نقد ومقالات

باموق أمام ائتلاف أتاتورك واردوغان/ صبحي حديدي

هذه السطور ليست شديدة الولع بأعمال الروائي التركي أورهان باموق، نوبل الأدب 2006 للمرّة الأولى في تركيا، لاعتبارات فنّية في المقام الأوّل؛ وأخرى تتصل بالمهامّ الشائكة التي تُلقى على عاتق السرد القصصي، عند اعتماد مشهد بشري حاشد في مدينة عريقة عتيقة مثل إسطنبول؛ وثالثة تنطلق من طراز الاعتبار الثاني، حول الآمال الكبار التي تُعلّق عادة على قَصّ ينبش باطن الحاضر اعتماداً على مزيج من التاريخ التوثيقي والتخييل الطليق. غير أنّ قلّة الولع، أو حتى انعدامه بصفة تامّة أو تكاد، لا يتوجب أن ينحّي، البتة، واجب التضامن مع باموق، في الدروب الوعرة التي تدفعه إلى السير فيها أنماط شتى من الرقابات، قوموية ولغوية وإثنية ودينية، لا يفوتها استخدام القضاء.

وليس عجيباً أن تتضافر ضدّ باموق جهات متنافرة سياسياً وأيديولوجياً، وإثنياً وقوموياً على نحو أو آخر، فتجتمع على التنكيل به أطراف تزعم الانتماء إلى تراث مصطفي كمال أتاتوك «مؤسّس» تركيا الحديثة والعلمانية، أو أخرى تمجّد التاريخ العثماني من خلف رايات إسلاموية يتصدرها اليوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو ثالثة تعتبر إعادة تسليط الأضواء على المجازر التي ارتُكبت بحقّ الأرمن بمثابة خيانة عظمى، وهي الأطراف ذاتها التي تأبى المناقشة النقدية لما يتعرّض له أكراد تركيا من اضطهاد ثقافي ولغوي وحقوقي. وليس غريباً والحال هذه أن تتلاقى غالبية هذه الأطراف في شكوى واحدة ضدّ رواية باموق الأخيرة «ليالي الطاعون»، التي صدرت بالتركية السنة الماضية ولم تُترجم بعد إلى الإنكليزية أو الفرنسية بسبب ما يكتنف نشرها من ملابسات قانونية.

محام همام، من أعضاء الحزب الجمهوري المعارض، أقام دعوى قضائية ضدّ باموق، متهماً الروائي في هذا العمل الجديد بإهانة أتاتورك والعَلَم الوطني؛ ثمّ لأنّ الرواية تدور في جزيرة تركية أواخر أيام السلطنة العثمانية، أثناء موجة الطاعون الأسود، فقد كانت إحالة باموق أمام القضاء حدثاً مبهجاً لأنصار السلطنة أيضاً. المحاكمة الأولى انتهت إلى ردّ القضية لعدم ثبوت الأدلة، ولأنّ باموق أفاد المحكمة خطياً بأنه لا يقصد شخص أتاتورك ولا إهانة الرموز الوطنية؛ الأمر الذي لم يُقنع الشاكي، فاستأنف، وعاد الملفّ مجدداً أمام القضاء. والأرجح أنّ تضامناً واسعاً مع باموق سوف يرى النور، ربما أقلّ مستوى من ذاك الذي جرى سنة 2005 حين واجه القضاء بعد تصريحاته الشهيرة حول اضطهاد الأكراد ومذابح الأرمن فالتفّ حوله عدد من كبار أدباء العالم: خوسيه ساراماغو، غابرييل غارسيا ماركيز، غونتر غراس، أمبرتو إيكو، كارلوس فوينتيس، خوان غويتيسولو، جون أبدايك، وماريو فارغاس يوسا.

جدير بالاستذكار هنا أنّ محاضرة نوبل، التي ألقاها باموق جرياً على التقليد المعروف في حفل تسليم الجائزة، خلت تماماً من الإشارة إلى أيّ نوع من القضايا السياسية أو الاجتماعية ذات الإشكالية، سواء على صعيد تركيا ذاتها (مذابح الأرمن واضطهاد الأكراد مثلاً… بوصفهما في رأس لائحة الأسباب غير الأدبية التي تردّد على نطاق واسع أنها وراء حصول باموق على الجائزة)؛ أو العالم بأسره (العراق، الإمبراطورية الأمريكية، إضرام نيران ما يُسمّى «صدام الحضارات»، الشرق والغرب، الجوع والتخمة…). ولم يكن في وسع المرء أن يدفع التناقض المذهل بين محاضرة تلك السنة، غير المكترثة إلا بغرفة الكاتب المغلقة؛ ومحاضرة السنة السابقة التي ألقاها المسرحي البريطاني الكبير هارولد بنتر، وكانت بمثابة قبضة جسورة رُفعت في وجه الهيمنة الأمريكية، وانحياز شجاع إلى ضحايا هذه الإمبريالية الغربية الوحشية، وإلى معذّبي الأرض هنا وهناك.

كان واضحاً، بالطبع، أنّ باموق سعى إلى دفع الظنون حول الأسباب غير الأدبية خلف قرار الأكاديمية السويدية؛ غير أنّ المحاضرة ذهبت أبعد مما قد يبدو منطقياً من أديب غارق سلوكياً في السياسة والتاريخ، ولكنه هنا يحبس نفسه بنفسه، في… حجرة مغلقة. «حقيبة أبي»، وكان هذا هو عنوان المحاضرة المفاجئ، نصّ يشدّد على حاجة الأديب إلى العزلة، حتى يكاد أن يجزم باستحالة كتابة أدب حقيقي خارج الانعزال (ويقصد بالضبط: بين أربعة جدران)، بعيداً عن صخب الجموع وضجيج الحياة في الخارج. وكتب باموق: «يحلو لي أن أرى نفسي منتمياً إلى تراث الكتّاب الذين – أينما كانوا في العالم، في الشرق أو في الغرب – ينقطعون عن المجتمع، ويغلقون على أنفسهم في غرفة، صحبة الكتب. إنّ نقطة الانطلاق للأدب الحقّ هي رجل يغلق على نفسه في غرفة مع كتبه». هيهات، بالطبع، لأنّ المحامي الأتاتوركي سوف يرسل الشرطة إلى قلب غرفة باموق المحرابية لتبليغه الاستدعاء إلى المحكمة، كما أنّ أصداء الغلاة في الشارع الغاضب سوف تبلغ أسماع باموق أياً كانت سماكة جدران غرفته وزجاج نوافذها؛ ولا عزاء له في العزلة الإبداعية أنّ الصخب والعنف يأتي من جمهور أتاتورك وجمهور أردوغان، سواء بسواء.

وهذه، ختاماً، مناشدة مفتوحة إلى زملائنا وأصدقائنا الذين يترجمون عن اللغة التركية لنقل «ليالي الطاعون» إلى العربية، ليس من باب استكمال أعمال الرجل الكثيرة المترجمة لتوّها إلى لغة الضاد، فحسب؛ بل كذلك على سبيل التضامن مع الرجل، فلكلّ مقام مقال خاصة حين يتصل الأمر بالرقابة على الضمائر والذوات الإبداعية.

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button