نقد ومقالات

ت. س. إليوت: سنوات الحداثة الرجعية/ صبحي حديدي

ليس لأيّ قارئ عادي، محدود أو متوسط الدخل، أياً كانت مقادير تعلّقه بشخص وأدب الشاعر والمسرحي والناقد الأمريكي – البريطاني ت. س. إليوت (1888-1965)؛ وربما ليس لأيّة مكتبة عامة، أو لأيّ مركز ثقافي متواضع الميزانية؛ هذا الكتاب الضخم/ الفخم الذي صدر مؤخراً عن منشورات جامعة جونز هوبكنز الأمريكية تحت عنوان «نثر ت. س. إليوت الكامل: الطبعة النقدية»، بتحرير عامّ من رونالد شوهارد، في 7,148 صفحة، ثمانية مجلدات، وبسعر 700 دولار أمريكي! في المقابل، في وسع ذي الحاجة الماسة لأعمال إليوت النثرية، كما هي حال هذه السطور مثلاً، اقتناء طبعة سابقة في أربع مجلدات، وقرابة 3300 صفحة، صدرت عن الناشر ذاته، وأشرف عليها شوهارد أيضاً؛ وقد لا ينقصها، عملياً، سوى الهوامش الوافرة والشروحات المستفيضة.

وثمة حكاية خلف إصدار الأعمال النثرية على هذا النحو، لجهة عدد المجلدات وتواريخ النشر التي ابتدأت بعد عقود على رحيل إليوت؛ إذْ أنّ الشاعر كان على فراش الاحتضار حين استأمن زوجته الثانية، فاليري، على رغبته في عدم نشر كتاباته النثرية او رسائله أو مقالاته خارج ما كان قد جمعه هو نفسه في حياته. ولأنها اعترضت على وصيته من منطلق ضرورة نشر تلك الموادّ النثرية، فقد عهد إليها باختيار الوقت المناسب لنشر الكتابات بعد رحيله، رغم أنها ألحّت عليه أن يعفيها من وزر هذه الأمانة الشاقة. وهكذا ظلت فاليري إليوت أمينة على الوصية حتى أقنعها شوهارد، في سنة 2004، وكانت بدورها على فراش المرض، أنّ هذه الذخيرة بالغة الأهمية ولا يجوز أن تبقى طيّ الكتمان، فاستجابت وأوكلت إليه مهمة تحرير آلاف المقالات والمراجعات والتعليقات.

في نسخة المجلدات الأربعة، يغطي الأوّل ما يسمّيه المحرّران «سنوات التتلمذ»، التي تمتد على اعوام 1905-1918؛ والثاني يتناول ّالناقد التامّ»، 1919-1926؛ والثالث يغطي ميادين الأدب والسياسة والإيمان، 1927-1929؛ والرابع الأخير يضمّ كتابات نقدية ولاهوتية وسياسية، سنوات 1930-1933. ورغم أنّ المجلد الثالث يشمل سنتَين فقط، فلعلّه الأهمّ والأعلى دلالة في غالبية المسائل الفكرية والفلسفية والدينية التي اكتنفت خيارات إليوت وقادته إلى إطلاق العبارة الشهيرة، في وصف نفسه: مَلَكي في السياسة، أنغلو ـ كاثوليكي في الدين، كلاسيكي في الأدب؛ وانعكست في تنظيره الحماسيّ للتيارات المحافظة، وسجالاته مع برتراند رسل حول كتاب الأخير «لماذا لستُ مسيحياً»، ودفاعه عن اليمين الفرنسي الديني المتشدد… وقد يكون الأخطر في هذا المجلد تلك النصوص التي تعكس ولع إليوت بشخص وأفكار المفكّر والناقد والمنظّر السياسي الفرنسي شارل ماري فوتيوس موراس (1886 ـ 1952)، الذي كان له نفوذ فكري عميق على أوروبا بأسرها في مطلع القرن العشرين، واستبطنت نظريته حول «القومية التكاملية» جزءاً ليس باليسير من الأفكار الفاشية فيما بعد. وبدوره كان موراس مَلَكياً متزمتاً، وأفرد صفحات مجلة «العمل الفرنسي» لتأكيد أولوية الدولة وسموّ فرنسا وتفوّقها في العلاقة مع الأمم الأخرى، حتى أن الحزب الملكي خطب ودّه وجعل المجلة لسان حاله.

المفارقة الكبرى كانت أنّ إليوت حامل هذه الآراء المحافظة، وسواها الكثير الذي يسهل تصنيفه في الخانة الرجعية المتشددة، كان هو ذاته صاحب قصيدة «الأرض اليباب» التي كانت قد دشنت المنعطف الأبرز في حداثة القرن العشرين على صعيد الشعر؛ وعندما كان شهر كانون الأوّل (ديسمبر) 1999 يودّع أيامه الأخيرة توفّر إجماع عالمي، مفهوم تماماً، على أنها قصيدة القرن بأسره. مفارقات أخرى تجلّت في سلسلة التناقضات الصارخة التي تصالحت عند إليوت: النزعة التقليدية المتشككة (كارهة أينشتاين والنظرية النسبية!)، الكلاسيكية الرومانتيكية، التحرّر من الذات للارتماء في أحضان الكنيسة، دهشة المحافظ الناظر إلى نفسه في مرآة سديمية، المنقلب في غبشها إلى مسيحي منغلق اليقين. ولا شطط في القول إنه كان رجعياً بالمعنى الدقيق للتوصيف، وتلك كانت قناعة أقرب المقرّبين منه وأفضل محازبيه، إذْ جاهر بعدائه للأفكار الليبرالية والتحرّرية؛ كما عارض فلسفة التقدم الاجتماعي ورأى أنها تنخر البنيان الكلاسيكي الصلب، وتغنّى استطراداً بأوروبا العصور الوسطى وما شهدته من وحدة في الإيمان ومن توافق في القيم الاجتماعية.

وفي ثنايا ذلك كله كانت ترتسم صورة الرجل الذي أثار المجابهة الأهمّ في زمانه بين الشخصية الروحية السلبية للعالم المعاصر والشخصية الروحية الإيجابية للموروث، وتعايش عنده الماضي والحاضر في تركيب قلق متلاطم من الرموز المتصارعة. وما اقترابه من حدود الفاشية من دون الولوج إلى ظلامها سوى مظهر أوضح عن مفارقة أخرى مركزية ظلّت تحكم مسار رجل كسر القالب الرومانتيكي للشعر في نقطة الذروة من صلابته ورسوخه، ليرسي دعائم حداثات عجيبة التكوين: محافظة تارة، كلاسيكية تارة أخرى، ثورية ثالثاً؛ لم تفلح، مع ذلك، في الفرار من ضغوطات روح العصر.

وقد تكون هذه واحدة من معجزات الشعر، أو أعمال الفنّ والإبداع عموماً، إذْ قد ترتقي بصاحبها وتسمو به وتُعلي من شأنه؛ في مقابل مواقف فكرية أو سياسية أو أخلاقية قد تخسف به إلى أسفل سافلين؛ وذاك بالطبع نقاش آخر تُفتح ملفاته على مصاريعها عند ارتطام أقصى الحداثة الفنّية بأقصى التفكير السياسي الرجعي، فللإبداع في خالِقيه ومستقبِليه شؤون وشجون.

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button