الانتفاضات العربية وسؤال الدولة/ موريس عايق
يُقدّم الحدث السوداني فرصة مناسبة للعودة إلى مراجعة أسباب وسياق هزيمة الربيع العربي، وأسباب قدرة الأنظمة العربية على الصمود والتعافي بما يعزز من قدرتها على القيام بثورات مضادة ناجحة في مواجهة اندفاعة الانتفاضات العربية.
لماذا هُزم الربيع العربي؟
عادة ما تُقدَّم إجابتان كبيرتان: الثورة المضادة والإسلاميون. وإلى حدّ ما، صار معتاداً أن يتم التعامل مع هاتين الإجابتين كأطروحتين متعارضتين؛ كل إجابة يتبناها فريق سياسي محدد، بحيث تصير جزءاً من خطاب سياسي تعبوي ما يفقدها قدرتها التفسيرية إلى حدّ كبير.
تميل الإحالة إلى هجمة «الثورة المضادة» كسبب رئيسي لتفسير الهزائم والانكسارات إلى تبرئة ساحة القوى الثورية، وتحميل وزر الهزيمة لقوى الثورة المضادة. فالفشل نتيجةٌ لثورة مضادة، شخوصها السيسي وحفتر وسعيد. أيضاً، تتصدر الإمارات والسعودية حلف الثورات المضادة وتقوده باعتبارها قوى ذات قدرات مالية وسياسية هائلة بما يُمكّنها من دعم الوسطاء المحليين في حلف الثورة المضادة. غير أن الثورة المضادة لم يكن لها أن تنتصر من دون «خيانة» العديد من القوى السياسية وانتقالها إلى خندق الثورة المضادة، مثلما حصل في مصر وتونس. فلا يقتصر التفسير بـ«الثورة المضادة» على تبرئة ذاتية للقوى الثورية، إنما يصبح جزءاً من ترسانة الصراع بين القوى التي تحالفت يوماً في الميادين، مانحاً الشرعية الثورية لجماعات ونازعاً إياها عن أخرى خانت الثورة. وبحكم تطور الصراعات حول (ومع) الإسلام السياسي من ناحية، وقوة الخطاب الإعلامي المناصر للقوى الإسلامية (الجزيرة مثلاً) من ناحية أخرى، صارت المماهاة أكبر بين الثوريين والإسلاميين من جهة، وبين الثورة المضادة وخصوم الإسلاميين من جهة أخرى. لهذا التحليل عيوبه مثل أي تحليل إيديولوجي، كالعمى الصارخ عن ممارسات يتم تصنيفها في خانة الثورة المضادة إن قام بها مناوئو الإسلاميين، وبالعكس يتم التعامي عنها إن صدرت من طرف إسلاميين. مثلاً الإعلان الدستوري لمحمد مرسي في مصر في مقابل التفسير الدستوري لقيس سعيد في تونس. أيضاً التمسّك بشرعية نتائج الانتخابات في كل مرة تربح فيها قوى إسلامية، في مقابل رفض نتائج الانتخابات الليبية عام 2014، وذلك عندما تعرضت القوى الإسلامية للهزيمة لكنها استمرت في دعم المؤتمر الوطني الليبي المنتهية ولايته، والذي تهيمن هي عليه، ما دفع القوى المنتصرة في الانتخابات للّجوء إلى طبرق وتشكيل مجلسها تحت حماية ومساندة قوات الجنرال خليفة حفتر.
بالمقابل، تؤكد الإجابة الأخرى على الدور الكارثي للتيارات الإسلامية فيما انتهى إليه الربيع العربي. فالإسلام السياسي باعتباره قوة سياسية شمولية ومعادية للديمقراطية، كما هي قوة طائفية وإقصائية بالضرورة في تعريفها لذاتها، حاول القفز على السلطة والاستئثار بها مستفيداً من الفرصة التي أتاحها له الربيع العربي، ليفرض مشروعه السياسي الشمولي. وهذا ما أفزع الجميع ودفعهم إلى التحالف ضد الإسلاميين، حتى لو كان هذا التحالف مع العسكر (وهو ما وجد تبريره وتسويغه أيضاً بالإحالة إلى انتهازية الإسلاميين أنفسهم واستعدادهم للتحالف سابقاً مع العسكر والتغطية على المجلس العسكري الحاكم في مصر مثلاً). وعليه، فإن مآل الربيع العربي وفق أصحاب هذا الموقف هو نتيجةٌ للدور الذي لعبه الإسلاميون. تتنوع مستويات العداء للإسلاميين في هذا التحليل، بين صيغة ضد-إسلامية محضة تجعل منهم العدو الذي تجب مواجهته، أو صيغة أقل عداءً للإسلاميين تكتفي بالتأكيد على دورهم في تقسيم معسكر الثورة وإفزاع المحايدين. لكن هذا التفسير بدوره، وباعتباره جزءاً من ترسانة النزاع، يغفل السلاسة التي تم بها التراجع عن الديمقراطية لمصلحة النظام، أو الخطوات التي تقدم بها إسلاميون لأجل تحقيق مصالحة وطنية والقبول بإجماعات سياسية كبرى.
كل من الطرحين يغفل شيئاً ما لحساب الحاجة السياسية، وفي الوقت نفسه تُفسّرُ كل أطروحة جانباً مهماً من السياق المؤدي للهزيمة، وإن تباينَ الثقل الذي تحوزه كل أطروحة في تفسير ما حصل في كل بلد عربي. إسلاميو تونس قاموا بالكثير لصيانة الإجماع الوطني وتقديم المشاركة على تصدرهم للمشهد، بينما فعل إسلاميو مصر العكس بشكل كبير، وفي سوريا لم يقلّ بطش وقمع القوى الإسلامية عن النظام نفسه.
لا يمكن بالقطع إنكار دور قوى الثورة المضادة، التي تحالفت ونظمت هجمتها بشكل منسَّق ضد الربيع العربي، غير أن هناك حاجة إلى تحرير مقولة «الثورة المضادة» من الحمولة السياسية الظرفية المفرطة التي ألبسها الإسلاميون إياها، في سياق نزاعهم مع الآخرين ومحاولتهم احتكار الشرعية الثورية لأنفسهم. فنزاع الأنظمة العربية مع الإسلاميين في لحظة الربيع العربي لم يكن بسبب الإيديولوجيا الإسلامية بل كان نزاعاً على السلطة، وقد سبق لهذه الانظمة أن تحالفت مع هذه التيارات الإسلامية وساعدتها على نشر إيديولوجيتها وتقديمها كبديل في مواجهة القومية العربية والحركات اليسارية في فترات سابقة. الخطر الحقيقي الذي استشعرته الأنظمة العربية في الربيع العربي، وفعلت ما بوسعها لمواجهته، كان فتح المجال السياسي العام أمام الناس بما يمكّنهم من اقتحام عالم السياسة وإسماع أصواتهم. لم يكن عداء الأنظمة العربية تجاه قوة سياسية بذاتها، بل تجاه محاولات فتح باب الفعل السياسي أمام الجمهور، وتجاه وعود الديمقراطية والحرية التي قدمها الربيع العربي، بمعزل عن الهوية الإيديولوجية للقوة السياسية التي تصدرت مشهد فتح المجال العام. غير أن تَصدُّرُ القوى الإسلامية للمشهد السياسي خلال الربيع العربي، وتَصدُّرهم عملية اقتحام المجال العام المغلق بالقوة وفتحه أمام العامة، وظهورهم بوصفهم التعبير الشعبي الأوسع للممارسة السياسية، جرَّ عليهم عبء المواجهة الأبرز مع الأنظمة وتقديم الصراع وكأنه صراع مع هذه التيارات. لكن المسألة ما كانت لتكون مختلفة مع أية قوة إيديولوجية مغايرة قد تتصدر المشهد، ولربما استعانت الأنظمة العربية عندها بالتيارات الإسلامية في المواجهة كما سبق وفعلت خلال الخمسينات والستينات.
أيضاً، لا يمكن إغفال الشقاق الذي يثيره الإسلاميون في المجتمعات العربية، فالإسلام (الديني عموماً والسياسي خصوصاً) ليس جامعاً كما يتم الادعاء، بل هو سببٌ لصراع وانقسام اجتماعي واسع. في غياب تحالف ذي قاعدة اجتماعية واسعة، وفي غياب التأكيد الأساسي على الحريات وحقوق الآخرين (الآخرين فعلاً وقولاً تجاه كل تصور الإسلاميين عمّا هو سويٌّ وسائد)، صارَ تَصدُّر الإسلاميين للمشهد السياسي واستئثارهم به موضوعَ النزاع المركزي والحاسم للعديد من القوى، سواء تلك التي لم تنخرط في الثورة أو التي انخرطت فيها.
يبدو الواقع العربي الحالي وكأنه عودة إلى الزمن السابق على الربيع العربي، إلى الدائرة الجهنمية: العسكر أو الإسلاميون، فصارَ الربيع العربي يستدعي مجدداً الحدث الجزائري في التسعينات إلى الذاكرة، وقتَ كان التحذيرُ من الجزأرة (بحسب عبد الحليم خدام) جزءاً من خطاب النظام العربي في مواجهة دعوات الإصلاح.
ففي الجزائر، تحولت مظاهرات شعبية غير مسيسة بوضوح إلى حدث عارم فرض على السلطة التراجع فاتحة الباب للإصلاح الديمقراطي، في انتخابات أتت بالإسلاميين –في نسخ متباينة السوء ولكنها جميعها سيئة ومخيفة على أية حال- إلى البرلمان بغالبية ساحقة. أثار هذا الأمر فزعاً عاماً، وجعل المواجهة معهم تتصدر أي مواجهة أخرى باعتبارها مواجهة مع البربرية أو الشمولية أو الانقسام الأهلي، بما يستدعي تأجيل كل القضايا الأخرى كالديمقراطية والحرية والعدالة، وهو التأجيل صار إلى أمد غير محدود، وهذا ما توجَّبَ قبوله على مضض بوصفه الرمد في مواجهة العمى. وبهذا حاز العسكر (الجيش، الدولة العميقة أو أية مصطلح يحب المرء استخدامه هنا) على شرعية شعبية للقيام بثورتهم المضادة بوصفهم القوة الوحيدة القادرة على مواجهة الإسلاميين، ثورة انتهت لتكون ضد الإصلاحات نفسها التي أطلقتها الانتفاضة الشعبية. تعيدنا مآلات الربيع العربي من جديد إلى المكان ذاته وما رافقه من نقاشات ونزاعات، والأسوأ أنها عودة إلى معادلة بدت -وما تزال- مستحيلة الحل، بما يعيد شيئاً من المشروعية إلى سؤال الاستثناء العربي في مواجهة الديمقراطية.
هل ما تزال الإجابات صالحة أمام الحدث السوداني؟
الميزة الرئيسية للحدث السوداني هي غياب الإسلاميين عن الحضور المباشر في الساحة، بما يضع علامة استفهام حول تحميل الإسلاميين وزر هذا الواقع المزري. فانقلاب البرهان لم يكن تصدياً لخطر الإسلاميين أو استجابة لمخاوف فئات اجتماعية منهم. وقد غاب الإسلاميون بعد الثورة عن المشهد السياسي السوداني بشكل مباشر، وتعرضوا للاقصاء كجزء من تركة نظام البشير. بالطبع، يمكن استدعاء حضور غير مباشر للإسلاميين، سواء في الجيش الذي هو جيش نظام البشير، أو ليلعبوا دوراً شبيهاً بدور «تمرد» في مصر، باعتبارهم قوة سياسية مدنية تحتج على تغييبها وإقصائها عن المشهد السياسي على يد قوى مدنية أخرى تتصدر المشهد وتتقاسمه مع العسكر، وهكذا تنخرط هذه القوى في الثورة المضادة بذريعة مواجهة الاستثئار. غير أن هذه الأدوار الممكنة والمحتملة للإسلاميين ليست هي ما سوَّغَ الانقلاب. ورغم غياب البعبع الإسلامي حصل الانقلاب.
في التاريخ السوداني حضرت نزاعات أخرى، سواء إقليمية أو جهوية أو إثنية (وطائفية) تبرر ما يحصل، وتدافع عن مظلومية -محقة أو غير محقة- لحقت بمكون اجتماعي ما، وهو ما يعيدنا إلى سؤال الحرب الأهلية الحاضرة في الاجتماع العربي، خاصة أن السودان عرف بشكل متكرر تجارب ديمقراطية انتهت بانقلابات عسكرية تستدعيها قوى مدنية لمواجهة خصومها، منذ وأدِ التجربة الديمقراطية الأولى إثر النزاع بين حزبي الأمة والوطني الاتحادي. وقتها تداخلت القوى السياسية المدنية بشكل مكثف مع عصبيات جماعات أهلية (حزب الأمة ارتبط بجماعة الأنصار، وبالمقابل كانت قاعدة حزب الوطني الاتحادي تنحدر من مُشايعي الطريقة الختمية)، حتى لو كان قادتها (مثل زعيم الوطني الاتحادي إسماعيل الأزهري) ينحدرون من الطبقات الوسطى الحديثة ويترفّعون بشكل شخصي على هذه الانتماءات الجهوية.
نحتاج هنا إلى إدخال تعديل يجعل التحليل أعلاه (الدائرة الجهنمية: العسكر أو الإسلاميين) أكثر إمساكاً بالمسألة التي نواجهها، تعديل لا يقصرها على مواجهة بين عسكر وإسلاميين فحسب، إنما يحيل إلى الحرب الأهلية القائمة على حقيقة وجود نزاعات أساسية تنخر المجتمعات في البلدان العربية (الموقف من الإسلام ليس إلا أحدها، وإن كان أقواها وأكثرها تجذراً)، مع ضعف كبير في الثقة بين المكونات الاجتماعية، وهو الوجه الآخر لفشل بناء أمة سياسية. مما يجعل من تأسيس آلية ديمقراطية لإدارة هذه النزاعات والوصول إلى تسويات واتفاقات سياسية بصددها مسألة مستحيلة، فينهار المجال العام الوليد والهشّ تحت وطأة هذه النزاعات الهائلة التي تثقله. عندها لا تعود الحالة السودانية استثناء كما قد تظهر في حالة اقتصار التحليل على فكرة أن المواجهة تدور بين عسكر وإسلاميين. مواجهة الإسلاميين مجرد تعبير محدد، من ضمن تعبيرات عديدة ممكنة، عن الحرب العربية الأهلية.
في مواجهة النظام
لكن ابتعاد الإسلاميين عن مقدمة المشهد السوداني وغيابهم النسبي يقدم ميزة إضافية، وهي إعادة تذكيرنا بجهاز الدولة العربية. خاض الربيع العربي مواجهته بداية مع النظام؛ «الشعب يريد إسقاط النظام»، معتبراً الدولة شيئاً طبيعياً1 وحتى جزءاً من الشعب، وإن تم استغلالها واستخدامها في مواجهته في الميادين وعلى مدى عقود من عمر الأنظمة. التمييز بين الدولة والنظام كان من الأفكار البديهية التي لا تحتاج إلى نظر. كان الطموح الضمني للربيع العربي إسقاط النظام واستعادة الدولة عبر الديمقراطية والإصلاح. ربما يفسر هذا، إلى حد ما، غياب (أو محدودية حضور) بعض الممارسات الثورية التي رافقت ثورات أخرى، مثل المجالس الثورية كمجالس تمثيلية لشرائح أو قطاعات يتزايد حجمها وصولاً إلى تمثيل الشعب نفسه (أو أقله ادعاء مثل هذا التمثيل). حصلت تجارب متواضعة مثل لجان التنسيق المحلية في سوريا، لكن عموماً غابت مثل هذه المجالس، حتى أنه كان من الصعب جمع الثوار في أية روابط سياسية تمثلهم هم فقط دون ادعاءات تمثيلية أعلى.
1. في المشرق العربي لم يُنظَر يوماً إلى الدول القائمة باعتبارها شيئاً طبيعياً، بل دولاً مصطنعة نتيجة لاتفاقية سايكس-بيكو. لكن الدولة هنا لا تعني الكيان، إنما الدولة بوصفها الجهاز الذي يحتكر السيادة في إقليم معين ويعبر عن الإرادة العامة لشعب هذا الإقليم (الدولة-الأمة). فرفض كيان ما لمصلحة دولة عربية موحدة (وهو ما بقي في النهاية على مستوى الطوبى)، لا يعني رفضاً للدولة، إنما رفض دولة لصالح دولة أخرى، أكبر وأكثر حقيقية وطبيعية، وبهذا نبقى في نطاق العالم الذي تُشكّله الدول بمفهومها الراهن.
لم يتم تحدي الدولة في هذا المضمار بأي شكل، وهو ما تضمَّنَ اعترافاً تاماً بموقع الدولة وعدم قابليته للمساس. اقتصرت المواجهة على النظام، وكانت شعارات كلاسيكية مثل «تحطيم الدولة» أقرب للخيال. وما يزيد الموقف طرافة هو انخراط يساريين مناوئين للربيع العربي في الدفاع عن الدولة، واتهام الثوار بالرغبة في تدميرها. فجأة، صارت الدولة معبودة هؤلاء الذين لطالما تصدرت نظرياتِهم شعاراتُ تحطيم الدولة. الثوار دافعوا عن أنفسهم بأنهم مع الدولة، الدولة الحقيقية التي سطا عليها النظام. وبالتأكيد، سيكون الجيش جزءاً من هذه الدولة الحقيقية التي نرغب في استعادتها، ففي النهاية الجنود هم أبناؤنا ولا يمكننا إنكار ذلك. «الجيش والشعب ايد واحدة» كان شعاراً يذكر بهذا الترابط بين الدولة وشعبها.
تطبيع الدولة وحصر المواجهة مع النظام، بالترافق مع غياب أي محاولات لبناء مجالس تمثل شرعية الجماهير الحاضرة في الميادين باعتبارها شرعية موازية على الأقل، كان له أثرٌ حاسم فيما سيحصل لاحقاً.
الدولة العميقة
صمود أنظمة وقدرتها على تحطيم الانتفاضات التي واجهتها (وقد ترافق مع تحطيم مجتمعاتها أحياناً)، ولاحقاً نجاح ثورات مضادة مستفيدة من مؤسسات الدولة في تأمين الهجمة المضادة، أظهر عدم كفاية التفسير الذي يقتصر على المواجهة مع النظام. وانطلاقاً من الحاجة إلى تعريف العدو بما يتجاوز النظام، ظهرت مقولة «الدولة العميقة». فمن يقف في مواجهة الثورة ليس النظام وحسب، إنما الدولة العميقة. وكالعديد من الشعارات الملتبسة التي رفعها الربيع العربي للتحايل على المواجهة (مثل شعار «المدنية») كانت الدولة العميقة غير محددة المعالم، وقادرة على الاختفاء والظهور وقتما تريد. من ناحية هي غير الدولة، وبالتالي لم تُمَس الدولة نفسها ولم تُطرَح للمساءلة. في الوقت نفسه تشير الدولة العميقة إلى بنى راسخة -دون تحديد- داخل الدولة تقف في مواجهة الديمقراطية. وبهذا كان مفهوم «الدولة العميقة» مفهوماً تفسيرياً بأثر رجعي، لا يظهر إلا بعد وقوع الكارثة: الدولة العميقة في مصر، ولاحقاً الدولة العميقة في تونس، والآن الدولة العميقة في السودان؛ لا تظهر الدولة العميقة قبل الكارثة نفسها.
وكالعادة، يزيد المفهوم الملتبس تعقيدَ المسألة نفسها. فالدولة العميقة قد تكون استطالة لتفسيرات المؤامرة، حيث تقف شخصيات ومؤسسات وراء الستار وتمسك بكل خيوط اللعبة. أيضاً، فإن الدولة العميقة -كونها عميقة- قد تحيل إلى البنى المؤسساتية المستقرة التي تقف في مواجهة كل استهتار أو رعونة أو حتى شعبوية تهدد النظام: ألا تعني «الدولة العميقة» عندها هي نفسها الطبيعة المؤسساتية للدولة؟ لكن، أليست هذه تحديداً هي الفضيلة الخاصة بالدولة، طبيعتها المؤسساتية والقانونية التي تحفظ استقلالها عن النزاعات الاجتماعية اليومية والتحولات الدائمة في ميزان القوة؟ ترامب، مثلاً، أحال بدوره إلى الدولة العميقة التي وقفت أمام مشاريعه وخططه، وهذه الدولة العميقة هي التي منعت جنونه وحتى تلاعبه في الانتخابات. إذن، هل الدولة العميقة فضيلة أم رذيلة؟
يمكن القول، إن فضيلة فكرة «الدولة العميقة» هي أنها لا تُسائِل الدولة نفسها، بل تتيح لها مهرباً أنيقاً. الدولة جيدة وطبيعية، لكن «الدولة العميقة» سيئة. الدور الذي تلعبه «الدولة العميقة» هو نفسه الدور الذي أُنيطَ يوماً بـ«النظام» لعبه، ولكنه أصبح أكبر من أكتاف «النظام».
في مواجهة الدولة
كان هناك صوتٌ خافت، اقتصر عموماً على أصحاب التوجهات الإسلامية الناقدة للحداثة وللمتن العام من الإسلاميين أنفسهم، صوتٌ تقدَّمَ في دفع المسألة خطوةً للأمام: خطوة عظيمة (مثل سيف عبد الفتاح وهبة رؤوف عزت). فقد قاموا بطرح مسألة الدولة نفسها، ولكن بالإحالة إلى الدولة الحديثة كتجربة تاريخية كاملة. فالدولة الحديثة، بوصفها تعبيراً عن الحداثة، صارت مصدر المشكل المطروح علينا. يغيب عندهم التمييز بين الدولة العربية الحديثة والدولة الحديثة في مصادر تجربتها التاريخية، فالمعضلة تكمن في الحداثة نفسها. وتصير الخيارات المطروحة استعادة أشكال بديلة من الاجتماع، متأثرة بتقاليد رومانسية وعضوية يقدمها الإسلام بوصفه شكلاً مثالياً للاجتماع المؤسَّس أخلاقياً (استئناساً بتصورات وائل حلاق). بالطبع، لا يأخذ دعاة هذا الطرح بعين الاعتبار الفارق الهائل بين الدولتين الحديثتين، العربية والأوروبية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يُقدِّرون أن مجمل ما يعيبونه على الحداثة كان نتاج تصورات ضد-حداثية مؤطرة في الشرط الحداثي، أي أن التقاليد «المتخيلة» التي يرغبون باستعادتها كانت هي على الغالب مصدر الكوارث التي ينسبونها للحداثة. بالمقابل، لهذا الطرح ميزة عظيمة لا يمكن إغفالها، إذ لقد وضع الدولة في مكان النقد والشك بحيث تكف عن كونها مسألة طبيعية2.
2. يجب التذكير بأطروحة برهان غليون القيمة حول مواجهة الدولة العربية الحديثة لمجتمعها (المحنة العربية: الدولة ضد الأمة)، والمتهمة بالشعبوية وإن تكن هذه السمة ميزة حقاً وليست انتقاصاً. ميزة طرح غليون إنه يتلافى إلى حد بعيد الجوانب السلبية التي تشوب الأطروحات المعاصرة في نقد الدولة بالإحالة إلى تصور عضواني من ناحية، ومن ناحية أخرى عدم التمييز بين السياقات التاريخية المتباينة للدول ونشوئها لصالح عمومية نقد الدولة الحديثة كجزء من نقد الحداثة نفسه.
هنا أيضاً، يمكن لنا العودة إلى تقليد ثوري عريق أَطَّره دوماً شعار «تحطيم الدولة»، أناركي وماركسي في آن واحد. الدولة العربية الحديثة جزءٌ من المعضلة، وليست حلاً أو أمراً طبيعياً أو عقلاً أخلاقياً أعلى3.
3. قد لا يكون صدفة خفوت صوت المفكرين العرب الذين نظروا إلى الدولة بوصفها الكائن الأكثر عقلانية والتعبير الأخلاقي الأسمى، منيطين بها لعب دور توحيدي وتحديثي للمجتمع المنقسم على نفسه، فقد كانوا الأقل انحيازاً للربيع العربي أمام المواجهة الدموية التي فرضتها الأنظمة العربية. بالتأكيد، لا يعني هذا أنهم انحازوا بالضرورة إلى جانب الأنظمة العربية. على العكس، فقد سبق ونقدوا لاعقلانية الدولة العربية الحديثة وطبيعتها الهجينة وغير ذلك، لكن موقفهم الفكري جعلهم أقل قدرة وكفاءة على القيام بالنقد في لحظة تنتفض فيها المجتمعات «المحتاجة للتحديث» في مواجهة الدولة «الفاعل التحديثي».
بدون العودة إلى مراجعة تاريخية حول الدولة العربية الحديثة، كان هناك خلاصة متواترة لدى العديد من المثقفين العرب4 حول الدولة العربية وطبيعتها السلطانية. فالدولة العربية استعادت الدولة السلطانية ولكن بشكل حديث. لا يقتصر هذا على مسائل إجرائية وشكلية مثل الانتخابات والوزارات والمؤسسات (أي الشكل المؤسساتي للدولة الحديثة) والحديث عن الرعايا بوصفهم مواطنين، إنما أيضاً حازت على مصادر قوة مهولة كانت خاصة بالدولة الحديثة (كونها صاحبة السيادة على نطاق إقليمي بعينه تقرر فيه القوانين، وهي قوانين تشمل مجالات هائلة وشديدة السعة مقارنة بالدول السلطانية القديمة، وتتحكم بالاقتصاد والتعليم والتجارة والصحة وحركة الناس وغيرها). إنها دولة سلطانية بعضلات ودورع حديثة.
4. على سبيل المثال تحليل عبد الله العروي للدولة العربية في «مفهوم الدولة»، وأيضاً ياسين الحاج صالح في «السلطان الحديث».
الدولة العربية الحديثة هي ما واجهه الناس خلال الربيع العربي، لكنهم في المقابل أصروا على أن هذه المواجهة تقتصر على النظام، الذي لا نعرف أين حدوده (مثلاً: هل هو مبارك وبضعة عشرات من زبانيته؟ أم مئات؟ أم الحزب الوطني؟). لاحقاً صارت المواجهة مع الدولة العميقة (هل هي الرتب العليا من ضباط الجيش؟ أم كل ضباط الجيش؟ أم الجيش؟ هل نُضيف إليهم البيروقراطية والقضاء؟ وعلى أي مستوى من هاتين المؤسستين تتوقف الدولة العميقة أو تبدأ؟).
لا تقتصر المشكلة التي تثيرها الدولة العربية الحديثة بطبيعتها السلطانية على كونها أداة استبعاد للسياسة ونفي لها، بل هناك ميزة مضافة تعمل على تعقيد المحنة العربية، وهذا الجانب يظهر مع الدولة العربية بوصفها غنيمة. فالذي يظفر بالسلطة في الدولة الحديثة يحوز على مصادر هائلة للثروة والقوة، تمنحه قدرة هائلة على فرض سلطته وقمع وتدمير خصومه. في مجتمع يعج بانقسامات أهلية تحركها «العصبية»، يصبح الفوز بغنيمة الدولة مدخلاً لتعزيز موقع الجماعة وفرض سلطتها وضمانها في مواجهة خصومها، وحتى تحطيمهم في حال الحاجة. وهذا الفوز يمكن تحقيقه عبر آلية ديمقراطية مثل الفوز بأصوات الأغلبية، حيث الحشود التي تحركها العصبية. الديمقراطية هنا لا تعدو عن سباق للظفر بسلطة الدولة، وهو سباق يحتاج إلى استنفار عصبية الجماعة لضمان أكبر عدد من المقترعين؛ «غزوة الصناديق» في تعبير شديد الإيحاء والدقة للشيخ حسين يعقوب. هل يرغب العلويون أو المسيحيون أو الأكراد بالذهاب إلى الصناديق للاحتكام بمن يفوز بالسلطة الكاملة للدولة في ظلّ هذه المعطيات؟ لن يفعلوا إلا إذا فقدوا عقولهم، وكل ما حصل لاحقاً يُظهِرُ أن هذه المحاكمة كانت صحيحة. في مصر، سارت الأمور بشكل يوافق تماماً هذا الاتكاء على الديمقراطية بوصفها «غزوة صناديق».
ما الذي علينا فعله مع دولة سلطانية حديثة بقدرات مهولة؟ هذه هي محنة الربيع العربي التي لم يُجِب عنها وكانت في النهاية مقتله في كل مسار خاضه، في حضور الإسلاميين أو غيابهم. تركُ الدولة كما هي، تحت ادعاء مواجهة النظام، انتهى إلى الثورة المضادة التي قامت بها الدولة العميقة. الذهاب إلى الديمقراطية بانقسامات أهلية وفقدان للثقة بين المكونات الاجتماعية (وهو ما رعته وعززته الدولة العربية الحديثة نفسها) جعل من الدولة غنيمة تتنازعها العصبيات الأهلية، ما سمح للدولة العميقة بالقيام بثورتها المضادة باعتبارها ضامناً للسلم الاجتماعي، وباعتبار أنها ستتولى قمع الجميع بشكل عادل إن حاولوا ممارسة السياسة، ولكنها سترعاهم وتحافظ عليهم جميعاً إن اقتصروا على رعاية شؤونهم الخاصة وعدم التدخل في السياسة.
تتولى الدولة العربية في طورها الاستبدادي رعاية الانقسامات الأهلية ومنعها من الانفجار والتحول إلى حرب أهلية، وذلك عبر منع السياسة نفسها. فالاستبداد شرط الأمن والسلم الأهليين. يماثلُ منطق الدولة في هذه الحالة منطق عصابات الجريمة المنظمة كما يشير تشارلز تللي. وفي طورها الديمقراطي -مجازاً وبالإحالة إلى لحظة الانتخابات التي شَرَّعتها الانتفاضات- تصير الدولة العربية غنيمة لجماعة أهلية، فتنتقل الانقسامات الأهلية إلى الدولة التي تتماهى مع جماعة أهلية وتُصيّرها أداتها في مواجهة جماعات أخرى. تبدو مفارقة الدولة العربية في كونها تنوس بين قطبين: استبدادي يحفظ الأمن بمنع السياسة ويديم نفسه برعاية الانقسامات الأهلية، وانتخابي/ديمقراطي (حرب أهلية باردة، أو غزوة الصناديق) ينقل الانقسامات الأهلية إلى الدولة لتصير غنيمة يستخدمها المنتصر لفرض سلطته وإرادته على الجميع، بما يهدد السلم الأهلي.
بالتاكيد، جزء من تحدي الثورة العربية يكمن في تفكيك شروط الحرب الأهلية في المجتمعات العربية، وهو ما سعى له الربيع العربي في طوره الأولى متجاوزاً معضلة الإسلاميين عبر فتح باب السياسة للجميع. لكن جزءاً آخر من المحنة بقي سليماً لم يُمَسّ: ما الذي نفعله بالدولة؟ لم يُقدِم الثوار على تحطيمها أو تقييد سلطاتها، ولا على إنشاء هياكل للشرعية الثورية والشعبية تقف في مواجهة الدولة أو تفرض عليها في أقل تقدير أخذ سلطاتها وشرعيتها بعين الاعتبار. وفي مواجهة الدولة العربية «العميقة» ظهرت النخب السياسية المتصدرة للمشهد الثوري عاجزة وضعيفة، فهي لا تحوز على أسلحة مواجهة: لا مصادر شرعية مضادة ولا طروحات ومساعي حاسمة لتقييد سلطات الدولة.
هواجس سودانية
الميزة التي قدمها الحدث السوداني، وبفضل غياب الحضور الثقيل للإسلاميين، هو وضوح المواجهة حول ومع الدولة. فالبشير، وعدد من رموز نظامه، سقط. والشعب واجه الكيزان (تحالف العسكر والإسلاميين) الذي شكَّلَ عماد نظام البشير، غير أن التسوية الأولى التي حصلت جاءت بمجلس سيادي تقاسمه الجيش مع قوى ثورية مدنية، لكنه لم يمس بنى السلطة الأساسية التي بقيت بيد الجيش، ولا توزيع السلطة الفعلية داخل بيروقراطية الدولة. لقد غطت القوى المدنية الثورية واقع السلطة الحقيقية، وانقلابُ رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان على المكون المدني الثوري وإخراجه مبدأياً من السلطة كان حسماً مأمولاً للازدواجية الشكلية.
هنا، يمكن ملاحظة مسألتين حول تطور الأحداث: المسألة الأولى هي المواجهة الشجاعة التي قام بها الجمهور، وخاصة تحالف المهنيين، والتعبئة ضد الانقلاب ومواجهته. فقد أظهر الجمهور شجاعة عظيمة وإصراراً مبهراً على تجذير المواجهة مع العسكر، الركيزة المتينة للنظام. وبفضل هذه المواجهة، أُجبر العسكر على العودة جزئياً عن انقلابهم مظهرين استعدادهم للمشاركة مجدداً مع القوى المدنية في السلطة.
حصل هذا بفضل صلابة الجماهير، غير أن الجماهير تجاوزت قواها السياسية وأظهرت جذرية ووعياً بطبيعة المواجهة أكثر من القوى السياسية المعترف بها رسمياً، التي وصلت مجدداً إلى اتفاق مع الجيش لإعادة تقاسم السلطة. لقد أظهرت الجماهير رغبتها بسلطة مدنية تامة. هنا تحديداً، يظهر الوجه الآخر للمعضلة التي واجهت الانتفاضات العربية، فالحراك الثوري لا يبني مؤسسات شرعيته الخاصة في مواجهة أجهزة الدولة، وﻻ يسعى إلى تحطيم مؤسسات السلطة نفسها التي تقيده؛ ما يريده هو هذه المؤسسات وقد توﻻها مدنيون.
لكن ماذا يعني أن يتوﻻها مدنيون؟ هل مجرد وجود مدنيين في الواجهة سيغير من علاقات السلطة الحقيقية، من حجم ونفوذ الجيش في الاقتصاد؟ هل يغير علاقات السلطة التي تربط المركز بالأطراف (وما يرافقها من تراتب للسلطة وتوزيعها الإثني والمناطقي والطائفي)؟ من طبيعة السلطة البيروقراطية للدولة؟ من ترتيب وطبيعة العلاقات بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية؟
حتى الآن لم يتم تحدي بنى السلطة الحقيقة، وهذا غير ممكن بدون بدائل مضادة للترتيبات السلطوية التي تشكل الدولة نفسها. فالتصور الحاكم للانتفاضات الثورية حتى الآن هو الحفاظ على الدولة (بكل شبكاتها وأجهزتها ومؤسساتها التي تنظم توزيع السلطة وإدارتها) مع استبدال الطبقة العليا الحاكمة؛ العسكر بالمدنيين. وهذا يُظهر مدى نجاح الدولة في طبعنة وجودها ودورها، وإظهاره بشكل حيادي. الدولة محايدة، وفقط من يمسك برسنها هو من يحدد وجهتها. هذا الوهم ما يزال الخطر الأكبر حتى على المنتفضين في السودان رغم الجذرية والشجاعة التي أظهروها.
من هنا يمكن الانتقال إلى المسألة الثانية، كاستئناف للنقطة التي وصلنا إليها. السلوك المخيب الذي أظهرته القوى السياسية أمام العسكر، اتفاق حمدوك البائس مع البرهان الذي رفضه الشارع واستمر منتفضاً في مواجهته، حتى أجبر حمدوك على التراجع عنه وتقديم استقالته. يجد هذا السلوك تفسيره في سياق منطق الدولة، والإدراك الواعي للقوى السياسية لطبيعة القوة الحقيقية وترتيبها فيها، إضافة إلى التنافس بين هذه القوى السياسية (والقوى الاجتماعية والأهلية التي تمثلها وانقساماتها) للوصول إلى السلطة التي يحظى بها المتحكم بالدولة. إن الواقعية السياسية، الواقعية التي يفرضها التفكير من داخل الدولة القائمة ومنطقها، يفرض على هذه القوى الوصول إلى مثل هذه التسويات والقبول بها.
إن التناقض بين رضوخ القوى السياسية من جهة وجذرية الشارع من جهة يجد جذوره في المعضلة التي تواجه الشارع المنتفض نفسها، فهو لم يطرح على نفسه المهمة بتمامها، مواجهةُ الدولة القائمة بكل ما تحتمه هذه المواجهة، واقتراحُ أسس أخرى للاجتماع السياسي تسمح بتفكيك شروط الحرب الأهلية التي ترعاها الدولة العربية بصيغتها الحالية.
موقع الجمهورية