دول ولائية متعسكرة ضد حراكات مدنية عربية/ وضاح شرارة
في ختام “منتدى شباب العالم” الذي دعت إليه الرئاسة المصرية، وعُقد بشرم الشيخ في الأسبوع الثاني من كانون الثاني/ يناير، أصدر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارات متفرّقة، يتصدرها قرار إعلان 2022 “عاماً للمجتمع المدني”.
تستوقف استعادة عبارة “المجتمع المدني” القارئ، بمعزل عن سياق الاستعادة وظرفها. فعوضاً عنها، كَثُر استعمال مرادفات لها مثل الجمعيات غير الحكومية (وعُرّبت إلى “إنجي أوز”!) وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان عموماً وفروعها الكثيرة: حقوق المرأة، حقوق الأقليات العرقية والدينية والجنسية… والحيوانية والبيئية، في آخر المطاف.
ووُصفت بصفة “المدنية” حركات جماهيرية واسعة كانت، إلى وقت قريب، توصف بالاجتماعية والسياسية معاً أو بالسياسية وحدها. وتدلّ الصفة هذه على تظاهرات جامعة، واعتصامات مديدة، واحتشادات موضعية تحاصر أماكن ومرافق رسمية، أو شخصيات بارزة، وترافقها إضرابات معلَنة أو غير معلنة. وسرعان ما تحوّل وصف هذه الحركات التي تعاقبت في السودان (2018) والجزائر (2019) والعراق (2011) ولبنان (2019)، وتوالت أمواجاً على حدة بإيران (2017 و2018 و2019 و2020)، إلى الموصوف نفسه.
فقيل الحراك، المدني تارةً والشعبي غالباً، في الحركتين السودانية والجزائرية. وميّزت الحركة اللبنانية نفسها عن تسميتها بحراك، على سبيل الازدراء أحياناً، وعلى لسان خصومها الذين أطبقوا على أنفاسها، بلقب “ثورة”. ودلّت “المدنية”، من ناحية أخرى، على الشطر غير العسكري من الحكم الائتلافي والجبهوي الذي تربّع في الهيئات الحكومية السودانية حتى انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. ويكاد يُجمع “الثوار” اللبنانيون، ومشايعوهم من غير محازبيهم، على أن “الدولة المدنية” برنامجٌ سياسي واجتماعي وثقافي (تاريخي وحضاري) يليق بمواطنين ومواطنات في وطن ومجتمع ودولة تقر لهم ولهنّ بالحرية والمساواة والعدالة والكرامة.
الواحد والمتفرّق
اشتركت هذه الحركات، المتزامنة شرق أوسطياً وعالمياً على نحو لافت، في قيامها أو خروجها على أنظمة عسكرية صريحة (شأن السودان)، أو متعسكرة (شأن الجزائر وإيران)، أو في طور ونظام معلّقين بين المدنية والميليشياوية والأهلية (على مثال العراق ولبنان).
ولكن السبب في تبنّي الصفة المدنية لا يقتصر على مناقضة الصبغة العسكرية المتفاوتة التي اصطبغت بها سلطات هذه الدول وأنظمتها. فالأمر أو الشيء الآخر الذي اشتركت فيه الحركات هو ولادتها من إلحاح احتياجات ومطاليب سواد الناس وعمومهم، وهم الذين تعرّفهم كياناتهم السياسية الحديثة بأنهم “مواطنون لا رعايا”، على قول المفكر المصري خالد محمد خالد (1920-1996) قبل 70 عاماً، و “ليسوا أهل ذمّة”، على قول شيخ الأزهر أحمد الطيّب، في أسبوع 2021 الأخير وأعياده المسيحية.
وتُسَوّي الاحتياجات الحياتية الأولى، كالغذاء والكساء والسلامة الصحية والبدنية، والاحتياجات الاجتماعية، كالسكن والمواصلات والإعداد العملي والتعليمي- والعمل شرط تلبيتها- بين أهل المجتمع الوطني المشترك، وتوحّدهم على السعي في تحصيلها. ويردّ هذا إلى “المجتمع المدني”، وإلى ما يُفهم به. فالمفهوم نشأ أصلاً عن دخول العمران (الغربي الأوروبي)، في النصف الأول من الألفية الثانية، في طور جديد، أسهمت في صنعه عوامل متناغمة منها التقدُّم التقني، وتعاظم تقسيم العمل، وزيادة كبيرة في عدد السكان، ومؤاتاة مناخية أثمرت زراعة مزدهرة، وفك الدنيا وشواغلها من الآخرة، ونشأة الرهبانيات العاملة في “العالم”، وتزامنُ نازعَين سياسيَّين واحدٍ إلى السلطة المطلقة ودولتها المركزية وآخر إلى قيام مدن وجماعات مدينية مستقلة إلى حد ما بتدبيرها ومعاشها. واضطلعت المطبعة في القرن الخامس عشر، والإصلاح الديني البروتستانتي في القرن التالي، والصياغة الحقوقية والقانونية لمفهوم “صاحب الحق” الفرد (المالك، والحصين من الإكراه والتعذيب والتعدّي على “ماله ودمه وفرجه”، وعلى ضميره واعتقاده) بدور راجح في بلورة كيان الفرد، المواطن والشخص والذات معاً.
مواطنون في مجتمع
كان خروج الحركات، أو الحراكات و”الثورات” المدنية، على الجماعات المتسلطة في أنظمة تَمُتّ بعلاقات متفرّقة ومتينة إلى الإدارة العسكرية والأمنية، ثورةً على تعسّفها وبوليسيتها القمعية وعصبيتها الاحتكارية، من وجه، وتنديداً صارخاً بعجزها عن القيام بأعباء السياسة الاقتصادية والاجتماعية، سياسة “المجتمع المدني” أو تدبيره، من وجه آخر.
ويقع الفساد، على معنى ما تداولته الحركات- ويشمل الهدر، والاستنساب، والزبائنية، وتخصيص الريوع، وانتهاك القوانين، والإهمال، واستنزاف الموارد، وشل المراقبة الإدارية والتقنية- في قلب صفة المدنية التي رفعتها هذه الحركات، وانتسبت إليها. وفصَّل المتظاهرون والمعتصمون في الساحات، وناصِبُو الخيام والسرادق وأكواخ الكرتون، نتائج الفساد وثمراته الثقيلة في استعراضهم الرتيب والأليم لمطاليبهم، وفي روايتهم “أوجاعهم” ومراراتهم، فتخلّوا، وهم يعددون ما يفتقرون إليه: العمل، الراتب، الدواء، المدرسة… وفروعها الظرفية، عن الخجل الاجتماعي الذي ينصح بالسكوت والاستتار إنْ لم يفرضهما قسراً.
وأظهر إحصاء الاحتياجات العاجلة على الملأ، على الشاشات غالباً، فداحة الخسائر والمصائب التي ألحقها الفساد العريض والعميق بالناس، ودلّ على عموم هذه المصائب وفشوّها أو انتشارها في جماعات وفئات وبلاد متفرّقة. وقد تكون مدنية الحركات، وتناولها المصالح والحاجات العامة والمشتركة، هي السبب في جماهيريتها (أو “مليونيتها”، على قول السودانيين المعارضين العسكر المختلط بالميليشيا)، ودوامها ومطاولتها القمع والتضييق. وهي العلّة في تخطيها الحواجز العصبية والمذهبية والقومية، واستقطابها محتجين متظاهرين ومعتصمين من أنصار الجماعات المتسلّطة على الحكم وعوائده ومنافعه.
فاجتمع في ساحة التحرير ببغداد، وفي ساحات البصرة والنجف والديوانية… العراقية، المستقلون، المجاهرون بمآخذهم على المنظمات الأهلية المسلّحة والكتل النيابية التي تتوّجها، إلى “متسللين” من تيارات المرجعية (السيستاني) ومقتدى الصدر، والحكمة (آل الحكيم) والدعوة والنصر والمنظمات الكردية.
وسارع أنصار كثر للحزبين المذهبيين الشيعيين، “أمل” و “حزب الله”، إلى اللحاق بالمجموعات المدنية الطلابية والمهنية والاعتصام والتظاهر والتخييم في ساحات المدن اللبنانية. وحذا حذوهم، وإنما في وقت واحد، أنصار تيار المستقبل (الحريري السنّي)، والحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي، والتيار العوني المسيحي، وحزبي “القوات اللبنانية” و”الكتائب” المسيحيين. وثقل المدن المختلطة، بيروت طبعاً وبعدها طرابلس وصيدا وصور، صورة أخرى من المزيج.
واختلط في أمواج الحراك الجزائري مواطنون من غير صفة، ونقابيون، ومجاهدون سابقون، ومحازبو أحزاب المعارضات العلمانية القديمة، الاشتراكية (حسين آيت أحمد) والثقافية الأمازيغية (سعيد سعدي)، وإسلاميون “معتدلون” على شاكلة قواعد حزب العدالة والتنمية التركي وحزب البناء والتنمية المغربي.
ولعل المزيج السوداني أشد الأمزجة الحراكية العربية تنوّعاً. تصدّر “تجمع المهنيين السودانيين” الإعداد للحراك، ثم رعايته وتنظيمه وقيادته، وذلك قبل تبلور “قوى إعلان الحرية والتغيير” وأحزابها الكثيرة، وبالتزامن مع “لجان المقاومة الشعبية”. وكان إبراز الصفة والشعار المهنيين قرينةً ظاهرةً وإرادية على الجذور الاجتماعية والمصلحية والمدنية العامة التي يدرك التجمّع صدوره عنها وتحدّره منها. وقد يعود إشهار المدنية عنواناً ولافتةً إلى التعقيد والتركيب الشديدين اللذين يطبعان بطابعهما السودان وأقوامه وولاياته وأعراقه وقبائله ونواحيه وجماعاته الصوفية، إلى مدنه وطبقاته الاجتماعية وأحزابه. وتتصدّى عمومية الصبغة المهنية المعلنة وحيادها لصبغة الحكم السوداني- يوم كان عمر حسن البشير وزمرته على رأسه، وهو في قبضة عبد الفتاح البرهان و”سيادته” اليوم- العسكرية والإسلامية السياسية (المعلنة والمقنّعة) والمرتبية البيروقراطية.
تسييس المدنية
ولكن الحركات المدنية، الاجتماعية والاقتصادية، اضطرت إلى الخوض في السياسة العامة، وفي بنية أنظمة الدولة وموازين القوى بين هيئاتها وأجنحتها، وأحلافها ونزاعاتها المحلية والوطنية والإقليمية. وحملها عليه النهج السياسي والاجتماعي الذي انتهجته الجماعات الحاكمة والنافذة في دول الحركات والحراكات هذه.
فما أن توالت جُمَع (أيام الجمعة) الحراك الجزائري وتظاهراته الحاشدة، في آذار/ مارس 2019، وطالب المتظاهرون باسترداد وطنهم، تاريخاً جامعاً وخلافات دامية وهويات كثيرة، من ناحية، وموارد ومرافق عمل وتأهيل واستثمارات في المستقبل، من ناحية أخرى، حتى أسفرت السلطة المتهالكة عن أنيابها العسكرية والبوليسية. وإذا هي تحاشت القتل المباشر، ولم تلجأ إلى الاغتيالات الصريحة والمواربة، على خلاف “ألوية الموت” الأهلية في العراق (وقبلها في إيران الجارة)، إلا أنها لم تَعُفّ عن وسائل القمع الأخرى، من قطع طرقات، وتوقيف احتياطي، وحجز موقت، وصرف من الخدمة، ومحاكمات مزوّرة، وأحكام مديدة بالسجن، وتعطيل صحف، وسحب رخص…
واضطرار كتلة الحكم إلى التخلي عن بعض رؤوس الفساد من أهل الامتيازات والمنح السخيّة في القطاع العقاري أو في مجال تموين القوات المسلحة ومرفق النقل الجوي، على حساب المصالح المشتركة والعوائد العامة، أملاه الحرص على حماية كيان الكتلة وموقعها من الدولة. فلا ملجأ، بهذه الحال، من أن ينزع الحراك، في الجزائر شأنه في السودان والعراق ولبنان، إلى “السياسة”، أي إلى وضع بنية النظام الحاكم وغاياته ومعاييره، موضع الحساب والتشكيك والمراجعة. والفساد، في ميزان السياسة التي تخوض الحراكات المدنية فيها، هو المفصل الذي يصل إدارة سلطة الأمر والعلاقات بين الجماعات (في الداخل والخارج) وتدبير الموارد، بالاحتياجات والإنتاج والتوزيع.
وهذا ما تدركه الجماعات المتسلّطة على الدول المذكورة ومجتمعاتها. فهي تسوّغ سيطرتها- وعسكريتها وتعسكرها وميليشياويتها الأهلية، بل ودوام هذه السيطرة والانفراد بها- بقدرتها وحدها على بناء استقلال دولها، وحفظ هويتها، ومقاومة العدوان الشرس والأبدي، العسكري والثقافي والاقتصادي، عليها. فلا توسط في هذه السيطرة. ولا لون بين الولاء الأبيض قلباً وقالباً (أو “الصداقة” على معناها الاستئصالي… النازي) وبين العداوة “السرطانية” والسوداء.
وتتستر الصياغة اللغوية واستعاراتها المكررة على وقائع بشعة بشاعة الحرب الأهلية. فالحزب الإسلامي في السودان، أي ائتلاف جيش البشير وعبد الفتاح البرهان و”حميدتي” بعده، و”مؤتمر” حسن الترابي وخالفيه، أرسى استبداده على “التمكين”. والتمكين هو كناية عن تولية الأنصار والموالي على هيئات الدولة، ومرافق إدارتها وقضائها، ومصادر مواردها. ويؤدي هذا إلى قطع الطريق على أقل تشارك لتمثيل المصالح المتفرّقة والمختلفة، وإلى نفي الافتراق والتباين بين أحوال الجماعات والأفراد (أو “الشعوب والقبائل”)، بالقوة غالباً. ويصرف التنكيل، العسكري والإداري والقضائي والاقتصادي (القطاع “العام”) والثقافي (التعليم والنشر والإعلام)، الموارد والعوائد والمرافق المدنية إلى الأنصار والموالي والزبائن، على مراتب ولائهم و”حُمرتهم” (خلاف اختصاصهم ومهارتهم، على قول دينغ شياو بينغ، صاحب “الإصلاح” الصيني).
وتفضي هذه السياسة، على نحو ما أفضت إليه في العراق ولبنان والجزائر (وإيران)، إلى إفقار عام ينهض لبنان قرينة مأساوية عليه، ويليه السودان فالعراق فالجزائر. فبدلاً من مكافأة صاحب العمل على عمله يجزى جائزةً وريعاً على وفائه. ويعود انهيار القطاع المصرفي في بلداننا، هذا إن قدّر له قيامه على قدمين، إلى غلبة المعاملات الولائية على المعاملات السوقية. فيجتمع أصحاب الحظوة، من المحاسيب وأهل الطاعة، في “طبقة”، أو حلف، متفاوت المراتب، يميل ميلاً سياسياً وعصبياً واحداً، وينيط وحدته بالاستيلاء على الدولة وبدوام هذا الاستيلاء (وشهوة حلف الحزبين الشيعيّين وتيار ميشال عون والحلفاء الظرفيين الآخرين للمناصب والوظائف والمناقصات والتعويضات في لبنان غنيّة عن الذكر)، ويَفرض على المنفيين من الحظوة، الاجتماع على المطالبة بحقوقهم المدنية، أي المعاشية في هذا السياق.
فينقسم الأهالي، وهم يُفترَضون “مواطنين” متساوين في الحقوق والواجبات، شطرين… أهليين، على مثال سابق وبائد: الشطر الأول يجمع “أهل الدولة”، أو “عصبيتها” ومقاتليها على زعم ابن خلدون (بديهة)، والشطر الآخر يضوي، على نحو ضعيف ومتفكك وظرفي غالباً، المنفيين من “الجنة”، على قول صريح جاهر به نعيم قاسم، أحد شيخي “حزب الله”، وأراد به “جنة الانتصارات” السياسية والعسكرية والمذهبية، ومن طرف ثانوي ألمح إلى المازوت وبطاقة “سجاد” ومصرف “القرض الحسن” اللاربوي…
وحين يندد “أهل الدولة”، في الدول المذكورة، بأصحاب “المجتمع المدني” ويقمعونهم ويستحلّون قتلهم، وينسبونهم إلى العمالة والارتزاق، يطالبونهم، تحت طائل هذه الأمور كلها، بمبايعة “قضاياهم” أو “قضيتهم” الواحدة المفترضة. وهذه “القضية” في صيغها السائرة، هي نواة السيطرة الواحدة، وجماعتها الواحدة، وفسادها المدني.
رصيف 22