صفحات الثقافة

أحد عشر عاماً على الربيع العربي: من رفض الديموقراطية؟/ وحيد عبد المجيد

إذا صحت فرضية اعتماد رفض الديموقراطية موقفًا وعقيدةً للنظام العربي، يصبح ضروريًا ترقب ما سيحدثُ في ثلاثةٍ من بلدانِه في الفترة المقبلة هي تونس والسودان وسوريا.

هل انتهى الربيعُ العربيُ كأنه لم يكن، وهل عادت الأوضاعُ أو أُعيدت إلى ما كانت عليه قبل نحو 11 عامًا، حين هبت نسائمُه النديةُ الأولى من تونس، وأخذت زهورهُ تتفتحُ في خمسة بلدان، وألا من تغييرٍ حدثَ على أي صعيد؟ سؤالُ مُختلفُ على جوابِه، مثلهُ في ذلك مثلُ أسئلةٍ عدة مُثارةٍ أو محجوبةٍ في الذكرى الحادية عشرة لربيعٍ أنعش آمالاً سُرعان ما أُحبطت.

غير أنه حين نأخذُ مسافةً عن السجالات التي ما برحت مستمرةً حوله، والسرديات المُتضمنة فيها، يردُ في الذهن سؤالُ عما إذا كان النظامُ الإقليميُ العربيُ  يتجهُ إلى اعتماد موقفٍِ مُضادٍ للديموقراطية، وهل نجدُ أساسًا لذلك فيما يُطلقُ عليه في دراسات النظم الإقليمية نمط سياسات دوله، وهل يرتبط ذلك بإعادة تشكيل عقيدته؟

سؤالُ يتطلبُ جوابُه دراسةً موضوعيةً للمتغيرات التي شهدتها المنطقة العربية في العقد الماضي، والتفاعلات الجارية الآن، سعيًا إلى تأسيس معرفةٍ جديدةٍ بالاتجاه الذي سيمضي فيه النظامُ الإقليميُ العربيُ في الفترة المُقبلة.

وإذ يتطلب إنجاز هذه الدراسة عملاً بحثيًا كبيرًا ، نُقدمُ في هذه العُجالة ما قد يُفيدُ في بلورة فرضياتٍ ينظر فيها من يُمكنهم القيام به ، وأفكارٍ تُختبرُ خلال العمل فيه.

حين قُرعت الأجراس:

لم يكن مُمكنًا أن يمر إسقاطُ رؤوس أربعة نُظم حُكم، ونجاة خامس بفضل مساعدة عسكرية مباشرة إيرانية وروسية مقابل اقتسام السلطة معه، بدون أن تُقرع أجراسُ إنذارِ دوت أصواتُها الجهيرةُ في أنحاء المنطقة، وانعكست الاستجابةُ لها في مُساندةٍ من جانب بعض النظم للقوى المضادة للربيع وما يحمله من آفاق لتغييرٍ  ديموقراطيٍ, ودعمٍ لتلك القوى في سعيِها لإطلاق رياحٍِ عاصفةٍ تقتلعُ زهور هذا الربيع الذي لم يُقٌدِر من سعوا إليه قيمتَه فعادوا إلى صراعاتهم السياسية والإيديولوجية على الفور.

كان دويُ النواقيس بدايةَ تغييرٍِ شكليً في سياسات اثنين من نظم الحكم العربية أخذا الإنذارَ الذي بلغهما مأخذ الجد، فأسرعا إلى فتح ملف الإصلاح السياسي الذي كان مُوصدًا، لاحتواء أثر الربيع وهو بعد في مهده. لجأ هذان النظامان إلى فتح نوافذ صغيرة في المجال العام المُغلق، والسماح بقليلٍ من الانفتاح السياسي المحكوم من أعلى، عبر تغيير محدود في بعض النصوص الدستورية. وروجا تلك الإجراءات وكأن لسان حال كل منهما كان يقولُ لمن تفاعلوا مع ما حدث في بلدان الربيع أو تأثروا به، ولمن خافوا عواقب صدام من أجل تغييرً أكبر: “خُذوا هذا .. وكفى المؤمنين شر القتال”.

لقد كان من الطبيعي أن يرتبكا، مثل غيرِهما في بلدانٍ ظل الربيعُ بعيدًا عنها، في التعاطي مع حالٍ لم تكن مُتوقعةً بعد ثلاثة عقود ونيف سادها هدوءُ لم يُعكر “صَفوه” إلا مُغامراتُ نظام صدام حسين. كانت نظمُ الحكم العربيةُ كلُها مُطمئنةً خلال تلك العقود إلى ما تصورته استقرارًا سياسيًا لم يكن في حقيقتِه إلا استمرارًا بقوة السلطة القاهرة، وجمودًا أخفى ما كان يعتملُ تحت السطح في أعماق المجتمعات بأشكالٍ مُختلفةٍ ودرجاتٍ متباينة. وتجلى ارتباكُ هذه النظم في ترحيبٍ مُعلنٍ أخفى وراءه قلقًا مُتفاوتًا مما حدثَ في بلدان الربيع حسب طبيعة العلاقة مع كلٍ من الحُكام الذين اندلعت الثوراتُ ضدهم.

ونجد أبرز تجليات هذا التفاوت في اتجاه بعض النظم القلِقة إلى دعم الثورة ضد كل من بشار الأسد لأنه هاجم حُكامها في سياق زعمه وجود محور مقاومة في مواجهة محور استسلام، ومُعمر القذافي الذي نالَها من لسانِه اللاذع نصيبُ يُعتدُ به.

ولعل أكثرَ ما أقلقَ معظم نظم الحكم المُرتبكة إزاء الربيع العربي هو صعود أحزاب الإسلام السياسي وجماعاته، وخاصةً عندما أخذت أخطاءُ بعضها تزدادُ وتتراكم، وظهر افتقاد جماعة “الإخوان” وحزبها في مصر القدرة على التمييز، وعدم إدراكها أن التباهي بما كان لها من قوةٍ سياسيةٍ إنما يُزيد قلق نظم حكم توجد في بلدانها تنظيماتُ “إخوانية”. فقد استهانت قيادة جماعة “الإخوان” بعواقب استيقاظ بعض هذه التنظيمات التي كانت نائمةً في الأغلب الأعم.

وهكذا، وفيما بين بداية 2012 ونهايته، أخذ موقفُ نظم الحكم في عددٍ من  البلدان العربية تجاه الربيع في عام تَفتُح ورودِه يتبلورُ على خلفية القلق من صعود الإسلام السياسي، وشرع بعضُها في التحرك فعليًا لدعم أطراف مُعادية لجماعة  “الإخوان” وأحزابها أو قلِقة من هيمنتِها بعد أن أخلفت وعودًا دارت حول شعار “المشاركة لا المغالبة” الذي رفعته ولم تلتزم به.

ووجدت هذه النظمُ في الانقسام، الذي ترتب على نزوع “الإخوان” للهيمنة  وانتهازية بعض الأحزاب المُسماة مدنيةً في بلدان الربيع، منافذَ مفتوحةً أمامها. فكان أن تدخلت بوسائل شتى واضحة أو مُستترة سعيًا في البداية إلى إضعاف “الإخوان”. وشجَّعها التراجعُ السريعُ في شعبيتِهم في بعض بلدان الربيع، وانهيارِهم في بعض آخر منها، للعمل من أجل استثمار هذا التحول للانتقال من الهجوم ضد “الإخوان” إلى شيطنة “الربيع” وثوراته ورسم صورة سلبية لها تبدو فيها كما لو أنها ليست إلا  “مؤامراتٍ” دُبرت في الخارج وفق ما هو مُعتاد فيما يُطلق عليه Conspiracy Thinking.

لم يمض عامان على انسيابِ نسائم الربيع الأولى، مع اندلاع ثوراته واحدةً تلو الأخرى، حتى بدأت رحلةُ انحسارِه التي تبلور في ثناياها موقفُ يراه بعضُ المراقبين معاديًا للتحول الديموقراطي ثوريًا كان أو تدرجيًا تبنته ودعمته نظمُ الحكم التي قادت المعركةَ ضد الإسلام السياسي، وتفاوتت مواقفُ نظم أخرى تجاهه.

وأخذت النظمُ التي تبنت الموقف ضد ثورات الربيع في ربطه بالمسألة الديموقراطية، عبر إعادة إنتاج خطابٍ قديمٍ يعودُ إلى ما قبلَ هذا الربيع. فإذا كانت الديموقراطيةُ تأتي بأحزاب الإسلام السياسي إلى الحكم، يتعين أن يكون أيُ تطورٍ  باتجاهها محكومًا من أعلى. هكذا كان الخطابُ قبل الربيع. وأما وقد تبينَ أن هذه الأحزابَ هي المُستفيدةُ من الديموقراطية، فلا حاجةِ إذن إليها في كل الأحوال. وفي ثنايا هذا الربط لم يعد الموقف ضد الديموقراطية راجعًا إلى خشيةٍ من صعود أحزاب إسلامية، على نحو ما يُمكن استنتاجُه من تعامل كثيرٍ من نظم الحكم العربية مع الثورة السودانية التي اندلعت أصلاً ضد نظامِ كان محسوبًا على الإسلام السياسي.

وثمة شواهدُ أوليةُ تحتاجُ تدقيقًا أكثر على أن هذا الموقف توسع حتى بات يُغطى خريطة المنطقة العربية أو كاد، بعد أن أظهرت موجةُ الربيعِ الثانيةِ في الجزائر والسودان أنه ما من نظامِ حكمٍ عربيٍ سيكونُ آمنًا في مقاعده مادام غيرهُ في “خطر”.

ومن الشواهد التي يَحسُن وضعُها موضع البحث تلك التي تدل على أن التحرك الذي استهدفَ موجةَ الربيعِ الأولى امتدَ إلى الثانية سعيًا إلى تقزيم التغيير في الجزائر والسودان، وتفريغِه من محتواه الديموقراطي، إلى جانب دعم الانقضاض على ما بقى من الموجة الأولى في تونس بعد أن أعاد حزبُ حركة النهضة إنتاجَ أخطاء جماعة “الإخوان” وحزبها في مصر بطريقةٍ مختلفة، ولكنها قد تقودُ إلى نتيجةٍ ربما تكون قريبةً في محصلتها مما حدث في مصر. وقد نبه كاتب السطور إلى ذلك مرات كان آخرها قبل نحو عشرة أشهر من الانقضاض على ما بقى من الربيع التونسي (مجلة المستقبل العربي، العدد 500، أكتوبر 2020).

ولهذا يبدو منطقيًا السؤالُ الذي يتعين بحثه بعمقٍ أكثر عما إذا كان ثمة نمطُ جديدُ في السياسات العربية آخذًا في التبلور باتجاه إحلال الأحادية والتسلطية محل القومية التي بُني على أساسها النظام الإقليمي العربي نظريًا، بحيث تكون الديموقراطية ُ مصدر التهديد الأول.

إن مؤدى هذا السؤال المطروح للبحث والدراسة هو: هل يصبحُ رفضُ الديموقراطية عقيدةً للنظام العربي، بعد أن بقيت الصهيونيةُ في هذا الموقع منذ إنشائِ ه وإلى أن بدأ الفشلُ في مواجهةِ إسرائيل يفعلُ فعلَهُ ويؤدي إلى التخلي عن العداء لها؟.

وإذا افترضنا جوابًا إيجابيًا عن هذا السؤال، وصحت بالتالي فرضيةُ اتجاه النظام العربي نحو تبني رفض الديموقراطية موقفًا وعقيدةً، يُطرحُ تاليًا سؤالُ آخر عما إذا كانت هذه العملية Process اكتملت من عدمه. وفي محاولةً أوليةً للاقتراب من جواب مبدئي, يُفيدُنا تأمل أحوال بلدان النظام العربي اليوم أن ثمة خطوات ثلاث باقية قبل بلوغ النقطة التي يُمكن أن يُصبحِ عندها رفضُ الديموقراطية مطروحًا بشكل صريحٍ أو ضمني كعقيدة هذا النظام، على أساس أن هذا الرفض ربما يصيرُ هو أكثر ما قد تتوافق عليه نظمُ الحكمِ العربية فيما يتعلق بتحديد العدو الرئيسي.

وبرغم أن مسألةَ العدوِ لم تحظى بالاهتمام الذي تستحقُه في دراسات النظم الإقليمية، التي صارت من أهم فروع حقل العلاقات الدولية منذ الستينيات، نجدُ في  بحوث ٍمُقارنةٍ في هذا المجال ما يُتيح استنتاجَ أن وجودَ توافقٍ بين أطرافِ نظامٍ  إقليميٍ على عدوٍ ما إنما يُدعم تماسكَه حتى إذا كان هذا التوافقُ شكليًا، كما كان الحال مثلاً بالنسبة إلى إسرائيل في النظام الإقليمي العربي في مرحلتهِ الأولى.

وفي غياب ما يُحقَّقُ توافقًا بين نظمِ الحكم المُكوِنة للنظام العربي في مرحلته الراهنة، وتعذر الاتفاق العام على أن تكونَ إيران أو تركيا، أو كلتاهما، بديلاً عن إسرائيل، فضلاً عن ارتباك سياساتِ بعض نظمِ الحكم المكونة لهذا النظام إزاءهما، ربما تكون الديموقراطيةُ هي ما يُتفقُ على أنه الخطر الرئيسي عليه.

وعمومًا، فإذا صحت فرضية اعتماد رفض الديموقراطية موقفًا وعقيدةً للنظام العربي، يصبح ضروريًا ترقب ما سيحدثُ في ثلاثةٍ من بلدانِه في الفترة المقبلة. أولها تونس حيث بدأت عملية تغيير الدستور ونظام الانتخاب بطريقة قد تُيسًّر بناء نظام حكمٍ أحاديٍ تسلطيٍ مرةً أخرى. وربما يُحسم الاتجاهُ فيها مع نهاية العام الجاري.

والثاني السودان، حيث تُجرى الآن عمليةُ تعبئةٍ غير مُعلنةٍ للقُوى الُمستفيدة من إعادة إنتاج نظام حكم أحادي تسلطي أيضًا، وتجهيزها للفوز في انتخابات 2023 التي يُرجح أن يُعد لإجرائِِها بطريقةٍ تُعززُ فرصِ هذه القوى في الفوز بها، وتُضعفُ القوى الديموقراطيةَ التي لا يبدو أنها قادرةُ على استيعابِ دروسِ فشلِها المتكرر، وأهمُها  الدرسُ المتضمنُ في معادلة (انقسام وتناحر = إخفاق وهوان).

أما الثالثُ، فهو سوريا حيث بدأت عمليةُ إعادةِ السلطةِ الراهنةِ فيه كما هي إلى مقعده في جامعة الدول العربية التي تُمثلُ الهيكلَ التنظيميَ للنظام العربي.

فهل تمضي الأحداثُ في العام الجاري، وما يليه، في هذا الاتجاه؟

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى