بدعة الانتخابات في الجمهوريات العسكرية/ عبد الباسط سيدا
الأنظمة الجمهورية العربية بصور عامة هي أنظمة عسكرية لم تشهد عمليات انتقال سلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية، وإنما استولت على الحكم بانقلابات عسكرية، سُوقت على أنها «ثورات مناهضة للرجعية والصهيونية، والقوى الاستعمارية والامبريالية بصورة عامة».
واللافت في الأمر أنه غالباً ما كانت الشعارات القومية والاشتراكية هي الوسيلة المعتمدة للتأثير في الأوساط الشعبية، كما كان الانقلابيون في غالبية الدول العربية من أبناء الأطراف الذين وجدوا في الجيوش الفتية بعد الاستقلال فرصة للترقي وامتلاك أسباب القوة والتأثير. وغالباً ما كان يتم ذلك من خلال الانتماء إلى حزب العسكر، وبناء العلاقات مع المجموعات النشطة التي كانت ترغب في الوصول إلى السلطة، وتخطط لذلك.
ومع تكرار تجربة الانقلابات، سيما في سوريا والعراق، انتقلت العدوى إلى بقية الدول، حتى أصبحت، بحكم أمر الواقع، بمثابة العرف الأكثر قدرة على الحسم والتأثير في ميدان اختيار الرؤساء، وهؤلاء كانوا غالباً من أبناء المؤسسة نفسها.
وحده لبنان كان استثناء، ولكن حتى في لبنان كانت المؤسسة العسكرية تتمتع بنفوذ قوي، ويؤخذ رأيها لدى اختيار الرئيس، أو أن قائدها نفسه كان يتولى بنفسه مهام الرئيس؛ هذا قبل أن يصبح «حزب الله» هو الحاكم الفعلي غير المتوج رسمياً للبلد.
ولم تكن الانتخابات في يوم من الأيام على جدول أعمال تلك الأنظمة أو السلطات العسكرية؛ فهي كانت تعتبر نفسها «مصدر الشرعية التي تجسد إرادة الناس، وتعبر عن مصالحهم وتطلعاتهم». وكانت الشعارات القومية والاشتراكية هي وسيلتها المعتمدة للتأثير في الأوساط الشعبية وتعبئتها. وكل هذه العملية كات تستند إلى حزب سلطوي يستمد قوته من الجيش والأجهزة الأمنية؛ ليكون وجهها المدني.
ولم تترك الأنظمة المعنية فرصة للأحزاب السياسية الأخرى لتقديم برامجها، وممارسة نشاطها ضمن نظام سياسي تعددي يعترف بالآخر المختلف، لذلك كانت غالبية الأحزاب سرية، يتعرض أعضاؤها للملاحقة والاعتقال. وفي فترة لاحقة، وبعد أن ثبتت السلطات المعنية نفسها، وسيطرت على الأوضاع بقوة السلاح، سمحت بهامش محدود، لتلك الأحزاب بالتحرك، ولكن شرط ألا تشكل أي خطر علىيها.
وفي هذا السياق شكلت السلطة البعثية في سوريا بقيادة حافظ الأسد «الجبهة الوطنية التقدمية» التي جمعت بين الأحزاب القومية والشيوعية ضمن إطار هيئة سياسية كانت من الناحية الشكلية القيادة السياسية للبلد، ولكن على الصعيد الواقعي كانت مجرد إطار دعائي هدفه الأساس تدجين تلك الأحزاب، مقابل فتات من الامتيازات التي أدت في الكثير من الأحيان إلى انشقاقات ضمن تلك الأحزاب، حتى أصبحت مجرد قوى اسمية لا تأثير لها في الواقع العملي.
ومع الوقت تمكنت السلطات العسكرية في مختلف الجمهوريات العربية من سد الآفاق أمام مختلف الأحزاب التي فقدت الكثير من أعضائها ومؤيديها، وذلك لصالح أحزاب السلطة التي كان الانتماء إليها في معظم الأحيان شرطاً من شروط الحصول على العمل أو المنحة الدراسية (داخلية أو خارجية)، وحتى الحصول على قطعة أرض زراعية، أو على رخصة مشروع صناعي أو تجاري أو أي امتياز آخر. هذا في حين أن الانتماء إلى الأحزاب المعارضة كانت عاقبته الحرمان من العمل أو الدراسة، بل والملاحقة والاعتقال والتغييب.
وحدها الأحزاب الإسلامية ظلت محتفظة بقوتها نسبياً، وهو الأمر الذي اعتبرته السلطات العسكرية خطراً فعلياً يهددها راهناً ومستقبلاً. ومع الوقت حصل نوع من الاستقطاب بين الطرفين: السلطوي العسكري والإسلاموي. وهو ما أدى بدوره إلى صدامات مباشرة بينهما، كانت في العديد من الأحيان دموية (سوريا، الجزائر، ليبيا على سبيل المثال)، وتمثلت الحصيلة بصورة عامة في تسلط حكم العسكر، وتعطيل الحياة السياسية.
ومع انطلاقة ثورات الربيع العربي، وخروج الملايين من الشباب في مختلف الدولة العربية ذات الأنظمة العسكرية للمطالبة بالتغيير والإصلاح، ووضع حد للاستبداد والفساد، تراجعت تلك الأنظمة لبعض الوقت، ولكنها عادت لاحقاً من موقع خبرتها السلطوية لتتحكم من جديد بزمام الأمور، ولكن كان عليها هذه المرة أن تجري الانتخابات بهدف إسباغ شرعية شكلية على سلطاتها، وذلك بعد أن انكشف أمر الشعارات الكبرى التضليلية التي اقتتات منها على مدى عقود.
فهذه الأنظمة التي لا تقيم أي وزن للمدنيين أصلاً، ولا تؤمن بأي قيم ديمقراطية، وجدت في الانتخابات لعبة لفرض نفسها من جديد بإرادة شعبية زائفة عبر التحكّم والتزوير.
أما البدعة التي تسوق راهناً في العديد من الدولة العربية باسم «الانتخابات»، وحتى في مختلف الدول الاستبدادية على مستوى العالم، من خلالها شرعنة تسلطها وتحكّمها فهي مجرد تحايل على القيم الديمقراطية، تماماً مثلما يتحايل بعضهم على الشريعة والقانون. وهي تُستخدم بوصفها المخرج بعد انسداد الآفاق، وتعثر الحلول العسكرية التي كانت، وما زالت، تستهدف إزالة أو اجتثاث الآخر المختلف المنافس.
وما يزيد الوضع تعقيداً في الدولة العربية المضطربة هو التدخل الخارجي السافر الذي يدعم هذا الطرف أو ذاك، وذلك بما ينسجم مع حسابات الجهات المتدخلة. هذا ما حدث، ويحدث، في اليمن وسوريا، وكذلك في ليبيا، وما حدث في مصر والجزائر، وسيحدث على الأغلب في السودان وتونس. فالسلطات التي حكمت هذه الدولة هي سلطات عسكرية وصلت جميعها إلى الحكم بانقلابات عسكرية، وقضت على الحياة السياسية في بلدانها، وأجرت عملية «هندسة مجتمعية» بشعارات أيديولوجية تضليلية قومية – اشتراكية الطابع، بينما كان الهدف في واقع الحال هو إبعاد الشرائح الاقتصادية التي وجد فيها العسكر خطراً مستقبلياً على نزوعهم التسلطي، والسيطرة على موارد البلاد باسم القطاع العام أو ملكية الشعب، بعد إلغاء امكانية المساءلة والمحاسبة، فانتشر الفساد ليلتهم الموارد العامة والخاصة.
أما في لبنان والعراق، فإن الميليشيات أقوى من الجيش والدولة. وهي التي تتحكّم بالدولة والانتخابات، أو بكلام أدق بنتائج الانتخابات، وتفرض شروطها التي تضمن لها الكلمة الفصل.
الانتخابات الليبية أجلت إلى أمد غير معلوم لأسباب تتعلق بصعوبة، إن لم نقل استحالة التوفيق بين قوى الأمر الواقع التي تتقاسم البلد الغني بثرواته، والمهم بموقعه الاستراتيجي وهذا ما يسيل لعاب القوى الإقليمية والدولية. هذا في حين أن الشعب الليبي المغلوب على أمره يعاني الأمرين في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها، والمستقبل المجهول الذي ينتظره، وهو الذي عانى ظروفاً قاسية في ظل الحكم السابق الذي بدد ثروات ليبيا، وترك أهلها يعيشون وضعاً معيشياً تعيساً على الرغم من الموارد والإمكانيات الهائلة التي يمتلكها بلدهم.
أما في لبنان، فقد عطّل «حزب الله» بدعم من حلفائه اللبنانيين ورعاته الإيرانيين انتخابات رئاسة الجمهورية على مدى أكثر من عامين، وفرض الثلث المعطل، وفرض شروطه حتى في البيان الوزاري.
وفي العراق حيث واجه، ويواجه، المشروع الإيراني التوسعي الرفض من العراقيين عموماً، ومن العراقيين الشيعة خصوصاً، ومُني أتباع إيران بخسارة مدوية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فشككوا في نزاهتها، وطالبوا بإلغاء نتائجها. ولكن لما تبين لهم استحالة القبول بذلك، طالبوا بتعزيز ميليشيات الحشد، لأنها الأقدر على التحكم بالقرارات السياسية والمعطيات الميدانية.
أما في السودان، فمن الواضح أن العسكر، على الرغم من إعلانهم الزهد في السلطة، متمسكين بالبقاء في صدارة المشهد، وهم يراهنون على إحباط السودانيين، وانشغال المجتمع الدولي. وهم يأخذون الخبرة والتجربة من أقرانهم العسكر في الدول الأخرى، بل يتلقون منهم الدعم، وليس لديهم أي مانع للإقدام على أي خطوة تساهم في ابقائهم في السلطة.
وفي تونس اعتمد العسكر وسيلة أخرى من خلال رئيس لا نعلم ما إذا كان يعتقد فعلاً أن السلطات بيده، يعتقد أنه سيقضي بمفرده على الفاسدين والأشرار الذين أساؤوا إلى الشعب التونسي، وأفقروه.
النماذج كثيرة بكل أسف، وجميعها تؤكد أن ديمقراطية الانتخابات، وفي ظل هيمنة الأنظمة العسكرية هي مجرد موضة، أو موجة، كما كانت الاشتراكية في يوم ما في ظل الأنظمة ذاتها.
فهذه الأنظمة بعد أن قضت على المجتمع الأهلي الذي كان قد تمكن بالرغم من ثغراته ومثالبه، من الحفاظ على التوازنات المجتمعية، وإيجاد الحلول المقبولة إلى حد ما لمختلف المشكلات؛ سدت المنافذ في المقابل أمام تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي كان من شأنها أن تكون حلقة الوصل بين الشعب والسلطة، وتمنع الاصطدام المباشر، أو كانت ستخفف من حد الاصطدامات وتمتصها، وتقطع االطريق أمام وضعية الاستقطاب بين العسكر والقوى الاسلامية، وهي الوضعية التي انهكت مجتمعاتنا، وبددت مواردها، وحالت دون حصول أي تراكم على صعيد الخبرات والمعارف والثروات، وكل ذلك لا استغناء عنه لأي مجتمع يسعى من أجل ضمان مستقبل أفضل لشبابه وأجياله المقبلة.
القدس العربي