رحيل المفكر جودت سعيد (1931-2022) مؤسس مدرسة “اللاعنف” في الحركة الإسلامية السورية -مقالات مختارة-
إسلاميون بلا أذناب!/ عمر قدور
من الروايات الطريفة التي كانت تتناقلها أجيال قديمة أن بعض السوريين، أيام إعلان قيام إسرائيل وصولاً ربما إلى هزيمة حزيران، كان لا يدرك أن اليهودي كائن بشري كالبشر أجمعين، بل يعتقد أن اليهود كائنات بأذناب. بالطبع، مَن كان يعتقد بوجود أذناب لم يكن يميز في تلك الحقبة بين اليهودي والصهيوني، فهذه أحجية أعقد من كون اليهودي بلا ذيل. وللذيل هنا وظيفة، فوق التعبير عن جهل المؤمنين بوجوده، هي تأبيد العداء، إذ كيف يمكن الاشتباك الفكري أو السياسي مع كائنات بأذناب؟!
إلى العقلية ذاتها تنتمي شريحة ضخمة من اللادينيين السوريين، ينقسم أفرادها بين معتقدين بأن الإسلاميين كائنات بأذناب، وآخرين اكتشفوا أن الأمر ليس كذلك، ووقعوا أسرى دهشتهم بأن الإسلامي بلا ذيل، ثم بقي كثر منهم معجبين بنباهتهم بالمقارنة مع أشباههم الذين لم يبارح الذيل تفكيرهم. كأنما أفراد الفئة الأخيرة كانت مشكلتهم الوحيدة مع افتراض وجود الذيل، وعندما تأكد انتفاء وجوده لم يبقَ من مبرر للخلاف مع الإسلامي الذي انتقل من المكانة القصية للكائن الغريب المتوحش إلى “يا للروعة.. إنه مثلنا”.
الحفاوة المقصودة بالعبارة الأخيرة منصرفة بالطبع إلى الإسلامي الذي ليس على المثال الرائج، فهو لا يحمل سيفاً أو ساطوراً لجزّ الرؤوس، ولا يدعو إلى جزّها، ولا يكفّر مخالفيه من الإسلاميين، ويغضّ الطرف عن غير المتدينين، وقد يقرّ بحرية الأخيرين في حالات قصوى يُفضَّل ألا يُضطر إليها كي لا تتسبب له بالحرج بين عموم الإسلاميين. إنه الإسلامي المعتدل المشتهى، والعزيز بندرته في حين يتكاثر الإسلام الحركي الجهادي بتكاثر أولئك المتلهفين إلى جزّ الرؤوس.
ثم، لأنه عزيز نادر وينبغي عدم التفريط به، يوضع هذا الإسلامي بعيداً عن الاشتباك الفكري، ويصبح خارج أي نقد من قبل أولئك اللاإسلاميين. إنهم ينقسمون بين من بقوا وسيبقون على دهشتهم بوجوده، وتهليلهم لاختلافه عمّا يتوقعون من إسلامي، وبين فئة تخلصت من الدهشة ليحل مكانها تشجيع “يُفترض أنها محسوب وناجم عن حنكة” يستهدف تعزيز الاعتدال واجتذاب إسلاميين آخرين إلى دائرته. لسان حالهم أن دائرة الاعتدال ضيقة، وتضيق أكثر فأكثر مع تطرف غير الإسلاميين وعدم استيعابهم أسباب الظاهرة الإسلامية وعدم تفريقهم بين تياراتها.
يمنحنا رحيل المفكر الشيخ جودت سعيد قبل يومين فرصة لتوضيح ما سبق، انطلاقاً من موقعه الإسلامي، وبتحييد شخصه. فشخصية الراحل ليست مثار نقاش أو خلاف؛ لقد كان حقاً المثالَ على الانسجام مع أفكاره، ومن ذلك تنبع تلك السماحة والدماثة الشخصيتين، فضلاً عن زهده ضمن عالم أسوأ من أن ينتمي إلى وقائعه وصراعاته. في الوضع السوري الحالي، تزداد المفارقة بين داعية إلى اللاعنف وواقع يحفل بمختلف أصناف العنف والتوحش.
دائماً كان الراحل يُذكر من قبل اللاإسلاميين في سياق الثناء عليه، وظهر هذا جلياً لمناسبة وفاته. لم تُتنقد أفكاره أو تُناقَش من قبلهم، رغم أن بعضاً منها مثار جدل بين اللاإسلاميين أنفسهم، خاصة موضوع السلْمية والعنف الذي أثار جدلاً حاداً عندما بدأ ما سُمّي بطور “عسكرة الثورة”. جدير بالذكر أن سعيد بقي على موقفه الحازم، رغم استهداف قوات الأسد شباناً يُقال أنهم آمنوا بأفكاره وفظّعت بهم قوات الأسد، مثل الشهيد غياث مطر. في سؤال يطرحه وائل السواح على جودت سعيد، ضمن ندوة لمؤسسة “اليوم التالي”: شيخ جودت.. هنالك من يقول بأن النظام وأجهزته وميليشياته تقوم بالقتل والقصف ورمي البراميل المتفجرة. هل ردُّ الناس على القوة بالقوة صح أم خطأ؟ يجيب سعيد: خطأ فاحش. لأنك (إن فعلت) صرت مثله، لمّا تدافع عن نفسك دخلت في الخط معه فإذا قتلك شعر بأنه منتصر.
كانت أقوال مشابهة، صادرة عن غير الإسلاميين، قد أثارت حفيظة واعتراض نظراء لهم من أرضيات فكرية مشابهة. وقد يُقال أن ذلك الجدال ينطوي على دوافع غير معلنة، بمعنى أن أصحاب السلمية لم يكونوا بنزاهة الشيخ جودت سعيد، وكانوا يتوسلونها سبيلاً لانتصار الأسد. لكن هذه المماحكات السياسية لا تبرر التسامح الفكري الذي حظي به الشيخ من حيث المقدمات التي بنى عليها دعوته اللاعنفية، فهو يرى أن العنف ضد طبيعة الإنسان، بمعنى أنه يفترض للإنسان جوهراً ثابتاً “فطرةً” وهذا ما لا تؤمن به وبتبعاته الفكرية نسبةٌ ساحقة من المحتفين به خارج صفوف الإسلاميين. للتوضيح، قلة قليلة من الإسلاميين توافق الشيخ على تأويله النصوص الإسلامية، لا في موضوع اللاعنف فحسب، بل حتى في تفسيرات تربط بين توحيد الله في السماء ومساواة الناس في الأرض، والأخيرة أيضاً مقولة قد يحتفي بها غير الإسلامي رياءً لأنه على الأرجح يملك رأياً مغايراً جداً لموضوعة التوحيد وعلاقته بالتراتبيات الموجودة على الأرض.
لا شك في أن نسبة معتبرة من المحتفين بلاعنفية الشيخ يرونها نقيضاً إسلامياً للحركات الجهادية، لكن التأثير الواسع للفكر الجهادي في الأوساط الإسلامية، على عكس أفكار الشيخ جودت يكاد يُخرجه من تصنيفه كداعية إسلامي. هو لم يصل إلى الشطط الذي وصل إليه الراحل قبل سنتين محمد شحرور، والذي كان يروق لغير الإسلاميين رؤيته مفكراً إسلامياً، بينما نكاد لا نعثر على إسلامي مهما بلغ من “الاعتدال” يوافق محمد شحرور على استنتاجاته وفق قراءته شديدة الخصوصية للنص القرآني.
منطق التشجيع هذا يفتقر ضمناً إلى الاحترام، فهو لا يرى المعنيّ بالتشجيع نداً فكرياً يُشتبك معه بفكر مخالف. لا يُستبعد التواطؤ، إذ يطرب بعض المحتفى بهم للمديح حتى إذا لم يقتنعوا بصدقه كله. لشدة استقامته، يُنزّه الراحل جودت سعيد عن هذا المستوى من التكاذب. الأهم أن المشجّعين، وهم أصلاً من أنصار الاشتباك مع المسألة الإسلامية وعدم القطع معها، لا يشتبكون فكرياً مع الفئة المعتدلة التي يحتفون بها، ولا داعي للتذكير بأن الاشتباك المأمول غير ممكن أيضاً مع أمثال أبي قتادة والجولاني والبغدادي لأن عدة الأخيرين في الحوار معروفة جيداً.
التعامل مع المسألة الإسلامية ليس ترفاً فكرياً في الحالة السورية، ويكفي تفحص الخريطة السياسية والعسكرية الحالية والحضور أو التأثير الإسلامي فيهما لإدراك إلحاحها على من يود تجاهلها وعلى من لا يود ذلك. لقد اختبر غير الإسلاميين سبيلين أساسيين فشلا حتى الآن، أولهما لم يستطع أصحابه أن ينزعوا من رؤوسهم فكرة وجود أذناب، وثانيهما لسان حاله “إنه إسلامي.. لكن بلا ذنب”. ربما يتوجب على من ينتمون إلى هاتين الفئتين اقتلاع الأذناب من عقولهم أولاً من أجل الاشتباك على نحو أجدى مع الظاهرة الإسلامية.
المدن
————————–
جودت سعيد وفرص “اللاعنف” في سوريا/ إيلي عبدو
اللاعنف الذي كرس الراحل جودت سعيد جهده لتأصيله إسلامياً، يظل بلا أفق، طالما أن هناك ترفعاً عن التعامل مع الصراع الأهلي وتحولات الجماعات.
في نعيه الداعية جودت سعيد، نسب البرلماني الإسلامي السابق محمد حبش، نفسه إلى الراحل، فكتب “أستاذي ومعلمي جودت سعيد في ذمة الله. أصدق من رأيت في حياتي، وأرقى قدوة يمكن أن يختارها الإنسان في هذا العالم المتلاطم بالأهواء”. وبصرف النظر، إن كان، في كلام حبش، ادّعاء وزعماً ومبالغة، إلا أن صلة ما ترتسم بينه وبين الراحل. وتلك الصلة، تتمثل في تبني خطاب إسلامي يحاول مخاصمة النزعة الراديكالية التي تتبناها الجماعات العنفية، وتجد فيها خلاصاً وحلاً لمشكلات المسلمين ومعاناتهم، علماً أن سعيد وحبش يختلفان، في حساسية التنبه لاستثمار الأنظمة الاستبدادية في أفكارهما.
فسعيد، كرّس معظم كتاباته لـ”تفكيك خطاب الجماعات الجهادية”، بحسب ما قال أحد الباحثين المطلعين على مؤلفاته، كما خصص كتاباً للرد على، عمل سيد قطب “معالم في الطريق”، مشدداً على رفض العنف، انطلاقاً من منظور ديني، واستناداً إلى قرائن وتأويلات من داخل الإسلام نفسه. بمعنى أن جهده، في ما يخص مسألة العنف معزول عن شروط أخرى، سياسية واجتماعية وعصبية، ويهتم بالنص الديني وبوجوه تاريخية. والعزل هذا، مردّه، بالدرجة الأولى، إلى تحكم النظام السياسي، وتأثيره في الخطابات الدينية، سواء كانت تغذية للإسلام الرسمي الزاهد بالسلطة، أو تغذية الإسلام الرديكالي الموظف لضرب المشروع الأميركي في العراق وخلق فوضى في لبنان. كتابات سعيد نفسها، تحمل بذرة عزلها، فهي نسجت بديناميكيات من داخل الدين، وخارج أي شرط يؤمن بيئة لتطويرها، بدليل أن تأثير الراحل وأفكاره، كان لا يذكر خلال الحرب الأهلية، والعنف المتبادل بين الأطراف.
والأرجح أن سعيد لم يؤثر في الأوساط السنية التي خاطبها بمؤلفاته، لأنه، ركز على مستوى واحد، متعلق بالتأويلات الدينية، وأهمل تحول الجماعة السنية، أو جزء منها، إلى طائفة ينشط سلوكها كأقلية مهددة، بدون أن ينعكس ذلك في الوعي والتنظير السياسي. الإهمال هنا ينسحب على بقية الجماعات ومسببات عنفها. العنف السوري، مرتبط بالانقسام الأهلي، والنصوص تعمل ضمن هذا الحيز، وتغذيه وتمده بالحجج. والنظام نفسه يعمل ضمن هذا الحيز، والجهاديون أيضاً. “داعش”، و”النصرة” انتعشا في بيئة الانقسام الأهلي، وتأويلهما النصوص هدفه “الشرعية”.
علاج الانقسام الأهلي، المدخل الأنسب لتخفيف العنف، عبر نقل الصراعات من المتاريس إلى المؤسسات، وإضعاف الانتماءات الصلبة للجماعات، وتذويبها في مصالح، هذا الطرح يبدو مستحيلاً في وضعنا الحالي، لا بل خيالياً، لكن طرحه ضروري، لمنح مسألة اللاعنف، مرجعية مدنية حديثة، تقضي بتفويض العنف للدولة وأدواتها، لا انتظار تأويل ديني والخلط بين أفكار الراحل سعيد، ومفاهيم مثل المقاومة السلمية، والنضال المدني، إذ إن هذه المفاهيم، تتعلق بالإضراب والعصيان المدني، وأدوات أخرى، كلها نتاج الحداثة السياسية، وتنتمي إلى قاموس آخر، وسياق تاريخي مختلف.
لكن ما المانع، أن يتم التنظير للاعنف من داخل الدين، فيتطور لاحقاً إلى التسليم بما هو مدني وحديث؟
صعوبة ذلك تتمثل في كون هذا السعي، غير مقرون بثورة صناعية أو انتشار الطباعة وتوسع الرأسمالية وتغيرات كبرى، على ما حصل في أوروبا، بل هو مقرون بنظام استبدادي يغلق الفضاء العام، ما يجعل هذا السعي بلا حاصل، ويصبح عرضة لتحكم الجهة الأكثر قوة أي السلطة الحاكمة. صحيح أن سعيد حرص على عدم تقديم خدمات مجانية للنظام، وتنبه لاستفادة الأخير من أفكاره، وحسم موقفه سريعاً من الثورة مع انتقادات تتعلق بالعنف. لكن إشهار شخص مثل محمد حبش تتلمذه، على يد سعيد، يشير إلى أن هكذا نوعية من الأفكار يمكن أن تكون فضفاضة، طالما أن طرحها يهمل الربط مع أي أوضاع سياسية أو اجتماعية.
فإضافة إلى رفض العنف، يمكن تبنّي موقف إسلامي متقدم من المرأة ومن التعليم والاختلاط والحداثة، لتتشكل مجموعة من الأفكار الجذابة، ويصبح من يتبناها “متنوراً” و”معتدلاً” و”حضارياً”، في حين أن هذا الخطاب، منفصل عما هو موضوعي في واقعنا، ونسيجه وبناه وتراكيبه، إذ إن تطوير نظرة إيجابية للمرأة مثلاً انطلاقاً من تأويل ديني، سيظل ضمن أحاديث الصالونات البحثية والأكاديمية، فيما الواقع، تسيره ديناميكيات مختلفة، تضاعف معاناة النساء.
عند اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري، تصدر حبش، شاشات الفضائيات للدفاع عن النظام السوري، ما يشكل حالياً مفارقة كثيفة الدلالات، إذ إن إسلامياً، ينسب أفكاره لجودت سعيد “داعية اللاعنف”، يدافع عن متهم بجريمة عنف، بهذا الحجم. خطاب حبش، المخاتل ليس بعيداً من خطاب سعيد الصادق، جذر واحد لكليهما يتمثل بالتأويلات الإيجابية للدين، وفيما يتحصن الثاني من لعبة استفادة السلطة، يقدم الأول خدماته، مع تنويع بطبيعة السلطة المراد خدمتها.
بالنتيجة، فإن اللاعنف الذي كرس الراحل جودت سعيد جهده لتأصيله إسلامياً، يظل بلا أفق، طالما أن هناك ترفعاً عن التعامل مع الصراع الأهلي وتحولات الجماعات. كذلك فإن فرص ربط هذا الجهد بمرجعيات مدنية تؤمّن السلام عبر مؤسسات حديثة، ليس متاحة حالياً، وهذا الانسداد، لن ينتج، على الأرجح، سوى “تلميذ” مثل محمد حبش، تحظى منشوراته الفيسبوكية حول “الاعتدال” بإعجاب المتحسرين على خسارة جودت سعيد.
درج
—————————
المفكر جودت سعيد.. مؤسس مدرسة “اللاعنف” في الحركة الإسلامية السورية/ عبد الناصر القادري
توفي المفكر السوري البارز الشيخ جودت سعيد، في منفاه بإسطنبول في تركيا، عن عمر ناهز 91 عاماً، بعد أكثر من 6 عقود من العمل على نشر نظرية “اللاعنف” في العالم الإسلامي.
وأفاد الحساب الرسمي للشيخ جودت سعيد على موقع “فيسبوك”، بأنه توفي اليوم الأحد، من دون تحديد موعد ومكان الجنازة.
كانت قضايا الاعتدال والتسامح ونبذ العنف من أبرز القضايا التي شغلت بال المفكر الإسلامي السوري جودت سعيد على امتداد حياته، حتى عُرف بأنه “داعية اللاعنف في العالم الإسلامي”.
ويعد الشيخ جودت سعيد من مؤسسي نظرية “الإسلام اللاعنفي”؛ حيث لم يشهد التاريخ الإسلامي، نشوء جماعة تدعو إلى عدم مشروعية العنف حتى لو كان دفاعاً عن النفس قبل المفاهيم التي تحدث بها وناقشها المفكر السوري سعيد بهذا التوسع والبحث.
من هو جودت سعيد؟
ولد الشيخ جودت سعيد في قرية “بئر عجم” التابعة لقرى الجولان في محافظة القنيطرة جنوبي سوريا عام 1931، وهو من أصول شركسية، ويتحدث اللغة الشركسية إلى جانب العربية.
و”الشركس” هم من شعوب بلاد القوقاز الذين ارتكبت الإمبراطورية الروسية بحقهم مجازر دفعتهم للهجرة من مدنهم وقراهم باتجاه أراضي الدولة العثمانية بما فيها سوريا في منتصف القرن الثامن عشر.
درس جودت سعيد الابتدائية في القنيطرة، ثم أرسله والده إلى مصر لاستكمال دراسته في “الأزهر الشريف” بالعاصمة القاهرة عام 1946، وهناك أتم المرحلة الثانوية، ثم التحق بكلية اللغة العربية ليحصل على إجازة في الأدب العربي منها.
وبرزت أولى معالم تأثر جودت سعيد باللاعنف في أثناء تأديته لخدمته العسكرية خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر (1958 – 1961)، وخلال وجوده في صفوف الجيش حدثت واقعة الانفصال، وفي الوقت الذي امتثل فيه الجميع لأوامر القادة في قطعته العسكرية، أعلن رفضه ومعارضته المشاركة في أي تحرك عسكري، مما دفع القادة المسؤولين عنه إلى حجزه في الإقامة الجبرية، ولم يغادرها إلا بعد انقضاء الأمر.
عُين سعيد بعد انتهاء خدمته العسكرية أستاذاً في ثانويات دمشق مدرساً للغة العربية، وما لبث أن اعتقل لنشاطه الفكري منذ تسلّم حزب البعث للسلطة بعد انقلاب آذار عام 1963، وتكررت الاعتقالات أكثر من مرة، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سوريا فإنه لم يترك مجال التدريس إلا بعد أن تم اتخاذ قرار بصرفه من عمله في نهاية الستينيات.
وفي عام 1967 احتلت إسرائيل قريته في الجولان، فانتقل إلى دمشق للعيش فيها، وهناك نشط بشكل أكبر وذاع صيته، وبعد زوال الاحتلال الإسرائيلي عن قريته بموجب اتفاقية فصل القوات بين النظام السوري وإسرائيل عام 1974 عاد إليها وظل هناك يمارس نشاطه في الزراعة وتربية النحل إلى جانب نشاطه الفكري، حتى قيام الثورة السورية في آذار 2011.
الشيخ جودت سعيد تأثر في بداياته بالإخوان المسلمين والتيار السلفي في الوقت نفسه، باعتبارها التيارات الإسلامية الصاعدة في تلك الفترة، إلا أنه تأثر بشكل أكبر بكتابات المفكر الباكستاني الشهير محمد إقبال، وعلى نحو متزايد بالمفكر الجزائري مالك بن نبي (1907 – 1973) أحد أبرز مفكري العالم الإسلامي في القرن العشرين، من خلال بعض كتبه مثل “شروط النهضة” و”الظاهرة القرآنية”، وحظي بلقائه قبل مغادرته مصر في نهاية الخمسينيات.
وعن كتاب شروط النهضة قال جودت سعيد: “قرأته 40 مرة، ودرسته سطراً سطراً 7 مرات”.
كتب الشيخ جودت سعيد آراءه وصاغ أفكاره عن اللاعنف في كتابه الأول الصادر منتصف الستينيات بعنوان “مذهب ابن آدم الأول.. مشكلة العنف في العالم الإسلامي”، حيث ناقش فيه مبدأ اللاعنف وجذريته بالإسلام، معتقداً أن “التوحيد مسألة سياسية اجتماعية، وليس مجرد قضية غيبية ميتافيزيقية إلهية”، بمعنى أن توحيد الله في السماء، يعني المساواة بين البشر على الأرض، فيساوي بين العبارات الثلاث في الآية القرآنية الكريمة: (ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).
كما ركّز في كتابه على مسألة الزيادة في الخلق التي رأى أنها تقوم على قاعدة أن العالم لم يُخلق وانتهى، بل هي مرتبة وجود الشيء كقانون وسنّة حتى قبل وجود العالم بالفعل.
خط فكري إسلامي مختلف
ويُعتقد أن جودت سعيد كان يطرح فكراً إسلامياً مختلفاً عن السائد خصوصاً بما يتعلق بـ “العنف” من خلال محاضراته في جامع “المرابط” في دمشق، ومن خلال أول كتبه المنشورة حيث رد على اتجاه الإخوان المسلمين في ممارسة العنف السياسي والتي أخذت بالتصاعد منذ ستينيات القرن الماضي حتى بداية الثمانينيات.
وقد بيّن جودت سعيد في كتابه الفروق بين الجهاد في مرحلة بناء الدولة، وبين الجهاد بعد ذلك، وكان هذا في معرض رده على بعض الشبه المثارة حول فكرة اللاعنف وتناقضها مع الجهاد بمعنى القتال، وهو ما ثبت أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد مارسه في أثناء دعوته. ويأتي الجهاد في مرحلة بناء الدولة أو الحكم الراشد أو الديمقراطية جهاداً لا عنفياً حصراً بحسب جودت سعيد، فلا يجوز الوصول إلى السلطة والحكم بالقوة وبالسيف، فكل ما أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والتغيير بالقوة لا يغير المجتمع وإنما يذهب هرقل ويأتي هرقل، ولذلك فقد منع الرسول (صلى الله عليه وسلم) أصحابه من الدفاع عن أنفسهم في أثناء وجودهم في مكة، وإنما سمح لهم الجهاد بالسيف بعد أن تشكل المجتمع الراشد في المدينة بدون ممارسة عنف وإنما بإقناع الناس، وعندما يتشكل المجتمع الراشد يصبح من واجبه نصرة المظلومين والدفاع عن سلامته.
ويرى الباحث الأكاديمي عبد الرحمن الحاج أن أهمية كتاب جودت سعيد الأول تكمن في أنها أول رد على كتابات المفكر الإسلامي المصري سيد قطب، التي شكلت الأساس الفكري لحركات العنف الإسلامي.
وأضاف الحاج في كتابه “الدولة والجماعة ..التطلعات السياسية للجماعات الدينية في سوريا 2000 – 2010” أنه “رغم أن كتّاباً آخرين ردوا على سيد قطب؛ مثل حسن الهضيبي المرشد السابق للإخوان المسلمين، في كتابه “دعاة لا قضاة” (1969)، فإن رد سعيد كان أكثر جذرية، وتطور فيما بعد إلى مفهوم متكامل أو إلى نظرية”.
6 عقود في نبذ العنف
ولم يتوقف سعيد عند كتابه الأول، فقد تمحورت معظم كتبه ومحاضراته في أرجاء العالم والتي استمرت لقرابة 60 عاماً حول الفكرة، التي تناهض “العنف” وتدعو لرفضه.
ومن أبرز كتبه بخصوص ذلك “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، “العمل.. قدرة وإرادة”، “اقرأ وربك الأكرم”، “كن كابن آدم”، “مفهوم التغيير”، وغيرها.
وأكّد سعيد عبر كتبه أن “العلاقة بين العنف والفكر علاقة عكسية طردية، فكلما زاد الفكر وتنور، كشف الإنسان عدم جدوى العنف”.
وقال: “اخترع ديناً وأقنع الناس به وحلال عليك، أما أن تُكره الناس على دين أو فكر أو مذهب، فهذا ضد الله وضد الإنسان وضد الحق، والذي لا يقبل ذلك فهو لا يثق بالله الذي قال (لا إكراه في الدين)، ولا يثق بدين الله أنه حق، ولا يثق كذلك بالإنسان الذي وثق الله به وحمّله الأمانة”.
ولا يخفي الشيخ سعيد إعجابه بالتجربة الديمقراطية في أوروبا وبفكرة الاتحاد الأوروبي، التي لم يستطع المسلمون تحقيق مثيل لها، على الرغم من أن تلك الفكرة تبلورت بعد تاريخ طويل ودامٍ من الحروب والصراعات الأوروبية، القومية منها والدينية.
ودفاعاً عن أفكاره وفي محاولة لنشرها اعتباراً من عام 1987 زار جودت سعيد معظم الدول العربية والأوروبية وروسيا وإيران وتركيا إلى جانب كندا وأميركا. وألقى خلال جولاته كثيرا من المحاضرات وعقد الندوات في العديد من الجامعات والمراكز البحثية والثقافية.
جودت سعيد وسوريا ما قبل الثورة
على امتداد عقود من الزمن لم يكن لجودت سعيد أي منصب رسمي في سوريا، ولم يتمكن من تشكيل جماعة بالمعنى الحرفي تؤمن بأفكاره إلا في مطلع التسعينيات، إذ إنها كانت أقرب إلى التجمع الثقافي منها إلى جماعة، لافتقادها الشكل التنظيمي والحركي الذي تمتعت به الجماعات الأخرى الإسلامية أو العلمانية في سوريا، فكان الارتباط مباشراً بين الشيخ ومعظم تلامذته، ولعل من أبرزهم المفكر السوري “خالص جلبي” و الداعية “حنان اللحام”
ويرى عبد الرحمن الحاج أن “فكر جودت سعيد إذ يبدو إسلامياً تنويرياً دينياً عاماً، إلا أنه في جوهره فكر سياسي. ففكرة “اللاعنف” أصبحت مشروعه منذ مطلع الثمانينيات، وبما أن رئيس النظام السوري حافظ الأسد كان محتاجاً لمفكر يحمل عبء امتصاص فكر العنف الباقي من إرث أحداث العنف في الثمانينيات أو نتيجة العنف المتصاعد نتيجة الظروف والأحداث المحيطة، فقد وجد ضالته في جودت سعيد، حيث كان يسمح، بل يرحب بطريقة ما، بنشر سعيد لأفكاره”.
ومع ذلك بقي سعيد بعيداً عن أي تأييد لنظام الأسد الأب أو الابن، مخلصاً لأفكاره في التغيير ومناهضة العنف، بل بادر لحضور منتديات ربيع دمشق التي شكلتها المعارضة السورية بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000. وكان أحد الموقعين على “إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي” عام 2005، والذي دعا إلى إنهاء النظام الأمني الشمولي وتغيير الحريات ومنع الحركات المعارضة في البلاد.
الموقف من الثورة السورية
كان الربيع العربي ومظاهراته السلمية، تطبيقاً عملياً لما كان يدعو له جودت سعيد في أفكاره وكتبه ومحاضراته، ولذلك أيده ودعمه، خاصة عندما وصلت رياحه إلى سوريا.
وشارك سعيد في العديد من المظاهرات السلمية عام 2011، وألقى كلمات في اعتصامات ووقفات وخيم عزاء في درعا ودمشق وريفها، مركزاً على أهمية السلمية والديمقراطية في التغيير.
وشارك العديد من تلامذته والمؤمنين بفكره في تنظيم المظاهرات السلمية، مثل “يحيى الشربجي “غياث مطر” (اشتهر الأخير بتوزيع الماء والورود على قوات الجيش خلال المظاهرات) اللذين قتلا تحت التعذيب بعد اعتقالهما من قبل قوات الأسد، ليصبحا من أبرز “أيقونات الثورة السورية”.
وفي عام 2011، قال جودت سعيد في حوار صحفي: إن “الشباب هم الذين طالبوا بالديمقراطية والحرية وعدم الإكراه في الدين وليس أساتذتهم، والعالم العربي لا يوجد فيه علماء دينيون علمانيون”، مضيفاً أن أستاذ الجامعة وإمام الجامع لا يؤديان الدور المطلوب منهما.
ويعتقد أنه لو قام الأساتذة بدورهم في تحرير الإنسان لما وجد الاستبداد، ولما كان الحاكم يفرض نفسه “أنا ربكم الأعلى”، والمفروض أن يحتكم للانتخابات وأن يرجع إلى بيته إذا فشل، موضحاً أن قصة فرعون هي أطول قصة في القرآن الكريم، لأنها وثيقة الصلة بواقع السلطة والحكم، وكل الآيات التي وصفت فرعون تنطبق على الديكتاتوريين في العالم العربي.
ومع اشتداد عمليات العنف التي قادها نظام الأسد ضد المدنيين، وبدء عمليات القصف، قتل شقيق جودت سعيد، ما أجبره إلى النزوح إلى دمشق، ومنها سافر إلى منفاه الأخير في تركيا، حيث واصل نشاطه لعدة سنوات عبر المحاضرات وإصراره على المنهج السلمي ونبذ السلاح والعنف.
تلفزيون سوريا
—————————-
الراحل جودت سعيد.. تنويري ديمقراطي يؤمن باللاعنف / أسامة آغي
تكاد تكون المرات قليلةً، تلك التي يجتمع فيها السوريون على موقف من حدثٍ أو شخصيةٍ، هذا ما حدث اليوم مع نبأ وفاة المفكّر الإسلامي التنويري جودت سعيد، الذي ينحدر من قرية “بئر العجم”، التابعة لمنطقة الجولان السورية، وهو من مواليد عام 1931، ومن المكون الشركسي السوري.
جودت سعيد مفكر إسلامي أكثر منه رجل دين أو شيخ، وهو خرج في فكره التنويري عن الفهم الذي ساد لدى غالبية المجتهدين في الشأن الفكري والديني الإسلامي، إذ تبنّى مفهوم اللاعنف، معتمداً في هذا الفكر على مبدأ “لا إكراه في الدين”.
يعتقد جودت سعيد أن الأنبياء نشروا رسالاتهم الدينية انطلاقاً من إيمانهم بعقل الإنسان، ولهذا يبدو مفهوم القمع والقهر واستخدام العنف مفهوماً خارج جوهر الرسالات الدينية، وهو أمر قاد “سعيد” إلى الإيمان بشكل واضح بالديمقراطية.
وحول فهمه للثورة السورية، كان يقول لا ينبغي أن تتجه الثورة إلى مربع العسكرة واستخدام القوة، وهو يدلل على هذه الرؤية من موقف النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، حيث طالب المؤمنين بدعوته أن لا يردّوا على استفزازات الرافضين للدعوة الإسلامية، وهذا ظهر في فتح مكة، حيث لم يقم المسلمون بأي عملية انتقام من قريش، التي مارست ضدهم القهر والإذلال.
جودت سعيد الذي أشهر رؤيته الإسلامية اللاعنفية، أرعب نظام الأسد بمرحلتيه (مرحلة الأب ومرحلة الابن)، حيث كان يدعو إلى مقاومة الديكتاتورية الأسدية من خلال النضال السلمي، وعدم الجنوح إلى استخدام العنف ضد هذا النظام.
إن استخدام القوة من أي جهة كانت لفرض الرأي والواقع على الناس أو الشعوب، إنما هي عمل يتنافى مع العقل، وهذا اللاعقل تتسم به دول كبرى، أو تعمل بموجبه كثير من الأنظمة السياسية العالمية، وفي هذا السياق يجد جودت سعيد أن الأمم المتحدة التي تؤمن بالقوة، إنما تتناقض مع الرسالات السماوية التي نزلت على الرسل وكان جوهرها يقوم على العقل.
كان فهم الراحل جودت سعيد لمقولة “انتظار المهدي” الشيعية فهماً مفاجئاً ومختلفاً، وهذا ما قاله في المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، حيث قال في المحاضرة التي ألقاها هناك: أنا لا أؤمن بالمخلّص، فالمهدي جاء وانتهى القول في ذلك، معتبراً أن قيام منظومة الاتحاد الأوروبي هي من صنع العقل، وبالتالي هي تمثّل الخلاص الذي يبشر به المهدي المنتظر.
وفهمه للديمقراطية لم يأتِ من فراغ، فهذه الديمقراطية عَبْر تاريخها المتبدل كانت من صنع وابتكار الطبقات الاجتماعية الغنية، ولهذا يقول جودت سعيد: إن الأغنياء هم مَن صنعوا وابتكروا الديمقراطية.
جنوح فكر جودت سعيد نحو اللاعنف دفع كثيرين على تسميته “غاندي الإسلام”، هذه التسمية يستحقها هذا التنويري الذي قال عام 2013 في لقاء مع أورينت: (من يملك القنبلة النووية لا يؤمن بالعقل).
وحول جوهر فكر الراحل جودت سعيد يقول الباحث السوري أحمد الرمح: “انطلق جودت سعيد في فكرته حول اللاعنف من مفهوم المعجزات التي يؤمن بها جُلّ المسلمين إلى مفهوم السنن، وأن يرى أن الوحي توقف بموت النبي عليه الصلاة والسلام”.
ويضيف الرمح: “انتهى عصر الغيب وبدأ عصر الشهادة، انتهى عصر المعجزات وبدأ عصر البحث العلمي، لذلك يرى في قضية اللاعنف أن الذي يأتي بالسيف يذهب بالسيف، والذي يَسفك الدماء ستُسفك دماؤه”.
ويرى الرمح في فكر جودت سعيد فلسفة تقوم على عظيم رؤيته للإيمان، حيث يقول: “كان جودت سعيد يؤمن بأن كلمات الله التي تحكم الكون، ليست هي الموجودة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ لأن كلمات التوراة والإنجيل والقرآن يمكن كتابتها بقلم أو قلمين، وبمحبرة أو بمحبرتين، فكيف تُفهم “قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي”.
إذاً إن فكر جودت سعيد يقوم على نقض فهمٍ يجهل جوهر الإسلام، وهو استخدام العقل، هذا الفكر قال فيه الشيخ سمير صالح: “رحل صاحب نظرية اللاعنف في الإسلام”. وبرأي الشيخ صالح فإن جودت سعيد “مثّل صورة مشرقة للعلماء الذين يختارون ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا، وهو لم يتوانَ عن الوقوف مع أبناء بلده في وجه العصابة المجرمة في سورية”.
ويؤكد الشيخ سمير صالح: “أن الراحل جوت سعيد شارك في مظاهرات منادية برحيل رأس النظام”.
وحول سعة رؤية المفكر الإسلامي العالمية يقول الدكتور أحمد طعمة رئيس الحكومة المؤقتة سابقاً: “كان هم جودت سعيد إنقاذ العالم الإسلامي، وكان يرى أن إنقاذ العالم الإسلامي لا يتمّ إلا بإنقاذ عقل أبنائه، والوسيلة إلى ذلك من خلال وضع السلاح جانباً، ونبذ العنف، وإعادة النظر في ميراثنا الفكري، والتأكيد على السببية، وإن إقرار الديمقراطية خير سبيل لحلّ مشكلاتنا السياسية”.
أما الإعلامية المصرية سحر زكي فتقول: “إن المفكر الإسلامي جودت سعيد قال بالحرف الواحد انتهى عصر انتهاك الأنظمة لحقوق الشعوب”. وترى زكي أن جودت سعيد استنهض عقل الإنسان وقدرته في مواجهة الظالمين. إن فكر الراحل جودت سعيد شكّل نقلة نوعية في مواجهة الخطاب الإسلامي التقليدي، الذي لم يفهم بعمق جوهر الإسلام من خلال كتاب الله القرآن الكريم. ولهذا نجد أن السوريين اجتمعوا في حزنهم المشترك حول وفاته، وفي هذا يقول المربي مصطفى البطران: “كان جودت سعيد قامة فكرية إسلامية، وهو تميّز وانفرد بفلسفته الإسلامية الراقية، واستطاع أن يبني فكره في أرض الخيال”.
أما الشيخ محمود ضميم وهو من التيار السلفي فيقول في فكر جودت سعيد: “الشيخ جودت كان رجلاً مسالماً في دعوته إلى أبعد حد، ولديه أحادية مسالمة غير معقولة”.
إن رحيل مفكرٍ بحجم الراحل جودت سعيد، سيترك بلا شكٍ فراغاً تنويرياً تحتاجه الأمة، في مرحلة صراعات كبرى، يتم فيها استبعاد العقل واللاعنف، وتحفيز غرائز القتل البعيدة عن جوهر العقل والدين، وعن الطريق الذي أوصى الله رسله باتباعه، وتعليم بني البشر معنى سيادة العقل، وأهمية استخدامه في استقرار البشرية وتطوُّرها.
—————————–
جودت سعيد المذهب الإنساني في الإسلام…/ د . محمد حبش
رحل جودت سعيد الإمام الفريد الذي عاش رسالته وحلمه في الإخاء الإنساني ولم يتنازل عن شيء من مبادئه، وظل وفياً لرسالته الفريدة في اللاعنف على الرغم من العنف الطامي الذي طبع العقود الأخيرة، في البلاد العربية والإسلامية، ومع أنه كان دوماً إلى جانب الثورة، ولكنه لم يتورط أبداً في تبرير الدم.
وعلى الرغم من الشهرة الكبيرة للرجل، واعتبار فكره وكتبه مادة أساسية في الدراسات الدينية والاجتماعية، ولكنه اختار أن يغادر العاصمة ويقيم في قرية بعيدة على حدود القنيطرة “بير عجم”، كان يمارس فيها عملاً زراعياً بسيطاً كفلاح ونحال، يتكسب من جنى النحل، ويركب دراجته إلى المسجد، ثم يعود إلى بيته المتواضع تماماً كما هي سنة الآمرين بالقسط من الناس.
كان جودت أول من تحدث بصراحة وشجاعة عن بؤس الاستبداد في سوريا، وقد كلفه ذلك باستمرار مطاردة السلطات الحاكمة وقد دخل السجن مرتين دفاعاً عن أفكاره، ومع أنه لم يقدم نفسه زعيماً سياسياً ولكنه كان بالفعل كذلك.
ومع أن أشهر ما ميز جودت هو موقفه من العنف كله، واختياره سلوك اللاعنف منهجاً وسبيلاً، ولكن الجانب الذي تقصده هذه المقالة هو موقف الأستاذ الجليل من إخاء الأديان والإخاء الإنساني عموماً.
كان الشيخ جودت أول من شرح بإسهاب ووضوح خطورة احتكار الخلاص الذي يمارسه أتباع الديانات عموماً، وبشكل خاص رجال الدين في الإسلام، وما يعنيه ذلك من غرور المسلم ونرجسيته، حيث يتم تقديم المسلمين كأمة خاصة محظية عند الرب، لا يعترف بأمة غيرها!! ويتم تصوير الإسلام سبيلاً وحيداً للوصول إلى مرضاة الرب، وأن جميع الأديان والملل والنحل زاهقة خاطئة، لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً، وأن سبيل الخلاص هو الكفر بشرائع الجاهلية وتحطيمها والاحتكام إلى الإسلام.
وشرائع الجاهلية كما يقصد رجال الدين هنا لا تقتصر على الوثنية القرشية التي كانت تعظم الأصنام وتكفر بالنبوة وتحاربها بل إنها تتوجه ضد كل المنقول في ثقافات الأديان، ويشمل ذلك نسخ الأديان جميعاً من مسيحية ويهودية وصابئة ووجوب البراءة من كل ما فيها من قيم وخير، واعتبار أي اهتمام بها بمثابة الزندقة والتهوك على الإسلام! .
وبالطبع فإن هذا الحال من إنكار الآخر ليس شأن الخطاب التقليدي الإسلامي وحده بل هو أيضاً شأن الخطاب المسيحي واليهودي، فقد تورط الجميع في احتكار الخلاص ورفض إيمان الأمم، وبدا لكل دين أنهم يملكون مفاتيح الجنة فيما يملك الآخرون مفاتيح الجحيم!
لم يقبل جودت أن تمنح أمة من الأمم مزية على الأمم بسواد العيون، وظل يعتقد بأن أخطر ما وقعت به الأديان أنها تلغي الآخر.
لقد ظل يصرح دوماً بأن الإنسانية أسرة الله وعائلته، وأن الخلق جميعاً عيال الله، وأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
صرح جودت بأن أربعة أمراض وقعت فيها الأمم وحدثنا عنها القرآن:
1.وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق!
2.وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم!
3.وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا بل ملة إبراهيم حنيفاً!
4.وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب!
هكذا رددنا بكل بلاهة ما قالته الأمم الأولى!! فقلنا نحن أولياء الله وأحباؤه، وقلنا لن يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، وقلنا ليست اليهود والنصارى على شيء، ولن يدخل الجنة منهم أحد، ثم قال جودت بمرارة: “لقد كررنا ما قالوا، واتبعنا سنن الذين من قبلنا شبراً بشبر وذراعاً بذراع!! حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلنا فيه”!
لا يمكن لدين أعلن عن نفسه رحمة للعالمين أن يفكر بهذه الطريقة، كيف يمكن للمسلم أن يؤمن بأن الله خلق المسلمين للجنة وخلق الآخرين للجحيم!! ولماذا لا يقبل الله العمل الصالح من كل قلب نظيف؟ وإذا كانت هذه الأمم غير مؤهلة للسعادة ولا للرحمة فلماذا يخلقهم من جديد؟؟ إن نسبة المسلمين ثابتة منذ قرون وهم يشكلون ربع البشر، فلماذا يخلق الله ثلاثة أرباع الكوكب ويرسلهم إلى الجحيم؟؟؟ مراراً قال: “هل يتصور أحد ظلماً مثل هذا؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم”.
وطالب جودت سعيد أن ندرك منطق المساحة المشتركة التي نصبها الإسلام مع الأديان، وهي في زمن رسول الله الكلمة السواء التي شرحها القرآن الكريم: أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فهذان الشرطان البسيطان لا يزيدان على اعتقاد وجود الخالق والعدل بين الناس، وهذا يكفي لبناء علاقة إيجابية حميدة بين الإنسان والإنسان.
وراح جودت يؤكد أن المساحة المشتركة هذه ليست قدراً لازباً على التاريخ كله، بل هي مناسبة في طوائف محددة من النصارى، ولكن هذه المساحة المشتركة لا تغني شيئاً اليوم في بناء الثقة والتعاون بين المسلمين وبين الصين مثلاً أو اليابان، حيث لا يمكن اعتبار وحدانية الله شرطاً جامعاً مع هذه الأمم العظيمة، بل يجب البحث عن مساحة مشتركة أخرى تحظى بالمقبولية وتتفق مع مقاصد القرآن، فهذه المساحة المشتركة مع الأديان تطرحها الآية منهجاً منتجاً للمواقف المناسبة في كل تعاون، وليس قدراً أصم يحكم التاريخ!
في دمشق اختار جودت أن يزورنا في كل شهر مرة في جامع الزهراء، فيصلي معنا أول يوم جمعة في كل شهر، ثم يتحدث للحضور الكريم، وكان أحبابه ومريدوه يعرفون ذلك ويحضرون للصلاة في ذلك اليوم، ليستمعوا للرجل الذي كان يفيض صفاءً واستقامة ويبشر بعصر من الإخاء والمساواة بين الإنسان والإنسان.
في خطبتي على المنبر تحدثت ضد احتكار الخلاص، دفاعاً عن عدالة الله تعالى، وقلت فيما قلت: “إن العالم مليء بالأمم التي لم تسمع بالإسلام، وإن الله لن يحاسب الأمم التي لم تسمع بالإسلام، ولا بد أن تقوم الحجة البالغة على الناس قبل أي شكل من الحساب”.
وقلت في خطبتي: “إن في غابات الأمازون ومجاهيل أستراليا وأفريقيا شعوباً وقبائل لم تسمع بالإسلام، ولا بنبي الإسلام ولا بنصوص القرآن فكيف يحاسب هؤلاء؟ وأي عدالة هذه التي تقضي بزج هؤلاء في النار؟؟؟ وقلت إنهم دون شك ناس من أهل الفترة الذين لا يحاسبهم الله في الدار الآخرة، وفق نص القرآن الكريم: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)”.
بعد الخطبة تحدث الشيخ جودت رحمه الله، وعلى الفور قال للناس: إن الشيخ حبش يقول إن هناك قبائل وأفراداً في غابات الأمازون وفي مجاهيل أستراليا لم يسمعوا بالإسلام، ولا بالرسول ومن غير المنطق أن يحاسبوا ولم يصلهم البلاغ المبين! وطالبنا باعتبار هؤلاء من أهل الفترة الذين لا يقع عليهم حساب ولا عذاب!!
وبعد صمت استنكاري التفت إلي الشيخ وقال: “يا أخي… وهل تعتقد أن الناس في أوربا وآسيا وأمريكا قد سمعوا بالإسلام؟؟ ما هو الإسلام الذي سمعوا عنه وقامت عليهم به الحجة؟؟ لقد سمعوا بالإسلام الذي قدمته لهم القاعدة في غزوة مانهاتن!!! وفي تفجير الأنفاق في باريس ولندن، وفي حروبنا وخيباتنا واقتتالنا الذي لا ينتهي وتنسكب فيه الدماء ويظهر السيف ويغيب القلم، وفي تخلفنا الحضاري عن ركب الأمم… أهذا هو الإسلام الذي تقوم به حجة الله على عباده”؟؟؟
قال لي: “يا شيخ هناك ناس في لندن وباريس لم يسمعوا بالإسلام الذي تقوم به الحجة! هناك ناس في بلدك هذا لم تقم لله عليهم حجة، فهم لم يسمعوا من الإسلام شيئاً يقنعهم ليغيروا بلادهم وأوطانهم وعوائلهم ومجتمعاتهم ويلحقوا بالمسلمين… ثمّ قال لي: “يا أخي الناس لا تتحول من دين إلى دين بفصاحة خطيب، ولا بموعظة واعظ… لا يمكن لأي خطيب مهما كان فصيحاً أن يقنع العالم بأننا رائعون وأن الحضارة فاشلة، لا يمكن أن نعيش البؤس والفشل ثم نقول للناس نحن أهل الحق.. اتركوا أديانكم واتبعونا”!!
وفي حديثه عن القيم الموجودة في التوراة والإنجيل، كان يرسم ملامح قاعدة علمية بسيطة يكررها كل يوم: “نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم”.
في كل أمة حكمة وفي كل كتاب نور، واختيار الرجل قطعة من عقله!، ونحن مأمورون أن نستمع القول فنتبع أحسنه، وقد أمرنا الله تعالى بقوله: “اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم”.
وربما كان جودت سعيد أكثر دعاة الشرق شجاعة وانفتاحاً، وكان يذكر عمانويل كانت وسبينوزا وليبتنز ورينيه ديكارت إلى جانب الغزالي والشاطبي وابن رشد، فالإنسانية عائلة واحدة، والخالق مولى الجميع، وأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله.
وفي وعي إنساني فريد تجاوز الشيخ جودت العائلة الإبراهيمية وانطلق إلى العائلة الإنسانية، ونشأت علاقة واثقة بينه وبين الدالاي لاما رأس الديانة البوذية، وربما كان الفقيه العربي الوحيد الذي تواصل مع البوذية، وأشار للمشترك الإسلامي البوذي في إخاء الأديان وكرامة الإنسان.
رحل الرجل الذي ملأ حياتنا إيماناً بالإنسان، وظل ينادي بوضوح وصراحة: “يا ناس! نحن أمة من الأمم، ولسنا أمة فوق الأمم، دين بين الأديان ولسنا ديناً فوق الأديان، نبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء، والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق على الله أنفعهم لعياله”.
الناس نيوز
—————————–
جودت سعيد .. اللاعنف في الربيع العربي/ نبيل البكيري
شغل المفكر السوري الإسلامي، جودت سعيد، حيزا كبيرا من النقاش والحضورين، الفكري والثقافي، عقودا طويلة، وخصوصا في صفوف المثقفين الإسلاميين والمحاضن التربوية الإسلامية التي تلقى بعض روادها أفكار الرجل بنوعٍ من التبخيس والازدراء، وخصوصا في ما يتعلق برؤية اللاعنف التي بذل سعيد نفسه لها منظّرا وكاتبا ومحاضرا عقودا طويلة.
تلقى كثيرون من شباب الحركات الإسلامية أفكار جودت سعيد بنوع من القبول الذي لم يكن متسقا مع بعض المراجع الفكرية الحاضرة في مناهج هذه الجماعات والحركات ومحاضنها، لكن أفكار الرجل حضرت وبقوة منذ ما بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، وفرضت وجودها خطابا أكثر اتزانا وسلاما واتساقا مع رسالة السلام التي تُعلي منها القيم والمفاهيم الإسلامية الدعوية كـ “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، ففي ذروة الخطاب المتشدّد الذي ساهم الغرب، بسياساته المتغطرسة تجاه العالم الإسلامي، بإشاعته وتشجيعه، والدفع نحوه ليسهل تمرير خططه واستراتيجياته التي أثبتت الأيام فشلها وعقمها، كما رأينا الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد أكثر من عشرين عاما من الحرب ومطاردة الأشباح في أفغانستان، في تلك الذروة، كان ثمّة خطاب آخر مختلف تماما، يتزعمه الأستاذ جودت سعيد، يرى أن العنف والسلاح لن يصنعا السلام والحرية، بقدر ما يؤسّسان لدوامة الحروب وعسكرة الحياة كلها، حتى آخر لحظة في التاريخ.
أصدر جودت سعيد كتابه الأهم، “مذهب ابن آدم الأول”، فكّك فيه قوله تعالى “لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ، إني أخاف الله رب العالمين”، فمثل هذا الخطاب الذي غاب كثيرا في سياقات الخطاب الإسلامي العام وتضخم مقابله الخطاب الآخر، خطاب العنف والدم، الذي غذّى جماعات ومحطات دموية كثيرة في العالم الإسلامي، واستثمرت فيه أيضا الأنظمة الاستبدادية لتبرر لنفسها الإفراط في القمع والتنكيل لكل من يقول لا في وجه الظلم والفساد والاستبداد. لكن هذا الخطاب الذي كان يشتغل عليه جودت سعيد كان مبنيا على تصوّر كامل في ذهن الرجل، واشتغل عليه طويلا، من خلال سلسلة كتبه التي عُدّت مشروعا متكاملا، يكمل بعضه بعضا، من “حتى يغيروا ما بأنفسهم”، ومفهوم التغيير، و”اقرأ باسم ربك الذي خلق”، و”لا إكراه في الدين”، كل هذه السلسلة الفكرية كانت ترتكز على مفهوم واحد في التغيير، وهو التغيير السلمي اللاعنفي، والذي ينبغي أن يكون طريقا وحيدا للإصلاح والتغيير.
وفي ذروة اليأس وبعد موجات طويلة من القمع والسجون والمنافي، التي ارتكبتها الأنظمة العربية المتعاقبة عقودا، ومع بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، بدأ أول تنبؤات جودت سعيد بالتحقق، مع هبوب أصوات شباب الربيع العربي التي خرجت إلى الميادين والساحات والطرقات، مطالبةً بتغيير الواقع المزري الذي حل بالأوطان العربية، عقودا من التجريب من كل التيارات السياسية، بمختلف مدارسها وانتماءاتها، التي وصلت إلى السلطة بالانقلابات، ثم ارتكبت كل صنوف التنكيل والظلم والقمع بحقّ شعوبها، بعد أن كانت تشكو من ذلك القمع والظلم.
ما يُراد قوله هنا إن مدرسة جودت سعيد اليتيمة في هذه اللحظة العربية الفارقة، ونال صاحبَها كل ألوان التهميش والتبخيس من مختلف التيارات الإسلامية واليسارية والقومية، أثبتت قدرتها على التحقق، من خلال ما أحدثته ثورة الربيع العربي السلمية، التي استطاعت بسلميّتها إزاحة أنظمة كانت متحكّمة في المشهد. وبغض النظر عن مآلات ما بعد هذه الثورة التي لاقت كثيراً من الشيطنة والمؤامرات، إلا أن سلميّتها كانت الخيط الناظم لها، وعصاها السحرية.
وجد الرجل نفسه من أول يوم في قلب ثورة الربيع العربي، بأفكاره ومشروعه اللاعنفي، عدا عن حضوره العديد من فعاليات الثورة السورية، محاضرا ومتحدّثا ومرشدا. ومع ذلك، لاقى من الأذى الكثير، فقد حكى لي، في أحد لقاءاتي به، أنه ذات يوم كان متحدّثا في أحد تجمّعات شباب الثورة السورية في منطقته، وإذا بأصوات تعلو مشوّشةً على خطابه، فقال لهم حافظوا على سلمية ثورتكم حتى لا يختطفها العدميون، ويزجّونها في أتون عنفٍ يريده النظام ويصنعه على عينه، حتى يتسنّى له القضاء على ثورتكم بتجريدها من سلميّتها فينقضّ عليها عنفا.
يدرك الجميع اليوم أن عظمة الربيع العربي ليست في ما حققت ثوراته من أهداف، وإنما فيما أثبته للعالم كله، من مدنية وحضارية الشعوب العربية، وطاقتها الحضارية التغييرية الكبيرة التي تكتنزها في لاوعي أفرادها وثقافتها، الطاقة الخلاقة للفعل والتغيير، والتي تفتقر إليها مجتمعات كثيرة تدّعي اليوم الديمقراطية والمدنية والحضارية، وهي لا تقوى على أي حركةٍ احتجاجيةٍ مطلبية في مجتمعاتها، لهول الخراب الذي يحل أداةً للاحتجاج والرفض.
ومن هنا، كان جودت سعيد يقول إن العنف ليس وسيلة للتغيير، وإنما وسيلة لاستدامة العنف والظلم، فمن يأتي بالعنف سيرحل بالعنف وهكذا. وبالتالي، كان الأستاذ يدرك هذه الحقيقة جيدا، فكان شديد الرفض لها مطلقا، لمعرفته أن مثل هذه المقدّمات كفيلة بنتائج أشدّ عنفا وخرابا، فعكف الرجل طويلا في التأصيل والتنقيب عن سنن التغيير الأجدى والأصلح في حفظ سلامة المجتمعات وأمنها واستقرارها، بعيدا عن دوامة العنف التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
يعتقد بعضهم هنا أن أسلوباً كالذي اشتغل عليه جودت سعيد كان مثاليا وطوباويا، لا يمكن تحقيقه، ولكن ما آلت إليه ثورات الربيع العربي، وانجرارها إلى العنف أثبت نجاعة ما دعا إليه جودت سعيد، وإن كان هناك من اختلف معه في ذلك، لكن يبقى أن التغيير السلمي، وإنْ لم يحقق أهدافه الآنية، يحفظ للمجتمع قنواته وطاقته التي ستظلّ تبحث عن ظرفيةٍ مناسبةٍ للتغيير والثورة بعيدا عن دوامات العنف التي تفرغ هذه الطاقة في صراعٍ لا ينتهي.
كنت يوما في عام 2016 في حديث مع جودت سعيد في منزله في إسطنبول. وبينما نحن مستغرقان في النقاش، سألني عمّن استهدف الرئيس اليمني الأسبق، علي عبد الله صالح، في جامع النهدين في عام 2013. وكان هذا قبل أن تقتله مليشيات الحوثي في 2017، فقلت له إن هذا لا يزال لغزا، لم نستطع تفكيكه، فقال لكنّ صالح يستحق ما ناله. وضحكتُ وقلت له: هذا خروج عن منهجك المعهود في التغيير. .. ضحك وقال لي: المجرمون لا يتركون مجالا لخصومهم أن يقاتلوهم بالسلمية، لأنهم ينهزمون بالسلمية، فيبحثون عن العنف لينتصروا به على خصومهم السلميين.
ختاما، كان جودت سعيد وسيظل رمزا لمدرسة اللاعنف في الفكر الإسلامي المعاصر، وأهم مفكّريها ومنظّريها، الذين قدّموا رؤية متكاملة، عن نسق هذه المدرسة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في عالمنا الإسلامي الذي تتنازعه مشاريع شتى، للعنف والعنف المضاد. كما أن مدرسته هذه بحاجة ماسّة للاشتغال على أفكارها وإبرازها للأجيال الصاعدة، لمواجهة كل هذا العنف والانحطاط السياسي الذي تعيشه منطقتنا وعالم اليوم ككل.
رحم الله الأستاذ جودت سعيد وأسكنه فسيح جناته.
العربي الجديد
———————-
تقدير الراحل جودت سعيد/ راتب شعبو
في الأيام السورية الأخيرة، أظهر كثير من السوريين المساندين للثورة ضدّ نظام الأسد، كثيرًا من التقدير للراحل الشيخ جودت سعيد. التقدير الذي تجلّى واضحًا مع شيوع خبر وفاة الشيخ في 30 كانون الثاني/ يناير من هذا العام، وامتلاء صفحات (فيسبوك) بصور الراحل وتكرار عبارات التقريظ والإشادة بفكره واستذكار اللقاءات معه، حين يكون ثمة لقاءات وصور مشتركة. الحقّ أن وجود تقدير سوري مشترك لشخصية سورية ما، هو مما يثلج الصدر ويسند الأمل، بعد أن بلغ التشظي السوري حدًا يشبه التحلل. نحن بحاجة ماسة إلى ما يجمعنا، كما نحن بحاجة إلى ما نفتخر به في حاضرنا. والحق أيضًا أن في سيرة الراحل وفكره ما يستحقّ التقدير الذي أظهرته قلوب كثير من السوريين.
هنا مكان للإشارة إلى العمق الإنساني والفكري للراحل، وإلى أهمّيته المضاعفة لأنه ينطلق من المتن الثقافي المشترك والسائد (الإسلام) كي يصل إلى خلاصات فكرية ودلائل عمل إنسانية شاملة، ليست مفروضة على المسلمين من خارج غريب، بل نابعة من صلب الدين ويتكلم بها “شيخ” من بينهم، بعيد كل البعد عن بهرجة المشيخة وتعاليها ورسمياتها.
إن ملاحظة جودت سعيد أن الصراع على السلطة أرهق العمل الإسلامي وقاد إلى كوارث، من دون أن يعني بقوله هذا التمهيد للاستسلام والقبول بالسلطات القائمة، بل بالأحرى التشديد على أهمية العمل المدني والإصرار على رفض العنف، نقول إن هذه الملاحظة تشكل أساسًا لخطة عمل كاملة تستحق أن يُبنى عليها ويُهتدى بها. ويجد صاحب هذه السطور أن هذا الخط من النضال المدني يشكل، على وعورته ومشقته، بصيص الأمل في أن يمتلك السوريون تاريخهم ويستعيدوه من يد سلطات تتوالد بالعنف ومن العنف وتتشابه أكثر بكثير مما تختلف.
لكن ما يستوقف المرء هو أن يرحّب سوريون معارضون كثر بالعنفية وبالسلمية معًا، بالسلاح وبرفض السلاح، في الوقت نفسه. ومن اللافت أن يلقى صاحب هذا الفكر السلمي المدني “المتطرف” في رفض العنف، التقديرَ من نخبة سورية أظهرت وتظهر القدر نفسه من التقدير لمن هم على ضفة مغايرة أو معاكسة، نقصد رموز العمل المسلح وأبطاله على مسار الصراع السوري المستمر. ليس الغرض من هذا القول استنكار موقف هؤلاء السوريين، ولا استهجان المفارقة المذكورة، بل نقدها ومحاولة فهم دلالتها.
على تباعد نظرة وتفكير “غاندي سورية” أو “غاندي العالم الإسلامي” وتصوّره للتغيير، من نظرة وتفكير رموز الثورة المسلحة في سورية، فهناك ما يجمعهما وهو معاداة نظام الأسد. التقدير الذي يظهره هؤلاء السوريون للطرفين إذن هو في الواقع تقديرٌ للموقف المعارض للطغمة الأسدية، بصرف النظر عن التباينات في الوسائل بين أصحابه. المهم أن تكون في الموقع المعارض. ومن نافل القول أنه ما كان الشيخ سعيد ليحوز ذلك المستوى من التقدير، لو لم يكن موقفه المعارض لنظام الأسد صريحًا. هذا هو الأساس الذي يشرح المفارقة المذكورة، نقصد الجمع بين تكريم داعي السلمية وداعي العنف في الوقت نفسه.
لم يتبلور لدى السوريين، خلال عقود القمع السياسي التي عاشوها، تصور أو نظرية معتبرة، بشأن سبيل التغيير الممكن في بلدهم. الأحزاب السياسية التي عارضت، إلى هذا الحد أو ذاك، نظام الأسد، خلال هذه العقود، رسمت تصورات مختلفة، منها السلمي الذي ينتظر (أو يحرض على) ثورة شعبية تغير النظام، ومنها العنفي الذي يرى أن التغيير لا يمكن بدون عنف تتولى إطلاقه “طليعة” مقاتلة، ومنها من وجد أن السبيل الوحيد للتغير هو “الإصلاح”، وأن الالتحاق بالنظام والعمل من الداخل أجدى من المواجهة المحسومة النتائج معه. الواقع أن كل هذه التصورات فشلت، ولم يبلور السوريون بعد هذا الفشل، الذي تجلى واضحًا في السنوات التي تلت مجزرة حماة (شباط 1982)، تصورًا عن سبيل محدد للتغيير.
لكن ما تبلور بشكل حاسم لدى معظم السوريين، على اختلاف تصوراتهم عن سبل العمل، هو رفضهم النظام السياسي الذي أزرى بهم وببلدهم، والذي بدا، إلى ذلك، مؤبدًا. وهكذا حين خرج السوريون، بعد طول انتظار، يعبرون عن رفضهم، لم يكن لديهم تصور مشترك ومفكر فيه إلى الحد الذي يجعلهم يقاومون المجرى “الغريزي” للحدث. هذا ما يفسّر عبارة “كنا مرغمين على حمل السلاح”. والحق أنه لا يمكن الشك في أن مواصلة الاحتجاج ضد نظام من طبيعة نظام الأسد كانت تستدعي حمل السلاح، فقد كان من غير الممكن استمرار المسار السلمي الحاد (التظاهرات وغيرها من السبل السلمية) أمام تمادي نظام الأسد بالعنف.
مع ذلك، يبقى السؤال الذي على السوريين حسمه: هل استمرار الاحتجاج بالسلاح أفضل من التوقف عن الاحتجاج في لحظة ما، تحت ضغط العنف؟ يبدو هذا السؤال ثقيلًا، لأنه يوحي، في جانب منه، بالعجز: إما أن تواصل بالسلاح وتنتهي بكوارث، وإما أن تستسلم لأن الاحتجاج السلمي لا يستمرّ في مواجهة القمع الوحشي. غير أن هذه قراءة خاطئة للسؤال؛ فالسبيل السلمي الذي دافع عنه الشيخ الراحل لا يقتصر على التظاهرات والسبل الاحتجاجية السلمية الأخرى، بل هو عمل مستمر ويومي، ولا يقتصر على لحظات الذروة التي تتجلى في الاحتجاجات الشعبية الواسعة.
العمل المسلح أو التغيير بالعنف لا حضور له إلا في لحظة الذروة، إنه فعل مقطوع بطبيعته عن السياق الطبيعي لحياة المجتمع، ولا وجود له خارج لحظة الاحتدام الأقصى للصراع. أما العمل السلمي فهو عمل مستمر، لا تشكل الذروة فيه أيّ أشكال الاحتجاج السلمية الواسعة، مثل التظاهرات والإضرابات والعصيان المدني، سوى استمرارٍ للعمل التغييري السلمي الملازم للحياة اليومية، من تضامن مدني ونشر وعي مدني وحقوقي “حتى يُغيّروا ما بأنفسهم” (الآية التي جعلها الراحل عنوانًا لأحد كتبه، وجعل شرحها متنًا للكتاب)، وكشف حالات القصور والفساد والتعدي والتعذيب، بحيث يصبح الناس أكثر وعيًا بمجتمعهم. ولا ينبغي أن يكون غرض هذا النضال المدني السلمي اليومي وانشغاله الأساسي هو الوصول إلى إدانة ورفض السلطة السياسية القائمة، وإن كان هذا تحصيل حاصل، بل الأساس هو إدانة ورفض التقصير والفساد والتعديات على حقوق الناس، بحد ذاتها.
على هذا؛ فإن التظاهرات والإضرابات العامة ليست سوى اللحظات الحادة في اللاعنف الذي يدعو إليه صاحب “مذهب ابن آدم الأول”، بل هو عمل يومي تراكمي مديد وشاق، ولكنه العمل الوحيد المجدي والذي يجعل الناس يمتلكون تاريخهم، ويعيد للناس ما للناس.
مركز حرمون
—————————-
=====================
تحديث 04 شباط 2022
———————-
جودت سعيد .. شيخ السلمية واللاعنف/ عمار ديوب
يقول: أعطاني القرآن الكريم قوّة غير محدودة. لقد تجاوز بها انتماءه الأقلي، للأقلية الشركسية، وللسلف وللآباء. راعه منذ الستينيات سيطرة الاستبداد؛ فدخل السجن بعد مظاهرةٍ من أجل الحريات، واكتشف حينها أن القضية تتجاوز الاستبداد السياسي؛ فهناك الاستبداد الديني أيضاً، وحينها بدأ سيد قطب يؤسس لمفهوم العنف وسيلة للوصول إلى الحكم. في محتبسه، وضع الأفكار الأولية لكتابه التأسيسي للسلميّة، مذهب ابن آدم الأوّل، ورفض فيه مفهوم الجهاد بالقوة، وكل مدارس الفقه التي أَعلت من الجهاد والعنف، ودعا إلى مفهوم الجهاد بالأفكار، بأفكار القرآن والعلم والعقل، وأن شرط الجهاد العدل أولاً، ومن دون تطبيق العدل سيسود التسلط والاستبداد والقهر. لم يعترف إلا بالحكم الراشدي في الإسلام، وبعد ذلك كانت الأنظمة التي سادت استبدادية، وتحت ظلها كُتبت الثقافة الإسلامية وكذلك الفقه، وهذا أفقدهما الانتماء الحقيقي، كما يرى، للقرآن ولسيرة النبي.
لم تُغره المؤسسات الدينية القائمة، فعمل مدرساً بشهادته الجامعية في الستينيات، الأدب العربي، وسرعان ما طُرد من التعليم بسبب أفكاره، فعاد إلى العمل في قريته، بير عجم، فلاحا ومربيا للنحل، وكتابة مقالات في هذه الصحيفة أو المجلة، وتابع سلسلة كتبه عن السلمية والحرية والديمقراطية والإشادة بالعقل والعلم وتغيير الوعي؛ فعاش فقيراً، ولم يطمع في ثروات الأرض والناس أبداً. انطلق الشيخ من الواقع، وحياة الناس، لفهم القرآن الكريم، وليس من السلف أو ما اعتاد عليه الآباء؛ فأقام الصلة بين حاجات الناس ونصوص القرآن وشواهد التاريخ. أغرته كثيراً آيات الأنفس والآفاق، أي العلم والتعقل والأفكار، والعلوم المبتكرة، ومنها وعلى أساسها تتطوّر المجتمعات، وكذلك الديمقراطية. كان داعية صلباً للأخيرة، وللوحدة أيضاً. في 1961 رفض الانفصال (بين سورية ومصر)، وأكد كثيراً على ضرورة الوحدة العربية، أسوة بالاتحاد الأوروبي، الذي يُكثر من الإشادة به في كل فيديوهاته ومحاضراته، فبعد قتال وتدمير للمدن الأوروبية يتحدون.
في أوائل التسعينيات، صادفت بعض تلاميذه، كانوا رفاقاً لنا في الجامعات، حيث كنا نُساق إلى التدريب الجامعي العسكري، فكانت الحوارات معهم ناضجة، وذكية، وفيها كلام كثير عن العقل والعلم والتاريخ والحريات وعن: لا إكراه في الدين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. تكرّر الأمر ذاته في بداية الثورة؛ أثاروا إعجابي باندفاعهم إلى تأييدها. الشيخ جودت ذاته ذهب إلى مدينة جاسم في درعا، وإلى دوما، وإلى سواهما. كان يعنيه ألا يندفع الشباب نحو العسكرة أو الجهاد بأية طريقة؛ هوجم، رفض بعضهم حينها أفكاره. وطبعاً، مع تعزّز العسكرة والأسلمة السياسية والسلفية والجهادية، أُبعد الرجل نهائياً عن الفعالية، وعاد ليتحرّك ضمن دوائره الأصلية، ودوائر ثقافية جديدة، وإعطاء بعض المحاضرات والاستجابة لندواتٍ هنا وهناك. لم ييأس على الرغم من ذلك، ولكن جرحه تعمّق أكثر فأكثر، فتراه يكرّر، ألا تفهمون، ألا تتعلمون، لقد تعبت كثيراً لأصل إلى هذه الأفكار، ويضيف: خذوها مني، واذكروها، وليس لدي شيء سريّ، أنا أتكلم في العلن فقط. نغمة الشعور بالتعاسة واضحة الدلالة في ذلك كله.
الحرب انتهت؛ عبارة يكرّرها كثيراً. وبرأيه، بعد اكتشاف القنبلة النووية، وامتلاك عشرات منها من الدول القوية، لا يلجأ إلى الحرب إلا الجاهل والغبي، والخبيث يدفعهما إليها، ليحصد الثروات ويدمر الشعوب. كان يبني أفكاره على مقولته السابقة، وباعتباره يرفض الاستبداد بكل أشكاله، وينطلق من رفض الاستبداد الديني، رفض الانغلاق والتعصب والعدوان واستخدام القوة والسلاح. تكراره آيات الآفاق، كان يبتغي منها أن نتعلم من الغرب، والشعوب المتقدّمة، وننهض؛ كثيراً ما تراه يتطرّق للعلوم الاجتماعية أو الطبيعية، ويُكثر الكلام عن الفيزياء، والتاريخ وعمر الأرض والبشرية. من يستمع إليه، سيقول إن هذا الرجل لا ينتمي للنص القرآني، وفعلاً وجِهت له اتهامات باطلة، بالعلمنة، والماركسية، والرجل في بعض كتبه يشيد بالأخيرة، وبفهمها للتاريخ، ولدور أدوات الإنتاج في التغيير الاقتصادي والاجتماعي.
اعتقِل خمس مرات، قبل عام 2000، وبعده. شارك في التوقيع على إعلان دمشق 2005، وألقى المحاضرات في الصالونات التي سَمح بها النظام بعد عام 2000. عقليته المنفتحة جعلته يندفع إلى مشاركة العلمانيين والليبراليين والماركسيين. لم يعرف التطرّف والتعصب إلى قلبه سبيلاً، وهو الشيخ المؤمن، المتفقه بآيات القرآن الكريم، والشارح لها. كان انتماؤه للعصر دقيقاً، فأراد مواءمة الدين والتطور، وإعادة تأويل الدين وفقاً للعقل والعلم والديمقراطية والحرية والعدل أيضاً. ثَمّنَ الديمقراطية كثيراً، وسَخِرَ ممن يعتبرونها كفراً، وهي مرتبطة بتطبيق العدالة.
الطغاة صنم، وأوروبا أنهت عبادة الفرد، وهي شرك. المشكلة ليست في الآخر، المشكلة فينا نحن. أشاد طويلاً بتجربة اليابان، وانتقد الثورة الجزائرية، لما قدّمته من ملايين الشهداء؛ المقصد هنا أنه يريد الحفاظ على حياة الناس. أراد للنضال أن يكون سلمياً، وسُمّي لهذا بغاندي العرب. كرّر مع أستاذه المفكر الجزائري، مالك بن نبي، أن فلسطين ليست أكبر مشكلة لدينا، بل غياب الحريات والديمقراطية، وبدونها لن تعود فلسطين، وستبقى إسرائيل، كياناً عنصرياً إحلالياً في منطقتنا.
قضيته المركزية، كيف نتخلص من التخلف، ونحقق النهضة بكل أشكالها، الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافة، بل ومساواة المرأة بالرجل. قَبض الشيخ الجميل بقلبه على القضية المركزية عربياً وإسلامياً؛ قضية النهضة، وأنها غير ممكنة من دون انتهاج الخط الأوروبي في التطور؛ التصنيع، الديمقراطية، الحريات، المساواة. ولهذا يقول شيئاً، يرفضه كثيرون، إن العالم لم يخلق مرة واحدة وانتهى، بل هو في خَلقٍ وزيادةٍ بصورة مستمرة، أي ما تأتي به الأنفس والشعوب “الآفاق”، وما أتت به أوروبا منذ خمسة قرون؛ علينا تملكه، حيازته، والانطلاق منه، والقرآن يحثّنا نحو العلم والعقل، ويتساءل: لو تخلينا عما ذكرنا، ماذا يبقى لنا؟
يستغرب كثر إصرار الشيخ جودت سعيد على السلمية، ورفضه الكامل الجهاد بالقوة والعنف. ولأنه قال بذلك، فقد رفض أغلبية رجال الدين الإسلامي رؤيته تلك. كانوا لا يفهمون كيف يمكن مواجهة الاستبداد أو الاستعمار بالسلمية. لديه قولٌ معبّر جداً، من يؤمن بالجهاد والسلاح إلهه مسلح. القصد هنا، وعلينا ألا ننسى فكرته عن أن الحرب انتهت، أن من يصل إلى الحكم بالسلاح سيوجهه إلى صدور الناس من جديد، وهذا دقيق للغاية؛ إذا التطور وبناء الأمة مرتبط بالسلمية، وليس بالعنف وبناء السلطة الدينية أو البشرية عبر السلاح.
رفض تسليح الثورة السورية، والدخول في أية مؤسسات دينية تابعة للثورة، فهي ليست مستقلة تجاه الخارج والتمويل. أية قراءة دقيقة لتجربة العسكرة في الثورة ستوضح الكوارث التي أدّت إليها؛ وهنا لا تتحمّل الثورة تلك الكوارث؛ فالنظام هو من قاد البلاد نحو الخيارين، الأمني والعسكري، ولكن الانجرار نحو الخيار ذاته، كان الأمر الخاطئ، وتتحمّل المعارضة السورية مسؤولية كبيرة فيه، وتحديدا السلفيين والجهاديين، وهؤلاء بالذات ما كَتب الشيخ ضدهم ومنذ الستينيات.
تُوفي الشيخ جودت سعيد في 30/1/2022، وقد استَنزف جسده، الضعيف أصلاً، الاجتهاد من أجل نهضة سورية والدعوة من أجل الحريات والديمقراطية والسلمية. لقد ترك لنا إرثاً ثقيلاً، يجب على كل القوى الفكرية والسياسية السورية أن تستوعبه جيداً؛ كان مناضلاً شجاعاً ضد كل أشكال الاستبداد؛ ليرقد بسلامٍ أبدي.
العربي الجديد
———————–
جودت سعيد ومروان حديد وجهاً لوجه/ عباس شريفة
الشيخ جودت سعيد مفكر سوري وداعية مذهب السلمية واللاعنف، درس جودت سعيد اللغة العربية في جامعة الأزهر، وأقام في مصر عدة سنوات من عام 1945 وحتى عام 1958، وهناك اطلع على الإنتاج المعرفي لأقطاب الفكر الإسلامي كالأفغاني ومحمد رشيد رضا والشيخ محمد عبده، وفي آخر سنة من إقامته تعرف فيها على كتاب لمالك بن نبي “شروط النهضة”، الذي شكل له نقطة تحول في حياته وفكره، لدرجة أنه قرأ الكتاب نحو أربعين مرة من شدة شغفه به، وبعد انقلاب حزب البعث في سوريا 1963 سافر الشيخ جودت إلى العديد مع الدول الإسلامية مع جماعة الدعوة والتبليغ، لينتهي إلى وضع خلاصة فكرية خطة مذهبه السياسي الجديد وهو مذهب ابن آدم الأول.
كتاب ابن آدم الأول
كان الشيخ جودت مقرباً من جماعة الإخوان المسلمين ومن الشيخ عصام العطار بالذات، لكنه ابتعد عن الجماعة في عام 1966، وعكف على تأليف باكورة أعماله الفكرية في منتصف الستينيات كتابه “مذهب ابن آدم الأول”، وهو كتاب يشرح فيه قوله تعالى: {لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك} وعرضه على الشيخ الألباني والشيخ محمد الحامد، حيث كان يحضر دروس الشيخ الألباني ويعارضه في تصحيحه لأحاديث الملاحم والفتن، التي تتحدث عن المهدي والعنف، فضاق به الشيخ الألباني ذرعاً وطرده من مجلسه، وكان سبب تأليف هذا الكتاب هو ما شاهده سعيد من عنف في مصر بين الحركة الإسلامية ونظام الرئيس جمال عبد الناصر ،وكأنه كان يتنبأ بأن هذا المشهد ربما يتكرر في سوريا.
المعارض السياسي الصلب في وجه الاستبداد
في عام 1965 كتب ضابط بعثي اسمه إبراهيم خلاصي مقالاً في مجلة “جيش الشعب” قال فيه: “إن الله والقرآن والنبي هي دمى محنطة يجب وضعها في متحف التاريخ”، فقام الشيخ جودت بتوصيل نسخة من المجلة للشيخ حسن حبنكة الميداني، الذي أخذته الغيرة وخطب الشيخ خطبة قوية يستنكر فيها المقال، فتطورت القضية إلى المواجهة مع نظام البعث في الجامع الأموي، والتي اعتقل بسببها سعيد، وهناك في السجن التقى مع الشيخ مروان حديد الذي كان معتقلاً على أثر حادثة جامع السلطان في حماة، وكان سريره تحت سرير الشيخ مروان الرمز الروحي لما سيعرف لاحقاً بتنظيم الطليعة المقاتلة، وجرت بينهما حوارات طويلة كان يسودها الود حول مذهبه اللاعنفي، الذي لم يوافقه عليه الشيخ مروان، والتقى هناك بالشيخ مصطفى الأعسر والذي كان يعتقد بضرورة مواجهة النظام البعثي بالقوة ، فاجتهد الشيخ جودت طوال تسعة أشهر ليهديه إلى مذهبه اللاعنف، وبعد جهد تسعة أشهر اقتنع مصطفى الأعسر وكان الشيخ مروان حديد يضحك ويقول: عند الامتحان سنرى يا شيخ جودت كيف ستكون النتيجة، وما هي إلا بضعة أيام حتى دخل حارس السجن فتكلم بكلمة مسيئة للمساجين، فما كان من الشيخ مصطفى الأعسر إلا أن قام إليه وتناوله بالضرب، لتذهب جهود الشيخ سدى ويضحك الشيخ مروان حديد من المواقف ، خرج الشيخ جودت من السجن بعد شهور وقرر الذهاب للعيش في قريته بئر العجم في الجولان بعد أن تحررت من الاحتلال الإسرائيلي، وآثر العزلة وانشغل بالزراعة وتربية النحل والمواشي ليأكل من كد يده، مدركاً أهمية الاستقلال المادي في حماية فكرته من التوظيف، وكان يعطي دروسه في مسجد بئر العجم في محافظة القنيطرة عن مذهبه وأفكاره.
الأفكار الأساسية في مذهب الشيخ جودت سعيد
كان مذهب الشيخ جودت يقوم على فكرتين:
اعتناق مذهب اللاعنف من أجل التغيير السياسي؛ لأن للتغيير سننا فكرية واجتماعية راسخة لا يمكن تجاوزها بالعنف والسلاح.
قول كلمة الحق فرض على كل مسلم ولو كان الثمن هو القتل.
وكان يشترط للجهاد شرطين وهما:
شرط في المجاهد بأن يكون الجهاد تحت قيادة قائد مختار من الشعب برضاهم.
وشرط في المجاهَد ضده بأن يقوم بإكراه الناس على اعتناق مذهب أو دين رغماً عنهم.
كان الشيخ جودت يعتقد أن الدول الكبرى أدركت أن دور الحروب في إنهاء الأزمات والمشكلات قد انتهى، وكان لإلقاء القنبلتين الذريتين دور كبير في هذا. ولكن يرغب الكبار في استمرار الحروب بين الصغار، بين القوى الصغيرة، لأن هذا يصب في مصلحة أولئك الكبار.
أما في نضاله السياسي فكان سعيد يرفع شعاره المعروف “لا للسرية لا للعنف لا للتنظيمات”، لم يكن الشيخ جودت يعتقد أن الحل على يد حركة التنويرين العرب كما في الغرب ،وإنما يكون الرشاد بمتابعة أحداث التاريخ والاعتبار بدروسه وسننه.
موقف جودت سعيد من النظام البعثي والثورة السورية
في عام 2004 بدأت المنتديات السياسية نشاطها العلني في دمشق، تداعى عدد من السياسيين لكتابة بيان إعلان دمشق، ولما عرض البيان عليه وجده لا يخرج عما كان يطالب به من الحياة الديمقراطية وإنهاء عهود الاستبداد والتغيير السياسي بطريقة سلمية.
ومنذ انطلاقة الثورة السورية أعلن الشيخ تأييده لها، وزار العديد من المدن السورية وزار درعا في بداية الأحداث، وألقى كلمة في مناسبة عزاء لأحد الشهداء الذين سقطوا على يد جيش النظام. وطلب من الثوار المتابعة في طريق التظاهر والحفاظ على السلمية وعدم التعرض لرجال الأمن والجيش أو مواجهتهم، لكن إجرام النظام السوري لم يدع للشعب السوري خياراً إلا المواجهة، لذلك لم تكن أفكار الشيخ جودت سعيد تلقى أثراً حتى في مسامع محبيه من أبناء داريا التي حملت الورد في وجه جيش النظام فرد عليها بالنار، وبعد وصول المواجهات لبلدته خرج الشيخ من سوريا واستقر في إسطنبول متمسكا بنهجه السلمي في التغيير والإصلاح، لكن دعوته لم تتحول إلى تيار واسع وبقيت محصورة في بعض الشخصيات المقربة منه. كان للشيخ العديد من التلاميذ اشتهر منهم بنته كوثر جودت سعيد وصهره خالص جلبي والدكتور لؤي صافي وأحمد طعمة عبد الأكرم السقا ورضوان زيادة.
واليوم يرحل عنا الشيخ وهو في عقده التاسع مهاجراً في منفاه إسطنبول، حيث لم يشفع له منهجه السلمي بأن يبقى آمناً في وطنه ولم تحمه معارضته السلمية من بطش النظام.
رغم أن أفكار الشيخ جودت لم تصمد أكثر من ستة أشهر في مختبر الثورة السورية، وبالرغم من الانتقادات الواسعة لأفكاره حتى من أقرب محبيه لكنه كان إضافة فكرية مهمة في تاريخ الفكر الإسلامي، ومفكراً متفرداً في موازنته للأمور وفهمه لسنن التغيير بناء على تجربته الطويلة، ومعارضاً صنديداً عنيداً في وجه الاستبداد والطغيان.
تلفزيون سوريا
———————-
جودت سعيد والتجربة السورية .. مساءلة واقعية/ مهنا الحبيل
جدد رحيل الأستاذ جودت سعيد، رحمه الله، الجدل عن تصنيف المثقف، في داخل دائرة الوعي الإسلامي، أو كتعبير أدق الفهم الديني لمبادئ الإسلام. وإذ نُعزّي أهله ومحبيه نؤكد على مساحة خسارة تهميشه الفكري التي ترتدّ على المشرق العربي، والقطر السوري خصوصاً، الذي يعيش آلام المرحلة القاسية، بعد أن أطلق العالم يد النظام الإرهابي في دمشق، مع حلفائه ولعبة الأصدقاء القذرة، ولا يزال الشعب يلمّ شعث بأسها في المخيمات وفي أرض الشتات. وهذه المسالة بالذات دُفع بها في مسرح نعي أو إدانة فكر جودت سعيد، بحكم أنه آمن بخلق مساره الفكري، تحت ميثاق اجتماعي لفهم الحياة الإنسانية في الإسلام، مركزها عقيدة اللاعنف، وخرج عند أول الثورة، في محاولةٍ استدراكيةٍ للاحتجاج على قمع النظام، وهو أحد من عاش دورات متعدّدة للسجن السياسي، كما أن رسالته عند انطلاق الثورة كانت نذيراً تحذيرياً صرخ به غاندي العرب، من مآلات استخدام السلاح في مواجهة الإرهاب النظامي في سورية.
وحتى لو قرّرنا الآن أن مفهوم اللاعنف يحتاج تحريراً موضعياً، وفِقْه واقعٍ أدقّ، لا يمكن أن نُجمله على كل الموقف الإنساني في مدافعة الشر، وحماية الذات. وبالتالي، ليس الأمر على إطلاقه. ولكن الميثاق الذي آمن به جودت سعيد، وأعلنه قبل قصف قريته واستشهاد أخيه، ثم خروجه إلى المنفى التركي، والذي واصل بعده بثّ رسالته، لا يُمكن أن يُعزَل عن الواقع الذي آلت إليه التجربة السورية. وهنا لا نتحدّث عن مبادئ الثورة القائمة المستمرّة، ولا حلم الكفاح السوري في دولة العدالة والحرية، ولكن عن قضية عسكرة الثورة، إلى أين قادت على الأرض، وما هو واقع الجسم العسكري المتبقي، هل يخضع لمبادئ الثورة أم للأطراف الخارجية المتقاطعة. وهي، في مآل عسكرتها، لم تعتمد على ظهيرها الشعبي، ولم تصل إلى مستوى لوجستي يصنع لها تقاطعاتٍ تسمح لها بالتعامل المستقل مع الداعمين، أو المستثمرين لمصالحهم، فتحدّد أين يجب أن تقف مصالح الآخرين، أو وظائفهم مع مصالح الشعب والثورة، وتفرض قراراتها عليهم. وبالتالي، تمضي في سياق انتصار متدرّج، يحمي المدنيين، ويجعلهم أقلّ الأطراف خسارة، ولكن العكس تماماً ما حدث.
ولسنا في طور عرض واقع التشرذم، أو كثافة التوظيف والاستثمار للمشاريع التي أُنشئت باسم الثورة، بغض النظر عن نيات الناس، فبعضهم قتل في الميدان، ولكن استشهاده لا علاقة له بخطئه الجزئي أو الإستراتيجي. ولا نشكك بفدائية شهداء السلاح المنضبط، ولكن في مآل توجيه مشاريع العمل السياسي والعسكري للثورة، فالسؤال في إعادة الموضوع إلى دائرة مبدأ جودت سعيد، حتى مع من لا يتفق معه بالكامل.
وأستذكر هنا شهادة مباشرة حدّثني بها العقيد رياض الأسعد، أحد أبرز قادة الجيش السوري الحر، أنه استشعر مبكّراً توجه الثورة المسلحة إلى حالة انفلات كبرى، وتمكّن وظيفي خطير من فصائلها، يقود لسقوط الميدان، وارتداد ذلك على المدنيين، وبالتالي تُحوّل العسكرة إلى جحيم لا نهاية له، إلا بعد الخراب الكبير وأنهار الدماء، وهذا ما وقع بالضبط، ولا يشك فيه عاقل. يقول الأسعد إنهُ توجه إلى علماء سوريين بارزين، وطلب منهم تحريم عسكرة الثورة، حتى لا تقع سورية في جهنم الوحل الكبير، وقبل أن يُصادَر قرار الثورة، ويُصبح في أيدي الآخرين، وحينها لم يكن الروس قد دخلوا إلى الميدان، إلا أن أولئك العلماء لم يستجيبوا له، ولعل بعضهم أشار إلى صعوبة تقبل هذا الأمر عند الشباب، وخشية ردة فعلهم على المشايخ. والعقيد الأسعد من أكثر القيادات التي عرفتُها في الساحة الميدانية السورية، التي أخلصت لميدان الثورة، بغض النظر عن الحسابات التي آل إليها الميدان، وآثاره المنهكة على الشعب، والتي استثمرها النظام في جدولة إرهابية تحت تغطية دولية وإقليمية وعربية، بعد أن تحوّلت وجبات القتل للشعب السوري إلى مسرح صراع وظيفي في لعبة الأمم.
هنا نستدعي بدقة موقف المفكر الإسلامي الراحل، جودت سعيد، ونحاول أن نطرح نظريته على الواقع في السؤال الآخر: هل كان للنظام فواتير شرسة ضد المدنيين، حتى قبل حمل السلاح وسوف تستمر جرائمه في توقعات ذلك الزمن؟ نعم بلا شك .. وقد كان المقياس الذي أُخذ به في ذلك الحين أن كتائب الجيش السوري الحر كان يؤمل أن تحمي جموع المتظاهرين نسبياً، وتعمل على توازنٍ يُشجّع العسكريين على رفض قتل المتظاهرين، ولكن ذلك لم يحصل، خصوصا أن النظام انتبه مبكّراً، وهو من كانت له يدٌ طولى في التعامل مع المجموعات المتطرّفة، بل وصناعة بعضها في العراق وغيره، فضلاً عن الخبرة الإيرانية، والتفويج الخليجي الوظيفي المتقاطع مع مشروع النظام، ثم قلق الأتراك المبكّر من الإقليم الكردي، وجعل إسقاطه أولويتهم القصوى، ولذلك انتكست كل المسارات، وأصبح السلاح مدخل الجميع.
هنا، يعني أن نستحضر مبدأ جودت سعيد أن الأمر بالضرورة كان تجنيب سورية هذا المآل المروّع، من دون أن تفقد الثورة أرضية مبدأها، ولا حاضنها الاجتماعي، ولا يصل شهداؤها إلى كل هذا العدد، ولا يتهجر 12 مليون مواطن، ومن يحتج على هذا التفكير بالقَدَر، فهو يخالف القاعدة الشرعية المتينة، أن الأصل أن القدر يؤمَن به ولا يُحتجّ به، وإنما التعبد أن تتخذ كل أسباب النجاة والنصر، ولا تدّخر منها شيئاً ولا تتقدّم إلى مرحلة صراع صفرية، لو بدت لك شواهد مهمة، أبرزها فوضى السلاح وتعدّد أمرائه ومصادر قراره. لكن الشيخ المفكر الذي وُوجهت دعوته بالرفض، استُخدمت ضده أرضية تكفير ضمني وظنّي قديماً، وهي حالة لا تخصّه، ولكنها ضمن أزمات الفكر الإسلامي المعاصر.
العربي الجديد
———————————-
ظاهرة جودت سعيد وسوريا الأسد/ رشيد الحاج صالح
يعد المرحوم جودت سعيد، الذي رحل عنا منذ أيام قليلة إلى جوار ربه، من الشخصيات القليلة التي يتوافق السوريون عليها. الرجل إسلامي “معتدل”، ويقوم مذهبه الإصلاحي على الربط بين الإسلام واللاعنف، وهذا يقربه من الذين يعتقدون أن مشكلة الثورة السورية كانت بشكل أساسي مع منظمات وميليشيات وأحزاب الإسلام السياسي. كما أن جمهور المتدينين عموما معجب بأفكاره وإن كان لا يتفق معه في “التسامح أكثر من اللازم” فالرجل محسوب عليهم في النهاية، لا سيما أن افكاره تنطلق من تأويل القرآن الكريم واستخراج رؤية إسلامية، أو ثيولوجيا إسلامية بلغة الفلاسفة وعلماء الإلهيات.
في أيام الثورة الأولى حاول جودت سعيد التأكيد على موقفه الداعي إلى اللاعنف كمبدأ أساسي، ورفض مقابلة العنف بالعنف، تماشيا مع مبدئه الذي أرساه في مواقفه السابقة للثورة، ولا سيما كتابه “مذهب ابن آدم الأول” الذي كتبه في ستينيات القرن الماضي. ولكن الأمور تسارعت باتجاه دوامة العنف تحت ضغط النظام الذي اعتقد أنه يستطيع حسم الأمور خلال أشهر قليلة، بحسب تصريحات صقوره آنذاك. لم يتراجع سعيد عن موقفه الرافض للعنف على الرغم من أنه رأي “غير دقيق” من وجهة نظر العلوم السياسية المعاصرة. ففي الأنظمة الشمولية، والمدركة لنفسها كقوة طغيان ليس لللاعنف مكان. فاللاعنفيون في الدول الشمولية يسحقون بكل بساطة وتنتهي أمورهم بسرعة، وهذا ما حصل مع كثير من السلميين عبر التاريخ، والأنثروبولوجيا حافلة بالأمثلة حول ذلك. طبعا دون أن يعني ذلك أن أنصار العسكرة على حق، فالأمور بالتأكيد أعقد من أن تختزل بهذا الرأي أو ذاك.
كانت شعبية جودت سعيد قبل الثورة أكثر منها بعد الثورة. شكلت شخصيته الدمثة وأسلوبه الجميل في النقاش، وتسامحه في طروحاته، جمهورا واسعة يتوافد إلى محاضراته التي كان يلقيها في دمشق في التسعينيات. كنا كطلاب جامعة آنذاك نتناقل أخبار محاضراته ونحاول حضورها قدر الإمكان. غير أن الهامش الذي كان سعيد يناور من خلاله لم يكن يرضي تعطش الذين يريدون أن يسمعوا نقدا “مرتفعا بعض الشيء” للنظام الأسدي. في الأحاديث الجانبية، بعد المحاضرات، كنا نلمس عنده ما يسميه فوكو “الرقابة الذاتية” التي يمارسها الناس على أنفسهم. كان الرجل يعرف الخطوط الحمر جيدا ولا يقترب منها، وهذا حقه ونحن كنا نتفهم ذلك.
تعود شعبية سعيد قبل الثورة إلى أن السوريين كانوا يفضّلون رؤية صورة عن الإسلام مختلفة عن الصورة التي يريدها النظام بأن يُري الإسلام من خلالها. وكذلك صورة مختلفة عن الصورة التي تقدمها تجارب أحزاب وتيارات الإسلام السياسية. كان قسم كبير من السوريين يريد أن يسمع كلاما عن تسامح الإسلام ولا عنفه، وأن النظام كاذب في تحشيده ضد الإسلاميين لأن هناك إسلاميين سلميين. غير أن نظرية سعيد، إذا ما دققنا فيها أبستمولوجيا (أي من ناحية الرؤية الفلسفية المنهجية) هي نظرية في الأخلاق وليست نظرية في السياسة، بعكس فلسفة اللاعنف عند غاندي التي كانت معنيّة بالسياسة وصراعاتها آنذاك. فنظريته في النهاية لا تضر النظام الأسدي في شيء، والخلاف الوحيد بينه وبين محمود عكام وكفتارو والبوطي وأحمد حسون هو اختلاف في السلوك وليس اختلاف في النظرية أو الثيولوجيا الإسلامية. الرجل كان محترما ومترفعا عن إغراءات النظام، بعكس من ذكرناهم. ولعل نظرياته “اللاسياسية” هي التي تفسر، في النهاية، تسامح النظام معه.
كان النظام يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف، وكان وجودت سعيد يفضّل شخصية الداعية الأخلاقي على شخصية المنظّر الديني الذي عينه على السياسة.
يُذكر أن جودت سعيد ذهب في كتبه (كنت قد اطلعت على معظمها عندما كتبت بحثا عن الإسلام الدعوي في سوريا قبل عامين) إلى أن السبيل لحل مشكلات السوريين، والمسلمين عموما، هو الاعتماد على “العقل” في الاجتهاد، والرجوع إلى القرآن الكريم بغية التفكر فيه واستخراج “الاكتشافات العلمية” منه، بالإضافة إلى اعتماده مبدأ اللاعنف. الموقف الأول موقف الداعين للاجتهاد في الإسلام عن طريق العقل، ولذلك نجده يمارس منهجه في التأويل بعقل مفتوح. أما موقفه الثاني من العلم والاكتشافات العلمية فيبين نزعته الزهدية وتواضع معرفته العلمية.
عندما يسأله معدو البرامج التلفزيونية عن الثورة السورية، وما الذي يمكن للسوريين القيام به اليوم في ظل الأوضاع التي وصلوا إليها؟ فإنه يقدم إجابات غريبة، نسميها في الفلسفة “يوتوبيا”. يقول، لا بد أولاً من إصلاح الأمم المتحدة لأنها مثل “فرعون” لا تؤمن إلا بالقوة. وفي رده على سؤال عما يمكن للسوريين أن يقوموا به تجاه أعمال العنف الرهيبة، التي تعرضوا لها؟ نجده يؤكد بأنه لا يجوز لهم حتى “الدفاع عن النفس” لأن الرسول الكريم وصحابته لم يدافعوا عن أنفسهم تجاه العنف الذي تعرضوا له في بداية الدعوة الإسلامية. كما وصف من يحملون السلاح حتى ولو دفاعاً عن أنفسهم بـ “الخوارج” لأنهم لم يتفاعلوا مع دعواته في اللاعنف.
لم يدقق جودت سعيد نظريته في اللاعنف. فالعنف أنواع، ويصل، في بعض الأحيان، إلى حد الإبادة. وهو وسيلة للتخويف، ولكنه أيضا وسيلة للحكم. وله وسائل ومنها الفتنة والتقسيم الطائفي والاستقواء بالأعداء، ولا يمكن التعامل مع جميع الأنواع والوسائل بنفس الطريقة. لم يُقتل أحد في العنف الذي تعرض له الرسول الكريم وأصحابه، كما أن قريش في حينها لم تكن تستخدم العنف كطريقة في الحكم. أما عنف النظام الأسدي فيمكن وصفه بالإبادة، ولا يمكن التعامل معه بطريقة جودت سعيد البسيطة.
لا أعرف الكثير عن شخصية جودت سعيد، ولكني أعرف الكثير عن أفكاره ورؤاه في قضايا دينية وحضارية عديدة. لم يكن بإمكان الرجل أن يكون أكثر مما كان وإلا لدخل السجن. كل ما كان بإمكانه أن يقوم به هو المحافظة على نظافة يده واستقلالية شخصيته ومحبته للسوريين، وهذا ليس بالأمر اليسير. وعلى الرغم من أن أفكاره كانت حالمة وطوباوية، إلا أنه من العدل أيضا أن نتذكر أن سوريا الأسد لم تترك للسوريين سوى الأحلام، علها تكون، بالطبع، أحلاما بعيدة عن السياسة وصراعاتها.
—————————
======================