نشوان الأتاسي: مأساتنا أننا رفضنا سايكس-بيكو واختلفنا على بديلها
مصطفى ديب
تشغل الديمقراطية والقضايا المرتبطة بها، على اختلافها، اهتمام معظم شعوب العالم العربي ومثقفيه الذين جهدوا، منذ ما قبل اندلاع انتفاضات الربيع العربي عام 2011 وحتى هذه اللحظة، في التنظير لها، والدعوة إليها، وتفسير الأسباب التي تحول دون تحقيقها أيضًا، خاصةً في الدول التي لم يؤدي إسقاط أنظمة الحكم فيها إلى تحقيق الانتقال المنشود باتجاه الديمقراطية.
ولا يقتصر النقاش القائم في العالم العربي حول الديمقراطية على أسباب فشل تحقيقها فقط، بل يشمل أيضًا عدة قضايا مرتبطة بها أو متفرعة عنها، مثل فشل بناء الدولة الوطنية، وتصاعد الخطاب الطائفي، ومسألة الأقليات، وتنامي نشاط الجماعات الجهادية، والشعبوية، والتدخلات الخارجية، وغيرها.
في هذا الحوار، يجيب الباحث والمؤرخ السوري نشوان الأتاسي (1948) على جملة من التساؤلات المرتبطة بالمواضيع السابقة، أو المتفرعة منها، إلى جانب تساؤلاتٍ أخرى حول واقع الثورة السورية، ومستقبلها، والتغيّرات التي طرأت على المجتمع السوري على مدار السنوات العشر الأخيرة.
لنبدأ من اقتراب الثورة السورية من دخول عامها الحادي عشر. كيف يقرأ نشوان الأتاسي السنوات التي مضت من عمر هذه الثورة؟ كيف ينظر إليها؟ وما هو تقييمه لها؟
يتعذر، بدايةً، وضع تقييم موضوعي مجرد للأحداث المفصلية الكبرى التي تعصف ببنية مجتمعٍ ما وتدمرها، خاصةً دون بروز أفق واضح للبنية التي سوف تنشأ على أنقاض البنية المتداعية، آخذين في الاعتبار أيضًا أننا ما زلنا في خضم الحدث وتداعياته المتلاحقة.
بيد أنه، مهما اختلفت رؤانا حوله وتباينت، وتعددت تسمياتنا له واختلفت، فقد جسّد حراك الشابات والشبان السلمي في طوره الأول الذي استمر زهاء عامٍ ونيف، بدءًا من آذار/ مارس 2011، فعلًا تغييريًا كان هدفه إقامة مجتمع جديد مبني على رؤى وقواعد جديدة، تختلف جذريًا عما كان سائدًا لعدة عقود من القمع والاستبداد في سوريا. وهو بهذا لم يختلف في مضامينه وفي تطلعاته عن باقي الثورات في أماكن أخرى من العالم، سواءً ما فشل منها وجرى قمعه بوحشية (المجر 1956، تشيكوسلوفاكيا 1968، الصين 1989…) أو ما نجح منها في تحقيق أهدافه بالتغيير (ثورة أوكرانيا البرتقالية، ثورة الورود في جيورجيا…).
قد يُرجع البعض نجاح بعض تلك الثورات إلى تدخلات خارجية دعمت حراك الشعوب وأدت إلى حدوث التغيير، لكنهم يهملون في الوقت ذاته دور تلك العوامل الخارجية في فشل الثورات الأخرى، وفي جملتها ثورة السوريين.
في حقيقة الأمر، فإن نجاح أي ثورة في عالم اليوم يقتضي توفر عاملين اثنين معًا: وجود حراك داخلي يسعى إلى التغيير، ووجود توافق دولي على حدوثه. ويتعذر على أي حراك مجتمعي الوصول إلى مبتغاه دون توفر هذين العاملين معًا.
قام في سوريا عام 2011 حراك مجتمعي توفرت لديه كافة المقومات والمبررات الذاتية والموضوعية لصنع التغيير، إنما لم يتوفر له ذلك التوافق الدولي على نجاحه، بل كان هنالك توافق على عدم حدوث التغيير، فكانت النتيجة كما نشهد اليوم على امتداد التراب السوري.
ولأن النظام الحاكم كان يدرك خطورة الحراك السلمي، فقد ركزت أجهزة أمنه على البطش والتنكيل برموزه، وخاصةً الجيلين الأول والثاني من شبان وشابات التنسيقيات، سواءً بالقتل أو بالاعتقال والتعذيب، وبالتغييب والتهجير. فيما كان، على التوازي، يعمد إلى الإفراج عن الإسلاميين العائدين من العراق، والمعتقلين في سجونه، بموجب مراسيم عفو رئاسية، حيث قام هؤلاء إثر الإفراج عنهم بتشكيل التنظيمات الجهادية (جيش الإسلام، أحرار الشام، جبهة النصرة، فتح الشام، جيش الفتح…) التي ساهمت، على التوازي مع النظام، في قمع الحراك وتصفية رموزه.
بعد أن تمت تصفية الحراك السلمي، وبدأت الحروب بالوكالة على أرض سوريا فأصبحت ساحة قتال مفتوحة، أضحى الحديث عن وجود ثورة واستمرارها نوعًا من النوستالجيا، التي تستعيد فترة كانت الآمال فيها معقودة على التغيير.
لقد سقط النظام الذي كان قائمًا قبل آذار/ مارس 2011، ولن تعود سوريا إلى ما قبله رغم محاولات إعادة تأهيل وتدوير الأسد التي يعمل عليها المجتمع الدولي، إنما لم تتشكل ولم تتضح بعد معالم النظام الجديد، وهذه الفترة تعتبر من أسوأ الفترات التي تمر بها الشعوب عادةً.
ما هي تصوراتك لمستقبل هذه الثورة؟
الثورات، كفعل تاريخي، كالزلازل لا أحد بمقدوره توقع مكان حدوثها ولا زمانه. وما جرى في آذار/ مارس 2011 كان الموجة الأولى، ومن المؤكد أن موجة ثانية وربما ثالثة ستحدث طالما بقيت أسباب حدوثها قائمة وتتعمق.
اختبر المجتمع السوري خلال السنوات العشر الماضية تجارب مختلفة على غير صعيد. برأيك، هل ساهمت هذه التجارب في تكوين ثقافة سورية جديدة؟ وما الجديد الذي طرأ على المجتمع السوري ثقافيًا ومعرفيًا خلال هذه السنوات؟ ما الثابت والمتغيّر في هذا المجتمع؟
في تصوري أنه يتوجب علينا الإضاءة عما هو جديد في المجتمع السوري نفسه!
إذا اعتمدنا الأرقام الرسمية الصادرة عن مؤسسات النظام حول التعداد العام للسوريين، تلك الأرقام التي أُعلن عنها منتصف العام الفائت توطئة لإجراء “انتخابات” رئاسة الجمهورية، وهي مستقاة من وزارة الداخلية ودوائر الأحوال المدنية والمكتب المركزي للإحصاء، والتي أفادت بأن أعداد السوريين الذين يحق لهم الانتخاب كانت بحدود 18،5 مليون ناخب، أي أن لدينا 18،5 مليون سوري تجاوزوا سن الثامنة عشرة من أعمارهم. وهذا يعني أن التعداد العام للسوريين من مختلف الأعمار هو بحدود 35 – 40 مليون على أقل تقدير، فيما كان تعدادهم قد بلغ 23 مليون عام 2011 (ناهيكم عمن قتل وفُقد منهم وغُيّب وهُجّر!).
هذان الرقمان الرسميان يكشفان، بوضوح، أننا نتحدث عن شعب سوري آخر غير ذاك الذي كان موجودًا قبل عام 2011!
إن صحت تلك المعطيات الرسمية – ولا أراها غير ذلك – فيتوجب علينا إذ ذاك مناقشة المفاهيم الثقافية والمعرفية، وما هو الثابت وما هو المتحول من وجهة نظر هذا المجتمع الجديد الذي لا نعرفه، ولا نعرف ماهيته بعد، ولا من أين جاء!
يرى العديد من المثقفين السوريين أننا ابتعدنا كثيرًا عن تحقيق حلم الديمقراطية. هل يوافقهم نشوان الأتاسي الرأي؟ أم لديه تصورات أخرى حول هذه المسألة؟
الديمقراطية، كأي نشاط وفعالية إنسانيين، تقتضي تجربة ومرانًا وخبرة لاكتسابها وممارستها وصقلها.
أحد أهم الحجج التي تسوقها النظم الحاكمة أن شعوبنا غير مؤهلة لممارسة الديمقراطية بعد، فيما هي تمنعها من ممارسة هذا الحق وتعمل على إبقاءها تحت حكم أنظمة القمع والاستبداد.
كيف يمكن لطفل تعلُّم المشي إن كنا نمنعه عن الحبو ولا نسمح له الخوض في تلك التجربة، حتى لو تعثر وسقط في محاولاته الأولى؟
ألا ترى أن تحقيق الديمقراطية في سوريا والعالم العربي عمومًا بات أمرًا مستحيلًا في ظل تصاعد الخطاب الطائفي، وتفاقم مآزق الدولة الوطنية ومسألة الأقليات، إلى جانب تنامي الخطاب الشعبوي مؤخرًا؟
سيظل تحقيق الديمقراطية في العالم العربي أمرًا مستحيلًا طالما ظل رازحًا تحت نير استبداد وطغيان الأنظمة الحاكمة كما أسلفنا.
الدولة الديمقراطية هي دولة المساواة، دون تمييز بين مواطنيها على أي أساس كان. كما أنها دولة الحريات السياسية، والتعددية الحزبية، والانتخابات الحرة، ومنظمات المجتمع المدني التي تشارك بفعالية في الفضاء العام وفي صنع السياسات وتوجيهها، وكل هذا يشكّل نقيضًا بنيويًا للأنظمة الدكتاتورية التي تمسك بالسلطة بقوة السلاح وتحتكرها، إضافةً إلى تمتعها بحماية القوى الكبرى النافذة.
كيف ترى مستقبل الديمقراطية في العالم العربي بين خطابات متشددة ترى في الديمقراطية عائقًا يحول بينها وبين تطبيق شرع الله، بل واعتداءً عليه أيضًا كونها تنص على مبدأ حكم الشعب لنفسه بنفسه؛ وخطابات أخرى شعبوية أحدثت داخل الديمقراطية نفسها توتراتٍ حادة متعلقة بالتفاوت بين الحرية والمساواة.
لا شك أن التيارات المتأسلمة والمتشددة دينيًا، كما بعض التيارات المتمركسة، وتلك التي تطرح شعارات قومية وشوفينية، لها دورها في الحؤول دون الوصول لقيام مجتمعات ديمقراطي، ولهذا أرى أنها تقف في جبهة واحدة مع الأنظمة القمعية الحاكمة من حيث أنها تتشارك بالهدف نفسه، وقد لمسنا ذلك بوضوح خلال مسار الثورة السورية. الخلاف فيما بينها لا يعدو كونه سباقًا على تولي السلطة لتنفيذ أجنداتها القمعية الخاصة بها.
تفيد العديد من المقولات والمؤلفات بأن أزمات الطائفية والأقليات هي نتيجة طبيعية لفشل بناء الدولة الوطنية، وأن تحقيق الأخيرة وتحويلها أمرًا واقعًا قد يكون المخرج الوحيد من هذه الأزمات. هل تتفق مع هذه الآراء؟ وهل تبدو الدولة الوطنية قابلة للتحقق بعد بلوغ التكتلات المذهبية، والنزوح نحو الطائفية، والتخلي عن الهوية الوطنية مراحل مخيفة؟ وهل لا يزال إقناع الشعوب العربية عمومًا، والشعب السوري خصوصًا، بفكرة الدولة الوطنية أمرًا ممكنًا؟
الشعوب لا تصنع جغرافيتها السياسية، بل تتشكل تلك الجغرافيا نتيجة صراعات وحروب بين القوى الكبرى تنتهي بوضع جغرافيا سياسية تقتنع الشعوب، على إثرها، بالحيز الجغرافي الذي قُسم لها:
أوروبا، بحدودها السياسية النهائية، أتت نتيجة “معاهدة وستفاليا”، وألمانيا توحدت ثانية بقرار دولي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
دول الكتلة الاشتراكية السابقة تشكلت وفق الخارطة التي وضعت في يالطا.
منطقة الألزاس الفرنسية كانت أرضًا ألمانية وكل ما فيها من أسماء عائلات سكانها إلى أسماء مدنها وقراها، إلى نظام عمارتها وحتى واجهات الأبنية تنطق بالألمانية، بيد أنها اليوم قطعة من فرنسا!
الأمثلة على ذلك أكثر من أن تعد وتحصى، سواء في شبه القارة الهندية (الهند، باكستان، بنغلادش، كشمير)، أم دول أمريكا اللاتينية أو كندا (كويبك) وغيرها.
كل تلك الشعوب والأقوام قبلت بما قسم لها من جغرافيا سياسية، وعملت على بناء هويتها الوطنية ضمن تلك الجغرافيا ولم تعد تعاني، نسبيًا، من أزمات هوية وانتماء.
إثر الحرب الكونية الأولى، جرى “وضع” الجغرافيا السياسية لشعوب شرق المتوسط من قبل المنتصرين في تلك الحرب عبر سايكس-بيكو.
أزمتنا، بل مأساتنا، أننا رفضنا تلك القسمة ولم نعترف بها، إلا أننا اختلفنا على بديلها، فمنا من طالب بسوريا الكبرى وطنًا بديلًا، ومن طالب بوحدة عربية جامعة من المحيط إلى الخليج، وآخر نادى بدولة خلافة إسلامية، وهناك من وضع وحدة البروليتاريا الأممية هدفًا استراتيجيًا له.
بمعنى آخر اتفقنا على رفض ما قُسم لنا، لكننا تمسكنا ببدائل كانت متناقضة فيما بينها ومتضاربة، وغير قابلة للتحقق.
لقد رفضنا الاعتراف بالهوية التي نحملها إلى درجة أن تلك الهوية كانت محط احتقار، ومن قبل بها كان يُنعت بنعوت شتى (انفصالي، رجعي، شعوبي…).
وقد ساهمت معظم، بل جميع الأحزاب والتنظيمات والاتجاهات السياسية والفكرية، التي كانت سائدة على الساحة السياسية والفكرية في سوريا، في الحط من قيمة الهوية السورية والتقليل من شأنها، حتى أن دساتيرنا اعتبرت أننا “عرب سوريون”، ما يعني أن انتماءنا “العربي” له الأسبقية على انتمائنا “السوري”، وقد عكس تلك الأسبقية اسم البلاد نفسه “الجمهورية العربية السورية”، في حين نجد مثلًا اسم مصر “جمهورية مصر العربية”، الذي أكد أن “مصرية” المصريين لها الأولوية على “عروبتهم”.
على هذا لم يكن مستغربًا هذا التشرذم الذي شهدناه إثر ثورة عام 2011، بعد أن انحسر سيف التسلط والاستبداد جزئيًا عن رقاب البشر، فانكفأنا إلى انتماءاتنا ما قبل الوطنية (القبلية والعشائرية والإثنية والدينية والمذهبية والمناطقية) كنتيجة منطقية لعدم تبلور هوية وطنية جامعة تتخذ من البقعة الجغرافية التي نشغلها وطنًا نهائيًا معتمدًا من قبل الجميع.
وفي محصلة ما أردت قوله هو أن الهوية والانتماء الوطنيين، هي مسألة قرار بالدرجة الأولى بين جماعة من البشر ارتضت لنفسها العيش بشكل مشترك ضمن جغرافيا سياسية محددة، رغم أنها لم تشارك هي نفسها في صنعها.
حين يتوصل السوريون إلى الاقتناع الرضائي، كما غيرهم من الجماعات البشرية، بهذه الحقيقة البديهية فإنني واثق من أننا لن نعاني بعدها من أزمة في الهوية وفي الانتماء الوطني، إنما بعد أن نعمد إلى التخلي عن تلك الأوهام التي سادت مطلع القرن المنصرم، واحتلت الجزء الأعظم من مساحته، حول اللغة والعادات والتاريخ والتقاليد والدين وما إلى ذلك من طروحات باتت جزءًا من ماضٍ انقضى زمنه ومبررات طرحه.
شعوب دول العالم الجديد (الولايات المتحدة، كندا، دول أمريكا اللاتينية، أستراليا، نيوزيلاندا،….)، لم يكن لديها ما يجمعها سوى توافقها على هوية ارتضتها لنفسها وتوافقت عليها، فبنت على أساسها كياناتها وانتماءاتها وأسست، استطرادًا، دولها على الرغم من أن تلك الشعوب ضمت هجينًا عجائبيًا من كل ثقافات الأرض ولغاتها، وقومياتها وإثنياتها، وأديانها وعقائدها.
يربط البعض تحقيق الديمقراطية وبناء الدولة الوطنية بتيارات سياسية وفكرية دون غيرها، مثل النهضة العربية، والقومية العربية، واليسارية، أو الليبرالية، والإسلام السياسي وغيره. هل ترى أن هذه المقولات صائبة؟ أي أن هناك تيار أقرب من آخر إلى الديمقراطية؟
في تقديري أن معظم تلك التيارات والأفكار قد تشكل عوائق على طريق بناء الدولة الوطنية، وانتهاج الديمقراطية طريقًا للعيش والتعايش بين مجمل مكونات الأمة، إن توافقنا على صحة ما سبق طرحه في سياق حوارنا هذا.
استعرضت في كتابك “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011” أبرز العوامل التي ساهمت في تأسيس أسباب انفجار المجتمع السوري في 2011، مثل الخلافات المذهبية والطائفية، وتشويه العلاقة بين الريف والمدينة، وغيرها. برأيك، هل تكفي الديمقراطية وحدها لمعالجة هذه الإشكاليات؟ خاصةً وأن البعض يرى أن تحقيق الديمقراطية نفسها يكاد يكون مستحيلًا دون معالجتها؟
كان تركيزي في كتابي على أزمة الهوية بشكل رئيسي. ويبقى في قناعتي أن توفر المدخل الصحيح والمناسب إلى حل هذه الأزمة الوجودية، يشكّل بدايةً لحل الكثير من أزماتنا التي تبدو حاليًا عصية على الحل.
حين نتوافق جميعًا على حدود جغرافية واضحة المعالم والقسمات لوطن يجمعنا ونرتضيه وطنًا نهائيًا، سوف نجد أن معظم ما نعانيه اليوم قد أصبح قابلًا للتوافق عليه من خلال عقد اجتماعي، أو وثيقة فوق دستورية، تضمن حق المواطنة المتساوية للجميع دون تمييز.
ما العوامل أو الأسباب التي وضعت الدولة في سوريا في حالة تناقض مستمر مع المجتمع المدني برأيك؟ وما هي أيضًا الأسس التي أدت أو ساهمت في تسلّط “حزب البعث” على المجتمع؟ وكيف يقرأ نشوان الأتاسي مستقبل العلاقة بين الدولة والشعب في ظل هذا الفشل المستمر في تحقيق التحول الديمقراطي، والنزوح المتواصل نحو الطوائف والبنى ما دون الوطنية؟
أعتقد أنه من الخطأ إطلاق تسمية “دولة” على منظومة الحكم القائمة في سوريا منذ ما يقارب الستة عقود. إنها بممارساتها ومنهجية تسلطها “نفي للدولة”، كما وصفها ميشيل سورا منذ بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وأظن أن هذا الوصف يوجز الكثير مما يمكن قوله في صدد علاقة هذه المنظومة بالمجتمع الأهلي والمدني، وبمجمل الشعب عمومًا.
أما فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين الدولة والشعب، فهذا أمر سوف يسهل إنجازه حين يتواجد طرفا هذه العلاقة فعليًا على أرض الواقع، إذ أن طرفيها، الدولة والشعب، لم يكن لهما من وجود يذكر خلال عهود الاستبداد القائمة.
كيف تقرأ مآلات التحولات الديموغرافية القسرية الأخيرة في سوريا؟
لكل صراع دموي، مهما بدا عبثيًا، غاية ما تسعى الأطراف الضالعة فيه إلى تحقيقها.
يبدو لي أن غاية الصراع الذي يجري في سوريا، كما في العراق ولبنان وفلسطين، هو الوصول إلى إعادة هندسة مجتمعات تلك البلاد ديموغرفيًا تحقيقًا لأجندات إقليمية ودولية، منها ما ظهر على السطح ومنها ما زال يتفاعل تحت رماد حرائق المنطقة، إذ يتعذر فصل ما يحدث داخل هذه البلدان عما يجري حولها وعليها، وعن محاولات لإعادة رسم خرائطها المجتمعية والديموغرافية تحت مسميات مختلفة (مشروع الشرق الأوسط الجديد، الفوضى الخلاقة، يهودية الدولة الإسرائيلية، الهلال الفارسي، الصراع الشيعي – السني…).
عند الحديث عن تجارب سوريا مع الديمقراطية، غالبًا ما نعود إلى تجربة خمسينيات القرن الفائت. كيف تفسّر هذه العودة المستمرة إلى تلك المرحلة؟ وهل ترى أن تلك التجربة كانت تجربة ديمقراطية حقيقة وناضجة، أم مجرد واجهة لحكم العسكر؟ ما هو تقييمك لها بشكلٍ عام؟
يجري تناول فترة الخمسينيات (تحديدًا، كفترة زمنية لم تتعد ثلاث سنوات ونيف) في سوريا باعتبارها فترة ذهبية، ربما قياسًا إلى ما أعقبها من عهود الدكتاتورية والاستبداد، لا بكونها فترة مضيئة بذاتها ولذاتها.
في واقع الأمر يتوجب التأكيد على أن تلك الفترة لم تكن، في عمقها، مختلفة عما قبلها ولا عما بعدها سوى اللهم أنه جرى تغليفها بغلاف زاهٍ من الممارسات ذات الطابع الديمقراطي، حيث تخللتها انتخابات نيابية ورئاسية اتسمت بقدر من الحرية والنزاهة، وجرى خلالها إسقاط حكومات وتنصيب أخرى لم تعمّر أي منها.
كذلك جرت خلالها انتخابات رئاسية تمت ظاهريًا وسط جو ديمقراطي، إنما عكست في العمق مدى تأثير المحاور الدولية والإقليمية في نتائجها كما دور القيادات العسكرية فيها.
لكن أهم ما ميز تلك الفترة كان ازدياد حدة الصراع على سوريا والمنطقة إقليميًا ودوليًا (حرب السويس، مشروع آيزنهاور، حلف بغداد، المعاهدة المركزية، محاولات الاتحاد السوفيتي التغلغل في سوريا وضمها إلى كتلته ووقوف الغرب في وجه تلك المحاولات، تنامي دور إسرائيل كرأس حربة في خدمة مشاريع الغرب “بريطانيا وفرنسا في فترة ما قبل حرب السويس والولايات المتحدة الأمريكية عقبها”)، حيث كان لكل تلك العوامل دورها وأثرها في الداخل السوري، ولم يكن الجيش بعيدًا، في العمق، عن التأثر والتأثير في مجريات تلك الأحداث بحكم تورط معظم قياداته بالعمل السياسي، ومن حيث أن الغالبية الساحقة من ضباطه كانوا ينتمون إلى الأحزاب التي كانت قائمة آنذاك.
وللدلالة، باختصار شديد، على تأثر الجيش وتأثيره في الأحداث السياسية الجارية خلال تلك الفترة يمكن سوق حادثتين محوريتين في التاريخ السوري المعاصر:
حادثة اغتيال عدنان المالكي وما تبعها من أحداث مفصلية ساهمت في تشكيل تاريخ سوريا المعاصر.
الأسلوب الذي جرى من خلاله تأسيس دولة الوحدة السورية المصرية.
بعيداً عن سوريا، هل ترى أن بقية الدول العربية تملك اليوم فرصة حقيقة للانتقال نحو الديمقراطية؟ وما هي برأيك أسباب الانتكاسة التي مُنيت بها التجربة التونسية التي كانت الاستثناء الوحيد في المنطقة العربية؟
التجربة التونسية هي المثال الأشد سطوعًا في منطقتنا للكيفية التي يمكن فيها لشخص فرد أن يقود شعبًا على طريقٍ ما، ثم ترى هذا الشعب وقد فقد بوصلته حين يغيب هذا الفرد عن المشهد السياسي.
هذه التجربة تقودنا إلى الاستنتاج أن حكم الفرد، مهما بدا وطنيًا وعصريًا ونهضويًا، لن يوصل الشعب والوطن إلى بر الأمان إن لم تكن له حوامل موضوعية وذاتية، كما يجب ألا يغيب عن بالنا أن زين العابدين بن علي قد جاء من صلب نظام الحبيب بورقيبة ومن حلقته الضيقة.
أخيراً، ما هي مشاريعك القادمة؟
نسعى منذ فترة، مع بعض الأصدقاء والزملاء، إلى إصدار موسوعة شاملة توثق للتاريخ السوري بمختلف مراحله وأوجهه السياسية والثقافية، والاجتماعية والديموغرافية، والأنثروبولوجية والبيئية… تكون مرجعًا معتمدًا لهذا الجزء من العالم. فسوريا، سواء قُدّر لها البقاء على الجغرافيا السياسية لمنطقة شرق المتوسط أم لم يُكتب لها ذلك، تستحق منا جهدًا بهذا الحجم.
وإني من هذا المنبر أتوجه بالدعوة لكافة المهتمين، من كافة الاختصاصات، إلى المساهمة في إنجاز هذا العمل
الترا صوت