مقالات سينمائية

أعطابٌ سينمائية في العالم: العيش في “ثقبٍ أسود”/ نديم جرجوره

“جمعية النقّاد الأجانب في هوليوود” تواجه مقاطعة، بسبب غياب كلّ جهدٍ مطلوب لتعزيز التنوّع، مختلف الأشكال، فيها. الحفلة الـ79 (9 يناير/كانون الثاني 2022) لتوزيع جوائز “غولدن غلوب” (التي تمنحها الجمعية لأفلامٍ سينمائية وأعمالٍ تلفزيونية)، تشهد مقاطعةً، رغم إعلانٍ سابق عن أسماء 21 شخصاً جديداً ينضمّون إليها، “وفقاً للإصلاحات الجديدة المعمول بها” (“فارايتي”، 1 أكتوبر/تشرين الأول 2021). مسألة التنويع والانفتاح حاضرةٌ في هوليوود منذ أعوامٍ، وقضية المنتج هارفي واينستين، المتمثّلة باتهاماتٍ عدّة له بالتحرّش الجنسي (مطلع عام 2020)، تساهم في بلورة خطابٍ مناهض لتمييز كهذا، ينسحب على العرق واللون والمرأة والمثلية الجنسية.

“أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها”، مانحة جوائز “أوسكار” سنوياً (تُقام الحفلة الـ94 في27 مارس/آذار 2022)، تعاني وضعاً كهذا أيضاً. عدم حسم المسائل، بجدّية وعمق وثباتٍ، يُجدِّد انهياراً، ويقول إنّ الخلل فاعلٌ بحدّة في مؤسّسات معنية بفنون وصناعة واقتصادٍ، رغم أنّ النواة الجوهرية للفنون تتمثّل بالانفتاح والتنوّع والتواصل مع الآخر. الانهيار يُصيب أشياء كثيرة في الولايات المتحدّة الأميركية، وفي دول ومؤسّسات أوروبية. “أكاديمية فنون السينما وتقنياتها” في باريس، التي تمنح جوائز “سيزار” سنوياً أيضاً (تُقام الحفلة الـ47 في 25 فبراير/شباط 2022)، واقعةٌ في مطبّ كهذا، ولعاملين وعاملات في السينما الفرنسية مآخذ جمّة عليها، بعضها مرتبطٌ بخياراتها لمن ترغب في تكريمهم، أو بمرشّحين ومُرشّحات، أو بفائزين وفائزات.

الأعطاب، المعطوفة على الفساد، غير مكتفية بالسياسة والمال والأعمال والاقتصاد. هناك انهيار كبير في الحياة اليومية في عالم اليوم. كورونا يأتي لاحقاً، فتكون ضربته مدوّية، إذْ يكشف ـ من بين أمور أخرى ـ حجم العفن المتأصّل في نظامٍ صحّي، يتعرّى أمام الجميع، بما فيه من خللٍ يحول دون تصدٍّ ضروري للجائحة، أقلّه في المقوّمات الأساسية، رغم أنّ وباء كهذا غير متوقّع تفشّيه، كما يُقال حينها، وهذا يُظهِر جانباً من العفن.

بعض الأعطاب يتمثّل بتحويل الجوائز إلى حفلاتٍ، تشي بابتعادٍ عن السينما واشتغالاتها وهمومها. كثرة الجوائز تحول دون تنبّه ضروري إلى جوهر المسألة، أي السينما، وإنْ يؤكّد فوز فيلمٍ أو صانعه أو عامل فيه، بجائزة أو أكثر، أنّ الفائز يستحقّ تكريماً كهذا. الإسراف في عشق الجوائز والاحتفالات المرافقة لها، بما فيها من أضواء واستعراضاتٍ، يخفّ وهجها في عصر كورونا، دليلٌ على خللٍ يُسيء إلى الصنيع السينمائي، وإلى عاملين وعاملات في صناعة الفنّ السابع، وبعض هؤلاء منفضٌّ عن الجوائز واحتفالاتها.

الأعطاب نفسها ـ إذْ تزداد حدّة عاماً تلو آخر، لتجاهل واضحٍ لأهمية إصلاحٍ جذري وعميق، ولضرورته ـ تستمدّ قوّتها من أعطابٍ تُصيب أحوال العيش في العالم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع. كورونا يُساهم في إصابة العالم بمصائب إضافية، لكنّ المصائب فاعلةٌ فيه منذ سنين.

عطبٌ آخر، لن يقلّ أهميةً عن أعطاب تنخر إدارات وآليات اشتغال في صناعة وشؤون، يكشفه مثلان اثنان، يختلف أحدهما عن الآخر: الجمهور. “قصّة الحي الغربي” (2021) لستيفن سبيلبيرغ، والوثائقي الجديد (2021) لأوليفر ستون، عن اغتيال جون كينيدي. الفشل الجماهيري الكبير لجديد سبيلبيرغ (في مقابل 100 مليون دولار أميركي ميزانية إنتاج، يُحقِّق الفيلم إيرادات دولية تبلغ 57 مليوناً و467 ألفاً و804 دولارات أميركية فقط) يقول إنّ مزاج الجمهور، الأميركي تحديداً، غير راغبٍ في مزيدٍ من تعرية واقعٍ يعيشه يومياً، لانفضاض كثيرين عن وقائع عيشهم اليوميّ. جماليات “قصّة الحي الغربي”، في الصورة والألوان والرقصات والموسيقى، والمعاينة الدقيقة لخرابٍ مستمرّ في بلدٍ واجتماع وعلاقات، غير مُثيرة لأناسٍ يتغاضون عن مآسٍ جمّة، يقول سبيلبيرغ بعضها بلغته السينمائية، وينصرفون عن كوارث تحلّ بهم، لانجذابهم إلى وسائل ترفيه وتسلية تُعمي أبصارهم عن خرابٍ حاصل.

بعض هذا الخراب الحاصل يحضر في “لا تنظر إلى الأعلى” (2021) لآدم ماكاي و”الموت لـ2021″ لجاك كْلاف وجوش روبِن (الفيلمان معروضان على “نتفليكس”): إنّهما نموذجٌ أخير عن انفضاض أميركيين كثيرين عن أحوالٍ ومصائب وانهيارات، بسبب خضوعهم القاتل للسطحيّ.

يُبدي ستون قلقه، الممزوج بشيءٍ من غضبٍ ومرارة، بسبب جهلٍ طاغٍ على أكثر من جيلٍ أميركي بخصوص تاريخ بلدهم وأحداثه، التي تُبدِّل مسار البلد وأحواله جذرياً: “(أبناء الجيل الشاب وبناته) غير عارفين بشيءٍ إطلاقاً”، إلاّ في حالة مشاهدتهم فيلميه، الروائي الطويل “ج أف ك” (1991) والوثائقي الجديد JFK Revisited: Through The Looking Glass. يُضيف: “نُقيم في ثقبٍ أسود. الولايات المتحدّة مُتغيّرة. لا رقابة اليوم. الناس يُشاهدون فيسبوك وتويتر. “نتفليكس” تقترح وثائقيات مسلّية عن الأسود والنمور” (هذا قابلٌ لنقاشٍ أعمق وأكثر جدّية). يتساءل، بسخرية ومرارة: “الرغبة في الحقيقة؟ آه”. يُنهي هذا بالقول: “نحن عجائز كفاية لنعرف أنّ الأشياء تتغيّر. نتمنّى أنْ تظهر الحقيقة. ربما على يوتيوب” (“بوزيتيف” الفرنسية، ديسمبر/كانون الأول 2021).

انفصال أكثر من جيلٍ أميركي عن بلده، وتاريخ بلده وأحواله، مُصيبةٌ. الانغماس في وسائل التواصل الاجتماعي، المُنتَقَد في فيلمي ماكاي والثنائي كْلاف ـ روبِن بشدّةٍ مُغلّفة بسخرية ومرارة أيضاً، يُعطِّل كلّ إمكانية للخروج من هذا “الثقب الأسود”. للإعلام المرئي دورٌ لن تقلّ خطورته التدميرية عن خطورة وسائل التواصل الاجتماعي.

إشارات ستيفن سبيلبيرغ وأوليفر ستون وآدم ماكاي وجاك كْلاف وجوش روبِن تنسحب على عالمٍ، يزداد انفصالاً عن واقع، وتقوقعاً في عزلات. محاولات عدّة ـ تتمثّل بمواجهات وإضرابات ومظاهرات تحدث

بين حينٍ وآخر، في مدنٍ غربيّة ـ تبدو كأنّها “عمل فرديّ”، يعجز عن إحداثِ تغييرٍ جذري وعميق، كذاك الحاصل بعد “مايو 68” الفرنسي مثلاً.

العالم مُنهار. الخراب يعمّ جوانب مختلفة من حياةٍ يومية، مُصابة بلعنة الجمود والعفن. السينما جزءٌ من هذا. الأعطاب الضاربة بها تُصيب مؤسّسات وإدارات ومصالح، لكنّ أفلاماً عدّة تعكس شيئاً مهمّاً من الأعطاب وتأثيراتها، من دون اهتمامٍ جماهيري بها، أكبر وأهمّ، فالناس يريدون تسلية، وهوليوود وغيرها مستعدّة دائماً لإنتاج تسليةٍ، في مقابل نتاجاتٍ تقول ـ سينمائياً ـ حقائقَ عيشٍ وانفعالاتٍ ومشاغل.

الأعطاب وفيرةٌ. فهل تُصْلِحُ أفلامٌ سينمائية ما يُفسده الخراب؟

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى