تسليع الحياة ونهاية الأشياء!/ عيسى مخلوف
تروي الكاتبة اليابانيّة يوكو أُوغاوا، في روايتها “تَبَلوُر سرّي”، قصّة جزيرة بلا اسم. في هذه الجزيرة، تطرأ حوادث غريبة تجعل سكّانها يعيشون حالة قلق وتوتُّر. فثمّة أشياء وكائنات تختفي حولهم ولا تفسير لاختفائها، فضلاً عن أنّ استعادتها لا تعود ممكنة. مع اختفاء الأشياء والكائنات، تختفي أيضاً الذكريات. اختفاء العصافير وألحانها، الورود، ألبومات الصور الفوتوغرافيّة، الروزنامات والمدوّنات والحكايات، وأيضاً العطر الذي كان يستهوينا. يوكو أُوغاوا تصف من خلال هذه الرواية، التي تذكّر برواية جورج أورويل، نظاماً شموليّاً وظيفة الشرطة فيه محو أثر الأشياء والذكريات من المجتمع، ودَفْع الناس نحو نسيان كامل، فلا يعود بإمكانهم التعرّف إلى أنفسهم. أمّا من يتجرّأ ويخفي شيئاً، أو ذكرى، فيعرّض حياته للخطر، ويجري توقيفه، وربّما قتله.
بهذه الحكاية، استهلّ الكاتب والباحث الكوري بيونغ شول هان كتابه الجديد الصادر في ترجمته الفرنسيّة عن دار “آكت سود” الباريسيّة، وعنوانه “نهاية الأشياء/ اضطرابات عالم الحياة”. (الكاتب باحث من كوريا الجنوبيّة، يكتب باللغة الألمانيّة ويدرّس في إحدى جامعات برلين. وقد أصدر كتباً عدّة تتناول موضوع العالم الرقميّ). يلاحظ الكاتب أنّ قصّة الجزيرة التي بلا اسم يمكن أن تتطابق مع ما نعيشه في الزمن الراهن حيث تختفي الأشياء باستمرار من دون أن نلاحظ اختفاءها بالضرورة. لكنّ التضخُّم الرقمي الذي نعيش في كنفه يجعلنا نتوهّم العكس، بينما سبب اختفاء الأشياء من حولنا، ومعها اختفاء أثر حياتنا الملموس، ناتج عن تعلّقنا المرَضيّ بالاتصالات والمعلومات التي توفّرها لنا وسائل الاتصال الحديثة، فالرَّقمَنَة تُحَوِّر العالم وتجرّده من الواقع. تَدَفُّق طوفان المعلومات والمعطيات يغيّر العالم والبشر على السواء، كما يترك أثره الكبير على النظام المعرفي بأكمله ويُغرقه في قلق لا سابق له. هكذا، تحلّ هنا الوسائط الرقميّة محلّ الشرطة الموكَلة في القضاء على الذكريات. لذلك يقول الكاتب إنّنا “لم نعد نسكن الأرض والسماء. نحن نعيش في “غوغل” و”آيكلاود”. لقد أصبح العالم، أكثر فأكثر، طَيفيّاً وتتعذّر رؤيته”. أصبح خارج استيعابنا له، ويتبع قرارات حسابيّة تتحكّم بها قوى غير مرئيّة. يصبح الواقع هو ما نراه في الشاشة الصغيرة التي تعمّق عزلتنا، لأنّ الآخر الذي نتوجّه إليه غائب وبلا وجه. كلّ شيء مُقفَل ما عدا صفحة “الفايسبوك”، والذي يترقّب حدوث “اللايك” يشبه غريقاً ينتظر يداً تمتدّ إليه. لكن، أين هو الآخر الذي، بمجرّد وجوده معنا، تحدث المعجزة؟ أين الآخر الذي حين نلتقي به نلمح ما في عينيه، ونتحسّس حضوره لدى مصافحته، ونسمع نبرة صوته، وفيها من المعاني، أحياناً، أكثر من الكلمات التي يتلفّظ بها؟
نمعن في استعمال الهواتف الذكيّة ولا ننتبه إلى أنها هي التي تستعملنا أكثر ممّا نستعملها نحن. تتجسّس علينا، تحصي أنفاسنا وتتاجر بمعلوماتنا. ونحن نعمل مجّاناً في خدمتها ونعرّي أنفسنا أمامها، وعبرها نستعرض صورنا وصور أطفالنا، فنمسي، على غفلة منّا، كتلك القبائل البدائيّة التي يذهب أفرادها إلى الموت وهم يتسلّون ويضحكون.
التغيّر الحاصل يعزوه المؤلّف إلى الثورة الصناعيّة التي غيّرت علاقتنا بأنفسنا وبما حولنا و”أبعدتنا عن الطبيعة وعن الجانب الحِرَفيّ” الذي رافق البشريّة في أزمنتها المختلفة. ولا حِرَفيّة من دون استعمال اليدين. غير أنّ “الإنسان الجديد” المَوصول بالمنظومات الرقميّة والشاشات الصغيرة، هذا الإنسان الذي يولد فينا وحولنا، هو إنسان بلا يدَين. لقد تقلّصت يداه لتنحصر في إصبع واحدة تضغط على أزرار الكمبيوتر وتلمس الهاتف المحمول.
يقول بيونغ شول هان إنّ رأسمالية المعلومات تمثّل تشكّلاً حادّاً من تشكّلات الرأسماليّة. وهي، على عكس الرأسماليّة الصناعيّة، تستطيع أن تحوّل ما هو غير مادّي إلى سلعة. تصبح الحياة نفسها سلعة، والإنسان نفسه، وكذلك الثقافة. ولا يعود ثمّة فرق بين هذه الأخيرة والتجارة، كما هو حاصل، أكثر فأكثر، الآن.
حركة التواصل السائد لا يعنيها اكتساب المعرفة والبحث عن الحقيقة وتراكم التجارب، لأنّها تقوم على الإثارة وهيمنة التأثيرات العاطفيّة، بعيداً عن أيّ حسّ عقلاني ونقدي. نظنّ أنّ رقعة تواصلنا مع الآخرين تتّسع بينما هي تزداد انغلاقاً. فالكمّ المتدفّق من المعلومات والصور التي نعاينها يومياً لا نستخدمها بصورة تُعمّق علاقتنا بالكائنات والأشياء، فتبقى العلاقات أسيرة إطار افتراضي. يعتبر المفكّر الفرنسي ريجيس دوبريه أنّ استعمال تقنيات التواصل الحديثة ليس شرطاً لتواصل فعليّ. ويشير إلى أنّ الشعب الأميركي هو بين أكثر شعوب الأرض قرباً من التكنولوجيا الحديثة والأكثر امتلاكاً لأدوات التواصل هذه، لكنّه، في الوقت نفسه، الأكثر غربة عن العالم الذي يعيش فيه.
يلزمنا وعي جديد لعلاقتنا بالأرض والمادّة، لأنّ توغّلنا في العالم الرقمي، أو توغّله هو فينا، يُبعدنا عنهما معاً، وكذلك عن الأشياء الحميمة وذكراها. كان الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير، صاحب رواية “مدام بوفاري”، يحلم بأن يُدفنَ وفي يده محبرة. فالمحبرة التي كان يستخدمها ليكتب، والتي رافقته طوال حياته، لم تعد، بالنسبة إليه، مجرّد شيء نافل، بل أصبحت كأنّها امتداد لجسده ولروحه.