لماذا عُدتِ، كان يجب أن تموتي/ إيمان عمارة
في خضم أحاديثنا المتكررة حول الاعتداءات الجنسية وضحاياها، واجب علينا أن نتذكر النساء والفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب والاعتداءات الجنسية المختلفة أثناء ما يسمى بالعشرية السوداء في الجزائر، حين شهدت الفترة بين عام 1992 عندما ألغيت الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، و2002 نزاعاً مسلحاً بين الجماعات الإسلامية والجيش الجزائري، ذهب ضحيته ما لا يقل عن 200 ألف شخص، غالبيتهم مدنيون.
ولعل غياب التوثيق عن ضحايا الاغتصاب هو أول ما نصطدم به عند أية محاولة للبحث بخصوص تلك الفترة. تتردد قصص هنا وهناك، رقم أو اثنان، لكنها غير كافية لبناء سردية حقيقية أو بحث أكاديمي علمي. أين ذهبت كل تلك النساء؟ لا أحد يريد أن يعرف، لا أحد يريد أن يتذكر. كل ما احتفظت به الذاكرة الجماعية هو القتل والتفجيرات، حيث يتساوى جميع الضحايا. لا أحد يريد أن يتذكر من تم استهدافهن لأنهن نساء. الجميع يهرب من حقيقة أن النساء كن أول القرابين، حتى قبل انتخابات 1992.. النساء العاملات والنساء غير المحجبات والنساء اللواتي يعشن دون رجل مع أطفالهن، النساء اللواتي سرقن الوظائف وتسببن في البطالة، النساء اللواتي يخرجن إلى الشارع دون سبب ودون غطاء للرأس ويجلبن اللعنات على المجتمع والكساد والفقر.
سقطت آلاف القصص طي النسيان عمداً. جميع الخطابات اللاحقة، على ندرتها، تتفق على سردية موحدة: القتل طال الجميع، دون استثناء؛ من دون ذكر تفاصيل تحرج مجتمع الفضيلة الذي يغمض عينيه كي لا يرى «الفضيحة التي طالت شرفه». بالإضافة إلى ذلك، لم تهتم الحكومات المتعاقبة بإجراء إحصائيات رسمية. بصفة عامة، لا تحب الدولة الجزائرية الأرقام إلا في نطاق ضيق، وتصر على إبقاء خانات إحصائيات الأمم المتحدة التي تخصها خالية قدر الإمكان.
الأرقام الوحيدة المتوفرة لدينا اليوم هي تلك التي قدمتها بعض الجمعيات المدنية، وتشمل فقط الفترة ما بين 1993 و 1997. هذه الأرقام التقريبية تشير لحوالي 5000 إلى 10 آلاف امرأة وفتاة تعرضن لاعتداء جنسي. لكن حتى هذا الرقم يعتبره بعض المختصين بعيداً جداً عن الرقم الحقيقي، ولا يغطي جميع المناطق أو كل الفترة الزمنية التي امتد خلالها النزاع المسلح.
لماذا عدتِ؟ كان يجب أن تموتي
تعامل الأهالي مع الناجيات العائدات من جحيم المتطرفين، والثقافة الذكورية المتفشية في المجتمع الجزائري يفسران، بدرجة كبيرة، هذا الصمت وهذا الغياب، بالإضافة إلى إهمال أجهزة الدولة لهذا النوع من الجرائم. في الكثير من الأحيان، قرر رجال العائلة التخلص من تلك التي جلبت العار وتدنّست، سواء بالقتل أو الطلاق أو الطرد من المنزل ومن القرية أو الحي. تبرأت العديد من العائلات من نسائها أو حكمت عليهن بالحبس المؤبد داخل جدران البيت بعيداً عن أنظار الآخرين واتهاماتهم وشماتتهم. ولمواجهة النبذ والإحساس بالعار والذنب، اختارت العديد من النساء الانتحار هرباً من اللوم في عيون الأهل والمعارف، والحسرة والشفقة، بالإضافة إلى الإحساس بالذنب وقلة الحيلة وتجاهل الجميع معاناتهن وإرغامهن على الصمت و الاختفاء.
«لماذا عدتِ؟ كان يجب أن تموتي»، هكذا استُقبلت سمر (اسم مستعار) من قبل أكبر أبنائها السبعة عند عودتها للبيت بعد اختطافها واغتصابها. أما صالحة (اسم مستعار) فقد أخذها أهلها إلى منطقة بعيدة عن مدينتهم الصغيرة حتى وضعت طفلها، ثم سجله والدها باسمه ليصبح أخاها الأصغر أمام الناس وفي نظر القانون ويحفظ بذلك سمعتها و«شرف» العائلة، وكي يحظى الطفل بحياة شبه طبيعية بعد أن يحصل على أوراق ثبوتية رسمية.
آلاف الحكايات و المصائر ستظل مجهولة، آلاف الأسماء لن نعرف عنها شيئا. مجرد خسائر جانبية أقل أهمية من القتلى. مجرد نساء بلا شرف في نظر المجتمع، لم يقاومن ولم يمتن في سبيل حمايته. المفارقة أن نفس الرجال الذين لم يستطيعوا حماية نسائهم، كما هو منوط بهم حسب الثقافة السائدة، هم أول من عاقب الضحايا بعد عودتهن. العديد من النساء اضطررن للاختفاء تماماً من الحياة العامة والاجتماعية كي يتمكن باقي أفراد العائلة من العيش بسلام بعد «الفضيحة» التي طالت شرفهم وسمعتهم.
الحكومة: الشريك الآخر في الجريمة
بسبب منع القانون الجزائري للإجهاض (المادة رقم 304 من قانون الجنايات، والتي تعاقب المرأة وكل من يساعدها بالسجن والغرامة)، أجبرت العديد من النساء على إكمال الحمل والتخلي عن الطفل عند ولادته باعتباره نتاج علاقة آثمة. بعض العائلات وافقت على تسجيل الطفل باسم الجد للأم أو أحد الأخوال المتزوجين حتى يتمكن من الحصول على اسم رسمي وشهادة ميلاد. لكن وصمة العار تظل تلاحقه ويحرم من الميراث بحكم أن الجميع يعلمون، على الأقل داخل العائلة ودائرة المعارف والجيران، أنه في الحقيقة مجهول الأب و«غير شرعي».
في عام 1998، أصدر المجلس الإسلامي الأعلى، برئاسة الراحل عبد المجيد مزيان، فتوى تبيح للنساء الإجهاض في حال شكل الحمل خطراً على حياة الأم أو على اتزانها العقلي والنفسي. وبموجب هذه الفتوى عُدلت المادة 72 من قانون الصحة وسُمح بالإجهاض في الحالات المذكورة أعلاه .
لكن، عاد المجلس بعدها، بعد جدل كبير، وأقر بحق المرأة في الإجهاض فقط إذا ما أثبتت أن حملها نتيجة اغتصاب على يد المتطرفين المسلحين، وبعد دراسة ملفها الذي يجب أن يشمل إثباتات من الشرطة وممن شهدوا الواقعة وكانوا متواجدين أثناءها أو أثناء الخطف.
كل هذه الشروط التعجيزية جعلت اللجوء رسمياً للإجهاض الطبي شبه مستحيل بالنسبة لغالبية النساء. لكن، ورغم التجريم، خاطر العديد من الأطباء وأجروا عمليات سرية وآمنة لمن حالفها الحظ واستطاعت الوصول اليهم.
اعتراف متأخر ومشروط
من ناحية أخرى، ورغم وجود الآلاف من الحالات، لم تعترف الدولة الجزائرية بوجود نساء وفتيات تعرضن للاغتصاب إلا سنة 2014، إذ تضمن المرسوم رقم 26 لسنة 2014، لأول مرة، إشارة لوجود نساء تعرضن للاغتصاب، واعترافاً بكونهن من ضمن ضحايا الإرهاب.
هذا الاعتراف جاء على مضض وبعد ضغوطات مستمرة من قبل الجمعيات الحقوقية التي كانت لا تزال نشطة حينها، مثل جزائرنا والجمعية الجزائرية للأبحاث النفسية، التي استقبلت العديد من الناجيات و حاولت مساعدتهن قدر الإمكان.
قبل 2014 لم تكن قائمة ضحايا الإرهاب تشمل ضحايا الاعتداءات الجنسية، وقد علل بعض المسؤولين وقتها هذا الرفض بأن الاعتراف بكونهن مغتصبات سيشكل وصماً رسمياً لهن في نظر المجتمع، وسيقضي هذا على أي احتمالية لهن لبناء حياة جديدة ونسيان ما حدث وتجاوزه بعد أن أصبح موثقاً بصفة رسمية.
ورغم أن هذا الاعتراف جاء متأخراً جداً، ولم يقدم أية حلول للناجيات ولا أية إجراءات عدا التعويض المادي، إلا أنه كان أيضاً مثار سخط بعض موظفي الحكومة، الذين اعتبروا أن التعويض المالي الذي أقرته الحكومة للنساء هو تشجيع على الدعارة باعتباره مقابلاً مادياً «للعلاقة الجنسية» التي حدثت، رغم علمهم بظروف حدوثها و ملابسات الخطف والإرغام، حسبما أوردت شريفة بوعطة، نائبة رئيس الجمعية الجزائرية للأبحاث النفسية في حوار لها مع جريدة الوطن الجزائرية.
تراوحت التعويضات المادية ما بين 130 و350 دولار، بشرط أن تثبت النساء تعرضهن لاعتداء جنسي، وأن من قام به هم المسلحون الإسلاميون حصراً. الشرط الأخير تم وضعه خصيصاً لاستبعاد النساء اللواتي زوّجن لأفراد من الجماعات المسلحة قسراً من أجل حماية الأهل من الانتقام أو لأن رجال العائلة ينتمون إلى الجماعات أو متعاطفون معها. جدير بالذكر أن الدولة رفضت لاحقاً الاعتراف بهذا الزواج حتى في وجود شهود.
من بين شروط طلب التعويض، أيضاً، إرفاق شهادة طبية توثق الاعتداء أو نسخة من البلاغ المقدم حينها للشرطة. بالنسبة لغالبية الضحايا، هذه الشروط كانت ببساطة تعجيزية، لأن إطلاق سراحهن، أو هروبهن جاء بعد شهور من الوقائع، والأدلة لم تعد متوفرة حينها. وبطبيعة الحال، لم تتمكن نسبة كبيرة منهن من اللجوء لمراكز طبية ولا للشرطة بسبب ضغوطات العائلة من جهة، والخوف من انتقام المسلحين من جهة أخرى.
وحتى في حالة توفر شهادة طبية، ففي مجتمع يقدس مفهوم الشرف حد الهوس، لن يكون سهلاً بالنسبة لأية امرأة أن «تفضح» نفسها وعائلتها وتتقدم لتعترف بأنها تعرضت للاغتصاب. أيضاً، بعد مرور كل هذه السنين، هناك من أعادت بناء حياتها مجدداً ولم تعد ترغب بتذكر ما حدث في سبيل حفنة من المال فقط.
طوال هذه الفترة، لم تهتم الدولة الجزائرية بتقديم أية مساعدة نفسية للنساء اللواتي تعرضن للاعتداءات، واكتفت ببناء مركز يتيم لاستقبالهن، بالإضافة إلى استقبال النساء اللواتي تعرضن للعنف الأسري، في منطقة صناعية شبه مهجورة في مدينة بوسماعيل، بعيداً عن المناطق المنكوبة. استقبل المركز حوالي 13 امرأة فقط في الفترة ما بين 1999 و2004 بعد تحقيق مطول للتأكد من استحقاقهن للمساعدة. وقد رفضت العديد من النساء التوجه لهذا المركز، لأنه يعتبر وصمة إضافية لهن كضحايا للاغتصاب ولا يضمن السرية الكافية كي يتمكنّ من العيش بسلام بعد انتهاء إقامتهن به.
أما بخصوص الرعاية النفسية، فنادراً ما استطاع الأطباء و الضحايا التواصل نظراً لحاجز السرية المفروض على الاعتداءات الجنسية في المجتمع الجزائري، وأيضاً خوفاً من وصم الاضطرابات النفسية وقتها، والتي كانت تعرف كلها على أنها «جنون». بالإضافة لكون الطاقم الطبي غير جاهز للتعامل مع مثل هذه الحالات وغير كافٍ عددياً.
الاغتصاب كسلاح انتقامي
استخدم المتطرفون المبرر الديني لإضفاء غطاء من الشرعية على خطف النساء واغتصابهن، إذ اعتُبرن سبايا وغنائم حرب ظفروا بهن أثناء حربهم على العدو. وقد شُرعنت الجرائم الجنسية ضد النساء بموجب ما يعرف بالبيان رقم 35 الشهير، أو الفتوى التي أصدرها سنة 1995 زعيم الجماعة الإسلامية المسلحة آنذاك، عنتر زوابري، وأباح فيها سبي النساء وإدراجهن ضمن الغنائم.
بعض الناجيات من أيدي المسلحين روين للأطباء النفسيين أثناء الجلسات (حسبما ذكرت د. لطيفة بلعروسي في مقالها عام 2008 حول العنف الجنسي ضد النساء في الجزائر) عن محاولاتهن استخدام الوازع الديني من أجل الفرار من الاغتصاب، إذ حاولن إقناع المتطرفين بأن ما يقومون به حرام شرعاً باعتباره زنا. لكن هذا المنطق لم يجدِ نفعاً ولم ينقذ أياً منهن من هذا الكابوس، حيث لا يشترط عقد زواج عند إقامة علاقة جنسية مع سبية.
في أوقات كثيرة، حسب روايات الناجيات، كان المسلحون يتعمدون إطلاق سراح النساء المخطوفات للعودة لبيوتهن بعد التأكد من ظهور بوادر الحمل إمعاناً في إذلالهن وإذلال عائلاتهن. في أوقات أخرى، كان المسلحون مضطرين للتخلي عن «السبايا» عند اكتشاف مخابئهم من قبل قوات الأمن أو استخدموهن كدروع بشرية عند الاشتباكات. بعض الشهادات أوردت أن عدداً من الضحايا وُجدن في حالة مزرية عقلياً وجسدياً بعد ضياعهن وسط الأحراش والغابات لأيام أو أسابيع.
في البداية، كان المتطرفون يلجؤون لما يسمى الزواج بالفاتحة أو الزواج الديني غير الموثق في سجلات الدولة، واختيار زوجات من ضمن قريبات أفراد الجماعات الإسلامية، سواء ممن التحقن بهم أم لا، بالإضافة إلى نساء القرى القريبة اللواتي قدمهن الآباء والإخوة للزواج من تلقاء أنفسهم بغرض المقايضة على الحماية، أو على الأقل ضمان عدم التعرض للأذى.
في غالبية الحالات، كان هذا الزواج مؤقتاً واعتبره الجميع شرعياً بما أنه تم بمباركة الأهل وحضور شهود وعُقد على يد الإمام. في المقابل، في حال رفض رجال القرية توفير زوجات أو تقديم أي نوع من أنواع المساعدة، أو أظهروا بوادر تواطؤ مع السلطات، فكان اللجوء لاستخدام الاغتصاب كسلاح من أسلحة المعركة بغرض فرض السيطرة على السكان وإرهابهم. جسد المرأة هنا يرمز للآخر الذي يجب تدنيسه إمعاناً في الإذلال بعد الهزيمة و كعقوبة رادعة. اغتصاب نساء العدو يرمز أيضاً لإخصاء الرجال معنوياً، إذ لم يعودوا قادرين على حماية نسائهم و«شرفهم».
الاغتصاب: العار الأبدي للضحايا
معاناة النساء الناجيات لم تنته بانتهاء التعرض للاغتصاب والاستعباد الجنسي، بل بعد العودة للبيت والعائلة مجدداً، بدأت مأساة ومعاناة بشكل آخر مع المجتمع والعرف والتقاليد، وحتى القانون. الضحية تواجه الدمار النفسي والجسدي المترتب عن الخطف ثم الاعتداء، لكن عليها أيضاً مواجهة الشعور بأنها جلبت العار لعائلتها ووُصمت به إلى آخر أيامها، مهما فعلت.
في الثقافة الجزائرية، عذرية الفتاة مقدسة بالنسبة للعائلة والمجتمع ومحور تربية الفتيات، منذ نعومة الأظافر، حول كيفية حمايتها والحفاظ عليها ولو كان الثمن حياتها. العذرية، كما يصفها الدكتور عصام إدريس في مقاله حول الجنسانية «هي البكارة التي تمثل حق الأب، الذي يعهد بها للأم، ويدافع عنها الأخ».
في هذا الإطار، الضحية التي لم يسبق لها الزواج (المبرر الوحيد المعترف به لفقدان «العذرية») تواجه ذنب أنها لا تزال حية رغم فقدانها بكارتها، مما دفع العديد من الناجيات لمحاولة الانتحار، أحياناً بمساعدة العائلة التي تعتبره الحل الأمثل للتخلص من الفضيحة والعار، دون التورط في جريمة قتل. تقول الدكتورة فوزية تازدايت في دراستها حول الآثار النفسية والجسدية للاغتصاب (نشرتها دورية Topique في عددها 143 الصادر سنة 2018) أن الضحية تعاني من اضطرابات نفسية وعقلية تتراوح ما بين الاكتئاب المزمن والخوف المرضي من التعامل مع الآخرين، مما يجعلها أكثر عرضة للعزلة عن العالم الخارجي و فقدان التواصل.
هناك أيضاً الاضطرابات الحسية والجنسية واضطراب صورة الجسد وكراهيته، التي تؤدي إلى محاولات إيذاءه بشتى الوسائل. أثناء الاغتصاب، تتحول الضحية لمجرد شيء أو وعاء لرغبة الآخر، يُلغى كيانها ووجودها تماماً. إحساس التدنيس والعار يولِّد لدى العديد من الناجيات هوس النظافة الجسدية والتطهر الدائم، سواء بصفة حقيقية أو مجازية أو كليهما. تذكر لطيفة بلعروسي، في هذا السياق، مثال السيدة الستينية التي تواظب على أداء فريضة الحج كل سنة للتطهر من دنس الاغتصاب الذي تعرضت له على يد المسلحين.
الأطفال هم الضحايا الآخرين المنسيين لما حدث طوال ما يسمى بالعشرية السوداء. لا توجد أية إحصائيات بعدد الأطفال الذين ولدوا نتيجة الاغتصاب أو الزواج المؤقت في معاقل ومخابئ الإرهابيين. لا وجود لهم قانوناً ولا في نظر المجتمع المحافظ الذي يرفض حتى الإشارة لمن ولدوا خارج إطار الزواج الشرعي، حتى إن كانوا نتيجة اغتصاب أو علاقة بالإكراه.
الحكومة رفضت مراراً طلبات الأمهات تسوية أوضاع أطفالهن، حتى عندما كانت هوية الأب معروفًة وبوجود شهود على الزواج الديني، أو عندما طلبن منح الأطفال أسماء عائلاتهن ونسبتهم لهن، رغم رفض العديد من عائلات الناجيات منح الأطفال اسمها. وقد رفضت الحكومة أيضاً إجراء فحوصات DNA لمعرفة الآباء من ضمن المسلحين الذين ألقي القبض عليهم وسجنوا، أو ممن يسمون بالتائبين وعادوا لحياتهم الطبيعية.
لا أحد يعلم أيضاً عدد الأطفال المولودين لأمهات اخترن الانضمام للإسلاميين بمحض إرادتهن، واللاتي تزوجن أمراء أو أفراد من الجماعات المسلحة وأنجبن في الجبل. قانون المصالحة لا يذكر هؤلاء الأطفال بأي شكل من الأشكال.
ما يسمى بالمصالحة الوطنية سمحت بعودة المسلحين السابقين إلى حياتهم الطبيعية ووظائفهم، وحصلو على تعويضات مادية أيضاً. هذا يعني، في القرى والمدن الصغيرة، أنهم عادوا للعيش جنباً إلى جنب مع ضحاياهم المجبرات على التواري، ولا يريد أي أحد أن يعترف بما حدث لهن أو يعير معاناتهن أي اهتمام، بل يواجهن النبذ والوصم والتحقير.
بعد ما يسمى بالمصالحة الوطنية، سقطت أولئك النساء عمداً من طاولات المفاوضات ومن التعويضات ومن الاعتراف بهن كضحايا.
قانون المصالحة الذي أُقر في بداية الألفية، عبر استفتاء شعبي، تم بين طرفين يحاولان تبرئة أنفسهما مما حدث: الجيش والإسلاميين. الضحايا لم يكن لهن أي رأي بخصوص إسقاط التهم ولا التعويضات ولا إغلاق الملفات نهائياً.
قانون المصالحة، ببنوده المستحدثة بعد الاستفتاء، جعل جميع محاولات التقصي والبحث عن الحقيقة مستحيلة، حيث أنه يجرّم قانوناً، ويعاقب بالسجن، أي مبادرات للحديث عن الجرائم المرتكبة في الفضاء العام. وهكذا، لم يتبق لنا سوى رواية الحكومة الرسمية فقط التي لا يوجد فيها جناة و ضحايا، فقط «مواطنون».
موقع الجمهورية