المحرمات الاجتماعية حول الحياة الجنسية والصحة النفسية، والتاريخ المشترك بين ألمانيا النازية والمخابرات السورية، والتربُّح من الحروب، وأسباب خيانة بعض الأطباء المهنيين المدونةَ الأخلاقية للمهنة.

سليم سلامة، منتج أردني يُقيم في أمستردام، ويصفه زملاؤه بأنه ذو أثر كبير في إيجاد اللغة التي تُترجَم إليها، على أفضل وجه، هذه القصص وموضوعاتها الشاملة إلى البودكاست العربي من البرنامج. وقد أحيت صلتُه الوثيقة بإصدارات البودكاست التي تتناول الحياة الجنسية والمساواة والفنون في الشرق الأوسط اهتمامَ الجمهور باللغة العربية، فنشأت إنشاء منصة يلتقي فيها الإنتاج التقليدي بالعصر الرقمي.

    “تقدم محاكمة كوبلنز رسالة مطمئنة لكل السوريين، فعلى رغم صعوبة نضالنا، وعلى رغم محدودية نطاقه، لا يزال هناك أمل. سيُمهد هذا الحكم الطريق للأعمال الأخرى، ونأمل أن يرسي أساسات قوية للمستقبل”.

“أنظر إلى كل ما أُنتجه باعتباره أرشيفاً. فأنا أرى في البودكاست أداةً لأرشفة القصص والأصوات. حين ننظر إلى الماضي، ستكون هناك مواد لن تُمّحى، ليُعيد الناس النظرَ فيها، والاستماع إليها، والتعلم منها. وهذا النزاع بالذات له أهمية؛ فهو يتعامل مع الثورة والحرب والمحاكم القانونية”.

أدى عمل سلامة مع “الفرع 251” إلى اقترابه أكثر من الدمار الإنساني الناجم عن هذا النزاع. ويوضح توثيق المحاكمة بالعربية أهمية اللغة الأم والثقافة الأصلية في السعي نحو تحقيق العدالة وإيجاد حل نهائي. ومع أن المحاكمة أجريت في ألمانيا، فإن كتابة تقارير عنها بالعربية ستصل إلى الجمهور في سوريا، حيث لا تزال الاتصالات مراقَبة بشكل كبير، ويُقيّد احتكار الدولة لوسائل الإعلام من التدفق الحر للمعلومات. وهي تصل أيضاً إلى المجتمع الأوسع الناطق بالعربية وفي الشرق الأوسط، حيث طغت المخاوف الفورية والمُلحّة للسياسة الخارجية والأزمات الوطنية على ما يحصل في سوريا من فظائع.

“حتى بعد عشر سنوات، أو 11 سنة، لا يزال الأمر مهماً، ولا يزال يحدث”.

وتُثبِت الأحكام النهائية للمحاكمة أهمية الحفاظ على القصص التي وردت من سوريا، وتوضح أن التمسك بالتجارب الحية يُبقي الوعد بالعدالة حياً، وهي نهاية يمكن تحقيقها بعد عقد من عدم اليقين. وفي 19 كانون الثاني/ يناير، بعد أسبوع من الحكم على رسلان، بدأت محاكمة علاء موسى في فرانكفورت؛ وهو طبيب وصل إلى ألمانيا بتأشيرة للعمالة الماهرة، ويُتّهم بـ18 تهمة تعذيب وتهمة قتل واحدة.

ومع أن المحاكمة مبَشرة، يتعاطف شترايف مع أولئك الذين “خرجوا”، مختارِين المضيّ قدماً، نأياً عن حياتهم في سوريا، وسعياً وراء راحة البال. وقد مرّ أيضاً بلحظات أثارته فيها شخصياً حدة النزاع؛ فعند تحليل أدلة الفيديو على وقوع قتلى من الأطفال نتيجة الهجمات الكيماوية في الغوطة، لم يستطع إلا أن يفكر في زوجته التي كان من المتوقع أن تضع مولودهما بعد أسابيع فقط.

يتضح من تلك الحشود والمتظاهرين في كوبلنز أن أحداً لم ينسَ سوريا بعد. وقد قدم الضحايا صفحَهم، وأبدوا استعداداً للتجاوز والمضي قدماً وإعادة بناء وطنهم. ومع ذلك، فإنهم غير قادرين على القيام بذلك عندما يكون أحباؤهم لا يزالون في عداد المفقودين، ولا تزال قلوبهم تطوف معلَّقة في أرجاء سوريا. وفي تصريحات ختامية، أكد الشهود أنهم لا يريدون مشاهدة رسلان والغريب يُعانيان كما عانوا هم، أو في عزلة وتعذيب وإهمال لاحتياجاتهم الطبية، أو إصابة أسرهم بالقلق. بل على العكس، يريدون أن يُعامَل الرجلان باعتبارهما بشراً، وهو حق حُرموا منه خلال فترة وجودهما في مركز احتجاز “الخطيب”.

قبل إنهاء المكالمة، استذكرت جمانة سيف لحظةً في المحاكمة حركت مشاعرها؛ وذلك حين سأل رئيس المحكمة رسلان بشكل ودود عن كيفية نطق اسم عائلته. كان من اللافت بالنسبة إليها أن تسمع شخصاً ذا منصب يتعامل بلطف واحترام مع رجل متهم بالتعذيب والقتل.

تمنّت حينها لو امتدت اللياقة واللطف ذاتهما إلى والدها الذي تعرض للاعتقال والتعذيب.

هذا ما تأمل أن يحدث لسوريا.

“نضالنا هو من أجل بلد ديموقراطي، ومن أجل حماية حقوق الإنسان الأساسية، ومن أجل الكرامة والمساواة والحرية. لن أتوقف عن النضال والكفاح من أجل تلك المبادئ”.

درج

————————

هل تعبّد كوبلنز الطريق لمحاكمة الأسد؟/ سعد كيوان

من نورينبرغ إلى كوبلنز.. من مفارقات الزمن أن مدينة نورينبرغ الألمانية شهدت، قبل أكثر من 75 سنة، محاكمة مجرمي الحرب النازيين، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. واليوم تشهد مدينة ألمانية ثانية، كوبلنز، محاكمة ضابط سابق في جهاز مخابرات النطام السوري، دين بممارسة التعذيب وقتل المعارضين المعتقلين في سجون النظام الأسدي، وحكم عليه بالسجن المؤبد. إنها خطوة يصح وصفها بالتاريخية، على الأقل في رمزيتها، فهل تؤسّس لفتح ملف الجرائم والفظائع التي ارتكبها النظام السوري ضد شعبه منذ اندلاع الثورة عام 2011؟

لا تصحّ ربما مقارنة محاكمة كوبلنز بمحاكمات نورينبرغ، إلا أنها مهمة من حيث الجرأة وتصدّيها لجرائم ضد الإنسانية ارتكبت وما زالت ترتكب في سورية، على الرغم من الاختلاف في المعطيات والظروف الدولية، وفي حجم الفظائع ومفاعيلها، وفي موازين القوى وتحدّي نظام استبدادي قمعي ما زال يلقى دعما وحصانة على المستويين، الإقليمي والدولي. وقد دين العقيد السابق أنور رسلان في 27 حالة قتل و25 حالة تحرّش جنسي والمشاركة في عمليات تعذيب وقتل المعتقلين في سجون النظام في الفترة التي كان فيها ضابطا مسؤولا في أحد فروع أجهزة الاستخبارات، خلال أول سنتين من بداية انطلاق ثورة السوريين، قبل أن يلجأ إلى ألمانيا عام 2014، حيث اعتقد انه سيلقى الحماية. فهل يمكن أن ينسحب الأمر على مجرمي حرب النظام الآخرين، وهم كثر، ما من شأنه أن يفتح ثغرة في جدار الإجرام السميك، ويمهد الطريق لمحاكمة النظام وسيده؟

محاكمة أخرى في ألمانيا، تلت كوبلنز، في فرانكوفرت، تستهدف أيضا نموذجا آخر من أبشع نماذج جزّاري النظام، هو الطبيب علاء موسى، المتهم بارتكاب جرائم حرب، عندما كان في مستشفى تشرين العسكري في حمص. كان هذا المتوحش يمارس قتل المدنيين الجرحى والمصابين في داخل المستشفى؟ اعترف أمام المحكمة، حرفيا وبصراحة استثنائية، بما تقشعر له الأبدان: “قتلت في المستشفيات السورية الجرحى المعارضين لنظام بشار الأسد لأنهم إرهابيون”. يجسّد هذا الطبيب، بشكل فاقع وصارخ، نهج النظام الأسدي ووحشيته، وهو النظام الذي يتقن عملية غسل دماغ أدواته. وقد حاول موسى لعب الورقة التي يلعبها النظام لتسويق نفسه مع الغرب، منذ بداية الثورة، معرّفا عن نفسه بأنه “مسيحي”، لكي يستدرّ عطف الرأي العام الأوروبي والغربي المسيحي الذي يتعاطف جزءٌ منه مع الأسد، والذي صدق مقولة إنه “يحمي المسيحيين ويدافع عنهم في وجه داعش والإرهابيين” التي روّجها جيش من رجال الدين وبطاركة الكنائس في سورية، وفي بعض أوساط الإرساليات والدوائر الكنسية المتزمتة في أوروبا، ولاقت استحسانا لدى بعض القوى السياسية الأوروبية اليمينية المحافظة والعنصرية، وأيضا اليسارية المتطرّفة منها التي ترى في بشار الأسد رجلا علمانيا، ومن أبطال “مقارعة الامبريالية”، كما كان شافيز وخليفته مادورو اليوم في فنزويلا، والمعجبة بشكل خاص بحزب الله! وقبل قضية محاكمتي رسلان وموسى، كان القضاء الألماني قد حكم في فبراير/ شباط 2020 بالسجن أربع سنوات ونصف السنة على سوري آخر، هو إياد الغريب، بتهمة اعتقال 30 متظاهرا على الأقل في مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية قرب دمشق في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، ونقلهم إلى مركز اعتقال وتعذيب تابع لأجهزة المخابرات.

وتعرّف جرائم الحرب، بحسب اتفاقيات جنيف، بأنها التي تنتهك قوانين الحرب، وتشمل استهداف المدنيين وتعذيبهم وقتل أسرى الحرب أو إساءة معاملتهم. أما الجرائم ضد الإنسانبة فهي جرائم ترتكب كجزء من هجوم واسع النظاق أو منظم ضد المدنيين في أوقات الحرب أو السلم، وتشمل الاختفاء القسري والقتل والتعذيب والترحيل أو النقل القسري للسكان وعمليات الاغتصاب الجماعي الممنهجة. وخلال عشر سنوات من الحرب، طاول الشعب السوري نصيب كبير من مآسي ممارسة النظام لكلتا الحالتين. وتتم محاكمة هولاء بناء على شهاداتٍ حيةٍ لضحاياهم الذين شاءت الأقدار، أو حسن الضيافة الألمانية ودولة القانون والحقوق، أن تجمعهم بسفاحيهم في بلد اللجوء الواحد. وبحسب مبدأ القانون الدولي، يمكن محاكمة الجرائم ضد الإنسانية في أي مكان، بغض النظر عن البلد الذي ارتكبت فيه، بشرط أن يكون المتهم حاضرا في قاعة المحكمة. وقد سبق لمحاكم ألمانية أن حاكمت مرتكبي مجازر ضد الأيزيديين، ومجازر الإبادة الجماعية في رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وبالتالي، ليس حكم محكمة كوبلنز الذي صدر بحق أنور رسلان مجرّد محاكمة شخص أو معاقبته، وإنما لنظام بكامله، إذ لم يمارس هذا العسكري السابق التعذيب والقتل بدوافع شخصية، وإنما لأنه كان ضابطا رفيعا ومسؤولا عن “قسم التحقيقات – فرع 251″، وهو السجن سيئ الصيت والمعروف باسم “أمن الدولة – فرع الخطيب”، والذي مارس فيه التعذيب، بحسب إفادات الشهود، ضد أربعة آلاف معارض في الاعتقال. وبعد عامين من اندلاع الثورة، تمكّن رسلان من الفرار عبر الأردن وتركيا، وحصل على اللجوء السياسي عام 2014 في ألمانيا، إلا أن أحد ضحاياه تعرف إليه ذات يوم وهو يمشي مطمئنا في أحد شوارع المدينة الألمانية، بحسب تقارير زوّدتها الشرطة للقضاء، واستمر في مراقبته، ومن ثم ادّعى عليه عام 2019.

حوكم رسلان بناء على جرائم وأفعال ارتكبها بشخصه، ولكنه كان ينتمي إلى جهاز أمني تابع لنظام يمارس القمع والاستبداد وزجّ المعارضين في السجون منذ أوائل السبعينيات إثر الانقلاب العسكري الذي قام به حافظ الأسد للاستيلاء على السلطة في سورية، نظام يمارس تغذيب المعتقلين والمعارضين الذين يملأون السجون السورية بالآلاف، ومنهم من قتل وآخرون لا يزال مصيرهم مجهولا، مثل سجن صيدنايا الذي نفذ فيه النظام خلال خمس سنوات من بداية الثورة، بحسب منظمة العفو الدولية، إعدامات جماعية سرّية بحق 13 ألف معتقل غالبيتهم من المدنيين المعارضين، أو سجن تدمر سيئ الصيت الذي شهد، في ظل حكم الأسد الأب في أوائل الثمانينيات، أفظع وأكبر مجزرة أودت بحياة مئات من السجناء من مختلف المستويات الاجتماعية والساسية، ممن هم محسوبون في غالبيتهم على جماعة الإخوان المسلمين الذين لم يتوان حافظ الأسد عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بحقهم، ممارسا سياسة الأرض المحروقة عندما ارتكب أكبر وأفظع عملية إبادة ممنهجة في حماة عام 1982، إذ لم يتورع عن قصفهم بالطيران وسحقهم بالدبابات، وقاربت حصيلة المجزرة عشرين ألف قتيل. أما خليفته وابنه بشار فقد استنبط وسائل أخرى و”أحدث” للقتل الجماعي وسحق المنتفضين على حكمه الاستبدادي، عبر رمي البراميل المحشوّة بالمواد المتفجّرة من الجو على المدنيين، فيما دباباته تدكّ المنازل والسكان الآمنين بالمدفعية، ناهيك عن استعماله السلاح الكيميائي، مثل غاز السارين، ضد المدنيين، في أكثر من مكان ومناسبة، لعل أفظعها مجزرة الغوطة الشرقية التي ارتكبت في صيف 2013، وقدّر عدد ضحاياها بنحو 1500 شخص، بفعل استنشاقهم غاز الأعصاب السام!

ربما علينا أن نترحم على الإدارة الأميركية السابقة، أقلّه في هذه القضية، وتذكير إدارة جو بايدن الحالية، التي ما زالت ترفض إعادة الاعتبار لنظام الأسد، بأن جيمس جيفري الذي كان مكلفا بالملف السوري في إدارة ترامب صرّح أكثر من مرة بأن بشار الأسد “عار على البشرية ومجرم حرب، وربما أكبر مجرمي الحرب في عالم اليوم وأشدهم قسوة” (18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019).

أليست كل هذه المجازر والفظائع التي تساوي عملية إبادة جماعية ممنهجة لشعب كافية لفتح ملف محاكمة هذا النظام الذي لا يختلف، بطبيعته وبأساليبه، وبما ارتكبه عن الجرائم التي ارتكبتها النازية، مع الفارق، طبعاً، في شمولية الجرائم واتساعها؟

العربي الجديد

————————–

مؤبد الضابط رسلان ومحاكمة الطبيب علاء طريق العدالة المنشودة سوريا يبدأ بخطوة صغيرة/ حسام محمد

قضت المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز بألمانيا في 13 من شهر كانون الثاني/يناير الحالي، بالسجن مدى الحياة على الضابط السوري السابق أنور رسلان، الذي تسلم منذ كانون الثاني/ينير 2011 حتى أيلول/سبتمبر 2012 رئاسة دائرة التحقيق في فرع الأمن 251 «فرع الخطيب» التابع لجهاز المخابرات العامة في النظام السوري، حيث أدين بالتعذيب، و27 جريمة قتل وحالة عنف جنسي.

فيما أنهت المحكمة الإقليمية في مدينة فرانكفورت الألمانية، أولى جلسات محاكمة الطبيب علاء موسى المتهم كذلك بتعذيب وقتل مدنيين في مستشفيات عسكرية في سوريا، إذ أعلن عن تحديد يوم 25 كانون الثاني/يناير الجاري موعداً للجلسة التالية، فيما وجهت المحكمة الألمانية خلال جلستها الأولى، 18 تهمة إلى موسى لارتكابه جرائم ضد الإنسانية.

أنور رسلان، وهو ضابط سابق في المخابرات السورية، اعتقل من قبل الشرطة الألمانية بناء على قرار من المدعي العام الألماني المختص بالجرائم الدولية بتاريخ 9 شباط/فبراير من عام 2019 ووجّه إليه الادعاء العام بحسب المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، تهمًا بتعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، والتسبب بموت 58 معتقلا تحت التعذيب.

بالإضافة لتهم أخرى تتعلّق بالاغتصاب والعنف الجنسي. وفي 23 من شهر نيسان/أبريل من عام 2020، افتُتحت محاكمته العلنية لدى محكمة كوبلنتز بشمال الراين بألمانيا، وخلال 21 شهرًا تقدّم 29 مدعيًا وضحية بإفاداتهم أمام المحكمة بالإضافة للعديد من الخبراء وضباط الشرطة وشهود لجهة الدفاع عن المتهم.

في حين أن الطبيب علاء موسى، الذي أوقف في حزيران/يونيو 2020 في هسن في غرب ألمانيا، يحاكم أمام محكمة فرانكفورت في 18 حالة تعذيب معارضين للنظام السوري وبتهمة قتل معتقل بحقنة، ويواجه احتمال الحكم عليه بالسجن مدى الحياة.

موسى متهم كذلك بقيامه في صيف 2011 أي السنة التي بدأت فيها الثورة السورية منذ آذار/مارس من العام المذكور، برش مادة الإيثانول على الأعضاء التناسلية لمراهق وإضرام النار فيه باستخدام قداحة، في قسم الطوارئ في مستشفى حمص العسكري، وفق العديد من الوسائل الإعلامية ووكالات.

وخلال جلسة المحكمة الأولى التي جرت قبل أيام، قال القاضي موجهاً كلامه للمتهم علاء موسى إن مجلس القضاة على علم بمحادثة «الواتسآب» بين المتهم علاء موسى وبين موظفة السفارة السورية في برلين لذلك «سوف نمدد الحجز الاحتياطي لك خشية أن تهرب».

وقال المحامي أنور البني، إن «المركز السوري للدراسات والأبحاث والقانونية» كان من المشاركين في رفع الدعوى على موسى، إلى جانب «المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية» بعد جمع شهادات ضحايا، بعد إثارة التهم له إعلامياً، من قبل «القدس العربي» ووسائل إعلام أخرى منها موقع «زمان الوصل» وقناة «الجزيرة».

وأوضح البني خلال تصريحات سابقة لـ«القدس العربي» أن موسى متهم بتعذيب معتقلين ومتظاهرين في حمص، حيث تسبب بوفاة معتقل على الأقل، علاوة على الأضرار البدنية الكبيرة التي ألحقها بعدد غير محدد من المعتقلين، أثناء عمله طبيباً في مشفى حمص العسكري. وقال لـ«القدس العربي» إن السلطات الألمانية أوقفت موسى منذ أكثر من عام ونصف العام، علماً بأنه كان يعمل طبيباً في أحد المستشفيات الألمانية.

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني صنف هذه المحاكمات خلال تصريحات أدلى بها لـ «القدس العربي» ضمن خانة التحركات الهامة نظرا لإدانتها منظومة النظام السوري، رغم محاكمتها لأفراد، ففي الإطار كل أفراد النظام وخاصة القيادات العليا فيه، ضمن دائرة الاتهام، وبالإمكان بناء قضايا ضدهم، ولكنهم غير متواجدين خارج البلاد ولن يتوجهوا إلى أوروبا، إلا أنه من الممكن إصدار مذكرات بحقهم.

حظيت هذه المحاكمات بتغطية إعلامية واسعة النطاق، فقد تمت تغطيتها من أكثر من 300 وسيلة إعلام حول العالم، وتحدث عنها العديد من زعماء الدول ووزراء الخارجية والعدل، وتكتسي هذه المحاكم أهميتها لتسليط الضوء على انتهاكات النظام السوري وإدانته بشكل قضائي لأول مرة، مما يجعلها محاكم بغاية الأهمية.

خطوة صغيرة في طريق العدالة

كذلك ستشكل هذه المحاكم بحسب عبد الغني، منعطفا في إعادة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، حيث ستعرقل هذه المحاكم مهمة الجزائر التي تسعى لإعادة الأسد إلى الجامعة العربية، فيما كان حديث بعض الدول عن تطبيع العلاقات مع النظام السوري من أشدِّ الأمور استهجاناً في عام 2021 وكان الأسوأ من ذلك عدم اعتراض الدول الديمقراطية على هذا الطرح البشع، الذي لا يقيم أي اعتبار للملايين من الشعب السوري الذين هم ضحايا قتل، وتعذيب، وتشريد، من قبل النظام السوري، والذي لم يغير شيئاً من سلوكه المتوحش تجاه شعبه.

كما أنه ما زال يرفض تماماً أي حلٍّ سياسي على أسس ديمقراطية تراعي مبادئ حقوق الإنسان. كما أن بقية أطراف النزاع ما تزال منخرطة في ارتكاب انتهاكات متعددة وما زال الجميع يعتاش على أنقاض الدولة السورية المنهارة.

مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، استبعد في ذات الوقت إمكانية تصيد المحاكم لشخصيات محورية في النظام السوري في الوقت الراهن، حتى لو صدرت مذكرات اعتقال في الدول الأوروبية بحق قيادات الأسد، حيث تنتقل تلك القيادات ضمن الدول المتحالفة معها كإيران وروسيا وغيرهم، حتى أن الضابط السابق رسلان، لا يعتبر من قيادات الصف الأول أو الثاني ولا حتى الخامس في النظام السوري، وكذلك هو حال الطبيب المتهم علاء موسى، الذي بدأت محاكمته مؤخرا، فالنظام يمتلك سلسلة طويلة ومعقدة من قيادات الأجهزة الأمنية.

كما اعتبر المصدر الحقوقي، أن هذه المحاكمات، خطوة صغيرة في طريق العدالة المنشودة في سوريا، متأملا بتوفر محكمة خاصة بسوريا، ووجود محاكم وطنية ضمن مسار كامل للعدالة الانتقالية في البلاد.

كذلك رأى عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، المحامي ميشال شماس، إذ قال لـ «القدس العربي»: الأمر ليس بهذه البساطة، فإذا كان هذا المسؤول الأمني متواجداً في إحدى الدول الأوروبية التي تأخذ بمبدأ الاختصاص العالمي، وتوجد أدلة وشهود عليه نستطيع بالتأكيد الادعاء عليه وإمكانية توقيفه واردة جداً.

معتبراً أن أهم المعوقات لرفع المزيد من القضايا ضد المتورطين بجرائم حرب وانتهاكات في سوريا، تكمن بتردد الشهود في الإدلاء بما لديهم من معلومات لدى السلطات المختصة في أماكن تواجدهم.

نقلة نوعية ومعوقات

في الأسبوعين المنصرمين، انتهت محاكمة عقيد في مخابرات الأسد، وبدأت محاكمة طبيب كان يمارس القتل والتعذيب بحق المرضى في المشافي العسكرية، وبعد أشهر قليلة ستبدأ محاكمة موفق.الد، وهو عنصر تابع لميليشيات أحمد جبريل، الجبهة الشعبية – القيادة العامة.

في هذا الإطار، قال المحامي شماس لـ «القدس العربي»: سنواصل «ملاحقة هؤلاء المجرمين ما استطعنا إلى ذلك وهي جرائم لا تسقط بالتقادم، وننتهز هذه الفرصة وأدعو من خلالكم كل الضحايا والشهود ألا يترددوا في الادلاء بما لديهم من معلومات، لأن الصمت والسكوت سيشجع المجرمين على مواصلة إجرامهم بحق شعبنا».

وأضاف، إنشاء مثل هذه المؤسسة، يجب أن يتم على الأراضي السورية، مما يعني أن إنشاء مثل هذه المؤسسة متعذر اليوم بفعل الاحتلالات المتعددة للأراضي السورية.

كما اعتبر، أن هذه المحاكمات تعد غير مسبوقة في تاريخ سوريا الحديث، فقد امتدت بالفعل وطالت أكثر من ستين مسؤولاً أمنياً بمن فيهم بشار الأسد وشقيقه ماهر الأسد، حيث تم تقديم سبع قضايا في كل من السويد وألمانيا والنروج والنمسا، وقد صدر في بعضها مذكرات توقيف بحق اللواء جميل حسن وعلي مملوك ومحمود عبد السلام رئيس فرع التحقيق في المخابرات الجوية.

لكن في هذه القضايا تقف عند حد إصدار مذكرة توقيف فإذا تم إلقاء القبض على المتهم تبدأ المحاكمة بحقه، فالمحاكمات في مثل هذه القضايا تستوجب حضور المتهم ولا مجال للمحاكمات الغيابية.

حدث غير مسبوق

عضو هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير في سوريا، المحامي ميشال شماس، أشار خلال حديثه لـ «القدس العربي» إلى أن هذه المحاكمات جاءت عقب عجز المجتمع الدولي عن القيام بما يجب أن يقوم به لمحاسبة المجرمين، ونتيجة لانسداد باب محكمة الجنايات الدولية بفعل الفيتو الروسي، لم يكن هناك من طرق، سوى البحث عن مسار آخر نستطيع من خلاله ملاحقة هؤلاء المجرمين، من خلال اللجوء إلى مبدأ الصلاحية العالمية الذي يسمح لأي قاض وطني ملاحقة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة بصرف النظر عن مكان ارتكاب الجرم أو جنسية الجاني.

من هنا تأتي أهمية محاكمة الطبيب علاء موسى في فرانكفورت الألمانية، لتؤكد ما سبق من أننا ماضون في ملاحقة ومحاسبة الذين ارتكبوا جرائم ضد الشعب السوري، وأن الحكم الذي صدر بحق العقيد أنور رسلان لم يكن سوى خطوة أولى في طريق طويل نحو العدالة لكل الضحايا.

كما تأتي أهمية هذه المحاكمة اليوم، لتؤكد أننا لا نستهدف الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم بسبب لونهم أو آراءهم أو انتمائهم الديني أو لأنهم منشقون، بل لأفعالهم الجرمية التي ارتكبوها.

وبلا أدنى شك إن هذه المحاكمات ستؤسس بحسب المحامي شماس، لأية محاكمات يمكن أن تجري ضد المجرمين في المستقبل، وهذا ما يعطيها أهمية إضافية، فضلا عن تلك المحاكمات وما صدر عن بعضها من أحكام إنما هي تصدر ضد مجرمين ينتمون لنظام ما زال قائما ويحكم قبضته على جزء كبير من سوريا ويمارس فيها نفس الجرائم يومياً.

كذلك تأتي أهمية هذه المحاكمات من أنها تجري فيما يبحثون عن حل للقضية السورية، وهي أحداث تحصل لأول مرة في التاريخ أن تسبق إجراءات العدالة قبل إيجاد الحل في البلاد.

التأثير المحدود

الباحث في المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام رشيد حوراني استبعد خلال تصريحات أدلى بها لـ «القدس العربي» أن تكون لهذه المحاكمات أي تأثيرات على المستوى السياسي السوري، أو على المستوى العربي- السوري، وكذلك على صعيد الخطوات التي قد تقدم عليها بعض الدول وإعادة العلاقات مع النظام.

فقد صرح وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد مؤخرا، أن 14 سفارة عربية تعمل الآن في دمشق، وأنهم يعملون على تحسين العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه مع تلك الدول، فهذا التصريح يأتي بالتزامن مع صدور قرار المحكمة بحق العقيد رسلان بالسجن المؤبد، ومن قبله صف الضابط إياد غريب، خاصة أن الأنظمة العربية لا تهتم كثيرا بقضايا حقوق الإنسان كحالة النظام السوري.

فعلى سبيل المثال، لا بد من ذكر اعترافات الوزير اللبناني السابق ميشيل سماحة في قضية نقل المتفجرات من سوريا إلى لبنان بالتنسيق مع علي مملوك، قبل عدة سنوات، ورغم ذلك نرى لبنان لم يستطع أخذ موقف حيادي بالمطلق تجاه النظام والثورة.

بل كانت هناك سياسة أطلقوا عليها النأي بالنفس، وسياسة ضاغطة على اللاجئين السوريين في لبنان. وشارك فريق منه ميليشيا حزب الله النظام السوري في قتل وتهجير السوريين، وعليه فإن هذه الأنظمة لا يهمها إلا ما يحفظ استمرارها.

ونذكر كذلك، أن الأمم المتحدة عملت بمبدأ «حق التدخل الإنساني» بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بهدف الحد من انتهاكات حقوق الإنسان التي قد يكون المتسبب فيها نظام الحكم في بلد ما أو أطراف متحاربة داخل ذلك البلد كالحالة السورية مثلا.

وطبق ذلك في شمال العراق لحماية الكرد، وفي البوسنة وكوسوفو ورواندا، من خلال إعطاء مجلس الأمن، صلاحية التدخل العسكري في أي منطقة من العالم، من دون انتظار موافقة البلد الذي سوف يتم التدخل فيه.

بناء على ما سبق فإن العديد من المنظمات الحقوقية المحلية كالشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمنظمات الحقوقية الدولية كهيومن رايتس ووتش سبقت محكمة كوبلنز في توثيقها للانتهاكات؛ إلا أن ذلك لم يحدث أي فرق في التقدم في العملية السياسية والضغط على النظام. ومن جانب آخر من المعروف لكي يتم التقيد بنتائج هذه المحاكمات والالتزام بها (كوبلنز) اعتراف الدول بها وبولايتها العالمية، خاصة أن هذه المحاكمات لا تحاكم إلا من يكون على الأرضي الألمانية. أو بمعنى آخر من هي الجهة التي خولت القضاء الألماني بمنحه تطبق المبدأ القانوني للولاية القضائية العالمية، أهو القضاء الألماني منح نفسه هذه الصلاحية كدلالة رمزية على نزاهته، أم لهذه الصلاحية اعتراف دولي بها؟

بسبب كل ما سبق، قال الباحث: لن يكون لهذه المحاكم، أي تأثير على المستوى السياسي، علاوة عن ازدواجية المعايير والتطبيق حتى في القرارات الدولية، وتقديم التفاهمات السياسية التي تحكمها المصالح على كافة الجوانب الأخرى إنسانية، أو أخلاقية، أو تعليمية، أو اجتماعية».

كما استبعد المصدر، أن تؤثر هذه المحاكمات على تنقلات رؤوس الأفرع الأمنية في سوريا، ففي نهاية العام المنصرم شارك اللواء حسام لوقا في المنتدى العربي الاستخباراتي في السعودية، رغم العقوبات المفروضة عليه من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي.

—————————-

===========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى