سياسة

مقالات تناولت تأييد جزء من الفلسطينيين للنظام السوري المجرم

زيارة إلى دمشق… تحت الأضواء/ موفق نيربية

في تشرين الأول/أكتوبر 1973، كنا مجموعة من طلاب جامعة دمشق اليساريين نتدرب على «آر بي جي» في معسكر لحركة فتح في جبال القلمون القريبة الجرداء، تحسّباً من احتمال دخول الإسرائيليين إلى دمشق. وقد سخر مقاتل شاب عيناه تبرقان، منّا ومن اشتغالنا على التحريض والتنظيم السياسي، مربّتاً على أخمص البندقية في حضنه قائلاً:» هذه حزبي، وعقيدتي، وطريقي».

لا أعلم لمَ تذكرت هذا، حين أعلن أمين سر اللجنة المركزية لحركة «فتح» (الفريق المتقاعد) جبريل الرجوب، الأسبوع الماضي، عن «زيارة قريبة» سيجريها الرئيس الفلسطيني محمود عباس لسوريا. وكان الرجوب؛ الذي وصل إلى دمشق في 6/1؛ قد قال في مؤتمر صحافي في دمشق إن «زيارته إلى دمشق والوفد المرافق له، ستشكل انطلاقة حقيقية لصياغة الوضع الفلسطيني، في ظل تصعيد الاحتلال الإسرائيلي غير المسبوق لإنهاء القضية الفلسطينية»، حسب وكالة أنباء النظام «سانا».

بعد أن وصل إلى دمشق في زيارة هي الأولى من نوعها منذ زمن.. من الطبيعي أن يصف الرجوب الزيارة بالانطلاقة الحقيقية، مرشّح بارز لخلافة محمود عباس، بعد عمر طويل. كان ينبغي له فقط، أن يصرّح بذلك على أطلال مخيم اليرموك! لطالما جذبنا وألهب مشاعرنا في شبابنا، ذلك الشعار التاريخي» فتح ديمومة الثورة، والعاصفة شعلة الكفاح المسلح». لقد رأينا عملياً كيف كانت فتح «حركة شعب» وليست مجرّد تنظيم أو تجربة تنظيمية كغيرها؛ كما رأينا أيضاً كيف استطاع الكفاح المسلّح تشكيل الهوية الوطنية للفلسطينيين، بعد «النكبة» بسنوات، خصوصاً بعد «النكسة» وفضيحة الجيوش والأنظمة العربية. كنا من بين الشباب الذين، رغم يساريتهم الفائضة، لم تجذبهم حركة فلسطينية كما فعلت فتح، وكان مكتب إقليمها السوري في مخيم اليرموك محجّتنا الدائمة في الأزمات، لنقدّم مساهماتنا، حين كنّا على مقاعد الدراسة في جامعة دمشق.

ظهرت فتح باعتبارها تجسيداً لليأس من ولادة حركة عربية تحقّق تحرير فلسطين. وكان جوهرها مفهوم الكفاح المسلح مع مفهوم آخر يظهر ويختفي هو «القرار الوطني المستقل». وبعد الانتصار العربي الأول على أيدي المقاتلين الفلسطينيين في معركة الكرامة 1968، استحقت منظمة التحرير استحواذها على ذلك القرار، رسمياً على الأقل. لقد تراجعت القضية من قضية عربية إلى قضية فلسطينية، لكنّها احتفظت بمركزيّتها لدى العرب ولم تفرّط بها. لم يستطع الكفاح المسلّح الفلسطيني في عزّ نمائه أن يصل إلى حجم أو فاعلية يمكن أن ترقى إلى مستوى «حرب تحرير شعبية». ولم يكن ذلك بسبب العجز وحده، بل لأن التحرير عن طريق عمليات محدودة من الخارج أو بالتسلل، أو حتى بالخلايا الداخلية السرية، لم يكن من مواصفات تلك الحرب، كما ظهرت في فيتنام والصين على وجه المثال. لقد أكّد خليل الوزير المسؤول العسكري الأول في فتح، أن الكفاح المسلّح «عملية مركزية، شاملة متعدّدة الجوانب» وهو الطريق «لإعادة بناء شعبنا وإبراز هويته الوطنية من أجل تحقيق أهدافه في العودة وتحرير الأرض. ونحن نفهمه كعملية متكاملة ذات أبعاد ثلاثة: تنظيم، إنتاج، تحرير»، فكانت التنظيمات الفدائية هي الأحزاب السياسية المفترضة التي تتوزّع «السلطة» بحسب قوتها العسكرية، وهي التي تقوم بتطوير «دولة» أخذت المنظمة تعمل عليها بخدماتها الاجتماعية والصحية والتعليمية والإنتاجية وشبكة مكاتبها العنقودية، بالتوازي مع تطوّر الاعتراف بالمنظمة عربياً، كممثل شرعي وحيد للفلسطينيين، ومن ثمّ دولياً أيضاَ. من الطبيعي إذن أن تنمو طقوس عبادة الكفاح المسلّح والبندقية، مع طقوس أخرى من التسليم بدور الفرد القائد، وتقمّص الدولة المقبلة في منظمة تأخذ شكل تلك الدولة، دون مضمونها ولا تاريختها. كان ذلك تشوّهاً مهماً، لا ينتقص ذلك من دوره في تكريس الهوية والإرادة الوطنيتين للفلسطينيين. حين هلّت الانتفاضة الأولى، السلمية والباهرة، ظهر بوضوح فشل وقصور الكفاح المسلّح عن الوصول إلى «التحرير»، ومال المقاتلون النبلاء إلى التقاعد تدريجياً، ولم يبق من بينهم مستمرّاً إلّا المحترفون أو الطامحون أو العاجزون عن التفكير في بديل. اقتنعت قيادة فتح وقائدها بالمسار السلمي، ليس الرسمي وحسب، بل العملي البراغماتي الذي ذهب حتى النهاية في أوسلو، بتوجيهات القائد الراحل، وإدارة أبو مازن محمود عباس. ومع بديل «العودة» الناشئ إثر تلك الاتفاقات، على أساسات رجراجة لا يعترف بها علم الاجتماع السياسي، ابتدأ مسار التراجع مروراً على ريعية مطلقة، تنتج حتماً زبائنية مطلقة. أصبح الفساد – من ثَمّ – جواً سائداً، وغدت السلطة أكثر فأكثر عزلة وغربة عن حالتها الأولى. تحوّلت بالتالي براغماتية بطاركة اللجنة المركزية الأوائل لفتح براغماتية القائد الواحد، الذي صار ضحية طبيعية لا يمرّ التحقيق ولا العدل على ظروف وفاته أو اغتياله. في حين كان طبيعياً أن يرثه صاحب الفضل في أوسلو ومشروعها على الأرض.

أتاح ذلك للطهرانية الأصولية أن تزدهر وتتفتّح، وللمقاومة الإسلامية أن تتقدّم من طريق العمليات الانتحارية – الاستشهادية إلى براغماتية موازية بطعم أشدّ مرارة، يتحالف مباشرة مع أعداء شعوب المنطقة في طهران، خارج أي منطق ابتدائي.

غدت البراغماتية والفضيحة مطلقتين أيضاً في الضفة الغربية، وسادت الاستهانة بالشعب الفلسطيني نفسه، قبل أي حديث عن الاستهانة بالشعوب العربية. نتكلّم هنا بمناسبة الإعلان عن زيارة أبو مازن العتيدة إلى دمشق، التي أعلن عنها جبريل الرجوب» أبو رامي».

لم تعترض المنظمة والسلطة الفلسطينيتان أبداً على استخدام «القضية المركزية» لقمع الشعوب وإرهاب طموحاتها إلى التقدّم والحرية والديمقراطية، طالما كان ذلك الاستخدام نفسه يحتاج إلى رسوم جمركية لازمة لتغذية «الدولة» التي ليست بدولة، وأيّ نظام جدير بذلك أكثر من النظام السوري، الذي مرت أكثر من عشر سنوات على مجزرته المستمرة بشعبه، بمن فيه من مئات ألوف الفلسطينيين – السوريين، الذين دعموا وشاركوا في ثورة السوريين على نظامهم الاستبدادي، وكذلك دفعوا من أرواحهم وحريتهم وأمانهم وسكنهم، كما دفع السوريون من دون أيّ فرق.

حين اجتمع السوريون في أوائل الخمسينيات على استعادة تأسيس الديمقراطية والحكم الدستوري، مارسوا حقهم الانتخابي في أفضل فترة ديمقراطية في تاريخهم، واختاروا ممثلين لهم مختلفين عن السائد سابقاً، كان من بينهم 60 مستقلاً من 142 نائباً، وحوالي 25 من الأحزاب اليسارية المختلفة، الأمر الذي وضع سوريا في مقدمة نشرات أخبار العالم. وكان مما أصدرته به تلك السلطات بالنيابة عن الشعب السوري القانون رقم 260، بتاريخ 10/7/1956، الذي نصت مادته الأولى على معاملة الفلسطينيين المقيمين في» الجمهورية السورية» بحقوق التوظيف والعمل والتجارة وخدمة العلم، كالسوريين أصلاً، مع احتفاظهم بجنسيتهم الأصلية… ذلك الشعب ذاته الذي انتخب أولئك المشرّعين الذين أصدروا القانون، وهو يُذبح ويهجّر وتُدمّر مساكنه، بمن فيه من الفلسطينيين وأهل مخيم اليرموك الذبيح… ذلك الشعب تُوجّه له الطعنات من «القيادة الفلسطينية»، ولا يرفّ لها جفن!

وصف مبعوث الرئيس عباس في مقابلة مع قناة الميادين الربيع العربي بأنه «ربيع حمد بن جاسم»، وأنهم في السلطة الفلسطينية «أول ضحايا» ذلك الربيع، وبذلك أدرج سلطته ورئيسه بكلّ فخر مع زين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي… وبشار الأسد. ويتزايد حرج من يصافح هذا الأخير – بالمناسبة – كما أنه لن يستطيع السفر غالباً في المستقبل إلى العالم المتقدّم بعد وقوع جماعته في قبضة «العدالة العالمية» ومحاكمها، والحكم عليهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، فالحجر عليهم في السجن مدى الحياة؛ كما حدث في كوبلنز- ألمانيا منذ عدة أيام؛ الأمر الذي يمكن أن يتكرّر ويتصاعد لاحقاً…

كاتب سوري

القدس العربي

—————————-

عن الكفاح الفلسطيني المسلّح في سوريا ولبنان والأردن/ ماجد كيالي

تم التعامل مع قضية فلسطين كورقة في منازعات الأنظمة، فبينما كان عبد الناصر يركز على تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وجدت الأطراف الأخرى في “فتح” ضالتها لمنافسة عبد الناصر ولتعزيز مكانتها وشرعنة سياساتها العربية.

عطّلت الروح الحماسية والعاطفية وغلبة التفكير بالرد على النكبة، والتشرد والحرمان من الوطن والهوية، ملكة التفكير والتساؤل عند الفلسطينيين، عند نخبهم، كما عند معظم نخب العالم العربي، بحيث لم تطرح الأسئلة المفترض طرحها بخصوص نشوء ظاهرة الكفاح المسلح الفلسطيني، في الأردن ولبنان وسوريا التي نشأت في النصف الثاني من الستينات، وصعودها في فترة قصيرة جداً. فماذا كان الغرض من سماح الأنظمة القائمة بوجود قواعد عسكرية في أراضيها تعمل ضد إسرائيل، مع مقرات ومعسكرات تدريب، ونقل سلاح، وقوة عسكرية خارجة عن سلطة الدولة، في حين أن تلك الأنظمة، سوريا مثلا، لا تسمح لمواطنيها بأي حركة خارجة عن السيطرة والتحكم، فهي تقيد الحريات، وتحرم، أو تجرم، المشاركة السياسية والحياة الحزبية، وتقمع التظاهرات المطلبية السلمية.

هكذا، ثمة أنظمة سمحت بنشوء فصائل فلسطينية مسلحة، إلى هذا الحد أو ذاك، مضطرة (الأردن ولبنان) أو لتوظيفات معينة (سوريا والعراق ومصر)، وطبعاً ثمة أنظمة تعهدت المقاومة الفلسطينية بتغطيتها من الناحية المالية، لتوظيفات سياسية معينة.

اللافت أن معظم الكتابات التي أرّخت لظهور الفصائل لم تطرح تلك الأسئلة على نفسها، بل غرقت في تفسير ظهورها بإحالة ذلك إلى الضرورة التاريخية، وإلى إيمان الشعب الفلسطيني بقضيته، وتبلور طلائع كفاحية أخذت بيدها زمام المبادرة.

بيد أن ما زاد تلك المسألة غموضاً، أو التباساً، هو غياب التأريخ السياسي لدى الفصائل ذاتها، لا سيما حركة فتح، إذ لا تعثر لقيادييها، أو في أدبياتها، عن أي رواية تتحدث بصراحة وواقعية عن الانطلاقة وظروفها، ولا عن كيفية فتح العلاقة مع هذا النظام أو ذاك، فكل الأدبيات والسرديات تحيل الأمر إلى الروح الثورية التي اتسمت بها الطليعة الكفاحية الأولى، بقيادة “فتح”، بوصفها القيادة التي أطلقت الكفاح المسلح الفلسطيني، إلى درجة الأسطرة عند البعض.

في أي حال لا يوجد شيء يبدد ذلك الغموض، أو يملأ ذلك الفراغ، فمعظم قياديي تلك المرحلة لم يعودوا على قيد الحياة، والأنظمة المعنية لا يمكن أن تفصح عن السيرة الحقيقية التي وقفت وراء سماحها للفصائل الفلسطينية بالعمل من أراضيها، أو سكوتها عن ذلك.

هكذا، لا مناص من معاودة قراءة تلك اللحظة التاريخية، والاجتهاد في تحليل المعطيات، الذاتية والموضوعية، التي أدت إلى ولادة الكفاح المسلح الفلسطيني بالشكل الذي ظهر عليه، وبخاصة بحكم الفترة القصيرة التي صعد بها، بقيادة حركة “فتح”.

تأسيساً على كل ما تقدم يمكن طرح الملاحظات الآتية:

بدأت “فتح” بالعمل منذ منتصف الستينات، لكن ظل ذلك محدوداً، ومحسوباً، ويتركز في سوريا بشكل خاص، وأساسي، لكنه في تلك الفترة ارتبط بالتنسيق المباشر مع النظام السوري، بل كان ثمة ما يشبه قيادة مشتركة من “فتح” وممثلين عن النظام السوري بينهم الضابطين يوسف عرابي، وأحمد جبريل، بيد أن هذا “التنسيق” انقطع بعد قتل يوسف عرابي (بظروف غامضة في أحد مكاتب فتح في أيار/ مايو 1966)، بعدها قام حافظ الأسد (وزير الدفاع وقتها) باعتقال أبو عمار وأبو جهاد ومعظم قياديي “فتح” في سوريا في ذلك الحين (افرج عنهم بعد أسابيع بمداخلات عربية). ولعل تلك الحادثة تفسر العداء التاريخي، السياسي والشخصي، الذي ظل يكنه الأسد لياسر عرفات (علماً أن الأخير كان يبادله المشاع ذاته)، كما تبين تلك الحادثة مسعى النظام السوري منذ البدايات للسيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية، بأي شكل، وهو ما أدى بياسر عرفات لإشهار شعاره عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني، الذي أشهره أساساً ضد محاولات حافظ الأسد تلك.

لم يكن بإمكان “فتح” أن تظهر بالشكل الذي ظهرت عليه كحركة كبيرة، وبفترة مبكرة، مع مكاتب ومعسكرات وأسلحة وقدرة على الحركة والتنقل لولا الدعم المالي الذي أغدقته عليها الدول الخليجية (السعودية وقطر والإمارات والكويت)، بغض النظر عن الأغراض أو التوظيفات أو العوائد السياسية الناجمة عن هذا الدعم لحركة وطنية فلسطينية.

أدت التناقضات العربية (أواسط الستينات)، لا سيما المتمثلة بالتنافس أو التنازع بين المحورين الناصري (مصر)، من جهة، والخليجي المتحالف مع البعثي (سوريا) من جهة أخرى، إلى تصريف ذلك في دعم “فتح” بشكل خاص. هكذا تم التعامل مع قضية فلسطين كورقة في منازعات الأنظمة، فبينما كان عبد الناصر يركز على تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية (تأسست برعاية جامعة الدول العربية عام 1964)، وجدت الأطراف الأخرى في “فتح” ضالتها لمنافسة عبد الناصر ولتعزيز مكانتها وشرعنة سياساتها العربية.

لعل العامل الأهم الذي يفسر شرعنة المقاومة الفلسطينية وسرعة صعودها، تمثل في التداعيات الناجمة عن النكبة الثانية (هزيمة حزيران/ يونيو 1967)، فبعدها لم يعد النظام العربي كما كان، وأضحت الأنظمة تبحث عن طريقة لامتصاص الغضب الشعبي، أو للتعويض عن هزيمتها، ما يفسر توجهها لدعم الحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف الوسائل، ما يفسر التحولات التي حصلت فيما بعد لصالح تيار الكفاح المسلح الذي قادته حركة “فتح”، لا سيما أن تلك الحركة، بفضل وحدة قيادتها، وديناميتها، استطاعت أن تستثمر في التناقضات العربية لتعزيز مكانتها، بخاصة في السنوات الأولى التالية لحرب حزيران، لكنها بعد ذلك خضعت أو امتثلت  لنظام العربي، بتخليها عن برنامجها الأساسي، المتعلق بالنكبة (1948)، وتحولها نحو إقامة كيان سياسي في جزء من أرض فلسطين لجزء من شعب فلسطين (في الضفة وغزة المحتلين عام 1967)، بعدما حققت ما تستطيعه بإمكاناتها، ووفق المعطيات السائدة، وبعد أن لم يعد لديها ما تضيفه. هكذا، فمن وقتها باتت الحركة الوطنية الفلسطينية تعيش على تاريخها، وعلى إنجازاتها المتحققة أواسط السبعينات، ودخلت في حالة ركود أوصلتها إلى اتفاق أوسلو، أي إلى سلطة تحت الاحتلال.

تلك هي العوامل التي وقفت وراء ظهور المقاومة الفلسطينية المسلحة، وصعودها السريع، في بيئة عربية غير مواتية (بدليل إخراجها من الأردن بفترة مبكرة أي عام 1970، وتورطها في الحرب الأهلية اللبنانية في أواسط السبعينات ثم إخراجها من لبنان عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي له)، ومع ضعف الإمكانات المادية، وغياب الإقليم المستقل بحكم تشتت الشعب الفلسطيني وخضوعه لأنظمة سيادية مختلفة.

لكن يجب ألا يفهم من ذلك الكلام أنه من دون تلك العوامل ما كان بإمكان الشعب الفلسطيني توليد حركة وطنية تمثله وتدير كفاحه، فالقصد هنا أن تلك الحركة بطبيعتها أو بالشكل الذي ظهرت عليه كانت مدينة إلى تلك الظروف، وبالأخص للأنظمة العربية التي مكّنتها، أو وظفتها، كما لنكبة حزيران (1967) التي شرعنتها وفرضتها.

على ذلك يفترض أن يفهم من كل ما تقدم أن الشعب الفلسطيني كان يمكن أن يولد الحركة الوطنية خاصته، لكنها كانت ستكون بمستوى الحركات الموجودة في البلدان التي ظهر فيها، حيث ثمة تجمعات فلسطينية، كما بمستوى الحركة الوطنية الفلسطينية في مناطق 48، والضفة والقطاع، لا أكثر.

تبعاً لما تقدم ثمة استنتاجان أو فكرتان، الأولى، تفيد بجواز التفكير في أن نشوء حركة وطنية فلسطينية تعتمد على شعبها وإمكاناته، بدون توظيفات خارجية، لن يكون أسوأ حالاً مما وصلنا إليه، إن لم يكن أفضل، ولو نسبياً، على الأقل داخلياً، وذلك بالقياس للحركة الوطنية التي عرفناها، واختبرناها، وعلى ضوء التضحيات والأثمان الباهظة التي دفعها شعبنا طوال 57 عاماً. والثانية، أن السؤال يبقى مشرعاً، ومشروعاً، عن الظروف التي جعلت أنظمة يضيق صدرها بأي حركة احتجاجية من مواطنيها، تسمح لفلسطينيين بحركة مسلحة!

درج

—————————————

عندما تكتسب الضحيّة ثقافة جلّادها وأخلاقه/ حسان شمس

رغم أنّ الأصدقاء الفلسطينيين كَفّوا ووفّوا ولم يتركوا لنا إلا فُتات القول، بعد تصريحات جبريل الرجوب المشينة أثناء حجيجه الأخير لدمشق، الذي كشف خلاله عن نيّة محمود عباس بزيارة مسؤولي النظام السوري قريباً، حيث قال: “إن وجود سوريا خارج الجامعة العربية عار على العرب، ولا سيما أنها دولة مؤسسة فيها ويجب أن تستعيد عضويتها” مُعبّراً عن “شكره للدولة السورية شعباً وقيادة على مواقفها الثابتة تجاه القضية الفلسطينية رغم الظروف الصعبة التي مرت بها خلال السنوات الماضية، وعلى الرعاية والاستضافة الاستثنائية للفلسطينيين ومعاملتهم كمواطنين سوريين في كل المجالات” ومهنّئاً بـ”الانتصارات” التي حققها النظام السوري، مُطالباً برفع العقوبات الغربية المفروضة عليه، مضيفاً: “نحن برئاسة الأخ أبو مازن نعتز أننا قررنا من اللحظة الأولى أن ما يحصل في سوريا مؤامرة على فلسطين والقضية الفلسطينية”.

المؤامرة الكونية

لمراقب مثلي، تبدو حظوظ حصوله على وظيفة في وكالة “ناسا” أو مقعد دائم في مجلس الأمن مع حيازة حق النقض “الفيتو” أقرب ملايين السنين الضوئية، من قدرته على تحليل أو فهم ما يدور برأس فلسطيني يعتبر أن نظام الأسد، بعد كل الذي أذاقه للسوريين، ومعهم الفلسطينيون واللبنانيون، ضمانة للحق الفلسطيني، وأن ما يستمر بفعله في سوريا، منذ أحد عشر عاماً، هو فعل تصدٍّ للمؤامرة الكونية التي تتعرض لها سوريا، ومحاربة للإرهاب، ومناهضة للمشروع الصهيوني والإمبريالي.

مُريبٌ هذا الإصرار من جماعات، تناضل وتستشهد وتضحّي بكل ما عزّ وغلا على مذبح حرية أوطانها وكرامتها الإنسشانية، على محاربة طغيان تخضع له أو الكفاح ضده مستعينة بطغيان أدهى منه!

ليست هذه المرّة الأولى التي يعطي فيها الفلسطينيون ‘الخبز لغير خبّازه” ويتبرّعون بشرَفٍ رفيع لمِن ليس عنده ولا هو مِن أهله. فقبل أنْ يعلِّقوا آمالاً على مجرمي حرب وأعداء إنسانية، على غرار الأسد ونصر الله وخامنئي، لتحرير أرضهم، وضعوا ذات لحظة هَوسٍ وتخلٍّ كلّ بيضهم في سلّة غير المأسوف على “أُم معاركه” صدام حسين.

هناك مَن يُصِّر أبداً ألا يتعلّم مِن كيس غيره ولا حتى مِن كيسه، أنَّ الاستبداد كان، مِن طول عمره مقدّمة للاحتلال والاستعباد، وأن الطغاة والبُغاة ليسا على طرف نقيض مِن الاحتلال وإنما صنوان له، وأن لا أحد يضرب مصداقية النضال الفلسطيني ومشروعيته، بوجه الاحتلال الإسرائيلي، ويهزّه حتى نخاعه الشوكي أكثر مِن بعض الفلسطينيين أنفسهم، شعباً وقيادات، بانتصارهم لأنظمة البغي والإجرام العربية على حساب شعوبها، التي لا تقلّ قضاياها عدالة ونزاهة عن قضية فلسطين إنْ لم تفُقها أشواطاً.

فتماثيل صدام حسين، الذي مهّد طغيانه الأراضي العراقية لكل محتل وغازٍ، في قلقيلية وبير زيت، جزاء رَميِ بضع مفرقعات على إسرائيل كلّفت العراقيين والعرب ولا زالت أكثر مِن صادراتهم مِن النفط، يوم هتفت له الجموع الهادرة هنا “يا صدّام يا حبيب… اضرب اضرب تل أبيب”، ووشاح على عنق واحد مِن أبرز رموز النضال الوطني الفلسطيني في نابلس، هو بسام الشكعة، مدموغ بصورة مجرم حرب وعدو إنسانية لم يعرف التاريخ مَن هو أشد بغياً وبطشاً وإرهاباً منه كبشار الأسد، وبوستر لجزّار وطاغية، هو قاسم سليماني، ينافس الأوّلَين دموية وإرهاباً في غزة ويحتل أربع عواصم عربية مُضافة إلى الأحواز وطنب الكبرى والصغرى وأبو موسى؛ كل أولئك بمثابة “سبّابة” نضالية يرفعها مناضلو آخر زمن بوجه الاحتلال الإسرائيلي. ففي بلادنا المحتلة، أو المُختَلّة هذه، إنْ استقام القول، ليس أكثر مِن الهَوس والمهوّسين!

الشيزوفرانيا الوطنية

فمِن أكثر الأمور التي تناولتها بكتاباتي، في عشرية الثورة المنصرمة، هي الشيزوفرانيا الوطنية الفلسطينية والقابلية غير المحدودة، وهذا الإصرار العنيد وغير المفهوم بالمرة عند ضحية على اكتساب ثقافة جلادها وعلى وضع نفسها في الزمان والمكان الخطأ، وكذلك فائض النرجسية عند معظم القيادات الفلسطينية ومعها كثير من الأوساط الشعبية، على تحميل مسؤولية نكبتهم لكل مَن هب ودَبّ على وجه الكرة الأرضية، وبضمنهم الأجنّة بأرحام أمهاتهن، في مقابل إعفاء أنفسهم مِن التضامن مع أي كان، لدرجة قد يشعرون فيها بالغيرة مِن ثقب الأوزون لو أحسّوا أنه قد يخطف الأضواء عن قضيّتهم.

عباس كان أعرب عن رغبته بزيارة نظام الأسد وسعيه لإعادته إلى جامعة الدول العربية في وقت سابق، فحسب “شبكة القدس الإخبارية” قال عزام الأحمد في 25 تموز-يوليو 2019:

“الرئيس عباس يرغب بزيارة دمشق ولقاء الرئيس الأسد الذي يتواصل معه دوماً، ولكن زحمة الأحداث أخّرت هذه الزيارة التي ستكون قريبة”. لكن الخطورة المُزمنة في الإعراب عن هكذا رغبات قاتلة أو إطلاق تصريحات مشينة للقيادات الفلسطينية، تكمن بإضعافهم بأنفسهم موقفهم الإنساني والأخلاقي أمام الاحتلال الإسرائيلي وخلخلة شرعيته وطعنه بشرفه، قبل انتصارهم لنظام مجرم، فعل ما فعل بالفلسطينيين مِن مجازر في مخيم تل الزعتر ومخيم اليرموك والرمل الأبيض، وأجرَم بحقهم واعتقل منهم وشرّد أكثر مما فعله شارون وكل مجرمي الحرب الإسرائيليين أمثاله.

كثرة الشبّيحة

قبل مدّة، وفي حضور عدد مِن الأصدقاء الفلسطينيين، قلتُ في تحليلي لظاهرة كثرة الشبّيحة بينهم، سواء في الـ 48 أو الضفّة والقطاع، إنَّ كثيراً مِن الفلسطينيين أدمنوا “النضال” لدرجة صار النضال معها، بحد ذاته، القضية، فيما القضية عينها صارت شرقي رحمة الله.

غريب هذا الأفق كم هو ضيّق بعقول البعض، وكم يسهل عليهم امتهان كرامتهم الإنسانية وحصرها بين خيارين اثنين لا ثالث لهما – في تكرار معزوفتهم الدائمة: “أنا مش عم دافع عن بشار الأسد؛ بَسّ شو البديل عنو!؟”-: إما بشار الأسد وإما لحية داعش ومَن شابهها! غريبة هذه النظرة الاستعلائية إلى السوريين؛ وكأن أرحامهم جفّت إلا عن إنجاب الطغاة وشذاذ الآفاق واللِحى المقمّلة!؟

أمّا الأغرب مِن هذا كله، أنه وبمعزل عن كل مناضلي القضايا العادلة، بطول العالم وعرضه، وحدهم بعض “مناضلي” فلسطين يصبحون متى تعلّق الأمر بنضال الشعوب العربية، والسوريون منهم على وجه التحديد، لاستعادة كرامتهم والتخلص مِن أنظمتهم الطاغية الباغية، مناضلين ضد ذات القيم التي تدفعهم للنضال بوجه محتلهم الإسرائيلي. هذه معضلة جفّت أحبار آلاف الأقلام دون أن تستطيع فك طلاسمها، وشخصياً بتُ على يقين أن رتق ثقب الأوزون بالإبرة والخيط أسهل مِن حلها والجواب على هذا السؤال المريب:

كيف للضحية أن تكتسب، بهذا اليسر، ثقافة جلادها وأخلاقه!؟

وما يثير حيرتي ودهشتي، في هذا المجال أكثر، هو: كيف يجد المُغْتَصَب مُتنَفَّساً كي يدين مُغتَصَباً آخرَ وينتَصِر لِمُغتَصِبه؛ إلا إذا كان مُداناً، حقّاً وحقيقةً بالشذوذ.

مِن ضمن العجائب التي تشهدها هذه البلاد، والتي يمكن إدراجها في خانة “قاصمات الظهر”، أنّ واحدة مِن أبرز الميّزات التي تتفرَّد بها منظومة القهر الإسرائيلية وبضمنها السجون، أن كثيراً من “المناضلين” العرب الذين يتصدّون لها أو يدخلون إليها بداعي مقاومتهم الظلم والاحتلال، يخرجون منها مقاومين لذات المبادئ التي دفعتهم لمقاومة احتلالهم وأودعتهم خلف قضبانها؛ وكل ما سقتُه عن الحالة الفلسطينية، ينطبق على تابعية الأسد عندنا، في قُرى الجولان السوري المحتل.

قٌل، إنهم المنكوبون بأنفسهم!

كاتب صحافي من الجولان السوري المحتل

القدس العربي

————————–

=========================

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى