المحاور الروسي يسأل: كيف كسرتم الحصار؟/ سوسن جميل حسن
لستُ أنا من تسأل، وليس شخصاً من سورية، بل إنه المحاور الروسي الذي طرح أسئلة يائسة كثيرة يطرحها الشعب المنتهك. وأمام تأكيد كسر الحصار لا بدّ أن أنكر الواقع، أنا المواطنة السورية، كغيري، لأن الحكومات لا تكذب على مواطنيها، وكل ما نراه ونقرأه في مواقع التواصل وكل الوسائط هو محض فبركة وإشاعات، الغرض منها إيهان عزيمة الأمّة.
وليد عمره أربعون يومًا، يُعثر عليه ملقى بجانب حاوية زبالة في أحد أحياء دمشق، مع رسالة من أمّه تقول إن الأب تخلّى عنهما، وهي لا تستطيع رعايته، كما أنها لا تستطيع أن تحبّه. قبلها بأيّام قليلة، عُثر على وليد أصغر في مدخل أحد الأبنية في مدينة حماة، بجانبه رسالة تقول إنه “ابن حلال”. وتكاد أخبار من هذا النوع لا تنقطع من شبكات التواصل في سورية، وفي الوقت نفسه تنتشر صورة الطفل السوري حسين، وهو جالس على حافة حاوية الزبالة التي يجمع منها العبوات البلاستيكية في لبنان، يقرأ في كتابٍ بمنتهى الانخطاف لصفحاته. كذلك أخبار المنخفض الجوي الذي يتمادى على كل المناطق السورية والثلوج والأمطار الغزيرة المترافقة مع انخفاض درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر بعدة درجات، صور من كل المناطق السورية عن حال الناس في هذا المنخفض. ومثل كل عام، صور مخيمات النزوح الغارقة في الوحول والثلوج هي الأكثر شراسة في حق الإنسانية والأكثر إدانة للضمير، المحلّي والعالمي. وتقرير حديث للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس يقول إن 90% من السوريين يعيشون “في فقر” و60% منهم يعانون من “انعدام الأمن الغذائي”، إضافة إلى أن 7.78 ملايين لم يكن لديهم عدد أطباء أو مرافقة طبية مستوفية للمعايير الدنيا المقبولة عالمياً. وقال: يعيش 6.9 ملايين شخص في مناطق لا تخضع لسيطرة الحكومة (من أصل نحو 22 مليوناً)، بينهم 5.6 ملايين بحاجة إلى مساعدات إنسانية. ويتركّز المحتاجون في المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في الأجزاء الشمالية من البلد، مع وجود عددٍ أقل في الجنوب الشرقي في مخيم الركبان. وتعدّ الاحتجاجات الإنسانية في المناطق غير الخاضعة للحكومة حادّة بسبب ارتفاع مستويات الأعمال العدائية في الشمال الغربي والشمال الشرقي خلال فترات مطوّلة، وارتفاع نسبة النازحين الذين يعيش عدد منهم في مخيمات أو مستوطنات عشوائية أو مراكز جماعية”.
في مقابلاتٍ لكاميرا جوّالة في شوارع المدن السورية في مناطق النظام، يظهر كم أن السوريين عُزّل أمام برد هذا الشتاء، وكل شتاء مرّ أيضًا، فهم يتلحّفون بما لديهم من بطانيّات أمام عجزهم عن تأمين التدفئة، وعجز الحكومة عن توفيرها بالحد الأدنى لحاجتهم، وحتى لو توفرت بالطريقة التي تنتهجها الحكومة، عن طريق البطاقة الذكية بالنسبة لمادة المازوت، فهي لا تكفي الحاجة، ولا تستطيع الأسر تأمين ثمنها ولو كانت مدعومة، كثيرون منهم يبيعون حصتهم فيما لو حصلوا عليها. أمّا الكهرباء فحكاية أخرى يعرفها القاصي والداني، عدا تحصيل الفواتير من جيوب الفقراء والجائعين والبردانين، لأن الكهرباء غير متوفّرة، لكنهم سيدفعون مجبرين، فاتورة استهلاك تُقرأ عن بعد لعدّادات معلّقة في مداخل الأبنية كذكرى عن حقبة ما.
متابعة أسعار المواد الغذائية تدفع إلى الذهول أمام سؤال عن تكلفة الطعام بالنسبة لعائلةٍ بأقل عدد من الأفراد في سورية، أم وأب وولدان، في الحد الأدنى من الاحتياجات لإسكات الجوع، وليس لتأمين الراتب الغذائي، إنها تحتاج ضعفي الراتب بحدّه الأعلى للرواتب والأجور بعد الزيادة الأخيرة، فمن يستطيع الإجابة عن السؤال: كيف؟
هذه لمحة عن مشاهداتٍ من الواقع متوفرة بغزارة أمام السوريين جميعًا، بلاد مخنوقة، شعب مقهور جلّ ما يناضل من أجله هو النجاة من الموت، يعني أن 90% من الشعب الذي يقول عنه غوتيريس إنه يعيش في فقر، والواقع أنه تحت خط الفقر، هم مرشّحون لأن يكونوا ناجين ليس أكثر، فيما لو نجوا، لكنهم ليسوا مرشّحين لأن يكونوا أحياء فاعلين بالمعنى الطامح للكلمة، أي قادرين على الابتكار وبناء الحياة المرجوّة، والمؤلم أن الانقسام الذي ظهر باكرًا في عمر الأزمة السورية، بين مكونات الشعب حول شرعية الانتفاضة وأحقيتها ومبرّراتها وتسميتها، بات اليوم أكثر قدرةً على شلّ إمكانات التفاف شرائح الشعب ومكوناته على بعضها بعضًا، فأمام التهديد الوجودي القاهر هذا، لم يبقَ مكانٌ في قلوب الناس للشعور بالآخر، أو التعاطف والرحمة، فالجميع يعاني وفي كل المناطق، ليست المناطق الواقعة تحت سلطات الأمر الواقع بأفضل، بل يعاني الناس بالطريقة نفسها، مضافة إلى معاناتهم الأخرى في كل مجالات الحياة المدنية وليس فقط المعيشية، لذلك نرى أن خطاب الكراهيّة والشماتة يرتفع اضطرادًا مع ازدياد المعاناة والقهر.
أمام كل هذه البراهين والقرائن، تخرج المستشارة الرئاسيّة، لونا الشبل، في لقاء تلفزيوني مع قناة RT التلفزيونية، في زيارتها أخيرا التي لا نعرف أهدافها، وتقول إن الشعب السوري صامد، لأنه يعرف حجم المؤامرة والحصار، وهذا كان خياره منذ البداية. لكن على الرغم من هذا، نجحت الحكومة السورية في كسر الحصار، وهي تؤمّن للشعب مقومات الحياة ولو بالحد الأدنى، وإذ يسألها المحاور كيف؟ تقول إنها أسرار حربٍ لا يمكنها التصريح بها. في المقابل، لا يمكن لأي متابع التعليق على كلام من هذا النوع.
يختم غوتيريس قوله: لكن أكثر ما يحتاجه الناس في الجمهورية العربية السورية لا يزال إيجاد حل مستدام للنزاع، بما يتماشى مع القرار 2254. .. الكلام الممجوج منذ عشر سنوات لم يعد يثير اكتراث السوريين، هذا الحلّ المستدام ما زال بعيدًا، إن كان ممكن التحقق، والأزمة السورية مفتوحة على احتمالات عديدة وآجالٍ غير معلومة، ما دامت هناك أزمات أكبر في العالم بين القوى الكبرى وتلك الطامحة إلى أن تكون كبرى، كإيران وتركيا، أزمات تهدّد العالم كلّه، كالأزمة بين روسيا والغرب، بين إيران وأميركا وأوروبا، تركيا وأوروبا وأميركا، أميركا والصين، يمكن عدّ الكثير، لكن ما الجدوى من عدّها؟ هل ننتظر ما ستتمخّض عنه زيارة الرئيس الإيراني موسكو مثلًا، والتصريحات بالتأكيد على التعاون الاستراتيجي طويل الأمد بين البلدين، وفي قلب هذا التعاون، التعاون في سورية؟ أم على سورية؟ هل هذا قدر سورية؟
في الواقع، لم تعد سورية صاحبة قرار في أي مجال يخصّها، لكن المحزن أن توشك السنة الحادية عشرة من عمر الأزمة على الانتهاء، وحال نخبها على ما هو عليه، لم تستطع سنوات الجمر، ولا انهيار البلاد، أن تدفع بعض السوريين إلى اللقاء فيما بينهم، وطرح الأسئلة النقدية الأكثر راهنيةً عما جرى والمآل والمصير.
العربي الجديد