في سوريا قد تُعاقَب إذا نشرت فيديو عن طبختك المفضلة!/ كارمن كريم
هذا الغموض الذي يحيط بهذه القوانين يبدو مقصوداً، فإيقاع الناس في حيرة في ما خص حقوقهم، يثير المزيد من الريبة ويخفض سقف المطالبة بهذه الحقوق… وهي غاية النظام قبل أي شيء.
يتعامل النظام مع كل محاولة لتعبير السوريين عن أنفسهم، بوصفها خطراً حقيقيّاً يهدد سلطته، حتى لو كان هذا التعبير عن مواضيع تخصّ الموضة أو الجمال، إذ يدرك أن كل وسيلة للتنفيس، قد تشكّل فرصةً لتمردٍ من نوع ما، كما أن خوفه من بث أفكار معادية له والتي قد تغيب عنه وسط فوضى وسائل التواصل الاجتماعي، هو سبب كافٍ لفرض قوانين جديدة تضيّق على الحريات العامة.
التعبير بترخيص
صدر بيان عن “لجنة صناعة السينما والتلفزيون السورية” يهيب بكلّ من ينشر أو يقوم بصناعة محتوى فني بمختلف مسمياته على وسائل التواصل الاجتماعي بالحصول على التراخيص اللازمة من اللجنة والموافقات الخاصة بالتقييم الفكري، وهذا يعني تسليط القبضة الأمنية على أي فيديو قد ينشر عن أي موضوع أو شخص كان، فلو أردت التعبير عن حبك لـ”الملوخية” أو “الكبة” من خلال فيديو، فعليك أن تحصل على ترخيص وموافقة مسبقة! هي خطوة تعني المزيد من التضييق على الحريات العامة، علماً أن القرار لم يخلُ من بث رسائل مبطنة حول علاقة القرار بجهات أمنية، إذ أوضح أن الحصول على التراخيص يجب أن يكون “من جميع الجهات المعنية”، من دون تحديد هذه الجهات والتي قد تكون عسكرية أو أمنية أو حتى فرع المخابرات!
هذا التدخل الجائر في الخيارات الشخصية وتضييق مساحات التعبير بحجج واهية، ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة طويلة من القمع.
ليس جديداً إدراك النظام السوري خطر نشر الأفكار على وسائل التواصل الاجتماعي، فحجَبَ “فايسبوك” منذ عام 2007 و”يوتيوب” منذ عام 2009 بشكل كامل عن المستخدمين في سوريا، ثم رفع الحجب مع بداية الاحتجاجات عام 2011، جاء هذا الانفتاح الوهمي في محاولة لنشر رواية النظام المضادة للثورة، بعد إدراكه أهمية وسائل التواصل الاجتماعي ومدى تأثيرها في الرأي العام، محاولاً السيطرة عليها بخاصة في الداخل، مانحاً الموالين هامشاً لنقد الحكومة، إلّا أنه عاد ليشد قبضته شيئاً فشيئاً على حرية التعبير والرأي.
النظام الجاهل والديكتاتوري
بعد انتهاء الحرب العسكرية على مناطقه، شرع النظام ابتداءً من رأس سلطته بنشر رواية تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في الوضع العام ومساهمته في انتشار الفوضى والانحلال الأخلاقي والأكاذيب ومحاولة الضغط على الحكومة التي “وللأسف” تعاني من الحصار الاقتصادي كالشعب تماماً.
وقال الأسد في إحدى خطاباته إن وسائل التواصل الاجتماعي، ساهمت بشكل ما في تردي الأوضاع في البلاد وهي مجرد أدوات، معتبراً الإنترنت نوعاً من أنواع الحروب، عبر صفحات تبدو وطنية، إلا أنها مواقع خارجية في الحقيقة، مشيراً إلى أن النقد حالة ضرورية عندما يكون هناك تقصير ولكن يجب أن يكون النقد موضوعياً. تأتي هذه التصريحات بينما يعيش السوريون حالة مزرية، مع فقدان شبه كامل لأساسيات الحياة كالطعام والوقود والكهرباء، على رغم ذلك يطالب الأسد بنقد موضوعي، ويعتبر ما ينشره الناس المقهورون سبباً في تردي الأوضاع! من دون أن ننسى تصريح العلّامة البوطي في بداية الثورة حين وصف وسائل التواصل الاجتماعي بأنها “وسيلة خطرة، عانينا منها… ولَعَلّكُم تذكرونَ أنّ من أهم عوامل الفتنة التي انتشرت في بلادنا كانت وسائل التواصل”.
السوريون لا يعرفون ما الجريمة وما عكسها
على رغم توضيح رئيس لجنة صناعة السينما والتلفزيون علي عنيز أن هذا القرار ليس بشخصيّ، إنما يخصّ أي “اسكتشات” أو مشاهد يمكن نشرها على التلفزيون، إلا أن هذا لا يكفي في الحقيقة، إذ أكد أن استطلاع الرأي هو من اختصاص قانون الإعلام الذي سيصدر قريباً، فهل استطلاع رأي عن حب الملوخية، يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون؟
بعد الحرب، لم يعد أمام النظام سوى حجة الانحلال الأخلاقي والحفاظ على القيم، لمحاولة إقناع الناس بقراراته غير المنطقية والظالمة والتي تزيد الناس جهلاً وخوفاً.
هذا التدخل الجائر في الخيارات الشخصية وتضييق مساحات التعبير بحجج واهية، ليس سوى حلقة جديدة من سلسلة طويلة من القمع، سبقها منذ فترة تحذير من وزارة الداخلية تهيب فيه بضرورة عدم التواصل مع صفحات لها ارتباطات خارجية أو التفاعل معها أو نشر أخبار كاذبة حتى لا يتعرضوا للمساءلة القانونية، محذرةً من العقوبات التي ينصّ عليها قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية.
وإذا حاولنا فهم معنى كلمة “شخصي” وهي الفيديوات المسموح بنشرها، سنقع في نوع من الحيرة، فما الذي يمكن اعتباره شخصياً ولن يعاقب عليه القانون؟ فالموضة هي شأن شخصي، لكنها أيضاً موضوع عام قد تتناوله البرامج التلفزيونية. فهل قد تعاقب فتاة لأنها نشرت فيديو عن تنسيق الثياب؟ وهل خروج أحدهم لإعلان هويته المثلية هو أمر شخصي ولا يعاقب عليه القانون؟
هذا الغموض الذي يحيط بهذه القوانين يبدو مقصوداً، فإيقاع الناس في حيرة في ما خص حقوقهم، يثير المزيد من الريبة ويخفض سقف المطالبة بهذه الحقوق… وهي غاية النظام قبل أي شيء.
درج
أين نجد، نحن الفتيات، أباً داعماً كـ”وليد”؟/ ياسمينة ريدان
عندما شاهدت فيلم “أصحاب ولا أعز” بنسخته العربية، كان من الصعب عدم التطرق إلى شخصية الأب “وليد”، الذي يقوم بدوره الممثل اللبناني جورج خبّاز.
ففي مشهدين متتاليين، كسّر “وليد” كل الصور النمطية التي فرضها مجتمعنا لتعريف مفهوم الأبوة: أولاً عندما رفض رفضاً قاطعاً خرق زوجته “أمّ صوفي” (التي تقوم بدورها الممثلة اللبنانية نادين لبكي)، لخصوصية ابنتها، والتفتيش في حقيبتها حتى بعد معرفته بأنها وجدت “كوندوم” (واقٍ ذكري)، وثانياً عندما اتصلت ابنته وسألته إذا كان من الممكن أن تقضي الليلة عند صديقها أو “صاحبها” باللبناني، فلم يتردد “وليد” مع أنه يعلم تماماً خلفية هذا الطلب، ويعلم أيضاً أن أصحابه يستمعون إلى هذه المكالمة، وبدأ يسأل ابنته عما تريد هي، وسألها: “إنت شو بدك بيي؟ بدك تنامي عنده أو عم تعملي هيك لما يزعل منك؟ إذا منّك حاسة إنك جاهزة لهالخطوة فبلاها بيي”.
لم تنتهِ المكالمة هنا وحسب، بل حرص “وليد” على أن يذكّرها بحرية الخيار، قائلاً: “إنت حرة صوفي، نحن ربيناك تكوني حرة”.
لم أفهم، لكنني حاولت أن أرتّب أفكاري وكل المشاعر التي استيقظت فجأةً لتذكّرني بأن “وليد” ليس حقيقياً، وأنه شخصية مثالية وضعها الكاتب ليعكس حقيقةً مضادةً! فأين نجد هؤلاء الآباء الداعمين لبناتهم، كالدكتور وليد في “أصحاب ولا أعز”؟
غالباً ما سمعت من أصدقائي، نساءً ورجالاً، بأنهم يواجهون صعوباتٍ في بناء علاقة صحية مع آبائهم، وكنت أقول لنفسي إنني لست الوحيدة، فدائماً نقارن قصصنا بقصص الآخرين، كي نهوّن على أنفسنا.
مثلاً، قضيت كل مرحلة مراهقتي وأنا أخفي مشاعري كي لا يُكتشف أنني مغرومة برفيق أخي، وتصبح حياتي حبساً افتراضياً. أليس من الطبيعي أن يكون لابنة في السادسة عشر من عمرها حبيب؟
إن معاناة النساء مع آبائهم تبدأ من لحظة ولادتهن، فهو “الحب الأول” كما تذكره المجلات والمقالات المبتذلة، و”الذكر” الأول في حياة أي امرأة، كما أفسره أنا. فحسب علاقتك معه، تنعكس نظرتك إلى الذكور اللذين ستلتقيهم لاحقاً خلال حياتك.
ولا ننسى المجتمع الذي يعطي كمّاً من المثالية للآباء، فيصبح من المستحيل إعادة تقييمهم، أو تقييم سلوكياتهم. أذكر جيداً أنني في مراهقتي كنت قادرةً جيداً على تقييم علاقتي بأمي، ورافضةً أن أقيّم العلاقة بأبي، وكأن ذلك طلبٌ لما هو مستحيل في السماء بأن يحدث على الأرض. وكانت أمي تكرر كلما شعرت بأنني أريد أكثر من منصب “الأب” هذا: “الأشخاص لا يتغيّرون، بل يبقون على حالهم. فكيف إذا كان هذا الشخص أباك؟”. في كل مرّة كانت أمي تردد فيها هذه العبارة، كنت أفقد المزيد من الأمل.
كبر هذا القلق الذي كنت أعاني منه، وكبرت أنا، وخلال كل مرحلة نضوجي، رفض أبي أن يسألني مرةً واحدة ما إذا كنت على علاقة بأحد، لكن في بعض الأحيان كان يسأل أمي ما إذا كنت أقابل شخصاً، وأنوي الزواج به، كي يعطي نفسه جائزة حسن التربية.
لم يكن أبي رافضاً لأن يواجهني أنا فحسب -لأن كل ذلك الخوف من مواجهتي كان بسبب معرفته بأن ابنته متمردة جداً، وهو بالطبع يعيش حالة إنكار- بل أيضاً رافضاً مواجهة المجتمع، فدائماً هناك ذلك الخوف من كيف ينظر الناس إلى ابنته الوحيدة، وكيف ينظرون إليه وإلى صورته كأب قوي، تهابه عائلته! طالما أن هذه المواصفات متوفرة، فإن كل شيء آخر يأتي في خانة الكماليات. ولذلك كلّ أحاديثنا كانت مؤقتةً، تتناول مواضيع عامة، إما سياسية، وإما عن دراستي والحياة في بيروت، أو الطقس أحياناً.
ألا يدرك آباؤنا أننا نريدهم في حياتنا إلى حد أبعد من أكلنا وشربنا؟ أبعد من سمعتهم ووجاهتهم؟ أبعد من سردياتهم عن بناتهن “المعصومات من الخطأ”؟
أنا حتى اليوم أبحث عن ذلك الأمان الذي قرأته في الكتب، وأراه في “Stories” عيد الأب، ولا أجده. أبحث عن كل ما صوروه لي من حب، وأبحث عن تلك المسافة الآمنة التي لم أقدر يوماً على بنائها مع والدي. حتى عندما تكلم “وليد” مع “صوفي”، كنت لا أزال أبحث في ذكرياتي مع أبي، ولا أجد شيئاً سوى أبوية مستفحلة.
أكتب كل هذا اليوم، وأعلم أن آباءً كوليد، موجودون على هذا الكوكب، ويتنفسون، ويعيشون، وأعلم أيضاً أن كل ما نحتاجه أحياناً هو أب حقيقي وليس “سوبر مان”، إلاّ أنه من الصعب جدّاً تقبّل أنني لم أكن واحدةً من أولئك البنات المدعومات، اللواتي لديهم “Papi” يرافقهنّ في خطواتهنّ ويحملهنّ على أكتافه، إذا وقعوا.
رصيف 22