صحافيون غطّوا الحرب في سوريا وذاكرتها تلاحقهم حتى اليوم!/ حيدر مصطفى
لو امتلك الصحافيون القدرة على الرسم، لحاولوا إخراج كل الصور المؤلمة للحرب التي طُبعت في ذاكرتهم، وأبت أن تزول، للضحايا، وللدمار، وللمنازل المحروقة، وللصور التي خرجت من خزائن غرف النوم، وتناثرت إثر الانفجارات والخراب، ولألعاب الأطفال التي تُركت وحيدةً، وللمطابخ المتفحمة التي غادرتها سيداتها مجبرات ومرغمات على ترك أمانيهن واستقرارهن، والترحال هرباً من الموت.
يحاول الصحافيون، كُل على طريقته إخراج تلك الصور من ذاكرتهم، منهم من نجح، وكُثر لا زالوا إلى اليوم أسرى الصدمات النفسية والكوابيس التي لا تفارقهم كما يروون. يتحدثون وعلامات التعب تبدو واضحة على وجوههم التي تتجهم فجأة حين يقولون حرب.
في جلسة مع مجموعة من الأصدقاء الذي تشاركنا سوياً أيام الحرب وذكريات الدم والدمار، تذكرت أنني “ذات مرة في بيروت، وفي أول أيام وصولي إليها، عام 2015، وجدت بناءً من تركة الحرب الأهلية. وقفت على بابه، ولدقائق تصارعت في مخيلتي صور الحرب، ومشاهدها المؤلمة. ولأسباب أجهلها، شممت رائحة الدماء والدمار التي ما زالت عالقةً في ذهني”.
بعد حديثي هذا، علمت أنني لم أكن الوحيد الذي يعاني من الأثر النفسي للحرب، ومشاهدها القاسية، فزملاء كثر خضنا معاً عشرات التغطيات الميدانية على الأرض، يعانون اليوم، ويتذكرون، ويتألمون، ويكتمون الذاكرة الذاخرة بقصص وصور ولقطات، قادرة على إنطاق الحجر من شدة مواجعها.
يروي المصور الصحافي في بي بي سي البريطانية، وسام عبدو، الذي غطى سنوات الحرب الأولى في سوريا، والممتدة منذ عام 2011 إلى اليوم، عن الكثير من التراكمات التي تركت أثرها، وأعطت الحياة نظرةً مختلفةً، واكتسب منها خبرةً في تغطية الحروب ومناطق النزاع، كالصور الصادمة، والدمار، والحالات الإنسانية المختلفة، والتجارب القاسية للنزوح، وكذلك معاناة الأطفال وكبار السن وأوجاعهم، وكل التغطيات ذات البعد الإنساني التي فرضت عليه “الفصل بين المشاعر الإنسانية التي لا مفرّ من تأثيراتها، وبين المهنية التي تحتم على الصحافي أن يكون شاهداً على الحدث، غير متعاطف مع طرف من الأطراف المتصارعة، بحكم وجود الضحايا”.
المصور المتمرس في تغطية الحروب، يؤكد أن بعض التغطيات لا تزول من ذاكرته، ومسته شخصياً، كإصابة أحد زملائه أمام عينيه في بني وليد في ليبيا، ومقتل آخر في معلولا في ريف دمشق، وآخر في الموصل في العراق، مشيراً إلى أن الصور التي يوثّقها المصور في الحرب، وسيكون لها تأثير بكل تأكيد، لكنه يتفاوت بشدته من شخص إلى آخر.
يقول أحد المراسلين الميدانيين، عمل لصالح إحدى القنوات غير السورية، ويتحفظ عن التصريح باسمه: “اكتشفت بعد الحرب أن فجوةً حصلت بيني وبين أهلي. لم أعد أفهمهم، ولا هم يفهمونني، حتى أن انشغالنا بالتغطية حرمنا من الحياة الطبيعية. لم يعد لدي أصدقاء، وصرت أكثر غرابةً، فكمية البشاعة والدماء والدمار تركت في داخلنا أشخاصاً بحاجة حقيقية إلى دعم نفسي. هناك أمور حُفرت في عقلنا الباطني، ولا تزول”. هو طالب المؤسسة التي يعمل معها “مراراً، بضرورة إجراء دعم نفسي لنا، لكنهم كانوا يردون باستخفاف”.
يروي المصور الصحافي طوني إسحق، الذي يعمل لصالح وكالة “Ruptly”، كيف أن مشاهد خروج السكان من أحياء حلب الشرقية، كانت من أقسى ما وثّقه بكاميراته. يتحدث إلى رصيف22، بألم عن امرأة قابلها، قالت أمام الكاميرا: “ابني مات وهو جوعان… كان عم يحلم بطبخة”. ويشير أيضاً إلى أن توثيقه لما تركه اجتياح داعش لقرى الخابور في الحسكة، كان من أقسى ما اضطر إلى مواكبته، لكنه لا يتردد في القول: “كانت الأمور أقل وطأةً خلال العمل في مناطق الشمال الشرقي، لأنها لم تكن مناطق نزاع وصراع بين السوريين، بل كانوا هم الضحايا هناك بسبب أطراف أخرى”.
يؤكد إسحق أن الحرب تركت فيه عاداتٍ وطباعاً أكثر من الأثر النفسي، إذ أصبح مضطراً في لحظة ما إلى تجاوز الكثير من الاعتبارات، في سبيل إظهار الصورة الحقيقية لما يحصل على الأرض، معتقداً أن الصورة التي كانت تصل من حلب (مدينته)، إلى العديد من وسائل الإعلام، لم تكن دقيقةً، مشيراً إلى تجاهل كثيرين لمسألة ضحايا قذائف الهاون، وقنابل الغاز التي كانت تقصف بها المدينة خلال سنوات الحرب.
“قبل الحرب كانت مشاعرنا سويةً، أم الآن، فأصبحنا غير قادرين على التحكم بها، ولم نعد نتأثر كما كنا من قبل. لم يعد يفاجئنا شيء، وصار الأسوأ متوقعاً دائماً. لا أعتقد أن حرباً في العالم حصل فيها ما حصل في سوريا من شناعة”. يتمنى المصور الذي وثّق المعارك في حلب وريفها والرقة والحسكة ودير الزور وغوطة دمشق الشرقية ودرعا وحمص، أن يحصل في نهاية المطاف على صورة واحدة تجمع كل الأطراف مع بعضها البعض، كدلالة على انتهاء المأساة، والتوصل إلى السلام.
وإلى حين ذلك، وبعد انتهاء الجزء الأكبر من المأساة على أرض الواقع، لا يتردد الصحافيون/ ات الذين عملوا خلال سنوات الحرب في سوريا، من إجراء مراجعات دقيقة، لما مروا به من أزمات وصدمات نفسية، غيّرتهم كثيراً، وجعلتهم أشخاصاً متعبين من كمّ القهر الذي عايشوه.
المصور الصحافي معتز عبد الكريم، الذي غطى الحرب في مختلف المحافظات السورية، لصالح قنوات أجنبية عدة، يقول لرصيف22: “نحن لم نخضع لدورات للعمل في تغطية مواجهات مسلحة، لكن فُرضت الأمور من تلقاء نفسها، وتعرضت للكثير من المشاهد القاسية في الحرب، والأمثلة التي مررنا بها كثيرة، من حدوث تفجير أو من عبوة أو من القذائف أو القنص. في البداية كانت مؤلمةً جداً، لم أستطع الأكل وحُرمت النوم أياماً عدة، لكن كنت مجبراً على الدخول في هذا الكابوس العملي مع كل صباح، بسبب كثرة الأحداث في تلك السنوات”.
يستذكر “عبد الكريم” أقسى مشاهد الحرب التي حُفظت في ذاكرته، وامتحان الفصل المهني الذي كان مرهقاً، بين محاولته العمل مهنياً وتقديم الصورة بأمانة، وبين التألم والتأثر، فهو في النهاية من هذا المجتمع الذي يتشظى بسبب الحرب. ويروي عن فظاعة ما شاهده في عدرا العمالية، وتدمر وحلب”.
يتألم معتز من فكرة أن تلك المشاهد كان لها أثر كبير على حياته، حتى صار الموت عادياً بالنسبة إليه، مؤكداً أن أحداث الماضي لا تزال تدور في رأسه، ولا يتمكن من نسيانها بسهولة. وفي الفترة الماضية، صار أكثر عصبيةً، خصوصاً وأن الأمور صارت أكثر نضجاً في الذاكرة، متمنياً لو كان بالإمكان محو كل شيء، لكن “هناك واقعاً عشناه لا نستطيع نسيانه بسهولة، وكلما عدنا إلى الماضي صار جزءاً منا”.
يُجمع كثير من الصحافيين/ ات على أن أقسى الظروف التي عبروا فيها، كانت عند فقدان زملاء لهم رحلوا خلال التغطيات الميدانية، إذ تغص الذاكرة الصحافية السورية بعشرات الأسماء لصحافيين وإعلاميين ومصورين قضوا خلال المعارك، في أثناء عملهم، أو في عمليات اغتيال، وتصعب عملية حصر الأعداد، أو توثيقها بشكل رسمي.
منذ عام 2011، وثّقت شبكة مراسلون بلا حدود، مقتل ما لا يقل عن 300 من الصحافيين. أما أرقام الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فتشير إلى حصيلة أفظع بكثير، ففي تقرير صادر عام 2020، قدّرت هذه المنظمة عدد الصحافيين القتلى بما لا يقل عن 700 صحافي، من دون أن يتسنى تأكيد هذه الأعداد حتى الآن، فيما لم تتوفر حتى الآن إحصائية من داخل سوريا حول أعداد الضحايا من الصحافيين/ ات.
رصيف 22