خطوة – بخطوة إلى الجحيم!/ يحيى العريضي
ابتدع “هنري كسنجر” خلال سيرته “العطرة”، كوزير خارجية ورئيسٍ لمكتب الأمن القومي الأميركي، اصطلاحات تعبّر عن سياسات واستراتيجيات تحوّلت إلى منهجيات في العمل السياسي والدبلوماسي عالمياً. “سياسة المكوك” و”سياسة الخطوة – خطوة” كانت من بين تلك المساهمات. ونحن كعرب، كلما استحضرنا اسم “كسنجر”، ثعلب السياسة الأميركية، ترتسم صورة ذلك الشيطان، الذي أسهم بطمس حقوقنا بمساعدة عامل القوة الاحتلالية الغاشمة، وخنوع وسقاطة بعض “قادة” بلادنا.
أذكُرُ كسنجر، ليس فقط لأنه صاحب المكوكية وخطوة خطوة، بل لأنه كان الأسرع عام 2011 في الذهاب إلى موسكو، لاستنفار بوتين للتدخل، وحماية منظومة الاستبداد الأسدية؛ حيث إنَّ حماية أميركا عسكريا للمنظومة لم تكن واردة؛ فنظام الأسد عاش على الظهور بمظهر العداء تجاه أميركا وإسرائيل (وروسيا بوتين برأيه الأفضل للقيام بمهمة الحماية؛ فكان الدعم من اللحظة الأولى). وليس خافياً أن كسنجر هو الذي كان قد ضمن للأسدية سلطة أبدية في سوريا بداية سبعينيات القرن الماضي، مقابل خدمة الربيبة إسرائيل.
والآن، ها هو المبعوث الدولي “بيدرسن” يسحب من أدراج الظلم والظلام الكسنجرية أحد تلك المصطلحات، ويفتح لها سوقا جديداً، علّه يتمكن من تحقيق “نجاح” في مهمته، يتمكن من خلاله طمس حقوق الشعب السوري، وهو المُكَلَّف بتطبيق قرار يعيد وضع سوريا على سكة الحياة. يأتي ذلك بعد تعثر آخر الطروحات والجهود الدولية في “تغيير سلوك النظام”، وبعد وقوف هذا العالم على حقيقة عرقلة منظومة الاستبداد لأي حل سياسي في القضية السورية. فما الذي تنطوي عليه بدعة “الخطوة – بخطوة”، وما الموقف المتوجِّب تجاهها؟
ببساطة “الخطوة” هي تقديم شيء لـ “نظام الأسد”، على أمل أن يتجاوب، ويقدم شيئاً بالمقابل من أجل “حل القضية السورية”. وإذا ما استعرضنا /الخطواااات/ التي قُدمت له حتى الآن ابتداءً من التراجع عن خط “أوباما” الأحمر، إلى التغاضي عن استمراره باستخدام السلاح الكيماوي، مروراً بالضخ العسكري الروسي-الإيراني وفيتو الحماية الروسي، وغض الطرف عن سرقته مساعدات الأمم المتحدة، وصولاً إلى فتح مسار أستانا وسوتشي لإفراغ مضامين القرارات الدولية، والتغاضي عن تقسيم بنود القرار الدولي 2254 إلى ما سُميّ “سللاً”، ووضع عملية الانتقال السياسي جانباً، والتلاعب بضرورة “تغيير النظام”، والاكتفاء بتغيير سلوكه، والعمل على التعافي المبكر، والتراخي بالعقوبات والمقاطعة التي تضغط على النظام ليدخل في العملية السياسية، والمساعي الحثيثة للانفتاح على “النظام” ومحاولات إعادة تأهيله؛ وبعد كلٍ هذه الخطوااات، يأتيك من يقول
لا بد من السير بمنهجية خطوة- خطوة، بانتظار أن يُقْدِمَ النظام على خطوات باتجاه الحل.
ولكن مقابل كل ذلك، ما الخطوات التي تَقَدَّم بها “النظام”، لتبدو مشجعة لأصحاب “الخطوة-بخطوة”، كي يطرحوها ويسوقوا بها كحل للقضية السورية، وإخراج السوريين من مأساة طالت مواجعها؟! خطوة “النظام” الأولى – والتي يتبناها أمثاله من المجرمين – هي التبجح بالانتصار، وما على مَن وقف في وجه استبداده وإجرامه إلا أن يأتي صاغراً، ويطلب السماح؛ وعلى من قاطعه أن يخجل على نفسه، ويرفع مقاطعته، ويطبّع معه. خطوته الثانية تمثلت بعرقلة العملية السياسية عبر التعنت والكذب والمراوغة ونسف مصداقية العملية برمتها. الخطوة الثالثة تتمثل بالمكابرة، والانفصام عن الواقع، والاستخفاف بالدول والجامعة العربية (وتصريح وزير خارجيته بأن العودة للجامعة العربية ليست أولوية بالنسبة له دليل على ذلك). والخطوة الرابعة تفريغ سوريا من “العبء” البشري عبر الإفقار والإذلال والمخدرات واستمرار الاعتقال؛ والدليل أن النسبة الكبرى ممن بقي في سوريا يتمنى ويسعى للخروج من وطن ليس له غيره، بسبب الحال الذي أوصلهم إليه. وخطوته الخامسة الاستمرار بالانفصام عن الواقع والمكابرة والكذب وبيع مقدرات سوريا للمحتل والمزايدة بالسيادة والوطنية. ويمكن إضافة عشرات “الخطوات”، التي لا تعكس إلا مسلك عصابة مافياوية مارقة لا تخشى رقيباً أو حسيباً.
إذا كانت المنظومة الاستبدادية تستمر بمكابرتها وانفصامها عن الواقع، وتتصرف وكأن شيئاً لم يكن خلال مأساة تسببت بها على مدار عقد زمني، ولا ترى أن ما حدث إلا “مؤامرة كونية” على “نظام المقاومة والممانعة”، وتنكر ارتكابها لأي جريمة بحق سوريا والسوريين، وتستمر ببيع مقدرات سوريا للمحتل من أجل البقاء، وتدّعي السيادة والوطنية، وأن مَن وقف في وجه استبدادها وفسادها وإجرامها من السوريين ليس إلا عميلاً وخائناً، وأن العملية السياسية ليست إلا محاولة يائسة للحصول بالمفاوضات على ما لم يتم الحصول عليه بالإرهاب، وأن الاحتلال الروسي والإيراني ليسوا إلا حلفاء وإخوة؛ فكيف لها أن تتقدّم بأي “خطوة” مقابل ما قُدِّم أو سيقدمه لها السيد بيدرسن وجهوده؟!
قبل كسنجر، سمعنا ممن كانوا يصطادون الثعابين، بأنه عندما يهرب الثعبان للاختباء في جدار أو جحر، كان الصياد يلاحقه ويمسك بذيله؛ ثم يرخي قبضته قليلاً كخطوة لإعطائه فرصة يظنها تساعده بالاختباء؛ ولكن يعود الصياد ويسحبه من الجحر أكثر. وهكذا يكرر الأمر عدة مرات /”خطوات”، حتى يُخرج الثعبان من مخبئه. ربما اعتقد السيد “بيدرسن” أن ذلك التكتيك ينجح مع الثعبان المختبئ في ركام سوريا. وقد تكون نيّته ومقاصده بهذا الاتجاه؛ ولكن مع طبيعة هذا المخلوق القاتل، ووجود مَن يتمسك به كروسيا وإيران وغيرهما من الخبثاء والمرائين، ومع تيّقن القاتل أن محكمة الجنايات الدولية بالانتظار، ومع تصوّره المريض بأن عالمنا الظالم محكوم بقانون القوة لا قوة القانون؛ فالسذاجة أو الخبث أو “الكسنجرية” هي أقل الصفات لهكذا تكتيك أو إجراء.
ليس عبقرية أن تعرف أن مآل “الخطوة-بخطوة” ليس إلا إعادة تأهيل لمنظومة الأسد الإجرامية؛ وهذا يعني محو مسؤوليتها عن تدمير سوريا وشعبها- بما في ذلك مَن مازال على ضفتها مختاراً أو مجبراً أو ملوّناً. روسيا بالتحديد تبذل أقصى جهدها لضمان هكذا مآل؛ لأنها شريك كامل بالجرائم المرتكبة في سوريا؛ وما سُجِّلَ على المنظومة مسجلٌ عليها مضاعفاً بحكم جرائمها ذاتها من ناحية، وبحكم دعمها لجرائم المنظومة وتغطيتها من ناحية أخرى.
الخطوة-بخطوة طرح وقح وفاشل، وليس بريئاً، ويحمل في طياته مؤامرة كبرى على حق بائن. إنها تزيد من مكابرة المنظومة الاستبدادية وانفصامها عن الواقع، تشرعن الجريمة، تهدف إلى إلغائها، تسهم بتفلت المجرم من فعلته. وهنا، ليبشر هذا العالم بانفلات إجرامي في كل أصقاعه. وهذا لن يكون، ولن يمر، ولن يقبله العالم، ولا إنسان سوري حر. الخطوة الوحيدة الممكنة واللازمة هي اقتلاع منظومة الإجرام الاستبدادية، بالسياسة إن أمكن؛ وإن تعذر، فهناك ما لا يُحصى من الطرق. ثورة السوريين باقية، والحق الذي أراد “كسنجر” طمسه لا يزال ماثلاً وحياً، وكذلك الحق السوري. وليذهب بيدرسن ومن يسير أو يقبل معه مشروع “الخطوة- بخطوة” إلى الجحيم.
تلفزيون سوريا