سورية تحت المقصلة/ سميرة المسالمة
تضعنا أرقام التقرير السنوي للشبكة السورية لحقوق الإنسان عن عام 2021، أمام حقائق مؤلمة، توضح من جديد حاجة سورية إلى حل “فوق محلي”، أي ليس بين الأطراف السورية التي تمارس حكم الأمر الواقع في الجغرافية السورية الممزقة؛ لأن منطق العدالة التي فتح بابها أول أحكام القضاء الألماني، بحق (أنور. ر) ضابط سابق في أمن النظام، وما يمكن أن تؤول إليه محاكمة الطبيب (علاء. م)، يعني تحييد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان، لا مكافأتهم والسعي لإدراجهم كأطراف في تسويةٍ سياسيةٍ تمكّنهم من جديد من فرض سطوتهم عبر تقاسمهم سلطة جديدة، أو تماهيهم في السلطة الحالية بالشراكة مع النظام المسؤول الأول عن ارتكابات مسؤوليه السابقين والحاليين.
وثقت إحصائيات الشبكة في نسختها (11) والتي أخذت عنوان “انهيار الدولة وتفتيت المجتمع” جرائم قتل خارج القانون كحد أدنى بحق 1271 مدنيًا، بينهم 299 طفلًا و134 سيدة بالغة، تتوزع مسؤولية هذه الجرائم بين جميع أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سورية على مناطق النفوذ الخمس، وهي قوات النظام السوري والقوات الروسية وميليشيات شيعية (1032)، وهيئة تحرير الشام (121)، وفصائل المعارضة المسلحة/ الجيش الوطني (420)، وقوات سوريا الديمقراطية (645)، وقوات التحالف الدولي (2)، إضافة إلى مقتل (820) لم يتم تحديد الجهات المسؤولة عنهم، بينهم 22، منهم 7 أطفال و2 سيدة، على يد حرس الحدود التركي.
بالمختصر: يمكن الحديث عن تفاوت عددي لضحايا الأطراف السورية والدولية في العام الماضي، الذي يفترض أنه الأكثر هدوءًا، بعد جملة تسويات واتفاقيات جرت بين فصائل المعارضة مع النظام برعاية روسيا، درعا مثالًا، وفي ظل مسار آستانة ومباحثات سوتشي حول إدلب ومناطق الشمال السوري باتفاق ثلاثي روسي – تركي – إيراني، لكن هذا التفاوت في عدد الجرائم المرتكبة بحق السوريين، ومنها مقتل 104 أشخاص تحت التعذيب، منهم 75 في زنازين النظام، و15 لدى “قوات سوريا الديمقراطية”، و5 عند فصائل المعارضة، و4 لدى “هيئة تحرير الشام”، و2 عند جهات مجهولة، لا يعني الخيار بينهم على أساس الأفضل أو الأقل جرمًا، بل يؤكد أننا إزاء سلطات متشابهة في السلوك، ومختلفة في الإمكانيات ومساحة الجغرافية التي تحكمها.
وعلى ذلك، فإن الحديث عن تسوية سياسية بين مرتكبي ذات الأفعال هو حديث يتضمن فعليًا قرارًا بالتنازل عن العدالة، بشقيها الشخصية والانتقالية (المجتمعية)، حيث لا يحاكم مجرم مجرمًا، وهو ما يمكن فهمه من سياق مقال السفير السابق روبرت فورد، المنشور في الشرق الأوسط 19 كانون الثاني/ يناير 2022، فهو عندما يضع العملية السياسية أو التسوية، كما سمّاها، مقابل العدالة كخيار للسوريين، فإنه يفعل ذلك استنادًا إلى حقائق الأدوار المتبادلة بين قوى الأمر الواقع في انتهاكات حقوق الإنسان، التي لا يستطيع أحد إنكارها، مع احتفاظ النظام في كل وقت بالصدارة والريادة، وذهبية أعلى أرقام الجرائم بحق السوريين، ومسؤوليته حتى عن تصنيع بعض الفصائل المتطرفة المحسوبة على المعارضة، وإهداره فرصة الحل السوري – السوري، منذ انطلاقة الثورة عام 2011 حتى انبعاث (داعش) من جديد، الأسبوع الماضي، وصحوتها لتكون سادس القوى المسيطرة والمرتكبة للجرائم في سورية.
صحيح أننا أمام مشهد الانهيار السوري، بكل أبعاده العسكرية والسلطوية والمجتمعية والمعارضة وحتى الهوياتية، ولكن كل هذا لا يعني التسليم بأن أي تسوية حول سورية يجب أن يكون أطرافها مرهونين للخيار الذي يضعنا أمامه مقال “سعادته”، الذي يأتي متأخرًا جدًا بعد أدوار سابقة لفورد في سورية، من كونه دبلوماسيًا إلى مناصرًا للثورة، ومتجولًا بين ساحاتها، إلى مشجع على التمرد، ومشرف على تشكيلات المعارضة، ومشارك في سياساتها، إلى محذر من التسويات مع النظام، ثم مهدئ وناصح للكرد بالتوجه إلى أبواب دمشق وطرقها، ثم إلى صائد تجارب ومضمونها العودة إلى تصفير الحرب وتبييض الصفحات بالعفو المتبادل والمصالح المشتركة.
لم تسعَ مؤسسات المعارضة إلى انتزاع حقّ الضحايا من المجرمين القتلة، بل فعلت ذلك منظمات ليست على خارطة التسوية التي يدفع إليها المجتمع الدولي السوريين، وهذه المحاكمات بقدر ما هي رسالة مؤلمة للنظام السوري، هي كذلك لكل مرتكبي الانتهاكات في سورية، وربما صبّت محاكمة رسلان في مصلحة شدّ الوثاق بين جميع أزلامه خشية هذا المصير، لكنها قد لا تعني أنها رفعت معنوياتهم، وأهّلتهم لاستكمال معاركهم دفاعًا عن حكمٍ يقول منطق التاريخ إنه لن يستمر إلى الأبد، ويمكن للسفير أن يلحظ ذلك على التجربة الجزائرية التي يقدّمها للمعارضة، لتحفيزهم على خيار التسوية مقابل العدالة، لأن كلّ تسوية لا تواكبها عدالة انتقالية تشدّ عضدها هي محاصصة على الخراب القادم، والانتقام الذي لا يحول بين الضحية وجلادها إلا محاكم عادلة.
تستمر أطراف النزاع المحلية والدولية في تقديم نموذج حكمها عبر أرقام انتهاكاتها، ما يفسر مطالب السوريين وتأكيداتهم بضرورة تخلي المجتمع الدولي عن النظر إلى الكيانات الحالية التي تمثل قوى الأمر الواقع “المرتكبة” على أنها أطراف تسوية ممكنة، حتى وإن اجتمعت مصالحهم اليوم خشية محاكم محتملة وأحكام مؤبدة، حيث لن ينسى الضحايا أن تحت أقنعة المتفاوضين وجوهًا خبروها وسيحاكمونها، طال الزمن أو قصر. ما يعني أن خيار التسوية لن يفضي إلى خيار “اللاعدالة”، فلكل طريقه، وناسه عليه يمشون!
وأخيرًا، أستميح الزميل محمد برو باستعارة بعض عنوان كتابه “ناج من المقصلة”، لأن سورية بكل ما فيها ومن فيها تحت المقصلة، فهنيئًا لكل ناج.
مركز حرمون