إخوان الإخوان المسلمين/ حسام جزماتي
رغم ثراء هذا التركيب وطاقته التفسيرية العالية إلا أنه أقل شيوعاً مما يستحق. وبالبحث في تاريخ الجماعة يبدو نشوء حالة «إخوان الإخوان» أقدم بكثير من ظهور التسمية. ورغم محاذير رصد «كبرى الجماعات الإسلامية»، عمراً وعدداً وامتداداً جغرافياً، بما يعنيه ذلك من اختلاف التجارب؛ إلا أنه يمكن، بقدر معقول من المغامرة الوصفية، تتبع هذه الظاهرة منذ نشوء الجماعة في رحم الوسطية المسلمة العامة على يد حسن البنا الذي منح جماعته تعريفاً موشورياً حمّال أذرع حين قال إنها: «دعوة سلفية وطريقة سنّية وحقيقة صوفية وهيئة سياسية وجماعة رياضية ورابطة علمية وثقافية وشركة اقتصادية وفكرة اجتماعية». مما أتاح لها الانفتاح على مروحة متعددة من الداعمين الذين لم ينتسبوا إلى التنظيم وإن ارتبطوا بوشيجة منسجمة معه، مرّت عبر العلاقات الواسعة التي أنشأها البنا بشكل شخصي مع عدد من الرموز الدينية والوجاهات الاجتماعية وكبار الموظفين في مصر. وعندما أخذت الجماعة بالتمدد إلى الإقليم والعالمين العربي والإسلامي حظيت، كذلك، برعاية شيوخ بارزين محلياً لم يجدوا أنه من الأنسب لمكانتهم وعموميتهم أن يقيدوا تأثيرهم بالانتماء إليها. وقد تفهمت الفروع ذلك، آخذة في الاعتبار أن لها رصيداً من الحلفاء الأقوياء يمكن اللجوء إليهم في المناسبات الانتخابية والملمات السياسية مع السلطات القطرية.
ومن هنا جاءت المرحلة الثانية الأكثر أهمية في تشكل الظاهرة. وهي الصدامات المتلاحقة بين الجماعة ورجال الحكم في المشرق العربي، بدءاً من اغتيال البنا عام 1949، في عهد الملك فاروق، ثم محاولة اغتيال جمال عبد الناصر وحظر الجماعة في مصر، عام 1954، مروراً بحل فرعها السوري تمهيداً لقيام دولة الوحدة، عام 1958، وعودتها إلى العمل تحت الأرض منذ وصول حزب البعث إلى السلطة في دمشق، عام 1963، وتجارب عديدة أخرى. وقد أدت الظروف المضطربة هذه إلى لجوء عدد من رموز الإخوان وشيوخهم إلى بلدان مختلفة، في الخليج العربي وأوروبا وسواهما، مما أضعف الصلات التنظيمية التي كانت صعبة في عصر الاجتماع الشخصي والتواصل الورقي، فضلاً عن حظر عمل التنظيم في بعض دول اللجوء مع استقبال أعضائه والترحيب بهم والسماح لهم بالنشاط الفردي. وقد أنتج هذا كله عدداً من الإخوان السابقين من دون فك ارتباط أيديولوجي وأخوي وعاطفي. بالإضافة إلى من هجع في بلده من الأعضاء الأقل أهمية، من دون انتظار لحظة العودة إلى التنظيم بالضرورة، وإن بقي في طيف الإخوان ثقافياً ودينياً واجتماعياً.
أتت المرحلة الثالثة مع إرخاء ارتباط الفروع بالمركز المصري الذي كان يعاني «المحنة» في سجن عبد الناصر، من دون أن يستطيع تقدير الظروف المحلية لكل بلد. وهكذا نشأت لامركزية شبه كاملة، حدّ منها فقط إنشاء «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين» الذي كان، في كثير من المناسبات، أشبه بنادٍ للتنسيق، الذي تعذر أحياناً، بين التنظيمات الإخوانية التي أخذت تشبه بلدانها باطراد، وتتخذ مساراتها الوطنية الخاصة المتباينة. وهكذا أصبح لدينا عدد من الجماعات ذات الماضي الإخواني بعد أن كان هذا الأمر يقتصر على الأفراد. وأيضاً تفهمت الجماعة الأم ذلك وإن لم تعجبها بعض المسارات والسياسات المحلية أحياناً وحاولت التدخل، لكن على الأرضية الرحمية الرمزية من دون قدرة على الإلزام.
مع عمرها الذي قارب القرن ووسطيتها التأسيسية والمستمرة زادت قناعة الجماعة بأنها «مدرسة». يتأثر بها من شاء أو يعبرها تنظيمياً باتجاهات غير قابلة للضبط، أسامة بن لادن نحو السلفية الجهادية وراشد الغنوشي إلى الديمقراطية والمواطنة والتعددية الشاملة، في تعقيد لانهائي للمشهد. أما من يريدون اختزاله فقد نظروا إلى كل هذه التفرعات والتحولات بوصفها أذرعاً سرية متكاملة لجسد «أخطبوطي» مضبوط برأس مركزي، سعوا إلى استئصاله في دورات مكلفة من القمع، وغير مجدية إلا في توسيع دائرة إخوان الإخوان على حساب كتلة الإخوان نفسها، خروجاً من التنظيم بسبب التبعات الأمنية أو تجنباً للانتساب إليه للأسباب نفسها، وغيرها. وهكذا أصبحنا في زمن إخوان الإخوان.
ما ينطبق على عموم جماعة الإخوان المسلمين، إن صح التعبير، يجد بعض تعيناته المركزة في فرعها السوري. فمنذ طوردت الجماعة في أوائل الثمانينات، إثر صدامها مع النظام في دمشق، وحُكم على المنتسبين عليها بالإعدام بموجب القانون 49؛ خلت البلاد منها تماماً إلا في السجون، وتفرّق من هربوا في بلدان عديدة بحكم الظروف السياسية أو الشخصية أو عشوائياً. ومع مضيّ ثلاثين عاماً حتى قيام الثورة كانت الجماعة قد أصبحت أرخبيلاً من التجمعات هنا أو هناك، تلتف حول شخصيات تنظيمية بارزة وفق انحيازات سياسية، واعتبارات مناطقية مهجرية أو أصلية، ومصالح ليست مدانة بالضرورة. وخلال عقود التهجير نمت لدى الجماعة نزعات باطنية قامت على تلفيقية إخوانية تقليدية، من جهة أولى، وعلى الشعور بالملاحقة والاضطهاد من جهة ثانية. وفضلاً عن هذا فإن بُعدها عن أرضها أوهمها أن مجمل العرب السنّة جمهورها، أضف إليهم من شئت من الأكراد بناء على المساواة في الحقوق الثقافية واللغوية، ومن المسيحيين انطلاقاً من اعتماد فارس الخوري، المتناغم مع الدولة المدنية للأكثرية السنّية، نموذجاً متجدداً ومتوالداً ذاتياً. وما على بقية الطوائف الإسلامية إلا اتخاذ أماكنها المتاحة في القطار الذي يطلق الصافرة!
اليوم على الإخوان المسلمين السوريين أن يلحظوا، بين أمور كثيرة، أن جمهور مناصريهم انحسر إلى حد مريع عن العام 2011، حين استقبلهم عموم مواطنيهم الثائرين بصدر رحب وتقدير لافت نتيجة المظلومية التدمرية، من دون أن يكون مستعداً للارتباط بهم تنظيمياً إلا في حالات قليلة. لكن هذا الجمهور من إخوان الإخوان السوريين قد انقلب الآن، بتأثير من ألعاب الكراسي الكواليسية التي مارسها الإخوان في مؤسسات المعارضة، وسلوكهم كعصبة متضامنة من «خلايا نائمة» لا يظهر إلا رأسها، وبعض التصريحات الباردة غير المتوافقة مع الجمهور الثوري، والمشاريع التي مارسها هذا الجناح أو ذاك من الجماعة من دون أن تستطيع التبرؤ منه علناً لئلا تكشف بيتها الداخلي فتتضح فوضى داخل القبة ومحدودية إمكاناتها السياسية والبشرية وحتى المالية. وأخيراً فقد كان للتجارب السيئة التي عاشها كثيرون مع الفصائل والجماعات الإسلامية المسلحة أثره في سحب ذلك على كل «الإسلاميين» وحزمه في صرة ورميه في وجوههم من دون رغبة في الفرز.
تترتب على الجماعة مهمة تجديد جذري لا يبدو أنها قادرة عليه مع الصرير البيروقراطي الذي تصدره مفاصلها عند كل حركة. كما أن تمسكها بالحياة يحول بينها وبين إعلان حل نفسها. وبين هذا وذاك أصبحت إحدى العقبات الفعلية أمام نشوء إسلام سوري بعد إخواني، مرن حيوي شاب، ربما يلعب إخوان الإخوان دوراً مهماً في تأسيسه، وقد يحتل بسرعة المكان الذي ينتظره كممثل للوسطية الإسلامية بجمهورها العريض، ويقوم بواجبه في إزاحة الإخوانية المنظمة إلى هامش الحياة العامة.
تلفزيون سوريا