أزمات روسيا المتعددة -الحرب الوشيكة في أوكرانيا، وتأثير ذلك على الوضع في سورية -مقالات مختارة-
كيف استثمرت روسيا احتجاجات كازاخستان..لتعزّز قبضتها في آسيا الوسطى؟
المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات
شهدت جمهورية كازاخستان، كبرى جمهوريات آسيا الوسطى، مطلع شهر كانون الثاني/ يناير 2022، موجة احتجاجات واسعة بدأت في منطقة جاناوزين، غرب البلاد، ضد قرار الحكومة برفع أسعار الغاز النفطي المسال المستخدم في قيادة السيارات، قبل أن تتوسع رقعة المظاهرات لتشمل مناطق أخرى، من ضمنها الما آتا، العاصمة الاقتصادية والتاريخية للبلاد. وقد أسفرت المواجهات عن سقوط عشرات القتلى (قدّرتهم بعض المصادر بأكثر من 200)، وخراب كبير لحق منشآت عامة ومؤسسات حكومية. وقد استنجد الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توكاييف، بمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي”، التي أرسلت على الفور قوة عسكرية قوامها نحو ألفَي جندي، معظمهم من روسيا، للمساعدة في إعادة فرض الأمن في البلاد.
أسباب الاحتجاجات
مثّلت الاحتجاجات، باتساعها وعنفها، مفاجأة للمهتمين بشؤون المنطقة؛ نظرًا إلى أن كازاخستان ظلت، بعكس جمهوريات آسيا الوسطى الأخرى، في منأى عن أي اضطرابات منذ إنشاء الدولة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وتولي أمين عام الحزب الشيوعي فيها، نور سلطان نزارباييف، مقاليد الرئاسة، حتى تنازله عنها عام 2019. وتعدّ كازاخستان أغنى دول آسيا الوسطى بثرواتها الطبيعية، ومع أنها أكبر دولة حبيسة في العالم (تبلغ مساحتها نحو 2.7 مليون كيلومتر مربع)؛ إذ لا تملك منافذ على بحار مفتوحة، فإنها تتمتع بثروات طبيعية كبيرة. وإلى جانب كونها أكبر منتج لليورانيوم، فهي تنتج نحو 40 في المئة من كل اليورانيوم المستخدم في العالم، فإنها تملك احتياطيًا كبيرًا من النفط أيضًا يقدّر بنحو 30 مليار برميل، وهي تنتج نحو 1.6 مليون برميل يوميًا تصدر منها 1.1 مليون برميل. وتعدّ كازاخستان من أبرز أعضاء تجمع “أوبك بلس”OPEC +، وهو تحالف نشأ عام 2016 بين منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” ودول منتجة من خارجها بهدف ضبط إنتاج النفط وأسعاره. ويمثّل النفط نحو 20 في المئة من الناتج الإجمالي القومي لكازاخستان، وأكثر من نصف دخلها من العملة الصعبة. وتتوفر كازاخستان أيضًا على كميات كبيرة من المنغنيز والحديد والكروم والفحم؛ فهي تعتبر تاسع أكبر مصدر للفحم في العالم، وتحتل المرتبة 12 في إنتاج الغاز الطبيعي، وفقًا لبيانات وكالة الطاقة الدولية، لعام 2018.
ورغم غنى البلاد بالموارد الطبيعية، وعدد سكانها المنخفض نسبيًا قياسًا على مساحتها (نحو 19 مليون نسمة)، فإنّها تعاني مشكلات اقتصادية وأوضاعًا معيشية صعبة، ويرزح نحو 15 في المئة من السكان تحت خط الفقر. ويعود ذلك إلى السياسات الاقتصادية الفاشلة للحكم الفردي الطويل لنزارباييف، وسيطرة أوليغاركيا نشأت حول عائلة الرئيس السابق وارتبطت بها. وكانت كازاخستان، مثل بقية الدول الريعية التي تعتمد على تصدير النفط، قد تأثرت بشدة بانخفاض أسعاره عام 2014. وما إن بدأت تتعافى عام 2019، حتى ضربت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) بتداعياتها الصحية والاقتصادية. ونتيجة كل هذه العوامل، بدأت العملة الوطنية (تينغ) في الانحدار، وأخذت تتآكل معها القدرة الشرائية لعامة الناس، وقد تزامن ذلك مع تفاقم أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية الناجمة عن عوامل بيئية وانقطاع سلاسل التوريد.
صراع مكتوم على السلطة
ورغم ابتعاد الرئيس السابق نزارباييف عن صدارة المشهد، بعد أن أطلق عليه رسميًا لقب “زعيم الأمة”، فإنه ظل يتمتع بنفوذ كبير، بينما استمرت الأوليغاركيا المرتبطة بحكمه في الهيمنة على مقدرات البلاد. ويفسر هذا اتجاه الرئيس توكاييف إلى إقالة صهرَي الرئيس السابق من منصبيهما على رأس شركتي الغاز والنفط الوطنيتين KazTransOil وQazaqGaz، بعد أن نادت الجماهير الغاضبة بطرد “الرجل العجوز” وعائلته المهيمنة على ثروات البلاد، في إشارة إلى الرئيس السابق الذي يبلغ من العمر 81 عامًا. وقد جرت أشد الاحتجاجات قوة وعنفًا في مدينة ألم آتا، وهي العاصمة السابقة للبلاد، حيث أقدم المحتجون على إسقاط تمثال للرئيس السابق. ويعتقد أن المدينة تأثرت اقتصاديًا بشدة بعد أن جرى نقل العاصمة إلى أستانا عام 1997، حيث قام الرئيس السابق بإنفاق مبالغ طائلة لنقل العاصمة، والتي أطلق عليها لاحقًا اسم نور سلطان.
وقد كشفت الاحتجاجات عن وجود صراع مكتوم على السلطة بين الرئيس الحالي توكاييف وعائلة الرئيس السابق نزارباييف، حيث بادر الرئيس الحالي إلى إصدار أوامر باعتقال قائد جهاز الأمن السابق القريب من عائلة الرئيس السابق، بتهمة التدبير لمحاولة انقلابية. وكانت الشكوك ثارت حول ولاء أجهزة الأمن، أو جزء منها على الأقل، لسلطة الرئيس توكاييف، بعد أن امتنعت وحدات أمنية عن الدفاع عن منشآت حكومية في وجه الاحتجاجات الغاضبة، بينما انسحب بعضها من منشآت أخرى، في حين يبدو أنها محاولة لتأجيج الوضع لإضعاف سلطة الرئيس الحالي وتعزيز مواقعها في السلطة. بالطريقة نفسها تقريبًا، عمد الرئيس الحالي إلى استغلال الاحتجاجات للتخلص من هيمنة نظام الرئيس السابق وعائلته على أجهزة الأمن وثروات البلاد.
الاستعانة بالخارج
بعد اتضاح عجزه عن مواجهة أسوأ موجة احتجاجات تشهدها البلاد؛ إذ لم تنفع الإجراءات التي اتخذها لتهدئة المحتجين بما في ذلك إقالة الحكومة وخفض أسعار الغاز، وإطاحة جزء من حاشية الرئيس السابق، حيث فقد سبعة من الوزراء المحسوبين عليه مناصبهم في التشكيلة الحكومية الجديدة، لجأ الرئيس توكاييف إلى طلب العون من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بقيادة روسيا.
تأسست منظمة معاهدة الأمن الجماعي عام 1992، لكنها بقيت معاهدة على الورق طوال فترة التسعينيات نتيجة ضعف روسيا، وانحسار دورها في عهد الرئيس بوريس يلتسن، ثم تورطها في حربَي الشيشان الأولى (1996)، والثانية (1999). بعد وصوله إلى الحكم، أعاد الرئيس فلاديمير بوتين إحياء المعاهدة عام 2002 في محاولة منه لإبقاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق في فلك روسيا. وقد اتخذت المعاهدة شكل اتفاقية دفاعية، وحصلت على اعتراف من الأمم المتحدة باعتبارها قوة حفظ سلام إقليمية عام 2004. وتضم المعاهدة حاليًا ستّ دول هي روسيا وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأرمينيا وبيلاروسيا. وقد انسحبت منها جورجيا وأذربيجان وأوزبكستان عام 1999. وتستند المعاهدة إلى مبدأ الأمن الجماعي وتلتزم بالدفاع عن أعضائها ضد أي تهديد خارجي، وهو ما حدا بالرئيس الكازاخي توكاييف إلى الحديث عن تهديد إرهابي يواجه البلاد لتبرير استعانته بالمنظمة التي ليس من مهماتها بموجب ميثاق التأسيس التدخل لقمع احتجاجات داخلية أو تهديدات لأنظمة الحكم في الدول الأعضاء. بناء عليه سارعت روسيا إلى الاستجابة لطلب الرئيس وأرسلت قواتها للمساعدة في تطويق الاحتجاجات.
دوافع التدخل الروسي
حاول الرئيس السابق نزارباييف، على مدى ثلاثة عقود من حكمه، التملص من التبعية المطلقة لموسكو، عبر محاولات إقامة علاقات متوازنة مع القوى الرئيسة في المنطقة والعالم. فمن جهة، سمح لروسيا باستئجار قاعدة “بايكانور” الفضائية، والتي ما زالت أكبر منصة إطلاق في العالم بعد حوالي 60 عامًا من انطلاق أول رائد فضاء سوفياتي منها (يوري غاغارين). في الوقت نفسه، عزز علاقاته بالصين، القوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة على حدوده الشرقية، والتي تنظر إلى كازاخستان باعتبارها حلقة أساسية في مشروع الحزام والطريق. وأقام نزارباييف علاقات عمل مع الدول الغربية، حيث تعدّ شركاتها المستثمر الأكبر في قطاع الطاقة الكازاخي. وقد أدت شركتا إكسون موبيل وشيفرون الأميركيتان وإيني الإيطالية وتوتال الفرنسية دورًا كبيرًا في تطوير قطاع النفط والغاز في كازاخستان، عبر ضخ استثمارات تقدَّر بمليارات الدولارات على مدى العقدين الأخيرين؛ ما ساعد في تحويل كازاخستان إلى لاعب مهم في سوق الطاقة العالمية. حاول نزارباييف أن يطور علاقاته بتركيا أيضًا من خلال مشترياته من السلاح التركي، خاصة الطائرات المسيّرة.
لكن الوضع يوشك الآن أن يتغير. فرغم محاولات الرئيس توكاييف توجيه رسائل تطمين على موقع تويتر إلى الشركات الغربية، بأنّ بلاده ستبقى مكانًا رحبًا للاستثمارات الأجنبية، الغربية خصوصًا، فمن الواضح الآن أن تأثير روسيا في سياسات كازاخستان الخارجية سيكون أكبر من أيّ وقت مضى؛ إذ سوف يستغل الرئيس بوتين على الأرجح تدخّله العسكري لإنقاذ نظام توكاييف، والوقوف إلى جانبه في الصراع الداخلي على السلطة ضد حاشية الرئيس السابق، لإبعاد كازاخستان عن ساحة المنافسة مع القوى الأخرى، خاصة الصين وتركيا، والعمل على ربطها ربطًا أقوى بروسيا.
يفسر هذا جزئيًا مسارعة روسيا إلى اغتنام أزمة الاحتجاجات، وتلبية طلب المساعدة الذي تقدّم به الرئيس توكاييف إلى قادة الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بعد أربعة أيام من اندلاع الأزمة. وقد أصدرت المنظمة بيانًا، جاء فيه أنّ “هدف العملية هو حفظ السلام وحماية المنشآت الحكومية والاستراتيجية بما فيها خطوط نقل الغاز والقواعد العسكرية الروسية ومحطة الفضاء الروسية في بايكانور”. وقد جرى “نشر أكثر من 2030 عسكريًا من روسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقرغيزستان، لتنفيذ مهمة حفظ السلام في كازاخستان”، وفقًا لأمين عام المنظمة، ستانيسلاف زاس، الذي أشار أيضًا إلى أن قوات حفظ السلام التابعة للمنظمة، استخدمت خلال تنفيذها المهمة حوالي 250 قطعة عسكرية، نُقلت إلى هناك بوساطة أكثر من 100 طائرة.
من جهة أخرى، يشير التدخل الروسي السريع في أحداث كازاخستان إلى الأهمية الكبيرة التي توليها موسكو لجوارها الإقليمي، في آسيا الوسطى ومنطقة القوقاز خصوصًا، وإلى استعدادها لاتخاذ أي إجراء يحول دون خروجها من دائرة نفوذها، كما أشار الرئيس بوتين في مؤتمر القمة الذي عقدته منظمة معاهدة الأمن الجماعي افتراضيًا عشية قرارها التدخل في كازاخستان. ورغم أن كازاخستان ليست حلبة تنافس على النفوذ مع الغرب بل مع الصين وتركيا، وقد وقفت الأخيرة علنًا إلى جانب الرئيس توكاييف والنظام الحاكم، تميل روسيا إلى اعتبار أي احتجاجات في جوارها الإقليمي محاولات غربية لإقامة حكومات معادية لها؛ كما حصل في جورجيا وأوكرانيا، لتطويقها ودفعها إلى الانكفاء إلى داخل حدودها.
تبعث روسيا، بتدخّلها العسكري السريع في كازاخستان لقمع الحركة الاحتجاجية، رسالة مفادها أنها لن تسمح بأيّ تغيير في المنطقة يتعارض مع مصالحها، وأنّ ما حصل على حدودها مع أوروبا لن يتكرر في آسيا الوسطى أو القوقاز. هناك فشلت روسيا في منع سلسلة توسعات لحلف شمال الأطلسي “ناتو” ابتداء من عام 1999 لا لتضمّ، فقط، دولًا أوروبية شرقية، مثل رومانيا، والمجر، والتشيك، وغيرها، بل لتضم أيضًا دولًا سوفياتية سابقة مثل دول البلطيق، فضلًا عن محاولات الغرب الآن ضمّ أوكرانيا إليه. وهو ما عبّر عنه الرئيس بوتين بوضوح في تصريحاته التي أعقبت قمع انتفاضة كازاخستان؛ إذ تعهّد بحماية حلفائه ومنع حصول ثورات ملونة في جوار روسيا القريب.
والحقيقة أنّ المسألة في دول آسيا الوسطى لا تتعلق بالديمقراطية؛ فالصين تناهض الثورات والمطالب الديمقراطية، أما تركيا فلا تدعم عملية تغيير أنظمة الحكم دول الرابطة التركية مثل كازاخستان وأذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان؛ إذ تحاول أن تبني علاقات ثقة مع الأنظمة القائمة في سياق التنافس على النفوذ مع روسيا في هذه الدول.
سوف تعمد روسيا على الأرجح، من الآن فصاعدًا، إلى تحويل منظمة معاهدة التعاون الجماعي إلى أداة تدخّل رئيسة في منطقتَي القوقاز وآسيا الوسطى، وحتى على حدودها الغربية مع أوروبا، بعد أن نجحت في استخدامها هذا الشهر في كازاخستان أول مرة، منذ تأسيسها قبل ثلاثين عامًا في منع انهيار نظام حليف، وفي تجيير أزمته الداخلية لخدمة مصالحها الإقليمية، ومعركتها مع الغرب.
————————
موسكو: من أوكرانيا إلى كازاخستان..الحسابات السورية حاضرة/ طه عبد الواحد
بالنظر إلى تعاطي الكرملين مع الاحتجاجات في كازاخستان من جانب، وتصاعد حدة التوتر في علاقات روسيا مع الغرب على خلفية الوضع في أوكرانيا، من جانب آخر، يمكن القول إن الأزمة السورية باتت بمثابة “معيار” أو “وحدة قياس” حاضرة في أساس صياغة الموقف الروسي من هذا الحدث أو ذاك؛ فضلا عن أنها تصبح أكثر من أي وقت واحدة من الساحات التي قد يشتد فيها التنافس، وربما الصراع بين روسيا والغرب.
لا علاقة للأزمة السورية بما جرى في كازاخستان. وبعبارة أدق لم يكن لأي من الأطراف السورية، أو للوضع في سوريا بشكل عام أي دور في الاحتجاجات التي شهدتها هذه الجمهورية في آسيا الوسطى، باستثناء أن البلدين شهدا احتجاجات، سوريا في مارس 2011، وكازاخستان الآن. ولعل الرابط الوحيد بين الحدثين هو استغلال روسيا الوضع في الحالتين لتحقيق مصالحها. في الحالة الكازاخية كما في الحالة السورية، استغلت موسكو الوضع للترويج مجدداً لقناعاتها بأن اي احتجاجات شعبية ليست سوى “ثورات ملونة” يجري التحضير لها وتمويلها من الخارج، وأنها إحدى أدوات “التدخل الخارجي” التي يستخدمها الغرب لزعزعة الاستقرار والإطاحة بأنظمة الحكم التي لا تناسبه. وهي على قناعة بهذه الرؤية، وتضعها في سياق مواجهتها مع الولايات المتحدة، التي تعتقد النخب الروسية الحاكمة أنها، اي الولايات المتحدة، قد تعمل على تنفيذ مثل هذا السيناريو في روسيا نفسها.
هدف آخر حققته روسيا عبر الوضع في كازاخستان، كانت فشلت في تحقيقه عبر الأزمة السورية رغم كل مساعيها. ويدور الحديث هنا حول إرسال قوات من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، الأمر الذي يعني بالنسبة لموسكو الانتقال بالمنظمة من مؤسسة يقتصر نشاطها على عقد الاجتماعات وإطلاق التصريحات، وإجراء مناورات وتدريبات، إلى منظمة تكون عبارة عن (حلف عسكري) يملك القدرة والإمكانيات لتحريك قواته حال تعرض اي من دوله لتهديد. ويتفق الخبراء على أن روسيا تنظر إلى المنظمة باعتبارها تكتلاً عسكرياً، تسعى إلى تعزيز دوره، لتشكيل مركز ثقل روسي في مواجهة الناتو. اللافت أن إرسال القوات من هذه المنظمة إلى كازاخستان، جاء بالتزامن مع انطلاق المفاوضات الروسية –الأمريكية، والروسية مع الناتو حول الضمانات الأمنية، وسبق وتخلل تلك المفاوضات تلويح موسكو بقدراتها العسكرية الحديثة. وعبر التدخل تبدو وكأنها حددت مناطق هيمنتها وحدود نفوذها في آسيا الوسطى.
وكانت روسيا حاولت أن تعطي منظمة معاهدة الامن الجماعي صفة (حلف عسكري)، لتصبح بمثابة أداة تتحكم بها ويمكن تحريك قواتها حيث تتطلب المصالح الروسية، وذلك حين اقترحت على كازاخستان وقرغيزيا، المشاركة في إرسال “قوات حفظ سلام” إلى مناطق خفض التصعيد في سوريا. إلا أنهما رفضتا الاقتراح، وأكدتا على أن إرسال قوات كهذه يكون بتفويض من مجلس الأمن الدولي لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ويتم تنفيذه بعد موافقة البرلمان في البلدين على إرسال قوات للمشاركة في “مهام” خارج البلاد. بينما لم يستبعد وزير دفاع أرمينيا إرسال قوات من المتعاقدين. الأمر مختلف بالنسبة لكازاخستان. ذلك أنها دولة عضو في المنظمة، وإرسال قوات من الدول الأخرى الأعضاء في المنظمة “لمساعدتها في استعادة الاستقرار”، وفي “التصدي لعدوان خارجي”، واحد من الالتزامات الجماعية في إطار المعاهدة، لاسيما عندما يسبق ذلك توجيه طلب رسمي من السلطات في الدولة، وهو ما قام به الرئيس الكازاخستاني، حين طلب المساعدة من المنظمة.
في غضون ذلك يبدو أن التوتر بين روسيا والغرب على خلفية الوضع في أوكرانيا، قد يعيد سوريا مجدداً إلى واجهة أولويات الولايات المتحدة وأوروبا. إذ لم تعد روسيا تخفي طابع الاستخدام الاستراتيجي لقواعدها الجوية في مطار حميميم والبحرية في طرطوس. وبعد توسعتها مياه القاعدة البحرية لتصبح مناسبة لدخول غواصات بمحركات نووية، قامت بتوسيع مدرج القاعدة الجوية، وأرسلت في أيار/مايو 2021 3 قاذفات بعيدة المدى من طراز “تو 22-إم 3” إلى هناك، وقالت إنها ستتمركز في القاعدة. وفي تصريحات نهاية الأسبوع الماضي، قال الفريق سيرغي كوبيلاش، قائد القوات الجوية الروسية بعيدة المدى: “إن هبوط وتشغيل طائرة من طراز Tu-22M3 في قاعدة حميميم الجوية ، حدث مهم. أولاً ، أتقنت أطقم الطيران بعيد المدى إستخدام مطار جديد، وسجلت وجود الطيران الروسي بعيد المدى في منطقة البحر الأبيض المتوسط. (…) وتم تأكيد معايير الوصول بواسطة طائرات Tu-22M3 إلى الأهداف في منطقة مياه في البحر الأبيض المتوسط بأكلمها”.
على ضوء هذه التصريحات، ومع الأخذ بالحسبان فشل الجولة الأولى من محادثات روسيا حول الضمانات الأمنية التي تحمل طابعاً استراتيجيا مع الولايات المتحدة والناتو، لايمكن استبعاد أن تتعمد موسكو تكثيف نشاط قطعها البحرية والجوية في منطقة المتوسط، بهدف ممارسة نوع من الضغط، وفي الوقت نفسه توجيه رسائل تحذيرية إلى الأميركيين والناتو، بأن القوات الروسية باتت قادرة على تنفيذ مهام في خاصرة مناطق انتشارهم العسكري. طبيعي أن هذا الوضع لا يناسب الغرب، و للحد من إمكانية الاستخدام الروسي لسوريا بارتياح قد يلجأ إلى خيارات عدة، بينها الضغط لتحقيق تقدم في العملية السياسية وفق بيان جنيف والقرار 2254، مع تمسك بالفقرات التي تؤكد على “المرحلة الانتقالية”. في الوقت ذاته، وعلى اعتبار أن إضعاف موقف الأسد سيكون رسالة قوية لروسيا، التي تخشى أن يؤدي إبعاده عن السلطة، إلى خسارتها مواقعها وهيمنتها في سوريا، قد يعود الغرب إلى سياسة الضغط على النظام السوري، مع ما يعنيه ذلك ، على مستوى أوسع، من فتح لملفات تؤلمه، وتؤرق الروس، مثل المعتقلين واستخدام السلاح الكيماوي، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وغيرها من ملفات.
المدن
————————-
فلاديمير بوتين… «القيصر» المغامر أم الرئيس الواقعي؟/ أنطوان الحاج
ثمة أسئلة كثير يمكن تداولها عن أزمة كازاخستان، أسبابها وأبطالها ومآلاتها، وفي الموازاة يجب أيضاً طرح أسئلة عن الدور الروسي في المعالجة، أو بالأحرى في مقاربة الوضع في هذه الدولة الشاسعة المهمة جداً في آسيا الوسطى ومن حيث موقع روسيا في العالم، وذلك من أجل فهم ما يريده فعلاً فلاديمير بوتين بشكل عام.
صحيح أن قوات حفظ السلام الروسية العاملة ضمن قوات «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» غادرت كازاخستان بعد إنجاز المهمة التي طلبها الرئيس قاسم جومارت توكاييف، لكن الأزمة السياسية في الدولة التي تقع في آسيا الوسطى والغنية بالنفط واليورانيوم لم تنتهِ على الأرجح، وبالتالي لا يمكن روسيا أن تقف مكتوفة اليدين خشية أن تخسر كازاخستان سياسياً وأمنياً بعدما خسرتها اقتصادياً إلى حد كبير عندما كانت تتفرج على تغلغل الاستثمارات الصينية والأميركية فيها.
إذاً، بعيداً عن ارتفاع أسعار الغاز وغضب الكازاخيين، وموقفهم من توكاييف وريث نور سلطان نزارباييف، الرئيس الوحيد الذي عرفته البلاد منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي و«رمز الأمة»، يجدر النظر ملياً في ما يريده فلاديمير بوتين المنشغل على جبهات عدة في المحيط المباشر والمدى غير المباشر لروسيا.
هل صحيح أنه القيصر الروسي الجديد الذي يحلم بأمبراطورية تستعيد التاريخ؟
هناك من يرى أن بوتين سيسعى إلى تحويل اضطرابات كازاخستان إلى فرصة ليرسخ الحضور/النفوذ الروسي هناك، طبعاً بعد أن يصوّر أن ما حصل في الدولة المجاورة ما هو إلا مؤامرة غربية بقيادة أميركية لإكمال الطوق حول بلاده، وقد قال في هذا الصدد بعد أيام من اندلاع اضطرابات كازاخستان ان لا ثورات ملوّنة في آسيا الوسطى، بمعنى أنه لن يسمح بتكرار ما حصل في أوكرانيا عام 2004، تماماً كما منع «سقوط» بيلاروسيا.
في أي حال، لا يمكن إغفال أن بوتين بدّل أسلوبه قبل سنوات، وتحديداً عندما قرر إرسال قوات و«استعادة» شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا، وحشد 100 ألف جندي على حدود الجارة الكبيرة، وطبعا التدخل العسكري في سوريا، وسوى ذلك.
*عودة إلى الماضي؟
أدرك بوريس يلتسين، أول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، أن التخلص من تلك الأمبراطورية المكلفة واعتماد اقتصاد السوق هما السبيل إلى تحقيق الازدهار للبلاد وإخراج الشعب من دوامة الفقر. ولعله لم يدرك أن الرجل الذي تسلم السلطة من بعده عام 1999، فلاديمير بوتين، كان يملك ربما رؤية مختلفة. وفي حين أن بوتين لن يسعى على الأرجح لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء ويعيد إنشاء الأمبراطورية، فإن ثمة مراقبين يرونه مندفعاً باتجاه فرض الهيمنة الروسية على بعض الدول السوفياتية السابقة. وهذا بالطبع أمر مكلف، لأن بناء القوة العسكرية وتحديثها وصيانتها أمور تتطلب الكثير، خصوصاً مع تمركز القوات الروسية في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية المنفصلتين عن جورجيا، ترانسنيستريا المنفصلة عن مولدوفا، أرمينيا، ناغورني قره باغ لإحلال السلام بين أذربيجان وأرمينيا، قيرغيزستان، بيلاروسيا، طاجيكستان، وسوريا…. الجهد العسكري استنزف الموارد السوفياتية سابقاً، وهذا ما لم يتردد بوتين في الإقدام عليه وزيادة الموازنة العسكرية السنوية باطّراد.
لا جدال في أن روسيا تملك قوة عسكرية ضخمة وأن سلاحها النووي يشكل درع ردع تعطيها قدرة على المناورة والتحرك المدعوم بالأسلحة التقليدية. لكن لا جدال أيضاً في أن الاقتصاد الروسي لا يوازي القوة العسكرية هذه ولا يستطيع تحمّل أكلافها طويلاً. فالناتج المحلي الإجمالي لا يفوق تريليوناً و700 مليار دولار وفق أفضل التقديرات – مقابل نحو 21 تريليوناً للولايات المتحدة و14.7 للصين – مما يضع روسيا في المرتبة الحادية عشرة عالمياً في هذا المجال.
مشكلة الاقتصاد الروسي هي عدم التنوع في المقام الأول والعقوبات المختلفة المفروضة على موسكو ثانياً. إنه اقتصاد يعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط والغاز ويواجه في هذا المجال سلسلة من المشكلات الجيوسياسية، وآخرها التجميد الفعلي لمشروع «نورد ستريم 2» الذي سينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا دون المرور بأوكرانيا، وذلك لأسباب سياسية. وبعدما حقق الاقتصاد الروسي انتعاشاً قوياً عام 2021 ، مع نمو بنسبة 4.3 في المائة بفضل الآثار الإيجابية لما بعد الإغلاق على المستوى العالمي وارتفاع الطلب على مصادر الطاقة، من المتوقع أن يتباطأ النمو عامي 2022 و 2023 إلى 2.4 و1.8 في المائة على التوالي، وفقًا لأحدث تقارير البنك الدولي.
*الواقع والبراغماتية
بالنظر إلى الواقع الحالي للاقتصاد الروسي والحصار الناجم عن العقوبات الناجمة بدورها عن سياسة موسكو حيال أوكرانيا وبيلاروسيا وسواهما، لا يبدو أن روسيا ستتحول إلى عملاق اقتصادي يوازي قوةً العملاق العسكري. ولا ريب في أن فلاديمير بوتين يدرك هذا الواقع بما يملك من براغماتية وتمرّس جناهما خلال عمله الاستخباراتي والسياسي الطويل.
لذلك نرى «القيصر» يوجه رسائل الحزم واللين بالتساوي إلى واشنطن، فيحشد 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا وينخرط في الوقت نفسه في مفاوضات مع الأميركيين في جنيف تتناول مخاوفه وضمانات أمنية يطلبها لدرء خطر تحول أوكرانيا قاعدة «أطلسية» تهدد الأمن الروسي في العمق. ولذلك لم نره يحرك قواته الموجودة في قاعدة عسكرية في أرمينيا لنصرة هذه في حرب آرتساخ – أو ناغورني قره باغ – بمواجهة جيش أذربيجان المدعوم من تركيا في الخريف الماضي. بل اكتفت موسكو بالتنسيق مع أنقرة لإرساء سلام هشّ في هذه المنطقة الحساسة من القوقاز، واضطلعت القوات الروسية بدور مراقبة السلام بعد حرب منيت فيها أرمينيا بهزيمة عسكرية وسياسية صريحة.
بالعودة إلى كازاخستان، يبدو أن بوتين حمل أيضاً ميزان البراغماتية وتصرّف بحكمة. فقد أرسل قواته إليها لإعادة الاستقرار، لكنه لم يُبقها هناك خشية استعداء الشعب الغاضب على حكامه لكن غير العدائي بالضرورة تجاه روسيا. ولعل تحركه السريع وقوله إن «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» (روسيا ، أرمينيا ، كازاخستان ، قيرغيزستان ، طاجيكستان ، وأوزبكستان) لن تسمح بالانقلاب على حكومات دول المنطقة رسما حدود اللعبة هناك، أقلّه في المستقبل القريب. ومؤدّى هذا الكلام هو أن موسكو لن تقبل بفتح «جبهة جديدة» في آسيا الوسطى تشكل مصدر قلق يضاف إلى متاعبها الأخرى.
في الخلاصة، تخوض روسيا مفاوضات ولعبة شد حبال مع الغرب في شأن أوكرانيا، وتعمل على ضبط الإيقاع في بيلاروسيا الملاصقة لحدود الاتحاد الأوروبي، وتواصل الاضطلاع بدور الشرطي في جنوب القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وتتخذ تدابير احترازية مضبوطة في كازاخستان، وتبقى في سوريا على تنسيق دائم مع واشنطن وأنقرة…
هل إن فلاديمير بوتين، في ظل هذه المواقف الدفاعية، هو «القيصر» الجديد الذي سيتجاهل دروس الماضي؟ أم إنه الرئيس البراغماتي الذي يدرك الحدود القصوى للمناورة ويسعى للمحافظة على المواقعوإن اتّبع سياسة توحي بالهجومية؟
يجدر التذكر قبل الإجابة أن الشعب الروسي يفضّل حتماً التمتع بمقوّمات العيش الهانئ على تحقّق الطموحات الفضائية السوفياتية التي بلغت أعالي الفضاء ونسيت واقع الأرض إلى أن انهار البنيان…
———————
لمن تعهد موسكو بانتقاد الأسد؟/ بسام مقداد
نشر الباحث الأميركي من أصل سوري دانيال ويلكوفسكي في موقع معهد البحث الذي يتعاون معه، newlinesmag ، نصاً بعنوان “الأسد يختبر صبر حليفته روسيا”، أرفقه بآخر ثانوي “لدى قراءة الفنجان في الصحافة الروسية وسواها من المصادر، يصبح واضحاً أن لبوتين حدوداً مع ديكتاتور دمشق”.
يقول الباحث أن رامي الشاعر نشر في “موقع بروباغندا الكرملين العالمي” RT نصاً تحدث فيه عن الواقع الفعلي للأسد اليوم في سوريا، واعتبر أن 20% من السوريين يؤيدون الأسد، و 50% يريدون تغييرات جذرية في النظام الحالي.
يتساءل دانيال ما إن كان نص رامي الشاعر يعبر عن إستياء روسيا من الأسد، ويشير إلى أن العالم الروسي فيتالي نعومكين (المسؤول العلمي عن معهد الإستشراق الروسي) سبق أن تساءل علناً ما إن كان الشاعر يبلغ عبر عمله “رسالة من الكرملين”. ويقول بأنه، وفي حديث عبر الواتس أب خلال الشهر الأخير من السنة الماضية، سأل الشاعر أين يعمل مستشاراً: في وزارة الخارجية أو في وزارة الدفاع أو في الكرملين. وفي رد غامض يمكن أن يعني أنه يعمل في الإدارات الرسمية الثلاث، قال الشاعر “في مؤسسات الدولة العاملة في السياسة الخارجية”. وأشار دانيال إلى أنه تلقى من الشاعر للتو صورة تظهره جالساً بجانب مبعوث بوتين إلى الشرق الأوسط ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف، وعلى بعد مقعدين من وزير الخارجية سيرغي لافروف. ولم يقل الشاعر ما إن كان يلمح بذلك إلى قربه من الجسم الدبلوماسي الروسي.
وبعد أن يستعرض الباحث تاريخ أسرة الشاعر في سوريا وسبب مغادرتها، يعتبر أن التاريخ الشخصي للمهاجر الفلسطيني السوري رامي الشاعر يجعل منه “مرشحاً نموذجياً” لإبلاغ القيادة السورية رسائل من موسكو. فالشاعر كان مدرب الفروسية لأشقاء بشار باسل وبشرى في السبعينات، وعرف بشار طفلاً. ويشير إلى أن ماضي الشاعر، وكيف تتسق انتقاداته مع السياسة الروسية، وتذكيره المتعالي بأن النظام مدين ببقائه لروسيا، كل ذلك جعل الصحافة العربية تنظر إليه على أنه الناطق بإسم موسكو. ويؤكد بأنه لو أرادت السلطات الروسية تصحيح هذه النظرة لكانت حظرت على موقع RT نشر مقالاته.
يتوقف الباحث عند مقالة للشاعر نشرت العام 2019 بعد اختتام الجولة الثانية للجنة الدستور في جنيف، ويقول بأن الدبلوماسية الروسية أوجدت هذه الدينامية لتعجيل الإنتقال السياسي “مقلم الأظافر” الذي يبقي على النظام من دون المساس به. كما ينقل عن مقالة للشاعر الخريف المنصرم قولها بأن الإطار الدستوري الجديد هو الجسر الذي تعبر من خلاله الهياكل الحالية للنظام إلى سوريا الجديدة التي تحتضن جميع السوريين. وهذا لا يعني إطلاقا إنهاء دور من هم في السلطة اليوم ، ولا يعني انتقال السلطة إلى المعارضة في سوريا – “وهو ما لا تفهمه الأحزاب [المشاركة] “.
يقول الباحث أن إستخدام روسيا الإصلاحات الدستورية كمنصة إطلاق لقرار مجلس الأمن 2245 يشل القرار بتجاوزه مرحلة تشكل الهيئة الإنتقالية. وهذا يعني أن من المفترض ان يكون النظام السوري هو من يوافق على أية تغييرات دستورية، ومن ثم ينظم الإنتخابات مبتدئاً بالإنتقال السياسي المقر من الأمم المتحدة، والذي يبقي على الأسد في السلطة بشكل أو بآخر. وينقل عن مقالة للشاعر الخريف المنصرم قولها بأن الإطار الدستوري الجديد هو الجسر الذي تعبر من خلاله الهياكل الحالية للنظام إلى سوريا الجديدة التي تحتضن جميع السوريين. وهذا لا يعني إطلاقا إنهاء دور من هم في السلطة اليوم ، ولا يعني إنتقال السلطة إلى المعارضة في سوريا – “وهو ما لا تفهمه الأحزاب [المشاركة] “.
لكن الشاعر ليس الوحيد في المؤسسة الدبلوماسية الروسية الذي ينتقد الأسد لتجاهله المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة. وينقل دانيال عن Bloomberg قولها سابقاً أن بوتين يصر على أن يبدي الأسد مرونة أكثر في المفاوضات مع المعارضة بشأن التسوية السورية. ويقال بأن بوتين محبط من “رفض” زميله السوري التخلي عن أية سلطة مقابل إعتراف دولي أوسع ومليارات محتملة من دولارات المساعدة في إعادة بناء سوريا.
وينقل دانيال عن الشاعر قوله له منذ عامين بأنه “لو إستمعت القيادة السورية إلى ما كنا نقوله لها، وأخذت المبادرة في تنفيذ القرار 2254، من المحتمل أن يكون كل شبئ تغير إلى الأفضل منذ زمن بعيد، ولما كان وصل إلى هذه المرحلة، لكنه (الأسد) ومحيطه لا يريد الإقدام على أية تنازلات”.
وينتهي الباحث إلى المقارنة بين علاقة سوريا بروسيا الآن وعلاقتها بالإتحاد السوفياتي، ويقول بأن القليل قد تغير في هذه العلاقة. وينقل عن السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد تذكره تصريحاً في مؤتمر في بيروت العام 2018 للسفير السوفياتي السابق في سوريا نورالدين محي الدينوف، قال فيه بأن “سوريا تلقت من الإتحاد السوفياتي كل شيئ إلا النصائح”.
تواصلت “المدن” مع رامي الشاعر، فابدى موافقته على الإجابة على عدد من الأسئلة المنبثقة من نص الباحث الأميركي، لكنه عاد في البوم التالي، وعلى غير عادته، واعتذر عن الرد لأسباب لم يوضحها. تركزت الأسئلة حول ضرورة توضيح ما إن كانت إنتقاداته للأسد تعكس فعلاً الرأي الرسمي الروسي، ولماذا لا تنشر صحيفة الستالينيين الروس “زافترا” مقالاته إلا بعد أن تنشر في موقع بروباغندا الكرملين العالمي RT، وكيف ينظر إلى اعتبار الباحث الأميركي أن إنتقاداته للأسد تصب في نهاية المطاف بتعزيز شرعية الأسد.
كما تواصلت “المدن” أيضاً مع دانيال ويلكوفسكي الذي أجاب على إثنين من الأسئلة، واعتذر عن الرد على السؤال ما إن كان الإنتماء الفلسطيني السوري لرامي الشاعر هو الذي حدد إختياره من قبل الروس لإيصال رسائل للأسد، قائلاً “لا أعرف الجواب”.
في رده بالعربية على سؤاله لماذا ركزت المقالة على معرفة طبيعة علاقة الشاعر بالمؤسسات الروسية، وما إن كان توضيح هذه الطبيعة يغير في إنتقادات الأسد شيئاً، قال دانيال بانه يعتقد بأن طبيعة علاقة الشاعر بالمؤسسات الروسية تعزز الفرضية بأنه مكلف بتوجيه رسائل روسية الى الأسد. ونشر مقالات الشاعر في RT والمواقع الاخرى يشير إلى احتمال أنه مكلف بتوجيه الرسائل الروسية الى الأسد، ولكنه لا يشكل دليلا قاطعا على هذا الاحتمال. ويعتقد بأن علاقة الشاعر بالمؤسسات الروسية المعنية بالسياسة الخارجية، ومعرفته الشخصية بعائلة الأسد، تشكلان أدلة إضافية تعزز هذا الاحتمال كثيرا.
السؤال الأخير للباحث كان عن إعتراضه على تأكيد الشاعر بأن إعادة ربط التسوية السلمية السورية باللجنة الدستورية بدلاً من قرار مجلس الأمن 225، يبقى نظام الأسد في قيادة سورية ويحرم المعارضة من أية سلطة. رد دانيال بالقول أنه لا إعتراض لديه، بل أراد شرح هذا الموضوع للجمهور الغربي الذي قد لا يفهم أن اللجنة الدستورية هي بمثابة التفاف على ماهية القرار 2254 الداعي الى انتقال سياسي في سوريا.
المدن
————————————-
إغواء الأكراد بلسان لافروف/ عمر قدور
جانَبَ الحظ وزيرَ الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فلم تُحدِث أقواله يوم الجمعة الماضي الدويّ المطلوب، ولم يزحف أكراد سوريا “جماعات وفرادى” إلى دمشق أو موسكو للحصول على ترجمة ملموسة لوعوده. كان لافروف، في مؤتمره السنوي الصحفي عن حصيلة أعمال وزارته خلال السنة الفائتة، قد أشار إلى أن سوريا يمكن أن تستفيد من تجربة العراق في حل المسألة الكردية، وهذه أقوى رسالة روسية إذا أخذنا في الحسبان تجربة إقليم كردستان العراق التي تجاوزت الحكم الذاتي إلى تنظيم استفتاء على الاستقلال، وكان ذلك سيصبح واقعاً لولا الظروف الدولية والإقليمية التي حالت دون الأخذ بنتائج الاستفتاء المؤيدة للاستقلال.
في الرد على وزير الخارجية الروسي، قالت سما بكداش المتحدثة باسم حزب الاتحاد الديموقراطي PYD: “لنا الحق في الاستفادة من تجربة بني جلدتنا، لكن سورية ليست العراق، ودمشق ليست بغداد. ورؤيتنا للحل السوري مختلفة، لذلك سيكون الحل في سوريا مختلفاً عنه في العراق”. والطريف من حيث الظاهر أن المتحدثة، التي يسيطر حزبها على الإدارة الذاتية الكردية، ترفض العرض الروسي بآفاقه التي تذهب أبعد مما يطالب به تنظيمها. فالحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق هو بموجب الدستور العراقي، ومن حيث التنفيذ، يمنح أكراد العراق استقلالية أكبر مما يطالب به الفرع السوري لحزب العمال في أطروحاته عن اللامركزية.
قد تفسِّر العداوة بين قنديل وأربيل رفض بكداش التجربة العراقية أو التشبه بها، مع أنها تطالب الجانب الروسي بإقناع سلطة الأسد من أجل الحوار مع حزبها، وكان لافروف في المؤتمر الصحفي نفسه قد أشار إلى تحفظ تلك السلطة إزاء الأكراد، موضحاً أنها لم تنسَ لهم اتباعهم نهجاً معارضاً في مراحل سابقة من النزاع. كان يجدر بالمتحدثة الثناء على أفق الحل الذي يقترحه لافروف، مع مطالبتها بجَسر المسافة الشاسعة بين ذلك الأفق ورفض الأسد مجرد النقاش في اقتراحات أدنى قدّمتها الإدارة الذاتية في جولات سابقة فاشلة من الحوار بين الطرفين.
لا نعلم ما الذي تقوله موسكو لوفود الإدارة الذاتية التي لم تنقطع عن زيارتها، لكن نستبعد أن تكون قد طرحت على تلك الوفود تصوراً للحل مشابهاً للنموذج العراقي. خلف أبواب القاعات المغلقة، من المرجح أن تكون الدبلوماسية الروسية “بلباقتها ولطفها المعروفين!” قد حاولت إقناع الإدارة الذاتية بالتخلي عن العديد من مطالبها كي يقبل الأسد بالحوار معها، ولا يُستبعد إطلاقاً أن يكون لافروف ومعاونوه قد أخبروا وفود الإدارة أنهم لا يستطيعون ممارسة أي ضغط على الأسد لتقديم “تنازلات”، وأن الحل ينبغي أن يكون سورياً وبقيادة سورية…إلخ.
في التشبيه بالنموذج العراقي، يتناسى لافروف ويتناسى من رحبوا بتصريحه ومن تحفظوا عليه من الأكراد أن تجربة إقليم كردستان العراق تطورت إلى شكلها الحالي بتدخلين دوليين حاسمين، أولهما فرض منطقتي الحظر الجوي على صدام حسين، واحدة منهما تشمل الإقليم، وثانيهما الغزو الأمريكي وما تلاه من تغيير جذري في الواقع وفي السلطة. وإذا جاز تشبيه المظلة الأمريكية الحالية للإدارة الذاتية بتجربة الحظر الجوي في العراق فإن إسقاط بشار غير مطروح على غرار إسقاط صدام، بل حذّرت مراراً دوائرُ صنع القرار في واشنطن من تكرار النموذج العراقي باعتباره خطأ كارثياً.
بخلاف ما حدث في العراق، يُنذر لافروف في الجزء الأخير مما قاله عن الموضوع الكردي بأن الأمريكيين ليسوا من سيحدد مصير سوريا. وكان قد ذكّر بعزم إدارة ترامب على الانسحاب من سوريا، ما دفع الأكراد حينها إلى طلب مساعدة موسكو للتفاوض مع الأسد، ثم اختفى اهتمامهم بذلك بعد تراجع واشنطن عن قرارها. هذه هي العصا التي يشهرها لافروف في وجه الأكراد، من خلف جزرة الإغواء، فهو يهدد الأكراد بانسحاب أمريكي قد يحدث، وبأن واشنطن لن تقرر مصير سوريا، وهذا تهديد تعززه طريقة تعاطي ثلاث إدارات متعاقبة مع الحدث السوري.
إنما ينبغي تالياً ألا تنطلي خدعة التلويح بجزرة الحكم الذاتي لإقليم كردستان وعصا الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، فالحجم المبالغ فيه للجزرة ينضح بمقدار ما تخبئه من كذب. أقوال لافروف أتت فقط بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، وفيها قال الأخير: “إذا سعى شخص ما إلى هدف وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس، وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لا يؤدي إلى شيء”. بلا لبس، كان لافرنتييف يوضح أن صلاحيات بشار الأسد خط أحمر، ومن المعلوم أن الدستور الحالي يمنحه صلاحيات واسعة جداً وفق نظام رئاسي شديد المركزية، بما يتنافى بالمطلق مع فكرة منح الأكراد حكماً ذاتياً، وحتى أدنى منه بكثير. للتذكير، أتى الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مع إنهاء النظام الرئاسي والتحول إلى نظام برلماني.
وفق تجربة سنوات من التدخل العسكري الروسي، وبعيداً عن غرام بوتين بسياسة الأرض المحروقة، أفضل ما قدّمته الدبلوماسية الروسية هو الإشراف على ما سُمّي بمصالحات بين السلطة وبعض جيوب المعارضة. إما بتجاهلٍ من موسكو، أو بموافقتها التامة، تنصل الأسد من كافة تفاهمات “المصالحات”، وآخر تنصل كان في درعا وإن شذّبته قليلاً “الوساطة” الروسية.
بعبارة أخرى، من المستحيل على الدبلوماسية الروسية الخروج من جلدها لتقدّم للأكراد ما لا ينسجم مع “تقاليدها” أو مع “تقاليد” سلطة الأسد. الأقرب إلى الواقع أن الدبلوماسية الروسية، فوق أنها تنطق باسم نظام يشهر عداءه للديموقراطية، محكومة أيضاً بدعمها سلطة تشهر استعصاءها على أدنى تغيير، وأقوال لافرنتييف هي أفضل ما يعبّر عن هذا التحالف، وعن السقف السياسي الذي يمكن أن يتفق عليه طرفاه، أو أطرافه الثلاثة بضم النظام الإيراني الذي ليس لديه تصور مختلف لمستقبل سوريا.
بكذبة أكبر من أن تصدَّق، افتتح لافروف العام الجديد، وهو الذي وصِف مراراً بثعلب الدبلوماسية الروسية. قد يجد الذين يودّون امتداحه مكراً في تحميل تهديده “وهو الأصل” في طيات الإغواء، وأن غايته أولاً وأخيراً انتزاع الأكراد من أمريكا ثم الغدر بهم. إلا أن لافروف يبدو كمن قرر إعفاء مدّاحيه، إذ ظهر الثعلب كعرّاب مصالحات صغير عند الأسد.
المدن
——————————
إسرائيل:الدوريات الجوية الروسية السورية..موجهة لواشنطن
مسؤولون إسرائيليون: هجماتنا في سوريا مستمرة رغم الدوريات الروسية
قال محللون إسرائيليون إن إعلان روسيا عن دورية جوية عسكرية مشتركة مع النظام السوري “يأتي لدفع إسرائيل إلى الضغط على الولايات المتحدة في ملف أوكرانيا”، فيما ذكر محللون آخرون أن الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا “لن تتوقف” جراء هذه الدوريات.
ونفذ طيارون روس وطيارون سوريون تابعون للنظام أول دورية جوية مشتركة فوق سوريا على طول مرتفعات الجولان المحتل ثم على طول الحدود الجنوبية حتى نهر الفرات وفوق المناطق الشمالية من سوريا الاثنين، فيما أكدت موسكو أن هذه الدوريات ستصبح منتظمة، بحسب بيان لوزارة الدفاع الروسية.
وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية إن القادة السياسيينن والأمنيين الإسرائيليين “قلقون ويجدون صعوبة في فهم ما دفع موسكو إلى الإعلان عن دوريات جوية مشتركة مع النظام”، وهم يتساءلون عما حدث للروس “الذين قرروا تغيير سياستهم تجاه إسرائيل”.
وحدد الخبير العسكري الاسرائيلي يوسي يهوشاع في تقرير للصحيفة 3 تفسيرات إسرائيلية لإعلان موسكو المستجد. التفسير الاول أن “الروس قدّروا أن الأحوال الجوية ربما تتيح نافذة لهجوم إسرائيلي في سوريا قبل دخول الموسم الشتوي، فأرادوا إحباطه بسرعة”.
أما التفسير الاسرائيلي الثاني، قال يهوشاع إن “الاعلان الروسي يمكن أن يكون مرتبطاً بتقدير موسكو أن إسرائيل بالغت في شن الهجمات في العمق السوري، على الرغم من أن إسرائيل تنطلق من افتراض مفاده بأن تقليص الوجود العسكري الإيراني في سوريا يمثل مصلحة مشتركة لكلا البلدين”.
والتفسير الثالث يكمن في أن “الإعلان مرتبط بأحداث أوكرانيا ورغبة الروس في إعلام الأميركيين أن هناك ساحة نشطة أخرى في الشرق الأوسط”، بحسب المحلل الاسرائيلي، الذي أضاف أن “الروس يعتقدون أن الاعلان عن دوريات مشتركة مع النظام قد يدفع إسرائيل إلى الضغط على الولايات المتحدة في ملف أوكرانيا لإبداء مواقف أكثر مرونة”.
وتابع أنه “رغم وجود منظومة تنسيق عسكري وأمني قائم بين روسيا وإسرائيل، وبينما لم يوجه الروس أنظمة دفاعهم الجوي ضد الطائرات الإسرائيلية، لكن مثل هذا التغيير الذي سيحد من القوة الجوية الإسرائيلية في أجواء سوريا سيكون دراماتيكياً”.
وأردف أن “إسرائيل غير قادرة على التحديد إن كانت الدوريات رسالة في لعبة بين القوى الكبرى وتنتهي عند هذا الحدّ، أو أن روسيا ستحدّ من نشاط سلاح الجو الإسرائيلي في سوريا ضد الإيرانيين”.
وأضاف المحلل الاسرائيلي أن ضباط الجيشين الإسرائيلي والروسي يسعون إلى تهدئة الأوضاع”، متابعاً أن “إعلان روسيا قد يقلص فعلياً الهجمات الإسرائيلية في سوريا”.
من جهتها، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مسؤولين إسرائيليين أن الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا “لن تتوقف” جراء الدوريات العسكرية الروسية المشتركة مع النظام السوري، مضيفين أن “المناورات تطور ليس إيجابياً”.
————————————-
مسمار جحا الروسي وعقلانية كانط/ حسين مجدوبي
حكاية مسمار جحا مشهورة في التراث العربي، وتروي كيف باعت هذه الشخصية الفكاهية المعبرة عن الكثير من معاني الحياة المعيشية وقتها، منزلا وأبقى فيه على مسمار، وجعل منه ذريعة لزيارة المنزل في أي وقت يشاء، حتى جعل المالك يبيع المنزل ليتخلص من صداع جحا. ويبدو أن روسيا تطبق هذه الاستراتيجية في استعادة نفوذها في المحيط المجاور لها، خاصة في الجمهوريات السوفييتية السابقة، ويبقى العنوان البارز الذي قد يشكل مفاجأة استراتيجية هي منطقة «كالينينغراد» التي تعد «مسمار جحا الروسي وسط الغرب».
وعملية البحث عن مفهوم دلالي لمسمار جحا الروسي في محيطه، ستقودنا إلى مسامير عديدة مختلفة ومتنوعة بتعدد المناطق، بشرية في بعض الأحيان وترابية في أحيان أخرى. وعلاقة بمفهوم مسمار جحا البشري في الحالة الروسية، فهو يتجلى في تلك الشريحة من المواطنين المقيمين في مختلف الجمهوريات السوفييتية سابقا الذين مازالوا يتحدثون اللغة الروسية ولهم ارتباط بروسيا الأم، أكثر من الجمهوريات التي أنشئت بعد سقوط برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي. وهذا هو العامل الذي يفسر تدخل روسيا في جمهورية جورجيا سنة 2008 لحماية الأقلية الروسية في أوسيتيا الجنوبية. وهو السبب نفسه الذي جرى التذرع به لضم شبه جزيرة القرم سنة 2014. وهو العنصر المفجر للتوتر الخطير بين روسيا وأوكرانيا حاليا، حيث تهدد موسكو بالتدخل لفرض واقع جديد في إقليمي لوغانسك ودونيتسك.
والتأمل في خريطة روسيا وما جاورها، يبرز كثرة مسامير جحا الروسية، غير أنه يوجد مسمار فريد من نوعه ويتعلق هذه المرة، بما هو ترابي مباشرة، إنها منطقة كالينينغراد، الواقعة بين لتوانيا وبولونيا، وعلى مقربة من منطقة ألمانيا وتطل على معظم الدول الإسكندنافية في بحر البلطيق. وهي من المناطق التي تشكل مفاجأة للكثير من المتتبعين، علما بأن العلاقات الدولية مليئة بالمفاجآت من هذا النوع. ويمكن الحديث عن واحدة منها، عندما تسأل الكثيرين عن أطول حدود برية لدولة فرنسا يكون الجواب ألمانيا أو إسبانيا، لكن المفاجأة الكبرى أن أطول حدود برية فرنسية مع البرازيل بحكم استمرار فرنسا في غويانا التي تعتبرها أرضا فرنسية وأوروبية، وتبلغ هذه الحدود 730 كلم. كالينينغراد من عناوين الحروب الأوروبية خلال القرون الأخيرة، هذه البقعة التي لا تزيد مساحتها عن 215 كلم مربع، وأقل من نصف مليون من الساكنة، كانت تخضع للسيادة الألمانية، لتنتهي سنة 1945 تحت السيطرة السوفييتية، حيث قام الكرملين وقتها بطرد الألمان والقضاء على كل ما هو ألماني، وإحلال كل ما هو روسي محله. ورغم تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهور دويلات في البلطيق، بقيت كالينينغراد روسية واكتسبت أهمية خاصة لتصبح المسمار الاستراتيجي لجحا. حاول الغرب بشتى الطرق إقناع روسيا بالتخلي عن هذه الأراضي، وجعلها تستقل مثل باقي دول المنطقة الصغيرة مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، وجرى الحديث سنة 2001 عن رغبة ألمانيا شراء هذه المنطقة، عبر إعفاء روسيا من الديون المستحقة وقتها، التي تجاوزت 25 مليار يورو، لكن روسيا لم تكرر الخطأ التاريخي الكبير عندما باع القيصر منطقة ألاسكا للأمريكيين في القرن التاسع عشر بثمن بخس. كما لم تقدم ألمانيا على المطالبة باستعادة السيادة على هذا الجزء منها، بل فتحت سنة 2004 تمثيلية دبلوماسية فيه. وتوجد دراسات متعددة حول هذا الجيب الأرضي الروسي في قلب البلطيق، وهو قادر على خلق «مفاجأة استراتيجية» بمعنى التحول إلى قاعدة عسكرية تزرع الرعب في المنطقة، أو التسبب في حروب على شاكلة أوكرانيا. وبمجرد ارتفاع التوتر في أوكرانيا وتعزيز روسيا قواتها العسكرية في كالينينغراد، ردت السويد خلال الأسبوعين الأخيرين بإرسال قوات عسكرية إلى جزيرة غوتلاند المقابلة لكالينينغراد. وكان تصريح ماتياس أردين قائد القوات العسكرية السويدية في جزيرة غوتلاند بليغا يوم الثلاثاء من الأسبوع الماضي، بقوله: «المتأمل في خريطة البلطيق، سيدرك أننا في الوسط، وكل من يسيطر على الجزيرة سيتحكم في عمليات الإبحار جوا وبحرا» في إشارة إلى التحكم في حرية الملاحة البحرية والجوية في البلطيق.
مشكل كالينينغراد قابل للانفجار، وتتخوف لتوانيا وبولونيا من أن يكون سببا في مغامرة روسية مستقبلا، لاسيما بعدما طبقت روسيا الاستراتيجية الحربية «A2/AD» التي تعني فرض نظام حظر الوصول إلى المنطقة تحت تهديد التعرض للخسائر الفادحة. لقد تحولت هذه البقعة إلى قاعدة عسكرية متقدمة بعدما احتضنت صواريخ روسية تطل على أوروبا مباشرة، قادرة على شل جزء مهم من أوروبا الشمالية، وكان الباحث فرانك تيتون قد كتب كتابا رائعا حول هذه المسألة يحمل عنوان «جيوسياسية كالينينغراد: جزيرة روسية وسط الاتحاد الأوروبي». وأمام التطورات الحالية، يعمل الغرب على نهج إخماد أي حريق قد يندلع بسبب كالينينغراد حتى لا تجدها موسكو ذريعة لخلق مشاكل لبولونيا وليتوانيا. ومن ضمن الأمثلة، عندما أدلى الرئيس فلاديمير بوتين بتصريح مقلق، معتبرا محاصرة الدول الأوروبية لساكنة كالينينغراد بالتأشيرة للمرور إلى روسيا هو خرق كبير لحقوق الإنسان. لم تتأخر ليتوانيا، الحلقة الضعيفة في المنطقة، في منح ترخيص خاص للروس حتى يتمكنوا من السفر من كالينينغراد إلى بيلاروسيا ثم روسيا بدون مشاكل. ومن الصدف التاريخية، كان اسم كالينينغراد قبل سقوطها تحت السيطرة السوفييتية سنة 1945 كونيغسبرغ، واشتهرت بكونها مسقط رأس أحد كبار الفلاسفة إيمانويل كانط عندما كانت جزءا من ألمانيا البروسية. واشتهر كانط بأطروحاته الفلسفية ومنها «نقد العقل» بدعوته الناس إلى الاهتمام أساسا بما يمكن فهمه والبرهنة عليه علميا، غير أن أطروحة كانط تبقى قاصرة على فهم «العقل الجيوسياسي» لفلاديمير بوتين، لأنه يخضع لمفهوم «مسمار جحا» وجعل من مدينة مسقط كانط «مسمار جحا الروسي في الغرب». فهل كان جحا يدرك أنه بحيلة المسمار والمنزل سيمنح بوتين حيلة جيوسياسية قد تهز العالم، إذا انفجرت مشكل كالينينغراد، هذا المشكل الذي يشبه البركان الخامد والقابل للانفجار في أي لحظة.
القدس العربي،
—————————–
من كوبا إلى أوكرانيا/ جانبي فروقة
يدعو العديد من المحللين الغربيين النظام الروسي بالـ»كليبتوقراطية» أو الـ«أوتوقراطية» لأن هذه الأنظمة تحافظ على ولاء النخب والسكان، من خلال إعادة توزيع الفوائد والغنائم والاعتماد على طبقة ثرية فاسدة.
ويركز المحللون الغربيون على أنه عندما يتحدث الرئيس بوتين عن الاقتصاد الروسي، فهو يركز على مؤشرات استقرار الاقتصاد الكلي، من حيث انخفاض التضخم، وانخفاض العجز في الميزانية، وانخفاض الدين العام ليصل إلى 18% فقط من قيمة الناتج القومي في نهاية 2020، وثبات الفائض في الحساب الجاري، ووصول الاحتياطات النقدية من الدولار إلى 596 مليار دولار، لكنه لا يتكلم عن النمو الاقتصادي ومستوى المعيشة المتدني للروس، حيث انكمش الاقتصاد الروسي من 2.3 تريليون دولار في 2013 إلى 1.7 تريليون دولار في 2021.
وحسب منظورهم، فإن الفكر الاستبدادي لبوتين وانشغال الكرملين بالسيادة للوقوف في وجه العقوبات الاقتصادية، وأهمية الحفاظ على أمنه السياسي، هو ما يجعل بوتين يحاول الحفاظ على الحد الأقصى من الاحتياطيات، أكثر من الاهتمام بتعزيز مستوى المعيشة لسكان روسيا. وروسيا تحتاج إلى رفع نسبة الاستثمار، وتفعيل ريادة الأعمال لدعم النمو الاقتصادي، وهو العامل الأساسي المفقود في المعادلة الاقتصادية الروسية. الفاسدون في أي نظام كليبتوقراطي يريدون حماية أموالهم، وهذا ما يشكل الحلقة الأضعف في هذا النظام، من خلال حقوق الملكية الممنوعة في الداخل الروسي، لذلك هم مضطرون للاحتفاظ بمدخراتهم في الخارج، وهناك كميات ضخمة من الأموال السوداء لروسيا محتجزة في الغرب، وبتقييم متحفظ تقدر الأموال الروسية الخاصة المحتجزة في الخارج بتريليون دولار، ويقدر أن ربع هذا المبلغ يعود للرئيس بوتين والمقربين منه، وهي ضمن شركات مجهولة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
وعلى الرغم من أن تأثير العقوبات الغربية على روسيا كان واضحا في أنها منعت الرئيس بوتين من المضي قدما في الهجوم العسكري على أوكرانيا في 2014، وقلصت لحد كبير تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة في شرايين الاقتصاد الروسي وفرضت ضغوطا كبيرة على النمو الاقتصادي الروسي، ليبقى عند حدود 3% من إجمالي الناتج المحلي، وفرضت على الحكومة الروسية اتخاذ تدابير وسياسات مالية تقشفية حادة، وكان للعقوبات الفردية على الدائرة المقربة من بوتين الأثر في تقسيم الأثرياء، ومحاولة العديد منهم الخروج من روسيا. إلا أن الرئيس الروسي بوتين يقول لقد طفح الكيل بتمدد الناتو شرقا، ولا يمكن أبدا القبول بانضمام أوكرانيا إلى الناتو. والأزمة السياسية الحادة يتصاعد دخانها العسكري على الحدود بين روسيا وأوكرانيا. ومن جانبها أوضحت الولايات المتحدة والناتو التزامهما المطلق بمساعدة أوكرانيا وسيادتها على أراضيها، وبدء تسليح الجيش الأوكراني بقوة، وهدد الرئيس بايدن مؤخرا الرئيس الروسي بإجراءات لم يسبق لها مثيل، إذا تعرضت أوكرانيا للهجوم، بينما شدد على أن نشر القوات الأمريكية من جانب واحد ليس مطروحا على الطاولة. والغرب يملك أسلحة سياسية واقتصادية بامتياز، يمكنها أن تؤثر بشكل كبير في الاقتصاد الروسي، ويمكنها أن تشله تماما ومن أهمها: أولا إيقاف نظام «السويفت» للتحويلات المالية، الذي تم فرضه على إيران. وثانيا: تجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي التي تقدر بـ 570 مليار دولار. وثالثا: تعطيل خط السيل الشمالي 2 لتصدير الغاز إلى ألمانيا.
ما يقلق روسيا وما دعا الرئيس الروسي في لقاءاته الأخيرة للقول «لقد طفح الكيل» أنه منذ عام 1997 حتى يومنا هذا تم توسع الناتو شرقا باتجاه روسيا، وتم انضمام 12 بلد (استونيا، تشيك، سلوفانيا، مقدونيا الشمالية، لاتفيا، سلوفاكيا، كرواتيا، بلغاريا، لتوانيا، هنغاريا، مونتينغرو، بولندا، رومانيا وألبانيا) وفي عام 2014 ضمت روسيا القرم، وكان لهذا الضم صدى إيجابي في الداخل الروسي، لكن روسيا محبطة من عدم التزام أوكرانيا بمحادثات السلام التي تمت في عام 2015 بخصوص شرق أوكرانيا، وكان الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ قد علق مؤخرا «أن أمر انضمام أوكرانيا للناتو، هو قرار يقرره الأوكرانيون مع 30 دولة في حلف الناتو، وليس لروسيا أي حق للنقض (فيتو) والتدخل في هذه العملية». وأطلق ديمتري كيسليف (الذي يملك الامبراطورية الإعلامية «روسيا اليوم» والخاضع للعقوبات الغربية، والمعروف عنه نقل رسائل الكرملين للجمهور) تهديدا واضحا وهو، أنه في حال ضم أوكرانيا للناتو، فسنكون أمام أزمة صواريخ على غرار الأزمة الكوبية، لكن مع وقت طيران أقصر للصواريخ، لأن روسيا تمتلك أفضل الأسلحة في العالم، التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وقد تصل إلى أمريكا بشكل أسرع من وصول الأسلحة الأمريكية أو البريطانية إلى موسكو». وأضاف، أن من الجيد تحقيق التوازن بين المصالح، لأن روسيا لن تقبل أن توضع في موقف يمكن أن تصلها فيه الصواريخ في غضون أربع دقائق، وروسيا مستعدة لخلق تهديد مماثل، لكنها لا تريد ذلك وإلا سيتحول الجميع إلى رماد مشع.
ما تفعله روسيا اليوم هو الدبلوماسية القسرية المتمثلة بحشد القوات عند الحدود، بهدف انتزاع ضمانات أمنية من دون الحاجة للحرب، لكن هذه السياسة تنطوي على مخاطر عالية. وهذا ما أكد عليه أندريه كوتونوف المدير العام لمجلس الشؤون الدولية الروسي، وهي مؤسسة فكرية مرتبطة بالسلطات الروسية قائلا: إذا كان الجو ساما للغاية ومليئا بالتوترات والكثير من الأنشطة العسكرية على الأرض، وفي الجو والبحر، فهناك مخاطر بحدوث أخطاء تؤدي إلى نزاع لا يريده المرء حاليا».
وعلى صعيد آخر كانت روسيا تحاول إنشاء تحالف مع الصين، لكن روسيا والصين ليسا شريكين طبيعيين، ولا تربطهما معتقدات ومصالح واحدة، لكن الشراكة والعلاقات ترتكز اليوم على فوائد متبادلة وفردية، في مواجهة الطموح الغربي المتعدي جيوسياسيا وأيديولوجيا. روسيا تدرك تماما خطر نمو التنين الصيني، حيث أن عدد سكان الصين هو عشرة أضعاف روسيا، وكذلك حجم الاقتصاد الصيني اليوم هو عشرة أضعاف الاقتصاد الروسي، والصين متقدمة تكنولوجيا وفي مجال الابتكارات عن روسيا، وكذلك مبادرة الحزام والطريق الصينية، حققت اختراقات عميقة في مجال النفوذ الروسي في آسيا الوسطى، وهذا ما يجعل الكرملين قلقا من تنامي النفوذ الصيني، وكذلك حاولت روسيا الالتفاف على العقوبات الغربية، بمحاولة التعاون الوثيق مع البنوك الصينية، لكن نظرا لارتباط البنوك الصينية القوي بالبنوك الأمريكية، لم تجد هذه السياسة نفعا.
أمام بايدن اليوم تحد كبير في مواجهة المصالح الروسية الصينية المتلاقية، وستكون مهمته أكبر من الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون، الذي نجح في سبعينيات القرن الماضي في إضعاف الكتلة الشيوعية، بمد يده للصين وتعكير العلاقات الصينية السوفييتية وتوسيع الشقاق بينهما آنذاك.
إن نزع فتيل الحرب والحل للأزمة الأوكرانية، سياسي بامتياز وطاولة المفاوضات ليست مستديرة، بل مستطيلة وعليها الكثير من الملفات والقضايا، بدءا من التهدئة على جبهة أوكرانيا، والضمانات الغربية بعدم توسيع حلف الناتو شرقا، على الأقل على المدى المتوسط، وتفعيل معاهدة الصواريخ المتوسطة، وخط غاز السيل الشمالي والعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وملفات حقوق الإنسان والمعارضة الروسية، ويمكن أن تكون ملفات الأزمة في سوريا وليبيا وإيران وكازاخستان وجورجيا على طرف الطاولة أو تحتها أيضا.
كاتب عربي مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية
القدس العربي،
——————————–
أزمة أوكرانيا:8500 جندي أميركي وسفن وطائرات أطلسية الى أوروبا
أعلنت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) الاثنين، إن الولايات المتحدة ترفع من جاهزيتها لنشر جنودها بسبب التوترات التي تشهدها أوروبا.
وقال المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، في مؤتمر صحافي، إن وزير الدفاع لويد أوستن أمر بزيادة جاهزية وتأهب وحدات عسكرية من نحو 8500 جندي داخل الولايات المتحدة لتكون مستعدة في مدة زمنية قصيرة للانتشار في أوروبا، إذا تم تفعيل قوة الردع السريع التابعة للناتو.
وأضاف كيربي أن الولايات المتحدة تواصل التنسيق الوثيق مع الحلفاء والشركاء بشأن احتياجاتهم على الارض، مشيراً إلى أن الوحدات التي يتم تحضيرها تضم فرقاً قتالية ولوجستية وطبية واستخباراتية.
من جهته، أعلن حلف شمال الأطلسي (الناتو) أن دوله تضع قوات احتياطية في حالة تأهب، وأرسلت سفناً ومقاتلات لتعزيز دفاعاتها في أوروبا الشرقية ضد “الأنشطة العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا”، فيما اعتبر الكرملين أن إعلان الناتو يشكل تهديداً.
وقال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: “سيواصل حلف شمال الأطلسي اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لحماية كل الأعضاء والدفاع عنهم، لا سيما تقوية دول التحالف الشرقية”، مضيفاً “سنردّ دائماً على أي تدهور في شؤوننا الأمنية بما في ذلك تعزيز دفاعنا الجماعي”.
وتتهم الدول الغربية وكييف روسيا بحشد نحو مئة ألف جندي عند حدود أوكرانيا تحضيراً ل”غزو محتمل”. وفي المقابل، تنفي روسيا نيتها شن هجوم على أوكرانيا. ويؤكد الكرملين أن “الغرب هو الذي يستفز روسيا من خلال نشر قوات عسكرية عند حدودها أو من خلال تسليح الجيش الأوكراني الذي يحارب انفصاليين مؤيدين لروسيا في دونباس في شرق أوكرانيا”.
بدوره، قال نائب وزير الخارجية الروسية ألكسندر غروشكو إن إرسال الناتو قوات إضافية في دول شرق أوروبا دليل على أن الحلف يتبنى “نهج التهديد والضغط العسكري”، مضيفاً أن “محاولات الناتو رسم صورة عدوانية حول روسيا هدفها تبرير الأنشطة العسكرية للحلف في أقصى شرق أوروبا”.
وأضاف في تصريحات مع وكالة “إنترفاكس” الروسية أن “بإمكان الحلف أن يسهم في تحسين الوضع حول أوكرانيا إذا دعا سلطاتها إلى تطبيق اتفاقات مينسك حول تسوية النزاع في منطقة دونباس بالكامل ومن دون إبطاء”، داعياً الناتو إلى “إعادة النظر في برامج مساعدة كييف”، معتبراً أن هذه البرامج “تعزز ثقة السلطات الأوكرانية في عدم محاسبتها على الجرائم التي ترتكبها ضد شعبها، وتغذي أوهامها بشأن إمكانية حل النزاع بطرق عسكرية”.
وأعرب الكرملين عن قلقه إزاء الوضع في إقليم دونباس، ودعا أوكرانيا إلى عدم التفكير في تسوية النزاع بالقوة، وقال إن سلطات كييف نشرت أعداداً كبيرة من القوات والمعدات العسكرية على خط التماس، مما يشير إلى استعدادها لعملية هجومية.
وقال الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي يصعدان التوتر عبر “هستيريا الإعلانات” و”الخطوات الملموسة”، مضيفاً أن خطر شن قوات أوكرانية هجوماً ضد الانفصاليين الموالين لروسيا “مرتفع للغاية، وأعلى من ذي قبل”.
وأضاف بيسكوف في حديث مع الصحافيين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقوم “بالإجراءات اللازمة” لحماية بلاده”، متابعاً أن “موسكو كانت بانتظار ردّ مكتوب من واشنطن حول المطالب الامنية وستقرر مسار عملها بعد ذلك”.
إجلاء دبلوماسيين
ويأتي إعلان الناتو فيما بدأت دول غربية سحب رعاياها من أوكرانيا، إذ أمرت الولايات المتحدة عائلات دبلوماسييها في كييف بمغادرة أوكرانيا “بسبب التهديد المستمر بعمل عسكري روسي”.
وقالت وزارة الخارجية الأميركية في بيان، إن “الموظفين المحليين والموظفين غير الأساسيين يمكنهم مغادرة السفارة في كييف إذا رغبوا في ذلك”، مضيفةً أنه يتعين على المواطنين الأميركيين المقيمين في أوكرانيا “التفكير الآن” في مغادرة البلاد عبر الرحلات الجوية التجارية أو وسائل النقل الأخرى.
بدورها، أعلنت بريطانيا بدء سحب بعض موظفيها وأسرهم من سفارتها لدى أوكرانيا وسط مخاوف من “غزو روسي محتمل”.
وقالت وزارة الخارجية البريطانية في بيان، إنها تتخذ الإجراءات رداً على “التهديد المتزايد من روسيا” تجاه أوكرانيا، مشيرة إلى أن السفارة ستظل مفتوحة وتواصل القيام بالأعمال الأساسية.
أما فرنسا فنصحت رعاياها “بتأجيل السفر غير الضروري أو العاجل إلى أوكرانيا بقدر الإمكان”، كما أعلنت النمسا إعدادها خطة لإجلاء الدبلوماسيين لكنها لم تبدأ بعد.
وانتقدت وزارة الخارجية الأوكرانية الإثنين، سحب كل من الولايات المتحدة وبريطانيا بعض دبلوماسييها من كييف. وقالت الوزارة في بيان إن قرار إجلاء دبلوماسيين من كييف “سابق لأوانه”، مشيرةً إلى أن الموقف الأميركي تجاه الدبلوماسيين يدل على “الحذر المفرط”، بحسب ما نقلت وكالة “أسوشيتيد برس”.
وفي السياق، حذر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون موسكو من أن أي هجوم على أوكرانيا “سيكون كارثة على أوكرانيا وروسيا والعالم”. وأضاف: “تقف المملكة المتحدة بشكل صريح وراء سيادة وسلامة أوكرانيا”، لكنه تابع أن الهجوم الروسي على أوكرانيا “ليس محتوماً” وأنه “يمكن للمنطق أن يسود”.
————————-
“السلاح الوقح”.. الكل خسران إن قطعت روسيا إمدادات الغاز
الحرة / ترجمات – واشنطن
مع ارتفاع التصعيد بين روسيا ودول الغرب بشأن احتمال اجتياح أوكرانيا، ووسط التلويح بفرض عقوبات قاسية في حال اتخذت موسكو خطوة ضد كييف، يزداد القلق بشأن استغلال الطاقة سلاحا في المواجهات المقبلة.
وتبحث إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، عن حلول لتأمين قطاع الطاقة لحلفاء الولايات المتحدة في حال اتخذت روسيا قرار تسليح إمدادات الطاقة للدول الأوروبية.
وقال مسؤول في البيت الأبيض، رفض الكشف عن اسمه في حديث لصحفيين، الثلاثاء، إن “الولايات المتحدة تعمل مع شركات في الشرق الأوسط وآسيا وأفريقيا لضمان حصول أوروبا على الغاز الطبيعي في حال قطعت روسيا إمداداتها”، وفقا لما نقلته شبكة “سي أن بي سي” الأميركية.
وتطرّق المسؤول الأميركي إلى المخاوف السائدة في أوروبا من أن تردّ روسيا على أيّ عقوبات عبر تقليص صادراتها من الطاقة إلى القارة العجوز التي تعتمد عليها بشدة، بالقول إن موسكو ستؤذي نفسها أيضاً في حال أقدمت على خطوة من هذا القبيل.
وقال: “نجري مناقشات مع كبار منتجي الغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم ، للوقوف على قدراتهم واستعدادهم لزيادة إمدادات الغاز الطبيعي مؤقتا وتخصيص هذه الكميات للمشترين الأوروبيين”.
وأشار إلى أن الإدارة عملت على “تخصيص كميات إضافية من الغاز الطبيعي غير الروسي من مناطق مختلفة من العالم من شمال أفريقيا والشرق الأوسط إلى آسيا والولايات المتحدة” ، مضيفًا أن مخزونات الطاقة الأوروبية أقل بكثير بسبب خفض الإمدادات الروسية خلال الأشهر القليلة الماضية.
وأكد “نحن على استعداد لفرض عقوبات تحمل تداعيات هائلة” تتجاوز الإجراءات السابقة التي طُبّقت عام 2014، بعدما اجتاحت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
وأضاف “ولّى زمن الإجراءات التدريجية”، مؤكداً أنّه في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا مجدداً “فسنبدأ من أعلى سلّم التصعيد”.
وأشار المسؤول الأميركي إلى أن الاقتصاد الروسي “له بعد واحد، وهذا يعني أنها (روسيا) بحاجة إلى عائدات النفط والغاز بقدر ما تحتاج أوروبا إلى إمدادات الطاقة الخاصة بها”، مضيفا أن الإيرادات من صادرات النفط والغاز تشكل حوالي نصف الميزانية الفيدرالية لروسيا.
وشدد على أن هذه ليست ميزة غير متكافئة بالنسبة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، مضيفا “إنه نوع من الاعتماد المتبادل”.
الاقتصاد الروسي.. هل يتحمل “الضربة”؟
وأبدت “شبكة مشغلي أنظمة النقل الأوروبية” (ENTSOG)، العام الماضي، تفاؤلا في تقييمها الذي ينشر كل أربع سنوات، والذي يعكس كيفية التعامل مع سيناريوهات الكوارث وانعدام مصادر الطاقة.
وأجرت الشبكة اختبارا لحوالي 20 سيناريو لكوارث محتملة قد تؤثر على قطاع الطاقة واستنتجت أن “البنى التحتية الأوروبية للغاز تملك المرونة الفعالة لصالح أعضاء الاتحاد الأوروبي .. للحرص على أمان إمدادات الغاز”، لكن المشكلة هنا أن هذا التحليل لم يشمل سيناريو حرب مع روسيا، وفقا لما ذكره تحليل لصحيفة “ذا إيكونوميست”.
ولم يكن متوقعا في السابق أن تقوم روسيا بقطع كافة الإمدادات الأوروبية التي تشكل ثلث الغاز المحروق في القارة العجوز.
ويقول ثاين غوستافسون، مؤلف كتاب “Kimat”، بشأن الطاقة الروسية، إنه، وحتى في ذروة الحرب الباردة لم يكن إغلاق إمدادات الغاز خيارا أمام الاتحاد السوفيتي، مضيفا أنه خلال أزمة الغاز بين أوكرانيا وروسيا، عام 2009، علق ضخ الغاز إلى الدولة، لكن ذلك كان لوقت قصير فقط.
ويشير تحليل “ذا إيكونوميست” إلى أن بوتين “يحضّر كارثة لجارة روسيا (أوكرانيا) ولنفسه”.
ويقول غوستافسون إن سيناريو قطع إمدادات الغاز بسبب الأزمة الأوكرانية لم يعد بعيدا عن التصور، مشيرا إلى أنه، ومقارنة بالسوفييت الذين سبقوه، فإن بوتين يمكنه تحمل “صدمة قصيرة في قطاع الطاقة”.
وحلل الخبير في مجال استخبارات الطاقة، جيمي كونشا، الخسائر التي يمكن أن تطال شركة “غازبروم” الروسية في حال قطع الإمدادات، وذلك دون حساب أي عقوبات مترتبة على خرق العقود، ووفق معدل الأسعار اليومية التي شهدها الربع الأخير من عام 2021.
ويقول كونش إن خسائر “غازبروم” المملوكة للدولة الروسية، ستتراوح ما بين 203 و228 مليون دولار يوميا. وأن استمر قرار قطع الغاز المفترض لثلاثة أشهر مثلا، حيث سيقل حجم الطلب على الغاز بمقدار 60 في المئة مقارنة بيناير، وبالتالي فإن بوتين سيفقد اليد العليا، وستبلغ حجم الخسائر الكلية 20 مليارا.
وتشير الصحيفة إلى أن هذا المبلغ كان سيصبح مدمرا للاقتصاد السوفييتي الذي كان يعتمد أساسا على العملة الصعبة التي أتت من مبيعات الغاز للغرب، لكن الاقتصاد الروسي اليوم يملك 600 مليار دولار في احتياطي البنك المركزي، و”الذي سيتيح بسهولة امتصاص صدمة كتلك”.
وتضيف “ذا إيكونوميست” إلى أن روسيا قد تحظى بالأفضلية ماديا، على الأقل لوقت قصير، فأسعار الغاز والنفط بدأت ترتفع بنحو حاد، ومن دون وقوع حرب، يرجح بنك “جي بي مورغان تشيس” أن تساهم هذه الأسعار بزيادة إيرادات “غازبروم” لتبلغ 90 مليارا من الأرباح الصافية هذا العام، مقارنة بـ 20 مليارا خلال عام 2019.
“سيناريو الكابوس”
لكن إن قامت روسيا بإشهار سلاح الطاقة، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على الغرب؟ تقول الصحيفة إن كان الأمر مقتصرا على أوكرانيا وحدها، كما حصل عام 2009، فإن أوروبا ستدبر أمورها.
وقد بدأت “غازبروم” أصلا بتخفيض حجم إمدادات الغاز لأوكرانيا، وتشير إحصائيات بنك “سيتيغروب” إن الشركة قلصت حجم الإمداد للنصف خلال العام الماضي، وربعه عام 2019.
وتعد هذه أول صدمة لقطاع الطاقة النفطية منذ دخول العالم “المرحلة الخضراء”، على حد تعبير “ذا إيكونوميست”، متوقعة ما قد يحصل إن تحقق “سيناريو الكابوس” بأن يقطع بوتين الغاز عن أوروبا بأكملها.
وتتوقع الصحيفة أن تشهد أوروبا بعض الاضطراب المباشر، ورجح الأستاذ من جامعة سان دييغو بكاليفورنيا، ديفيد فيكتور أن تشعر سلوفاكيا والنمسا وأجزاء من إيطاليا تلك “الضربة” بشكل حاد.
أما بالنسبة للدول الأوروبية الكبرى، تعد ألمانيا “الأكثر هشاشة”، يقول فيكتور، حيث عمدت الدولة على الاعتماد على الطاقة المناخية للتقليل من مصادر الطاقة الأحفورية، وفي ضوء كارثة “فوكوشيما” باليابان، “سارعت (ألمانيا) باتخاذ القرار وإغلاق محطاتها النووية”، ما جعلها تعتمد على الغاز بشكل لا داع له.
كما تعد ألمانيا أكبر مستهلك للغاز في أوروبا، وتعتمد عليه في ربع استهلاكها للطاقة، وتشكل الإمدادات الروسية نصف وارداتها من الغاز.
“نبأ سار”
وبينما يسعى الدبلوماسيون الأوروبيون والأميركيون جاهدين لتأمين زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال لشحنه إلى أوروبا من شركات الطاقة الكبرى في أميركا وقطر، لكن هذا في الغالب “مسرحية سياسية”، وفقا للصحيفة.
ويقول، مايكل ستوبارد، من مركز “IHS Markit”، للأبحاث إن هناك القليل من الطاقة الإنتاجية الفائضة خارج روسيا وأن “إمداد الاستجابة السريعة” المتاح في الولايات المتحدة لا يمكن أن يساعد أوروبا كثيرا لأن “مرافق التصدير تعمل بكامل طاقتها بالفعل”.
لكن “النبأ السار” هو أن نظام الطاقة في أوروبا أصبح أكثر مرونة مما كان عليه خلال أزمة 2009.
ويشير أندرياس جولدثاو، من جامعة إرفورت الألمانية في بوتسدام للصحيفة إلى أن تلك الفترة شهدت بعض التغييرات المفيدة، إذ أدت الإجراءات المؤيدة للمنافسة (مثل حظر “بنود الوجهة” التي تمنع إعادة بيع الغاز) إلى إضعاف قبضة شركة “غازبروم”، وأصبحت شبكة كثيفة من وصلات الغاز تربط الآن البلدان التي كانت معزولة سابقا.
مصدر آخر “للبهجة” هو الغاز الطبيعي المسال، تقول الصحيفة إن الاستثمارات الضخمة في مرافق إعادة تحويل الغاز في جميع أنحاء أوروبا تعني أن المنطقة لديها الكثير من القدرات الخاملة.
ويقدر بنك “سيتي غروب” أنه مع تاريخ معدل استخدام تلك المرافق، التي تعمل بنسبة 50 في المئة من السعة أو أقل، يمكن للمنطقة من الناحية النظرية على الأقل، أن توفر ما يكفي لاستبدال قرابة ثلثي واردات الغاز عبر الأنابيب الروسية.
ويشير إلى أن العامل المحدد ليس بقدرة إعادة تحويل الغاز إلى غاز مسال، بل بالعرض المتاح للغاز الطبيعي المسال. وذلك لأن توسيع قدرة الإنتاج والتصدير الجديدة قد يستغرق وقتا طويلا.
لذا، تقول الصحيفة، إن أفضل أمل لأوروبا حاليا هو الحصول على شحنات الغاز الطبيعي المسال الحالية الموجهة أصلاً إلى أماكن أخرى.
وخلال أزمة الطاقة الأخيرة، لاحظ أحد المستثمرين أنه عندما ارتفعت الأسعار الأوروبية بمقدار ثلاثة أضعاف بين أكتوبر وديسمبر من العام الماضي، أبحر “أسطول من الغاز الطبيعي المسال” إلى أوروبا حيث تم تحويل الشحنات من آسيا، مما عوض عن انخفاض واردات الغاز الروسي.
وتذكر الصحيفة أن هناك مصدرا آخر قد يدعم “الصمود الأوروبي”، وهو كمية الغاز المخزنة. فقد أدى الشتاء القارس العام الماضي، إلى جانب إحجام شركة “غازبروم” عن ملء وحدات التخزين التي تسيطر عليها في أوروبا، إلى ترك تخزين الغاز عند مستويات أقل من المعتاد لمدة خمس سنوات.
ومع ذلك ، تحسب شركة أبحاث الطاقة “Rystad” أن استمرار الطقس الطبيعي هذا الشتاء من شأنه أن يترك كمية كافية من الغاز للتخزين بحلول الربيع لتعويض شهرين من فقدان صادرات الغاز الروسي، ويعتقد بعض المحللين أن الزيادة قد تغطي أربعة أشهر من التوقف، على الرغم من أن موجة البرد ستقلل من هذا المخزون بسرعة.
وتمتلك أوروبا أيضًا “سلاحًا سريًا”، وفقا لماسيمو دي أودواردو من شركة “Wood Mackenzie”، الاستشارية، مضيفا أن أوروبا تحتفظ في كهوف الملح وخزانات المياه الجوفية بكمية هائلة من الغاز الذي لا يتوفر عادة لطرحه في السوق لأسباب فنية وأسباب تتعلق بالسلامة.
ويرى محللو الشركة أنه يمكن استخدام ما يصل إلى عُشر هذا المخزون دون مشاكل، إذا منح المشرعون الإذن بذلك، كما قد يحدث في أزمة ناجمة عن الحرب، فسيكون ذلك بمثابة ما يزيد عن شهر من الواردات الروسية.
“روسيا ستدفع الثمن الأكبر”
وباختصار، ستعاني أوروبا إذا قطعت روسيا الغاز، ويتوقع جوناثان إلكيند، من جامعة كولومبيا، أن هذه التكلفة ستتفاقم، لأن “أوروبا لن تبدأ (مواجهة ذلك) من الهدوء، ولكن من سوق على حافة الهاوية”.
فقد مرت أسواق الطاقة في القارة للتو بصدمة أسعار في أوائل الشتاء، وكانت توقعات أسعار جميع سلع الطاقة “قبيحة”، وفقا للصحيفة.
ويتوقع بنك “جي بي مورجان تشيس” أنه حتى من دون قطع الغاز الروسي، ستنفق أوروبا حوالي تريليون دولار على الطاقة هذا العام، ارتفاعا من 500 مليار دولار في عام 2019.
وإذا اضطرت المنطقة إلى استهلاك مخزون الغاز لديها للبقاء على قيد الحياة مع انقطاع روسي، سيكون عليها بعد ذلك أن تنفق المزيد خلال الصيف على إعادة بناء احتياطياتها بشكل محموم لتجنب أزمة الطاقة في الشتاء المقبل.
هذا احتمال غير سار، تقول الصحيفة، لكن روسيا ستدفع “ثمناً أكبر على المدى الطويل”. وتنقل عن أحد مصادر الصناعة أن “غازبروم” ستواجه على الأرجح تداعيات تجارية “ضخمة” ، تتراوح من الغرامات المستحقة للعملاء، إلى وقف تدفق الدولارات إلى روسيا مقابل مدفوعات العقود.
وستجد شركة “غازبروم” صعوبة في تأمين أي عقود طويلة الأجل في أوروبا بعد هذا البرهان الصارخ لانعدام مصداقيتها.
وتضيف أنه “من المؤكد أن خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي يعتز به بوتين سوف يعتليه الغبار. وقد يؤدي الإغلاق إلى إقناع الصين، التي تستورد الآن بحذر المزيد من الغاز الروسي، بأن مخاوفها طويلة الأمد بشأن المصداقية الروسية لها ما يبررها”.
ويجادل فيكتور بأن مثل هذا “الاستخدام الوقح لسلاح الطاقة” من شأنه أن يدفع أوروبا على الأرجح إلى بذل جهد أكبر بكثير لخفض اعتمادها على الصادرات الروسية من الغاز، وبشكل “أقل لأنها غير آمنة وأكثر لأن الإيرادات … هي ما يمول السلوك الروسي السيئ”. يقول غوستافسون: “إذا أراد بوتين تدمير أعمال ‘غازبروم’ في أوروبا ، فلن يتمكن من القيام بذلك بطريقة أفضل”.
الحرة / ترجمات – واشنطن
——————————–
مع اندفاعة روسيا تزداد حاجة الغرب إلى تركيا/ محمود علوش
في السنوات الأخيرة، عادة ما نُظر إلى تركيا في العواصم الغربية على أنها حليف مشاغب لا يُمكن التنبؤ بتصرفاته التي تتعارض في كثير من الأحيان مع السياسات الغربية. تستمد هذه النظرة قوتها من تعارض مصالح الغرب مع أنقرة في معظم القضايا الخارجية كالصراع في سوريا وليبيا والنزاع في شرق البحر المتوسط إضافة إلى العلاقة التي تربط تركيا بروسيا. في الواقع، لم يكن مردّ هذه النظرة إلى تعارض المصالح الخارجية للطرفين فحسب، بل كذلك نتيجة لنزعة أنقرة المتزايدة في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان للحصول على أكبر قدر من الاستقلالية عن الغرب في سياساتها الخارجية. في سوريا على سبيل المثال، تسبب الدعم الأميركي للوحدات الكردية بمشكلة كبيرة في العلاقات التركية الأميركية، أضيفت إلى المشكلات الأخرى بين البلدين كمسألة وجود رجل الدين التركي المعارض فتح الله غولن في الولايات المتحدة. وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، أدى وقوف الاتحاد الأوروبي إلى جانب اليونان وقبرص الجنوبية في نزاعهما البحري مع تركيا إلى توتير العلاقات التركية الأوروبية بشكل أكبر. رغم هذه الخلافات التي غذّتها النزعة العدائية لأردوغان في الغرب، فإن الأتراك والغربيين يحرصون باستمرار على تأكيد قناعاتهم بمواصلة هذه الشراكة.
قد تُزعج النزعة الاستقلالية لأنقرة حلفاءها في الغرب، لكنّها تُثير اهتمامهم عندما يتعلّق الأمر بروسيا على وجه التحديد. كانت الشراكة التي دخلتها تركيا مع روسيا عقب حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في 2015 أحد الأسباب الإضافية لتوتر علاقتها مع الغرب. لقد بنى أردوغان وبوتين علاقات شخصية وثيقة للغاية ويجتمعان مع بعضهما بعضا باستمرار، في حين لا يكاد يلتقي أردوغان وزعماء الغرب. مع ذلك، فإن تعاونهما في مجال الصناعات الدفاعية والطاقة إلى جانب شراكتهما المُمتدة من جنوب القوقاز إلى شمال إفريقيا لا يخلوان من تعارض المصالح في كثير من الأحيان، ولا تُخفي موسكو انزعاجها من طموحات أنقرة الإقليمية.
عندما تحدث أردوغان في أثناء زيارة أذربيجان منتصف العام الماضي عن رغبة بلاده في إنشاء قاعدة عسكرية هناك، سارع الكرملين إلى الاعتراض وقال إن إنشاء بنى تحتية عسكرية لدول أعضاء في الناتو قرب حدود روسيا يُثير اهتمامها الخاص ويدفعها إلى تبني الخطوات اللازمة لضمان أمنها ومصالحها. قد يُبدي بوتين إعجاباً بأردوغان عندما يتحدى واشنطن ويُصر على شراء منظومةS400 الصاروخية من روسيا رغم العقوبات الأميركية، لكنّ تركيا تبقى بالنسبة لروسيا عضواً في الناتو عندما يتعلّق الأمر بتنافسها معها لا سيما في المناطق التي كانت يوماً جزءاً من الفضاء السوفييتي.
عندما تفكك الاتحاد السوفييتي في 1991، ظهرت عدّة دول جديدة في شرق ووسط أوروبا وجنوب القوقاز. وفي حين احتفظت بعض الجمهوريات الجديدة بعلاقتها مع موسكو، اختارت دول أخرى الانضمام إلى الغرب، في حين لا يزال بعضها الآخر، كأوكرانيا وأذربيجان وجورجيا ومولدوفا منطقة رمادية بين مناطق النفوذ الغربية والروسية. كان هذا التقسيم الجيوسياسي نتيجة للحرب الباردة. لكنّ بوتين، الذي وصف ذات مرّة انهيار الاتحاد السوفييتي بأكبر كارثة جيوسياسية، يسعى منذ وصوله إلى السلطة لإعادة رسم الجغرافيا السياسية في المناطق الرمادية من خلال إعادة الهيمنة الروسية عليها. بين هذين المعسكرين، تبرز تركيا التي لها وضع استثنائي للغاية في هذه المعادلة. فهي من جهة، عضو في حلف الناتو، ومن جهة ثانية لديها مصالح مع روسيا. وبقدر ما شكّل تدهور العلاقات التركية الغربية خلال السنوات الماضية فرصة لبوتين لتعميق الهوة بين أنقرة والغرب، فإنه ينظر إلى الدور المتنامي لها في مناطق توجد فيها روسيا على أنّه تهديد لطموحه في إعادة مكانة روسيا على الساحة العالمية.
في حرب قره باغ الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا، نجحت تركيا في تعزيز حضورها في منطقة جنوب القوقاز. وبعد ذلك بعام، دعت زعماء دول الجمهوريات الناطقة بالتركية إلى قمة في إسطنبول لتحويل مجلس الدول التركية إلى منظّمة. وفي أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم الأوكرانية في 2014، ساهمت معارضة تركيا لهذه الخطوة في توطيد العلاقات التركية الأوكرانية على نحو كبير. في المقابل، برزت رغبة لدى دول في أوروبا الشرقية في شراء الطائرات المسيرة التركية كبولندا، في حين تسعى لاتفيا إلى اقتناء هذه الطائرات كذلك. وفي ليبيا، أدى التدخل العسكري التركي في الصراع عام2019 إلى تقويض جهود روسيا في إيجاد موطئ قدم قوي لها في هذا البلد. وفي سوريا، لا يزال الوجود العسكري التركي في شمال البلاد أكبر عائق أمام استعادة نظام الأسد المدعوم من روسيا السيطرة على كامل البلاد. في كل هذه القضايا، تعمل تركيا وفق مصالحها الخاصة بمعزل عن الغربيين. لكنّ دورها يصب في صالح الأهداف الغربية عندما يتعلق الأمر بخلق توازن مع روسيا ومنعها من تحقيق سيطرة مطلقة.
في الأزمة الروسية الغربية الراهنة حول أوكرانيا، تبرز حاجة الغرب لتركيا أكثر من أي وقت مضى. فعلى الرغم من أن أنقرة تتبنى سياسة متوازنة بين موسكو وكييف، فإنّ دورها في هذا الصراع حيوي. فهي من جهة، تقف إلى جانب أوكرانيا وسبق أن باعتها طائرات من دون طيار من طراز بيرقدار. ومن جهة ثانية، تبدو الطرف الوحيد القادر على أن يلعب دور الوساطة بين الروس والأوكرانيين، وهذا يُكسبها أهمية إضافية بالنسبة للغرب الذي يسعى لتجنّب حرب باردة جديدة مع روسيا. لا بل إن هذه الأهمية تزداد لو تطورت الأزمة إلى صراع عسكري. فتركيا هي البوابة الوحيدة التي يُمكن للغرب أن يدخل من خلالها إلى منطقة البحر الأسود. كما أن وجودها في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى وسوريا وليبيا يُصعّب على بوتين تحويل هذه المناطق إلى ساحة في صراعه مع الغرب. يُدرك الغربيون بالفعل كل هذه المزايا التي تتمتع بها أنقرة، لكنّ خلافات تركيا معهم تحول دون توظيف هذه المزايا في صراعهم مع روسيا، والذي يحتاج بالدرجة الأولى إلى حشد جميع الحلفاء لا سيما القريبين من أوكرانيا كتركيا.
في الآونة الأخيرة، برزت بعض المُعطيات التي تُشير إلى أن الولايات المتحدة تسعى لاستمالة تركيا وإبعادها عن روسيا. مطلع هذا الشهر، ذكرت وسائل إعلام يونانية أن وزارة الخارجية الأميركية أرسلت إلى اليونان رسالة تُفيد بأنها لم تعد تدعم مشروع خط أنابيب الغاز شرق المتوسط “ايست ميد”، والذي يتجاهل أنقرة ومصالحها في المتوسط. وقد بررت إدارة بايدن هذه الخطوة بالكلفة العالية للمشروع فضلاً عن المخاطر البيئية المترتبة عليه. بالتوازي مع ذلك، قد تُشكل الأزمة الراهنة بين روسيا والغرب فرصة لإدارة الرئيس جو بايدن للمضي قدماً في بيع تركيا مقاتلات F16 التي تُريدها وإقناع أعضاء الكونغرس المعارضين للصفقة بقبولها.
يُشكل تخلي واشنطن عن دعم مشروع “ايست ميد” خطوة جيدة في إطار مساعي إعادة تشكيل العلاقات التركية الغربية. كما أن تلبية احتياجات أنقرة الدفاعية وتبديد هواجسها إزاء الدعم الغربي لمشروع الوحدات الكردية في سوريا يُعتبران أمراً ضرورياً بهذا الخصوص. مع ذلك، فإن على الغرب ألا يتوقع أن تصطف أنقرة إلى جانبه في هذا الصراع، وأفضل ما يُمكن أن يقوم به هو منع أنقرة من الاقتراب أكثر من موسكو.
تلفزيون سوريا
—————————–
هل نجحت روسيا استراتيجياً في سوريا وما مستقبل سياسة موسكو في الشرق الأوسط؟
ترجمة: ربى خدام الجامع
بعد مرور ست سنوات على التدخل الروسي في سوريا لإنقاذ بشار الأسد من سقوطه الذي بات وشيكاً حينذاك، سيطرت موسكو بشكل كبير على البلاد. إذ بصرف النظر عن تورطها في مستنقع شبيه بمستنقع أفغانستان إلى حد بعيد كما توقع لها كثير من المراقبين، فإن الرئيس فلاديمير بوتين حقق أهدافه الأساسية من دون أن تترتب عليه تكاليف باهظة. ولكن ما تلك الأهداف؟ وما الذي كسبته موسكو؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة للأزمات التي ستظهر مستقبلاً في تلك المنطقة؟
يتعلق التدخل في سوريا بكثير من الأمور، إلا أن الأمر الذي يحتل جوهرها هو الوقوف في وجه الولايات المتحدة التي تتزعم النظام الدولي الليبرالي، ولذلك لم يسمح بوتين للولايات المتحدة بإسقاط نظام استبدادي آخر لأن ذلك العمل بمنطقه ينذر بمحاولات أخرى تهدف إلى إسقاطه هو مستقبلاً.
فبوتين على قناعة تامة بأن الولايات المتحدة منحت الدعم السياسي والمادي للاحتجاجات الشعبية التي قامت بعد حقبة الاتحاد السوفييتي وفي الشرق الأوسط وفي روسيا نفسها. ولذلك وصف الإعلام الروسي التابع للدولة الربيع العربي الذي يشمل الانتفاضة التي قامت ضد الأسد في سوريا، بأنه من تدبير الولايات المتحدة وبأن تلك الثورات تعتمد على الدعم الأميركي، فعزز بذلك السردية التي ترى بأن “التدخل الأجنبي” أو الدعم الأميركي المزعوم للطموحات الديمقراطية لدى الناشطين العرب ساعد في خلق حالة اضطراب وفوضى وقمع وإرهاب. ولهذا عندما شن الأسد هجوماً هائلاً بالسلاح الكيماوي على الغوطة في 2013، كان لدى بوتين كل الأسباب التي تدفعه لتوقع تدخل من قبل الولايات المتحدة وشركائها بهدف إزاحة الأسد. إذ ذكر الرئيس أوباما للصحفيين في السنة التي سبقت الهجوم الكيماوي بأن استخدام الأسد للسلاح الكيماوي يعدّ تجاوزاً للخط الأحمر، وبعد الهجوم على الغوطة، كانت الحكومة الفرنسية على استعداد للقيام بشيء حيال ذلك. إلا أن بوتين حذر من قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري في سوريا وذلك في مقابلة أجرتها معه وكالة أسوشيتد برس بثتها القناة الأولى الروسية التابعة للدولة، والتي قال فيها: “لدينا مخططاتنا”.
“لا سيادة حقيقية”
كان لدى بوتين وجهة نظر سوداوية تجاه الخطاب الذي يدور حول الاستقلال السياسي، وقد تحدث بوضوح وأمام الملأ عن موضع القوة الحقيقي ضمن النظام الدولي، حيث قال في المنتدى الاقتصادي الدولي بسانت بطرسبرغ في 2017: “هناك كثير من الدول التي لا تتمتع بامتياز السيادة الحقيقية وذلك على مستوى العالم”، وأتى تصريحه هذا ضمن سياق نقاش ألمح فيه إلى تبعية أوروبا للولايات المتحدة. أما روسيا بنظره فهي واحدة من الدول القليلة التي تتمتع بسيادة حقيقية، والتي تكافئ من يدافع عنها، تبعاً لما تراه مناسباً لها. هذا ويوضح تصريح بوتين حالة عدم التوافق بين نظرة الغرب ونظرة الكرملين تجاه “نظام قائم على قواعد وقوانين”.
أما في سوريا، وبخلاف ما حدث في أي مكان آخر، فقد اتخذت روسيا موقفاً معادياً لسنوات من أحادية القطبية الأميركية، إذ هنا تصرفت روسيا أخيراً بوصفها قوة عظمى كما يحق لها. وبالرغم من مرور سنوات على زعم المسؤولين الروس بأنهم ملتزمون بقيام حكومة “شرعية” في دمشق، بما يوحي بأنها قد لا تشمل الأسد بالضرورة، فإنهم لم يجدوا أي بديل له عملياً.
تكاليف محدودة
إن العنصر الأساسي بالنسبة لنجاح تلك العملية يتمثل بأهدافها المحدودة التي كانت تركز على تجنب سيناريو يشبه سيناريو المبالغة في التوسع الذي عاشه الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ولذلك عمدت الحملة العسكرية لموسكو إلى تقديم الدعم الجوي بصورة أساسية، إلا أن ذلك شمل أيضاً عنصراً بحرياً، وعدداً ضئيلاً من قوات النخبة البرية، ما جعل من التكاليف المالية مقبولة ضمن هذا النطاق الضيق. كما اعتمدت موسكو على فاعلين آخرين، وعلى رأسهم إيران ووكلاؤها في المنطقة، وذلك في القيام بأصعب المهمات وأشقها. إلا أن هذا النهج حتم عليها العمل مع لاعبين رئيسيين في المنطقة، كان بينهم من خاضوا النزاع على الساحة السورية، والذين جعلوا روسيا وسيطاً، وهذا ما دعم نفوذ موسكو وقوّاه.
أتت الكلفة ضئيلة من حيث الأرواح أيضاً وليس فقط من ناحية الثروات، إذ كانت الحادثة الوحيدة المعلنة التي حصدت عدداً كبيراً من الأرواح تتمثل في المعركة القصيرة الغامضة التي جرت في شباط 2018 وذلك عندما خرقت عدة مئات من القوات الموالية للأسد، إلى جانب عدد من القوات الرديفة التابعة لمجموعة فاغنر الروسية السيئة الصيت اتفاق خفض التصعيد الذي أبرم في عام 2015 بين الولايات المتحدة وروسيا، ولذلك قامت القوات الأميركية بقتل عدد من المتعاقدين الروس دفاعاً عن النفس، ولم يتضح حتى اليوم كم كان عدد من قتلوا، إلا أن هنالك إجماعا عاما على أن بضع مئات قتلوا أو أصيبوا بجروح. بيد أن المتعاقدين مع فاغنر اختاروا المضي إلى سوريا وقد حصلوا على أجر مقابل ذلك، أي أنهم لم يكونوا مجندين، ولذلك لم تتسبب تلك الحادثة بظهور ردة فعل كبيرة ومستمرة في الداخل الروسي.
مكاسب مهمة
يمثل التدخل الروسي نجاحاً استراتيجياً بكلفة قليلة، إذ سيطرت موسكو على المجال الجوي السوري في غرب البلاد ووسطها، كما وقعت على اتفاق منحها وجوداً عسكرياً دائماً شرقي المتوسط خلال السنوات التسع والأربعين المقبلة على أقل تقدير، أي أنها حققت أحد طموحاتها الاستراتيجية التي بقيت عصية على قياصرة روسيا وعلى قادة الاتحاد السوفييتي. فلقد احتفظت موسكو بميناء طرطوس في سوريا منذ حرب 1967 بين العرب وإسرائيل، إلا أن التدخل في سوريا منح موسكو الفرصة لتحديث ميناء طرطوس وتوسعته بالإضافة إلى إنشاء قاعدة جوية جديدة في حميميم. ولم يسبق لروسيا أن أقامت مركزاً عسكرياً لها على كل هذا العمق والاتساع في المنطقة الواقعة شرقي البحر المتوسط، أضف إلى أنها حصلت اليوم على ضمانات طويلة الأمد حافظت من خلالها على وجودها هناك.
تعتبر روسيا موطئ القدم هذا مسألة مهمة وحساسة لردع الغرب ولاستعراض القوة على الجانب الجنوبي لحلف شمال الأطلسي ولزيادة فرص موسكو في جمع المعلومات الاستخبارية ضد الولايات المتحدة وشركائها، بما يحقق مصالح روسيا. كما يدعم موقع روسيا المؤمن في سوريا وجودها في البحر الأسود، إذ بالتأكيد لعبت شبه جزيرة القرم دوراً مهماً في مخططات موسكو داخل سوريا. حيث دعم أسطول روسيا في البحر الأسود المعروف باسم ستيفاستوبول والذي تعدّه روسيا أساسياً في عملية ضم القرم لروسيا، والتدخل الروسي في سوريا منذ بدايته. والآن يدعم الوجود العسكري القوي لروسيا شرقي البحر المتوسط خيارات روسيا في استعراض قوتها العسكرية ضمن البحر الأسود، كما يخلق أمامها فرصاً اقتصادية، إذ زادت الأنشطة بين القرم وسوريا منذ عام 2017 تقريباً، وشملت تلك الأنشطة زيارة قام بها وفد تجاري سوري إلى القرم. كما سهّل وجود روسيا في سوريا العمليات الروسية في ليبيا، فصار الكرملين يفكر بالسعي وراء فرص أخرى تلوح أمامه في مناطق أبعد نحو الجنوب أي في أفريقيا والبحر الأحمر، بعدما ضمنت روسيا قدرتها على الوصول إلى المياه الدافئة عبر ميناء موجود على البحر المتوسط، ولهذا أصبحت اليوم تتطلع إلى الاستثمار فيه.
فرصة لتطوير الجيش الروسي في سوريا
تردد الآلاف من الجنود الروس على سوريا على مدار سنوات حيث حصلوا هناك على تدريب وخبرات مهمة، وهذا بدوره لا بد أن يعزز الأداء العسكري لروسيا عالمياً. كما أظهر التدخل الروسي فعالية الأسلحة الروسية، الأمر الذي زاد وعزز من مبيعات الأسلحة الروسية. وبعد التدخل الروسي في جورجيا في عام 2008 وفي القرم في عام 2014، أصبحت سوريا تمثل ثالث فرصة للتدريب العسكري القائم على تجريب وتحسين وإظهار قوة الجيش الروسي بعد سلسلة من الإصلاحات العسكرية التي جرت خلال فترة قريبة. كما أن التدخل في سوريا لا بد أن يتحول إلى دليل لأي قرار دفاعي روسي يمكن أن يتخذ مستقبلاً، إذ ذكر فاليري جيراسيموف قائد أركان القوات المسلحة الروسية في مطلع عام 2019 بأن الدروس المستفادة من سوريا لا بد أن تعمل على الدفاع عن مصالح روسيا الوطنية وتعزيزها خارج حدود روسيا. وذلك لأن التدخل في سوريا بحسب رأي جيراسيموف أظهر أن الاعتماد على التشكيلات العسكرية المتنقلة والمكتفية ذاتياً من المرجح أن يصبح أكثر أهمية مع المهامّ التي سيتم تنفيذها مستقبلاً. إلا أن نجاح هذا النهج برأيه يعتمد على “الفوز بحالة التفوق في المعلومات والاحتفاظ بها، وكذلك الاستعداد الاستباقي لنظم القيادة والسيطرة ونظم الدعم الشامل، والانتشار السري للتجمعات العسكرية الضرورية”.
دور روسيا كوسيط في سوريا
مع تتابع الأحداث في الحرب السورية، أصبحت منافسة روسيا مع الغرب أحادية الجانب، ولذلك وصف منتقدون بوتين بأنه ليس أكثر من مقامر طائش على مدار سنين، لكنه قرأ خصومه بشكل صحيح، وذلك لأن الغرب لم يرد عليه بشكل حاسم. والحق يقال إن بوتين لم يدفع فاتورة كبيرة عبر دعمه للأسد، حيث واصل المسؤولون الغربيون اعتبار موسكو جزءاً من الحل السياسي، وتلك فكرة تدعمها موسكو بشدة. ولقد أدرك بوتين أن الغرب يحاول تجنب المخاطر، وليست لديه أدنى رغبة في التورط بسوريا. ولعل أكثر ما يوضح حسابات الولايات المتحدة هو خيار إدارة أوباما المتمثل بتوقيع اتفاق بضمانة روسية لنزع السلاح الكيماوي السوري بدلاً من تطبيق سياسة الخط الأحمر التي أطلقتها تلك الإدارة في عام 2013. كما لعبت روسيا أيضاً دور الضامن في عدد من اتفاقيات وقف إطلاق النار في سوريا، والتي انهارت جميعها بلا استثناء في نهاية المطاف، مع محافظة روسيا على موقعها بوصفها وسيطاً.
والحقيقة هي أن روسيا عبر تدخلها في سوريا كسبت درجة من الاحترام من قبل شركاء الولايات المتحدة وخصومها باتت تحسد عليها، إذ تحدث القادة الغربيون كثيراً عن القيم والحرية والكرامة وفقدان نظام الأسد لشرعيته والحاجة لتغيير النظام، ولكن على المحك، فضلوا التدخل بشكل محدود. أما بوتين فقد تحدث قليلاً وفعل ما أعلن أنه سيفعله، وهو إنقاذ الأسد.
القوة الروسية الناعمة
وبما أن الشهية تنفتح عندما تبدأ بالأكل، كذلك دعم نجاح روسيا في سوريا ثقتها بنفسها. ومن جانبه، أصبح الشرق الأوسط يرى في سياسة روسيا في المنطقة أمراً واقعاً لا بد للجميع من التعامل معه، في حين اتسم التزام الولايات المتحدة بالمنطقة بالتناقض خلال العقد الماضي. وخلال السنوات القليلة الماضية، بدأت كل من تركيا ومصر والإمارات والسعودية وغيرها من الدول بتوسيع علاقاتها العسكرية مع روسيا، وزيادة صفقات شراء المعدات العسكرية الروسية ونظمها، وهذا بدوره لا بد أن يزيد نفوذ موسكو في المنطقة. ولذلك ركزت موسكو على القوة الناعمة وغيرها من أدوات التأثير والسيطرة، مثل صفقات الأسلحة والتجارة والدبلوماسية وإنشاء المفاعلات النووية. إذ كما كتب جيمس شير، فإنه من خلال عقلية الشرطة السرية التي تقود الكرملين، تدور البراغماتية الدبلوماسية حول حسابات باردة ومتشائمة للمصلحة الوطنية والنهج النفعي الذي يعتمد على الغايات والوسائل. ولذلك بقيت موسكو ملتزمة بفكرة إقامة علاقات براغماتية في المنطقة بشكل يخدم نقاط قوة روسيا ضد غيرها من الشركاء، كما يضمن احتفاظ موسكو بامتيازات.
نزاع مجمد
وبالنظر إلى المستقبل القريب، يمكن القول بأن روسيا ستعمل على إبقاء وجودها وتعزيزه في سوريا وفي أي مكان آخر من تلك المنطقة، ولكنها ستكون حذرة حيال فكرة الإفراط في التوسع، كما ستواصل متابعة استراتيجيتها القائمة على الاعتماد على وسائل محدودة.
أما سوريا فستتحول على الأرجح إلى نزاع مجمد، حيث سيكون لروسيا القرار بإدارة هذا النزاع، بدلاً من حله، كما حدث مع نزاعات أخرى حدثت ضمن مجالها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وبالرغم من أن التبرير الرسمي الذي قدمته روسيا للتدخل في سوريا هو محاربة الإرهاب، فإن موسكو لم تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية أو جبهة النصرة قط، بل قامت بدعمهما بطريقة غير مباشرة، وذلك لأن الوحشية الخالصة التي تجلت بالغارات الجوية الروسية العشوائية الساعية للحفاظ على نظام الأسد دفعت المعتدلين للتطرف. إذ بدلاً من أن تشن روسيا حملة حقيقية لمكافحة الإرهاب، أدارت موسكو حملة مضادة للثوار بهدف إنقاذ الأسد. وبما أن الأسد أصبح مسؤولاً عن معظم من قتلوا من المدنيين في سوريا (وحدث هذا في أغلب الأحيان بدعم من روسيا)، لذا فإن السبب الأساسي للانخراط ضمن صفوف الإرهاب سيبقى على حاله، وخاصة في إدلب، طالما بقي الأسد في السلطة.
قد لا يكون نموذج النزاع المجمد مثالياً بالنسبة لموسكو، غير أنه نموذج بوسعها أن تتعايش معه لفترة طويلة من الزمان، وذلك لأنه سيساعد على قيام نقاش وجدل حول الحاجة لبقاء الوجود الروسي. أما في الغرب، فيبحث صناع القرار دوماً عن حلول، ولذلك فهم يعتبرون الحالة التي لا يتم معها التوصل إلى حل بمنزلة نقص في المكاسب، غير أن موسكو لا تنظر بالضرورة إلى هذه الأمور بالمنظور ذاته. وذلك لأن الوجود الروسي في سوريا محدود لدرجة أنه بوسعها حماية مصالحها هناك بكلفة قليلة ولمدة طويلة من الزمان، إذ لم تنشر روسيا هناك سوى بضعة آلاف من العساكر الروس معظمهم من قوات النخبة وذلك خلال كل الفترات السابقة. كما أن روسيا وتركيا تقومان بتسيير دوريات مشتركة في شمال شرقي سوريا، وقد أطلقت روسيا مؤخراً مشروعاً لاستعادة قوس النصر في تدمر وسط سوريا، إلا أن المواقع العسكرية الروسية تقع في الغرب عموماً، كما أن روسيا تحافظ على وجودها في قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية، حيث قامت القوات الروسية مؤخراً بتوسيع المدرج ونشر طائرات قاذفة للقنابل النووية. ثم إن المواقع الروسية قريبة من المواقع المدعومة إيرانياً وبعيدة بالعموم عن الجيوب التي يسيطر عليها تنظيم الدولة. والأهم من كل ذلك، هو أن الولايات المتحدة ما تزال تلوح بضعف اهتمامها بسوريا، ما يعني أن روسيا لن تواجه منافسة حقيقية قد تزيد من كلفة وجودها في سوريا.
بيد أن الشيء المؤكد هو أن روسيا ستظل عرضة لمواجهة المشكلات، فقد توفي مثلاً مجندان روسيان بسبب هجوم بطائرة مسيرة على حميميم في كانون الثاني 2018، كما أن نموذج النزاع الذي تم تجميده قد حان قطافه واستغلاله من قبل تنظيم الدولة، إلا أن هذه التكاليف ليست باهظة بالنسبة للدولة الروسية، بل على العكس، قد تخلق مشكلات تقوم على نطاق ضيق جدلاً حول اختيار واستهداف تعزيزات روسية ضمن المواقع الروسية، وبهذه الطريقة يمتد أجل النزاع المجمد لفترة طويلة ويبرر مصلحة روسيا في استمرار وجودها في المنطقة. إذ في الماضي، دفعت الهجمات التي استهدفت الجنود الروس روسيا إلى جلب معدات متطورة إلى سوريا، مثل منظومة إس-400 للدفاع الجوي، التي دعمت فكرة المناطق الممنوع الوصول إليها في سوريا وساهمت في ردع الغرب.
لا حل لأي أزمة بلا روسيا
تمثلت أهم الأهداف للكرملين على مدار سنين في إظهار الفكرة القائلة بأنه لا يمكن حل أي أزمة كبيرة دون روسيا. لذا من المرجح أن يتم إشراك روسيا بطريقة أو بأخرى في أي أزمة ستحدث مستقبلاً في الشرق الأوسط، ولكن كما هي الحال في سوريا، من المرجح أن يعيد وجود موسكو في المنطقة مكانة روسيا بدلاً من أن يجعل روسيا تضطلع بمسؤوليات جهة قيادية حقيقية، وهذا ما يناسب موسكو تماماً، لكنه لن يعزز أمن المنطقة أو الموقع الأميركي في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر في العالم بما أن الولايات المتحدة تدير محور المنافسة على مركز القوة العظمى مع الصين وروسيا. فلقد شاهد خصوم الولايات المتحدة وحلفاؤها في مختلف بقاع العالم كيف عالجت الولايات المتحدة النزاع في سوريا واستخلص كل منهم الدروس والعبر حول ما يمكنهم أن يتوقعوه من السلوك الأميركي في مناطق أخرى. ثم إن الإذعان الأميركي الضمني للتطبيع مع الأسد، ذلك الديكتاتور المتهم بجرائم حرب، يبين للمراقبين بأن روسيا (وكذلك إيران) كسبتا الحرب، كما قد يخلص هؤلاء إلى أن مزايا تحدي الولايات المتحدة تفوق تكاليف ذلك على المدى البعيد.
بقلم: آنا بوشتشيفسكايا: عضو رفيع المستوى لدى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ومؤلفة كتاب: “حرب بوتين في سوريا: السياسة الخارجية الروسية وكلفة الوجود الأميركي” الصادر في عام 2021.
المصدر: مدونة لوفير
تلفزيون سوريا
—————————
كازاخستان لعنة الجغرافيا/ علي العبدالله
لم تكن التظاهرات العاصفة التي اجتاحت مدن كازاخستان الأولى من نوعها؛ فقد سبق لهذه الدولة أن شهدت تظاهرات احتجاجٍ ضد سياسات النظام وفساده؛ لكن خروجها الآن يختلف عن سابقاتها في ضوء انفجار التنافس الدولي بين القوى العظمى، ما حوّلها إلى ساحة رئيسة للتنافس في ضوء موقعها الجغرافي وأهميته لخطط هذه القوى وبرامجها في صراعاتها الجيوسياسية.
جذب موقع كازاخستان الجيوسياسي الهام انتباه القوى العظمى، تقع بين آسيا وأوروبا، جزؤها الشرقي في آسيا والغربي في أوروبا، تشترك في حدودها مع روسيا الاتحادية من جهة الشمال والغرب بطول 7644 كم، ومع الصين من جهة الجنوب الشرقي بطول 1765 كم، تطلّ على بحر قزوين؛ خزّان النفط والغاز والكافيار، بساحل طوله 1176 كم، مساحتها كبيرة، 2.724900 كم مربع، فيها ثروات ضخمة من النفط والغاز والمعادن النادرة؛ بعدد سكان صغير، 18.75 مليون نسمة، ودفعها، القوى العظمى، إلى السعي إلى الحصول على موطئ قدم على أراضيها.
وقد زاد في حدّة التنافس وسخونته أنّ الجمهورية الوليدة التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي، وأعلنت قيام جمهورية كازاخستان عام 1991، فتحت أراضيها وثرواتها الباطنية للاستثمارات الأجنبية. تحتوي كازاخستان على النفط، بنسبة 3% من الاحتياطي العالمي، 30 مليار برميل، وتنتج 1.6 مليون برميل يومياً، والغاز، خمسة تريليونات قدم مكعبة، وعلى معادن مهمة مثل اليورانيوم، إذ تحتوي على 40% من الاحتياطي العالمي، ثاني أكبر احتياطي في العالم، والنحاس، خامس أكبر احتياطي في العالم، والفوسفات، ثاني أكبر احتياطي في العالم، والمنغنيز، ثالث أكبر احتياطي في العالم، والكوبلت والكروم والحديد والذهب كما الماس والفحم.
وقد سعت روسيا الاتحادية، باعتبارها وريثة الاتحاد السوفييتي، إلى المحافظة على علاقتها مع كازاخستان قويةً، والتمسّك بالنفوذ فيها عبر الجالية الروسية الكبيرة، (حوالى 20% من السكان)، من جهة، وعبر الإبقاء على محطة بايكونور لإطلاق الأقمار الصناعية فيها، وعزّزت علاقاتها معها بتشكيل تحالف عسكري إقليمي، “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، معها ومع كلٍّ من أرمينيا وبيلاروسيا، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، كما اشتركت معها في “منظمة شنغهاي للتعاون”.
أما الولايات المتحدة، التي دخلت كازاخستان من باب الاستثمار في النفط والتعدين، فنظرت إليها من زاوية قربها من روسيا وإمكانية استغلال موقعها في تطويق الأخيرة في إطار خطّةٍ لاحتوائها، لذا عزّزت علاقتها بالنظام القائم وغضّت الطرف عن سلطويته وتجاوزاته على الحريات وحقوق الإنسان، ودخلت معه في شراكاتٍ في مجالات استخراج النفط والغاز، حيث تستثمر شركة “شيفرون” الأميركية حقل “تنغيز” الذي ينتج ثلث إنتاج البلاد من النفط، وتشارك شركة إكسون موبيل في استخراج النفط والغاز في غرب كازاخستان، واليورانيوم وبقية المعادن.
ومع الإعلان عن مشروع الحزام والطريق عام 2013، والبدء بمراحل تنفيذية عام 2017، دخلت الصين في علاقات تعاون واستثمار كبيرة وكثيفة مع كازاخستان في البنى التحتية، طرق، جسور، سكك حديد، مطارات، موانئ، ربطت مستقبل اقتصادها بالصين، فموقع كازاخستان واتصال أراضيها بأوروبا قدّم للصين خدمة كبيرة بالوصول إلى أوروبا من دون المرور بأراضي منافستها روسيا، وعقدت معها صفقاتٍ لاستيراد النفط والغاز ومدّت خطوط أنابيب لنقلهما، ومعظم الصادرات النفطية الكازاخية تذهب إلى الصين، تغطي 20% من احتياجاتها، وجزء من الغاز الكازاخي يذهب إلى روسيا لتلبية طلبات زبائنها بعد تراجع كمية الإنتاج لديها.
اعتمد الرئيس الكازاخستاني السابق نور سلطان نزارباييف سياسة موازنة العلاقات مع هذه القوى المتنافسة على ثروات بلاده وموقعها الجيوسياسي، وعزّز، في الوقت نفسه، علاقات بلاده مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ ورحّب بالتعاون الاقتصادي مع الصين، من أجل التخلص من النفوذ الروسي. كان قد سجن كازاخستانيين دعوا إلى الوحدة مع روسيا؛ ردّت الأخيرة بالمطالبة بإجراء استفتاء حول الاستقلال للروس فيها، في محاولة لتذكير القيادة الكازاخستانية بأنّ لروسيا نفوذاً داخل هذه الأقلية، وهو، السعي للتخلص من النفوذ الروسي، ما سار عليه خلفه الرئيس الحالي قاسم جومارت توكاييف، ما زاد في حدّة التنافس الذي أخذ أشكالاً وأبعاداً كثيرة في ضوء بدء معركة تشكيل بيئات خارجية من القوى العظمى، عبر إقامة تكتلات سياسية ممتدّة ومتماسكة لكسب حلفاء وصداقاتٍ لتوسيع النفوذ وتحقيق مكاسب جيوسياسية من جهة، ولتطويق الخصوم ومحاصرتهم من جهة ثانية.
وقد زاد التنافس على كازاخستان تعقيداً بتحول الصين إلى المنافس الرئيس للولايات المتحدة، ودخول تركيا لاعباً إضافياً عبر إقامة “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية” والذي تأسس عام 2009، مع كلّ من أذربيجان وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، والمجر وتركمانستان بصفة مراقب، ودخول شركات تركية إلى السوق الكازاخستاني، وحصولها على مشاريع فاقت قيمتها 26 مليار دولار، وشكل دخولها ضربة للمصالح الروسية، إذ غدا التنافس على أرض كازاخستان رباعياً، وزاد حدّة وحرارة بنجاح الصين وروسيا في “تغيير توزيع القوة في العالم” وفق توجيه حول الأمن الوطني أصدره الرئيس الأميركي جو بايدن، فالتركيز الأميركي على الصين وإعطاء احتوائها أولوية عبر نشر موارد عسكرية ضخمة في المحيطين الهندي والهادي، وتشكيل تكتلات سياسية وأمنية والعمل على عرقلة مشروع الحزام والطريق منح روسيا مساحة للمناورة وفرصة لتحقيق بعض المكاسب والنفوذ بإطلاق حملة جيوستراتيجية طويلة الأمد لاستعادة مناطق نفوذها في أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، احتلت كازاخستان مكانة بارزة فيها، ما شكّل إرباكاً جيوسياسياً للولايات المتحدة، بعدما كانت تتحاشى الدخول في أزمة طويلة مع روسيا تشغلها عن ملفها الأساسي: الصين. وترى في النفوذ الروسي في كازاخستان خصماً من النفوذين الصيني والتركي، بوضعها في مواجهة خصمين في آن واحد، وتخصيص موارد كبيرة لمواجهة الجهود الصينية والروسية الهادفة إلى إعادة بناء النظام الدولي على أسس بديلة بمعايير تتسق مع نظاميهما السلطويين. هذا بالإضافة إلى لجم الاندفاعة الجيوسياسية التركية في آسيا الوسطى التي تمدّدت في أكثر من منطقة، وحققت نجاحاتٍ تمنحها فرصة مواجهة ضغوطها الكبيرة لضبط سلوكيها، الداخلي والخارجي. ما اضطرّها لتليين موقفها من دخول القوات الروسية إلى كازاخستان، عله يصعّد التنافس الروسي الصيني على خلفية تعارض المصالح بين الطرفين، وتنافسهما على النفوذ في آسيا الوسطى، ويضعف التعاون والتنسيق بينهما، فدخول روسيا إلى كازاخستان سيمنحها فرصة لإضعاف النفوذ الصيني عبر إبعاد القيادات الكازاخية المؤيدة لبكين. وهذا سيساعدها (أميركا) في سعيها إلى إبعاد روسيا عن الصين، كما سيضعف النفوذ التركي، خصوصاً أنّ روسيا قد استاءت من تفعيل تركيا “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية” تجارياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، ومن حديث الملحق العسكري التركي في كازاخستان، العقيد إحسان صفا، عن ضرورة تشكيل قوات مسلحة جماعية لدول “المجلس”. وقد انعكس هذا الاستياء باتهام وسائل إعلام روسية تركيا بالوقوف وراء التظاهرات في كازاخستان، في حين قال معلقون أتراك إنّ روسيا دبّرت الانقلاب بالتفاهم مع الولايات المتحدة لضرب النفوذين الصيني والتركي، لتصبح كازاخستان منطقة نفوذ روسية. وقد نقل، المحلل السياسي التركي سمير صالحة عن الإعلامية الروسية مرغريت سيمونيان قولها إنّ “موسكو قدّمت لائحة شروط ومطالب لنور سلطان مقابل دعمها العسكري، بينها اعتراف كازاخستان بإلحاق روسيا للقرم وإنشاء قواعد عسكرية روسية في كازاخستان وحكم ذاتي للأقلية الروسية هناك”. وهذا إن تمّ، تكون روسيا قد حصلت على موقع مهم استراتيجياً يفصل بينها وبين الصين وأفغانستان كمصدر للتهديدات الإقليمية.
وقد نجحت روسيا، بتدخلها العسكري في كازاخستان، العضو في “مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية”، في توجيه رسالة إلى دول “المجلس” مفادها أنّها الأقدر، وأنّ تحالفها القديم، منظمة معاهدة الأمن الجماعي، هو الأقوى، وهي سيدة المنطقة، وستفعل ما يلزم لإفشال أيّ تحالف يضعف سيطرتها، في إشارة واضحة إلى التنافس التركي – الروسي الذي تعاظم أخيراً في آسيا الوسطى، حيث تسعى تركيا إلى اقتناص أي فرصة من أجل تعزيز حضورها في تلك المنطقة التي تحظى فيها روسيا بنفوذ قوي. وقد عبرت تركيا عن قلقها ومخاوفها من نجاح روسيا في استمالة كازاخستان، خصوصاً بعد تأييد الصين التدخل الروسي، ودعت إلى عقد اجتماع افتراضي لدول “المجلس”. وأمام عجزها عن التحرّك في مواجهة روسيا، بسبب قرب روسيا من كازاخستان وبعدها هي عنها بآلاف الكيلومترات، تبنّت خط الدعوة إلى التهدئة وحلّ الخلافات الداخلية بالحوار.
ستبقى كازاخستان ساحة للتنافس المتصاعد بين القوى العظمى، الروسي – الصيني بشكل خاص؛ امتداداً لصراعهما على النفوذ في آسيا الوسطى، وستبقى ساحة للاستقطاب الحادّ من أجل تكريس النفوذ وتعزيزه في منطقة أوراسيا التي باتت قلقة استراتيجياً بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، وما تركه من فراغ يبحث عمّن يملأه.
العربي الجديد
———————————
بوتين في أوكرانيا: إغواء الروليت وقفزة الضفدع/ صبحي حديدي
الأرجح أنّ مشاعر شتى، مختلطة ومتضاربة، متكاملة تارة ومتنافرة طوراً، تنتاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يقلّب القرار الأنسب في اختتام الجولة الراهنة من التوتر مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي حول أوكرانيا: الاكتفاء بالانتشار العسكري الروسي الراهن (وليس ذلك بقليل أو ضئيل، مع عشرات الآلاف من الجنود، وصنوف الأسلحة الأكثر تقدماً التي جرى ويجري اختبار طاقاتها التدميرية في سوريا)؛ أو الاكتفاء بعمليات قصف جوي، أقرب إلى مظلة تتيح لأنصار روسيا في أوكرانيا تعكير صفو البلد وعرقلة خطط الضمّ لدى الأطلسي (وفي هذا لا يفعل بوتين أكثر من محاكاة الخيار الأطلسي في صربيا 1999)؛ أو اجتياح أوكرانيا في مساحات واسعة أو غير جزئية (على غرار ما فعلت موسكو في جورجيا سنة 2008)؛ أو، في خيار رابع قد يكون الأقلّ ترجيحاً، إعادة تَمْوضُع القوات الروسية، بما لا يفيد إعادة الانتشار ولا الانسحاب (إذا تمكن وزيرا الخارجية الأمريكي والروسي من بلوغ تفاهم ما في مباحثات جنيف اليوم، يرضي واشنطن وموسكو وبروكسيل).
الأرجح كذلك، على مستوى المعمار السيكولوجي للرئيس الروسي (خرّيج المخابرات السوفييتية الأشهر، وساكن الكرملين على امتداد آجال شبه أبدية) أنه لا يكفّ، ومشاريع الخيارات هذه جاثمة على مكتبه تنتظر الحسم، عن استذكار باعث كبير أوّل حكم سلوكه الرئاسي منذ البدء تقريباً، أي إعادة وضع روسيا على الخريطة الكونية كقوّة عظمى عائدة ولاعبة وغازية ومحاصِصة، أياً كانت المخاطر والمجازفات. باعث ثانٍ هو ذاكرة مريرة، ليست معافاة من الجرح النرجسي القومي والعسكري والاستخباراتي، تعود إلى تعهّد أمريكي قطعه، في العام 1999، الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ووزير خارجيته جيمس بيكر، وصدّقه ميخائيل غورباتشوف، بأنّ انسحاب 380,000 جندي سوفييتي من ألمانيا الشرقية بعد توحيد ألمانيا لن يفضي إلى تقدّم أمريكي أو أطلسي، حتى بمسافة بوصة واحدة، نحو حدود حلف وارسو وجمهوريات السوفييت السابقة، كما أنه لن تكون هناك «قفزة ضفدع» أمريكية أو أطلسية نحو أوروبا الشرقية ودول البلطيق.
التعهد ذهب أدراج الرياح بالطبع، وتكفّل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون بإطلاق سيرورة توسيع الحلف الأطلسي، أو تضخيمه بالأحرى، لأسباب قد تبدو للوهلة الأولى جيو ـ ستراتيجية وأمنية تعيد تشديد الضمانات في عقود ما بعد إسقاط جدار برلين؛ لولا أنّ حوافز كلنتون الأولى كانت أمريكية داخلية، وانتخابية على وجه التحديد، للمناورة ضدّ محاولة منافسه الجمهوري روبرت دول التشهير بضعف كلنتون على الجبهة الأطلسية. ليس هذا فحسب، لأنّ كلنتون كان السبّاق إلى رفد السياسة الخارجية الأمريكية بأذرع عسكرية ضاربة، بدأت من إلغاء «وكالة مراقبة التسلّح» وإضعاف موقع الولايات المتحدة في محكمة الجنايات الدولية ومعاهدات الألغام، والتلذّذ بمهانة روسيا بوريس يلتسين، وتحويل مضاعفة عدد أعضاء الحلف الأطلسي إلى باعث شعبوي في ناظر بوتين، شاء أم أبى، لاستنهاض الفخار القومي الروسي وحسّ الإمبراطورية آفلة الأمجاد. معطى واحد بليغ تماماً يكفي لاختصار حال روسيا بوتين مع الولايات المتحدة والحلف الأطلسي: بعد أكثر من 30 سنة على انحلال حلف وارسو (والبعض يتابع، محقاً: وبعد 77 سنة على انتهاء الحرب العالمية الثانية)؛ ما يزال نحو 40,000 جندي أمريكي يرابطون في ألمانيا، بذريعة حماية البلد في وجه… الاتحاد السوفييتي!
تلك خيانات «قفزة الضفدع» إذن، وهي كفيلة بحشو سيكولوجية بوتين بخلائط معقدة من المرارة، والثأر للكرامة الجيو- سياسية، واستدراج الشارع الروسي إلى التفاف شعبوي عماده الفخار القومي وعبق الإمبراطورية؛ فضلاً، بالطبع، عن مغانم شتى ذات صلة بالتجارة والأعمال وأنابيب الغاز العابرة للحدود، وصناعة السلاح وعقود التسلّح، ثمّ العقوبات التي تُثقل كاهل الاقتصاد الروسي… كلّ هذه، وسواها مما خفي في الباطن الأعمق من حافز الإمبراطور في نفس بوتين شخصياً، لاح أغلب الظنّ أنها تضع عواقب غزو أوكرانيا في حال من التوازي أو التنافس، أو حتى المغالبة، مع إغواءات لعبة الروليت الروسية الشهيرة. وقد لا يكون بوتين في حاجة إلى استدعاء مشهد اللعبة القاتلة كما التقطه الشاعر والقاصّ والروائي الروسي الكبير ميخائيل ليرمنتوف سنة 1840، في قصة قصيرة بعنوان «المؤمن بالقضاء والقدر»؛ إذْ يُرجّح أنّ ذهنية بوتين سوف تحيله إلى عشرات الأدبيات الأخرى التي تقتبس اللعبة لا لتأكيد سطوة المصادفة (طلقة صائبة من مسدس محشوّ عشوائياً) بل سلطة التصميم والتخطيط وحًسْن التنفيذـ بعد اعتماد مبدأ الرهان والمغامرة والمقامرة بالطبع.
وليس من دون مغزى خاصّ أنّ أحدث ترحيلات المخيال السياسي الأمريكي نحو مكاسب/ عواقب لعبة الروليت، تناولت دور الاستخبارات الروسية، بإيعاز شخصي مباشر من سيد الكرملين، للتدخّل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 2016، وترجيح كفّة دونالد ترامب. لكنّ بوتين قد لا يعبأ كثيراً بما تتخيّله أمريكا في آدابها السياسية، لأنه خير مَنْ يحفظ السياقات التي جعلته يراهن على شخص ترامب منذ خريف العام 2013، حين حضر الأخير حفل انتخاب ملكة جمال الكون في موسكو وتلقى دعوة مفاجئة من الكرملين، حملها أراس أغالاروف أحد خلصاء الرئيس الروسي، تقول باختصار: «المستر بوتين يرغب في لقاء المستر ترامب».
وسواء صحّ احتمال الروليت، أم استقرّ بوتين على مناورة أكثر عقلانية وبُعداً عن المصادفة، فقد أثمر ذلك الرهان كما أثبتت سنوات ترامب في البيت الأبيض؛ وأتى على الولايات المتحدة حينٌ من الدهر شهد ترجيح الرئيس الأمريكي صدق رواية الرئيس الروسي مقابل تكذيب تقديرات أجهزة الاستخبارات الأمريكية.
لكنّ أوكرانيا ليست سوريا، مملكة الصمت والاستبداد والفساد والتوريث وجرائم الحرب، التي تدخل فيها بوتين لانتشال نظام آل الأسد من الحضيض؛ وليست جورجيا التي شهدت حماقة تبليسي في استفزاز الدبّ الروسي الهاجع في إقليم أوسيتيا الجنوبية، تحت ستار «شرعي» هو حفظ السلام؛ كما أنها ليست شبه جزيرة القرم، التي ضمّها بوتين من دون كبير اكتراث بما يربطها بأوكرانيا تاريخياً وجغرافياً. تلك مغامرات خلت، من حيث اعتبارات كثيرة جيو – سياسية وعسكرية وأمنية، من روحية المجازفة؛ ولم يكن مؤكداً أنّ بوتين احتاج فيها إلى المقامرة، أو دغدغته مغانم لعبة الروليت أمام عواقبها. وإذا صحّ، كثيراً في الواقع، أنّ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لن تردّ على أيّ غزو روسي محتمل في أوكرانيا، ولن تجرّ الحلف الأطلسي إلى حرب بالإنابة على أيّ نحو؛ فإنّ ما لا يقلّ صحة، ومنطقاً بالطبع، أنّ «الكارثة» التي لوّح بها بايدن مؤخراً، سوف تكون عقوبات تاريخية لا سابق لها ولا مثيل، لا توجع المواطن الروسي العادي في خبزه ومحفظته فقط بل تمسّ الفئة الأضيق والأعلى من المافيات التي تسهر على تغذية سلطة بوتين نفسه.
فهل ثمة، حقاً، هوامش مناورة يملكها الكرملين في الطور الراهن من الشدّ والجذب؛ وهل، في مستوى آخر يحمل قسطاً غير قليل من المنطق البارد، تستحق أوكرانيا هذا العناء الأقصى؟ الأرجح أنّ أسئلة كهذه سوف يناقشها وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في جنيف اليوم، وقد لا تغيب عن الإجابات حقيقة أنّ الولايات المتحدة لن تتمنّع كثيراً في تهدئة خواطر الكرملين عن طريق استبعاد ضمّ أوكرانيا إلى الحلف، ففي مناسبات كهذه يحضر تراث غزو خليج الخنازير ربيع 1961، ومعه تحضر موجبات الدرجة صفر في استنفار السلاح النووي؛ ففي هذه، ونظائرها، ما بدّل الطرفان تبديلا!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
————————-
هل من رابط بين سوريا وأوكرانيا؟/ إبراهيم حميدي
تستضيف جنيف اليوم اجتماعين؛ الأول، بين وزيري الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف لبحث الملف الأوكراني؛ الثاني، بين المبعوث الأممي إلى سوريا غير بيدرسن والمسؤول الأميركي إيثان غولدريش لبحث الملف السوري واقتراح «خطوة مقابل خطوة».
لا خلاف على أن الاجتماعين ليسا أبداً في الأهمية والتبعات الاستراتيجية ذاتها. لكن مرة أخرى، يظهر خيط يربط بين الملفين السوري والأوكراني. يعود ذلك، إلى 2014 عندما قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خوض المغامرة الأوكرانية ثم ضم شبه جزيرة القرم في مارس (آذار) 2014. يومها، طلبت موسكو من دمشق التشدد في ملف مفاوضات عملية السلام التي كانت قائمة في جنيف. بعدها، تدخل بوتين عسكرياً في سوريا نهاية 2015، وحصل من الرئيس بشار الأسد على اتفاق لإقامة طويلة الأمد في قاعدتي اللاذقية وطرطوس. ونُقل وقتذاك عن الأسد قوله لمسؤولين روس إن موسكو «مدينة له» في تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وإنه لم يكن مثل الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي هرب إلى روسيا في فبراير (شباط) 2014.
يقول بوتين إنه يريد ضمانات خطية من أميركا، بعدم توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) قرب حدوده في أوكرانيا. لكن بوتين نفسه كان توسع قرب حدود «الناتو» عندما أقام قاعدة حميميم غرب سوريا، ونشر فيها بطاريات صواريخ «إس 400» و«إس 300 المتطورة»، على بعد عشرات الكيلومترات من القاعدة المتقدمة لـ«الناتو» في إنجرليك جنوب تركيا. ومنذاك، تصاعدت علاقات «التعاون العدائي» بين روسيا وتركيا، في المسرح السوري وغيره من الملفات الإقليمية والثنائية.
رابط آخر بين أوكرانيا وسوريا، ظهر بين تركيا وروسيا. رفضت أنقرة الاعتراف بضم القرم وطورت علاقاتها الاستراتيجية مع كييف وسلمتها مسيرات «بيرقدار» (درون) التي لعبت دوراً كبيراً في تغيير مسارات المعارك العسكرية ضد قوى أخرى مدعومة من موسكو، مثل ليبيا وشمال غربي سوريا وناغورنو قره باخ. أما موسكو فواصلت دعم إقليم شرق أوكرانيا، وها هي تنشر عشرات آلاف الجنود على الحدود وتعرض على أوروبا وأميركا شروطها للتراجع عن التوغل.
ضمن هذه الصورة الواسعة واللعبة الاستراتيجية، تنظر كل من موسكو وواشنطن إلى الملف السوري. موسكو وفرت مظلة للتطبيع بين دمشق والقرم، عبر توقيع اتفاق لربط ميناء اللاذقية والقرم ليكون المعبر إلى روسيا، وبات ميناء اللاذقية (وطرطوس) في قبضة موسكو، التي تحاول إبعاد طهران عنه وعن مياه البحر المتوسط الدافئة وتجنيبه الغارات الإسرائيلية.
تعاونت واشنطن وموسكو في ملف المساعدات الإنسانية عبر الحدود السورية، ومنع الاشتباك العسكري شرق الفرات. لكن الاشتباك الدبلوماسي قائم بينهما علناً وسراً. الجانب الروسي يشجع التطبيع العربي مع دمشق ويرفض أن يكون اقتراح بيدرسن «خطوة مقابل خطوة» بديلاً من عملية آستانة، التي تديرها موسكو بتعاون مع أنقرة وطهران. أما الجانب الأميركي فإنه يفتح خيار «خطوة مقابل خطوة» ضمن نظرته الأوسع إلى باقي الملفات، ويسعى إلى ضبط مسارات التطبيع العربية مع سوريا.
الجديد هنا، في الموقف الأميركي سورياً، الانتقال من «الحياد السلبي» إلى «الانخراط الإيجابي»، إذ شنت واشنطن حملة عبر الأقنية الدبلوماسية باتجاه عدد من الدول العربية، لضبط خطوات التطبيع الانفرادية نحو دمشق ومنع إعادتها إلى الجامعة العربية قبل «الحصول على ثمن» يتعلق بالعملية السياسية، و«التخلص من النفوذ الإيراني»، ما وضع فكرة عقد القمة العربية في الجزائر نهاية مارس المقبل على المحك.
بعد أفغانستان، لا تريد إدارة جو بايدن فشلاً آخر في أوكرانيا أو سوريا أو مفاوضات الملف النووي الإيراني، وسط تنامي الضغوط من الكونغرس قبل الانتخابات المقبلة. وحسب دبلوماسي عربي، اطلع على رسالة الاحتجاج، فإن واشنطن قالت إن «استمرار قرار التجميد يبعث برسالة عن أن الفظائع لن يتم التسامح معها»، وإن على «النظام أن يتخذ خطوات ملموسة وحقيقية قبل اتخاذ الدول العربية هذه الخطوة». ومن «الأمور المطلوب» أن تتخذها دمشق، ما يخص العملية السياسية بموجب القرار 2254 للوصول إلى حل سياسي دائم، ومنها ما يتعلق بـ«التخلص من نفوذ إيران»، على اعتبار أن هذا الأمر مسألة تتفق عليها دول عربية وواشنطن بهدف «مواجهة السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة».
وهناك إدراك من واشنطن وحلفائها بحاجة الأردن لفتح شرايين اقتصادية مع سوريا، وضرورة فتح خيارات أخرى أمام دمشق لتخفيف نفوذ إيران، الأمر الذي يفسر دعم مشروعي «خط الغاز العربي» و«شبكة الكهرباء» إلى سوريا ولبنان. لكن، في الوقت نفسه، سأل مسؤولون أميركيون الجانب الأردني عما إذا كان حصل على أي تنازلات من الجانب السوري. الجانب الأميركي سأل: «هل توقفت خطوط تهريب المخدرات والكابتغون؟ هل حصلتم على ضمانات أمنية؟ هل جرى ضبط الحدود؟ هل حصلتم على ضمانات لإعادة اللاجئين دون ملاحقات؟». واشنطن أكدت «ضرورة ألا يكون التطبيع مجانياً، وأن يقوم الجانب الروسي بدوره في الوفاء بالتزاماته إزاء تحقيق الاستقرار جنوب سوريا ومنع التهريب عبر حدود الأردن».
كرر الأميركيون القول لحلفائهم الأوروبيين والعرب بـ«ضرورة التنسيق معنا قبل أي خطوة»، لأن واشنطن «لا تحب المفاجآت»… لأنها تريد، كما موسكو، وضع الملف السوري على مائدة التفاوض والمقايضات وربطه بملفات أخرى، تختلف أولوياتها بين «الكبار».
الشرق الأوسط،
—————————-
«العبقرية الشريرة» لبوتين و«ضعف» الغرب!
رأي القدس
فتح عمود رأي نشرته صحيفة «لوبس» الفرنسية الباب لنقاش واسع لأنه اعتبر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لديه «عبقرية شريرة» حقق عبرها «معجزة» أثبت فيها أنه «سيد رقعة الشطرنج» الأوروبية وربما العالمية، فبعد أن كانت روسيا، خلال رئاسة بوريس يلتسين، أضحوكة العالم، ورغم أن حجم اقتصاد البلاد هو أقل من حجم اقتصاد إسبانيا، فقد صار بوتين يتفاوض وجها لوجه مع الرؤساء الأمريكيين على مستقبل القارة الأوروبية.
يضاف إلى ذلك تدخّلات روسيا المعروفة في كثير من مناطق العالم، سواء التي تخضع مباشرة لنفوذ موسكو، كما هو الحال في بيلاروسيا وأبخازيا وكثير من بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، كما رأينا في تدخلها العاجل لقمع انتفاضة الكازاخيين مؤخرا، عبورا إلى إيران وميانمار وكوريا الشمالية وسوريا (التي أصبحت أشبه بمحميّة روسية ـ إيرانية) وصولا إلى ليبيا والسودان ومالي في أفريقيا وفنزويلا وكوبا وغيرها في أمريكا اللاتينية.
إلى هذه التدخّلات العسكرية التي وسعت مجال الجغرافيا السياسية الحيوية لروسيا، انضافت آلة حربية غير رسميّة تشكّل شركة «فاغنر» قوامها الأساسي، وشبكة كبيرة من الجواسيس الجاهزين لتنفيذ اغتيالات في أي بقعة من العالم، بما فيها مدن الغرب، وآلة إعلامية كبيرة لتأمين «القوة الناعمة» التي تبرّر السياسات الروسية، وتفند سياسات خصومها، وجهاز أمني رقميّ مخصص للمراقبة والتجسس والقرصنة والتدخّل في الانتخابات الدولية، ووجدت هذه الآليات كلّها حواضن سياسية واجتماعية مهمّة في الولايات المتحدة الأمريكية، على شاكلة ما رأيناه من علاقة «خاصة» بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبوتين، وتمثّل أحزاب اليمين العنصريّ والفاشيّ مجالات كبيرة لتدعيم صورة بوتين، وكذلك بعض أقسام اليسار التقليدي، الذي يعتبر روسيا الحالية امتدادا للاتحاد السوفييتي الشيوعي السابق.
في الوقت الذي يقمع فيه بوتين المعارضة السياسية ويعتبر المنظمات التي تدافع عن حريات التعبير وحقوق الإنسان مؤسسات عميلة للخارج، فإنه يستغل الحريات السياسية والتعبيرية والأكاديمية التي توفّرها الأنظمة الغربية لمواطنيها وسكانها لتوطيد قوّته داخل تلك النظم، عبر الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة واليسارية التقليدية، والأغرب من ذلك أن مقربين له يستفيدون من ثغرات النظم المالية في العالم، لحفظ واستثمار أموال الفساد السياسي خارج روسيا، على ما أظهرت وثائق «باندورا» وغيرها.
إضافة إلى الاستفادة مما يعتبره «نقاط ضعف» في النظم السياسية الغربية، فإن بوتين، بممارسته ما يشبه «الروليت الروسية» لدفع العالم نحو قمة كارثة غير مسبوقة، يستغل بوتين ميلا هائلا لدى الشعوب الغربية لاعتبار الحروب العالمية شأنا يتعلق بأرشيفات التاريخ ووثائقياته، وهو أمر تجتمع فيه الرغبة في السلام، والإيمان بفاعلية الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، مع الرعب من التكاليف الإنسانية والاقتصادية الهائلة للحروب.
يقف بوتين، عمليا، على قمة «مجد» كبير للاستبداد والاستعمار والاستهانة بحقوق الشعوب، والميل الغريزي لقمع الاحتجاجات الشعبية، ويسانده في هذه الرؤية عدد كبير من النظم السياسية التي يرغب بعضها، كما هو حال الصين، في البناء على سياسات الضم والقضم والتدخل، كما جرى في التيبت ويجري التخطيط له نحو تايوان، وحال إيران التي تفاخر بعض قادتها العسكريين بأنها امبراطورية لديها أربعة جيوش عربية تساند سياساتها.
لهذه الأسباب كلّها، فإن بوتين، على الأغلب، يسخر في سرّه، من التهديدات التي يطلقها قادة الغرب، ويحاول، عبر دفع الأمور نحو سيناريو كارثي، أو عبر استخدامه احتمال التوغّل في أوكرانيا، بعد سيطرته على القرم ومناطق أخرى، لاختبار مكامن «الضعف» و«التردد» التي يراها في الغرب، ويستغلها إلى أقصى ما يمكن.
القدس العربي
—————————-
بايدن في فخ خطوط أوباما الحمراء: ارتباك غربي بمواجهة موسكو/ ناصر السهلي
يبدو أن تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، فجر الأربعاء الماضي، والتي أثارت لغطاً وارتباكاً غربياً، عن الاجتياح الروسي الكلي لأوكرانيا، باتت تتسبب اليوم بظهور الغرب “ضعيفاً” في مواجهة روسيا.
والاختلاف في مواقف ألمانيا وفرنسا و”دول الشمال” (السويد، فنلندا والدنمارك والنرويج) والبلطيق (لاتفيا، إستونيا، ليتوانيا) من تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يزيده ضبابية الحليف الأميركي. فحتى المعارض الروسي، أليكسي نافالني، من محبسه لم يرق له سقوط الغرب “مراراً وتكراراً في فخاخ بوتين”، بحسب رسائل وصلت إلى مجلة “تايم”، مشدّداً على أن الولايات المتحدة تتصرف “مثل تلميذ مذعور”.
خلافات غربية حول مواجهة روسيا
وسرّعت تصريحات بايدن، عن خلافات غربية حول أدوات مواجهة التحدي الروسي، من خروجها إلى العلن. ويشبّه البعض تصريحات بايدن عن “غزو كامل” و”طفيف” بما ساد في ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014 والتدخل الروسي في سورية في عام 2015 تحت “الخطوط الحمراء” للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما.
وزادت ضبابية المواقف بمستوى الإرباك الغربي خلال الساعات الـ48 الأخيرة. ووصف عضو لجنة السياسات الخارجية في الكونغرس، الجمهوري مايكل ماكويل، التصريحات تلك بـ”كارثية”.
وعل الرغم من مسارعة المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، للتأكيد أن واشنطن لن تميز بين غزو كبير أو صغير، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، أصبح واضحاً وجود تباين في حلف الأطلسي حول “الرد الحازم والموحد”.
وقد حاول في السياق وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، التخفيف من وطأة تلك التصريحات، قبل توجهه للقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف أمس الجمعة في جنيف.
وتعيد تجربة أوكرانيا قبل نحو 8 سنوات مع “غزو الرجال بلباس أخضر”، من دون زي رسمي روسي، المخاوف من أن الكرملين ينتهج سياسة “القضم التدريجي”، لتغيير الخطوط الجغرافية. وذلك كله يتزامن مع ما يشبه تطويق البلد من الشرق والشمال، في بيلاروسيا، غير بعيد عن العاصمة كييف.
واعتبر وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، التصريحات الأميركية “بمثابة ضوء أخضر لـ(الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين”. بل إن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عقّب بنفسه على “الغزو الصغير”، باعتبار أنه لا يوجد شيء اسمه غزو بسيط، وأن “الخسائر في الأرواح” ليس فيها أقل وأكثر.
أسباب الارتباك الغربي
أسباب اختلاف القوى الغربية حيال التصرف مع تكتيكات الرئيس الروسي، ليست غريبة على الكرملين، وأهمها غياب إرادة ورغبة أغلب الأطراف خوض حرب مدمرة لأجل أوكرانيا، على الرغم من أن اللعب عند حافة الهاوية يُقابل بتحشيد وتعبئة في بعض النواحي، التي ترسم خطوطها الحمراء المحلية، كدول الشمال في البلطيق.
ولدى الكرملين خبرة طويلة مع سياسات جيرانه في الاتحاد الأوروبي. فالتصريحات التي ساقتها زعيمة “الخضر” وزيرة خارجية ألمانيا، أنالينا بيربوك، في الحملات الانتخابية (سبتمبر/أيلول الماضي) عن ضرورة مد أوكرانيا بالسلاح الدفاعي اللازم، لم تصمد قبل نزولها عن الشجرة العالية.
وهو ما يقرأه البعض كاستمرار حكومة يسار الوسط بزعامة أولاف شولتز، بتبني البراغماتية والسياسة الواقعية التي انتهجتها المستشارة السابقة، أنجيلا ميركل، لتجنب الاصطدام بروسيا.
وتتعرّض سياسة برلين لانتقادات مراقبين ومحللين أوروبيين وألمان، مع توقيع 72 شخصية ألمانية في برلين عريضة نشرتها الصحف المحلية، دعت إلى خروج ألمانيا من “عقدة الغزو النازي لروسيا”.
وغير بعيد عن قراءة الكرملين لتفاصيل المواقف الغربية جاءت أيضاً رغبات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حول بناء قوة أوروبية، بمعزل عن حلف الأطلسي، فماكرون، الذي لا يتوافق مع تدخلات الروس العسكرية في أفريقيا، يسعى منذ أسابيع، إلى تسويق قيادة باريس منفردة للاتحاد الأوروبي، وبمعزل عن التنسيق السابق مع برلين.
ورفض البعض الأوروبي لاستغلال ماكرون استحضار موسكو “ورقة النازية” في علاقتها ببرلين لا ينفي وجود تذمر وغضب مكتوم من تراخي ألمانيا، وعلى الأقل في إسكندنافيا وبولندا ودول البلطيق. فسياسة برلين في العمق ترفض في محادثات تنسيق المواقف مع الشركاء الغربيين تضمين خط غاز “نوردستريم 2” (السيل الشمالي 2) الروسي، في مواجهة موسكو.
في المجمل، وغير بعيد عن تلك الأجواء، يذهب بعض الأوروبيين إلى المقارنات بالحالة التي سادت أوروبا عام 1939، عشية الحرب العالمية الثانية. وهؤلاء يقارنون بين تراخي الغرب آنذاك مع الزعيم النازي أدولف هتلر، واختباره القوى الغربية بسياسة قضم الدول، وما يقدم عليه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين هذه الأيام في تهديد أوكرانيا عسكرياً.
ولن يكون غريباً أن يساهم أي تحرك عسكري روسي، صغيراً أم كبيراً، في صبّ المزيد من الزيت على الخلافات الغربية حول كيفية الاستجابة إن طبق ما حذرت منه أجهزة استخبارية عسكرية، عن أنه “يخطط لإرسال مجموعات تضرب الأراضي الروسية”، فيستخدم اللون البرتقالي الذي يتهم البعض ألمانيا والولايات المتحدة بمنحه إياه، للتخلص من أعباء التدخل الغربي المباشر، والمستبعد من قبل كثيرين.
العربي الجديد
—————————–
هل يجتاح بوتين أوكرانيا؟/ جويس كرم
حشد فلاديمير بوتين ما يقارب 127 ألف جندي روسي على الحدود مع أوكرانيا يهدف إلى كسب روسيا أوراق في إعادة موضعها مع الغرب وواشنطن تحديدا، ويمنح الكرملين خيار الدخول إلى شرق أوكرانيا لدعم الانفصاليين والسعي وراء المصالح الأمنية والنفطية له هناك.
طبول الحرب تقرع على الحدود الروسية-الأوكرانية. بوتين عميل الـ”كي-جي-بي” سابقا لايزال متربعا على أمجاد الاتحاد السوفياتي قبل أن تتناثر العقيدة الشيوعية وهيكليتها الاقتصادية الفاشلة في نهاية الثمانينات. الرئيس الروسي يريد استعادة مجد السوفيات، ولا يدرك أن اقتصاد روسيا هو أصغر اليوم من اقتصاد ولاية كاليفورنيا.
بوتين لا يعترف ضمنيا بدول أوروبا الشرقية التي انفصلت عن المنظومة السوفياتية الشيوعية المهترئة في الثمانينات. فهو يرى بيلاروسيا امتدادا لروسيا، وكازاخستان وأوكرانيا وجورجيا حديقة خلفية مشروعة لكي تنقض عليها موسكو ساعة يحلو لبوتين أو يشعر بتهديد منها. لذلك، خوض بوتين معركة لقضم جزء من شرق أوكرانيا كما فعل في القرم في 2014 يقع ضمن التفكير المنطقي للزعيم الروسي إلا إذا تمكن من اقتناص تنازلات وبدائل من الغرب أكثر ترغيبا من اجتياح عسكري.
طبعا اليوم وفي حال قرر بوتين خوض مغامرة عسكرية في أوكرانيا فهناك شعبة من الخيارات والاحتمالات. فالفوز الكامل والوصول إلى كييف غير مطروح اليوم نظرا للتكلفة البشرية والاقتصادية والسياسية الضخمة، وهناك أيضا احتمال التوغل الجزئي شرقا وإقامة منطقة آمنة كما فعلت إسرائيل في جنوب لبنان بالإضافة إلى خيار القصف من الخارج لدعم الانفصاليين من دون الدخول الفعلي لأوكرانيا.
إنما قبل الإقدام على أي من هذه الخطوات يسعى بوتين إلى استخدامها لمفاوضة الغرب وإعادة موازنة العلاقة مع واشنطن ودول حلف الشمال الأطلسي. فبوتين ينظر اليوم للساحة العالمية ويرى منافسة بين الصين وأميركا تغيب عنها موسكو، وهو يرى طاولة للاقتصادات الأكبر في مجموعة السبع من دون اللاعب الروسي. وإذا نظر غربا يرى أن تركيا نجحت في أذربيجان في استعادة إقليم كاراباخ وبمساعدة من المنافس السياسي السابق للاتحاد السوفياتي أي تركيا. وتركيا هي نفسها اليوم التي تزود أوكرانيا بطائرات من دون طيار نجحت في حسم معارك في كاراباخ وليبيا وأثيوبيا، وهذا ما يقلق بوتين.
في نفس الوقت يريد الزعيم الروسي تنازلات من الغرب كثمن لعدم إشعال الفوضى في الجبهة الأوكرانية. وهنا المفاوضات ليست حصرا حول أوكرانيا، فبوتين يريد أن يكون حاضرا على الطاولة في قمم الدول الكبرى، وأن يبيع منظومات دفاعية مثل أس-400 للهند من دون مواجهة العقوبات الأميركية. أما ضمانات عدم دخول أوكرانيا حلف الناتو في لم تكن أصلا خيارا لسحبها اليوم، كذلك قلب الحكومة في كييف ليس عقلانيا لأنها لا تشكل تهديدا حيويا لموسكو. احتلال شرق أوكرانيا في حال قامت روسيا لذلك سيكون لأسباب جغرافية لربط المنطقة بالقرم وحماية المصالح النفطية إنما يبقى خيار أخير لبوتين.
اليوم الدب الروسي يريد انتباه الغرب أكثر منه احتلال أوكرانيا، والتنازلات الاقتصادية الدفاعية من جوزيف بايدن تهم فلاديمير بوتين أكثر من مصير فولوديمير زيلينسكي. فهل تنجح هذه المقايضة في اجتماع اليوم بين أنتوني بلينكن وسيرغي لافروف؟ النجاح يعني توفير أوكرانيا وأوروبا هزة أمنية وسياسية، فيما الفشل يعني دخول بوتين في مغامرة عسكرية جديدة قد تكون مكلفة على روسيا وحدودها الغربية من دون أن تعيد المجد السوفياتي أو أن تقلب الحكومة في كييف.
الحرة
——————————–
خارجية أمريكا تعدد 7 “أكاذيب” روسية حول أوكرانيا وما “الحقيقة“
عددت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان، 7 روايات لروسيا وصفتها بـ”أكاذيب مضللة” تجاه أوكرانيا مبينة ما هي “الحقيقة” وذلك وسط استمرار التوترات بين روسيا وأمريكا وحلف الناتو بعد ارسال موسكو لقوات بأعداد كبيرة إلى قرب المناطق الحدودية لأوكرانيا.
وفيما يلي نستعرض لكم الرويات التي ذكرتها الخارجية الأمريكية في بيانها:
محتوى إعلاني
1- الرواية المضللة: أوكرانيا والمسؤولون الحكوميون الأوكرانيون هم الجهة المعتدية في العلاقات الروسية الأوكرانية.
الحقيقة: هذه تصريحات مضللة من نظام بوتين تلوم الضحية، أي أوكرانيا، على العدوان الروسي. لقد غزت روسيا أوكرانيا في العام 2014 وهي تحتل شبه جزيرة القرم وتسيطر على القوات المسلحة في دونباس، وقد حشدت الآن أكثر من 100 ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا بينما يهدد الرئيس بوتين بإجراءات “عسكرية تقنية انتقامية” في حال عدم تلبية مطالبه.
2- الرواية المضللة: يدفع الغرب أوكرانيا نحو الصراع.
الحقيقة: أثارت موسكو الأزمة الحالية من خلال نشر أكثر من 100 ألف جندي على حدود أوكرانيا بدون أي نشاط عسكري مماثل على الجانب الأوكراني من الحدود. وتستهدف الكيانات العسكرية والاستخباراتية الروسية أوكرانيا بمعلومات مضللة تحاول تصوير هذه الأخيرة ومسؤولي الحكومة فيها على أنهم الجهة المعتدية في العلاقات الروسية الأوكرانية. وتحاول الحكومة الروسية خداع العالم للاعتقاد بأن سلوك أوكرانيا قد يؤدي إلى صراع عالمي وإقناع المواطنين الروس بضرورة إجراء روسيا عملا عسكريا في أوكرانيا. وتلقي روسيا باللوم على الآخرين في عدوانها، ولكن إنهاء هذه الأزمة سلميا من خلال خفض التصعيد والدبلوماسية هو من مسؤولية موسكو.
لقد غزت موسكو أوكرانيا في العام 2014 وهي تحتل شبه جزيرة القرم وتواصل تأجيج الصراع في شرق أوكرانيا. ويتبع ذلك نمطا من السلوك الروسي المتمثل في تقويض سيادة دول المنطقة وسلامة أراضيها، إذ قامت بغزو أجزاء من جورجيا واحتلالها في العام 2008 وفشلت في الوفاء بالتزامها في العام 1999 بسحب قواتها وذخائرها من مولدوفا، وما زالت هناك بدون موافقة حكومة البلاد.
3- الرواية المضللة: يشكل نشر روسيا لقواتها القتالية مجرد إعادة تمركز لقواتها على أراضيها الخاصة.
الحقيقة: ليس من المقبول أن يتم نشر أكثر من 100 ألف جندي روسي، بما فيهم قوات قتالية قوية وأسلحة هجومية، بدون أي تفسير معقول عند حدود دولة غزتها روسيا سابقا ولا تزال تحتلها في بعض الأماكن، ولا يعد ذلك مجرد تبديل للقوات. هذا تهديد روسي واضح ومتجدد لسيادة أوكرانيا وسلامة أراضيها، ويقترن الحشد بإجراءات نشطة للتضليل تهدف إلى تقويض الثقة في الحكومة الأوكرانية وخلق ذريعة لمزيد من التوغل الروسي.
4- الرواية المضللة: خططت الولايات المتحدة لهجمات بالأسلحة الكيمياوية في دونباس.
الحقيقة: كل من الولايات المتحدة وروسيا طرف في معاهدة حظر الأسلحة الكيميائية. لا تستخدم الولايات المتحدة الأسلحة الكيمياوية وفقا لالتزاماتها بموجب تلك المعاهدة الدولية. ولكن الحكومة الروسية قد استخدمت أسلحة كيمياوية مرتين في السنوات الأخيرة لمهاجمة معارضين ومحاولة اغتيالهم، بما في ذلك على أرض أجنبية. وبدلا من تأجيج الصراع في شرق أوكرانيا كما فعلت روسيا، قدمت الولايات المتحدة أكثر من 351 مليون دولار كمساعدات إنسانية للمتضررين من عدوان موسكو هناك منذ العام 2014. تلجأ روسيا إلى تصريحات المسؤولين رفيعي المستوى ووسائل الإعلام المضللة والدعاية لتنشر عمدا معلومات مضللة تحاول من خلالها خلق ذريعة لإجراء عمل عسكري.
5- الرواية المضللة: تدافع روسيا عن الروس في أوكرانيا.
الحقيقة: ما من تقارير موثوقة عن تعرض أي شخص من أصل روسي أو يتحدث باللغة الروسية لتهديد من الحكومة الأوكرانية، ولكن ثمة تقارير موثوقة تفيد بأن الأوكرانيين في شبه جزيرة القرم التي تحتلها روسيا وفي دونباس يواجهون قمعا لثقافتهم وهويتهم الوطنية ويعيشون في بيئة من القمع الشديد والخوف. تجبر روسيا الأوكرانيين في شبه جزيرة القرم على حمل الجنسية الروسية أو فقدان ممتلكاتهم وحصولهم على الرعاية الصحية ووظائفهم. ويواجه من يعبرون سلميا عن معارضتهم للاحتلال أو السيطرة الروسية السجن لأسباب واهية ومداهمات لمنازلهم من الشرطة والتمييز المسموح به رسميا، وكذلك التعذيب وغيره من الانتهاكات في بعض الحالات. ويتم التحقيق مع الأقليات الدينية والعرقية ومحاكمتهم على أنهم “متطرفون” و”إرهابيون.”
6- الرواية المضللة: لقد تآمر الناتو على روسيا منذ نهاية الحرب الباردة وطوقها بالقوات وحنث بوعود مفترضة بعدم التوسع وهدد أمن روسيا باحتمال انضمام أوكرانيا إلى الحلف.
الحقيقة: حلف الناتو تحالف دفاعي هدفه حماية الدول الأعضاء. وأعاد كافة الحلفاء التأكيد في قمة بروكسل في حزيران/يونيو 2021 أن “الحلف لا يسعى إلى المواجهة ولا يشكل أي تهديد لروسيا.” في الواقع، صرح الرئيس بوتين بنفسه في العام 2002 بأن “لكل دولة الحق في اختيار طريقة ضمان أمنها. وينطبق ذلك على دول البلطيق أيضا. وثانيا، وبشكل أكثر تحديدا، حلف الناتو هو في الأساس كتلة دفاعية.”
لا يطوق حلف الناتو روسيا – يزيد طول الحدود البرية الروسية عن 20 ألف كيلومتر بقليل، وتتشارك بأقل من 1/16 منها (1215 كيلومترا) مع أعضاء الناتو. تتشارك روسيا حدودها البرية مع 14 دولة، وخمسة منها فحسب من أعضاء الناتو.
نشر حلف الناتو أربع مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في دول البلطيق وبولندا في العام 2016 ردا على استخدام روسيا للقوة العسكرية ضد جيرانها. وتتناوب تلك القوات في مراكزها وهي قوات دفاعية ومتناسبة ومتواجدة هناك بطلب من الدول المضيفة. لم يكن ثمة خطط لنشر قوات الحلفاء في الجزء الشرقي من الحلف قبل استيلاء روسيا غير القانوني على شبه جزيرة القرم.
لم يعد الناتو أبدا بعدم قبول أعضاء جدد، وتوسيع الناتو ليس موجها ضد روسيا. لكل دولة ذات سيادة الحق في اختيار ترتيباتها الأمنية والدخول في تحالفات إقليمية دفاعية لأغراض الدفاع عن النفس. هذا مبدأ أساسي للأمن الأوروبي وينعكس في ميثاق الأمم المتحدة، وهو أيضا مبدأ أكدته روسيا في عدد لا يحصى من المعاهدات الدولية والإقليمية مثل وثيقة هلسنكي النهائية.
7- الروايةالمضللة : يتجنب الغرب الدبلوماسية ويلجأ مباشرة إلى إجراءات مثل العقوبات.
الحقيقة: تنخرط الولايات المتحدة وشركاؤنا في دبلوماسية مكثفة لحل هذه الأزمة، بما في ذلك مع الحكومة الروسية مباشرة. لقد تحدث الرئيس بايدن مع الرئيس بوتين مرتين وعقد المسؤولون الأمريكيون عشرات الاجتماعات رفيعة المستوى وأجروا عشرات المكالمات الهاتفية مع نظرائهم الروس والأوروبيين كجزء من جهد دبلوماسي شامل لحل هذا الوضع سلميا. ما زال ينبغي أن نحدد ما إذا كانت روسيا مستعدة للوفاء بمسؤولياتها كعضو في المجتمع الدولي واتخاذ خطوات لتهدئة الأزمة التي أحدثتها. ولكننا أوضحنا أيضا، بشكل علني وسري، أننا وشركاؤنا سنفرض تكاليف اقتصادية سريعة وشديدة على الاقتصاد الروسي إذا اختار الرئيس بوتين غزو أوكرانيا.
—————————-
هل تحول “الناتو” عقبةً في طريق السلام؟/ حسن نافعة
تسبّبت أوروبا الغربية في اندلاع حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين ـ راح ضحيتهما أكثر من مائة مليون نسمة، بخلاف الجرحى والأسرى والمفقودين، فالحرب الأولى، والتي تواصلت أربع سنوات متتالية (1914-1918)، أدت إلى مقتل ما يقرب من 25 مليون شخص، عشرة ملايين منهم عسكريون. أما الثانية، واستمرت ست سنوات (1939-1945)، فقد راح ضحيتها ما يقرب من 80 مليون شخص، بينهم 50 مليون مدني، وجرى خلالها استخدام السلاح النووي، حين ألقت الولايات المتحدة، من دون أي ضرورة عسكرية، قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين، هيروشيما يوم 6 أغسطس/ آب وناغازاكي يوم 9 أغسطس/ آب عام 1945، راح ضحيتهما معا حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف شخص.
أمام حجم الخراب الناجم عن الكارثتين، اقتنع قادة العالم بأن إنقاذ البشرية من ويلات الحروب بات مرهونا بقدرة النظام العالمي على إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في مسار العلاقات الدولية، تنهي حالة السيولة المستندة إلى سباق التسلح وتوازن القوى، وتبنّي مفهوم جديد يتعامل مع أمن المجتمع الدولي باعتباره كلا لا يتجزأ تقع عليه مسؤولية ردع أي اعتداء يقع على أي جزء فيه، وهو مفهوم “الأمن الجماعي”. واستنادا إلى هذه القناعة، تم تأسيس “عصبة الأمم”، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وحين فشلت العصبة في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثانية، لم يتزعزع الإيمان في مفهوم “الأمن الجماعي”، وإنما بدا العالم أكثر تصميما على إقامة منظمة دولية بديلة، أكثر فاعلية وقدرة على تحقيقه، وهي الأمم المتحدة التي تأسست عام 1945، وما تزال قائمة. ويحتوي الميثاق المنشئ لهذه المنظمة التي تحولت عبر مسيرتها الطويلة إلى مؤسسة عالمية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، على نظام متكامل للأمن الجماعي، يقوم على: أ – مجموعة مبادئ وقواعد عامة على الدول الأعضاء الالتزام بها. ب – جهاز مسؤول عن تحقيق السلم والأمن الدوليين، هو مجلس الأمن، يتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة جدا، تمكّنه ليس فقط من فرض عقوبات قاسية ضد كل من يتسبّب في الإخلال بالسلم والأمن الدوليين، وإنما أيضا من استخدام القوة المسلحة ضده. ج – لجنة تضم رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تسمّى “لجنة أركان الحرب”، تعمل كجهاز استشاري لمساعدة المجلس على الإدارة الميدانية للعمليات العسكرية التي تفرضها الحاجة. د – وحدات عسكرية تلتزم الدول الأعضاء بتجهيزها داخل جيوشها الوطنية، توضع تحت تصرّف مجلس الأمن للاستخدام عند الضرورة (المادتان 43 و45 من الميثاق) .. إلخ، غير أن تشغيل هذا النظام توقف على شرط اساسي، تحقق الإجماع بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما لم يحدُث، بسبب انقسام التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، والذي قامت الأمم المتحدة على أكتافه، إلى معسكرين متصارعين، اندلعت بينهما حرب باردة استمرت ما يزيد على أربعة عقود.
وكان تأسيس الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 بمثابة إعلان رسمي بفقدان هذه الدولة العظمى الثقة في نظام الأمن الجماعي الذي تديره الأمم المتحدة، ولحاجة المعسكر الغربي الذي تقوده إلى نظام أمني خاص به، ما دفع المعسكر الشرقي المنافس إلى سلوك النهج نفسه، والشروع في تأسيس حلف وارسو عام 1955. وهكذا ظهر إلى جانب نظام الأمن الجماعي “العالمي” نظامان فرعيان موازيان، يختصّ كل منهما بمنطقة نفوذ خاصة به، يسعى أحدهما إلى مد نطاق حمايته إلى الدول المنخرطة في المعسكر الغربي، ويجسّده حلف الناتو، ويسعى الآخر إلى مد نطاق حمايته إلى الدول المنخرطة في المعسكر الشرقي، ويجسّده حلف وارسو.
يختلف “نظام مناطق النفوذ” اختلافا بيّنا عن “نظام الأمن الجماعي”، وربما يشكّل نظاما بديلا أو نقيضا له، فالأخير، كما سبقت الإشارة، يتعامل مع المجتمع الدولي ككل، باعتباره نسقا أمنيا واحدا غير قابل للتجزئة، ومن ثم تقع على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، متضامنة، مسؤولية رد أو ردع أي اعتداء يقع على أي جزءٍ فيه. أما نظام مناطق النفوذ فيتعامل مع المجتمع الدولي باعتباره أنساقا أو كتلا متباينة، يحق لكل منها تنظيم شؤونها الأمنية وفقا لما تتطلبه مصالحها الخاصة المشتركة، ما يعني سلخ كل كتلة على حدة، ووضعها تحت الهيمنة المنفردة للدولة العظمى التي تقودها، أي سلخ دول الكتلة الغربية ووضعها تحت الحماية المنفردة للولايات المتحدة، وسلخ دول الكتلة الشرقية ووضعها تحت الحماية المنفردة للاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يترتب عليه بالضرورة شل قدرة الأمم المتحدة على التعامل مع الأزمات التي تندلع في منطقة النفوذ التابعة لأي من هاتين الكتلتين، وكذلك في الأزمات التي تكون فيها إحدى القوتين العظميين طرفا مباشرا فيها، وهذا هو ما حدث، فقد أصاب الشلل شبه التام نظام الأمن الجماعي، ولم يكن في مقدور الأمم المتحدة أن تتدخل في الأزمات التي اندلعت في المجر (1956) وفي تشيكوسلوفاكيا (1968) وفي الأزمات التي تواصلت سنوات طويلة، وتسببت فيها الحرب الأميركية على فييتنام أو الحرب السوفييتيه على أفغانستان .. إلخ.
حين انتهت الحرب الباردة، بانهيار حائط برلين أولا عام 1989، ثم بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991، اختفى حلف وارسو وجرى حله بالفعل. وقتها، تصوّر كثيرون أنه لم يعد لحلف شمال الأطلسي ما يبرّره، وأنه سيحل نفسه آجلا أو عاجلا، ثم راحوا يطالبون بنظام عالمي جديد تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الرئيسي من خلال تفعيل نظام الأمن الجماعي الذي تسبّبت الحرب الباردة في تجميده، الأمر الذي استدعى إدخال إصلاحات جوهرية على الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة، خصوصا ما يتعلق منها بتوسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن وبطريقة اتخاذ القرار فيه، غير أن تحقيق هدف طموح كهذا تطلب تخلي الجميع عن أحلام الهيمنة المنفردة، والتفكير في مصالح البشرية ككل، وهو ما لم يكن متاحا للأسف، فقد تصوّرت الولايات المتحدة أن سقوط المعسكر الاشتراكي المعادي لها يعني انفساح الطريق أمامها للهيمنة المنفردة على العالم، ومن ثم شرعت على الفور في اتخاذ كل الإجراءات التي تمكّنها من إحكام قيادتها المعسكر الغربي وبسط سيطرتها على النظام الرأسمالي. وبدلا من حل حلف الناتو، راحت تتوسع في عضويته لتشمل ليس فقط الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو، وإنما أيضا التي كان يتشكّل منها الاتحاد السوفييتي نفسه، ففي عام 1999 ضم “الناتو”: بولندا والمجر وجمهورية التشيك. وفي 2004 ضم: بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفي 2009 ضم ألبانيا وكرواتيا، ثم الجبل الأسود في 2017. وبدلا من الشروع في إحياء نظام الأمن الجماعي، بالعمل على تفعيل المواد التي جمدتها الحرب الباردة في ميثاق الأمم المتحدة، خصوصا المواد 43 و45 و47، بدأت الولايات المتحدة تفكّر في توسيع نطاق صلاحيات حلف الناتو، وفي استخدامه ذراعا عسكرية بدلا من مجلس الأمن ولجنة أركان حربه المصابة بالشلل. وفي هذا السياق، تدخل “الناتو” في أزمات كوسوفو وأفغانستان وليبيا وغيرها، متخليا بذلك عن طبيعته حلفا دفاعيا يستمد شرعيته من المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
كان الهدف من توسيع نطاق العضوية في حلف شمال الأطلسي، المعلن والمضمر على السواء، محاصرة روسيا الاتحادية، والحيلولة دون تمكّنها من استعادة النفوذ الذي كان للاتحاد السوفييتي من قبل، وهو هدف لم يكن بمقدور روسيا أن تتحدّاه، خصوصا خلال الحقبة الأخيرة من القرن العشرين والحقبة الأولى من القرن الواحد والعشرين التي انكبت فيها على إعادة بناء هياكلها ومؤسساتها الداخلية المحطمة. ولأن الولايات المتحدة راحت تتمادى في غيها إلى درجة إقدامها على نشر منظومات صواريخ باليستية في الدول المتاخمة لروسيا، فما إن بدأت هذه الأخيرة تستعيد قوتها حتى راحت بتحدّي الولايات المتحدة وتعمل على عرقلة خطط حلف الناتو التوسعية، ومن ثم رأت في انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه خطا أحمر لن تقبل بتجاوزه. وكانت البداية المواجهة في جورجيا عام 2008، ثم في أوكرانيا عام 2014، حيث تمكّنت روسيا من ضم شبه جزيرة القرم، وها هي الأزمة تتجدّد في أوكرانيا بعد أسابيع قليلة من قرار روسيا التدخل عسكريا في كازاخستان لمساندة نظامها الحاكم ضد ما اعتبرته مؤامرة غربية لتدبير ثورة ملونة جديدة فيها!. وهي أزمة قد تؤدّي إلى نزاع مسلح على نطاق واسع، خصوصا إذا قامت روسيا بغزو عسكري شامل لأوكرانيا، كما تزعم وسائل الإعلام الغربية، الأمر الذي تنفيه روسيا تماما. لكن روسيا ستصرّ، في جميع الأحوال، على الحيلولة دون انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، مهما كانت التكلفة.
كان قيام الأحلاف العسكرية، في نهاية الأربعينات ومنتصف الخمسينات من القرن الماضي، قد أثار، في حينه، جدلا قانونيا عميقا بشأن مدى مشروعيته، انتهى إلى أنها لا تعدّ من قبيل المنظمات الإقليمية التي تسري عليها أحكام الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة، وأنها أقرب ما تكون إلى الترتيبات الدفاعية الجماعية التي يجيزها نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، غير أن إقدام حلف وارسو على حل نفسه، من ناحية، ومد حلف الناتو نطاق صلاحياته، من ناحية أخرى، لتشمل أمورا يصعب اعتبارها من قبيل الترتيبات المتعلقة بحق الدفاع الشرعي عن النفس، جعل من حلف الناتو في الواقع ليس فقط منظمة غير شرعية، من منظور ميثاق الأمم المتحدة، ولكن أيضا، وعلى وجه الخصوص، عقبة كأداء أمام تفعيل نظام أمن جماعي عالمي كانت الحرب الباردة قد جمّدته، وبالتالي أصبح عقبة كأداء تعترض طريق تحقيق السلم والأمن الدوليين.
لن يتمتع أي حديث عن إصلاح الأمم المتحدة بأي مصداقية إلا إذا اقترن باستعداد الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة بصفة خاصة، لحل حلف الناتو.
العربي الجديد
—————————–
ألمانيا: صناعة “الوحش” الروسي/ بيار عقيقي
تقف أوكرانيا أمام منعطفٍ حسّاس، مفترض أن يقرّر مصيرها عقوداً طويلة. كل ما يجري في هذه الأيام يسبق إعصاراً ما على وشك الهبوب، والاصطفافات لا بدّ منها. لا مكان للرمادية خلال الأيام المقبلة. إما أن تكون مع أوكرانيا أو مع روسيا. البريطانيون ينقلون ذخائر بالجملة إلى كييف، أبرزها منظومة “أن أل إيه دبليو” المحمولة على الكتف، والقادرة على مواجهة الدبابات الروسية. تؤدّي لندن هنا دور واشنطن في كابول في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين مرّر الأميركيون صواريخ ستينغر للمجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفييتي، وضمنهم أنصار أسامة بن لادن. غيّرت تلك الصواريخ مجرى المعارك، وصولاً إلى تقهقر السوفييت، وعودتهم إلى بلادهم. ليس من الضرورة أن يتكرّر الأمر نفسه في أوكرانيا، ولكنه قد يتكرر أيضاً. الأميركيون ليسوا حاسمين، وافقوا على إرسال أسلحة إلى كييف، لكنهم قرّروا عدم التورّط عسكرياً، مع التلويح بفرض عقوبات قاسية على روسيا، على الرغم من الجلبة التي أحدثها تصريح الرئيس جو بايدن، مساء الأربعاء الماضي، بأن فرض العقوبات على روسيا مرتبط بمدى توغلها في الأراضي الأوكرانية. بمعنى آخر: إنْ توغّلتم متراً فستكون عقوبتكم أقل مما لو توغّلتم كيلومتراً.
وسط كل هذا تقف ألمانيا في مكان آخر. لا تهدد بتوقيف “نوردستريم 2″، الغاز الروسي الذي يموّن البلاد، خصوصاً حوض منطقة الرور الصناعية. وترفض بيع أسلحة، ولو دفاعية، إلى أوكرانيا. ولم تتمكّن، على الرغم من نفوذ أنجيلا ميركل سابقاً، من فرض اتفاقي “مينسك 1″ و”مينسك 2” في عامي 2014 و2015 على أطراف القتال في الشرق الأوكراني. ومع سماع قرع طبول الحرب، يجلس الألمان على الضفة الأخرى من النهر، وكأن لا شيء يحصل بين البحر الأسود وأعلى البلطيق، حتى لو كانت وزيرة خارجيتهم، أنالينا بيربوك، تجول بين كييف وموسكو وبروكسل. تريد برلين الإيحاء بقدرتها على ممارسة دور وسطي، لكنها لن تنجح في ذلك، كونها محكومة بالغاز الروسي من جهة، وبالتاريخ الحديث من جهة أخرى. من حقّ ألمانيا التصرّف بما تراه مناسباً لوجودها حماية لشخصيتها الاقتصادية ـ الاجتماعية التي صنعتها في العقود الماضية، غير أن إثبات حضورها قوة وسطية فاعلة لم يعد يستلزم حراكاً دون المستوى، خصوصاً أن ميركل اعتادت، في أوقات كثيرة، أن تتواصل مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من دون مقدمات. وهو ما سهّل خلافاتٍ عديدة سابقاً.
التاريخ أكبر من مجرّد محطة ميدانية. ألمانيا صنعت هذا “الوحش” الروسي الرابض في الشرق. صنعته أفكار كارل ماركس في ثورةٍ بلشفيةٍ عاصفة، نقلت روسيا القيصرية المتقهقرة إلى اتحاد سوفييتي متوثب في حينه. أطعم أدولف هتلر هذا “الوحش” في حصار لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) وملحمة ستالينغراد (فولغوغراد حالياً) في الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945). ولم تسقط ألمانيا النازية سوى حين قرّر التلاميذ التمرّد والزحف إلى برلين في 1945. حتى أنه بعد تفكّك السوفييت في 1991، وعبور الوريثة روسيا تسعينيات مرعبة، كان لا بدّ من عودة ما لرأس هرم صلب، ولم يكن هناك أفضل من الجاسوس فلاديمير بوتين، المصنوع من أرحام ألمانيا الشرقية.
صحيحٌ أن الأفكار موروثات وتمازج أفكار سابقة مبنية على البيئة التي ننتمي إليها، مع كل عناصرها المناخية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية، إلا أن التأثير الألماني على السوفييت، ثم الروس، تجاوز أي تأثير مماثل لشعب على شعب آخر، ما لم يكن مُستعمراً منه. السلوك الروسي حالياً يشبه سلوكاً ألمانياً تقليدياً، مفعماً بالعنجهية والعنفوان، لا بالعقلية الحجرية المتصلّبة التي ميّزت الروس تاريخياً. بوتين يبدو ألمانياً أكثر منه روسياً، عكس ما كان عليه جوزف ستالين وفلاديمير لينين. وحين تطأ قدم أول جندي روسي أرض أوكرانيا قريباً ستدرك ألمانيا أي “وحشٍ” صنعت.
العربي الجديد
———————————
“توغُّل بسيط في أوكرانيا”.. كيف يمكن أن يضع بوتين الغرب بمأزق كبير من خلال هذا السيناريو؟
عربي بوست
بعيداً عن الغزو الشامل لأوكرانيا، يمكن للرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخاذ إجراءات أقل شدة في كييف من شأنها أن تُعقد رد الولايات المتحدة وحلفائها تعقيداً كبيراً؛ إذ قد ينفذ ما سمَّاه الرئيس جو بايدن “توغلاً طفيفاً” -وربما هجوماً إلكترونياً- مما يترك الولايات المتحدة وأوروبا منقسمين بشأن نوع وشدة العقوبات الاقتصادية التي يجب فرضها على موسكو وطرق زيادة الدعم لكييف، كما تقول وكالة The Associated Press الأمريكية.
وتعرض بايدن لانتقادات واسعة النطاق لقوله يوم الأربعاء، 19 يناير/كانون الثاني، إنَّ الرد على العدوان الروسي في أوكرانيا سيعتمد على التفاصيل. قال: “الأمر سيختلف إذا كان توغلاً بسيطاً؛ إذ سينتهي بنا المطاف في القتال حول ما يجب فعله وما لا يجب فعله”.
ولكن في اليوم التالي، عمل بايدن وكبار مسؤولي الإدارة على تصحيح آثار هذه التعليقات. وشدد بايدن على أنه “إذا تحركت أية وحدات روسية مجمعة عبر الحدود الأوكرانية، فهذا يعد غزواً، وسيُقابل برد اقتصادي قاسٍ ومنسق”.
دبابة روسيا بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، سبوتنيك
“غزو محدود في أوكرانيا”.. كيف يمكن لهذا السيناريو الروسي تكتيف الغرب؟
تقول أسوشيتد برس إنه حتى إذا نُظِر إلى ملاحظة “التوغل البسيط” على أنها زلة، فقد تطرقت إلى مسألة يحتمل أن تمثل إشكالية: بينما تتفق الولايات المتحدة وحلفاؤها على رد قوي على غزو روسي، ليس من الواضح كيف سيردون على أي عدوان روسي يحدث على نطاق أقل من ذلك؛ مثل هجوم إلكتروني أو دعم معزَّز للانفصاليين الموالين لروسيا الذين يقاتلون في شرق أوكرانيا.
كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من بين أولئك الذين أعربوا عن قلقهم بشأن تصريح بايدن “التوغل البسيط”. وقال في تغريدة: “نريد تذكير القوى العظمى بأنه لا توجد غارات صغيرة ودول صغيرة. كما أنه ليس هناك إصابات طفيفة ولا حزن بسيط على فقدان الأحباء”.
We want to remind the great powers that there are no minor incursions and small nations. Just as there are no minor casualties and little grief from the loss of loved ones. I say this as the President of a great power 🇺🇦
— Володимир Зеленський (@ZelenskyyUa) January 20, 2022
وتوالت الشكاوى سريعاً من أنَّ بايدن أوضح لبوتين أين وكيف يدق إسفيناً بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، وذلك باستخدام جزء بسيط من القوة العسكرية الكبيرة التي جمعها بالقرب من حدود أوكرانيا لاتخاذ إجراءات محدودة. وقال المسؤولون الروس إنهم لا يعتزمون غزو أوكرانيا، لكن نشر قوة قتالية كبيرة على طول حدودها، تُقدَّر بنحو 100 ألف جندي؛ مما خلق مخاوف من حرب برية تعجيزية.
رداً على تعليق بايدن، غرّدت النائبة ليز تشيني، العضوة الجمهورية عن ولاية وايومنغ والحليف الأساسي للديمقراطيين في بعض القضايا، هذا “مقلق للغاية وخطير”.
بدوره، اعتبر النائب الجمهوري مايك غارسيا من ولاية كاليفورنيا أنَّ تعليق بايدن: “ضوء أخضر لبوتين”. وهو واحد من كثيرين يستخدمون هذه العبارة.
“هجمات المنطقة الرمادية”
ومن بين احتمالات العمل العسكري الروسي المحدود، يمكن لبوتين أن ينقل الكثير من القوات البرية الروسية بعيداً عن الحدود، لكنه قد يعزز قوى الانفصاليين الذين يسيطرون على منطقة دونباس في شرق أوكرانيا.
وأشار بايدن، يوم الخميس 20 يناير/كانون الثاني، إلى أنَّ “روسيا لديها تاريخ طويل من استخدام تدابير أخرى غير العمل العسكري الصريح لتنفيذ العدوان -ومنها تكتيكات شبه عسكرية، وما يسمى بهجمات المنطقة الرمادية وأعمال الجنود الروس الذين لا يرتدون الزي العسكري الروسي”.
ووقف الحلفاء الأوروبيون إلى حد كبير بجانب الولايات المتحدة في مطالبتهم بألا يتحرك بوتين بعيداً في الأراضي الأوكرانية، ووعدوا برد صارم إذا فعل ذلك. لكن يبدو أنَّ الحلفاء لم يتحدوا بشأن العقوبات السياسية والمالية التي يتعين سنّها، أو حتى الأفعال الروسية التي قد تثير رد فعل.
إذ قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إنَّ “أي نوع من التوغل في أوكرانيا على أي نطاق مهما كان” سيكون بمثابة كارثة لروسيا والعالم، لكنه لم يحدد الرد الغربي.
بدوره، أصر دبلوماسي فرنسي -رداً على عبارة بايدن “التوغل البسيط”- على أنَّ تصريح بايدن لم يدفع إلى إعادة التفكير في “الإجماع الأوروبي” على أنَّ أي هجوم جديد على السيادة الأوكرانية ستكون له “عواقب وخيمة”. لكن الدبلوماسي، في تعليقه بعد اجتماعه مع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أثناء محادثاته مع نظرائه الأوروبيين بشأن الأزمة الأوكرانية، لم يوضح تلك العواقب أو ما الذي يمكن أن يشكل مثل هذا الهجوم.
وكان بايدن قد أشار، يوم الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني، إلى أنَّ تنسيق استراتيجية العقوبات معقد أكثر بسبب حقيقة أنَّ العقوبات التي تستهدف شلّ البنوك الروسية سيكون لها أيضاً تأثير سلبي في اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا. وتابع: “ولذا، يجب أن أتأكد من أنَّ الجميع متفقون بينما نتحرك للأمام”.
سيناريوهات الغزو
في تحليل لأزمة أوكرانيا، ذكر سيث جونز، أستاذ العلوم السياسية، وفيليب واسيليفسكي، وهو ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، عدة سيناريوهات محتملة أقل من غزو روسي شامل. وكتبوا في تحليلهم، في الأسبوع الماضي لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنَّ هذا قد يشمل إرسال بوتين قوات تقليدية إلى منطقتي دونباس الانفصاليتين في دونيتسك ولوهانسك بصفتهم “حفظة سلام” ورفض سحبهم حتى تنتهي محادثات السلام بنجاح.
وكتبا: “كل الخيارات الأخرى تجلب عقوبات دولية كبيرة وصعوبات اقتصادية وستؤدي إلى نتائج عكسية لهدف إضعاف الناتو أو فصل الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه الأمن الأوروبي”.
ومن بين تلك الخيارات الأخرى: الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية في أقصى الغرب مثل نهر دنيبر، الذي يمتد جنوباً عبر كييف إلى البحر الأسود بالقرب من شبه جزيرة القرم. وكتب جونز وواسيليفسكي أنَّ بوتين قد يسعى إلى استخدام هذا كورقة مساومة أو دمج هذه المنطقة بالكامل في الاتحاد الروسي.
هل يمكن لروسيا احتلال كييف بسهولة؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية إن روسيا قد تفكر في هجوم سريع وعميق على جبهة ضيقة، يهدف إلى صدمة العدو وشلله بدلاً من احتلال الأراضي، كما فعلت أمريكا في الغارات على بغداد في أبريل/نيسان 2003.
وإذا سمحت بيلاروسيا لروسيا بالهجوم من أراضيها، فيمكن الاقتراب من العاصمة الأوكرانية كييف من الغرب وتطويقها. وأعلن ألكسندر لوكاشينكو، زعيم بيلاروسيا، يوم 17 يناير 2022، أن بلاده ستُجري تدريبات مشتركة مع روسيا على حدودها الجنوبية والغربية في فبراير/شباط المقبل، وبدأت القوات الروسية في الوصول إلى البلاد.
وبحسب الغارديان، يتعين على روسيا أن تقرر كيفية التعامل مع المدن الأوكرانية، وخاصة كييف، التي يبلغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة، ولكن أيضاً مع خاركيف في الشمال الشرقي، ويبلغ عدد سكانها ما يقرب من 1.5 مليون نسمة، وتضيف الصحيفة البريطانية أن حرب المدن قد تكون صعبة على موسكو، بسبب خشيتها من فاتورة أضرار كبيرة.
وتشير التكهنات الغربية حول خطط روسيا، المستندة جزئياً إلى التسريبات الظاهرة التي نُشرت في صحيفة بيلد الألمانية، إلى أن الكرملين سيحاصر مدينة خاركيف وفي نهاية المطاف العاصمة كييف، وسيقطع الإمدادات عنها، على أمل أن تتسلم القوات الأوكرانية في النهاية على طريقة الحروب في العصور الوسطى.
ويقول محللون غربيون إن تطويق كييف ليس بالأمر السهل، تقع النقاط الرئيسية للمدينة، بما في ذلك القصر الرئاسي، إلى الغرب من نهر دنيبر الذي يسهل الدفاع عنه، والذي يمتد إلى الحدود مع بيلاروسيا. وبالتالي فإن أبسط طريقة لعبور النهر هي العبور في منطقة آمنة، من بيلاروسيا في الشمال. وسيتطلب ذلك دعم مينسك، وهو أمر محتمل للغاية بالنظر إلى التقارب الأخير مع موسكو.
وحتى لو لم يفعل بوتين ذلك، فإن وجود حامية عسكرية روسية دائمة في بيلاروسيا سيكون له مزايا للكرملين، كتهديد محتمل ليس فقط لأوكرانيا ولكن لدول البلطيق في الشمال، حيث يقول المحللون الغربيون إن ذلك سيخلق قاعدة عسكرية كبيرة من شأنها أن تمنح روسيا هيمنة جوية على الجناح الشرقي لحلف الناتو.
———————————
بين أوكرانيا وسوريا/ فارس الذهبي
الأساس في العلاقات الدولية اليوم، هو مربع العلاقة بين أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا، حيث يبدو أن الأوروبيين مستعدون للتفاهم مع الصين، في مقابل مواجهة محتملة ومنتظرة مع الروس، في حين يجد الأميركيون أنفسهم أمام باب مفتوح للتفاهم مع الروس لتحييدهم من أجل المواجهة مع الخطر الصيني الذي ينازعهم على صدارة العالم.
من هنا يبدأ الروس الذين يفهمون هذا التشابك في نسج أمنهم الإقليمي الذي يعتبرونه أمراً لا جدال فيه، حيث يتردد في الإعلام التوجيهي الروسي أن الغرب و أميركا تريد تفكيك دولة روسيا الاتحادية، وتقسيمها إلى خمس دول: روسيا، وسيبيريا، ودول القوقاز، ومنغوليا الشمالية، وشبه جزيرة كشمتاكا… وبأن جهود بوتين الرئيسية هي في القتال استباقياً من أجل منع هذا التقسيم، فها هو يقاتل في جورجيا، ويسلخ أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عنها في 2008، ويقاتل في أوكرانيا، ويسلخ عنها شبه جزيرة القرم و إقليم دونتسك، ويقاتل في كازاخستان، وسوريا، وقبلها في الشيشان وداغستان..
أما عن أوكرانيا فقد كانت جزءاً أساسياً من روسيا القيصيرية، وبعد تضعضع الحكم القيصري، أصبحت البلاد الأوكرانية جزءاً من تكتل جديد وأطلق عليها اسم بولندا الصغرى، وفي العام 1922، كانت أوكرانيا من الدول المؤسسة للاتحاد السوفييتي، لكن في عام 1955 قام خروتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي بإصدار قرار إداري بضم شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا بعد أن اقتطعها من روسيا، وشبه جزيرة القرم هو إقليم اقتتل الروس والأتراك للسيطرة عليه طوال أربعة أعوام (1853- 1856) .
حين سقط الاتحاد السوفييتي عام 1989، أجرت السلطات الأوكرانية استفتاءً شعبياً حول الانفصال عن الاتحاد السوفييتي، فصوّت أكثر من 90% من الأوكرانيين على الانفصال، ولكن المفاوضات بين الولايات المتحدة وغروباتشوف حينئذ أقرت بأن حلف الناتو لن يتمدد باتجاه دول الاتحاد السوفييتي السابقة.. في اتفاق شفاهي.. في حين أقرت مذكرة بودابست للضمانات الأمنية التي وقعت عام 1994، بين بريطانيا وأميركا وروسيا وأوكرانيا التي تنص على تخلّي أوكرانيا عن السلاح النووي كضمان للأمن الأوروبي، خصوصاً بعد كارثة الفشل النووي السوفييتي في انفجار مفاعل تشيرنوبل في أوكرانيا، مقابل أربعة شروط أساسية هي احترام سيادة الدولة الأوكرانية، وحماية أوكرانيا، وعدم وضع ضغوط اقتصادية على كييف، وعدم استخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا..
في عام 2005 اندلعت الثورة البرتقالية في كييف، التي نغصت السياسات الداخلية الروسية، إذ حاول الروس اغتيال المرشح الرئاسي الأوكراني الموالي للغرب قبل ذلك بعام واحد، مما سبّب حرجاً كبيراً للرئيس الروسي بوتين، إذ اتهم شخصياً بالإيعاز بذلك الاغتيال، لكن الثورة البرتقالية التي اندلعت بعد هذه الحادثة طالبت بانضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، معلنة الانفصال السياسي الكامل عن روسيا ومجالها الحيوي.
وفي تصاعد مقلق، اجتاحت الجيوش الروسية حدود جورجيا عام 2008 بعد وعود جورج بوش الابن بالسماح بضم جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، فاقتطعت روسيا إقليمين كبيرين فيها بحجة رفض روسيا لانضمام جورجيا لحلف الناتو.. وصولا إلى عام 2014، حيث اندلعت الثورة وأعقبها أعمال عنف ضد الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، وهروبه إلى موسكو، ونجاح حلفاء أوروبا بالوصول إلى السلطة ومنذ ذلك اليوم بدأت المفاوضات بطلب من كييف بالانضمام الكامل لحلف الناتو.. وبذلك تم إعلان الانفصال الكامل لأوكرانيا عن روسيا..
حينئذ بدأت أحجار الدومينو في السقوط معلنة بَدْء المعارك بين روسيا والغرب، حيث دخلت ميليشيات روسية إلى شرق أوكرانيا وتم فصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا..
في عام 2021، كتب فلاديمير بوتين مقالاً أشبه بالبيان، وعادة حينما يكتب رئيس إحدى الدول مقالاً في صحيفة، فهذا يكون بمنزلة بيان للرأي العام، واستطلاعٍ لرأي حكام الغرب عموماً، في مقاله هذا يتحدث بوتين عن طموحاته المخفية تجاه أوكرانيا، فهو يتهم الغرب باختطاف أوكرانيا من الأمة الروسية، وبأن كييف تفتقر إلى هوية ثقافية وعرقية مستقلة، وهي ليست دولة مستقلة ولم تكن يوماً كذلك، أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا، واستقلالها استخدمه الأعداء ضدنا.
لا يخفي بوتين رغبته في استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي ولكن ضمن شكل جديد معاصر، وهو إذ يستند إلى التاريخ في بناء عالمه المستقبلي، يحاول تحريض العنصر القومي الروسي على مساندته، فالارتباط الروسي الأوكراني في حقيقة الأمر كبير جداً، ومدينة كييف تعدّ العاصمة الأولى للكيان الروسي، وهي إحدى الدول الأساسية المكونة للقلب السلافي للاتحاد السوفييتي برفقة بيلاروسيا وروسيا، وحقيقة أن روسيا قوة عسكرية لا يستهان بها، حاضرة في عقول الجميع وعلى رأسهم الألمان، فحينما هدد وزير الدفاع الألماني روسيا من عدم تجاوز الخطوط الحمراء الأوروبية، رد وزير الدفاع الروسي عليه قائلاً: إن آخر تهديد وجهه الألمان لنا كانت نتيجته رفع العلم السوفييتي فوق مبنى الرايخ الألماني، في إشارة إلى احتلال الروس لبرلين في الحرب العالمية الثانية، مما أوجع الأوروبيين عموماً، ولكن المبدأ الأساسي الذي يجعل فلاديمير بوتين يرتجف إزاء المتغيرات الدولية هي حقيقة الثورات التي تدور وتنتقل من بلد إلى آخر على حدود روسيا، مهددة الداخل الروسي الذي يغلي من شدة قمع نظام بوتين، فبعد إخماد الثورة في سوريا، وبلارورسيا، و كازاخستان، وفشل بوتين في إخماد ثورة أوكرانيا، يحاول الرئيس الروسي تعويض ما فاته في غرب روسيا وخصوصاً في البلد الذي يعتبره جزءاً لا يتجزأ من روسيا الاتحادية..
فما الذي تفعله الحكومة الأوكرانية تجاه التهديدات الروسية، بعد الدعم السياسي الأوروبي والأميركي، وبَدْء الدعم العسكري، ومدّ جسر الإمداد نحو كييف؟ ولكن الصفعة التي لم يتوقعها بوتين هي في صفقة الطائرات المسيرة التي وقعتها كييف مع أنقرة، بعد النجاح الكبير الذي حققته طائرات بيرقدار المسيرة عن بعد وذات السمعة الممتازة في حروب ناغورنو كارباخ وليبيا.. مما جعل مبادئ اللعبة تتشابك بين الشرق الأوسط وأوروبا، فبدأ الضغط في الشمال السوري، تحضيراً للرد على التحرك التركي الذي استفز روسيا.
في حين يتحدث المراقبون عن تحضيرات عسكرية في الشمال السوري، تحسباً لأي ضربات روسية وإيرانية ضد الفصائل المدعومة من تركيا، استباقاً للغزو الروسي لأوكرانيا الذي إن حدث فإنه سيكون مشابهاً لغزو هتلر لبولونيا وبدء الحرب العالمية الثانية.. من دون أن ننسى أن تشابك المصالح الروسي التركي، وعدم اعتراف تركيا بضم شبه جزيرة القرم التي يسكنها نسبة كبيرة من التتار الأتراك، والتوتر الناتج بعد الحرب في أذربيجان وأرمينيا التي يدعمها بوتين، والمسألة السورية، والتدخل التركي في تسليح الحكومة الأوكرانية ضد أي غزو روسي محتمل.. هذا التشابك سيضع سوريا مجدداً في قلب الصراع المحتمل في أوروبا، وما سيليه من تداعيات على أوروبا والعالم.
تلفزيون سوريا
————————-
بوادر انفراج في العلاقات الروسية الأمريكية والروسية وحلف “الناتو”/ رامي الشاعر
ما أن بدأ العام الجديد، وبدأت المفاوضات بين الأطراف: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم روسيا و”الناتو”، حتى امتلأت وسائل الإعلام بتحذيرات وتكهنات وتنبؤات بحرب نووية متوقعة.
بيد أن التوتر ليس، ولم يكن، وليد الحملات الإعلامية الغربية، والحملات المضادة لها، قدر استناده إلى حقائق موضوعية على الأرض، لابد من العودة إليها حتى نتفهم أبعاد الموقف المبدئي للدولة الروسية، ومدى منطقية وعقلانية وتوازن التحركات الروسية، بمنطق رد الفعل لا الفعل، وبغرض الدفاع لا الهجوم.
لقد أدى الانقلاب السياسي الذي وقع في أوكرانيا مطلع عام 2014 إلى انقسام البلاد بين أجزاء موالية للحكومة في كييف، اعتبرت الأحداث “ثورة على نظام يانوكوفيتش”، وأجزاء أخرى (في الشرق والجنوب)، لم تعترف بالحكومة المركزية الجديدة في كييف، واعتبرت الانقلاب مؤشراً خطراً يهدد مصالح شعوب تلك المناطق المتماهية مع مناطق غرب وجنوب روسيا، والتي كانت في يوم من الأيام تجتمع جميعاً، بما في ذلك أوكرانيا بأكملها، تحت مظلة الاتحاد السوفيتي. كذلك تمكنت جمهورية القرم من الانفصال عن أوكرانيا، استناداً إلى استفتاء رسمي شرعي، بموجب قوانين الجمهورية وشرعية البرلمان في القرم، ثم الانضمام إلى روسيا بأغلبية شعبية كاسحة، مثلما حدث ذات يوم في إعلان استقلال كوسوفو عام 2008. إلا أن الغرب يعاني من عقدة التفوق، ويمارس الكيل بمكيالين ويرفض أن يرى الأمور بموضوعية وتطبيق نفس القواعد والقوانين على الجميع بالعدل والمساواة.
اتخذت الحكومتان المنتخبتان لجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الواقعتان ضمن حدود أوكرانيا في الشرق والجنوب، قراراً أحادياً بالانفصال عن أوكرانيا، في الوقت الذي لجأت فيه حكومة كييف، وعدد من التنظيمات اليمينية المتطرفة إلى حلول أمنية، لم تنجح، وتسببت في مقتل آلاف المواطنين الأوكرانيين من الجانبين، واندلاع احتراب أهلي، وتوتر في المنطقة، فتدخلت “رباعية النورماندي” المكونة من روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا وبمشاركة الجمهوريتين المنفصلتين، لحل القضية، دفاعاً عن وحدة أراضي أوكرانيا من جانب، وعن أهالي تلك المناطق ممن يحملون الجنسية الأوكرانية، إلا أنهم ينتمون إلى الثقافة الروسية، ويتحدثون اللغة الروسية، بينما تتبع الحكومة المركزية في كييف سياسة مناهضة لكل ما هو روسي، وتمنع فتح المدارس الروسية، وبث القنوات التلفزيونية الروسية، وغيرها من الإجراءات التي تثير حفيظة ورعب تلك المناطق من الرضوخ للحكومة المركزية في كييف.
مع مرور الوقت، ومنح السلطات الروسية بعض التسهيلات في إجراءات الحصول على جوازات سفر روسية، حصل كثيرون من أهالي تلك المناطق على جوازات سفر روسية بالإضافة لجوازاتهم الأصلية الأوكرانية، لتصبح هذه المنطقة، علاوة على انتمائها العرقي والقومي لروسيا، من واقع ترابط وتواصل المناطق في جمهوريتي روسيا وأوكرانيا داخل الاتحاد السوفيتي السابق، تحمل على أرضها كتلة سكانية تقدر بحوالي 700 ألف مواطن أوكراني يحملون الجنسية الروسية، ويتحدثون اللغة الروسية، وتظللهم الثقافة الروسية بالكامل.
في 12 فبراير 2015، تم التوقيع على اتفاقية مينسك، وأعرب رؤساء رباعية النورماندي حينها، روسيا وأوكرانيا وألمانيا وفرنسا، عن اقتناعهم التام بأنه لا بديل عن تسوية سلمية بحتة للأزمة الأوكرانية. ونصت الاتفاقية على السحب الكامل لجميع الأسلحة الثقيلة على مسافات متساوية، وإنشاء مناطق أمنية عازلة بعرض 50 و70 و140 كيلومتراً لمختلف الأسلحة وأنظمة الصواريخ التكتيكية، وضمان العفو والإفراج عن الرهائن والمحتجزين بشكل غير قانوني، ومبادلتهم على أساس مبدأ “الجميع مقابل الجميع”، وتحديد طرق الاستعادة الكاملة للروابط الاجتماعية والاقتصادية، بما في ذلك التحويلات الاجتماعية، مثل دفع المعاشات التقاعدية والمدفوعات الأخرى.
كما نصت الاتفاقية كذلك على إجراء إصلاح دستوري في أوكرانيا، مع دخول دستور جديد حيز التنفيذ بحلول نهاية عام 2015، يفترض اللامركزية عنصراً أساسياً، مع مراعاة خصائص كل من مناطق دونيتسك ولوغانسك، المتفق عليها مع ممثلي هذه المناطق، وكذلك اعتماد تشريع دائم بشأن وضع خاص لمقاطعات معينة في مناطق دونيتسك ولوغانسك وفقاً للإجراءات المتفق عليها.
في منتصف أبريل الماضي قدّم الجانب الأوكراني تعديلات على المشروع الفرنسي الألماني لحل الأزمة، تضمنت التعديلات إصرار أوكرانيا على “استعادة السيطرة الكاملة على الحدود مع روسيا قبل إجراء الانتخابات المحلية في دونيتسك ولوغانسك، وإنشاء مجموعة فرعية حول قضايا إعادة السيطرة على الحدود. كما رفضت أوكرانيا في تعديلاتها التنسيق مع دونيتسك ولوغانسك بشأن الإصلاحات الدستورية”، التي ينبغي، وفقاً لاتفاقية مينسك، أن تفترض اللامركزية عنصراً أساسياً. كما اقترحت أوكرانيا كذلك ربط اعتماد مشاريع القوانين في إطار اتفاقيات مينسك في الوقت المحدد بانسحاب القوات الأجنبية، وانسحاب القوات والأسلحة من خط الترسيم، وعودة السيطرة الكاملة على الحدود.
من جانبها، تصر روسيا تماماً على تنفيذ اتفاقية مينسك قبل الشروع في أي خطوات أو إجراءات أخرى. في ظل ذلك، ومع تصاعد التوترات بين واشنطن وموسكو، تتعالى الأصوات التي تزعم إعداد موسكو لـ “اجتياح روسي محتمل لأوكرانيا”، و”وثائق مسربة” من المخابرات المركزية الأمريكية حول “خطط الكرملين لشن هجوم متعدد الجبهات في وقت مبكر من هذا العام، يشارك فيه ما يصل إلى 175 ألف جندي”.
واقع الأمر أن انتهاك كييف لاتفاقية مينسك قد بلغ حدوداً مقلقة خلال العام الماضي، فمع وقف إطلاق النار، الذي وقعت عليه أوكرانيا، إلا أنها واصلت قصف مناطق دونيتسك ولوغانسك، وأصيب 97 عسكرياً و32 مدنياً، وقتل 70 عسكرياً وسبعة مدنيين. وخلال العام الماضي وحده، دمرت التشكيلات المسلحة لأوكرانيا وألحقت أضراراً بـ 111 منشأة مدنية قصفاً. كذلك تعمّد الجانب الأوكراني إفشال جميع المفاوضات الخاصة بإحلال السلام. في الوقت نفسه، يؤدي الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، رقصة محددة، على “دف” الولايات المتحدة الأمريكية، التي صعّدت من لهجة “الغزو الروسي” لأوكرانيا، وتهدد بعقوبات غير مسبوقة على روسيا، حال هجومها على أوكرانيا.
كذلك تحشد أوكرانيا على حدود منطقة الدونباس (دونيتسك ولوغانسك) حوالي 130 ألف عسكري، فيما يبدو وكأنه استعداد لعمليات عسكرية وشيكة، فهل تريد أوكرانيا حل مشكلة دونيتسك ولوغانسك عسكرياً، مع وضع كل ما سبق من بيانات على الطاولة؟ وهل تدرك كييف عواقب الهجوم على منطقة بها 700 ألف مواطن روسي، متاخمة للحدود الروسية، وتخاطر بالاشتباك مع روسيا؟
لا أحد يعرف، إلا أن السؤال الأصعب هو مدى تورط الناتو في مثل تلك الخطط، ومدى التأثير الذي يحدثه الدعم الأمريكي، ودعم “الناتو” على مغامرات كييف العسكرية الطائشة، التي يمكن أن تشعل المنطقة بعود ثقاب واحد، علماً بأن “الناتو” أو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا ما أعتقده، لن تكون طرفاً في الصراع، وسوف يتركان أوكرانيا لمصير مجهول، تعرفه روسيا، وربما لا تعرفه القيادة الأوكرانية.
رداً على ما يدور في أروقة القيادة الأوكرانية، وما يدبرّ من دعم أمريكي ودعم من “الناتو”، تضع القوات الروسية حشودها، داخل حدودها، أينما يتراءى لها، وكيفهما تملي عليها ضرورات الأمن القومي والدفاع عن المصالح العليا للدولة الروسية، وكما صرح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال مؤتمره الصحفي مع وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة، أنالينا بيربوك، الثلاثاء 19 يناير الجاري، فإن موسكو لا يمكن أن تقبل أي انتقادات لأي تحركات عسكرية روسية على الأراضي الروسية، وما يسميه السياسيون الغربيون تصعيداً، ليس سوى أنشطة التدريب القتالي العادية، التي تجريها، ومن حقها أن تجريها أي دولة.
وشدد الوزير الروسي على أن روسيا لا تقدم أي ذرائع للصراع، كل ما تطلبه هو التنفيذ الدقيق للاتفاقيات، وأضاف أنه “من المستحيل الانسحاب” من مقترحات روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلف “الناتو” بشأن الضمانات الأمنية. وكان لافروف قد أكّد، في وقت سابق، على أن روسيا ليست طرفاً في الصراع في أوكرانيا، ومن غير المقبول التعامل معها على هذا النحو، مع وجود محاولات لإلقاء المسؤولية في عدم الامتثال لاتفاقية مينسك إلى موسكو، إلا أن لافروف قال إن هناك تفاهماً مشتركاً مع ألمانيا بأنه لا بديل عن اتفاقيات مينسك.
لقد امتثلت روسيا لرغبة شعب شبه جزيرة القرم في الانضمام إلى الدولة الروسية عام 2014، وكان من المنطقي، استراتيجياً، ألا تسمح روسيا لقواعد “الناتو” أن تصبح عند قدميها في البحر الأسود، إنها أبجدية الأمن القومي الروسي، مثلما تبدو أبجدية الأمن القومي دفاع روسيا عن نفسها ضد اقتراب الحلف من حدودها إلى الحد الذي أصبحت فيه المدة التي يستغرقها صاروخ “الناتو” ليصل إلى وسط روسيا 7-10 دقائق، إذا ما نصب قواعده في أوكرانيا! فهل يعقل أن تصمت روسيا، القوة العظمى، التي استطاعت بالتنسيق مع شركائها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، أن تنشر قواتها في أقل من 24 ساعة في كازاخستان، عقب الأحداث الأخيرة مطلع الشهر الجاري، وتعيدها بعد انتهاء مهمتها ف ظرف أيام معدودة. بعد ما زعم وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بمجرد تحرك قوات المنظمة إلى كازاخستان، وجزء كبير منها ينتمي للقوات المسلحة الروسية، أنه “من الصعب التخلص من الروس إذا داخلوا إلى بيتك”. وهل يعقل أن يستمر “الناتو” في التمدد إلى ما لا نهاية، دون أن يكون من حق روسيا الدفاع عن أمنها القومي؟ أي منطق هذا؟.
إن روسيا اليوم لم تعد نفس روسيا التسعينيات، وربما هذا تحديداً هو ما يقلق الغرب، حيث أصبحت روسيا تتفوق نوعياً من حيث الأسلحة والتكنولوجيا المتقدمة التي لم يعد يضاهيها فيها أحد، كما تتفوق روسيا في مجال الفضاء، وباستطاعتها أن تتمدد اقتصادياً دون سقف، لولا الحصار الذي يفرضه عليها الغرب، واستنزافه لكثير من وقتها وطاقتها لإثبات أكثر الأمور منطقية وعقلانية. لإثبات أن سياسة ازدواجية المعايير في السياسة الدولية لم تعد مقبولة، وأن الحق فوق القوة، وأن هيئة الأمم المتحدة هي المظلة التي يجب أن ننصاع لها جميعاً، وأن الاقتصاد يجب ألا يصبح أسيراً للسياسة في عالم مفتوح وأسواق حرة، وأن القوانين والأعراف الدولية لابد وأن تسري على جميع الدول، دون تفرقة أو شعور بالتفوق الزائف من بعض الدول على دول أخرى.
ربما هذا هو ما يقلق الغرب، ويدفع وسائل الإعلام الأمريكية والغربية نحو الهيستيريا والتوتر المبالغ فيه. بهذا الصدد أود أن أطمأن الجميع، أن روسيا لا تعتزم الدخول في أي مواجهة نووية، أو غير نووية مع الولايات المتحدة الأمريكية أو “الناتو”، فكل ما تريده روسيا هو الأمن للجميع، “لكم ولنا”.
روسيا لا تريد اجتياح أوكرانيا بأي صورة من الصور، ولا تريد التدخل في الأزمة الأوكرانية بين كييف ودونيتسك ولوغانسك، فهي في نهاية المطاف، قضية داخلية أوكرانية. لكن روسيا، في الوقت نفسه، لن تسمح، تحت أي ظرف من الظروف، بأن يتم الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال، ولن تسمح بالتعدي على أمنها القومي من أي كيان على وجه الأرض، ولن تسمح أن تكون تحت رحمة “الناتو” أو الولايات المتحدة الأمريكية أو أي قوة أخرى. لروسيا مصالح استراتيجية، وجيوسياسية في منطقة نفوذها، ولها خطوط إنتاج ونقل وطاقة يجب احترامها، تماماً كما تحترم هي مصالح الجميع، ومن بينهم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
في نهاية المطاف أتصور أن المحادثة الهاتفية بين وزيري الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، والأمريكي، أنتوني بلينكن، وكذلك لقاءهما المزمع في 21 يناير الجاري في جنيف، إلى جانب أجواء اللقاء مع وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، تشير إلى وجود تقدم ملموس، وإن كان حذراً، في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وبين روسيا و”الناتو”، ربما لبدء مرحلة تهدئة جديّة للتوتر الذي شاب العلاقات بين روسيا والغرب. وأعتقد أن المحادثات بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، نهاية العام الماضي، قد بدأت في إعطاء بعض ثمارها الإيجابية، لذلك أتمنى أن تكون تلك بالفعل بداية مرحلة انفراج في العلاقات الروسية الأمريكية، والروسية وحلف “الناتو” على وجه الخصوص.
—————————————-
هل يغيّر غزو أوكرانيا معادلات الغاز والقمح في العالم؟
توفّر روسيا نحو 40 في المئة من احتياجات القارة الأوروبية من الغاز. يفسّر هذا الحجم الكبير من واردات الطاقة الأوروبية من روسيا الخلفية الاقتصادية للاتجاه العام في أوروبا (باستثناء بريطانيا التي تتخذ موقفا جذريا من موسكو) نحو تفضيل الدبلوماسية على التصعيد، وكانت أبلغ مظاهر هذا الاتجاه رفض مستشار ألمانيا أولاف شولتس تزويد كييف بأسلحة، فيما عبّر رئيس أركان البحرية الألمانية بطريقة أكثر وضوحا عن هذا الموقف بقوله إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «يستحق الاحترام».
يمثّل الموقف من تشغيل خط أنابيب نقل الغاز «نوردستريم 2» القادم من روسيا إلى ألمانيا، موضوع خلاف بين أوساط الحكومة الألمانية، فقد اعتبرت وزيرة الدفاع الألمانية أن قرار تشغيل خط الأنابيب هذا يجب أن يبقى خارج ملف الخلاف الأوكراني ـ الروسي، كما أن شولتس وصف «نوردستريم 2» بأنه «مشروع خاص» وواضح أن مواقف الحكومة الألمانية المترددة هذه ساهمت في إضعاف جبهة الراغبين بالتصدّي لروسيا، كما أن تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي تحدثت عن رد محدود على «غزو محدود» تشير إلى ضعف وحيرة غربيين مما يعزز احتمالات اتخاذ بوتين قرارا بـ«غزو محدود» أو غير محدود لأوكرانيا!
إضافة إلى كونها ممرا للغاز الروسي إلى أوروبا، فإن أوكرانيا، التي تتمتع بأكثر الأراضي خصوبة في العالم، تعتبر ضرورية لإطعام عدد كبير من بلدان آسيا وأفريقيا، وقائمة عملات الصادرات الأوكرانية، خاصة القمح، تشمل الصين والاتحاد الأوروبي، لكن بلدان العالم «النامي» تشكل أكبر مستقبل للصادرات الغذائية الأوكرانية، كما هو حال لبنان، الذي تأتي نصف صادراته القمحية منها، فيما تستورد ليبيا واليمن ومصر ما نسبته 43٪، و22٪ و14٪ من احتياجاتها من القمح، وهناك 14 دولة في العالم الثالث تعتمد على القمح الأوكراني لأكثر من 10٪ من استهلاكها، بينها ماليزيا وإندونيسيا (28٪) وبنغلاديش (21٪).
وحسب مقالة لنشرة «فورين بوليسي» الأمريكية فإن ارتفاع الأسعار وانعدام الأمن الغذائي، وخصوصا في الدول التي تتعرض لأزمات سياسية، سيؤدي لتأجيج الصراعات، وزيادة التوترات، وزعزعة استقرار الحكومات، وانتشار العنف عبر الحدود.
وتذكّر النشرة بحدث تاريخي مخيف، حين قامت روسيا السوفياتية بالتدخل في سياسات الزراعة في أوكرانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ما أدى إلى مجاعة عظمى، قتلت الملايين في أوكرانيا.
إذا عرضنا قضية أوكرانيا الحالية على خلفيّة شاشة تاريخية مقارنة، وتذكرنا التداعيات الكبرى لأحداث سياسية أخرى مثل نكبة فلسطين، وغزو أفغانستان والعراق، والنزاع السوري، لاستنتجنا أن احتلال بلد، أو تجاهل المفاعيل الكارثية للاستبداد والاحتلال، لن يتوقف في جغرافيا محددة، بل سيفيض وسيكون عنصر اختلال كبير للعالم.
القدس العربي
————————–
تصاعد احتمالات النزاع بين أمريكا وروسيا/ د. سعيد الشهابي
أهي حرب باردة جديدة ام تهيئة لنزاع دولي جديد؟ فالسجال الذي يزداد حدة بين روسيا والغرب الذي تتزعمه أمريكا بدأ يأخذ أبعادا خطيرة وينذر باندلاع مواجهات مسلحة على حدود روسيا.
هذه المرة أصبحت أوكرانيا ساحة المعترك السياسي الذي يهدد بالتصاعد نحو نزاع عسكري لا يمكن تحديد الأطراف التي سيشملها. فمنذ تفكك الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثين عاما، وجد الغرب (ممثلا بحلف شمال الأطلسي (ناتو) فرصته لتوسيع نفوذه حتى أصبح يحاصر روسيا بشكل غير مسبوق. ربما لم يتوقع الغربيون أن تُحكم روسيا بشخص مثل فلاديمير بوتين، ذي الخبرة الواسعة كضابط استخبارات في جهاز «كي جي بي» الذي كان الذراع الأمنية الضاربة للتحالف الاشتراكي آنذاك. فقد كان من نتائج ما طرحه آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، ما أسماه بيروسترويكا (إعادة الهيكلة) وغلاسنوست (الانفتاح). ونجم عن ذلك وصول بوريس يلتسين للرئاسة، واعتقد الغربيون أن النمط السياسي الجديد في روسيا سيكون على غرار ما يمثله يلتسين من توجهات قريبة من الغرب.
غير أن عهد بوتين كان مختلفا. فشيئا وشيئا أدركت القيادة الروسية المخاطر التي تحاصر بلدها، خصوصا بعد توسع حلف الناتو ليضم أغلب دول البلطيق بالإضافة لبولندا، بعد أن «استقلت» بعد تفكك الاتحاد الاشتراكي. وبشكل تدريجي وجد بوتين بلاده محاصرة بقوات حلف الناتو على أغلب حدودها الغربية. ويسعى لإثبات وجوده بمناورات عسكرية عديدة آخرها مع قوات روسيا البيضاء (بلاروسيا) وتارة بتوسعه الجغرافي على حدوده، كما فعل قبل بضعة أعوام عندما ضم شبه جزيرة القرم إلى نفوذه. يومها لم يرفع الغرب ساكنا برغم الضجة الإعلامية التي أثارها ضد موسكو. المناورات الأخيرة، برغم ضآلة عدد القوات المشاركة فيها من البلدين، كانت من بين دوافع أمريكا وحلفائها لافتراض وجود خطة روسية مبيّتة لاجتياح أوكرانيا عبر حدود روسيا البيضاء.
الرئيس الروسي بدأ تحركات على ثلاثة صعدان: أولهما التخطيط لمنع تمدد الناتو أكثر مما حدث، وذلك بالسعي للحفاظ على ما تبقى من أنظمة تميل للشيوعية في الجمهوريات المستقلة. ثانيها: انتهاج سياسة جديدة لتوسيع نفوذ روسيا ضمن الدوائر التي فقدتها روسيا بتفكك الاتحاد السوفياتي. ثالثها: توسيع نفوذ روسيا في مناطق أخرى، بعيدة عنها مثل الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية. رابعها: الاستمرار في السباق العسكري لضمان استمرار التوازن مع الغرب، وقد جرت محاولات عديدة لاحتواء السباق النووي خصوصا في مجال خفض ما لدى أمريكا وروسيا من رؤوس نووية.
مع ذلك لا يمكن التقليل من احتمالات النزاع العسكري الذي يعلم الطرفان أنه سيكون مدمرا لكل منهما بشكل مروّع. ولذلك هناك اعتقاد بأن الدبلوماسية ما تزال قائمة وقادرة على استيعاب التصعيد الحالي. وقد جاء لقاء وزير خارجية البلدين، أنتوني بلينكن وسيرجي لافروف في جنيف قبل يومين ليخفف من التوتر ولكنه لم يستطع إعادة الثقة الكاملة خصوصا مع إصرار الطرفين على مواقفهما. فروسيا التي وضعت أكثر من 120 ألفا من قواتها على حدود أوكرانيا الشرقية لتوفير دعم معنوي للمعارضين في ذلك البلاد، كانت تدرك أن أمريكا وحلفاءها لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام ما يعتبرونه «تهديدا أمنيا» لحكومة أوكرانيا التي تعتبرها روسيا مسمارا في خاصرتها بسبب دعم الغرب لها.
وقد جاءت أولى التحركات لمواجهة تلك التعبئة من الحكومة البريطانية التي أعلنت استعدادها لإرسال أكثر من ألف من قواتها بعنوان تدريب القوات الأوكرانية وتوفير دعم في مجال التجسس وجمع المعلومات وتشغيل الصواريخ المضادة للطائرات. مع ذلك لا يبدو الاتحاد الأوروبي مستعدا للتصعيد العسكري مع روسيا، الأمر الذي كان واضحا في السياسة الألمانية. وقبل لقائه بنظيره الروسي، قام بلينكن بزيارة سريعة لبرلين في محاولة أخيرة لاستكشاف موقفها النهائي. وتجدر الإشارة إلى أن من بين قضايا الاختلاف بينهما مشروع أنبوب غاز عملاق ما بين روسيا وألمانيا، الأمر الذي أحدث انقساما داخل التحالف الحكومي الألماني.
ما يهم روسيا أمور ثلاثة:
أولها أن يتوقف التمدد الغربي على حدودها، إذ تعتبر ذلك تهديدا لنفوذها وأمنها القومي. فبعد انتهاء الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفياتي انضمت ثلاث دول للناتو في 1999: بولندا، هنغاريا (المجر) وجمهورية التشيك. ثم انضم في 2004 سبع دول أخرى هي بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفي 2009 انضمت ألبانيا وكرواتيا. وآخر الدول التي انضمت للحلف في 2017 هي الجبل الأسود (مونتينغرو) ومقدونيا الشمالية.
ثانيها: أن يتوقف توسيع عضوية حلف الناتو الذي انضمت إليه دول عديدة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. وتسعى روسيا لمنع انضمام المزيد من الدول للحلف منها البونسة والهرسك، وجورجيا وأوكرانيا وأن تكون قادرة على تمديد نفوذها لبعض الدول المجاورة، وتعتبر ذلك ضرورة لضمان أمنها القومي، ثالثها: بموازاة ذلك أن يتعهد الغربيون بأمرين: ضمان أمن روسيا وعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. وفي المقابل، يتحدث الغربيون من منطق القوة أنه ليس من حق روسيا إملاء شروط تؤثر على حرية الدول في اختيار تحالفاتها، ومنها الانضمام إلى الناتو. الأمر المؤكد أن الطرفين يسعيان لاحتواء الموقف نظرا لما سيترتب على أي تصعيد عسكري من نتائج كارثية. فروسيا تعتبر المصدر الأكبر للغاز لدول الاتحاد الأوروبي، ولديها نفوذ في عدد من الدول خارج الفضاء الأوروبي.
السياسة الروسية تجاه الغرب خصوصا أمريكا تنطلق من اعتبارات شتى، منها حالة النوستالجيا التي تعيشها العناصر السياسية والاستخباراتية الروسية وحنينها للماضي الذي كان الاتحاد السوفياتي يمثل ذروته، وكذلك العلاقات المتنامية مع الصين. هذه العلاقات التي تطورت بشكل ملحوظ منذ توقيع اتفاق ترسيم الحدود بين البلدين في العام 2008. ويمكن الإشارة إلى مشروع «خط سيبيريا» الذي وقع الجانبان على إنشائه، عام 2014، وتبلغ قيمته 400 مليار دولار، لتصدير الغاز الروسي للصين، ويعتبر واحداً من أكبر مشاريع الطاقة في شرق آسيا، حيث يهدف لتوريد 38 مليار طن سنوياً من الغاز الروسي إلى الصين لمدة 30 عاماً، وفق إطار زمني متفق عليه بين الجانبين. وهناك مئات الآلاف من العمال الصينيين الذين يعملون في مشاريع البنية التحتية في روسيا. وأجرى البلدان سلسلة من المناورات العسكرية المشتركة منها المناورة الكبرى في العام 2016 التي تدربت فيها قوات روسية وصينية على عمليات استيلاء على جزر في بحر جنوب الصين. كما شهد العام 2018 مناورة «الشرق» وهي الأكبر في تاريخ روسيا. وفي العام 2019 أجرى الجانبان مناورة مشتركة فوق بحر الصين الشرقي وبحر اليابان. ويتعاون البلدان بشكل ملحوظ في مجلس الأمن، خاصة في مواجهة سياسة العقوبات الغربية، والرغبة في الحد من تأثير التفرد الأمريكي بقيادة العالم.
هذه الحقائق لها بعدان: إيجابي وسلبي، فالبعد الإيجابي أنها تؤكد مستوى متطورا من التوازن السياسي والعسكري بين الشرق والغرب، تراجع كثيرا بعد انتهاء الحرب الباردة. وهذا يعني أن كلا الطرفين يسعى لتجاوز نشوب أزمات عسكرية كبرى تفضي لنزاعات مسلحة قد يستخدم السلاح النووي فيها.
يضاف إلى ذلك أن هذا التوازن يساهم في تبلور تحالفات جديدة تساهم في تهميش النفوذ الأمريكي في العالم، ولعل توجه أمريكا للانعزال والتركيز على العمل الأحادي ينطلق من هذه القناعة. أما الجانب السلبي فيتمثل باحتمال بلوغ التوتر في العلاقات بين روسيا والغرب إلى مستوى اختراق الحدود الحمراء التي تحول دون نشوب النزاعات المسلحة. وفي غياب التوافق الغربي حول سياسة واضحة إزاء روسيا، يبقى الباب مفتوحا أمام كافة الاحتمالات بما فيها الصراع المدمر حول أوكرانيا وفي محيطها. فروسيا تعتبرها آخرالخطوط الأمامية في الصراع مع الغرب. وسيتضح قريبا ما إذا كان العالم قادرا على نزل فتيل النزاع المسلح ومنع تكرار ما جرى قبل أكثر من ثمانين عاما حينما كانت الظروف تتفاعل لتؤدي إلى حرب عالمية طاحنة أتت على الأخضر واليابس.
كاتب بحريني
القدس العربي
—————————–
أوكرانيا البعيدة جدا عن الحماية الإلهية.. والقريبة جدا من روسيا/ هشام ملحم
إعلان وزارة الخارجية يوم أمس (الأحد) عن سحبها لعائلات الديبلوماسيين العاملين في السفارة الأميركية في العاصمة الأوكرانية كييف، وكذلك سحب الموظفين غير الأساسيين بسبب الوضع الأمني المضطرب على الحدود الروسية-الأوكرانية “والذي يمكن أن يتدهور فجأة” هو آخر مؤشر بأن المفاوضات بين الولايات المتحدة وروسيا، بما في ذلك الاجتماع الأخير بين وزيري الخارجية أنطوني بلينكن وسيرغي لافروف، قد وصلت أو أشرفت على الوصول إلى طريق مسدود. هذه الإجراءات، إضافة إلى التطورات الميدانية بمن فيها وصول الحشود الروسية إلى أكثر من 125 إلف عسكري على الحدود الشرقية والشمالية والجنوبية لأوكرانيا تبين إن أصوات المدافع في المستقبل القريب، وفي غياب اختراق ديبلوماسي نوعي مفاجئ، قد تعلو وتطمس نهائيا الأصوات الديبلوماسية بادئة بذلك حربا ساخنة هي الأخطر في القارة الاوروبية منذ الحرب العالمية الثانية.
في الأيام الأخيرة شدد المسؤولون الأميركيون بمن فيهم الرئيس بايدن والوزير بلينكن في كل مناسبة على تحذير موسكو من أن لجوئها إلى القوة العسكرية، حتى ولو كان ذلك بشكل محدود للغاية، سوف يؤدي إلى استخدام سيف العقوبات المالية والاقتصادية والتقنية بشكل حاسم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، ما يعني معاملة روسيا كدولة مارقة مثلما عوملت من قبلها إيران وفنزويلا. هذه هي الصورة القاتمة التي ترسمها واشنطن لأي اجتياح روسي لأوكرانيا ولمضاعفاته. هذه التحذيرات والتهديدات بدأت “بتوضيحات” من البيت الأبيض فور انتهاء الرئيس بايدن من مؤتمره الصحفي الرسمي الثاني والطويل منذ انتخابه بعد أن تمادى بايدن في تكهناته وتحليلاته النظرية العلنية لنوايا الرئيس الروسي بوتين، مثل إشارته المتهورة إلى الفرق بين اجتياح روسي كبير لأوكرانيا يستدعي ردا شاملا لا لبس فيه من حلف الناتو، وبين غزو “طفيف” أو محدود يتسبب ببروز خلافات بين أعضاء الحلف حول طبيعة الرد العقابي. يوم الأحد، قال الوزير بلينكن، الذي شارك في مختلف البرامج الحوارية السياسية الرئيسية في شبكات التلفزيون، إن دخول جندي روسي واحد بشكل عدائي إلى أوكرانيا سوف يؤدي “إلى رد سريع وحازم وموحد من الولايات المتحدة وأوروبا”.
اجتهادات الرئيس بايدن السياسية خلال مؤتمره الصحفي، ومن بينها الإشارة إلى أن عضوية أوكرانيا في حلف الناتو ليست واردة حاليا لأن كييف لم تتقدم بما فيه الكفاية على المسار الديموقراطي أو بسبب وجود معارضة أوروبية لضمها (في إشارة ضمنية إلى معارضة ألمانيا وفرنسا) أدت الى ردود فعل سلبية وسريعة من قبل المسؤولين الأوكرانيين البارزين الذين رأوا فيها – بشكل مجحف – دعوة من بايدن لبوتين لغزو أوكرانيا، ومن بعض قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس الذين وصفوها – أيضا بشكل مجحف – بمحاولة “استرضاء” بوتين.
الخيارات العسكرية والأمنية والإلكترونية والتخريبية المتوفرة للرئيس بوتين لإضعاف وزعزعة أوكرانيا، أو لاحتلالها أو لتحويلها، كما يقول الكثير من منتقديه إلى “دولة فاشلة”، كثيرة ويمكنه استخدام بعضها لإلحاق الأذى بأوكرانيا، ومحاولة تفادي استفزاز الغرب بشكل سافر لتفادي سيف العقوبات، ولتعميق الهوة بين الولايات المتحدة وبعض أبرز أعضاء الناتو وتحديدا المانيا وفرنسا والتي لا تريد استخدام العقوبات القصوى ضد روسيا بسبب اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، ولأنها تريد تفادي الاضرار التي ستلحق باقتصاداتها جراء فرض عقوبات مالية مثل منع موسكو من استخدام النظام المالي العالمي، ما يمكن أن يلحق الأضرار بالمصارف الأوروبية التي تتعامل مع المصارف الروسية. حتى الان لم تلزم ألمانيا نفسها بوقف العمل بخط الانابيب نورد ستريم-2 الذي سينقل اليها الغاز الروسي، كما أن فرنسا دعت مؤخرا الاتحاد الاوروبي إلى الدخول في مفاوضات منفصلة مع روسيا، في مؤشر آخر بان الحديث العام والعلني عن عقوبات غربية موحدة ضد موسكو في حال اجتياحها للأراضي الأوكرانية لا يخفي حقيقة وجود “اجتهادات”، لا بل خلافات بين واشنطن وبعض العواصم الأوروبية حول طبيعة العقوبات التي ستفرض على روسيا إذا دعت الضرورة. وبينما تقوم بريطانيا – بعد انسحابها من الاتحاد الاوروبي – بتسليح أوكرانيا بصواريخ مضادة للدروع والمروحيات، أمتنعت المانيا عن تقديم أي دعم عسكري الى أوكرانيا، على الرغم من أن الدول الصغيرة التي انضمت إلى الناتو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مثل دول بحر البلطيق: ليثوانيا، وأستونيا ولاتفيا تقوم حاليا بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، بدعم من واشنطن.
حتى الآن أخفق الرئيس بوتين بتهديداته وحشوده العسكرية بالحصول على التنازلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والنوعية التي يصر عليها من أوكرانيا ودول حلف الناتو. ولكن بوتين نجح في إرغام الغرب على مناقشة مطالبه التعجيزية، في الوقت الذي لا تزال فيه الولايات المتحدة تعاني من انقساماتها واستقطاباتها الداخلية السياسية العميقة والتي تبدو لبوتين على الأقل أنها أضعفت الرئيس بايدن، وفي الوقت الذي تعاني فيه أوروبا من أزمة في مصادر الطاقة، وحتى أزمة قيادة بعد تقاعد المستشارة الالمانية القوية أنغيلا ميركل، والدعوات المتزايدة في لندن لاستقالة رئيس الوزراء بوريس جونسون، بمن في ذلك أصوات من داخل حزبه. كما ساهم تصلب الرئيس الروسي في إبراز الشروخ بين واشنطن وبعض حلفائها الأوروبيين. ويعتقد أن هذه الانقسامات والخلافات بين حلفاء الناتو وداخل دوله، تفسر توقيت بوتين في تصعيد التوتر العسكري على الحدود الأوكرانية وفي طرحه لمطالبه التعجيزية.
ومع بداية السنة الثانية للرئيس بايدن في البيت الابيض، يمكن القول إن بوتين قد نجح حتى الان في إرغام الرئيس الأميركي على مواجهة تهديدات ومطالب دولة لا يرقى اقتصادها إلى مستوى معظم الدول الاوروبية، بدلا من التركيز، كما يريد على ما تعتبره واشنطن التحدي التاريخي الاقتصادي والاستراتيجي والسياسي الذي تمثله الصين، التي تمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم ضد مصالح الولايات المتحدة ليس فقط في شرق آسيا، بل في العالم كله. الرئيس الروسي الذي يصر على استخدام أدوات الابتزاز والتهديد التي كانت سائدة بين الدول الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين، وأدت إلى حربين عالميتين في أقل من نصف قرن، أرغم الغرب في الأشهر الأخيرة على التفاوض معه وعرّض الأمن الاوروبي، ومصالح الولايات المتحدة ومكانتها لأخطر أزمة منذ عقود.
المفارقة هي أن قيام روسيا بغزو “تقليدي” لأوكرانيا لتحقيق أهداف مثل إقامة جسر بري يربط روسيا بشبه جزيرة القرم، أو ضم الأراضي الأوكرانية في الشرق التي توجد فيها حركات انفصالية تسلحها موسكو، قد ينقذ وحدة حلف الناتو ويرغم اعضائه على فرض عقوبات موجعة ضد روسيا. ولكن إذا قرر بوتين تعطيل نشاط مؤسسات الدولة الاوكرانية من خلال هجمات سيبرانية (الكترونية)، أو التسبب بمحاولة انقلابية، كما كشفت الاستخبارات البريطانية قبل أيام أو خلق اضطرابات اجتماعية داخلية، أو إذا طلب من الانفصاليين في شرق أوكرانيا اعلان استقلالهم ثم الاعتراف بهذا الاستقلال كما فعل في أعقاب الحرب التي شنها ضد جورجيا في 2008 واعترافه “باستقلال” مقاطعتي أبخازيا وجنوب أوسيتيا. (إضافة الى اعتراف دول منبوذة ومدينة لروسيا مثل سوريا وفنزويلا).
مثل هذا التصعيد المدروس قد يضع بعض دول الناتو الأوروبية المترددة أصلا في مواجهة روسيا، أو التي تعتمد على امدادات الغاز والنفط الروسية، كما هو حال المانيا، في وضع صعب ويرغم بعض حكوماتها على الرضوخ لضغوط داخلية متوقعة لتفادي أزمات اقتصادية ومالية مؤلمة، ما يؤدي إلى جبهة غربية غير متماسكة في وجه روسيا التي ستجد دعما قويا من الصين وغيرها من الدول الأوتوقراطية أو بعض الدول الهامة التي تنحسر فيها الممارسات الديموقراطية مثل الهند والبرازيل وغيرها والتي ترى أن الدول الغربية بمن فيها الولايات المتحدة لم تعد قوية ومتماسكة كما كانت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي.
لا أحد يعلم بأي درجة من اليقين ما الذي سيفعله فلاديمير بوتين في الأيام والأسابيع المقبلة. ولكن ما يمكن قوله بكثير من الثقة هو أن بوتين خلال الأشهر الأخيرة علّق سيفا حادا فوق الأمن الأوروبي، وأعاد القارة الاوروبية إلى حقبة داكنة كانت الدبابات والطائرات الحربية تعبر حدودها البرية والجوية في جميع الاتجاهات وتحصد معها عشرات الملايين من العسكريين والمدنيين في حقول القتل الشاسعة في القارة بمن فيها حقول القمح الأوكرانية التي كانت تبدو وكأنه لانهاية لها ولا حدود لعطائها قبل أن يشّن ستالين حربه لتجويع أوكرانيا وفلاحيها في ثلاثينات القرن الماضي ويقتل أكثر من 3 ملايين منهم، أي قبل عقد واحد من زيارة دبابات هتلر وجحافله النازية حقول أوكرانيا لتحرقها من جديد في طريقها الى موسكو. ينطبق على أوكرانيا الوصف الذي يطلق على كل دولة صغيرة تعيش في ظل دولة عدوانية أقوى: كم هي مسكينة أوكرانيا لأنها بعيدة جدا عن الحماية الإلهية، وقريبة جدا من روسيا.
————————
قاعدة «حميميم» في عقيدة بوتين العسكرية/ أنطون مارداسوف
بعد ضم شبه جزيرة القرم، والحملة العسكرية في سوريا، وتوسيع شبكة «فاغنر» في أفريقيا، جرى تكوين رأي حول ضعف القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الروسية. وبات يُنظر إلى مغامرات الكرملين في صراعات الموازنة المنخفضة نسبياً على أنها مورد لا غنى عنه لإضفاء الشرعية على سلطة فلاديمير بوتين.
لكن منطق وسائل الإعلام هذا، حيث تستخدم مصطلحات «عقيدة جيراسيموف» أو «الحروب المختلطة» على نطاق واسع، خاطئ شأن المصطلحات نفسها. فهذه العقيدة لا وجود لها، وكل الحروب في تاريخ العالم كانت دائماً مختلطة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن خط الكرملين قد تغير بالفعل، ولا سيما منهجه تجاه الاحتواء الاستراتيجي السياسي والعسكري. من ناحية، كان هذا بسبب تحول النظرة العالمية للرئيس بوتين نفسه، الذي بدأ ينظر إلى نفسه عقب نشوة القرم كشخصية تاريخية قادرة على تنفيذ مهام جيوسياسية ناجحة. ومن ناحية أخرى، تأثر ذلك بالإجراءات العسكرية والسياسية لمكافحة الأزمة التي اتخذتها موسكو لاحتواء عواقب نشاطها في شبه جزيرة القرم ودونباس.
في نهاية عام 2014، جرى إدخال مصطلح «الردع غير النووي» الغامض، وبالتالي الملائم في العقيدة العسكرية الرسمية الروسية المحدثة. وعلى الرغم من أن العسكريين والدبلوماسيين الروس يفسرونها الآن لصالحهم، فإن هذا كان بمثابة تغيير مهم في الوثيقة المفاهيمية. وللمرة الأولى، أعلنت القيادة العسكرية الروسية أنها ستسعى إلى حرمان العدو من ميزة من خلال عدم الاعتماد على الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية.
العنصر الأساسي للردع التقليدي هو الأسلحة عالية الدقة، بما في ذلك مجموعة واسعة من الصواريخ، والتي صقلها الجيش بعد ذلك بناءً على التجربة في سوريا. لكن ليس هذا فقط. ففي عام 2019، أوضحت وزارة الدفاع الروسية للمرة الأولى أنها تفضل استراتيجية دفاعية نشطة تتضمن أيضاً أساليب غير عسكرية للفوز بالمبادرة الاستراتيجية. وتم الاعتراف رسمياً بأن «العملية الإنسانية» هي شكل جديد من أشكال الاستخدام العسكري التي تجمع بين الإجراءات لسحب المدنيين في الوقت نفسه من منطقة القتال وقمع المقاومة. وعلى الرغم من عدم تحدث أحد رسمياً عن الشركات العسكرية الخاصة، فقد كان واضحاً لجميع الخبراء أن المرتزقة هم أيضاً عنصر مهم في فهم موسكو لأساليب الحرب غير المتكافئة.
من الواضح أن الكرملين، ومن دون أي وثائق تنظيمية، كان من الممكن أن يتدخل في الحرب الأهلية في سوريا ويشترك في أعمال شغب بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، ساعياً إلى نوع من الضمانات من حلف شمال الأطلسي (الناتو). الأهم من أي شيء، لم تمنع النسخة السابقة من العقيدة العسكرية، موسكو من ضم شبه جزيرة القرم، لكن العقيدة العسكرية وعدد من الوثائق الأخرى هي نتيجة الإدراك الذاتي للنخبة الحاكمة للمصالح الوطنية القائمة بشكل موضوعي.
نصّت العقيدة بوضوح على أن الهدف في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي هو الحوار على قدم المساواة. وهذا بالضبط ما سعى إليه الكرملين بالتدخل في حربي سوريا وليبيا للتغلب على عزلة العقوبات. وهذا ما يفعله الآن بالقرب من حدود بولندا وأوكرانيا وبإصرار مجنون لفرض رؤيته لهيكلية أمنية أوروبية على «الناتو». فالنجاحات السابقة في الجمع بين الحربين في سوريا ودونباس تلهم موسكو لاتخاذ خطوات جديدة لإصدار الإنذارات ليس فقط لخصومها التقليديين، بل أيضاً لشركائها مثل بيلاروسيا وكازاخستان.
هل هناك علاقة للكرملين بين الملفين السوري والأوكراني؟ هناك آراء بأن الطيران الروسي يزيد من حدة الضربات على إدلب، اعتماداً على درجة تورط تركيا في الملف الأوكراني. وثمة سابقة لتوحيد مسارح عدة للعمليات العسكرية إبان حرب قره باغ عندما قصف الجانب الروسي بمصادفة غريبة مجموعات معارضة في سوريا ضالعة في الصراع في جنوب القوقاز. وعلى الرغم من ذلك، هناك حجج ضد هذا الطرح. فالقيادة الروسية في سوريا تعمل وفقاً لمنطقها الخاص، ولا يحتاج الكرملين إلى التوصل إلى مجموعات وإرسال إشارات لا لبس فيها إلى أنقرة، التي زوّدت كييف بالفعل بطائرات من دون طيار.
شيء آخر هو أنه فيما يخص التخطيط العسكري، فإن القرم وسوريا مرتبطان لوجيستياً، لكن الشيء الرئيسي هو أن القواعد الروسية في طرطوس وحميميم هي عنصر أساسي في الدفاع عن شبه الجزيرة والحدود الغربية للبلاد. ويقلل الاستخدام النشط لهذه المرافق من منطقة تمركز الأسطول السادس للولايات المتحدة لضربة افتراضية من شرق البحر الأبيض المتوسط. بالنظر إلى فهم موسكو لمهام الدفاع النشط، فإن الكرملين يعمل بشكل منهجي على إنشاء مركز متقدم في حميميم لنقل الأفراد العسكريين والمرتزقة إلى أفريقيا وفنزويلا، وتثبيت قاذفات قنابل نووية من طراز «Tu – 22M3» ومقاتلات «MiG – 31K» بدقة عالية وصواريخ بعيدة المدى.
فتح إنهاء معاهدة القوات النووية متوسطة المدى الباب لروسيا لنشر أنظمة أرضية عالية الدقة في سوريا بسرعة إلى حد ما إذا تم تكييف صواريخ كروز طويلة المدى المضادة للسفن مع الأنظمة الأرضية. ويواصل الجيش الروسي أيضاً تحويل منشأة طرطوس إلى قاعدة كاملة. وبقدر ما هو معروف، وفي أوقات مختلفة، قامت وزارة الدفاع بنشر «حيوانات قتالية » في مياه طرطوس لإجراء تدريبات لمكافحة التخريب. في السابق، وبسبب التكلفة العالية، كانت الولايات المتحدة هي الوحيدة التي كانت قادرة على إحضار الدلافين القتالية إلى البحر الأسود لإجراء التدريبات.
وبالتالي، فإن التوسع المتعمد للتأثير الروسي مقترناً بأساليب الحرب غير التقليدية تم تحديده في الوثيقة المفاهيمية، والتي تستبعد بحد ذاتها التدخل الفوضوي لتحقيق ميزة تكتيكية. ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن يبالغ في تقدير البصيرة الاستراتيجية للكرملين وأفق التخطيط العسكري الروسي. على سبيل المثال، أصبحت موسكو نفسها رهينة للأنشطة الموسعة لمجموعة «فاغنر »؛ لأنها غير قادرة على السعي للحصول على ضمانات دون تدخل القوة «الدبلوماسية الموازية».
في الواقع، فإن توقف بناء القاعدة في السودان وعدم اليقين بشأن مستقبلها يرجع إلى حقيقة أن المفاوضات حول المنشأة العسكرية الرسمية كان يقودها في البداية أشخاص مرتبطون بـ«مجموعة فاغنر». بالإضافة إلى ذلك، تحتاج الخرطوم إلى الاستثمار، وليس العسكرة المثيرة للجدل؛ مما يعني خلق تهديدات إضافية للولايات المتحدة وحلفائها العرب.
وضع مشابه يميز ليبيا، حيث إن التسوية السياسية تعادل فعلياً المرتزقة السودانيين والروس، الذين يتعين عليهم مغادرة البلاد. وعلى الأرجح، تود وزارة الدفاع أن يكون لديها منشآت هنا؛ إذ ستسمح لها، جنباً إلى جنب مع التواجد في حميميم، ببسط قوتها في منطقة قناة السويس. لكن لإضفاء الطابع المؤسسي على وجودها العسكري، ستحتاج موسكو على الأقل إلى الدخول في اتفاقيات رسمية أحادية الجانب مع السلطات في شرق ليبيا حتى يتمكن الجيش من العمل رسمياً مع مدربين مدنيين.
بشكل عام، يحاول الكرملين الاستفادة القصوى من رأس الجسر الذي تم إنشاؤه في سوريا لتوسيع نطاق العمليات وإزعاج «الناتو ». لدى المرء انطباع بأن موسكو قد استسلمت بالفعل لحقيقة أنه بسبب إصرار النظام السوري، فإنه لا يمكنه تقليد الإصلاحات السياسية وجذب المستثمرين لإعادة إعمار سوريا؛ لذلك يعتقد الكرملين أن فوائد الوجود العسكري لا تزال قائمة وتتخطى كل الخسائر التي تلحق بالسمعة
– خبير روسي غير مقيم في مجلس الشؤون الدولية الروسي
الشرق الأوسط
———————————
ايران وروسيا.. تحالف السلب/ حسن فحص
بالتزامن مع وصول الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي الى العاصمة الروسية موسكو مستهلا زيارة تهدف الى تعزيز التعاون الاقتصادي والامني والاستراتيجي بين البلدين، دخلت البوارج والقطع البحرية للاسطولين الحربيين الروسي والصيني مياه المحيط الهندي وبحر عمان لتنضم الى القطع الحربية الايرانية وتطلق المناورة البحرية الثالثة على ابواب الخليج تحت عنوان “حزام الامن البحري”. والتزامن انسحب ايضا على انتهاء الزيارة والمناورة، في محاولة لايصال رسالة الى الاطراف الاخرى بتضافر التعاون الامني والعسكري مع الجهود السياسية والاقتصادية بين الدول الثلاث في المرحلة المقبلة لفرض معادلات جديدة في منطقة غرب آسيا وعلى الساحة الدولية.
لا شك ان زيارة رئيسي الى موسكو والقمة التي عقدها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، شكلت محور اهتمام جميع الاوساط الدولية والاقليمية، لما توحي به من امكانية تشكيل محور جديد على الساحة الدولية في مواجهة الادارة الامريكية وحلف الناتو. يمتد من اوكرانيا مرورا بدول اسيا الوسطى والقوقاز، ومنطقة الشرق الاوسط وصولا الى تايوان اذا ما اضيف له الصين والاتفاقية الاقتصادية الاستراتيجية التي وضعت حيز التنفيذ مع ايران.
النظرة الاولى لهذا المحور المتشكل او الاخذ بالتبلور، يوحي بان المشترك الابرز بين اقطابه، او عامل القوة فيه، تقاسمهم النفوذ في منطقة تعتبر في المنطق الجيوسياسي والجيواقتصادي “قلب العالم” بما تختزنه من ثروات طبيعية وقوة بشرية وعسكرية واقتصادية ناهضة، واحتضانها للممرات البرية والبحرية التي تربط العمق الاوروبي بالمياه الدافئة في الخليج والبحر الابيض الاوسط بكل ما فيها من ازمات وصراعات وتقاسم نفوذ.
الزيارة الايرانية الى روسيا، تشكل في توقيتها حاجة لطهران، لانها جاءت في لحظة مفصلية في تاريخ ازمة ملفها النووي والمفاوضات التي تخوضها مع السداسية الدولية وتحديدا الولايات المتحدة الامريكية. وهي مفاوضات تعتبر مصيرية في حال فشلها او نجاحها، لجهة تحديد مصير المعركة الاقتصادية التي يخوضها النظام الايراني في مواجهة سياسة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الادارة الامريكية، والتي تحولت الى تهديد وجودي بعد عام 2018 والاجراءات التي لجأ اليها الرئيس السابق دونالد ترمب، وخطر تفكيك وتفتيت النظام والدولة من الداخل والاطاحة بهما.
طهران، من خلال الحراك الذي قامت به مؤخرا باتجاه الصين وتفعيل التفاهم الاقتصادي الاستراتيجي لمدة 25 سنة وحجمه البالغ نحو 450 مليار دولار. وباتجاه موسكو لتمديد الاتفاق الامني الاقتصادي لمدة 20 سنة مع طموح برفع مستوى صادراتها لروسيا الى 10 مليار دولار.. انما هي خطوة تأتي بالتزامن مع وصول مفاوضات فيينا لاعادة احياء الاتفاق النووي الى مرحلة دقيقة، استطاعت واشنطن ان ترمي الكرة في الملعب الايراني من بوابة الضغط بالسقوف الزمنية مع دخول المفاوضات ونتائجها مرحلة “تدوين النصوص النهائية” لما تصفه باتفاق جديد مغاير لاتفاق عام 2015.
تحاول طهران استخدام انفتاحها نحو الشرق كورقة ضغط على الدول الغربية، خاصة واشنطن والترويكا الاوروبية، والتلويح بامكانية ان تذهب الاستثمارات التي من المفترض ان تنطلق عجلتها ما بعد الانتهاء من الاتفاق النووي لصالح كل من روسيا والصين، خاصة وان المفاوض الامريكي لوح بامكانية ان تكون استثمارات الشركات الامريكية بديلا عن الضمانات لعدم الانسحاب والعودة الى سياسة العقوبات من اي ادارة قد تأتي الى البيت الابيض، التي تطالب بها طهران .
في المقابل، وبالمستوى نفسه لحاجة ايران للعمق الاسيوي والشرقي، فان الحاجة الروسية لايران لا تقل اهمية، خاصة وان مساحات التداخل بينهما متعددة، سواء في الازمة الافغانية والتعامل مع تداعيات الانسحاب الامريكي، مرورا بالازمة الكزاخستانية ومدى التأثير السلبي على دور اسيا الوسطى والحديقة الخلفية لروسيا او كما تسميها طهران “دول الاقمار الروسية”، وصولا الى الازمة السورية وما قد تفرضه تسوية الانتقال الى الحل السياسي لها وكيفية معالجة الوجود العسكري والامني لايران وحلفائها.
ولعل الحاجة الروسية الابرز من التقارب واحتضان ايران، تتزايد مع ارتفاع حدة الصراع بين موسكو وواشنطن ومعها حلف الناتو والدول الاوروبية حول الازمة الاوكرانية، وقد تمظهر ذلك من خلال حدة الشكوك الايرانية الداخلية وتحذير الفريق المفاوض من الوقوع في فخ استغلال المندوب الروسي في السداسية الدولية لتوظيف دور الوسيط الذي يقوم به مع الفريق الامريكي المفاوض لفرض تنازلات على ايران لتحسين شروطه التفاوضية مع الجانب الامريكي حول الازمة الاوكرانية. خاصة وان الجانب الروسي لعب دورا في احراج النظام الايراني بوضعه امام خيار “الاتفاق المؤقت” ودفعه للقبول بالعودة الى تنفيذ التزاماته النووية مقابل تعليق بعض العقوبات، وهي صيغة تضرب الاستراتيحية التفاوضية لطهران التي تضغط من اجل الغاء جميع العقوبات التي جاءت في اتفاق 2015 وتلك التي اضافها الرئيسان السابق دونالد ترمب والحالي جو بايدن ما بعد عام 2018.
زيارة رئيسي، والتعامل الروسي الروتيني واعتماد الحد الادنى من البروتوكول في استقباله في الكرملين من قبل نظيره بوتين،، جاء على العكس من كل التوقعات والداعية التي سبقت هذه الزيارة في اوساط قوى النظام والتيار المحافظ الذي حاول وضعها في خانة “النجاح” السياسي والاستراتيجي للحكومة الجديدة وجهودها في مواجهة الضغوط الامريكية السياسية والاقتصادية. وقد ساهم ذلك في اعادة احياء الذاكرة الايرانية السلبية من الدور الروسي التاريخي مع ايران منذ الحكم القيصري مرورا بالنظام السوفياتي وصولا الى محاولات تجريد ايران من انجازاتها النووية من خلال الطرح الذي قدمه الدبلوماسي الروسي ميخائيل اوليانوف بنقل مخزون اليورانيوم واجهزة الطرد المتطورة الى روسيا. واعاد احياء مقولة الشاعر والسياسي الروسي من القرن التاسع عشر فيودور تبوتشيف الذي قال “لا يمكن فهم روسيا بالمنطق والاستدلال، ولا يمكن قياسها بالمعايير العامة، بل يجب الاحساس بها ولمسها”، ما جعل روسيا بالنسبة للاوساط السياسية الايرانية مشابهة للعبة “ماتريوشكا” او “الجدة” التي تصنع من الخشب والتي تبدأ بحجم كبير ثم تخرج منها نسخة اخرى بحجم اصغر ثم اصغر ثم اصغر، فهل ستكون الباطنية الايرانية الممزوجة ببراغماتية عالية قادرة على التعامل مع الاوجه المتداخلة للصديق الروسي؟.
المدن
———————–
الغرب وروسيا… عودة الصراع الإيديولوجي/ سميح صعب *
تتصاعد حدة التحذيرات المتبادلة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي حول أوكرانيا. وتجدد التوتر عقب أنباء غربية عن حشد روسيا مجدداً قواتها على الحدود الأوكرانية في وضع هجومي.
وفي الوقت الذي كان وزراء الخارجية لدول حلف الأطلسي مجتمعين في ريغا، كرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحذيره للغرب: أوكرانيا خط أحمر. ومن الجهة المقابلة، كانت التحذيرات الغربية تتوالى وتتمحور كلها حول تحذير روسيا من “دفع ثمن” أي محاولة لغزو أوكرانيا. ووزير الخارجية الأميركي أكد أنه ستكون هناك “عواقب وخيمة” لأي توغل روسي في الأراضي الأوكرانية.
دول حلف شمال الأطلسي تتصرف وكأن الغزو الروسي حاصل لا محالة، ولذلك تصعد من إطلاق التحذيرات، أملاً في ألّا تتكرر تجربة ضم القرم في 2014. وفي الوقت نفسه، يرسل بوتين إشارات إلى أن موسكو تخشى أن تسفر زيادة المساعدات العسكرية لكييف، إلى استسهال الرئيس “فولوديمير زيلينسكي” خوض مغامرة ضد الانفصاليين، الذين يحظون بدعم الكرملين في منطقة دونباس شرق البلاد.
ارتفاع لهجة التهديدات تترافق مع حديث عن احتمال عقد قمة افتراضية بين الرئيس الأميركي جو بايدن وبوتين قبل نهاية السنة. وطبعاً، سيكون الموضوع الأوكراني على رأس جدول الإعمال. ولعل من المفيد التذكير أن قمة جنيف بين الزعيمين في 16 حزيران (يونيو)، كان لها الأثر البالغ في تنفيس التوترات التي سادت في الربيع عقب الحديث عن حشد روسيا نحو 150 الف جندي على الحدود مع أوكرانيا.
لكن التوتر اليوم أكثر جدية وخطورة، إذا ما أخذنا في الاعتبار المناورات العسكرية المتواصلة لدول حلف الأطلسي على حدود روسيا من جهة البحر الأسود أو من جهة جمهوريات البلطيق وبولندا. وقد اختار وزراء الخارجية للحلف الاجتماع في ريغا، كي يبعثوا بإشارة لا لبس فيها بأن الحلف يساند دول الخط الأمامي مع روسيا.
وكان الدعم الذي تلقته بولندا من حلف شمال الأطلسي خلال أزمة اللاجئين مع بيلاروسيا، عاملاً أساسياً في إحباط عملية الدفع بالمهاجرين من الشرق الأوسط وأفغانستان في اتجاه الاتحاد الأوروبي. ووقف الحلف والاتحاد مع وارسو في صد “الهجوم الهجين”، وفق المصطلح الذي بات يشير إلى أن الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشنكو”، وبتواطؤ روسي، كان يريد الانتقام من العقوبات الأوروبية التي تستهدف مينسك، بسبب قمع النظام حركة الاحتجاج على الانتخابات الرئاسية عام 2020، والتي تقول المعارضة “سفيتلانا تيخونوفسكايا” أنها هي الفائزة فيها.
وإذا كانت هذه هي العناوين الظاهرة للخلاف الروسي-الغربي، فإن ما خفي قد يكون أعظم، لأنه يشير إلى اندلاع صراع إيديولوجي جديد بين الجانبين. وما القمة التي يعتزم بايدن عقدها افتراضياً بعد أيام مع “الدول الديموقراطية” في العالم، سوى تقسيم إيديولوجي للعالم، بين أنظمة ديموقراطية وأنظمة استبدادية. وطالما دعا بايدن إلى تحالف بين “الدول الديموقراطية” في مواجهة “الأنظمة الاستبدادية”. وبحسب التصنيف الأميركي، فإن روسيا والصين هما على رأس الفئة الثانية، وتالياً فهما ليستا مدعوتين إلى القمة الافتراضية والتي ستليها قمة حضورية العام المقبل.
الجدل الدائر في أوروبا أو ذاك الدائر في المحيط الهادئ، هما من تجليات الصراع الإيديولوجي الجديد، الذي يريد الغرب منه تأكيد استمرار تفوقه اقتصادياً وعسكرياً.
* كاتب صحافي لبناني
النهار العربي
—————————
روسيا تستعد للسيطرة الكاملة..على مطار دمشق/ مصطفى محمد
يبدو أن حالة التعثر التي تواجهها المساعي الروسية في سبيل التماهي مع المطالب الإقليمية والدولية المتعلقة بإيران ونفوذها في سوريا، قد دفعتها إلى انتهاج مسار جديد، لا سيما وأن كل خطواتها السابقة في هذا الإطار لم تنجح في إقناع أي طرف، في ظل ما يجري في الجنوب السوري من تغلغل لمليشيات إيران.
فبعد الخطوة غير المسبوقة التي أقدمت عليها روسيا في مرفأ اللاذقية، قبل أيام، عندما تم الحديث عن فرض دوريات روسية سيطرتها بشكل كامل على المرفأ بعد الغارات الإسرائيلية التي استهدفته، أبلغت مصادر “المدن” عن تحرك روسي مشابه بدأ يُسجل في مطار دمشق الدولي، من دون أن تكشف عن طبيعة وتوقيت التحرك الروسي، واكتفت بالتأكيد على أن “روسيا عازمة على وضع يدها على كل المنافذ البحرية والجوية السورية”.
وحسب المصادر، زادت روسيا من حجم الاهتمام بمطار دمشق الذي تخضع أجزاء منه إلى السيطرة الإيرانية، وتحديداً بعد تعاظم النفوذ الإيراني فيه، وقيام ميليشيات إيرانية بالتحضير لعمليات إعادة ترميم أحد مدارجه، الذي كان قد خرج عن الخدمة إثر هجوم إسرائيلي في منتصف كانون الأول/ديسمبر 2021.
وقبل مدة وجيزة، كشفت شبكات محلية عن انتهاء الميليشيات المدعومة من إيران من التحضيرات للبدء بترميم مدرج للطيران في مطار دمشق الدولي، وأكد موقع “صوت العاصمة” أن استئناف عملية إعادة تأهيل المدرج الذي خرج عن الخدمة من جراء استهدافه بغارات إسرائيلية سابقاً، قد بدأت.
وتسيطر إيران على مستودعات ضخمة داخل مطار دمشق الدولي، تستخدمها لإمداد الميلشيات المدعومة منها بالسلاح، وكذلك توليه أهمية بالغة، بحيث يؤمن المطار عمليات انتقال قاداتها وعناصر الميليشيات المدعومة منها من وإلى سوريا.
ويرى الخبير العسكري والاستراتيجي العميد أحمد حمادة أن المساعي الروسي الهادفة إلى تحجيم دور إيران في سوريا، محكوم عليها بالفشل، نظراً لقوة إيران وحجم نفوذها في كل المفاصل السورية.
ويضيف ل”المدن”، أن إيران لن تتنازل بسهولة عن وجودها في الموانئ والمطارات، لأنها الشريان الذي تغذي من خلاله مشروعها في المنطقة.
والأهم من ذلك، أن روسيا لا زالت غير جادة في الحد من نفوذ إيران في سوريا، لأنها تستفيد من الورقة الإيرانية في التفاوض حول الملف السوري، والحديث لحمادة الذي يضيف أن “روسيا تحاول إيهام العالم بأنها تقلص النفوذ الإيراني في سوريا، لكن في الحقيقة هناك تحالف واضح بين موسكو وطهران، وهذا ما لمسناه في البوكمال وتدمر، حيث تبدو القوات الروسية والإيرانية المنتشرة في تلك المناطق في توافق تام”.
ويشير حمادة في هذا الجانب، إلى التصريحات الصادرة عن الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال زيارته قبل أيام لموسكو، والتي أشاد فيها بالتعاون الروسي الإيراني في سوريا.
لكن الكاتب والمحلل السياسي درويش خليفة يشير في حديث ل”المدن”، إلى ما يبدو فشلاً في مهمة رئيسي بموسكو، ويقول: “من الواضح أن زيارة رئيسي لم تكلل بالنجاح ولا سيما في الملف السوري، حيث الاختلاف بينهما في طريقة التعاطي مع النظام وألية التعامل معه”.
ويقول خليفة: “إن صحت الأنباء عن توجه روسي نحو مطار دمشق، تكون موسكو قد سيطرت على أهم منفذ سوري، بعد نجاحها في السيطرة على مرفأي طرطوس، واللاذقية”.
ويضيف أن أهمية مطار دمشق، تكمن من كونه الوحيد في العاصمة السورية، ولأنه دائرة أمنية لا تقل أهمية عن أي فرع أمني آخر، حيث تصب كل معلومات السوريين الأمنية عند أمنه.
———————————–
الكل يستعد للحرب.. قصة الأزمة الأوكرانية من الألف إلى الياء، هذا ما يريده بوتين وبايدن والناتو
عربي بوست
أمرت الولايات المتحدة بمغادرة أفراد عائلات موظفي سفارتها في أوكرانيا، في مؤشر خطير على اندلاع الحرب، فهل تريد روسيا فعلاً الغزو أم أن بوتين لديه خطط أخرى ومن يدعمه من الأوكرانيين وهل تستطيع الميليشيات إنقاذ كييف؟
الساعات الأربع والعشرين الأخيرة شهدت تطورات متلاحقة تشير إلى أن طبول الحرب باتت تصم الآذان، إذ سمحت وزارة الخارجية الأمريكية مساء الأحد 23 يناير/كانون الثاني بالمغادرة الطوعية لموظفي الحكومة الأمريكية في كييف، وقالت إن على الأمريكيين (المتواجدين في أوكرانيا) التفكير في المغادرة على الفور.
وقالت السفارة الأمريكية: “تشاورنا مع الحكومة الأوكرانية بشأن هذه الخطوة ونقوم بالتنسيق مع سفارات الحلفاء والشركاء في كييف مع تحديد مواقفهم”، بحسب رويترز.
وتزامنت تلك التطورات مع إعلان الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ عن وضع الدول الأعضاء في الحلف قواتها في حالة تأهب وتعزز انتشارها في شرق أوروبا بمزيد من السفن والمقاتلات في رد فعل على تنامي الحشد العسكري الروسي على الحدود الأوكرانية.
وقال ستولتنبرغ في بيان: “أرحب بمساهمة الحلفاء بقوات إضافية تحت لواء حلف شمال الأطلسي. وسيواصل الحلف اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لحماية جميع الحلفاء والدفاع عنهم، بما يشمل تعزيز الجناح الشرقي من الحلف”.
وتوحي هذه التطورات بأن الحرب على وشك أن تبدأ، ويرصد هذا التقرير أبرز أسئلة الأزمة الروسية-الأوكرانية وإجاباتها.
ما الذي فجَّر الأزمة في أوكرانيا من الأساس؟
كانت أوكرانيا عضواً مؤسساً مع روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي). وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
وفي عام 2004، اندلعت ثورة البرتقال في أوكرانيا، وأطاحت بالرئيس يانكوفيتش لصالح يوشتشنكو (الأول أقرب لروسيا والثاني أقرب إلى الغرب). وبدأت مرحلة جديدة من التقارب في العلاقات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
لكن انتخابات 2010 أعادت يانكوفيتش إلى رئاسة أوكرانيا، وبدأ يتخذ إجراءات لوقف التعاون مع الاتحاد الأوروبي، في ظل وجود انقسام واضح داخل أوكرانيا بشأن مستقبل البلاد بين فريقين، الأول يميل إلى الغرب ويريد الانضمام لحلف الناتو وقاعدته الرئيسية في الأقاليم الغربية من البلاد، والثاني يريد التقارب مع روسيا والانضمام لها رسمياً وقاعدته في الأقاليم الشرقية التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية كلغة أولى.
دبابة روسيا بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، سبوتنيك
ومطلع عام 2014 اندلعت ثورة ضد الرئيس يانكوفيتش، على غرار ثورة البرتقال التي كانت أيضاً داعمة للتقارب مع الغرب، لكن الرئيس وقوات الأمن الأوكرانية استخدمت العنف- عكس ما حدث في ثورة البرتقال- فسقط نحو 100 قتيل برصاص قناصة تابعين للأمن الأوكراني، وفي النهاية هرب يانكوفيتش من العاصمة كييف واتجه نحو الشرق.
وتولى زعماء المعارضة الحكم خلفاً ليانكوفيتش وأصدروا أوامر باعتقاله ومحاكمته بتهمة قتل المتظاهرين، لكن موسكو اعتبرت السلطة الجديدة في كييف “تمرداً مسلحاً” واستدعت سفيرها للتشاور. في المقابل، وجدت السلطة الجديدة في كييف دعماً متواصلاً من أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
وأعلنت الأقاليم الشرقية في أوكرانيا عدم اعترافها بالحكومة المركزية في كييف، ومن تلك الأقاليم شبه جزيرة القرم ودونباس وغيرهما. واشتد القتال في تلك الأقاليم بين القوات الحكومية الأوكرانية من جهة والقوات الانفصالية من جهة أخرى. وأعلنت حكومة إقليم القرم الانفصال عن أوكرانيا وإعلان جمهورية القرم المستقلة.
ووجّه حاكم القرم رسالة رسمية إلى روسيا طالباً الانضمام إلى موسكو، ودخلت القوات الروسية إلى الإقليم وأعلنت ضمه رسمياً إليها في 2014، مما أدى إلى فرض عقوبات على موسكو من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا، لكن ذلك لم يوقف الدعم الروسي للانفصاليين في الأقاليم الشرقية الأخرى، وهكذا تم التوصل إلى اتفاقيات مينسك.
ماذا يريد بوتين الآن؟
يقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يريد ضمانات قانونية مكتوبة تقدمها الولايات المتحدة بأن أوكرانيا لن تنضم أبداً إلى حلف الناتو، إضافة إلى سحب الحزب العسكري الغربي لأسلحته الهجومية من دول شرق أوروبا كبولندا والمجر (دول كانت أعضاء في حلف وارسو سابقاً)، على اعتبار أن وجود تلك الأسلحة يمثل تهديداً لروسيا لا يمكنها قبوله.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
وينطلق موقف بوتين من حقيقة تقديم الأمريكيين وعداً قبل أكثر من ثلاثين عاماً بأن حلف الناتو لن يتمدد في شرق أوروبا، وهو ما لم يحدث بالطبع؛ إذ ضم الحزب دولاً كثيرة من أوروبا الشرقية والباب مفتوح لانضمام أوكرانيا أيضاً. وفي المقابل تقول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه لا يمكنها قبول طلبات موسكو ولا “خطوطها الحمراء”.
هل تستعد روسيا لغزو أوكرانيا فعلاً؟
الكرملين ينفي وجود أي خطط لديه لغزو أوكرانيا ويتهم الغرب بالتسبب في التوتر الحالي والتصعيد من خلال نشر أسلحة وقوات لحلف الناتو في شرق أوروبا والإعلان عن قرب انضمام أوكرانيا لعضوية الحزب. التقارير الغربية والأمريكية، في المقابل، ترسم صورة مختلفة تماماً.
وتظهر الأقمار الصناعية تزايد الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، وقالت أحدث تقييمات وزارة الدفاع الأوكرانية قبل أيام إن موسكو أكملت بالفعل تحضيراتها لشن غزو شامل، إذ بلغت أعداد القوات البرية الروسية عند الحدود أكثر من 106 آلاف، فيما توجد آلاف من القوات البحرية والجوية، ليصل المجموع إلى أكثر من 127 ألفاً، استعداداً لغزو شامل قد يقع في أي لحظة، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
لكن خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض الأربعاء 19 يناير/كانون الثاني، كان بايدن قد أثار جدلاً كبيراً بشأن الأزمة الأوكرانية عندما توقع أن تقوم روسيا بتحرك نحو أوكرانيا، وقال إن موسكو ستدفع ثمناً باهظاً إذا أقدمت على غزو شامل لكن “توغلاً بسيطاً” سيكبِّدها ثمناً أقل.
وقال بايدن: “ظني أنه سيتحرك.. لا بد أن يقوم بشيء” في إشارة إلى الرئيس فلاديمير بوتين، ومضى يقول: “روسيا ستحاسب إذا قامت بالغزو، وهذا يعتمد على ما ستفعله. سيكون الأمر مختلفاً لو كان توغلاً بسيطاً. لكن لو فعلوا حقاً ما بمقدورهم فعله.. سيكون الأمر كارثة لروسيا إذا غزت أوكرانيا ثانية”.
من هم حلفاء بوتين داخل أوكرانيا؟
تزامناً مع “زلة لسان” بايدن كما سعى البيت الأبيض لاحقاً لوصف ما حدث، نشرت وزارة الخارجية البريطانية بياناً قالت فيه إن روسيا تريد تنصيب حكومة أوكرانية تكون موالية لبوتين في كييف، وذكر البيان اسم النائب الأوكراني السابق يفين موراييف كمرشح محتمل، لكن موراييف نفسه نفى تلك التقارير في تصريحات صحفية بريطانية وقال إنه “ممنوع من دخول روسيا”.
وشمل بيان الخارجية البريطانية أيضاً أسماء كل من سيرغي أربوزوف (النائب الأول لرئيس وزراء أوكرانيا من 2012 إلى 2014، ثم الرئيس المؤقت للوزراء)، وأندريه كلوييف (الذي ترأس الإدارة الرئاسية للرئيس السابق يانوكوفيتش)، وفولوديمير سيفكوفيتش (نائب أمين مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني سابقاً)، وميكولا أزاروف (رئيس وزراء أوكرانيا من 2010 إلى 2014).
الخارجية البريطانية قالت في بيانها إن “بعضهم على اتصال مع عملاء الاستخبارات الروسية المنخرطين حالياً في التخطيط لهجوم على أوكرانيا”. لكن الخارجية الروسية وصفت بيان نظيرتها البريطانية بأنه “هراء”، ولاحقاً قالت تقارير إعلامية روسية إن مصدر البيان البريطاني هو الاستخبارات الأمريكية وليس المخابرات البريطانية.
لماذا سُحب الرعايا الأمريكيون والبريطانيون؟
بعد أن أمرت واشنطن رعاياها بمغادرة أوكرانيا، قامت لندن اليوم الإثنين باتخاذ نفس الإجراءات، بينما طلب الاتحاد الأوروبي من الولايات المتحدة وبريطانيا تزويد بروكسيل بالمعلومات التي على أساسها تم اتخاذ تلك الإجراءات، حتى تقوم دول الاتحاد أيضاً بحماية مواطنيها، بحسب ما أفاد مراسل قناة الجزيرة في بروكسيل.
وفي الوقت نفسه، نشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً حول تقديم قيادة البنتاغون خيارات متنوعة للرئيس بايدن بشأن الأزمة الأوكرانية، منها زيادة أعداد القوات الأمريكية في شرق أوروبا من بضعة آلاف فقط حالياً إلى 50 ألفاً، إضافة إلى تكثيف إرسال المعدات العسكرية والأسلحة إلى أوكرانيا.
وذكرت صحيفة نيويورك تايمز في ساعة متأخرة من مساء الأحد أن الرئيس بايدن يفكر في إرسال عدة آلاف من الجنود الأمريكيين إلى الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية ودول البلطيق. ورفض البنتاغون التعليق لرويترز على تقرير نيويورك تايمز لكنه أشار إلى أن المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي قال الجمعة: “سوف نتأكد من أن لدينا خيارات جاهزة لطمأنة حلفائنا ولا سيما في الجناح الشرقي لحلف الناتو”.
ووصلت إلى أوكرانيا السبت حوالي 90 طناً من “الأسلحة الفتاكة” من الولايات المتحدة، بما في ذلك ذخيرة لـ “المدافعين عن الخطوط الأمامية”، وهي إشارة إلى الميلشيات الأوكرانية المنتشرة على طول الحدود في المناطق الشرقية، وتعول عليها كييف في التصدي لأي توغل روسي قد يحدث.
إذ يستعد أكثر من 50 ألف جندي غير نظامي في أوكرانيا للقتال، بعد أن لعبوا دوراً مهماً- ومثيراً للجدل- حين اندلع النزاع في القرم قبل نحو ثماني سنوات، ويمكنهم أن يلعبوا نفس الدور مرةً أخرى، وفق تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
يقول وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكين، إن إدارة الرئيس بايدن تتخذ “سلسلة من الإجراءات التي من شأنها أن تدخل في حسابات الرئيس بوتين”، بما في ذلك تعزيز الدفاعات في أوكرانيا بمزيد من المساعدات العسكرية.
فلا أحد يمكنه الجزم بما ينويه الرئيس الروسي، وعلى الرغم من أن المؤشرات لا تُنذِر بخير، إذ حشدت موسكو قواتٍ وأسلحة ثقيلة على طول الحدود الأوكرانية مباشرةً، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما إن كان هذا تكتيكاً تفاوضياً أم حشداً من أجل الغزو.
——————————–
روسيا تتحرك بخطوتين في ميناء اللاذقية.. وجدل بشأن “التوقيت“
ضياء عودة – إسطنبول
سيّرت القوات الروسية، الثلاثاء، دوريات مشتركة مع قوات النظام السوري في ميناء اللاذقية السوري، مما يطرح تساؤلات عن الهدف من هذه الخطوة، التي تعتبر الأولى من نوعها، وتأتي بعد أسابيع من ضربات نسبت لإسرائيل، استهدفت “ساحة الحاويات التجارية” فيه.
وجاء الإعلان عن تسيير الدوريات من جانب وسائل إعلام روسية، حيث استعرضت العديد من الصور، ووثقت فيها انتشار القوات في مناطق متفرقة من الميناء، إلى جانب عدد من السيارات المصفحة والمدرعة.
ولم يعرف بالتحديد الهدف من هذه الخطوة الروسية، واللافت أن الكشف عنها تزامن مع إعلان “القرم” توقيع اتفاقية تعاون تجاري بين موانئ شبه الجزيرة، من جهة وإدارة ميناء اللاذقية من جهة أخرى.
وكانت الضربات “الإسرائيلية”، في 28 من ديسمبر الماضي، استهدفت بحسب وسائل إعلام شحنات أسلحة إيرانية “مخبأة ضمن الحاويات التجارية”، مما أسفر عن “خسائر وأضرار كبيرة”، بحسب ما قالت وكالة الأنباء السورية “سانا”.
وأثارت الضربات في ذلك الوقت جدلا واسعا داخل الأوساط المؤيدة للنظام السوري، حيث انتقد مواطنون وصحفيون وسياسيون طريقة التعاطي الروسية معها، من زاوية أن موسكو “تنسق ضمنيا مع إسرائيل”، وبالتالي تمتنع عن تفعيل منظومات الدفاع الجوي الخاصة بها والمنشرة بكثرة هناك.
وعلى مدى السنوات الماضية تحدثت تقارير غربية عن ميناء اللاذقية، واعتبرت أن إيران تستخدمه لتمرير شحنات الأسلحة التي تحتاجها ميليشياتها، كما جعلت منه محطة لتمرير النفط والوقود إلى النظام السوري وميليشيا “حزب الله” في لبنان.
ولا يرتبط الميناء بأي عقد واضح حتى الآن، على عكس مرفأ طرطوس، الذي استحوذت عليه موسكو، قبل سنوات، بعقد مدته 49 عاما.
ويتولى ميناء اللاذقية استقبال معظم الواردات القادمة إلى سوريا، البلد الذي مزقته حرب أهلية مستمرة منذ عقد من الزمن والعقوبات التي فرضها الغرب، بهدف دفع نظام الأسد لتقديم تنازلات سياسية، بموجب القرار الأممي 2254.
وإلى جانب الهجوم الأخير وقع هجوم آخر في السابع من ديسمبر الماضي، عندما أفادت وسائل إعلام سورية بأن طائرات حربية إسرائيلية قصفت محطة الحاويات، مما أدى إلى اندلاع حريق كبير أيضا.
لماذا الدوريات؟
تعتبر الدوريات التي تحدثت عنها وسائل إعلام روسية، وما تبعها من الاتفاقية التي أعلنت عنها شبه جزيرة القرم “خطوتين لافتتين”، بحسب ما يقول محللون وباحثون سوريون لموقع “الحرة”.
وقال موقع “rusvesna” الروسي، الذي انفرد بنشر صور الدوريات، إنها أجريت بمشاركة “وحدات خاصة من الشرطة العسكرية الروسية، وباستخدام مركبات كاماز- 43501 وباترول وتايغر، ورافقها تحليق لطائرات مسيرة تابعة للقوات الجوية الروسية”.
وأضاف أن “تسيير الدورية جاء بعد معلومات استخباراتية بشأن هجمات إرهابية وشيكة من قبل الفصائل المتطرفة في محافظة إدلب”، مشيرا نقلا عن تقارير إلى أن “مسلحين كانوا يعدون فرق تخريب تحت الماء لتنفيذ تفجيرات في مينائي طرطوس واللاذقية”.
لكن المحلل العسكري السوري، العميد أحمد رحال، اعتبر أن التبريرات المذكورة “لا أساس لها من الواقع والحقيقة”، وهذا يرتبط ببعد مدينة إدلب جغرافيا، وطبيعة المنطقة الخاصة بالميناء، والتي تخضع بالكامل لسيطرة النظام السوري وروسيا بشكل خاص.
ويقول رحال لموقع “الحرة”: “روسيا لها مصلحة في إبعاد إيران عن السواحل السورية، وهذا ما نراه الآن، أما بخصوص الاتفاقية المعلنة بين القرم والميناء فهي تندرج ضمن ما يسمى بتوأمة الموانئ”.
ويضيف المحلل العسكري: “يبدو أن الروس لا يريدون لإيران التمركز في المنطقة الساحلية. لن يعطوهم منفذا أو أي قاعدة على سواحل المتوسط، وهذا الأمر بتوافق مع إسرائيل”.
وبوجهة نظره، فإن مصلحة روسيا تكمن في “تحجيم الدور الإيراني، كون طهران تعيق مسارات موسكو باتجاهين، عسكريا من خلال إصرارها على توسيع النفوذ، وسياسيا بعرقلة وتخريب أي خطوات للحل السياسي”.
“الانتشار لمنع الضربات”
ومنذ عام 2016 تستهدف إسرائيل، بطريقة تبتعد عن التبني، مواقع عسكرية في عموم المناطق السورية التي تخضع لسيطرة النظام السوري، من الجنوب وصولا إلى الشمال والشرق والغرب.
ويصر الجيش الإسرائيلي على مواصلة ضرباته الصاروخية والجوية داخل سوريا، ويقول إنها لمنع إعادة التموضع الإيراني في المنطقة.
ومن بين أبرز المواقع التي تلقت الضربات، المطارات الجوية، سواء مطار دمشق الدولي أو مطار “تي فور” الواقع في ريف محافظة حمص السورية، وسط البلاد.
وفي نوفمبر العام الماضي نقل “المرصد السوري لحقوق الإنسان” عن مصادر قولها إن مليشيات إيران أفرغت مطار “تي فور” العسكري، ونقلت معداته إلى مطار الشعيرات، بعد سلسلة استهدافات تعرض لها.
وأوضحت مصادر المرصد أن قوات النظام السوري إلى جانب الشرطة العسكرية الروسية، ستحلّ مكان المليشيات الإيرانية، عقب إتمام عملية الإخلاء ونقل المعدات.
وقد تنطبق هذه الخطوة بما يحصل الآن في ميناء اللاذقية، بحسب الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، نوار شعبان، في مسعى من موسكو لإبعاد خطر الضربات، بمبرر أن قوات الشرطة الروسية قد انتشرت في المنطقة، وبالتالي “لم يعد هناك أي تهديد”.
ويقول شعبان لموقع “الحرة”: “منذ 6 سنوات إلى الآن لم تتوقف إسرائيل عن ضرباتها. تكثيف القصف على المطارات دفع روسيا لنشر قواتها كبديل”.
ويضيف الباحث السوري: “هناك اتفاق غير معلن بين القوى الفاعلة في سوريا وروسيا من أجل ضبط التحركات الإيرانية. كيف سيتم الضبط بالانتشار الروسي؟ هذا لا يكفي، ولذلك تحاول موسكو منع الضربات أكثر”.
ويستبعد شعبان فرضية أن “روسيا بصدد الصدام مع إيران”، مؤكدا أن “الانتشار الروسي في ميناء اللاذقية وغيره لمنع إسرائيل من ضرب مناطق معينة”.
وزاد: “روسيا ليست بصدد فتح جبهات داخلية مع إيران في سوريا وخاصة في الوقت الحالي. ربما في المستقبل”.
“رسم خط أحمر”
وقبل نهاية عام 2021 كان المبعوث الروسي الخاص إلى سوريا، ألكسندر لافرينتيف، قال إنه “من المستحيل إغلاق هذه القضية”، في تعليقه عن الضربات الإسرائيلية المتكررة في البلاد.
وأضاف، في مقابلة مع قناة “روسيا اليوم”: “الإسرائيليون يصرون على ما يسمونه حق الدفاع عن النفس وحماية الأمن القومي. هم يقولون إنهم يستهدفون أهدافا إيرانية. لنقل ذلك بصراحة”.
وتعتبر مسألة التواجد الإيراني في سوريا أحد المسائل العالقة، والتي لطالما اعتبرها النظام السوري “شرعية”، كون القوات الإيرانية دخلت إلى البلاد “بطلب من الحكومة السورية”.
ونادرا ما تخرج تصريحات توضح ماهية العلاقة بين حلفاء رئيس النظام، بشار الأسد (إيران، وروسيا).
وبينما تشير العديد من التقارير المحلية والغربية عن وجود “صدع غير معلن” بينهما، إلا أن ذلك لم يثبت بمواقف رسمية لمسؤولي البلدين.
وكانت روسيا قد اتجهت بعد تقلص مساحة العمليات العسكرية إلى سياسة تسيير الدوريات المشتركة، كحل من شأنه أن يضبط الأمور ويجعلها تحت السيطرة، ويحافظ أيضا على نظام “التهدئة”.
وهذه الدوريات تسير على طول الحدود السورية – التركية، وعلى طول الحدود الفاصلة بين مناطق النظام السوري وفصائل المعارضة في محافظة إدلب، فضلا عن أخرى أعلن عنها مؤخرا في أعقاب “اتفاق التسوية” بمحافظة درعا جنوبا.
ويقول المحلل السياسي المقيم في موسكو، رامي الشاعر، إن “روسيا تضع على رأس أولويات مهام تواجدها العسكري في سوريا الحفاظ على نظام التهدئة ووقف إطلاق النار والاقتتال على كافة الأراضي السورية”.
ولتحقيق هذا الهدف، يضيف الشاعر: “يتم نشر دوريات روسية، أحيانا ما تكون مشتركة مع الجيش العربي السوري، أو مع الجيش التركي، وبالتنسيق مع مجموعة أستانا، كما تقوم باتصالاتها مع الدول المجاورة لسوريا بما في ذلك إسرائيل”.
“ولا تلتزم إسرائيل وتتجاوب مع الجهود الروسية، فيما يخص باحترام السيادة ووحدة الأراضي السورية. الاعتداءات مستمرة من جانبها، وبتأييد من واشنطن”، بحسب تعبيره.
ويشير الشاعر: “لهذا فمن غير المستبعد تواجد الدوريات العسكرية الروسية أو المشتركة في المواقع الاستراتيجية السورية، ومن بينها الموانئ أو المطارات وغيرها”.
ويتابع: “تواجد روسيا يعد خطا أحمر، لا يمكن تجاوزه من قبل الأميركيين أو حلفائهم، بما فيهم إسرائيل. الاعتداء على أو قصف أهداف أو منشآت يمكن أن يكون من بين ضحاياها أفراد من القوات العسكرية الروسية الموجودة على الأراضي السورية”.
من جهته يوضح المحلل العسكري، العميد أحمد رحال، أن “ميناء اللاذقية يعتبر بالنسبة للإيرانيين بديلا عن القوافل البرية والجوية التي تهبط بمطار دمشق الدولي”.
ويضيف: “بذلك وعن طريق البحر فهم قادرين على إدخال الكثير من شحنات الأسلحة. بآلاف الأطنان”.
وهناك نقطة أهم، وفق قول رحال، وهي أن “الميناء تحول إلى مركز لتصدير المخدرات، بمشاركة أساسية من قوات الفرقة الرابعة، وهي المسؤولة أمنيا بالكامل عنه”.
ويتابع المحلل العسكري: “من مصلحة روسيا أن تضبط الميناء، لكن هناك نقطة أساسية. الدوريات كيف تجري؟ هل بمشاركة الفرقة الرابعة المسؤولة عن كل ما يحصل أم بتشكيلات أخرى من قوات الأسد؟”.
وسبق أن ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” في تحقيق لها أن مختبرات مخدر “الكبتاغون” تنتشر بشكل أساسي في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، وفق شهادات سوريين يعيشون في هذه المناطق، أو في الأراضي التي يسيطر عليها “حزب الله” بالقرب من الحدود اللبنانية، أو خارج العاصمة دمشق وحول مدينة اللاذقية الساحلية.
وبعد إتمام مراحل الإنتاج، يتم إخفاء حبوب الكبتاغون الجاهزة في حاويات شحن أو عبوات حليب أو شاي أو صابون أو داخل شحنات فواكه، ثم يتم تهريبها برا إلى الأردن ولبنان، حيث يغادر بعضها عبر منافذ بيروت الجوية والبحرية، والجزء الأكبر يغادر سوريا من ميناء اللاذقية على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
ضياء عودة – إسطنبول
الحرة
———————————–
عندما تستثمر روسيا الثورات/ غازي دحمان
بقدر ما تشكّل الثورات في البلدان التي يحكمها أشباه الرئيس الروسي، بوتين، وأتباعه، خطراً على روسيا ينذر بسقوط التشكيلات التي صنعتها لحكم هذه البلدان، فإنه يشكل فرصة لتعزيز المشروع الجيوسياسي الروسي وتوسيع آفاقه وبكلف رخيصة، كما حصل في سورية، حيث حقّقت روسيا حلمها المزمن بالوصول إلى المياه الدافئة بدماء شعوب المشرق وانتهازية أميركا.
لم يعد بقايا تلاميذ الشيوعية السوفييتية صالحين للحكم، في زمنٍ تغيّرت فيه المعطيات بدرجة كبيرة، وبات من الصعب معالجة الفجوة بين البنى الاجتماعية المتطوّرة والمؤسسات السياسية المتخلفة بعمليات رتقٍ بسيطة، أو من خلال خطابات سياسية فسدت مفرداتها وباتت غير صالحةٍ للاستهلاك السمعي ولا لإقناع حتى الذين ما زالوا يحفظون في رؤوسهم بعض بقايا أيديولوجية ستالينية بائدة.
في العادة، تلقي روسيا اللوم على الغرب لدى حصول أي ثورةٍ شعبيةٍ في محيطها، في كازاخستان وبيلاروسيا وقبلهما أوكرانيا، وحتى سورية التي أُدخِلَت عنوةً في الفضاء الأوراسي، وضمن حدود الأمن القومي الروسي، وغالباً ما يتبع أتباعها روشيتة واحدة للتعامل مع الثورات، تقوم على ثلاثة أركان: استخدام القوّة المميتة ضد المعارضين، ثم وصفهم بالإرهابيين والمسلحين، وهذه مقدّمة لرفض تقديم أي تنازل أو التفاوض مع المعارضين بوصفهم إرهابيين ومجرمين.
كازاخستان واحدة من قطع الفضاء الجيوسياسي الروسي، الذي يمتد على مساحة جغرافية الاتحاد السوفييتي السابق في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. وللأخيرة خصوصية مميزة عند الاستراتيجيين الروس، الذين ما زالوا مؤمنين بنظرية السير هالفورد جون ماكـِندر، أحد مؤسسي الجيوبوليتيك، وقد رأى في سهوب آسيا الوسطى، التي تقع المساحة الأكبر منها في كازاخستان، قلب العالم، ومن يسيطر على هذا القلب يسيطر على العالم. وتتناسب هذه النظرية مع الميزة الروسية على مستوى العالم، وهي القوة البرّية الكبيرة التي تساندها قوّة جوية، ويمكن من خلالهما تحقيق نتائج مهمة في مواجهة القوّة البحرية، الولايات المتحدة وبريطانيا.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ تندمج في كازاخستان عند الروس طموحاتُ الهيمنة مع الثروات الكبيرة التي يسيل لها لعاب المافيا الروسية، حيث تنام البلاد على مخزوناتٍ ضخمةٍ من النفط والغاز واليورانيوم، كذلك فإنها تبشّر بإمكانية إيجاد عالم أوراسي من خلال وقوف الصين مع روسيا لقمع أي تغييراتٍ قد تحصل في كازاخستان، لما للصين من مصالح اقتصادية وأمنية هائلة مع بلادٍ تشترك معها في حدود شاسعة يقع أغلبها مع مقاطعة تركستان الشرقية، موطن الإيغور الذين تضطهدهم الصين، وتتخوف من أيّ تغيراتٍ قد تحصل في كازاخستان وقرغيزستان، كي لا تتحوّل هذه المناطق إلى عمقٍ حيوي للمقاتلين الإيغور يستنزف الصين.
من الواضح أنّ روسيا تستثمر، بشكل فعال، الاضطرابات التي تحصل في بلدان الاتحاد السوفييتي السابق لتعزيز نفوذها وإعادة رسم خرائط نفوذ جديدة، حيث تنتهج طريقاً يضعها في موقع رابح – رابح دائماً، حيث لا تكلفها تدخّلاتها موارد كبيرة، إذ تعتمد، في الغالب، على الجاليات الروسية التي جرى توطينها في السابق ضمن بلدانٍ عديدة، وباتوا مواطنين لهم كامل الحق والتأثير بسياسات هذه البلدان. وفي الوقت نفسه، ما زالوا في حسابات روسيا مواطنين روسا، ويمكن أن تتذرّع روسيا بحمايتهم، وهو حقٌّ لا يمكن المجادلة به. وفي كازاخستان، يشكل الروس 20% من مجموع السكان.
ومن الأدوات التي تستخدمها روسيا في توسيع دائرة نفوذها دعم الحكام الطغاة في مواجهة ثورات الشعوب، وتعزيز قوّة العصابات الحاكمة، كما في بيلاروسيا. وجديد تلك الأدوات استخدام ما تسمى قوى حفظ السلام التابعة لمنظمة “معاهدة الأمن الجماعي” التي تنخرط فيها روسيا مع دول آسيا الوسطى، التي سبق أن أُرسِلَت لفضّ النزاع بين أرمينيا وأذربيجان.
وفي كلّ هذه الحالات، لا تخرج القوات الروسية بعد إنجاز المهمة، أي بعد القضاء على الثورات بالحديد والنار، بل يحوّل بوتين البلد المعني إلى ولاية روسية يحرّك سياساتها بما يتناسب مع مشروعه الجيوسياسي. ولو افترضنا أنّ بعض حكام هذه البلاد كان لديه أمل أو رغبة في تحقيق توازن في علاقاته الخارجية، فإن عليه، مع حضور الدبّ الروسي إلى كرمه، أن يتهيأ ليصبح محافظاً لدى بوتين، ويودّع، ربما إلى الأبد، الاستقلال والسيادة وأشباههما.
وهكذا، تصبح روسيا، في عصر ما بعد العولمة، جهةً مختصّة بقمع الثورات، تحت نظر العالم وسمعه، وهي تفعل ذلك بأساليب أقل ما يقال فيها أنّها جرائم إبادة. واللافت أنّ العالم قبلَ هذه المهمة، وإن ظهرت على هوامش المذابح الروسية الجارية أصوات من هنا وهناك، من دون أفعال موازية واستراتيجيات مضادّة لردع المهمة الروسية في قمع ثورات الشعوب الهادفة إلى التخلص من الفساد من نخبٍ فقدت شرعيتها، فلا هي قادرة على ضبط مجتمعاتها ولا ضبط نفسها، وتحوّلها إلى نخب سياسية محترمة.
الغريب في ذلك أيضاً أنّ بوتين بات يتصيّد الثورات لإعادة بعث الاتحاد السوفييتي السابق، ومع احتمال نشوب مزيد من الثورات، واستمرار انتهازية الغرب وأوروبا، سنكون على موعدٍ مع إعادة تشكيل جديدة للنظام العالمي يقع في قلبه اتحاد سوفييتي جديد.
العربي الجديد
———————————-
الأسد .. صفقة روسية أميركية/ بشير البكر
موقفان متقاربان، أميركي وروسي، في توصيف الوضع السوري. الأول صدر منذ عدة أيام عن السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد. والثاني سبقه بوقت قصير، وجاء على لسان مبعوث الرئيس الروسي إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف. وجزم كلاهما بأن رئيس النظام السوري، بشار الأسد، لن يقبل بأي تعديل دستوري يتعلق بالسلطة أو صلاحياته رئيسا. واعتبر فورد أن جهود مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسن، لن تؤدّي إلى أي نتائج تُذكر، وذلك لأن الأسد لن يقبل بأي حلول تُحدث تغييراتٍ كبرى، وفي السياق نفسه، استبعد المسؤول الروسي وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس. وقال “هذا الطريق لا يؤدّي إلى شيء”. وإذ يلتقي الرأيان عند نعي مسار محادثات جنيف، فإن كلام فورد يصادق على ما جاء في تصريح لافرنتييف، ولكن من منطلق مختلف. هو يشعر بالأسى لعدم فعالية الدور الدولي، بينما يعبر المسؤول الروسي عن النشوة لنجاح موسكو بحماية الأسد.
وفي حقيقة الأمر، يرى لافرنتييف أن الأسد هو الحل، في حين يحتمل حديث فورد أن الأسد معضلةٌ غير قابلة للحل. ولذلك نصح دول الجوار بالتفاهم معه من باب المصالح المشتركة، وهذا رأيٌ يلزمه وحده، ولا يمكن أن نسجّله على الولايات المتحدة، على الرغم من أنها عهدت بالملف السوري إلى موسكو، ورفعت يدها منذ حصول جريمة كيماوي الغوطة في أغسطس/ آب 2013، ولكن هذا لا يعني أنها تتسامح مع جرائم الأسد. وللأمانة، هي ما تزال ترفض التعامل مع رئيس النظام. وفي عدة مناسبات، أكد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، رفض تطبيع العلاقات مع الأسد. وقال “ما لم نفعله ولا ننوي فعله هو التعبير عن أي دعم للجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات” مع الأسد، بدون أن يطلق عليه لقب الرئيس. وقال إن الولايات المتحدة “لم ترفع أي عقوبة مفروضة على سورية، ولم تغير موقفها المعارض لإعادة إعمار سورية، ما لم يُحرز تقدم لا رجوع عنه نحو حل سياسي نعتقد أنه ضروري وحيوي”.
يبدو إيجاد حل لمعضلة الأسد مستعصيا في ظل التجاذب الأميركي الروسي. موسكو تبحث عن مخرج له، وجرّبت عدة طرق كي تعيد تعويمه. ومنذ تدخلها العسكري في سبتمبر/ أيلول 2015 حاولت بالوسائل العسكرية والدبلوماسية، وإلى حد الآن بدون نتيجة. وتبيّن من تجربة الأعوام الماضية أن موسكو قادرةٌ على الاحتفاظ به، وحمايته من السقوط، لكن ليس لديها الإمكانية من أجل فك الحصار عنه، والذي يتمثل بالموقف الدولي. ومع أن السوريين كانوا ينتظرون أكثر من الولايات المتحدة لإطاحة حكم الأسد، فإن العقوبات التي فرضتها ساهمت بالقسط الأكبر من الموانع على طريق الانفتاح العربي والدولي عليه، ويلعب قانون قيصر دورا أساسيا في ذلك. وعلى الرغم من أن تساهلا حصل من واشنطن تجاه بعض الدول التي قامت بخطوات تطبيع مع نظام الأسد، فإن الذي يحول دون الذهاب إلى أبعد هي العقوبات، وتضع واشنطن شروطا واضحة لرفع تلك العقوبات أو تخفيفها، ومنها تحقيق تقدّم في العملية السياسية التي تم النص عليها في قرار مجلس الأمن 2254. وثمّة من ينسب الجمود الحاصل في عملية مد الغاز من مصر إلى لبنان، عبر الأردن وسورية، إلى تشدّد مواقف الولايات المتحدة، فبعد أن أبدت موافقة على ذلك، اشترطت الحصول على موافقة خطية وفق ما ينص عليه قانون قيصر، ما يشي بأن واشنطن راجعت موقفها وقرّرت التريث، بعد محاولات بعض الأنظمة توظيف المرونة الأميركية لصالح الأسد.
ليس مصادفةً ولا أول مرة يلتقي رأيان روسي وأميركي بشأن الأسد، هذا هو مضمون تفاهمات أوباما بوتين 2013 التي قامت على المقايضة: الأسد مقابل الكيماوي. ولذا يظل الأسد رهينة صفقة روسية أميركية.
العربي الجديد
———————————–
عندما أكل الأمن السوري الدستور/ سميرة المسالمة
يستبق قطبا التفاوض الدولي (الولايات المتحدة وروسيا) مباحثاتهما في جنيف الأسبوع المقبل بوضع نقاط علامات بارزة لمراكز قوتهما في الملفات المختلف حولها، ومنها الملف السوري، على الرغم من أنه ليس المعني بجدول أعمالهما، إلا أنه أحد المؤثرات الجانبية التي تفيد في تثقيل موقف روسيا من جهة، وكشف خبايا ردود الفعل المستقبلية للجانب الأميركي من جهة مقابلة. والشأن السوري، على ما يظهر للعلن، أسهل القضايا التي يجري التلاعب بمضمونها، من خلال تعدّد القراءات للقرارات الدولية المتعلقة بها، وطرق تنفيذها، من بيان جنيف 1 وحتى قرار مجلس الأمن 2254، وما بعدهما بشأن المساعدات الدولية والممرّات الإنسانية، وتبع ذلك الانتقال من مفاوضات جنيف إلى آستانة، ثم إلى متاهات اللجنة الدستورية، ما يبدّد أوهام بعض السوريين عن حجم الاهتمام الدولي بمتابعة تطبيق التصريحات أو القرارات ذات الصلة بالصراع في سورية وعليها.
واللافت أنه باستعارة أي محادثة بين الطرفين بشأن الخلافات (خارج الملف السوري)، ومنها الموضوع الأوكراني، وإسقاطها على الوضع السوري، سنجد أن الطرفين يستخدمان المصطلحات نفسها في مواجهة بعضهما ضد التدخل في شؤون الدول المستقلة التي ينتهكان سيادتها، فبينما تتمسّك التصريحات الأميركية باستقلالية أوكرانيا دولة ذات سيادة لا يجوز التدخل في شؤونها والاعتداء عليها، تواجه روسيا التدخل الأميركي في سورية بالتعبير نفسه، وتطالب بخروج قواتها من شمال سورية، في وقتٍ تناقض فيه الولايات المتحدة نفسها أيضاً، برفض التدخل الروسي في أوكرانيا، بينما فتحت هي المجال واسعاً أمام تدخل القوات الروسية في سورية، ولاذت بالصمت عن توسع نفوذ إيران في كل من العراق ولبنان واليمن وسورية.
ولذلك يمكن قراءة التغيرات الأخيرة للجانبين في سورية ضمن مروحة خياراتهما لاستفزاز بعضهما في سورية، ولمصلحة حواراتهما أو مفاوضاتهما على ملفاتٍ خارجها، فالتغيير الحاصل في تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي، ألكسندر لافرنتييف، واستبقت بأيام التواصل بين الرئيسين، الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، في نهاية العام المنقضي، تؤكّد أن الموقف الروسي الذي استطاع استمالة كيانات في المعارضة السورية بتوجيه تركي، كان يهدف إلى احتواء “حالة” بهدف تبديدها، لا حل قضيتها على أساس عادل، وبذلك فقد امتلكت روسيا منذ عام 2017، أي مع بدء دخول ما تسمّى “المعارضة” في “كوريدور” مفاوضات آستانة المعتم، الوقت اللازم لتمييع ملامح الصراع السوري، وضمنه تضييع القضية السورية التي أضحت دولياً مجرّد قضية إنسانية، تتعلق بتقديم مساعدات، أو إنشاء مخيمات، أو تسهيل حياة المشرّدين.
وسهّلت المعارضة مهمة روسيا في سورية باختلافاتها وتمزّقها، وقبل ذلك بعسكرتها الصراع، وتصوير ما يجري في سورية حرباً متكافئة بين جيشين يعلن كل منهما بين حين وآخر انتصاره ورفع علمه على الأرض المسيطر عليها، ما حيّد جانباً حقيقة الثورة على النظام، وبدل أن تكون قضية تغيير سياسي نحو المواطنة والديمقراطية، أو قضية صراع بين الشعب والنظام الحاكم بطبيعته الاستبدادية، أصبحت قضية صراع مسلّح بين طرفين، وقد شكّل ذلك رافعة للموقف الروسي أمام المجتمع الدولي عموماً، والجانب الأميركي تحديداً، الذي منحها صفة المفاوض والمتحكّم بالملف السوري، في مقابل كيانات المعارضة الممزّقة، وأجهضت القرارات الدولية، وشعارات المساندة لحقوق السوريين في دولة ديمقراطية لمواطنين أحرار.
وفقاً لهذا الاعتبار، تمارس روسيا دورها في سورية من منطلق أنه نقطة قوة تفاوضية لها مع الولايات المتحدة. ولذلك، فإن تغيير تصريحاتها في ما يتعلق بعمل اللجنة الدستورية، والغرض من تغيير الدستور في سورية “يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في البلاد”، بحسب تصريح لافرنتييف في 27 ديسمبر/ كانون الأول، يؤكد أنها تتعامل مع القضية السورية حسب متغيرات الوضع الدولي مع مصالحها، وليس من منطلق راعي عملية تفاوضية سورية – سورية سلمية. أي إن الدستور السوري ورقة تفاوضية جديدة ترميها قبيل جلستها المنتظرة مع الجانب الأميركي، لتأكيد أن جعبتها بما يتعلق بالملف السوري لم تفرغ من المفاجآت، وأنها في كل مرّة قادرة على التلاعب بمصير السوريين، من مسودة الدستور الذي قدمته للمعارضة في أول اجتماع لها في آستانة في 24 يناير/ كانون الثاني 2017، وتضمن تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، في وقت تتوسّع فيه مهام البرلمان، وضمن معايير جديدة لعلاقة السلطات مع بعضها، إضافة إلى ما يحتويه من تغيير في شكل الدولة، حيث طرحت المسودة هوية فيدرالية تركّز على تحقيق مطالب الكرد في سورية، إلى ما تلا ذلك من تصريحات عن انتخابات رئاسية مبكّرة يتم مسح مضامينها بسهولة، عبر ما قاله المبعوث الرئاسي الروسي قبل أيام، ويمثل حقيقة الموقف الروسي في سورية.
ويمكن باختصار توضيح القول إن الصراع اليوم لا يجري على الدستور الذي أقالته الأجهزة الأمنية قبل الثورة وبعدها، وإنما على حقيقة الهدف من الثورة، وعدم وجود داعمين دوليين لحل الصراع في سورية، لأنه حتماً لا يمكن اختزال ما جرى ويجري بتعديلات دستورية يُستفتى عليها شعبٌ يرزح تحت سلطة الأمن التي كانت سبباً في تفجير الثورة، وأسهمت في حرف مسارها من سلميتها إلى عسكرتها، لنكون اليوم أمام صراعٍ على كل شيء، على السلطة، وعلى طبيعة الدولة، وعلى هويتها، هل هي دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، أم هي سلطةٌ تغوّلت على الدولة، وأخضعتها لمصالحها، بالتالي، باتت متحكّمة بالشعب وبالدولة في آن واحد. علماً أن هذا النظام لم يعنه وجود دستور سابقاً، ليكون موضع اهتمامه لاحقاً، لأن سلطته الأمنية والعسكرية أكلت الدستورين السوريين، الحالي والسابق، وستفعل ذلك في اللاحق، لأنها تشتغل وفقاً لقانون القوة، قوة العنصر المسلح على المواطن الأعزل، أو سلطة الهيمنة الشاملة على المجتمع، وعلى مؤسسات الدولة وعلى الموارد.
العربي الجديد
——————————–
=========================
=====================
تحديث 27 كانون الثاني 2022
————————-
في شرقنا الأوسط… ماذا سيفعل البهلوان الروسي والحبال تهتز على وقع أوكرانيا؟/ سمير التقي
باحتدام الأزمة الأوكرانية، تبلغ العلاقات الروسية – الأميركية نقطة إنعطافية. وبغض النظر عن الشكل الذي ستنتهي به هذه الأزمة فلقد انكسر مزرابا العين بين روسيا والغرب بشكل عام. لقد حصل الضرر على العلاقات الدولية ولن ينسى، لعقود، العسكريون والسياسيون في بلدان البلطيق وبولندا، بل وفي دول أوروبا الشرقية والغربية وغيرها من جيران روسيا، منظر الدبابات الروسية تحضر للغزو في أي لحظة.
إذن، لم تكن غزوات بوتين تلك رد فعل على ما جرى في ليبيا، ولا انتهاز فرصة وهن الموقف الأميركي تجاه سوريا، أو لملء فراغ نتيجة الانكفاء الأميركي في المتوسط، ولا مجرد عنجهية عسكرية قومية كما في القرم أو دونباس، بل كشفت المطالب الصريحة التي أعلنها في مذكرتيه الى “الناتو”، أنه يريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى زمن الحرب الباردة، وكأن شيئاً لم يكن!
فلقد اختار بوتين منطق الدبابات، وتم نهائياً إغلاق كل جدل حول احتمال أن تتحول روسيا دولة طبيعية تنضم، على إيقاعها الخاص، كشريك في النظام الدولي والاقتصادي الليبرالي العالمي.
هذا لا يعني أبداً أننا ذاهبون الى حرب واسعة، ولا يعني إطلاقاً انتهاء دبلوماسية الكر والفر، بل على العكس، سيزدهر عمل الدبلوماسيين مع احتدام العلاقات بين الغرب الليبرالي وروسيا.
في الشرق الأوسط، وبدخوله الاستراتيجي إلى سوريا، راهن بوتين على بناء منظومة يمكن ان نسميها بـ “Pax Putina” (السلم البوتيني الإقليمي)، حيث تدير روسيا منظومة وساطة عسكرية ودبلوماسية زاجرة، لتصبح إدارة المنطقة أمراً مستحيلاً من دون دورها كوسيط مهيمن.
وبالفعل صارت روسيا، لفترة، نقطة التقاطع الدبلوماسي – العسكري والاستراتيجي لفض العديد من الاشتباكات التكتيكة بين اللاعبين الإقليميين. فكانت روسيا تتمرن على القفز بين تركيا والنظام السوري، وبين إيران وإسرائيل، وبين دول الخليج وإيران، وبين تركيا والأكراد، وبين تركيا واليونان ألخ… بل وصلت الى مرحلة تصورت فيها أنها قادرة على أن تصبح هي الضامن لأمن دول الخليج. نجح بوتين في تلك العمليات التكتيكية بشكل يدعو الى الإعجاب! وصار بعضهم في تركيا وإسرائيل وبعض الدول العربية، يتشاطرون في كسر ثوابت تحالفاتهم المؤسسة لدولهم، مع الغرب، والسباحة مع روسيا خارج السرب.
سار كل شيء سمناً وعسلاً، طالما أن الأميركيين مشغولون، أو أنهم غير مبالين أو أنهم واهنو العزيمة، لدرجة أصبح الحديث عن انتهاء الزمن الأميركي أمراً دارجاً. وطبلت البروباغندا الروسية لعصر السلم البوتيني، وفي أحسن الأحوال كان الحديث يجري عن تفويض أميركي لروسيا.
لكن الفرحة لم تكتمل، والنجاح التكتيكي للسلام البوتيني لم يكتمل بنجاح استراتيجي على صعد عدة، إذ لم يتمكن السلام البوتيني من تقديم أي حل مستدام لا يعتمد على مساهمة الغرب لأي أزمة انخرط فيها! لم يتمكن في سوريا، من تقديم أي شيء يقنع الغرب بتمويل المشروع الروسي لإعادة الإعمار، ولا هي تمكنت من حل الأزمة بين تركيا والنظام السوري، ولم يسفر الود الشديد بين نتانياهو وبوتين عن أي انفراج بين إسرائيل وإيران، ولا تمكنت روسيا من الاستفادة من نفوذها لتحقيق تقدم في الوساطة بين العرب وإيران. بل تحولت الوساطة الروسية الإقليمية ضامناً لإبقاء الإقليم على لهيب منخفض، يهدد بالانفجار كل لحظة.
ها هي تركيا توجه الضربات للقوات الروسية في إدلب، ثم في ناغورني كراباخ، حيث تجاوزت قيمة الأسلحة التي خسرتها روسيا الملياري دولار. ثم ها هي تركيا تبيع المسيرات لأوكرانيا.
وبعد سقوط نتنياهو، سارع بوتين لمناكفة إسرائيل، فسمح للقوات الإيرانية بالتوغل على حدودها في منطقة درعا، ثم ها هي إسرائيل لا تكتفي بقصف مرابض الصواريخ، بل تضرب ميناء اللاذقية تحت أنف القوات الروسية، لتدير روسيا خدها الأيسر. وها هي ليبيا وها هي أسعار النفط ألخ… الصورة ذاتها تمضي لتنكشف أزمة المشروع البوتيني.
فلا تركيا ستغادر حلف الأطلسي، ولا إسرائيل ستراهن على قوات روسية لردع إيران، ناهيك بتحالفها المصيري مع الغرب، ولا كانت روسيا قادرة على جسر الهوة في الخليج، ولا أسعار النفط ستصبح سلاحاً في يدها.
باختصار، ومع احتدام الصراع الدولي، واهتزاز الحبال بشدة في الإقليم، لم يعد من الممكن لروسيا أن تستمر في القفز بين الخصوم لتحقيق الحلم المستحيل، ألا وهو إرضاء أو ترويض الجميع في الشرق الأوسط!
تأتي الأزمة الأوكرانية لتضيف المزيد من التوتر على هذه الحبال المشدودة، ولتضييق هوامش مناورة العديد من اللاعبين الإقليميين.
وفي المقابل لم تتمكن الأوليغارشية الروسية من تقديم بديل نمو واعد للعديد من الدول الأفقر او الدول الفاشلة او المنهارة، بديلاً يفتح مسار تنمية يخرجها من اقتصادها المنهار في ظل جفاف الريع في الإقليم.
لا شيء وحّد أوروبا مع أميركا في الحلف الأطلسي وبلور الاتحاد الأوروبي، بقدر خطاب واحد من ستالين في أيار (مايو) 1946. وسيكتشف بوتين أن صور المدرعات والصواريخ المحتشدة على أبواب أوكرانيا، لن تكون أقل أثراً في الأوروبيين والعالم من خطاب ستالين. فقد أيقظ وحفز الردع الغربي الذي بقي متراخياً بعد نهاية الحرب الباردة، كعادته، في نهاية كل حروبه الكونية.
السمة العامة الراهنة هي أن الاحتدام المتصاعد، سواء تم توقيع الاتفاق النووي أم لا، وسواء اخترقت القوات الموالية لروسيا حدود أوكرانيا أم لم تفعل، فلقد انكسرت الجرة، وصار الصراع مفتوحاً.
وفي شرقنا الأوسطي، وفي ظل التناحر بين السلم البوتيني والسلم الدولي الليبرالي، وبعد عواصف الربيع العربي وبعد أزمات كوفيد، يتوقع الباحثون الخبراء أن تنعكس الأزمة الأوكرانية عبر المزيد من تعميق الكوارث، وعبر تعمق أزمات الأنظمة والأزمات الاقتصادية العامة، لتفتح دورة اضطرابات اجتماعية جديدة لمواجهة سوء الحوكمة وانسداد الأفق أمام الشباب، مع تداعي نموذج الدولة الريعية.
ولعل الأجدر بنا أن نتفكر في إخراج الإقليم من الثقب الأسود الذي يجعله مصرفاً لكل أزمات العالم. ونكف عن المراهنة على نصر يمحضنا إياه غرب أو شرق في حروبنا الكهنوتية والإمبراطورية، بل أن نتفكر في إعادة بناء هذه الأوطان، لا على أساس الريع والبلطجة الإقليمية، ولا من منطق بيع دورنا ومواردنا وموقعنا الاستراتيجي للقوى الدولية المهيمنة مقابل الريع، بل من منطق إنتاج نموذج دولة وتنمية مستدامة ومنظومة ذاتية للسلام في الإقليم، تنهي صراع الكهنوت والإمبراطوريات فينا، وتقطع دابر صراع الغرباء علينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
النهار العربي
—————————–
ما تريد معرفته عن الأزمة بين روسيا وأوكرانيا: 10 أسئلة وأجوبتها عن حرب محتملة/ رامي القليوبي
لا تملك أوكرانيا في حد ذاتها ثقلا سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا كبيرا على الساحة الدولية، لكنها كثيرا ما تتصدر عناوين الصحافة والقنوات التلفزيونية العالمية، نظرا لما تشكله من أهمية استراتيجية لروسيا والغرب في صراعهما على مناطق النفوذ، وسط تجدد المخاوف من تحول التنافس على كييف إلى حرب مفتوحة.
هذه الأسئلة قد تساعد الإجابة عنها في فهم النظام السياسي والاجتماعي الأوكراني، وجذور خلافات كييف مع موسكو، والأزمة الراهنة على الحدود بينهما، والمواقف الدولية من ذلك، في قضية باتت تشغل حاليا العالم أجمع.
كيف نشب التوتر العسكري الحالي بين روسيا وأوكرانيا؟
منذ نهاية العام الماضي، يتزايد التوتر العسكري بين موسكو وكييف وسط توجيه اتهامات إلى روسيا بحشد قواتها على الحدود مع أوكرانيا، بينما توجه “جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك الشعبيتان”، المعلنتان من طرف واحد، اتهامات إلى السلطات الأوكرانية بالحشد العسكري على خط التماس في منطقة دونباس، شرقي أوكرانيا.
تعتبر “تمدد” حلف شمال الأطلسي إلى حدودها مع أوكرانيا “خطا أحمر” (Getty)
كما تطالب موسكو بضمانات أمنية بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) خوفا من نشر صواريخ أميركية على الأراضي الأوكرانية، على بعد دقائق من التحليق إلى موسكو، في حال تم قبول عضوية كييف في الحلف.
وبالنسبة لروسيا، فإن أوكرانيا يفترض أن تبقى “تابعة”، أو في الحد الأدنى على الحياد في معركتها مع “خصومها” الدوليين، لا أن تصير تهديدا أو واجهة تهديد. ولعلّ أكثر ما يثير قلق موسكو سعي كييف لعضوية حلف شمال الأطلسي عبر خطوات عملية.
روسيا ترى أن تمدّد حلف شمال الأطلسي، وفي خلفيته التمدد الأميركي، إلى حدودها مع أوكرانيا “خطا أحمر”، ومن ثم تتعامل مع كييف بـ”عدوانية” باعتبارها واجهة لمعركة كبرى تقدّر موسكو أنها تستهدف أمنها القومي ومجالها الحيوي.
ما هي الخلافات الرئيسية بين روسيا وأوكرانيا؟
منذ عام 2014، تعتبر أوكرانيا أن روسيا تحتل أراضيها عن طريق ضم شبه جزيرة القرم ودعم منطقة دونباس المطالبة بالاستقلال عن كييف. إلا أن موسكو تنفي هذه التهم، بحجة أن عملية “استعادة الوحدة” بين القرم وروسيا جاءت نتيجة لاستفتاء تقرير المصير الذي أجري في شبه الجزيرة، نافية ضلوعها في الحرب الأهلية في دونباس، ومؤكدة أنها من الدول الضامنة لاتفاقات مينسك للتسوية الأوكرانية، وليست طرفا فيها.
كيف وصلت العلاقات الروسية الأوكرانية إلى هذه المرحلة من التدهور؟
أوكرانيا هي دولة شابة للغاية، يبلغ عمرها ثلاثة عقود فقط، ونشأت على أطلال تفكك أكبر دولة في العالم، الاتحاد السوفييتي، في عام 1991، ونالت على أثره استقلالها عن موسكو. ومنذ ذلك الحين، تتابع في أوكرانيا رؤساء موالون ومناهضون لروسيا.
لكن منذ عام 2014، تحولت أوكرانيا إلى نموذج الدولة القومية بلا رجعة، وقطعت طريقا طويلا نحو التكامل مع الغرب، وصل إلى حد إعفاء المواطنين الأوكرانيين من التأشيرات للسفر إلى الاتحاد الأوروبي.
الصورة
السيل الشمالي منصات
الغاز الروسي في قلب “حرب اقتصادية” (Getty)
في المقابل، تدهورت العلاقات مع روسيا إلى حد تعليق حركة الطيران بين البلدين منذ عام 2015، مع استمرار التعاون في بعض المجالات الحيوية، مثل ترانزيت الغاز الروسي إلى أوروبا. ولذلك، تروج كييف بقوة لتعطيل تشغيل مشروع “السيل الشمالي-2” لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، خوفا من أنه سيساعد روسيا في الالتفاف على أوكرانيا في نقل الغاز، وسيزيد من متاعبها الاقتصادية بعد انتهاء عقد الترانزيت الحالي في عام 2024.
تقارير دولية
اختتام محادثات باريس حول أوكرانيا وجولة جديدة في برلين خلال أسبوعين
كيف بدأت أعمال القتال في منطقة دونباس الواقعة شرقي أوكرانيا؟
بعد انضمام القرم إلى روسيا، دعا النشطاء الموالون لروسيا في دونباس إلى إجراء استفتاء تقرير المصير لحذو حذو القرم، معلنين بشكل أحادي الجانب عن قيام ما يعرف بـ”جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين”، ما أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية في ربيع 2014، والتي راح ضحيتها أكثر من 13 ألف قتيل حتى الآن، وفق أرقام الأمم المتحدة.
هل شكل ضم القرم انتهاكاً لمذكرة بودابست المؤرخة في عام 1994؟
نعم، في نهاية عام 1994، وقعت بريطانيا وروسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا على مذكرة بودابست، التي نصت على ضمان وحدة الأراضي الأوكرانية مقابل تخليها عن ترسانتها النووية الموروثة من الحقبة السوفييتية.
لكن في عام 2014، أجرت روسيا استفتاء تقرير المصير في القرم وضمت شبه الجزيرة إثره، وهي عملية اعتبرتها كييف احتلالا، كما لم تعترف الدول الغربية بشرعيتها. ومع ذلك، تخاذلت لندن وواشنطن عن فرض أي عقوبات جدية على روسيا على خلفية مخالفتها الاتفاق.
لماذا فشل الرئيس الأوكراني زيلينسكي في إحلال السلام في دونباس؟
قبل انتخابه رئيسا، كان زيلينسكي ممثلا كوميديا نال شهرته ببطولته في المسلسل السياسي الساخر “خادم الشعب”، الذي يتناول قصة انتخاب أستاذ تاريخ بسيط ومتواضع يدعى فاسيلي غولوبورودكو رئيسا لأوكرانيا، قبل أن يتحقق هذا السيناريو على أرض الواقع في عام 2019، وسط آمال الأوكرانيين في أن يضع حدا للحرب في دونباس. إلا أنه بعد انتخابه، وجد زيلينسكي نفسه رهينة للتجاذبات السياسية والتيار القومي الراديكالي داخليا، والضغوط الروسية المتزايدة خارجيا، ما يحول دون تحقيق السلام حتى الآن.
ما هي الهوية الثقافية واللغوية للمجتمع الأوكراني؟
تعد أوكرانيا دولة ذات انقسام مجتمعي عميق بين المناطق الغربية التي تعتمد اللغة الأوكرانية وترى مستقبلها مع الاتحاد الأوروبي، والمناطق الشرقية ذات الأغلبية الناطقة بالروسية والتي تدين بالولاء لموسكو. ولهذا السبب تحديدا، وصف المفكر السياسي الأميركي صاموئيل هنتنغتون، في كتابه الشهير “صراع الحضارات”، أوكرانيا بأنها “بلد منقسم ذو ثقافتين مختلفين”.
ما هي سيناريوهات الحرب المحتملة بين روسيا وأوكرانيا؟
وتذهب آخر ترجيحات أجهزة الاستخبارات الغربية إلى أن الجيش الروسي يواصل انتشاره تمهيدا لـ”اجتياح واسع النطاق”.
في هذا الإطار، قال خبير عسكري كبير، لـ”زود دويتشه تسايتونغ”، إن أجهزة الاستخبارات “باتت مقتنعة بأن روسيا استغلت الأسابيع القليلة الماضية لتعزيز قواتها على حدود أوكرانيا وبناء الخيارات العسكرية”.
ونقلت الصحيفة عن خبير عسكري كبير قوله: “نفترض أن أكثر من ثلث القوات البرية الروسية الجاهزة للقتال موجود هناك”.
وقدّر عدد الجنود بحوالي 106 آلاف، من دون أن يشمل هذا العدد أفراد القوات البحرية أو الجوية، ولا حتى القوات المسلحة للانفصاليين الذين تسيطر عليهم موسكو في دونباس.
وأفادت “زود دويتشه تسايتونغ”، نقلا عن أحد عملاء المخابرات، بأنه “إذا ما غزت القوات الروسية كل أوكرانيا، فمن المتوقع حدوث أعظم قتال في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية”.
وذهبت الصحيفة أيضا إلى أنه تتمركز حاليا ما بين 55 و60 كتيبة “بي تي جي”، وهو الاسم الذي يطلق على أصغر وحدة يمكنها القتال بشكل مستقل وتتألف كل واحدة منها مما بين 400 و800 جندي، على بعد أقل من 300 كيلومتر من الحدود الأوكرانية، بالإضافة إلى وحدات الدعم والخدمات اللوجستية.
وتابعت أن ذلك يأتي بعد أن كانت روسيا نشرت، في أوقات سابقة، المدفعية والصواريخ والوحدات القتالية وإمدادات الذخيرة والمستشفيات الميدانية في المكان نفسه، وأرسلت وحدات من الحرس الوطني ووحدات من الاحتياطيين من ذوي الخبرة الشرطية، منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، باتجاه أوكرانيا، وهي ضرورية إذا ما أراد أحد تنفيذ احتلال. علاوة على ذلك، تم نقل كتائب أخرى من المنطقة العسكرية الشرقية نحو الغرب.
من جهة ثانية، ورغم وجود حوالي 190 ألف جندي أوكراني، بينهم 45 ألفا يرتبطون بخط التماس مع الجمهوريات الانفصالية في شرق البلاد، فإن خبراء عسكريين غربيين يعتقدون أن كييف تفتقر إلى نظام دفاع جوي فعال، ولذلك، يمكن للقوات الجوية الروسية أن تستعد لهجوم بري بقصف مكثف، لا سيما أن روسيا ركزت 36 منصة إطلاق صواريخ قصيرة المدى داخل نطاق الأراضي الأوكرانية في شبه جزيرة القرم، ويبلغ مداها 500 كيلومتر.
وأشار تقرير “زود دويتشه” إلى أن نشر القوات يوفر لموسكو عددا من الخيارات العسكرية، والسيناريو الأكثر شمولا هو غزو على ثلاث جبهات، وهو الأخطر.
وتخشى أجهزة الاستخبارات الغربية من نقل المزيد من الجنود إلى منطقتي بيلغورود وكورسك القريبتين من الحدود مع بيلاروسيا.
وبعدما شوهدت، في أوقات سابقة من العام الماضي، تحركات أساسية للقوات الروسية في شرق أوكرانيا، بالقرب من روستوف أون دون وفورونيج، يبدو أن موسكو نقلت أخيرا بطاريات دفاع جوي حديثة من طراز “إس 400” و12 طائرة مقاتلة من نوع “سوخوي إس يو 35″، إلى بيلاروسيا، والهجوم على هذا المحور يمكن أن يستهدف مناطق على طول نهر دنيبر والعاصمة كييف.
ووفق مسؤول عسكري، فإن الجبهة الشمالية التي يتعين على الأوكرانيين الدفاع عنها تمتد فعليا من لوغانسك حتى بولندا، علما أن المناورات المشتركة التي أعلنت روسيا وبيلاروسيا إجراءها في فبراير/شباط المقبل ستشمل القوات الخاصة المناسبة للغزو.
من ناحية الجنوب، الوضع يبدو صعبا على أوكرانيا، حيث يمكن للجنود الروس التقدم نحو أوديسا، وهي إحدى أكبر المدن، وإطلاق عملية برمائية لعزل أوكرانيا تماما عن البحر الأسود. وبذلك، يصبح هذا السيناريو أكثر خطورة، لأن موسكو يمكنها إرسال 6 سفن إنزال من الشرق وبحر الشمال باتجاه البحر الأسود، وهذا لا يستغرق سوى أسابيع قليلة، لا سيما أن الصور تظهر وجودها في عرض البحر ومحملة بالمعدات العسكرية.
ما هي الأسلحة الاقتصادية الغربية في وجه روسيا في حال غزو أوكرانيا؟
أشهر الغرب بعض الأسلحة الاقتصادية التي يعتزم استخدامها ضدّ موسكو إذا ما اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا. إليك أبرزها:
صادرات التكنولوجيا
حذّر مسؤول أميركي رفيع من أنّ بلاده لن تتوانى عن فرض عقوبات قاسية على روسيا في حال غزو أوكرانيا، تشمل قيوداً على صادرات معدّات التكنولوجيا المتقدّمة الأميركية، مطمئناً حلفاء واشنطن الأوروبيين إلى أنّ أيّ استخدام من جانب موسكو لصادراتها من النفط والغاز “سلاحاً” سيأتي بنتائج عكسية.
عقوبات مالية
وبالإضافة إلى العقوبات الاقتصادية، فإنّ الولايات المتّحدة تعتزم فرض عقوبات مالية على روسيا من خلال منعها المصارف الروسية من استخدام الدولار.
ومن شأن قرار مثل هذا أن يسدّد ضربة قاسية جداً لاقتصاد روسيا، لا سيّما أنه منذ مطلع السنة تواجه بورصة موسكو وأسعار صرف الروبل صعوبات بسبب حالة انعدام اليقين هذه.
منظومة “سويفت”
وتوعّد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الثلاثاء، روسيا بعقوبات غربية “أشدّ من أيّ أمر قمنا به من قبل” إذا غزت أوكرانيا، وذلك في أعقاب محادثات مع قادة عدد من الدول الحليفة بشأن تهديدات موسكو.
وقال جونسون: “اتفقنا على أنّنا سنردّ على أيّ هجوم روسي على أوكرانيا بشكل موحّد عبر فرض عقوبات اقتصادية شديدة ومنسّقة، أشدّ من أيّ أمر قمنا به من قبل ضدّ روسيا”.
بدائل عن الغاز الروسي
ولفت مسؤول أميركي إلى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يبحثون في الأسواق العالمية عن مصادر بديلة للطاقة للتخفيف من تداعيات أي نزاع، في وقت تعاني فيه أوروبا في الأساس من ارتفاع أسعار الطاقة بشكل كبير خلال الشتاء.
وشدّد المسؤول الأميركي على أنّ حزمة العقوبات الاقتصادية، التي تعدّها واشنطن للردّ على أيّ غزو روسي لأوكرانيا، ستشمل قيوداً غير مسبوقة على صادرات معدّات التكنولوجيا المتقدمة الأميركية.
هل المواقف الدولية واحدة تجاه أوكرانيا؟
على المستوى الدولي، تتباين المواقف الدولية من أوكرانيا. فالولايات المتحدة مثلا أخذت منذ البداية موقفاً حاداً ضد روسيا، عبر سلسلة من التحذيرات بفرض عقوبات “غير مسبوقة”، وتلويح بعقوبات شخصية على الرئيس فلاديمير بوتين.
من جانبها، تتعامل فرنسا مع القضية الأوكرانية بنبرة حادة تارة، عبر التحذير من “دفع ثمن باهظ”، ونبرة هادئة تارة أخرى، عبر سلسلة من الدعوات للحوار و”خفض حدة التوتر”.
أما الموقف الألماني، فتسوده الضبابية، فمن جهة، رفضت برلين تسليح أوكرانيا، ومن جهة أخرى، دعت إلى ضرورة الحوار مع موسكو، فيما يبدو التوجس الألماني واضحاً من حرب في أوكرانيا وما قد يحققه بوتين على حساب أوروبا.
لكن، وفي موقف أكثر صرامة الخميس، تعهّدت برلين بأن تكون لأي غزو لأوكرانيا “عواقب خطيرة” على روسيا، مشيرة إلى عقوبات قد تستهدف خط أنابيب “نورد ستريم 2” المخصص لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا.
في المقابل، يبدو الموقف الصيني واضحاً من القضية الأوكرانية كما هو الموقف الأميركي، لكن على النقيض تماماً، حيث تساند بكين روسيا وتدعو إلى أخذ “المخاوف الأمنية المنطقية لروسيا على محمل الجد وتسويتها”.
بدورها، تلعب تركيا دوراً حيادياً في هذه الأزمة على اعتبار علاقاتها الجيدة مع الطرفين، حيث قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أخيراً، إنه دعا الرئيس الروسي بوتين إلى تركيا في إطار اقتراح لاستضافة الجانبين لاعتماد طريق الدبلوماسية والسلام.
——————————–
هل تتحمل أوروبا تداعيات عقوبات قاسية على روسيا؟
التدابير الغربية بحق موسكو قد تضر بجيرانها أكثر مما تفعل بالولايات المتحدة
يرى محللون أن معاقبة خصم في الجهة الأخرى من العالم أسهل دائماً من معاقبة جار، مشيرين إلى أن ما يمكن أن تخسره أوروبا عبر فرض عقوبات على روسيا في الملف الأوكراني، أكبر من خسارة حليفها الأميركي.
ويقول مدير معهد “بروغل” غونترام وولف لوكالة الصحافة الفرنسية، “من الواضح أن أوروبا تعرّض نفسها (لخسائر) أكثر من الولايات المتحدة، لأن القرب الجغرافي يقترن بروابط اقتصادية وأمنية وثيقة”.
وعلى الرغم من فرض عقوبات أوروبية بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، لا تزال موسكو خامس أكبر سوق تصديرية بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، مع صادرات بقيمة 81.5 مليار يورو (91.92 مليار دولار) من يناير (كانون الثاني) حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2021.
وهي أيضاً ثالث أكبر مورّد للقارة العجوز بعد الصين والولايات المتحدة، بحسب هيئة “يوروستات” الأوروبية للإحصاءات، وبلغت قيمة الواردات الروسية 142 مليار يورو (160 مليار دولار) في الأشهر الـ11 الأولى من العام الماضي.
وأقرّت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، في مؤتمر خلال منتدى الاقتصاد العالمي في 20 يناير الحالي، بأن “هذه العلاقة التجارية مهمة بالنسبة إلينا”، وجاء تصريحها في سياق تصاعد التوترات بين الغرب وروسيا وفي وقت أطلقت موسكو مناورات عسكرية على الحدود مع أوكرانيا، إلا أن فون دير لاين أضافت أن هذه العلاقة “مهمة أكثر بالنسبة إلى روسيا”. فالاتحاد الأوروبي هو أول مستثمر لديها.
إمدادات الغاز إلى أوروبا
ويرى المحامي المتخصص في العقوبات الاقتصادية أوليفييه دورغان أن “هامش المناورة ليس نفسه إطلاقاً بالنسبة إلى أوروبا” مقارنةً بالولايات المتحدة، مشيراً إلى وجود خطر “معاقبة نفسها”.
وأبرز مثال على ذلك هو المحروقات التي قد تكون أحد المجالات المستهدفة بالعقوبات على موسكو في حال غامر الرئيس فلاديمير بوتين وقرّر غزو أوكرانيا، وذلك في ظل ارتفاع الأسعار في خضم موسم الشتاء.
ويمثّل الغاز الروسي أكثر من 40 في المئة من واردات الغاز الأوروبية، وقد يؤدي نضوبه جراء عقوبات غربية أو إجراءات مضادة روسية، إلى زيادة أكبر في تعرفة الطاقة لملايين الأسر.
ويشير وولف إلى أن “هناك احتياطات” لكنها لا تؤمّن الحاجات سوى “لبضعة أسابيع”. واعتبر أن “الاحتياطات ستنفد وسيكون إذاً من الصعب جداً تعويض واردات الغاز الروسي بنسبة 100 في المئة بغاز من قطر أو من دول منتجة أخرى”.
غير أن مسؤولاً كبيراً في البيت الأبيض أكد أن الدول الغربية اتخذت تدابير لحماية إمدادات أوروبا بالغاز الطبيعي.
ويستقبل الرئيس الأميركي جو بايدن، الإثنين 31 يناير، أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في واشنطن، وجاء في بيان للبيت الأبيض أن اللقاء سيتناول الأمن في منطقة الشرق الأوسط و”تأمين استقرار الإمدادات العالمية للطاقة”.
وتملك قطر، حليف واشنطن الوثيق، احتياطات ضخمة من الغاز، وتُعدّ أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم.
القطاع المالي
الملف الثاني الكبير هو ملف القطاع المالي الروسي، فقد تمنع الولايات المتحدة موسكو من إجراء معاملاتها المالية بالدولار، أبرز عملة في المبادلات التجارية، أو استبعادها عن نظام “سويفت” الأساسي للتعاملات المصرفية العالمية، الذي يضم 300 مصرف ومؤسسة روسية.
وستتأثر كثيراً الشركات التي تتعامل مع موسكو، إلا أن ألمانيا، التي تقيم روابط اقتصادية قوية مع روسيا، أبدت معارضتها لاستبعادها عن “سويفت”، بحسب مصدر دبلوماسي أوروبي.
ويرى دورغان أنه من الممكن تبنّي مقاربة أكثر دقة خلال المفاوضات بين الدول الغربية، لعدم تعريض شركات أوروبية لاضطرابات اقتصادية كبيرة، ويشير إلى أنه “بدلاً من معاقبة المصارف الروسية”، ربما تُفرض عقوبات على “الدوائر الأكثر قرباً من فلاديمير بوتين، قد لا يُمسّ بقطاع الغاز المهم جداً بالنسبة إلى أوروبا، إنما بقطاع النفط أولاً”، لافتاً إلى ضرورة أن تكون العقوبات أقسى من تلك التي فُرضت عام 2014، ويتابع، “في حال قررت الولايات المتحدة أن تتصرف أحادياً، فإن تأثير العقوبات الاقتصادية الأميركية خارج حدودها، قوي جداً إلى درجة أن الجهات الفاعلة الكبيرة في الاتحاد الأوروبي، سواء كانت مصرفية أو نفطية، ستجد نفسها مضطرة إلى الامتثال”.
غير أن كبير الخبراء الاقتصاديين لمنطقة أوروبا في شركة “كابيتال إيكونوميكس” للدراسات أندرو كينينغهام، يرى أن ذلك لا يكفي لزعزعة الاستقرار الاقتصادي الأوروبي، واصفاً تأثير العقوبات في منطقة اليورو بأنه “ضعيف وقصير نسبياً”، مقارنة بالمخاطر المرتبطة بأزمة وباء “كوفيد-19”.
—————————
جديد المحتل الروسي في سوريا/ بكر صدقي
في الوقت الذي يصارع فيه النازحون في مخيمات الشمال الظروف المناخية القاسية، يسعى سوريو مناطق سيطرة النظام الكيماوي للبقاء على قيد الحياة في غياب أبسط شروط الحياة الطبيعية. وفي حين تستمر معركة سجن غويران في الحسكة بين قوات قسد ومقاتلي داعش، تواصل مجموعاتهم الصحراوية شن هجماتها المتفرقة ضد قوات النظام. وفي خلفية كل ذلك تكاد تغيب الأرقام والمعطيات المتعلقة بوباء كورونا في مختلف المناطق أو الدويلات السورية، فلا أحد يهتم بها أمام جسامة الشروط الحياتية الأخرى بدءًا من الجوع والبرد وصولاً إلى غياب الخدمات الأساسية.
يتصرف المحتل الروسي وكأنه غير معني بكل ما ذكر أعلاه، ولن نتحدث عن عميله الأسدي في هذا السياق، فلديه أعمال أكثر أهمية ينشغل بها كالاستمرار في قتل المعتقلين واعتقال المزيد منهم، والاستيلاء على ممتلكات «الغائبين» (هذا تعبير إسرائيلي بخصوص ممتلكات من نزحوا من الفلسطينيين، يناسب هذا المقام) واستقبال وفود إيرانية وفلسطينية، وتصدير المخدرات إلى الدول الشقيقة والصديقة والمعادية جميعاً، وغيرها من الأعمال التي اختص بها. كذلك لن نتحدث عن الاستيطان الإيراني الذي لا يعتبر نفسه احتلالاً لتمكن مطالبته بمسؤوليات الدول التي تحتل أراضي غيرها من الدول.
فالمحتل الروسي هو الذي تنطبق عليه صفة الاحتلال الاستعماري بمعناه التقليدي، لكنه أيضاً الوحيد الذي يكتفي من «مسؤوليات المحتل» بالبطش والقتل والتدمير. حتى قواعده العسكرية في سوريا لم يقم ببنائها، بل استولى عليها جاهزة ثم أدخل عليها بعض التعديلات، غالباً بالتوسع في المساحة على حساب أراض مجاورة. هذه حال قاعدة حميميم الجوية قرب مدينة اللاذقية التي تشكل «عاصمة» قوة الاحتلال في سوريا، وميناء طرطوس الذي أصبح مركزاً للقوات البحرية الروسية في سوريا، إضافة إلى مطارات ومواقع عديدة منتشرة في مختلف المناطق السورية.
جديد المحتل الروسي هو طلائع سيطرته على ميناء اللاذقية، أكبر ميناء تجاري سوري على شاطئ البحر، بل البوابة التجارية البحرية شبه الوحيدة على العالم. فقد تحدثت الأخبار عن تسيير دوريات مشتركة روسية – أسدية في حرم الميناء، وطرد قوات الفرقة الرابعة التي كانت هي المسيطرة سابقاً. هذا الدخول العسكري الروسي إلى الميناء سيكون بمثابة فيتو روسي على أي هجمات عسكرية إسرائيلية جديدة، بعد هجمتين متتاليتين على رصيف الحاويات في شهر كانون الأول الماضي، شكلتا سابقة في الحرب الإسرائيلية على إيران في سوريا. يمكن الافتراض، بناءً على المؤشرات المتوفرة، أن روسيا أقنعت إسرائيل بالكف عن شن المزيد من الهجمات على الميناء مقابل التعهد بعدم استخدامه لنقل الأسلحة والعتاد الإيرانيين إلى لبنان أو المناطق السورية. من هذا المنظور يشكل الوجود العسكري الروسي ردعاً لإيران أكثر مما هو ردع لإسرائيل، فبين روسيا وإسرائيل علاقات تفاهم، بشأن سوريا وغيرها من المواضيع، لا تحتاج إلى توكيدها بصورة عملية، في حين أن العلاقة الروسية – الإيرانية أكثر تعقيداً من امكان اختزالها إلى تحالف سياسي – عسكري عادي بشأن سوريا، فثمة أمور غير قابلة للتفاهم بينهما، تحتاج إلى نوع من الدوس على الذيل لإقناع الحليف/ المنافس.
لو اقتصر الجديد الروسي في سوريا على السيطرة الأمنية على ميناء اللاذقية، لكان من السهل فهمه بسبب أهمية الميناء الحيوية سواء بالنسبة للنظام الكيماوي أو لروسيا، وضرورة تحييده عن الصراع الإسرائيلي – الإيراني في سوريا. لكن خبراً آخر تحدث هذه المرة عن دوريات جوية مشتركة روسية – أسدية قرب الجولان المحتل، أي على الحدود مع إسرائيل! وفوق ذلك قالت المصادر الروسية إن هذه الدوريات ستتكرر وتشمل مختلف المناطق في الأجواء السورية!
نعم، هذا جديد حقاً.
إذا استمرت هذه الدوريات الجوية فعلاً في الأجواء السورية في الفترة المقبلة، كما أعلنت القيادة الروسية في قاعدة حميميم، فمن شأن ذلك أن يشكل نوعاً من حظر جوي روسي في وجه الطيران الإسرائيلي والصواريخ الإسرائيلية التي دأبت على ضرب المواقع الإيرانية على الأراضي السورية طوال العقد الماضي.
هل يعني ذلك حماية جوية روسية للمواقع والميليشيات الإيرانية في سوريا، مع المجازفة بتدهور علاقات موسكو مع تل أبيب؟
قد يكمن الجواب على هذه الأسئلة في التوتر المتصاعد بين موسكو وواشنطن بخصوص أوكرانيا. من المحتمل أن الرئيس الروسي بوتين يعزز تحالفاته مع إيران (والصين) في مواجهة ما يعتبرها استفزازات من واشنطن والحلف الأطلسي في «حديقتها الخلفية» أوكرانيا. وهو ما يقتضي، في «التفصيل السوري»، حماية إيران من الضربات الجوية الإسرائيلية المتواصلة، وقد يكون ضمن سلة التوافقات ضمان عدم استهداف إسرائيل بأي هجمات إيرانية، وهذا ليس بالأمر الصعب.
كذلك من شأن تأمين حماية روسية للأهداف الإيرانية من هجمات إسرائيل أن تقوي موقف إيران في مفاوضات فيينا التي تريد لها طهران أن تقتصر على الملف النووي وحده فلا تشمل نزعتها التوسعية في الجوار العربي.
أما أحوال السوريين في مختلف المناطق، وبخاصة في المخيمات والمعتقلات الأسدية، فهي خارج اهتمامات روسيا وسائر الدول الفاعلة.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————–
فورين أفيرز: عقيدة بوتين تقوم على مبدأ حق روسيا في مجالها الأمني والتخلص من تبعات ما بعد الحرب الباردة
إبراهيم درويش
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالا لأنجيلا ستينت، الزميلة غير المقيمة البارزة في معهد بروكينغز، ومؤلفة كتاب “عالم بوتين: روسيا ضد الغرب والبقية”، قدمت فيه ملامح عقيدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والتي ترى أنها قائمة على مبدأ تأمين المجال الأمني لروسيا ومحاولته دفع الغرب التعامل مع بلاده وكأنها لا تزال الاتحاد السوفييتي السابق.
وقالت ستينت، وهي ضابطة سابقة في مجلس الأمن القومي في ملف روسيا ويوريشيا، إن الأزمة الحالية بين روسيا وأوكرانيا هي حساب لم تتم تصفيته منذ 30 عاما. وهي ليست عن أوكرانيا تحديدا وإمكانية انضمامها لحلف الناتو، بل هي عن مستقبل النظام الأوروبي الذي تم رسمه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
ففي فترة التسعينات من القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتصميم معمار الأمن الأوروبي- الأطلنطي لم يكن لروسيا فيه أي التزام ولا حصة. ومنذ وصول بوتين إلى السلطة كان همه الأكبر هو تحدي ذلك النظام. ولم يتوقف بوتين عن الشكوى من عدم احترام النظام الدولي لمظاهر قلق روسيا الأمنية. وطالب الغرب باحترام حق روسيا في مجالها من المصالح الخاصة في مجال الاتحاد السوفييتي السابق. وقام بتوغل في الدول الجارة مثل جورجيا لمنع تحركها خارج الفلك الروسي والوقوف أمام أي عملية ميل كامل نحو الغرب.
ونقل بوتين نهجه الآن خطوة أبعد، فهو يهدد بغزو شامل لأوكرانيا وليس مثلما فعل عندما ضم شبه جزيرة القرم والتدخل في دونباس عام 2014. وهو غزو لو حدث فسيضعف النظام الحالي ويعيد تأكيد تفوق روسيا فيما تؤكد أنه “حقها” في القارة الأوروبية والمسرح العالمي.
ويعتقد بوتين أن الفرصة سانحة لعمل هذا، فالولايات المتحدة ضعيفة ومنقسمة وغير قادرة على تبني استراتيجية في السياسة الخارجية متماسكة. ومنحته تجربته الطويلة في الحكم فرصة للتعامل والنظر مع أمريكا بطريقة ساخرة، فهو يتعامل مع خامس رئيس أمريكي وتوصل إلى رؤية أن واشطن محاور لا يمكن الوثوق به. أما المستشار الألماني فهو جديد في منصبه ولا يزال يتلمس خطواته، في وقت تنشغل فيه أوروبا بالتحديات المحلية. كما ويعطي السوق الضيق للطاقة روسيا نفوذا في القارة.
ويعتقد الكرملين أنه يستطيع التعويل على الصين كما عول على دعمها عام 2014 عندما حاول الغرب عزل روسيا. وربما قرر بوتين عدم الغزو، وسواء فعل ام لم يفعل، فإن سلوك الرئيس الروسي تدفعه مبادئ متداخلة في السياسة الخارجية وتقترح أن موسكو ستظل عاملا مخربا أو مثيرا للمشاكل ولسنوات قادمة.
والعنصر الجوهري فيما يمكن تسميتها “عقيدة بوتين” هو دفع الغرب للتعامل مع روسيا كما وأنها لا تزال الاتحاد السوفييتي السابق، قوة يجب احترامها والخوف منها وتتمتع بحقوق خاصة في جوارها ولها رأي في كل مشكلة عالمية جادة.
وتؤكد هذه العقيدة على أن هناك عددا قليلا من الدول لها الحق بهذه السلطة إلى جانب السيادة الكاملة وأن على الآخرين الانصياع لمطالبها. وتقتضي الدفاع عن الأنظمة القائمة وإضعاف الديمقراطيات. وترتبط العقيدة بهدف بوتين الأعلى وهو عكس تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي وتقسم حلف الناتو والتفاوض على تسوية جديدة غير تلك التي أنهت الحرب الباردة.
وبحسب بوتين، فلروسيا الحق بمقعد في كل القرارات الدولية. ويجب على الغرب الاعتراف بأن روسيا تمت إلى مجلس المدراء العالميين. وبعد ما يصوره بوتين الإهانة التي تعرضت لها روسيا في التسعينات من القرن الماضي عندما أجبرت روسيا الضعيفة على القبول بالأجندة التي وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون والتي حققت هدفها. وحتى بعد طرد روسيا من مجموعة الدول الثماني بعد ضمها للقرم إلا أن حق الفيتو في مجلس الأمن ودورها في الطاقة والذرة والقوة العظمى الجغرافية يعطي روسيا حق استماع بقية العالم لها وأخذ ما تقوله بعين الاعتبار. وأعادت روسيا بناء قدراتها العسكرية بعد حرب جورجيا عام 2008، وهي الآن قوة إقليمية لا تضاهى.
وقدرة روسيا على تهديد جيرانها يعطيها القدرة لإجبار الغرب إلى طاولة المفاوضات، كما هو واضح في الأسابيع الماضية. وما يهم بوتين أن استخدام القوة مناسب طالما اعتقدت روسيا أن أمنها في خطر: فمصالح روسية مشروعة مثل مصالح الغرب ويؤكد بوتين أن الغرب والولايات المتحدة الأمريكية لا تحترم مصالح بلاده. وقد رفضت أمريكا والغرب المظلومية التي يتمسك بها الكرملين والتي تتركز على انهيار الاتحاد السوفييتي ومحاولة فصل أوكرانيا عن روسيا.
وعندما وصف بوتين ما حدث للمنظومة السوفييتية بأنها “أعظم كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين، فقد كان يتحسر على 25 مليون روسي وجدوا أنفسهم خارج الفيدرالية الروسية و 12 مليون روسي في أوكرانيا الجديدة. وكما كتب رسالة صغيرة من 5 آلاف كلمة نشرها الصيف الماضي “عن الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين” قال فيها إنه في عام 1991 “وجد الناس أنفسهم بليلة وضحاها في الخارج، وأخرجوا هذه المرة من أرضهم التاريخية الأم”. ووزعت رسالته هذه على القوات الروسية.
ويرتبط بسرد الخسارة فكرة تظل هوسا لبوتين وهي أن الناتو لا يحاول دعم أو ضم دول الاتحاد السوفييتي فقط ولكنه سيهدد روسيا نفسها. ويؤكد الكرملين أن هذه الانشغالات تقوم على قلق حقيقي. فقد غزا الغرب في الماضي روسيا. ففي أثناء الحرب الأهلية ما بين 1917- 1922 قامت القوات المتحالفة والمعادية للبلشفيك بغزوها، بما فيها قوات أمريكية. وغزتها ألمانيا مرتين مما تسبب بخسارة 26 مليون مواطن سوفييتي في الحرب العالمية الثانية.
وربط بوتين بشكل واضح ما بين هذا التاريخ وبين مظاهر القلق الروسية بشأن اقتراب البنى التحتية للناتو من حدود روسيا ومطالب موسكو بضمانات لأمنها. لكن روسيا اليوم هي قوة عظمى نووية لديها صواريخ عابرة للصوت. ولا توجد دولة – وعلى الأقل جاراتها الصغيرة – تفكر بغزو روسيا. وبالتأكيد فجيران روسيا إلى الغرب لديهم سرد مختلف ويخشون من غزو روسي. كما أن الولايات المتحدة لن تقوم أبدا بالهجوم مع أن بوتين يتهمها بالرغبة في اقتطاع “قطعة من كعكتنا”.
ورغم ذلك ومن ناحية أخرى فالتركيز على المخاطر التي تتعرض لها روسيا واضحة في خطاب الإعلام الموالي للحكومة حيث يناقش هذا أن أوكرانيا ستتحول إلى نقطة انطلاق لهجوم الناتو على الأراضي الروسية. ويؤمن بوتين بحق أن يكون لبلاده مجالها من التأثير. وهذا يعني أن دول ما بعد الاتحاد السوفييتي الجارة لا يحق لها الانضمام إلى أية تحالفات تعتبر معادية لروسيا، تحديدا الناتو والاتحاد الأوروبي. وكان هذا الطلب واضحا من بوتين في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في كانون الأول/ديسمبر، والذي يطلب من أوكرانيا وبقية الدول السابقة في الاتحاد السوفييتي وكذلك السويد وفنلندا الالتزام بالحيادية وتجنب البحث عن العضوية في الناتو. وعلى الحلف التراجع عن الموقف العسكري في عام 1997، قبل أن يقوم بتوسيع العضوية وسحب كل القوات والمعدات العسكرية من وسط وشرق أوروبا، كل هذا سيعيد الوجود العسكري للناتو إلى الوضع الذي كان أثناء الاتحاد السوفييتي.
وتريد موسكو أن يكون لديها قوة فيتو في أمور السياسة الخارجية للدول غير الأعضاء في الناتو، وهو ما يعني قيادة أنظمة موالية لموسكو في الدول المحيطة بروسيا بما فيها أوكرانيا. وحتى هذا الوقت لا توجد حكومة غربية مستعدة لقبول هذه المطالب غير العادية. فالولايات المتحدة وأوروبا لا تزال متمسكة بالفرضية التي تقول إن الدول حرة في تحديد أنظمتها الداخلية وولاءتها الخارجية. وظل الاتحاد السوفييتي يدير السياسة المحلية والخارجية للكتلة الشرقية وحلف وارسو ما بين 1945-1989 عبر الأحزاب الشيوعية المحلية والشرطة السرية والجيش الأحمر. وعندما انحرفت دولة عن هذا المسار، كما في حالة هنغاريا عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968 تم التخلص من قادتها بالقوة. وكان محور وارسو مجموعة لديها سجل استثنائي بأنه كان يغزو الدول الأعضاء فيه. وعلى ما يبدو فتعريف الكرملين الحديث للسياسة يوازي تعريف الاتحاد السوفييتي السابق لها. وهو يؤمن بفكرة جورج أورويل بمزرعة الحيوانات أن هناك دول لديها سيادة أعلى من دول أخرى. ويرى بوتين أن الدول الأخرى التي تتمتع بسيادة كاملة هي الصين والهند وروسيا والولايات المتحدة، ولها بالتالي الحق في اختيار التحالفات التي تريد الانضمام إليها أو ترفضها. فدول مثل أوكرانيا وجورجيا هي دول منقوصة السيادة وعليها اتباع ما تفرضه روسيا عليها، تماما مثل أمريكا الوسطى واللاتينية التي تتبع كلمة جيرانها في الشمال.
ولا تبحث روسيا عن أحلاف بناء على الرؤية الغربية ولكنها تريد علاقات متبادلة وتشاركية تعاقدية مع الصين مثلا التي لا تقيد حرية روسيا أو تحكم عليها بسبب سياساتها الداخلية. وتعتبر المبادئ الديكتاتورية جزءا مهما في عقيدة بوتين. فالرئيس يقدم روسيا كقوة تصحيحية داعمة للوضع القائم والقيم المحافظة وكلاعب دولي يحترم الزعماء الراسخين وبخاصة المستبدين. وكما أظهرت الأحداث الأخيرة في بيلاروسيا وكازخستان، فإن روسيا هي القوة التي يطلب منها الدعم لحماية الزعماء الديكتاتوريين المحاصرين. فقد دعمت المستبدين في الجوار وبعيدا عنه في ليبيا وسوريا وفنزويلا. أما الغرب فيدعم كما يرى بوتين الفوضى وتغيير الأنظمة كما في العراق عام 2003 والربيع العربي عام 2011. ولكن روسيا في “مجالها من المصالح المميزة” تستطيع التدخل عندما تتعرض مصالحها للخطر أو تريد تعزيزها كما في ضم القرم واجتياح جورجيا وأوكرانيا.
ونجحت محاولات الكرملين في تقديم نفسه كداعم للرجال الأقوياء في السنوات الماضية، وأرسل المرتزقة إلى مناطق في العالم كما في حالة أوكرانيا. ولا يعتبر التدخل التصحيحي منحصرا في مجالها الخاص، فروسيا بوتين ترى أن مصالحها في وضع جيد عندما يكون التحالف الأطلسي ممزقا. فقد دعم بوتين المتشككين من الاتحاد الاوروبي وقوى من اليمين الشعبوي على جانبي الأطلسي، كما وتدخل في الانتخابات.
وواحد من أهم أهداف بوتين هو إجبار الولايات المتحدة على التراجع من أوروبا. وكان دونالد ترامب ينظر باحتقار للناتو ورفض حلفاء أمريكا الغربيين وبخاصة المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل وتحدث بشكل مفتوح عن الخروج من الناتو. وحاول جو بايدن إصلاح الضرر الذي أحدثه ترامب ومن هنا قام بوتين بتصنيع أزمة ادت لوحدة الناتو. ولكن هناك شكوك في أوروبا حول ديمومة الدعم الأمريكي بعد عام 2024 وهو ما منح روسيا نجاحا في تقوية الشك وبخاصة عبر منصات التواصل. ولو نجح بوتين في تفكيك حلف الناتو فسيحقق هدفه النهائي بالتخلص من نظام ما بعد الحرب الباردة الليبرالي والقائم على قواعد النظام الدولي والذي دعمته أوروبا واليابان والولايات المتحدة مقابل نظام مطواع لروسيا. وقد يشبه النظام هذا منظومة القوة في القرن التاسع عشر أو معاهدة يالطا التي قسمت فيها الصين وروسيا والولايات المتحدة العالم إلى ثلاثة مجالات للتأثير. وعزز التقارب الروسي مع الصين فكرة البحث عن نظام بديل عن النظام الغربي.
وتطالب روسيا والصين بنظام جديد تمارسان فيه تأثيرا وبعالم متعدد الأقطاب. ودعت أنظمة القرن التاسع عشر والعشرين لمجموعة من القواعد، ففي أثناء الحرب الباردة احترم الاتحاد السوفييتي وأمريكا مجال تأثير كل منهما. وتم نزع فتيل أهم وأخطر أزمتين في ذلك العهد، وهو إنذار برلين النهائي لنيكيتا خرتشوف عام 1958 وأزمة الصواريخ الكوبية 1962 قبل أن تندلع الحرب. ولكن نظام بوتين لما بعد الغرب سيكون بدون قواعد للعبة. وتقوم طريقة بوتين في بحثه عن نظامه على خلخلة ميزان الغرب وتركه في حالة تكهن مستمرة ومفاجأته بأعمال. وبناء على هدف بوتين النهائي، ومحاولته لخلق نظام يحمي فيه مصالح روسيا، فالسؤال عن طريقة ردعه من غزو أوكرانيا. ولا أحد يعرف متى وكيف سيتصرف، في ظل سرده القائم على الشكوى من تجاهل الغرب مجال بلاده الخاص ولأكثر من 3 عقود. وهو مصر على تأكيد حقوق روسيا والحد من سيادة الجيران وتلك التي كانت عضوا في محور وارسو وإجبار الغرب على القبول بهذه القيود- بالدبلوماسية أو الحرب.
كل هذا لا يعني أن الغرب عاجز عن الرد، فعلى الولايات المتحدة مواصلة الدبلوماسية وتقديم تسوية تحمي فيها سيادة شركائها وحلفائها. وعليها العمل مع أوروبا على فرض ثمن باهظ حالة نفذ بوتين وعيده بالغزو. ومن الواضح أنه لو تجنبت أوروبا الحرب فلا عودة إلى وضع ما قبل حشد روسيا قواتها في آذار/مارس 2021. والنتيجة النهائية لهذه الأزمة هي عملية تعديل ثالثة للأمن الأوروبي- الأطلسي ومنذ أربعينيات القرن العشرين. وجاءت إعادة التنظيم الأولى بتقوية نظام يالطا إلى كتلتين متنافستين في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. أما التنظيم الثاني فقد ظهر في 1989 و 1991 بانهيار الكتلة الشيوعية والاتحاد السوفييتي نفسه وتبع ذلك محاولات الغرب خلق أوروبا “كاملة وحرة”، وهو ما يتحداه بوتين اليوم بتهديده لأوكرانيا. وفي الوقت الذي تراقب فيه أمريكا وحلفاؤها الحركة القادمة لبوتين ومحاولة ردعه بالعقوبات فعليها ومن معها فهمه وأهدافه النهائية. والأزمة الحالية هي عن محاولات روسيا إعادة رسم خريطة ما بعد الحرب الباردة وتأكيد سلطتها على نصف أوروبا بذريعة أن هذا ضامن لأمنها. ويمكن تجنب الحرب لكن طالما ظل بوتين في الحكم فستبقى عقيدته قائمة.
القدس العربي
——————————-
توتر روسيا والغرب: الخيبة من مضمون الرد على الضمانات لا تنهي المفاوضات/ سامر إلياس
أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الخميس، أن الرد الأميركي على مشروع معاهدة الضمانات الأمنية “لم يتضمن إشارات إيجابية” بشأن القضايا الأساسية التي عرضتها بلاده، لكنه لم يغلق الباب أمام التفاوض.
ومن جانبه، أشار الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إلى أنه “ليس هناك دواعٍ كثيرة للتفاؤل”بشأن رد الولايات المتحدة على المبادرة الروسية.
وأوضح بيسكوف أنه “لا يمكن القول إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) راعيا اعتبارات روسيا بشأن الضمانات الأمنية في ردهما على هذه المقترحات، أو أظهرا استعداداً لأخذ مباعث قلق موسكو في عين الاعتبار”. ودعا إلى “عدم الاستعجال وانتظار تحليل الرد” الذي اطّلع عليه الرئيس فلاديمير بوتين.
وفي إطلالة نادرة على الصحافة، شدد الرئيس السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري ميدفيديف، في تصريحات اليوم الخميس، على أن بلاده لا تسعى للحرب، وأن المفاوضات بشأن الضمانات الأمنية “أفضل سبيل” لحل الأزمة المتصاعدة مع الغرب.
رفض أميركي لإغلاق أبواب حلف شمال الأطلسي أمام أوكرانيا
وكانت الولايات المتحدة رمت الكرة في ملعب روسيا وخيّرتها بين الدبلوماسية ومواصلة التصعيد العسكري.
ولم يكشف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن نص الردّ الأميركي على مشروع معاهدة الضمانات الأمنية الروسية. لكن تصريحاته، مساء أمس الأربعاء، كشفت عن رفض مطلق لطلب إغلاق باب “الناتو” في وجه أوكرانيا، والوجود العسكري في أوروبا الشرقية. وأكد استعداد واشنطن وحلفائها لمختلف السيناريوهات، مع إبقاء الباب مفتوحاً أمام مفاوضات بشأن البنود الأخرى.
وفي إشارة ذات معزى تؤكد على وحدة الموقف على ضفتي الأطلسي، أعلن “الناتو” أنه سلم رد الحلف على اتفاقية الضمانات الأمنية إلى السفارة الروسية في بروكسل. وأوضح مسؤول في الحلف أن “حلف شمال الأطلسي نقل مقترحاته لروسيا بعد ظهر اليوم (أمس الأربعاء)، بالتوازي مع الولايات المتحدة”.
مشروع المعاهدة الروسية للضمانات الأمنية
ومعلوم أن روسيا سلمت، منتصف الشهر الماضي، الجانب الأميركي مشروع معاهدة حول الضمانات الأمنية. وتضمنت ثمانية مطالب روسية، أهمها التعهد بمنع توسع “الناتو” شرقاً، وعدم انضمام دول من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفييتي إلى الحلف.
كما تضمن مشروع المعاهدة عدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفييتية السابقة غير المنتمية إلى الأطلسي، وعدم استخدام البنى التحتية فيها لممارسة أي أنشطة عسكرية، وعدم تطوير التعاون العسكري الثنائي معها.
يضاف إلى ذلك عدم استخدام أراضي دول أخرى لتحضير أو تنفيذ هجوم عسكري على أحد الطرفين، أو اتخاذ أي إجراءات أخرى تخص المصالح الأمنية الجذرية لبعضهما البعض.
كما نصت الوثيقة على ضرورة الامتناع عن نشر قوات وأسلحة في المناطق، التي يرى الجانب الآخر في انتشار هذه الأسلحة والقوات تهديداً لأمنه، ما عدا الانتشار داخل أراضي الدولتين.
كما يتعهد الطرفان، حسب مشروع المعاهدة، بعدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى خارج حدودهما، وفي مناطق داخل أراضيهما يمكن منها ضرب أهداف في أراضي الطرف الآخر. كما يتعهدان بعدم نشر أسلحة نووية خارج حدودهما، ويسحبان ما سبق نشره من هذه الأسلحة في الخارج، مع إزالة كافة البنى التحتية الخاصة بنشر أسلحة نووية خارج حدودهما.
وتضمن المشروع أيضاً، وقف تمدد “الناتو” في أوكرانيا وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق، وإزالة المنشآت العسكرية التي أقامها حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية بعد 1997.
الرد الأميركي لن يكون مرضياً لروسيا
ورغم التزام الطرفين بعدم نشر نص الرد الأميركي كاملاً بناء على طلب من واشنطن، كشفت تصريحات بلينكن، أمس الأربعاء، أن الرد لن يكون مرضياً بالنسبة لروسيا.
وفي مقدمة لعدم إطلاق أي تعهد يمكن البناء عليه، أكد بلينكن أن الجواب الأميركي لا يعد وثيقة مفاوضات رسمية، بل إنه اقتراح، أطلق عليه اسم “مجموعة من الأفكار” لتهدئة الأوضاع حول أوكرانيا.
ويمثل هذا الأمر إشارة واضحة إلى أن واشنطن ترفض في شكل مباشر مناقشة الضمانات الأمنية التي وصفها الوزير الأميركي بـ”المخاوف الروسية”. وشدد على أن “أبواب الناتو مفتوحة وستظل مفتوحة”.
وحدد بلينكن قائمة من المجالات من ضمن المخاوف الروسية التي يمكن التعامل معها، بناء على مبدأ المعاملة بالمثل، ويمكن التفاوض حولها، وهي الحد من التسلح، وزيادة شفافية الأنشطة العسكرية، وتقليل المخاطر.
وفي إشارة إلى عدم نجاح روسيا في “دق إسفين” بين واشنطن وبروكسل وكييف، أكد بلينكن أن بلاده تلقت ردودهم حول المقترحات الروسية، وأدرجتها في ردها الخطي لموسكو.
وفي إطار التأكيد على أن واشنطن لن تتراجع عن دعم أوكرانيا وبلدان شرق أوروبا المتخوفة من غزو روسي، أوضح بلينكن أن بلاده ستواصل تزويد أوكرانيا بالعتاد اللازم، وأنها مستعدة لإرسال مزيد من الجنود إلى شرق أوروبا.
وشدد على أن لدى الولايات المتحدة خيارات كثيرة لمنع أي غزو روسي، منها العقوبات الاقتصادية “باهظة الثمن”. وأكد أن بلاده تواصل البحث مع كبار منتجي الطاقة في العالم حول كيفية تغطية أي نقص في الغاز في حال قررت روسيا قطع الإمدادات.
وخلص بلينكن إلى أن “الكرة في ملعب موسكو، ونحن جاهزون لجميع السيناريوهات”. ولم يستبعد عقد لقاء جديد مع لافروف في الأيام المقبلة لمزيد من المباحثات.
وكشفت مصادر لصحيفة “كوميرسانت” الروسية أن “اللقاء يمكن أن يعقد في جنيف الأسبوع المقبل”.
من جانبه، أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ أن “الناتو” غير مستعد لتقديم أي تنازلات عن مبادئه الأساسية في حق أي دولة باختيار الانضمام إليه.
الرد الأميركي قد يمثل “سلم النزول” لروسيا
ورغم أن الرد الأميركي كان متوقعاً، فإن الرد الروسي يكشف عن خيبة، لكنه قد يمنح موسكو “سلم النزول” بعدم الدخول في حرب مضمونة النتائج عسكرياً، لكن كلفتها الاقتصادية باهظة جداً. وتشي تصريحات ميدفيديف الأخيرة بأن روسيا مستعدة للتفاوض مع الغرب على جميع القضايا.
ولا يستبعد أن توافق موسكو على مزيد من المباحثات والمفاوضات، فهي تدرك أن الضمانات الأمنية التي عرضتها تعني بداية نهاية النظام الذي تحكم في العالم بعد الحرب الباردة، ووضع قواعد جديدة تكون روسيا فيها طرفاً أساسياً على قدر المساواة مع الولايات المتحدة الأميركية.
وربما تسوق موسكو للمفاوضات على أنها جاءت لمناقشة مطالب تعيد روسيا إلى مكانتها العالمية من دون حرب كبرى، نظراً لأن المطالب “التعجيزية” التي طرحتها روسيا عادة ما تعرض على طرف خاسر نتيجة حرب طاحنة.
وفي الوقت ذاته، من غير المتوقع أن يتراجع التصعيد العسكري بشكل فوري، إذ يواصل كل طرف سياسة الضغط القصوى من أجل تثبيت رأيه على طاولة المفاوضات.
وعلى الرغم من بعض الإشارات الإيجابية التي خرجت من باريس، عقب اجتماع مستشاري رؤساء مجموعة “نورماندي” بشأن أوكرانيا، وتأكيدهم الالتزام بوقف إطلاق النار في دونباس، وتوقيع روسيا على الوثيقة للمرة الأولى منذ 2019، طلب حزب “روسيا الموحدة” من بوتين تزويد دونباس بأسلحة متطورة. ويبحث مجلس الدوما (البرلمان) الروسي، الشهر المقبل، الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك المعلنتين من طرف واحد.
ورغم أن الغرب نجح في عملية كسب الوقت، لمنع أو تأخير عملية عسكرية في أوكرانيا، كان يمكن أن تهز صورة الولايات المتحدة كطرف لا يدافع عن حلفائه، وأكدت التزام “الناتو” بسياسة الأبواب المفتوحة، فإن الضغط الروسي من أجل تنفيذ اتفاقات مينسك للتسوية يمكن أن يؤدي في النهاية إلى إغلاق أبواب الحلف في وجه أوكرانيا، نظرا لأن الوضع الخاص للجمهوريتين المنصوص عليه في الاتفاقيات يمنح دونيتسك ولوغانسك الحق في الاعتراض على الانضمام إلى حلف “الناتو”.
العربي الجديد
——————————-
روسيا وأميركا.. الانفجار الكبير أو الاتفاق الشامل/ منير الربيع
من يتابع تاريخ العلاقات الروسية الأميركية، يمكنه بسهولة استشراف أنه لا يمكن للدولتين الذهاب إلى حل الملفات العالقة بينهما وفق طريقة معالجة كل ملف على حدة. غالباً ما تتجمع الملفات كلها لتوضع في سلّة واحدة تشكل عناصر متعددة لإبرام تفاهمات أو صفقات شاملة. إذ تعمل روسيا وأميركا في الأزمات الدولية وفق سياسة الملفات المتعددة، أي كل ملف ينفصل عن الآخر. ويضغطون على بعضهم بعضا في ملفات متعددة. هناك مجموعة أزمات يتم العمل عليها بين الدولتين، وأهمها هي أوكرانيا، والتي يعتبر بوتين أن الأميركيين يضغطون عليه إلى حد بعيد، ملف الدرع الصاروخي وتوسع حلف الناتو، أزمة بيلاروسيا وبولندا، الملف النووي الإيراني، وضع أفغانستان، خطوط النفط والغاز، وغيرها.
تتزاحم هذه الملفات بين الدولتين، فيما العلاقة متوترة بين موسكو وواشنطن في ظل تولي الديمقراطيين للسلطة في أميركا. تتصاعد وتيرة التهديدات الروسية حول غزو أوكرانيا، في حين تكثف واشنطن من تحذيراتها لموسكو من مغبة القيام بأي اجتياح. ملف أوكرانيا له ارتباطاته وانعكاساته على الوضع في الشرق الأوسط، ومن يعود بالذاكرة إلى الخلف يمكنه استعادة أبرز الأسباب التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للدخول إلى سوريا، وهو الخلاف حول توسع حلف الناتو في محيط روسيا وتحديداً في الدول التي كانت سابقاً منضوية في الاتحاد السوفييتي، أو بسبب نشر الدرع الصاروخية.
تضطلع روسيا بأدوار متعددة في المنطقة، لا سيما في ظل الاختلاف الأميركي الخليجي حول ملفات أساسية. تسعى موسكو إلى ترتيب وعقد تفاهمات مع دول الخليج بوابتها الساحة السورية ومحاولة إقناع السعودية في تطبيع العلاقات مع النظام السوري ورئيسه بشار الأسد، كذلك تحاول موسكو إقناع السعودية بالموافقة على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية. إلا أن السعودية لا تزال ترفض ذلك، قبل قيام الأسد بما يجب عليه وخصوصاً ما يتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا.
ينقل بعض الذين التقوا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مؤخراً قوله: “إن الصعوبات كبيرة وهناك تعقيدات متعددة، ولكن يعتقد بوجود بصيص أمل، سواء في فيينا أو في ملفات أخرى، وإدارة بايدن تصر على إنجاز الاتفاق قبل الانتخابات النصفية في أميركا، وإيران تستعجل الوصول إلى اتفاق بسبب التداعيات الاقتصادية الهائلة التي تعانيها طهران. يعتبر الروس أن هناك بوادر إيجابية يمكن المراكمة عليها، وهي أن الحوار السعودي الإيراني سيؤدي حتماً إلى تفاهمات متعددة ربما على المدى المتوسط”.
في المقابل، برزت زيارة المبعوث الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف إلى السعودية حيث التقى الأمير محمد بن سلمان وبعدها إلى سوريا حيث التقى بشار الأسد، بحسب المعلومات فإن لافرنتييف حاول إقناع السعوديين بضرورة تعزيز التواصل مع السوريين كما حاول إقناعهم بالدخول إلى سوريا من بوابة المشاركة في عملية إعادة الإعمار. في حين يركز الروس على وجود تواصل سعودي سوري عبر جهات أمنية متعددة، وموسكو تقود جانباً من هذا التواصل، وتندرج زيارة لافرنتييف في هذا السياق، وروسيا تحاول إدخال الخليج إلى إعادة الإعمار في سوريا، والبدء أولاً بالبنى التحتية. فلا أحد غير الخليج قادر على ذلك. سياسياً لا بد لهذا أن يرتبط بتطورات جديدة على خطّ العلاقات، ولكن القضية السورية ستكون آخر حلقة من حلقات الحل لأن فيها كم كبير من التعقيدات. ولذلك لا مجال لنجاح الجهود في إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية، وسط ضغوط روسية متركزة لتحقيق تلك الخطوة. الدول العربية تطالب بالعودة إلى جنيف واحد وإنجاز الدستور السوري الجديد كخطوة أولى للبحث الجدي في إعادة العلاقات.
هناك قناعة دولية ترتكز على أن لا حلّ لأي أزمة في الشرق الأوسط بدون اتفاق أميركي روسي. وبالتالي كل المنصات التي تهتم بالملف السوري لا يمكنها تحقيق أي خرق بدون توافق روسي أميركي، سواء كان ذلك في جنيف أو في أستانا أو حتى المنصات المتعددة للمعارضة السورية. ثمة قناعة دولية واضحة، تتعلق بانعدام القدرة على إعادة تأهيل الأسد، وفيما هناك مطالب دولية بتحجيم نفوذ إيران، بينما موسكو تعتبر أن إيران دولة إقليمية ولها دورها في المنطقة، فإن ذلك إما يفترض أن يقود إلى استمرار التصعيد مع إيران، أو الاتفاق على صفقة تتعلق بتراجع إيران وتقديم تنازلات. مثل هذا الاتفاق لا يمكن لأحد أن يفرضه سوى الولايات المتحدة الأميركية، إذ إن بوتين يبدي الاستعداد لتقديم المدفوعات الواجبة عليه في سوريا لكنه يريد أن يقبض ثمناً مقابلاً لها في الخارج، وهذا ما لا تزال واشنطن تمانعه. أما موقف دول الخليج حول استعادة الاهتمام أو العلاقة مع دمشق فتنطلق من مرتكزين، المرحلة الانتقالية، وما يمكن لدمشق أن تقدّمه بما يتعلق بتحجيم النفوذ الإيراني.
منير الربيع
تلفزيون سوريا
——————————–
أزمة أوكرانيا وحسابات تركيا المعقدة/ باسل الحاج جاسم
يتصاعد التوتر حول أوكرانيا ويتزايد الحديث عن حروب جديدة بأوروبا، في أزمة هي الأخطر منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، ولا سيما مع عدم توصل مفاوضات روسيا مع أميركا والاتحاد الاوروبي والناتو لأي نتيجة حتى اليوم.
تولي أوكرانيا أهمية كبيرة للتعاون مع تركيا في الصناعات الدفاعية، إذ تعتبرها الشريك الأهم لها في هذا المجال، وتعوّل عليها في عملية انتقال كييف من نظام الجيش السوفياتي السابق إلى معايير تتيح لها الانضمام لحلف شمال الأطلسي، حتى لو لم يكن هناك حتى الآن أي احتمال واضح لخطة عمل العضوية نحو الانضمام إلى التحالف العسكري الأطلسي، حيث أعطت التدريبات والمعدات العسكرية التي قدمتها تركيا لأذربيجان ميزة حاسمة وتغلبت تماماً على القوات الأرمينية بتدريبها وإمداداتها الروسية، خلال حرب قره باغ الثانية أواخر عام 2020.
تتمتع تركيا، العضو في حلف الناتو، بعلاقات وثيقة مع كييف وموسكو، لكنها تعارض السياسات الروسية في سوريا وليبيا، فضلًا عن معارضتها لضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وسيكون لديها الكثير لتخسره في حال اندلاع صدام عسكري بين روسيا وأوكرانيا، وتعرض نفسها اليوم كوسيط بين موسكو وكييف.
في الوقت الذي يستمر سعي أوكرانيا للدخول إلى الهياكل الأوروبية والناتو، وصلت علاقات التعاون العسكري والأمني والاقتصادي بين أوكرانيا وتركيا إلى مستوى إستراتيجي غير مسبوق في تاريخ العلاقات الثنائية، باتت بموجبه تركيا المصدر الرئيس للطائرات المسيّرة بالنسبة للجيش الأوكراني، إضافة إلى مجالات واسعة أخرى للتعاون والتصنيع المشترك.
وتولي أوكرانيا أهمية كبيرة للتعاون مع تركيا في الصناعات الدفاعية، إذ تعتبرها الشريك الأهم لها في هذا المجال، وتعوّل عليها في عملية انتقال كييف من نظام الجيش السوفياتي السابق إلى معايير تتيح لها الانضمام لحلف شمال الأطلسي، حتى لو لم يكن هناك حتى الآن أي احتمال واضح لخطة عمل العضوية نحو الانضمام إلى التحالف العسكري الأطلسي، حيث أعطت التدريبات والمعدات العسكرية، التي قدمتها تركيا لأذربيجان ميزة حاسمة، وتغلبت تماماً على القوات الأرمينية بتدريبها وإمداداتها الروسية، خلال حرب قره باغ الثانية أواخر 2020.
وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 10 أبريل/نيسان 2021، أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن دعم تركيا لوحدة أراضي أوكرانيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا عام 2014، و لم يفت أردوغان التأكيد أن التعاون العسكري مع أوكرانيا غير موجّه إلى دول ثالثة، وأعرب عن اعتقاده بإمكانية حل الأزمة بالوسائل السياسية، وعن دعمه لاتفاقات مينسك.
وبالتزامن مع استمرار التعاون الإستراتيجي مع روسيا في مجموعة متنوعة من القضايا، قدمت تركيا أكثر من مجرد دعم خطابي لأوكرانيا، مما دفع بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى تحذير تركيا وآخرين من “عدم تشجيع الطموحات العسكرية لأوكرانيا”.
ونقلت وسائل إعلام تركية عن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، قوله “موقفنا من شبه جزيرة القرم معروف، لا ينبغي لأحد أن يسيء إلى بيعنا طائرات من دون طيار لأوكرانيا، هذه تجارة”. في الوقت نفسه أشار إلى أن “موسكو تزوّد أطرافا مناهضة لتركيا أو دولاً أخرى بالصواريخ، وأن أنقرة لا تشكك في أفعالها”.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، طورت تركيا وروسيا العلاقات في مختلف المجالات، وكانت التجارة أحد أهم هذه المجالات، فهناك استثمارات ومشاريع تجارية مشتركة حيث بلغ حجم التبادل التجاري نحو 30 مليار دولار عام 2021 ، كما نجحت موسكو في أن تكون شريكًا في جهود تركيا لتنويع مصادر طاقتها من خلال بناء محطة الطاقة النووية “أكويو” لتوليد الطاقة الكهروذرية في تركيا، والذي تنفذه شركة روس أتوم، وتعتمد تركيا بشكل كبير على روسيا في قطاع الغاز الطبيعي، وفي الوقت نفسه ترغب في أن تكون بمثابة مركز دولي للطاقة بين المستهلكين الغربيين، إلى جانب محاولات روسيا إنشاء خطوط أنابيب جديدة لإنتاجها، وكان هذا بمثابة أساس لمشاريع مشتركة بين البلدين، وآخرها مشروع أنابيب ترك ستريم (السيل التركي) وهو خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى كل من تركيا وأوروبا عبر البحر الاسود.
ولعب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوراقه بذكاء شديد عندما شعرت تركيا بالدعم غير الكافي من الغرب أثناء مواجهة التهديدات الدولية والداخلية، بعد إسقاط طائرة روسية من قبل الجيش التركي عام 2015، وخلال الانقلاب الفاشل في تركيا عام 2016، وبينما تردد القادة الغربيون في كلتا الحالتين في التعبير عن دعمهم لأردوغان، رأى بوتين فرصة في محاولة الانقلاب، وكان من بين أول من اتصل بالرئيس التركي بعد الحدث، وشيدت هذه التطورات أساسًا أوسع للتعاون التركي الروسي، فبالإضافة لمصالح سياسة الطاقة ، والاستياء من الغرب، برزت مؤخراً الكيمياء الشخصية بين الرئيسين أردوغان وبوتين.
تطورت العلاقات الى حد حصول تركيا على منظومة الصواريخ الروسية “إس- 400” ومخاطرتها بالخروج من تصنيع الطائرات “إف-35” الأميركية القتالية، وكان قرار الحكومة التركية شراء صواريخ “إس-400” الروسية خطوة أخرى مفيدة للطرفين، وكانت هذه وسيلة لتركيا في التعبير عن خيبة أملها تجاه واشنطن ومحاولة لتحرير نفسها من اعتمادها على المزودين الغربيين في منظومتها الدفاعية. وبالنسبة لبوتين، كانت الصفقة بمثابة ضربة لحلف الناتو، وأدى إدخال السلاح الروسي في النظام العسكري لأحد أعضاء الناتو إلى توترات بين تركيا وحلفائها، وأضعف التماسك الداخلي للتحالف الغربي، واستمر التعاون والتنسيق بين أنقرة وموسكو على الرغم من التضارب في المصالح واختلاف المواقف في ليبيا وسوريا، وتعتمد إمكانية المواجهة أو التعاون بين أنقرة وموسكو في النزاعات الإقليمية على الأولويات الحالية بدلاً من الخصومات السابقة، ولا يتم تحديد شكل ومدى تعاونهما من خلال أي طرف من الصراع يقفان، ولكن من خلال دوافع كل منهما، وتستند العلاقات بين أنقرة وموسكو إلى الاعتراف المتبادل بالمصالح الأمنية.
يبقى القول، في ظل قرع طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا والناتو، تجد تركيا نفسها في وضع لا تحسد عليه، بسبب طبيعة تعقيد علاقاتها مع أطراف النزاع الذي ينذر باشتعال مواجهة في أي لحظة، وقد تكون تركيا الخاسر الأكبر بعد روسيا وأوكرانيا في حال اندلاع أي صدام عسكري، ووقوفها إلى جانب روسيا سيزيد من تعقيد علاقاتها مع حلفائها في الناتو، وإذا اختارت الوقوف ضد روسيا، فهذا سيفقدها الكثير من الأوراق العسكرية والسياسية التي أمنتها لها موسكو ولاسيما في سوريا، بالإضافة لعواقب اقتصادية، وصحيح أن من مصلحة تركيا الوقوف على الحياد في حال اندلاع مواجهة عسكرية بين روسيا وأوكرانيا، ولكن اختيارها موقفا في المنتصف قد يجعلها تخسر كل الأطراف، وانطلاقاً من كل المعطيات أعلاه تبرز أهمية دعوة تركيا الوساطة بين جارتيها موسكو وكييف.
باسل الحاج جاسم
كاتب في شؤون آسيا الوسطى و القوقاز وباحث في العلاقات الروسية – التركية، و مؤلف كتاب كازاخستان و الاستانة السورية
——————————-
========================
تحديث 28 كانون الثاني 2022
——————————
دروس أوكرانيا لمنطقتنا؟/ مهند الحاج علي
ما يحصل على الحدود الروسية الأوكرانية، هو أحد عوارض طبيعة النظام الدولي الجديد، وتلاشي أحادية القطب، ونشوء عالم متعدد الأقطاب وأكثر قابلية للنزاعات. الحشود العسكرية الروسية (مئة ألف جندي وآليات ومقاتلات)، ليست مجرد رسالة، بل هناك تهديد حقيقي بإعادة تكرار عملية غزو القرم وضمها عام 2014. صحيح أن هناك من لم يفقد الأمل باتفاق على حل الأزمة بشكل سلمي، ولو من خلال تراجع موقت ريثما تتبدل الظروف الروسية. إلا أن تأجيل الأزمة لا ينفي وجودها. ليست روسيا مستعدة للقبول بانضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي أو للاتحاد الأوروبي، وبأي انقلاب في موازين القوى. وهو ما يعني بالنسبة للجانب الروسي، نشر صواريخ أميركية وربما قوات على الحدود، بما ينعكس على الأمن القومي وموازين القوى.
بعض الأزمة هو من مقاومة أميركية لفكرة أننا لم ننتقل لعالم متعددة الأقطاب. ذاك أن هناك من يرى في التحالفات الأميركية، إن كان مع أوروبا الغربية أو دول آسيوية تدور في فلك واشنطن، قدرة هائلة تحول مجتمعة دون انهيار أحادية القطب الأميركي. القدرات العسكرية واقتصادات الدول الحليفة لواشنطن في شرق آسيا تفوق مع الولايات المتحدة الاقتصاد الصيني والقوة العسكرية الصينية، أضعافاً. وهذه المقاربة من أهداف السياسة الخارجية للرئيس جو بايدن الذي يرى مواجهة الصين ومن بعدها روسيا، أولوية. واتساع نطاق الأحلاف الأميركية يُحاصر الجانبين الروسي والصيني.
لهذا، تُحذر واشنطن حلفاءها في العالم، وفي منطقتنا تحديداً من عواقب التقارب الاقتصادي مع الصين، على أساس أن هذه العلاقة لن تقتصر على التنمية، بل ستتجاوزها لضمان تمدد بكين سياسياً من خلال ما تُسميه “فخ الدين”.
والمهم أن نتذكر مدى تشابك هذا الصراع مع منطقتنا. على سبيل المثال، هل بإمكاننا فصل المساعدة العسكرية التركية لأوكرانيا وتحديداً توفير الطائرات دون طيار من طراز بيرقدار، من جهة، وبين الأحداث في الشمال السوري، من جهة ثانية؟ بالتأكيد لا. هذه ساحات مترابطة، وأي تبدل للتوازن في احداها، يُترجم تصعيداً على الجانب الآخر. وهذا درك متقدم جداً من الانكشاف أمام الخارج. أن يُصاب سوري مُقيم في إدلب بصاروخ نتيجة تدخل لدولة أجنبية في معركة تحصل على قارة ثانية، مرحلة متقدمة للغاية من الانكشاف أمام التدخلات الخارجية.
لكن هناك انعكاسات أيضاً علينا في حال عدم الحرب أو المواجهة العسكرية، والتوصل الى تسوية بين الجانبين الروسي والأميركي-الأوروبي في أوكرانيا. ذاك أن الولايات المتحدة تُظهر تراجعاً أمام الجانب الروسي، وبالتالي قد تحصل محاولة من موسكو لاعادة التفاوض في أماكن أخرى، ومنها سوريا. وقد يُعطي أي تقدم روسي في أوكرانيا، دفعاً لجهود موسكو للعب دور أكبر أو تحقيق تقدم في ساحات أخرى مكشوفة بالمنطقة. هل نرى حينها محاولة لاقتطاع بعض المناطق من قوات سوريا الديموقراطية في شرق البلاد؟
وهذا واقع لا ينسحب فقط على الساحة الأوكرانية ووضعها بل يتجاوزها في عالم باتت توازناته قيد التشكيل. الموقف الصيني في أوكرانيا لافت. واليوم أيضاً بإمكاننا قراءة المناورات البحرية الصينية-الروسية-الإيرانية بإطار مختلف بعد دخول طهران الى منظمة شنغهاي للتعاون. زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الى موسكو والحديث عن تطور استراتيجي في العلاقات بين البلدين، أيضاً له انعكاسات على الوضع السوري والى حد ما، اللبناني.
وهناك في منطقتنا كذلك وقعٌ لكلام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن عن الانفتاح على الحوار و”فتح مجال للدبلوماسية” وتحذيره من أن “بعض الأميركيين قد يعلقون إذا غزت روسيا أوكرانيا وقد لا نتمكن من التحرك لإخراجهم”. ذاك أن هذا الوهن الأميركي يُوحي لحلفاء واشنطن في المنطقة بأنها لن تحميهم ولن تتدخل في حال تعرضهم لتهديد بالغزو. واليوم بات للوجود العسكري الأميركي في المنطقة، معنى آخر عمّا كان عليه في الثمانينات والتسعينات وصولاً الى نهاية العقد الأول من الألفية الثانية وانطلاقة الربيع العربي. واشنطن ستتخلى عن حلفائها لو تعرضوا لاعتداء، ولا توجد خطوط حمراء، بل التوجه هو غالباً إلى تجنب الانخراط في نزاعات.
في هذا العالم، للوجود العسكري الروسي أو التركي أو ربما الإسرائيلي والإيراني أهمية أكبر. وهذا المنظار سيُعيد تشكيل توازن القوى وخريطة النفوذ والانتشار العسكري في منطقتنا. هي ساحة شديدة التفاعل مع التحولات الدولية مهما كانت بعيدة.
المدن
———————-
الرواية الأميركية للأزمة الأوكرانية:الغزو الروسي في شباط
نفى البيت الأبيض صحة تقرير لشبكة “سي إن إن” قالت فيه إن الرئيس الأميركي جو بايدن حذّر نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي خلال اتصال هاتفي الخميس، من “غزو روسي وشيك” لأوكرانيا.
وقالت المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي الأميركي إميلي هورن في تغريدة: “هذا ليس صحيحاً. قال الرئيس بايدن إن هناك احتمالاً واضحاً أن يغزو الروس أوكرانيا في شباط/فبراير. لقد قال هذا علناً من ذي قبل ونحن نحذر من ذلك منذ شهور. والتقارير عن أي شيء أكثر من ذلك أو مختلفة عنه خاطئة تماماً”.
كذلك نفى المتحدث باسم الرئاسة الأوكرانية سيرغي نيكيفوروف صحة ما تناقلته تقارير إعلامية حول مكالمة بايدن وزيلينسكي. وقال إن المعلومات الصحيحة لا تتضمنها إلا البيانات الرسمية الصادرة عن كييف وواشنطن، وكل ما عدا ذلك تكهنات ومزايدات”.
وكانت “سي إن إن” نقلت عن مسؤول أوكراني كبير أن المكالمة الأخيرة بين بايدن ونظيره الأوكراني “لم تسِر على ما يرام”، بسبب الخلافات بينهما حول “مستويات الخطورة” في ما يتعلق بالهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا.
ووصف المسؤول الأوكراني المكالمة بأنها كانت “طويلة وصريحة”، وقال خلالها بايدن إن هجوماً روسياً قد يكون وشيكاً لكن الرئيس الأوكراني قال إن التهديد من روسيا “لا يزال خطيراً ولكنه غامض وليس من المؤكد أن الهجوم سيحدث”.
وفقاً للمسؤول، لم يوافق بايدن على ما قاله الرئيس الأوكراني وأصرّ على أن الغزو أصبح شبه مؤكد وسيحدث في وقت لاحق من شباط. وأبلغ بايدن زيلينسكي بأن بلاده لن تحصل على المزيد من المساعدات العسكرية، ولا قوات أميركية، أو أنظمة أسلحة متطورة.
وقال المسؤول الأوكراني إن بايدن رفض الدعوات الأوكرانية لفرض عقوبات على روسيا قبل أي غزو، قائلاً إن العقوبات لن تُفرض على موسكو إلا بعد تقدم روسي إلى الأراضي الأوكرانية. وأضاف أن زيلينسكي حثّ نظيره الأمريكي على “التهدئة”، محذراً من التأثير الاقتصادي للذعر وقال أيضاً إن الاستخبارات الأوكرانية ترى التهديد بشكل مختلف عن الدول الأخرى في أوروبا.
وأشار الرئيس الأوكراني إلى انفراجة في المفاوضات مع روسيا في باريس، قائلاً إنه يأمل في الحفاظ على اتفاق وقف إطلاق النار مع المتمردين في شرق أوكرانيا.
البيت الأبيض قدّم روايته للاتصال قائلاً إن بايدن شدد على استعداد بلاده وحلفائها وشركائها للرد بشكل حاسم إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا. كما شدد بايدن على التزام واشنطن بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، وعلى ضرورة إشراكها في أي شيء يخصها.
وأوضح بايدن أنه رغم مغادرة عائلات الدبلوماسيين الأميركيين العاصمة الأوكرانية، فإن سفارة الولايات المتحدة في المدينة لا تزال مفتوحة وتعمل بكامل طاقتها. كما نقل الرئيس الأميركي دعم الولايات المتحدة لجهود حل النزاع في الشرق الأوكراني وفق ما ورد في صيغة نورماندي، معرباً عن أمله في أن يساعد التزام الجانبين مجدداً بشروط وقف إطلاق النار في خفض التوتر ودفع تنفيذ اتفاقيات مينسك.
100 ألف عسكري روسي
في هذا الوقت، قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن روسيا تحشد المزيد من قواتها القتالية قرب حدودها مع أوكرانيا براً وبحراً. وأوضح المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي أن روسيا حشدت في الساعات ال24 الماضية المزيد من القوات القتالية غربي البلاد وفي بيلاروسيا، وهي تحشد قوات برية عند حدود أوكرانيا، وبحرية في البحرين المتوسط والأسود والمحيط الأطلسي.
وفي السياق، أعلنت الولايات المتحدة أنها طلبت عقد جلسة علنية الاثنين، لمجلس الأمن الدولي حول الأزمة في أوكرانيا، بسبب التهديد الذي تشكله روسيا على الأمن والسلم الدوليّين.
الضمانات الأمنية
من جهة ثانية، قال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في مؤتمر صحافي الجمعة، إن المفاوضات مع الغرب بشأن الضمانات الأمنية لم تنتهِ بعد و”لن نسمح لأحد بتجاهل مصالحنا”. وأوضح أن النقاط البناءة في الرد الغربي على “مبادرة الضمانات الأمنية” تعتمد على اقتراحات روسية سابقة.
وأضاف لافروف أن الحرب في أوكرانيا لن تشتعل إذا توقف ذلك على روسيا. وقال: “لا أستبعد وجود أطراف تسعى إلى تأجيج الحرب في جنوب شرقي أوكرانيا، وكييف لا تسيطر على جزء من قواتها”.
واعتبر أن “تبنّي واشنطن حزمة عقوبات جديدة ضد روسيا سيكون بمثابة قطع للعلاقات”. وقال إن “التهديدات الأميركية بطرد السفير الروسي من الولايات المتحدة قبيحة”.
من جهته، قال وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إن بلاده تنتظر رداً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الوثيقة التي تم تسليمها لروسيا، والتي تتضمن ردوداً على مطالب موسكو الأمنية.
وأضاف بلينكن في مقابلة مع إذاعة “أوروبا الحرة”: “سمعت ردوداً متنوعة من أشخاص في روسيا على وثيقتنا، وكذلك الوثيقة التي سلمها حلف الناتو.. لكن الرد المهم هو رد الرئيس الروسي”، وتابع: “وفقا للروس، فإن هذه الوثائق على مكتبه ونتطلع إلى معرفة رده”. وأضاف أن بلاده لا تعرف ما الذي ينوي بوتين فعله في نهاية المطاف، وقال: “أنا أصر على أن الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يخبرك عما سيفعله الكرملين في النهاية هو بوتين”.
وأضاف “لا أعتقد أن أي شخص آخر يعرف لأن ما فعله بوتين في الماضي وما أعتقد أنها الطريقة التي يتعامل بها مع الأمور هي خلق أكبر عدد ممكن من الخيارات”. واعتبر أن “روسيا لديها القدرة بسرعة كبيرة على تشكيل عدد هائل من القوات يمكن أن تشارك في عدوان تقليدي واسع النطاق ضد أوكرانيا من الجنوب، من الشرق، من الشمال، حتى من الغرب، كما أن لديها العديد من الوسائل الأخرى لتعزيز مصالحها في أوكرانيا، بما في ذلك شن هجمات إلكترونية، والتحريض على الانقلابات وعمليات تمويه لخلق استفزازات كمبرر لتنفيذ ما تخطط القيام به “
——————————–
الهستيريا الأوكرانية/ عبد الحليم قنديل
الذي يتابع “حفلة الزار” التي يقيمها ويشيعها الإعلام الغربي، قد يتخيل أن يوم القيامة سيحل غدا، وأن مركز جهنم ربما يكون في أوكرانيا، التي تحشد روسيا على حدودها جيشا بكامل عتاده من مئة ألف جندي، بوسعه احتلال أوكرانيا في عشرين دقيقة، فيما تمد أمريكا وبريطانيا جسورا جوية كثيفة إلى “كييف” عاصمة أوكرانيا، تنقل إليها مئة طن عتاد حربي متطور كل يوم، إضافة لمئات ربما آلاف من المدربين العسكريين، مع سحب الرعايا المدنيين والدبلوماسيين، وتعبئة لحشد 50 ألف جندي من أمريكا وحلف الأطلنطي في شرق أوروبا المجاور لأوكرانيا، وكل ذلك من أجل الضغط على فلاديمير بوتين قيصر الكرملين، وردعه ومنعه من إطلاق رصاصة الجحيم الأولى.
وفيما تبدو موسكو هادئة الأعصاب، ويدير بوتين لعبته الخطرة ببرود لاعب الشطرنج المتمكن، ويمضي وقته بالفرجة على انفلات أعصاب غريمه الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي التقاه واقعيا وافتراضيا لمرات، ونصحه في كل مرة ربما على سبيل النكاية، أن يلتفت إلى أحواله الصحية، فيما تبدو صحة بايدن الثمانيني العمر إلى تدهور مضاف، ولا يتمالك نفسه بسبب استفهام مباغت من مراسل محطة “فوكس نيوز” في البيت الأبيض، سأل الرئيس عن زيادة معدل التضخم وأثره في مستقبله السياسي، ولم يرد بايدن، وإن التقط الميكروفون الحساس همهماته، وهو يشتم مراسل المحطة التلفزيونية الموالية تقليديا لمنافسه اللدود دونالد ترامب، وينعته بالغبي و”ابن…”، ثم نصح المساعدون رئيسهم بلم الموضوع والاعتذار هاتفيا للمراسل ففعل فورا، في واقعة تكشف ضعف اتزان بايدن، الذي تمنى في مؤتمر صحافي قبلها بأيام، أن يكون توغل قوات بوتين محدودا في أوكرانيا، وهو ما أفزع حليف واشنطن في كييف الرئيس اليهودي فولوديمير زيلينسكي، بما دفع بايدن إلى إعادة تصحيح أقواله، وإلى عقد اجتماع عاجل مع مجلس الأمن القومي الأمريكي، ووضع الآلاف من قوات الجيش الأمريكي في حالة تأهب قصوى، وتنظيم اجتماع افتراضي مع قادة فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا وبولندا والاتحاد الأوروبي، وتسريب اتفاقات مع أوروبا على خفض استيراد الغاز الروسي بنسبة 43% والبترول بنسبة 20%، وهي تهديدات أقل كثيرا من عقوبات تهدد بها واشنطن موسكو في حالة غزو أوكرانيا، وتصل إلى الخنق الكامل للاقتصاد الروسى الضعيف نسبيا (1.7 تريليون دولار)، وحظر تصدير التكنولوجيا الإلكترونية المتقدمة إلى روسيا، من ألعاب الفيديو حتى برامج “الحوسبة” وتقنيات الذكاء الاصطناعي، فيما بدت ألمانيا بالذات، وهي صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأكبر، أقل حماسا في التعاطف مع أوكرانيا، وفي التوسع بالعقوبات ضد موسكو، ورفضت توريد أسلحة إلى كييف، وبين موسكو وبرلين خط الغاز الضخم “نورد ستريم ـ 2″، المنافس الأعظم لخط نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا، فيما تتلاعب موسكو بأعصاب الحلفاء عبر الأطلنطي، وتوقف من جانبها تصدير الغاز الروسي ضغطا على الدول الأوروبية، وتقرر إجراء مناورات بحرية بالقرب من شواطئ أيرلندا، وكأنها تريد نقل التهديد العسكري من مناورات الشرق في بيلاروسيا إلى الساحل الغربي لأوروبا، والرد مباشرة على مناورات مقررة لأمريكا وحلف الأطلنطي في البحر المتوسط، والوصول بخط سير الحوادث والمناورات والحشود إلى حافة الرعب النووي.
ولا تبدو موسكو في عجلة من أمرها، فمطامحها أبعد من أوكرانيا الخائفة المنشقة على نفسها، وفيها خمس السكان من أصول روسية، والجوار الجغرافي يمنح موسكو ميزة الدعم المباشر لجمهوريات منطقة “الدونباس” الأوكرانية، الراغبة بالانفصال والانضمام لروسيا، التي تزود حلفاءها بما يحتاجونه من سلاح، يفيد في الضغط على الاتجاهات الموالية للغرب في كييف، وقد تحتاج موسكو في وقت لاحق إلى غزو عسكري خاطف، على نحو ما فعلت عام 2014، حين قررت انتزاع ” شبه جزيرة القرم” وميناء “سيفاستوبول” من أوكرانيا، وكان بايدن حينها نائبا للرئيس الأسبق باراك أوباما، واكتفت واشنطن مع الاتحاد الأوروبي وقتها بتوقيع عقوبات اقتصادية على موسكو، تحلل أثرها مع مرور الزمن، ومع فرض وقائع جديدة، نسي معها الغرب جبرا قصة “القرم”، التي صارت روسية، في حين دفع بوتين إلى الواجهة بقضية الانفصاليين الروس في شرق أوكرانيا، ووقع مع فرنسا وألمانيا وأوكرانيا نفسها اتفاق “مينسك”، الذي ينص على توسيع الحقوق القومية والحكم الذاتي للروس في أوكرانيا، وهو ما تريد برلين وباريس، الأضعف ميلا لمسايرة “الهستيريا” الأمريكية ضد موسكو، أن تجددا مفاوضاته اليوم، في سعي أوروبي للتهدئة مع موسكو، التي يتقاطر إليها وزراء وقادة غربيون، بينما موسكو تبتسم للمذعورين، وتؤكد أنها لا تنوي غزوا لأوكرانيا في المدى المنظور، وأنها تكتفي بحشد قواتها داخل حدودها، وتصمم على مطالبها المودعة خطيا لدى واشنطن، وأهمها وقف توسع حلف الأطلنطي شرقا، والتعهد كتابة بعدم ضم “أوكرانيا” و”جورجيا” للحلف، والاعتراف الواقعي بعودة روسيا إلى دور عالمي، استنادا لقوتها العسكرية والصاروخية والنووية المتفوقة، مع بقاء التهديد باتخاذ “إجراءات عسكرية وتقنية صارمة”، إذا ما جرى التلكؤ في تلبية مطالب بوتين، وهو ما ترى واشنطن في قبولها هزيمة مذلة، وإن اضطرت للرد كتابيا طلبا لتفاهم مع موسكو، فليس عندها من بديل، اللهم إلا التسويف في قبول إلحاح كييف بتسريع ضمها إلى الحلف، درءا لاحتمالات الغزو الروسي، فليس بوسع الجيش الأوكراني مهما تلقى من سلاح، أن يصمد لدقائق في مواجهة الجيش الروسي، وليس بوسع أمريكا وحلف الأطلنطي الاستجابة لمطالب الرئيس الأوكراني المفزوع، ولا الدخول في صدام حربي مع موسكو، قد لا ينتهي بغير تدمير العالم كله عشرات المرات، وهو ما يشجع بوتين على المضي قدما إلى حافة الهاوية، تسريعا لإذعان واشنطن عمليا لمطالبه، ومواصلة حرب الأعصاب إلى أقصى حد، ودفع أوروبا للانشقاق الفعلي عن واشنطن، فبوسع صواريخ تطلق من غواصة نووية روسية واحدة، أن تدمر عواصم أوروبا كلها في غمضة عين، ودول الاتحاد الأوروبي تدرك خطر أصغر خطأ في الحساب الاستراتيجي، وتبدو أقل اندفاعا في معاندة موسكو، التي عادت تعزف على إيقاع العصر السوفييتي، وتسعى إلى عكس الهزائم التي لحقت بها بعد انهيارات موسكو الشيوعية السابقة، وتحلل الاتحاد السوفييتي ونهاية “حلف وارسو”، وحنث واشنطن بوعود سابقة أعطتها لموسكو غورباتشوف ويلتسين، وضمها لدول أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلنطي “الناتو”، وتعدي حدود عام 1997، وضم المجر (هنغاريا) وبولندا والتشيك، ثم ضم بلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا عام 2004، وضم جمهورية “الجبل الأسود” عام 2017، وصولا إلى ضم جمهوريات البلطيق الصغيرة (ليتوانيا ـ لاتفيا ـ أستونيا) الملاصقة تماما لروسيا، وهو ما يعني نصب شبكات الصواريخ والأسلحة النووية الأمريكية لصق حدود روسيا، وهو ما جابهته روسيا بوتين بالقوة المباشرة، على نحو ما فعلت في “جورجيا” أواسط عام 2008، بعد شهور من دعوة أمريكا لضمها إلى حلف الأطلنطي، وكان الرد غزوا روسيا خاطفا لجورجيا، وانتزاع إقليمي “أبخازيا” و”أوسيتيا الجنوبية”، ومن وقتها ابتلعت واشنطن لسانها، ولم تعد تتفوه بكلمة عن ضم جورجيا لحلف الأطلنطي، وهو غالبا ما ستفعله واشنطن في حالة أوكرانيا، التي وجهت لها دعوة الانضمام ذاتها منذ عام 2008، ومرت 14 سنة دون تنفيذ، فلم يعد بوسع واشنطن تحدي اعتبارات موسكو الأمنية، ولا مواصلة الاستفزازات والإهانات، على نحو ما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما، حين وصف موسكو بأنها صارت “قوة إقليمية” لا قوة عالمية، ومع ذلك لم يجرؤ على مواجهتها عسكريا وقت غزوة “القرم”، ولا جرؤ الرئيس الأمريكي الحالي بايدن على ردع موسكو بعد تدخلها العسكري السريع الحاسم مؤخرا في كازاخستان، ومساحة الأخيرة تعادل مساحة أوروبا الغربية بكاملها، وهي عضو في “منظمة الأمن الجماعي” التي تقودها موسكو، وتضم إليها بيلاروسيا وأرمينيا وقيرغزستان وطاجيكستان وكازاخستان، وأعلنت عام 2002 عقب الغزو الأمريكي لأفغانستان، وبدت كمحاولة من بوتين لاستعادة أراضي الاتحاد السوفيتي السابق أمنيا، وكتعويض عن غياب “حلف وارسو”، مع تقوية أواصر التحالف الوثيق مع التنين الصيني الزاحف عالميا، وبناء مشهد استقطاب جديد على القمة الدولية، تعادل فيه قوة الصين الاقتصادية قوة أمريكا، وتتكامل فيه قوة روسيا العسكرية مع قوة الصين الكبرى، وتضعان معا حدا نهائيا للعربدة الأمريكية، على نحو ما حدث ويحدث في أوكرانيا، التي تحولت إلى أسخن مسارح الحرب الباردة الجديدة، ولا يبدو أن واشنطن قد تكسبها، وهي التي خرجت ذليلة مستنزفة قبل شهور من أفغانستان.
*كاتب مصري
القدس العربي
—————————
ما تحاوله روسيا هو: المستحيل/ حازم صاغية
كان من الأوصاف التي أُطلقت على الاتّحاد السوفياتيّ أنّه ذو عضلات قويّة ورأس صغير. لكنّ ذاك الرأس الصغير كان يحتوي على لسان طويل جدّاً: «تحرير الشعوب. مساعدة الأمم على بناء الاشتراكيّة. الدفاع عن السلم على هذا الكوكب…».
بهذه الشعارات وبغيرها، وهي غالباً مَرعيّة بشحنات أسلحة سخيّة، خاطبت موسكو السوفياتيّة كثيرين في العالم. بعضهم صدّقها وبعضهم تظاهر بتصديقها بسبب حاجته إليها، لكنّ المؤكّد أنّ قوّة اللسان كانت الشيء الوحيد الذي ينافس الموادّ الحربيّة في الصناعة السوفياتيّة.
روسيا البوتينيّة، في المقابل، بلا لسان. مغامراتها في العالم لا يصحبها أيّ زعم تحريريّ وأيّ مخاطبة واعدة لسواها. إنّها تقول فحسب: أريد الدفاع عن أمني واستبعاد المخاطر المحدقة بي. لا تقول شيئاً يجمعها بحليف أو بغريب أو بآخر. لا تقول شيئاً يتعدّى الهمّ الأمنيّ إلى رؤية للسياسة أو للثقافة أو لبناء الأمم. تعثر هنا أو هناك على حاكم مكروه من شعبه فتدعمه، وتستفيد من حاجته إليها لبناء موقع أمنيّ في بلده.
«أدبيّات» بوتين التي ترشح من أقواله وتصريحاته تنمّ عن الإعجاب ببعض طغاة التاريخ الروسيّ، وبالكراهية لكلّ المحاولات التي حاولتها الشعوب لنيل الحرّيّة. موقفه من المعارضين والمنشقّين في روسيا عماد النموذج الأمثل الذي يرعاه.
فقر روسيا البوتينيّة في الأفكار وفي الوعود التحرّريّة كائناً ما كان تأويلها، ينجم عنه هذا الفقر في بناء الروابط العميقة مع سواها. لكنّ هذين الفقرين يُستعاض عنهما بكثرة الأدوات التي تقتل، من الطائرة إلى السمّ، مصحوبة بأعمال تزوّر الواقع، عبر التهكير والتجسّس الإلكترونيّ والمغامرات السيبرانيّة وسواها، وعبر مجموعة فاغنر ومثيلاتها من طلائع التنوير الروسيّ. تخريب المجتمعات الديمقراطيّة والعمليّات الديمقراطيّة فيها وتعزيز القادة الشعبويّين والقوميّين المتطرّفين يبقى الهدف الثابت لموسكو.
السوريّون، من واقع تجربتهم المُرّة، يعرفون ذلك. الروس أرسلوا طائراتهم إلى سوريّا حيث أقاموا قواعد عسكريّة لهم. بدأ ذلك قبل سبع سنوات، وكان من أفضالهم على السوريّين تدمير مدن وبلدات وقتل سكّان آمنين وتهجيرهم، وبالطبع دعم نظام بشّار الأسد الذي كان يتداعى. لكنْ هل هناك اليوم «بوتينيّون» في البيئة الموالية للنظام؟ هل هناك شيء روسيّ يتماهى معه السوريّون ويفخرون بالحصول عليه؟ هل هناك ثلاث سلع، تقنيّة أو فنّيّة أو ثقافيّة أو من أيّ نوع غير حربيّ، يتباهى السوريّون بالتعرّف إليه أو امتلاكه؟
إنّ الحجّة الوحيدة التي تتسرّب أحياناً عن بعض مؤيّدي النظام، في معرض الدفاع عن فضائل روسيا في سوريّا، هي أنّها «أقلّ خطراً» أو «أقلّ سوءاً» من إيران، وأنّها توازن الحضور الإيرانيّ وتحدّ من قوّته. والحال أنّ منافسة إيران ليست بالأمر الصعب، كما أنّ التغلّب عليها في هذه المجالات ليس ممّا يُعتدّ به.
إيران، على هذا الصعيد، خصم سهل جدّاً.
روسيا اليوم تحشد مائة ألف جنديّ على حدودها مع أوكرانيا. سياسيّون ومراقبون كثيرون يتوقّعون غزوها لجارتها الصغيرة، وأنّ حدثاً كهذا قد يشعل الحرب العالميّة الثالثة. موسكو تقول بدورها إنّها لن تغزو (ولن تنصّب يفهِن موراييف رئيساً على أوكرانيا)، لكنّها لن تتراجع عن منعها البلد المذكور من الانضمام إلى حلف الناتو، وأنّها لهذا الغرض «الدفاعيّ» تحشد جنودها.
ولوهلة يمكن القول إنّ الولايات المتّحدة كان ينبغي أن تحلّ حلف الناتو بمجرّد انهيار حلف وارسو بعد انتهاء الحرب الباردة. لكنّ هذه الحجّة، السليمة والعادلة في الظاهر، لا تجيب عن سؤال الأسئلة: ماذا إذا بقيت البلدان المجاورة لروسيا خائفة منها، كما كان حالها دائماً، وماذا إذا كانت تلك البلدان الخائفة بحاجة إلى حماية؟
بمعنى آخر، جوهر المسألة ليس استمرار الناتو (الذي، بالمناسبة، أضعفَه باراك أوباما ثمّ كاد يلغيه دونالد ترمب). إنّ جوهر المسألة هو روسيا ذاتها: رغبتها في التحايل على التحوّل الديمقراطيّ الذي يجعل خوفها الأمنيّ خُوافاً لا علاج له إلاّ منع الحرّيّة عن البلدان المجاورة. أمّا الأخيرة، وقد خرجت من السجن السوفياتيّ، فيغدو خوفها من روسيا أحد أبرز مقوّمات وطنيّتها وشعورها بالحرّيّة وتمتّعها بالسيادة.
وأغلب الظنّ، وبغضّ النظر عمّا تسفر عنه المواجهة الحاليّة، أنّ روسيا لا يمكن، في النهاية، أن تكسب هذه المعركة. ذاك أنّ ما تحاوله، بمصادرتها حرّيّات الشعوب المجاورة وإراداتها، هو المستحيل – المستحيل الذي يزيده استحالةً فقدان اللسان، فضلاً عن فقدان كلّ شيء يتعدّى قوّة العضل.
الشرق الأوسط
—————————–
===================
تحديث 31 كانون الثاني 2022
—————————-
ريثما لا تتغيّر الآلهة/ سانتياغو آلبا ريكو
ترجمة: ياسين السويحة
ثمة فيلم روسي ممتاز، عنوانه ما أصعب أن تكون إلهاً، أخرجه أليكسي جيرمان عام 2013 مقتبساً من رواية خيال علمي شهيرة، يروي فيها الأخوان ستروغاتسكي هبوط بعثة فضائية (سوفيتية؟) في كوكب أركانار، حيث تمكَّنَ انقلاب عسكري خبيث من وقف الانتقال ما بين العصور الوسطى وعصر النهضة. في القصة، يتوجّب على الباحثين الأرضيين الواصلين في البعثة أن ينغمسوا ضمن هذه الحضارة المتأخرة ويدرسوا عمليات الانتقال والرسوخ التاريخية، لكنَ أيَّ تدخّل في مجرياتها ممنوع عليهم منعاً باتاً. تكمن صعوبة أن تكون إلهاً هنا بالذات، في أن تنأى بنفسك عن الصراعات الجارية على الأرض رغم امتلاكك الموارد اللازمة للتدخل. الإله قادر على كل شيء إلا على لجم نفسه، فقدرته على الفعل هي التي تقرر بذاتها، وبلا هوادة.
ليس سهلاً أن تكون امبراطورية، أو قوّة عظمى على الأقل. كثيراً ما يُحال إلى «خطاب التأبين» لبيركليس عام 431 قبل الميلاد، أول أعوام الحرب البيلوبونيسيّة بين أثينا وإسبارطة، وهو خطاب صادمُ الجمال، لكن يشيع أن يُنسى إكماله بخطاب آخر ألقاه بعدها بأشهر، حين بدأت الحرب تميل نحو الكفة الأسبرطية. فإزاء سخط الأثينيين، ترك بريكلس دائرة المُثُل لينزل إلى ضيق وحل الواقعية: لم تعد المسألة هي الديمقراطية، يقول، بل «خسران امبراطورية». مُطلِقاً تحذيراً في وجه الأرواح الدرويشة: «لم يعد من الممكن التنازل عن هذه الامبراطورية، إن كان منكم من يشعر بالخوف إزاء الوضع الراهن، أو ينوي اتخاذ دور الإنسان الطيب سعياً وراء رغبته بالهدوء». ليختم بعدها: «إن هذه الامبراطورية التي بحوزتكم قد باتت بمثابة طغيان: يبدو إحرازها ظالماً، ولكن التخلي عنها شديد الخطورة». من الصعب أن تكون إلهاً لأن على الإله أن يكون موجوداً في كلّ مكان، ولأن أي تضعضع في وجوده الكلي هذا قد يعني خطر التلاشي التام. لا يلعب العدل ولا الديمقراطية أيّ دورٍ هنا، كما هو مثبت في حوار ميلوس، والسجال بين كليون وديودوت الأثينييَّن حول مصير الميتيلينيين، كما ورد في سرد ثوقيديدس.
لطالما أغرت مقارنة الحرب البيلوبونيسيّة بالحرب الباردة المؤرخين، وإن انطلاقاً من اصطفافات إيديولوجية أو أخلاقية دوماً: إسبارطة التسلطية بمثابة الاتحاد السوفيتي من حيث المبدأ، في حين تتمثل الديمقراطية الأثينية في الولايات المتحدة. ليست هذه طريقة جيدة للتمحيص. فإن كان من الممكن إنشاء متوازيات بين أحداث تاريخية على هذه الدرجة من الاختلاف، فذلك لأن الحرب الباردة قد أخذت «المنطق الامبراطوري» الذي عرّفه بيركليس إلى أقصاه، أي النأي عن العدالة والديمقراطية، والاضطرار لملء كل الفراغات، حتى بما يُناقض المصالح الاقتصادية الذاتية. لم يكن التدخل في فيتنام، حيث مُنيت الولايات المتحدة بهزيمة مذلّة، للاستحواذ على مصادر طاقة أو ثروات منجمية يفتقر إليها ذلك البلد؛ ولم يكن للمستنقع الأفغاني، مقبرة الاتحاد السوفيتي، أيّ مبرر، بل كان الضرر واضحاً من وجهة نظر برغماتية. نضيف على ذلك أن الأمر الوحيد الذي اتفق عليه الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة هو ملاحقة شيوعيين وقتلهم.
وإذ اعتقد المرء أن نهاية الحرب الباردة ستحمل على الأقل فائدةَ إمكانيةِ دراسة «المنطق الامبراطوري» وإدانته، بمعزل عن الاصطفاف الإيديولوجي وأوهام الحقيقة والعدالة والتفوق الديمقراطي، تبدو استعادة المثنوية لنشاطها مع الخلاف بين روسيا والولايات المتحدة مثيرة للاستغراب، فعقلنا نصف الكروي يتغلب -دعونا نقول- على فكرنا المتعدد. قبل أحد عشر عاماً، ناصرتُ الثورات والانتفاضات «العربية»، مسترشِداً وسط الضباب بمعايشات قريبة ومعرفة عنيدة. بإمكان أيّ أحد أن يعتبر أنني أخطأت، لكنني ما زلت أعتقد أن الشعوب والوقائع والمبادئ دلّت على أنني كنت على حق، وما زلت. يحصل منذ ذلك الوقت أن أجدَ نفسي بين حين وآخر فيما يشبه انتكاسات الحمّى المالطية، إذ أتعرض لشتائم وأكاذيب وتهديدات. لقد حصل ذلك مجدداً، فرغم أنني لم أكتب شيئاً حول أوكرانيا، إلا أن بعض المجهولين الرقميين -الذين لن أوجه لهم رداً أو «بلوك»- يوجّهون لي هذه الأيام تهماً متنوعة (عميل للناتو، مرتزق وكالة المخابرات الأميركية ومؤسسة فورد..) وسيلاً منفلتاً من الشتائم. أحدهم قال عني إنني «كلب متمسّح بساق الإمبراطورية»، وآخر أرعد حكماً: «أيّ مجرمٍ هذا، سانتياغو آلبا». أيّ مجرم! تملّكتني عند قراءة هذا الكلام رغبة باستخدام اقتباس ساخر للمتتالية الجُرمية حسب توماس دي كوينسي: يبدأ المرء بالمرافعة لأجل الديمقراطية في «العالم العربي»، وبعدها يتسبب ببكاء طفل، ثم يسرق عكازة عجوز، وبعدها يجزّ عنق زوجته، وبعدها، بكامل الحصانة، يجتاح بولونيا. أيّ مجرمٍ! ولعلّ بوسع المرء أن يعتبر هذا الكلام ضرباً من المبالغة اللفظية، لولا أن هذه اليافطة تخفي وراءها حصراً خطيراً للمعنى، كثمرة متأخرة للقرن العشرين ومبكرة للواحد والعشرين، أي السعي لمسح الفارق بين الاختلاف والجريمة: من لا يفكر مثلي -بوصفي تجسيداً للحقيقة المطلقة- لا يرتكب خطأً، لا؛ بل إنه يغتصب أطفالاً ويدمّر مدناً ويبيد شعوباً بأكملها بالغاز. هذه هي الطريقة التي يقيس بها العالمَ أولئك الذين أسميتهم «ستاليبانيين»1. الستاليباني عاجزٌ عن القبول باحتمال أن يكون مخطئاً، ولذلك لا يقبل أيضاً احتمال أن يكون الآخر مخطئاً: الآخر لا يخطئ، بل هو منخرطٌ «موضوعياً» في مؤامرة إجرامية مُحكَمة، تتوجّب مكافحتها بكل السبل الممكنة. كلّ من لا يفكر كما أفكر هو قاتل، ويستحق بالتالي أن يُقتَل، افتراضياً أو فعلياً.
أشير إلى هذه اللآلئ السوداء بوصفها تعبيرات قصوى عن المثنوية الامبراطورية، القابعة أيضاً في رؤوسٍ أكثر اعتدالاً، وأحزاب من هذا التوجه أو ذاك، مثنوية نرى قيامها المتحمس هذه الأيام. ليس بوسع الستاليبانيين، ولا توائمهم السيامية «الليبرالية»، الاكتفاء بدراسة المخاطر والدفع نحو مفاوضات واقعية؛ بل يستسلمون لاستقطاب الحرب الباردة الإيديولوجي: عليهم أن يثبِتوا وجود شرّ، وفي الوقت نفسه أن يكونوا «أناساً أخيار»، متناسين تعاليم بيركليس بأن لا معنى لإجراء مقارنات حول أعداد القتلى، وبالذات لا معنى لمحاولة تبرير نصف هذه الأعداد، هناك حيث يهيمن «منطق امبراطوري» موازٍ للعدالة والديمقراطية. لا تكمن المسألة في الانحياز لطرف مقابل آخر، بل في الإشارة لـ «المنطق الامبراطوري» بحدّ ذاته، والتخلّي له عن أقل مساحة ممكنة في سبيل الحفاظ على السلام. وبما يخص الخصام بين روسيا والولايات المتحدة، فلا يسعني أن أقول أكثر من التالي: ليس التسويغ القيمي لأيّ من الطرفين الامبراطوريين مقبولاً بالنسبة لي، فالمسألة واقعياً يجب أن تكمن في نزع سلاح كليهما. من السخف بمكان أن تُتناسى تسلطية بوتين، وجرائمه في الداخل والخارج، في سبيل تطويبه كرمز مناهض للامبريالية فقط لأنه يخوض مواجهة مع الولايات المتحدة. من الجهة المقابلة، ورغم إمكانية أن تقدم ديمقراطية الولايات المتحدة الذابلة بعض الدروس لبوتين في المجال، إلا أنه من السخف إقناع النفس بأن الولايات المتحدة قد سعت يوماً لنشر الديمقراطية وحقوق الإنسان حيثما انتشرت عسكرياً، متسببةً بالكلف الإنسانية التي نعرفها جميعاً. روسيا والولايات المتحدة عالقتان في «منطقهما الامبراطوري»، في إطار عالم القرن الواحد والعشرين الجيوسياسي، المختلف عن إطار الحرب الباردة؛ إطار لا مكان فيه للديمقراطية والعدالة، ولا حتى على سبيل البروباغندا. الديمقراطية والعدالة، في مواجهة «المنطق الامبراطوري» متعدد الأقطاب، هي قضايا يجب أن نتنطع لها نحن المواطنون، وهذا يقتضي الضغط على الأطراف، دون بناء أي أوهام حول منسوبها السياسي والأخلاقي. إننا نساهم في تأخير العدالة كلّ مرة ننحاز فيها لـ «منطق امبراطوري» ما، مقتنعين أن أحد الطرفين أكثر عدالة أو أكثر ديمقراطية من الآخر، إذ هكذا نغذي صراعات عسكرية، سبّبت آلامَ آلاف لضحايا، وكبتت صوت الإنسانية لعقود. دعونا لا ننسى أن الحرب البيلوبونيسيّة انتهت متسببة بموت الديمقراطية الأثينية.
ما هو الحدّ الأدنى الذي يجب أن يُعترَف به لـ «المنطق الامبراطوري» الروسي؟ ما تريده روسيا البوتينية هو فرض حقها في أن يُعترف بها قوّةً عظمى عالمية، وأن تتصرف وفقاً لذلك. «حقّها» بالمعنى الجيوسياسي، أي «قوّة» و«موارد». أتمتلكهما؟ أخشى أنها تمتلكهما. هذا يقتضي الاعتراف لها بـ«حقّها» في التفاوض على «أمنها القومي». ليس مقبولاً بالنسبة لي الاعتراف لها بأي شيء آخر، ولا من المقبول تجاهل ملاحقاتها للمعارضين في الداخل، ولا وحشيّتها في الشيشان، ولا قصفها للمدنيين في سوريا. ولا من المقبول إنكار حقّ الشعب الأوكراني -وهنا نتحدّث عن حق إنساني وقانوني- في الدفاع عن نفسه ضد غزوٍ سيتناقض، في حال حصل، مع «المنطق الامبراطوري» الراهن.
وما هو الحدّ الأدنى الذي يجب أن يُعترَف به لـ «المنطق الامبراطوري» للولايات المتحدة؟ الحق الجيوسياسي، وليس الديمقراطي، بأن تتفاوض مع روسيا حول الترتيب ما بعد السوفيتي لأوروبا، الواقع على بُعد آلاف الكيلومترات من أرضها. ليس من المقبول بالنسبة لي الاعتراف بأكثر من ذلك. ولا من المقبول تجاهل الانقلابات والاجتياحات وحملات القصف في الخارج، أو السياسات العرقية والاجتماعية في الداخل. ولا ينبغي تجاهل قسط الولايات المتحدة من المسؤولية لو حصل أن اجتازت قوّات ودبابات روسيا البوتينية حدودها مع أوكرانيا، في تناقض مع «المنطق الامبراطوري» الراهن.
وماذا عن الاتحاد الأوروبي؟ لو قصدنا الحديث عن العدالة والديمقراطية، فعليه أن يفعل ما بوسعه كي لا يشبه روسيا البوتينية. أما بخصوص «المنطق الامبراطوري»، أي المصالح الجيوسياسية، فعلينا أن نقتنع أن استمراريته تقتضي عدم انحيازه، أو على الأقل عدم انحيازه بشكل غير مشروط، مع الولايات المتحدة. لا شيء يسبب لي الدوار بقدر تصوّر اتحاد أوروبي أكثر بوتينية في الشأن السياسي، وأقل استقلالية في الجيوسياسة، وهو تصوّرٌ لا يستحيل حصوله، وتغذّيه الخلافات داخل الاتحاد الأوروبي ودوره المعدوم في التفاوض مع روسيا. يتقلص دور أوروبا في حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان مع الوقت، وتعرض استقلاليةً «امبراطوريةً» أضعف من حلفاء مشاكسين وقساة مثل إسرائيل والسعودية وتركيا. أوروبا أسيرة حلفِ ناتو يقتصر دوره على ضبطها داخل دائرة الولايات المتحدة، وهذا سيء للجميع. إذ فقط اتحاد أوروبي مستقل وديمقراطي قادر على المساهمة في تقليص «منطق الامبراطوريات»، المترتب مجدداً، والمهدد للسلم العالمي.
يصعب أن تكون إلهاً، أو امبراطورية أو قوّة عظمى. لكن من الملائم أن ننشغل بضحايا هؤلاء أيضاً. لو أردنا فعلاً حماية الديمقراطية فمن الضروري ألا نتوهم أي عدالة في منطق الامبراطوريات، ولو أردنا تصويب منطق الامبراطوريات، ولو بدرجات صغرى، فعلينا ألا ننسى العدالة والديمقراطية. لنتذكر تحذير سانشيث فيرلوسيو: «لن يتغيّر شيء ما لم تتغيّر الآلهة». ولن تتغيّر الآلهة ما لم نضع، نحن الضحايا، عثرات في طريقها.
1. اجترح الكاتب التسمية من دمج «ستالينيين» و«طالبانيين». (المترجم).
نُشر النص الأصلي للمقال في جريدة بوبليكو الإسبانية.
موقع الجمهورية
—————————
بين دوغين وبوتين/ سمير سعيفان
أثار فضولي ما سمعته عن الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين بأنه “الفيلسوف المُلهم لبوتين”، وعلى الرغم من علمي أن الدكتاتور لا يتّخذ من أحدٍ مُلهِمًا، وإن أوحى بذلك، فمن الممكن، من خلال معرفة منهج دوغين، إجراء قراءة في عقل بوتين وأفكاره التي لا يعلنها في كلماته وتصريحاته للإعلام. لذا أردت أن أستمع لآراء دوغين، فشاهدت اللقاء الذي أجراه معه علي الظفيري على قناة الجزيرة، كما شاهدت لقاء عمرو عبد الحميد معه على قناة Ten المصرية، وقد عرض دوغين خلال اللقاءين خلاصة نظريته وأفكاره.
وأنا هنا لا أحكم على دوغين الفيلسوف ولا على نتاجه الفكري، وله كتب كثيرة لم أقرأ منها شيئًا، إنما أحكم على ما قاله في اللقاءين المذكورين، وعلى الأفكار التي أراد إيصالها إلى المستمع العربي، وأعتقد أنها تمثل خلاصة أفكاره.
نظريته السياسية الرابعة:
قدّم دوغين نفسه بأنه صاحب “النظرية السياسية الرابعة”، وهو يصف نظريته بأنها ليست عقيدة، بل دعوة للتخلص من الاستعمار، ومن خلال إجاباته في الحلقتين، بدا أن جوهر نظريته يقوم على كلمتين: “معاداة الغرب”، ورفض كل ما يمتّ إلى الغرب بِصلةٍ، لأنه إمبريالي، أي هو يحدد نظريته بدلالةِ الغرب، فالعداء للغرب بوصلته، ومن ثم فهو لا يقدّم شيئًا جديدًا أكثر من موقف سياسي يغطيه ببعد فلسفي.
يعادي دوغين الرأسمالية والليبرالية والفاشية والشيوعية والقومية والديمقراطية، ويعادي الحريات العامة والحريات الفردية في التعبير والتنظيم، ويعادي حقوق الإنسان، ويعدّها جميعها منتجات غربية إمبريالية، تمثل هوية الغرب الذي تخلّى عن الدين، وبالتالي فهي هوية استعمارية. ويرى دوغين أن النخب الروسية التي تحمل أفكار الليبرالية والديمقراطية تشكل تهديدًا لسياسة بوتين، وهي خطر على روسيا. بل إنه يرى أن الديمقراطية والحريات العامة خطرٌ على روسيا كدولة موحدة، وستؤدي إلى تفككها، ويرى أن الغربَ يعوّل على ذلك.
إن مثل هذا الإصرار على العداء للغرب مدفوع بصعود قومية شعبوية روسية من جهة، ومدفوع أيضًا بعداء الغرب لروسيا، وهو عداء لا براء منه، فقد عادى الغرب روسيا حين كانت شيوعية، بحجة أنها تشكل تهديدًا لنظامهم الرأسمالي، واستمر الغرب في عدائه لروسيا بعد أن تحوّلت إلى الرأسمالية، فتحول الغرب من العداءِ لروسيا الشيوعية إلى العداءِ لروسيا الأرثوذكسية، وسعى لإذلالها، بل سعى لنهبها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهو ما دفع بنمو الروح المتعصبة المعادية للغرب في روسيا.
يقر دوغين بأن تصوره عن النظرية السياسية الرابعة مبنيّ على غريزة، وليس على أي شيء آخر، وهو يدعو إلى نموذج سياسي خاص لروسيا، ويدعو إلى العودة للوراء إلى القيصرية وإلى روسيا المسيحية الأرثوذكسية وإلى التقاليد، فالهوية لديه هوية دينية، وروسيا بالنسبة إليه أرثوذكسية، وفي ذلك يقول: “وطني هو التقاليد، وعالمي الروحي هو عالم الأديان، ونحتاج إلى مجتمع تسوده قوى روحية دينية”، ويرى أن الأرثوذكسية تقوم على مبادئ لا يجمعها أي صلةٍ بالديمقراطية والليبرالية، فالمجتمع الأرثوذكسي يتميز بالجماعية، ويدعو إلى سيادة الجماعة التي يقف على رأسها حاكمٌ مطلق لا يُسأل عمّا يفعل. ويردد بكل صلافة: “بالنسبة لنا، القانون هو لا شيء، والحاكم هو كل شيء”، ويرى أن هذا النموذج اليوم هو بوتين، ويرى أن روسيا ليست دولة مؤسسات، وليس من مصلحتها أن تكون دولة مؤسسات، ولن تكون كذلك، ويرى أن النظام في روسيا ملكيّ، فقد كان ملكيًا في عهد القيصر، وبقي ملكيًا حتى في ظل الشيوعية، حيث كان هناك فردٌ حاكمٌ مطلق “ملك”، وكان ملكيًّا في عهد يلتسين، ثم في عهد بوتين، ويجب أن يبقى ملَكِيًّا.
يعمم دوغين ذلك المبدأ على دول الأرض خارج ما يسميه “الغرب”. ويرى أن على كل بلد أن يبدأ بالبحث عن نظريته الخاصة، وهذا يكون عبر الثقافة والتاريخ والدين الخاص بكل مجتمع، ويرى أن هوية المجتمعات الإسلامية هي الإسلام، ويدعو هذه المجتمعات إلى أن تستمد شرعيتها وشريعتها وأنظمتها من القرآن، ويرى أن الإسلام دين وفلسفة سياسية واجتماعية واقتصادية، وأنّ العَرَب أمام خيارين: إما الليبرالية وإما الهوية الإسلامية، كما يدعو إيران إلى العودة لروحها الفارسية، ويبدي إعجابه بها وبالقيم الإسلامية للجمهورية الإيرانية، لأنها حليفة روسيا، ويرى أن الإيرانيين لا يمكن أن يكونوا إرهابيين، بينما ينتقد الوهابية؛ فالسعودية بالنسبة إليه ليست تابعة لروسيا. وهذا يعني عمليًا أنه ليس مع الإسلام كدين، بل مع الإسلام الذي يصادق روسيا ويعادي الغرب. كما يدعو الصين إلى أن تعود لتقاليدها، ويُظهر إعجابه بها، ولكنه لا يذكر الهند، فهو غير معجب بها، لأنها أخذت بديمقراطية “الغرب”.
بنظرة عاجلة على جوهر نظرية دوغين الرابعة؛ تبدو أنها أقرب إلى استراتيجية سياسية يغلّفها بعدٌ فلسفي، وأنها تقوم على فكرة أن السوق الرأسمالية العالمية التي زاد انفتاحها مع العولمة في العقود الأخيرة، إنما يسيطر عليها الغرب، حيث يسيطرون على القطاع المالي والمصرفي، وعلى التجارة العالمية وعلى أسواق مختلف السلع والخدمات، وعلى المؤسسات الدولية المختلفة حتى سوق السلاح التي تتميز روسيا بقدرتها على إنتاجه وعجزها عن تسويق منتجاته، وأن هذه السيطرة هي مصدر ثروة الغرب وقوته، ويعتقد أن ما يخدم روسيا ويضعف الغرب هو حرمان الغرب من هذه الأسواق، عبر رفع جدران دينية وثقافية وقومية بين الغرب وبين بقية دول العالم!
تنظير للاستبداد
لا يعترف دوغين بحقّ الشعب في الاحتجاج، أيًّا كان شكل الطغيان والظلم والفساد والفشل وحجمه، وهو يرى في كلّ احتجاج مؤامرة غربية ديمقراطية ليبيرالية رأسمالية معادية، إذا كان الحاكم المستبد صديقًا لروسيا، أو التجأ إليها، كبشار الأسد، لكنه يقف ضد ثورات الربيع العربي، لأنها لا تتوجه بالعداء للغرب، بل تنادي بإسقاط المستبدين، ويرى فيها مؤامرة غربية رأسمالية إمبريالية!
ينكر دوغين الوجود الفردي للإنسان، بما له من حيّز خاص كمواطن فرد خارج الجماعة، ولا يرى فيه سوى فرد تضيع خصائصه ضمن الجموع، وتنتهي جميع حقوقه عندما تبدأ حقوق الجماعة، فلا يراه إلا ضمن القطيع، وهو يريد أن يماهي حياة الناس بحياة السلطان، كما في العصور الوسطى، حيث كان الدين يشكل هوية المجتمعات.
يبرّر دوغين للحاكم المطلق أن يفعل بالمخالفين والمعارضين ما يريده، لحماية “روح الأمة”، وهو بذلك يُبرر القتل في سبيل أفكاره التي تقوم على الجماعية، تلك الجماعية التي تذيب الفرد وحقيقته وشخصيته وحريته في جماعة متخيلة يمثلها الحاكم المطلق، وقد بررت السلطات المستبدة عبر التاريخ استبدادها بهذه الجماعية المتخيلة، جماعية هتلر وموسوليني وستالين وماو تسي تونغ وحافظ أسد وصدام حسين والقذافي والخميني والبغدادي وبوتين، وغيرهم كثير من أنظمة حكم شمولية، بتبرير ديني أو قومي أو تسلط عسكري، ودوغين معجب ببوتين وبشار الأسد.
حبّ متبادل
يرى دوغين أن بوتين يتوافق مع تقاليد روسيا الملكية، إذ قال: “عندما رأيت بوتين، رأيت أنه يمثل روسيا، وروسيا هي بوتين اليوم، وبين روسيا وبين بوتين علاقة مساواة”، ويرى أيضًا أن “الحياة في ظلّ بوتين أفضل من أي شيء آخر”. وهو يؤيد تعديل بوتين للدستور ليبقى في كرسي السلطة للعام 2036، لأنه يرى أن بوتين يمثل “روح روسيا”، ولديه الحق في البقاء في الحكم المدة التي يريدها.. “فليحكم، ما دام قادرًا على الحكم”، وهو يعتقد أن الشعب الروسي عاجز عن إنتاج قائد آخر غير بوتين.
يقرّ دوغين بأن للقيصر بوتين الحق في أن يفعل بروسيا وشعبها ما يريد، وأن يتجه بها حيثما يرى، بملء إرادته من دون أي قيد أو اعتبار، ويرى أن ذلك يعزز روحها المحافظة. ويقر أيضًا بأن القيصر الجديد الذي سيعقب القيصر الحالي (بوتين) سيكون له ذلك الحق في أن يوجه روسيا حيثما شاء.
ودوغين قلق لما سيأتي “ما بعد بوتين”، حيث إن روسيا -بحسب نظريته- تفتقر إلى المؤسسات والديمقراطية والآليات الشفافة في اختيار السلطة، ولذلك فإن مستقبلها ومصيرها سيتوقف على القيصر الذي سيرث بوتين، أي على فرد واحد يقرّر مصير أمة!! هذا ما يدعو له دوغين، فياله من تنظير بائس لمستقبل روسيا!!
وعلى الرغم من أن أفكار دوغين تلقى إعجابًا غير معلن من قبل بوتين، خاصة أن روسيا تضم نخبًا مثقفةً واسعةً تتبنى مبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية والليبيرالية المعادية لاستئثار بوتين بالسلطة، ووجود مثل هذا المنظّر يرضيه؛ فإن بوتين يحتاج إلى بروباغندا تروج أفكاره وتدافع عن أفعاله وتبرّر استمراره في السلطة لعقدين من الزمن حتى الآن، ولكن بوتين والكرملين يتحاشون إظهار أي صلة لهم بدوغين لأنه استفزازي بالنتيجة.
وقد أجابني صديقي الدكتور محمود الحمزة، المقيم في موسكو والخبير بالشؤون الروسية، حين سألته عن دوغين، بأنّ “أفكار دوغين ليس لها رواج في روسيا إلا في أطر محددة وضيقة، تكاد تقتصر على العسكر والأمن والجنرالات، وأن كتبه غير مرحّب بها في أوساط النخبة السياسية والفكرية في روسيا.. وقد التقيته مرتين، وقال لي إنه يجب إقامة تحالف تقوده روسيا وفيه الصين وإيران وتركيا ودولة عربية سنّية، لمجابهة التحالف الغربي”. واعتقد أن أكثر ما يميزه هو الشعبوية.
ذاتية طاغية
“هناك بوتين، وهناك الشعب، وهناك أنا، وبوتين يجد جوابًا لكلّ ما يهمّ الشعب، وأنا أحاول أن أضفي على هذه الصورة قياسًا فلسفيًا”. هكذا يرى دوغين ذاته ضمن مثلث، يشكل هو أحد أضلاعه ويشكل بوتين الضلع الآخر، ثم الشعب الروسي برمته يشكل الضلع الثالث! وهو ويردد “أنا جزء من اللوغوس”، ولا أعلم ما يقصده باللوغوس، فقد تعددت دلالاته عبر التاريخ، ولعله يقصد معنى ما قصده فيلون اليهودي أيّ القوة الصادرة عن الله، أو ما قصده العهد الجديد في إنجيل يوحنا (الكلمة): “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله”، والله في السماء هو الكلمة، وعلى الأرض هو يسوع المسيح.
ذاتية دوغين بدت متضخمة في اللقاء، إذ إنه يعتقد بسذاجة أن أفكاره قد ألهمت بوتين، ضابط الـ “كي جى بى”، مع أن التاريخ يعلّمنا أن الطاغية لا يأخذ أفكاره من أي منظر أو فيلسوف، لأنه قادر على اجتراح أساليب السيطرة المطلقة وحده، وقادر على الإبداع بها، ولولا هذه القدرة ما أمكنه أن يتسنم السلطة منفردًا. إن أيّ متسلط يتفوق على ميكافيلي بدرجة كبيرة، بل إن ميكافيلي قد اقتبس أفكاره من مراقبته لسلوك طغاة عصره، قبل أن يسطّرها في كتاب.
تناقضاته
أبرز تناقضات دوغين أن النظرية السياسية الرابعة التي يُروّج لها هي محض قشرة خالية من المحتوى، وهو يعرّفها بدلالة العداء للغرب، وهذا كل شيء، وهذا تعريف سلبي، ويقرّ بأن تصوره مبنيّ على غريزة، لا على أيّ شيء آخر، ويدعو للعودة للوراء. وهو بذلك لم يقدّم أي جديد، سوى تجديد الدعوة للعداء للغرب ولكلّ ما يمت إليه بِصلة، الغرب ككل. وقد بدَت أفكاره تتوجّه بحسب فهم متعصّب لمصالح روسيا، وهذا ما يجعله أداة دعاية لسياسة بوتين وأفعاله، لا فيلسوفًا صاحب أفكار ونظريات.
يؤيد دوغين الثورات ضد الأنظمة الموالية للغرب، ويرفضها إن كانت الأنظمة موالية لموسكو! وقد بدا من خلال اللقاءين كسياسي أكثر منه كمفكر. وهو يبني نظريته على العداء للغرب، والغرب أوروبي بالأساس، ويغمض عينيه عن حقيقة أن روسيا أوروبية، بمعنى أنها غربية، في كل شيء، في ثقافتها في نظامها الرأسمالي، في تنظيم عمرانها، في تنظيم إدارتها وجيشها وألبستها وآدابها وثقافتها.
وهو يعادي الرأسمالية، ولكنه يغمض عينيه عن أن النظام القائم في روسيا هو نظام رأسمالي خالص كامل الأوصاف، وما تختلف به رأسمالية روسيا عن رأسمالية الغرب هو أنها رأسمالية “مافيوية”، يسيطر عليها فساد قبيح مع فقدان الحريات وهيمنة الاستبداد على الحياة العامة، إنها رأسمالية غير منتجة إلى حد بعيد، فروسيا تستورد معظم ما تستهلكه من الخارج، كأي بلد من بلدان العالم الثالث، بالرغم من قدرتها العلمية، وذلك بسبب سوء إدارتها.
بينما ينكر دوغين وجود الفرد وحقوقه وحرياته إلا ضمن الجماعة ومن خلالها، نراه يمنح الفرد الحاكم كل شيء، فهو “إرادة الله” على الأرض، وهو بديل عن المؤسسة، وهو يرفض المؤسسات والسلطات وفصل السلطات والرقابة على السلطات، ويريد أن يجمعها في يد فرد واحد حاكم مطلق، له أن يفعل ما يريد، من دون أن يكون هناك حق لأحد في أن يسأله عمّا يفعل، وله أن يبقى في الحكم المدة التي يريد.
ونجده يعادي التدخل الإمبريالي لدول الغرب في شؤون الدول الأخرى، أما تدخل روسيا في بلدان أخرى، فيراه الفعل المشروع الصائب. فاليوم كازاخستان، وبالأمس سورية وما زال، وقبلها أوكرانيا وربما بعدها، وقبلها جورجيا، وغدًا بلدان أخرى تثور شعوبها وتجتذب بوتين للتدخل، فيرسل قواته وأسلحته، ويتبعها بمرتزقة (فاغنر) لتقوم بالأعمال القذرة التي لا يريد أن ينسبها إلى قواته الرسمية.
ولكن الذي يتجاهله كلّ من دوغين وبوتين هو أن التدخل العسكري، هنا وهناك، إنما يستنزف طاقات روسيا وثرواتها، ويقطع حبال تواصلها التجاري والدبلوماسي والعلمي والثقافي ببقية العالم، مما يضعف روسيا أكثر مما هي ضعيفة، خاصة أن مستقبل روسيا مرهون بصادراتها من المواد الاولية، مثلها مثل أي بلد نام، ولن تطول السنين حتى يستطيع العلم تنمية الطاقات المتجددة، وخاصة طاقة الهيدروجين، لتدفع بأهمية النفط والغاز إلى الوراء، وتدفع بأسعارها نحو الهبوط، ودخلها الريعي نحو التقلص، مما سيقلص إيرادات ميزانية روسيا، وبقية البلدان المصدرة للنفط والغاز، ويوقعها في عجز، وسيصيب هذا روسيا في مقتل.
لا يريد دوغين رؤية الأسباب القوية، من طغيان وفساد وفقر وخراب، التي تحرك حشودًا هائلة للمشاركة في الثورات، مستقبلة هراوات البوليس والغاز المسيل للدموع والاعتقال والرصاص المطاطي والرصاص الحي، فهو يرى أنها تتم بتحريك ودفع وتشجيع رأسمالي ليبيرالي، وهذه رؤية بوتين أيضًا!
يغيب عن بوتين ودوغين أن “الغرب” ينصب فخاخًا لروسيا، كي تتدخل في دول أخرى، وقد يفسر هذا سلوك أميركا وأوروبا تجاه تدخلات روسيا قي سورية؛ فالغرب لم يسمح بحسم الصراع لصالح أي طرف في سورية حتى 2015، بانتظار تورط روسيا وتورط إيران أكثر، ثم جاء تورط روسيا العسكري المباشر في نهاية أيلول/ سبتمبر 2015، وقد يبدو أن غاية الضغط الكبير على قوات النظام والتهديد بسقوطه، على يد فصائل من المعارضة مع فصائل جبهة النصرة (وقد كانت الفصيل الأبرز والأقوى)، كانت اجتذابَ روسيا للتدخل عسكريًا، حيث تدخل بوتين بموافقة أميركية، وغرق في سورية، وهو غارق في أوكرانيا، وغارق في ليبيا جزئيًا، وها هو يتدخل في كازاخستان اليوم.
إن أفكار دوغين تسهّل انزلاق بوتين نحو الأفخاخ التي ترسمها له البلدان الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية التي يعاديها عداء تناحريًا صفريًا، لا مكان فيه للمصالحة.
شعبوية يمينية ودعوة للتطرف
يعبّر دوغين عن تيّار روسي يميني شعبوي متطرف، وهو النموذج الروسي للشعبوية اليمينية الصاعدة في العالم، المعتمدة على التنظير للاستبداد وشعاراتية تهييج المشاعر، عبر لغو فارغ وتنظير للاستبداد وفكر رجعي ورفض للمجتمع الحديث، والعودة للماضي إلى التقاليد والدولة الدينية من أجل التخلص من الاستعمار. ويكرر دعوته لعودة روسيا للقيصرية وللروح المحافظة، وأن تكون الكنيسة هي المسيطر، وهو يؤيد الثيوقراطية، ويؤيد حكم البطريرك الروسي “كارل”، ليسير بروسيا حيث أراد في الطريق المسيحية المحافظة، وهو معجب أيضًا بترامب، وأنصار ترامب معجبون بأفكاره. وهذه مجمل الأفكار التي عرضها دوغين في اللقاءين التلفزيونيين.
إنه لمن المؤسف حقًا أن يربط دوغين مصير روسيا بفرد واحد، يجلس على مقعد السلطة الوحيد بصلاحيات مطلقة لا يشاركه فيها أحد، ولا يحاسَب عمّا يفعل. ومع ذلك فإن دوغين يرى أن مصير روسيا سيكون مجهولًا بعد بوتين، وأن الروس سيصبحون يتامى من بعده!! ويرى أن الوضع في روسيا هشّ، لأنه يرتبط بالشخص الذي سيعقب بوتين، وهذا ما يجعل مستقبل روسيا مجهولًا، إذ إنه لا يعرف مَن سيخلف الجالس على الكرسي الآن، ولا يعرف توجهاته ولا توجهات روسيا، خاصة أن ذاك القادم الجديد سيكون له أيضًا كامل الحق في فعل ما يريد، وقيادة روسيا إلى حيث يريد، حيث لا مؤسسات ولا قانون ولا رقابة ولا محاسبة. وبالرغم من إقرار دوغين بأن وضع روسيا بحاكم مطلق يبقى وضعًا هشًا، فهو يدعو للحفاظ على هذه الهشاشة!! ويعترف أن هذا وضع هزليّ، لأن كل شيء يتوقف على فرد، لكنه لا يدعو إلى تغيير هذا الواقع الهش والهزلي، بل يدعو إلى تكريسه!! أي إنه يقامر بمصير بلد كبير وشعب عظيم. إنها رؤية بائسة وكارثية، إن كانت هي ما يقود روسيا.
ومن المؤسف كذلك أن يكون دوغين منظّر روسيا، وأن يكون بوتين حاكمَها، والمصيبة الأكبر، بالنسبة لنا نحن السوريين، أن روسيا بوتين هي اليومَ اللاعب الرئيس بمصير سورية وشعبها.
مركز حرمون
—————————–
كيف تبدو سوريا نقطة لمنع اجتياح الروس لأوكرانيا وحلاً وسطاً لجميع الأطراف؟
“قد يكون هذا هو الغزو الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية”، قال الرئيس بايدن، وحذر من التداعيات الدراماتيكية التي قد تنجم عن اجتياح قوات روسية إلى أوكرانيا. إذا كان هذا ما سيحصل، كما هدد الرئيس الأمريكي، فسينظر أيضاً في فرض عقوبات شخصية على الرئيس بوتين نفسه.
في أثناء كتابة هذه السطور، يصعب توقع ما ستؤول إليه الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، إذا ما كانت ستنتقل من مرحلة التهديد واستعراض القوة إلى المواجهة العسكرية، وإذا كان كذلك، فماذا سيكون نطاقها ومزاياها ومدتها؟ بيانات الولايات المتحدة، ودعوتها لمواطنيها في أوكرانيا لمغادرة الدولة، والخطوات التي اتخذتها مع حلفائها، كل ذلك يدل على أنها تقدر عن حق وحقيق بأن اجتياحاً روسياً لأوكرانيا قد يقع في غضون أيام. وإذا لم تكن جهودها الحثيثة في الملعب السياسي لمجرد الحاجة “إلى حشد الشرعية” وكجزء من لعبة اللوم، فإنها دليل على أن الولايات المتحدة تعتقد أيضاً أن وقف قطار الحرب الروسي لا يزال ممكناً
على كل حال، إذا ما تحقق التوقع المتشائم، فسيبدو العالم مختلفاً. ستحتل المعركة في أوكرانيا مكاناً مركزياً في جدول الأعمال العالمي، وسيضطر البيت الأبيض لوضع روسيا على رأس اهتماماته، وستصل أصداء الحرب إلى ما بعد حدود أوروبا، وستؤثر على السياسة الخارجية وعلى النزاعات والأزمات في مناطق أخرى من العالم، وعلى الاقتصاد والطاقة، وعلى مجالات عديدة أخرى. كل هذا في الوقت الذي لا يزال العالم يحاول الانتعاش من هزة كورونا. ولكن حتى لو انتهت الأزمة الحالية بدون صدام عسكري، ولكن سيكون لهذا تداعيات على ميزان القوى العالمي في ظل تنازلات أمريكية وغربية. وستضطر الولايات المتحدة إلى التخوف من التآكل في صورتها الردعية، بينما تتعزز روسيا.
مع أن أوكرانيا هي التي في عين العاصفة، ولكن مثلما في كل أزمة تقع بين القوى العظمى، فهو نزاع ستتجاوز أسبابه وأهدافه حدود الساحة التي يقع فيها.
روسيا معنية باستعادة مجدها، وضمان مكانتها كقوة عظمى ذات مصالح في الساحة العالمية. وهي تسعى لوقف ما تراه انتهاكاً لميزان القوى في المنطقة، في أعقاب انتشار الناتو إلى الشرق وعلاقات تقيمها الولايات المتحدة والدول الغربية مع دول الاتحاد السوفياتي سابقاً.
وتتضمن مطالبها الملموسة، التي يمكن التعرف عليها من بيانات البيت الأبيض، انسحاب قوات الناتو من شرق أوروبا، وتعهداً بمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.
لروسيا مصلحة أخرى، وهي أن تتحرر من عبء خانق جراء العقوبات المفروضة عليها من الولايات المتحدة، وتثقل على اقتصادها. قائمة العقوبات طويلة. وقد شددت في أعقاب ضم شبه جزيرة القرم في 2014 وكذا في أعقاب اتهام روسيا في التدخل في الانتخابات للرئاسة الأمريكية في 2016 وارتكاب مخالفات سايبر. طرح موضوع العقوبات أيضاً في محادثات بايدن وبوتين في كانون الأول الماضي حين اتفق الزعيمان على جواب مشترك في هذا الموضوع.
من الجانب الآخر، يقلق الولايات المتحدة ودول الغرب النشاط الروسي حول أوكرانيا ودول أخرى تسعى لسحب القوات الروسية وخلق مناطق مجردة من السلاح وفرض قيود في مجال السلاح.
رغم انتشار مكثف للقوات على حدود أوكرانيا ورياح حرب تهب من هناك، لم يتبدد أمل في مخرج سياسي يمنع الصدام العسكري. من تقارير وسائل الإعلام، يبدو أنه حتى الآن لم تقترح ضمانات ترضي روسيا في موضوع انتشار الناتو، وليس واضحاً مصير المسائل المتعلقة بأوكرانيا.
إذا ما جرى الاجتياح الذي تتلوه عقوبات، ستجد إسرائيل نفسها مضطرة لاختيار جانب. عليها أن تتطلع لأن تبقي عندها ما لها من علاقات طيبة مع كل الأطراف المشاركة في الأزمة، وأن تبرر موقفها بناء على ذلك.
في مسألة النووي، يبدو قلق إسرائيل مزدوجاً: على إسرائيل أن تتأكد ألا يستغل الإيرانيون انصراف الاهتمام عن قضيتهم في هذا الوقت كي يسرعوا اندفاعهم إلى القنبلة، وعليها في الوقت نفسه أن تقف بالمرصاد كي لا ترى الولايات المتحدة في الأزمة مع روسيا مبرراً لحلول وسط في المفاوضات مع إيران.
وضع خريطة للمواضيع التي هي موضع خلاف بين روسيا والولايات المتحدة يظهر قائمة طويلة من المسائل المعقدة والقاسية للحل. وفي إطار ذلك، قد تكون مسألة سوريا بالذات – غير المرتبطة بهذا النزاع – فرصة لنجاح سياسي ما، وبناء مرحلة واحدة أو اثنتين “للنزول عن الشجرة”. كحافز لتسوية شاملة تؤدي إلى خروج إيران وقوات المحور الشيعي من سوريا، يمكن للولايات المتحدة أن تقترح تخفيفات في العقوبات، ما سيسمح لشركات روسيا بالعمل في سوريا، وإعمار البنى التحتية والاستجابة للاحتياجات التي توردها إيران اليوم. هذا وضع انتصار للجميع بالنسبة للولايات المتحدة، وروسيا، وسوريا، وإسرائيل ومعظم الدول السُنية. صحيح أن هذا قليل جداً في عقدة التوترات التي بين القوى العظمى، ولا يتعلق بأسباب الأزمة الحالية، ولكن يمكنه أن يكون مقدمة إيجابية للمحادثات في باقي المواضيع.
قد نفهم ونتفق أيضاً مع نهج أكثر حرجاً، يفضل القطع التام بين النزاع في أوروبا والخصومات في الشرق الأوسط، ولكن يجدر بالذكر أنه كل شيء مشمول وفق خرائط مصالح القوى العظمى.
بقلم: مئير بن شباط
إسرائيل اليوم 30/1/2022
القدس العربي
—————————
هل سيقع بوتين في فخ أوكرانيا/معقل زهور عدي
بتاريخ الخامس والعشرين من يوليو 1990 وأثناء اجتماعها مع الرئيس الراحل صدام حسين عبرت السفيرة الأميركية في بغداد أبريل غلاسبي عن أن الولايات المتحدة غير مهتمة بالصراعات العربية – العربية في إشارة إلى النزاع بين العراق والكويت.
وحسب نسخة من مضمون اللقاء تم إرسالها في برقية من السفارة الأميركية إلى واشنطن قالت غلاسبي للرئيس “يمكننا أن نرى أنكم نشرتم عددا كبيرا من الجنود في الجنوب. في العادة هذا الأمر لا يخصنا ولكن عندما يحدث ذلك في سياق تهديداتكم ضد الكويت فسيكون من المعقول أن نشعر بالقلق. لهذا السبب تلقيت تعليمات أن أطلب منكم بروح الصداقة -عدم المواجهة- وفي ما يتعلق بنواياكم: لماذا تحشد قواتكم قريبا جدا من حدود الكويت؟”.
في وقت لاحق نشر جزء من كامل النص الذي قالته غلاسبي للرئيس كما يلي “ليس لدينا أي رأي حول الصراعات العربية – العربية مثل نزاعك مع الكويت”، نشرته صحيفة نيويورك تايمز في سبتمبر 1990.
ومع أن غلاسبي تعرضت للمساءلة من قبل لجنة من مجلس الشيوخ حول مقابلتها مع صدام، لكن أحدا لم يستطع توجيه اللوم إليها حيث كان من الواضح أنها قد التزمت بتوجيهات وزارة الخارجية الأميركية حول ذلك الموضوع.
لا يمكن أن يختلف اثنان في أن الرسالة التي أوصلتها غلاسبي لصدام كانت مخصصة لتضليل صدام ودفعه للاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستدير وجهها بعيدا عن هجومه الوشيك على الكويت، وأنها ستحاول حل الأمور معه بطريقة دبلوماسية وربما ستكتفي بدعم سياسي لبقية دول الخليج ومصر في مسعى عربي لدفع صدام للانسحاب من الكويت مقابل ثمن تحدده المفاوضات.
أي أن السياسة الأميركية استدرجت صدام لاحتلال الكويت تمهيدا لتوجيه ضربة قاصمة للجيش العراقي هناك كما حصل بالفعل.
اليوم ربما يتكرر السيناريو مع بوتين. في البداية هناك ليونة وتساهل من جانب الإدارة الأميركية تجاه نوايا الهجوم على أوكرانيا. عواقب احتلال أوكرانيا ليست سوى فرض عقوبات اقتصادية غير محددة. الغرب بزعامة الولايات المتحدة يقول لروسيا لن نقف في وجهكم، ولن نحارب ضدكم، فقط لدينا حزمة من العقوبات الاقتصادية ربما تكون مؤلمة للاقتصاد الروسي وهذا كل شيء.
بالطبع الجميع يعرف أن تهديدا كهذا لا يمكن أن يدفع بوتين إلى التراجع، بل سيشجعه على المضي نحو الأمام. بوتين ربما يفكر على النحو الآتي: بعد احتلال أوكرانيا وتنصيب رئيس موال ستبدأ المفاوضات مع الغرب لرفع العقوبات من موقع القوة. مثال إيران حاضر أمام بوتين، وروسيا تمتلك من الأوراق أكثر مما تمتلكه إيران، ربما يستغرق الأمر بعض الوقت، لكن في النهاية سيرضخ الغرب للأمر الواقع في أوكرانيا كي لا يغضب الدب الروسي ويتحول غضبه نحو بلد أوروبي آخر مثل بولندا.
لكن ماذا إذا اشتعلت المقاومة ضد روسيا في أوكرانيا، وفتحت الولايات المتحدة ترسانتها الحربية لإمداد الأوكرانيين الذين شعروا بأن بلدهم أصبح تحت الاحتلال، وشيئا فشيئا انخرطت أوروبا في مواجهة سياسية واقتصادية وإعلامية شاملة مع روسيا بحيث تصبح روسيا معزولة وينظر إليها كدولة توسعية عدوانية تهدد السلام العالمي.
روسيا ليست الاتحاد السوفييتي السابق، وحجم اقتصادها لا يؤهلها لحرب طويلة في المستنقع الأوكراني، وليست لديها القدرة لمواجهة الغرب حتى في ضعفه الراهن.
فهل يجري استدراج الدب الروسي للخروج من قلعته والوقوع في الفخ الأوكراني تمهيدا لتوجيه ضربة له تعيده إلى المربع الأول كحاله في التسعينات من القرن الماضي؟
غرور بوتين واندفاعه نحو استعادة مكانة الاتحاد السوفييتي وما أظهره بايدن من ضعف في طريقة انسحابه من أفغانستان كما انشغاله بالخطر الصيني كل ذلك يهيئ الطريق لمنزلق نحو الفخ الأوكراني، منزلق قد لا يكون سهلا التراجع عنه حين يقفل باب القفص على الدب الروسي.
كاتب سوري
العرب
———————
======================
تحديث 02 شباط 2022
—————————–
حافة الصدام: مناورة روسيا الخطرة في أوكرانيا
تتصاعد الأزمة بين روسيا والدول الغربية حول أوكرانيا، فبينما تطالب روسيا بالتزام مكتوب بألا تلتحق أوكرانيا بالحلف الأطلسي فإن الدول الغربية تحذرها من عواقب وخيمة إذا شنَّت حربًا على أوكرانيا، وقد تُبقي موازين القوى بين الطرفين، الروسي والغربي، الوضع على حافة الانهيار فتظل أوكرانيا غير مستقرة وقيادتها غير قادرة على فرض سيطرتها على مجمل البلاد.
بدأت روسيا نشر قواتها على حدود أوكرانيا، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي 2021. ومع زيادة حجم الحشود، ارتفع منسوب القلق الغربي من احتمال قيام روسيا بغزو أوكرانيا. ولكن هذا لم يكن الحشد الروسي الأول على حدود الجارة الغربية والجمهورية السوفيتية السابقة، ولا هو بداية الأزمة الأوكرانية. الجديد هذه المرة أن روسيا، التي تقول إنها ليست بصدد الغزو، تطالب الغرب بضمانات أمنية محددة، على رأسها التعهد بعدم ضمِّ أوكرانيا إلى حلف الناتو.
خلال الشهرين الماضيين، حاولت الولايات المتحدة، والدول الغربية الأخرى في أوروبا، احتواء الأزمة، سواء عبر اتصالات مباشرة مع القيادة الروسية، أو التلويح بعقوبات بالغة القسوة على روسيا في حال قامت بالاعتداء على أوكرانيا. ولكن هذه الاتصالات لم تنجح في نزع فتيل الأزمة، التي يبدو أنها تزداد تفاقمًا وتعقيدًا، بدلًا من الانحسار والانفراج.
وأوروبا التي لم تخرج بعد من ضغوط وباء كوفيد 19، والأعباء الهائلة التي ألقى بها الوباء على اقتصاد دولها، تعيش القارة قلق الغزو الروسي المحتمل. صحيح أن التوتر على الحدود الروسية-الأوكرانية لا يمكن أن يعتبر مماثلًا لأزمة برلين في ستينات القرن الماضي، لا في دلالاته ولا سياقه ولا في صلته بالغرب الأوروبي، ولكن تظل هذه أزمة غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة؛ وإن تطورت إلى حرب ساخنة، فلا يمكن لأحد توقع عواقبها على دول الاتحاد الأوروبي، ودول حلف الناتو الشرقية مثل تركيا، وتوازن القوى في القارة الأوروبية ككل.
أين تقع جذور هذه الأزمة؟ وهل يقوم بوتين فعلًا بغزو أوكرانيا إن لم تقدِّم له الدول الغربية التعهدات الأمنية التي يطلبها؟ وإلى أين يمكن أن تنتهي تحركات بوتين المسلحة فعلًا، أقدم على الغزو أم لم يُقدم؟
أوكرانيا الجيوسياسية
لم تكن أوكرانيا دولة مستقلة في تاريخها إلا لفترات قصيرة، لوقوعها خلال معظم هذا التاريخ أسيرة مدِّ وجزر الإمبراطوريات الليتوانية، والبولندية، والهنغارية-النمساوية، والروسية. وتحتل أوكرانيا موقعًا خاصًّا في الذاكرة التاريخية الروسية. أوكرانيا هي موطن شعب الروس الأول؛ وفي ميناء سيفاستبول الأوكراني، تقول الأسطورة: اعتنق الأمير فلاديمير، في 998، المسيحية، في أول دخول للكنيسة الأرثوذكسية إلى بلاد الروس. ومنذ القرن التاسع عشر، على الأقل، بدأ المثقفون الروس يروِّجون لفكرة وجود أمة روسية-أوكرانية واحدة، وأن ليس ثمة تمايز إثني-ثقافي جوهري بين الشعبين.
بيد أن الموقع الذي تحتله أوكرانيا في تصور روسيا لفضائها الجيوسياسي يفوق بكثير موقعها في الوعي الثقافي الروسي. أوكرانيا هي بوابة روسيا إلى الغرب، وهي حزام الأمن الضروي بين روسيا والقوى الأوروبية الغربية، وعبر ممرها السهلي الفسيح تعرضت روسيا للغزو مرتين منذ تأسيسها: الغزو النابليوني في بداية القرن التاسع عشر، والغزو النازي في أربعينات القرن العشرين. وبالرغم من أن روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي تنظر بقلق كبير إلى متغيرات ما يُعرف بالخارج القريب، فإن موقع أوكرانيا لا يمكن أن يقارن بأية صورة من الصور بدول القوقاز ووسط آسيا. ليس ثمة شك في أن موسكو ترى أن من الضروري الحفاظ على نفوذ فعال في القوقاز ووسط آسيا، ولكن الصحيح أيضًا أن روسيا لا تتوقع مواجهة تهديد وجودي في الجنوب. أوكرانيا شأن مختلف تمامًا.
في حال التحقت أوكرانيا بحلف الناتو، يمكن لصواريخ الحلف أن تُنْصَب على مسافة لا تزيد عن 200 كيلومتر من سان بطرسبرغ. إضافة إلى ذلك، فقد كانت سيطرة روسيا القيصرية على شبه جزيرة القرم في 1773، الخطوة الأهم والأكبر التي حققتها في طريقها إلى البحار الدافئة. والمشكلة، التي لم تكن برزت حينها، أن خروتشوف، سكرتير الحزب الشيوعي السوفيتي، أوكراني الأصل، منح شبه جزيرة القرم لجمهورية أوكرانيا السوفيتية، لسبب غير واضح حتى الآن. بذلك، أصبحت أوكرانيا شريكًا رئيسًا لروسيا على ساحل البحر الأسود. وباستقلال أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ذهب هذا القطاع الساحلي بموانئه العميقة، والقاعدة البحرية السوفيتية الرئيسة على البحر الأسود، إلى أوكرانيا.
بكلمة أخرى، إن لم تكن أوكرانيا آمنة، لا يمكن للدولة الروسية أن تشعر بالأمان مطلقًا.
خارج روسيا القريب
في نهاية 2003، وبينما أصبح واضحًا أن الولايات المتحدة بدأت الغرق في العراق، اندلعت ثورة شعبية في جورجيا، أطاحت بنظام إدوارد شيفرنادزه الموالي لروسيا. اتهمت موسكو الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، بالوقوف خلف الثورة الجورجية، وأن الغرب يعمل على محاصرة روسيا. ولكن الأمر لم يقتصر على جورجيا؛ ففي 2004، اندلعت ثورة أخرى في أوكرانيا، أسقطت نظام فيكتور يانكوفيتش، الموالي هو الآخر لروسيا. ومرة أخرى، وجَّهت موسكو أصابع الاتهام للولايات المتحدة ومنظمات العمل المدني المموَّلة من واشنطن.
خلال السنوات العشرين التالية على انهيار الاتحاد السوفيتي، توسع حلف الناتو في كافة دول حلف وارسو ودول الاتحاد السوفيتي السابقة في أوروبا، بما في ذلك رومانيا وبلغاريا وبولندا ودول البلطيق الثلاث. ولم يعد هناك من فاصل بين روسيا ودول الناتو الأوروبية سوى أوكرانيا وبيلاروسيا.
عمل بوتين، منذ توليه رئاسة البلاد، في مايو/أيار 2000، على إيقاف التدهور المتفاقم في مقدَّرات روسيا العسكرية، وعلى إعادة بناء الجيش والأسطول. في 2008، وبالرغم من أنه تخلى عن تولي منصب الرئيس وتسلم رئاسة الحكومة، قاد بوتين عملية عسكرية خاطفة ضد جورجيا، بهدف الحفاظ على أمن المقاطعات الجورجية المنشقة في الشريط الحدودي بين جورجيا وروسيا الاتحادية. نجم عن العملية العسكرية ما يشبه التدمير الكامل لجيش جورجيا؛ ولكن هدف بوتين الحقيقي من الحرب كان إرسال رسالة إلى الغرب بأن روسيا تعود إلى الساحة الدولية، وأنها لن تتسامح مع أي تهديد يصدر من خارجها القريب.
في أوكرانيا، لم تحسن المعارضة إدارة البلاد بعد ثورة 2004، وهو ما ساعد موسكو على إعادة بناء العلاقات مع الجارة ذات الأهمية الجيوستراتيجية القصوى، ومساعدة يانكوفيتش في 2010 على العودة إلى رئاسة البلاد. ولكن رفْض يانكوفيتش في نهاية 2013 للشروط التي وضعتها أوروبا لتوقيع اتفاقية تعاون بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، أدى إلى اندلاع موجة ثورية شعبية أوكرانية جديدة، وإلى هروب يانكوفيتش في فبراير/شباط 2014. هذه المرة، بدا أن روسيا لن تستطيع استعادة أوكرانيا في المدى المنظور، وأن على روسيا العمل من أجل تقليل حجم الخسائر. وهذا ما عكف بوتين على تحقيقه بأقصى سرعة ممكنة.
مشكلة أوكرانيا، كما هي مشكلة عدد من دول الاتحاد السوفيتي السابقة، أن تكوينها السكاني ليس متجانسًا. يبلغ حجم الأوكرانيين من إثنية روسية 18 بالمئة من السكان؛ وبينما تعتبر المقاطعات الغربية مهد القومية الأوكرانية، يشكِّل الأوكرانيون الروس أغلبية في شبه جزيرة القرم وثماني مقاطعات شرقية. وهذا ما ساعد بوتين في تحركه لمواجهة خسارة أوكرانيا في 2014.
سيطرت قوات روسية على شبه جزيرة القرم بعد شهور قليلة فقط من انهيار نظام يانكوفيتش؛ وأُعلن عن استفتاء شعبي حول انضمام شبه الجزيرة إلى الاتحاد الروسي. في الوقت نفسه، عملت روسيا على دعم عسكريين أوكرانيين روس سابقين، في إقليم دونباس في شرق أوكرانيا، على الانشقاق عن كييف. خلال السنوات منذ اندلاع القتال في إقليم دونباس، أدى الصراع بين كييف والمنشقين الروس إلى وقوع ما لا يقل عن 13 ألف قتيل، وإلى دمار واسع النطاق في الشرق الأوكراني.
لم تستطع إدارة بوش الابن فعل الكثير لمواجهة روسيا في جورجيا، سوى مدِّ يد العون لحكومة تبليسي لإعادة بناء جيشها واقتصادها. كما لم تستطع إدارة أوباما فعل الكثير في شبه جزيرة القرم، سوى الإعلان عن رفض الاعتراف بانضمام شبه الجزيرة للاتحاد الروسي، وفرض عقوبات اقتصادية على روسيا. وكما الولايات المتحدة، رفضت دول الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء في الناتو، بما في ذلك تركيا، الاعتراف بضم شبه الجزيرة، وإن تفاوتت في مستوى العقوبات التي فرضتها على موسكو.
بيد أن تلك لم تكن النهاية. عندما أخذ الاتحاد السوفيتي في الانهيار، كانت اللغة السائدة في العواصم الغربية تجاه روسيا تنم عن سعي إلى مصالحة تاريخية، ووضع نهاية للعزلة والتفرد الروسي، واستقبال روسيا تحت المظلة الغربية. ولكن وعود المصالحة لم تتحقق مطلقًا؛ ولأن روسيا خرجت من الحرب الباردة بنصف هزيمة وحسب، سمحت لها بالاحتفاظ بثاني أكبر ترسانة نووية في العالم، لم تلبث الولايات المتحدة في عهدي، كلينتون وبوش الابن، الطويلين أن عملت على عزل موسكو عن القرار الدولي، والتعامل مع روسيا باعتبارها خطرًا محتملًا.
لمواجهة روسيا في جورجيا وأوكرانيا والبحر الأسود، تدفقت المساعدات الغربية على جورجيا وأوكرانيا، وشجعت القوى الغربية الأصوات الداعية في الدولتين إلى تقوية روابط بلدانها مع المعسكر الغربي. عززت الولايات المتحدة وجودها في البحر الأسود، بالرغم من محدودية الفترة الزمنية التي يُسمح بها بوجود عسكري في البحر للدول غير المطلَّة عليه. ومنذ نهاية عهد بوش الابن، وخلال سنوات إدارة أوباما، عملت الولايات المتحدة على نشر منظومة صواريخ مضادة للصواريخ في دول أوروبا الشرقية الأعضاء في الناتو، وإنشاء مراكز رادار متقدمة في عدد من هذه الدول، بما في ذلك في جنوب شرق تركيا.
حلقة تأزم جديدة
يقول الروس دائمًا: إن الغرب، والولايات المتحدة، على وجه الخصوص، قدَّم لروسيا، على لسان جيمس بيكر، وزير خارجية بوش الأب، وعدًا قاطعًا بعدم توسع الناتو في أوروبا الشرقية ودول الاتحاد السوفيتي السابقة. ويقول الروس: إن هذا الوعد كان الضمانة الرئيسة التي أدت إلى أن تسحب حكومة غورباتشوف معارضتها للوحدة الألمانية. لا ينكر الأميركيون أن جيمس بيكر تحدث بذلك مع غورباتشوف؛ ولكنهم يجادلون بأن ما قاله بيكر لم يكن سياسة ملزمة للحكومة الأميركية، لا لإدارة بوش الأب ولا الإدارات التالية.
بيد أن الخطر الذي يراه الروس في جملة التحركات الغربية منذ تسعينات القرن الماضي، بات يتجاوز توسع الناتو، ويطول توازن القوة في الساحة الأوروبية، ومحاولات محاصرة الوجود الروسي في البحر الأسود وإضعاف النفوذ الروسي في البلقان، واستمرار محاولات التمدد في دول آسيا الوسطى والقوقاز السوفيتية السابقة، ولم ينفذ الغرب وعوده في المساعدة على تحديث الصناعة الروسية.
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي 2021، عندما استخدمت أوكرانيا الطائرات بيرقدار المسيرة، التي سبق أن اشترتها من تركيا، في قصف مواقع مدفعية ثقيلة للمنشقين في إقليم دونباس، وجد بوتين فرصة لاتخاذ خطوة أخرى لتحقيق هدف الحفاظ على أمن روسيا في الخارج القريب. قالت موسكو: إن القصف الأوكراني لمواقع المنشقين الأوكرانيين الروس هو انتهاك صريح لاتفاقية مينسك لوقف إطلاق النار في دونباس، ويمثل تصعيدًا خطيرًا للصراع. دافعت كييف عن موقفها بأنها لم تكن تتخذ خطوات هجومية بأية صورة من الصور، ولكنها ردَّت وحسب على مواقع مدفعية استهدفت جنودها وأوقعت خسائر بينهم. ولكن تبيُّن حقيقة ودلالات تبادل القصف على الخط الفاصل بين كييف ومنشقي دونباس بات ثانويًّا بعد أن أحدث أزمة جديدة في الساحة الأوروبية.
خلال الأسابيع القليلة التالية، أخذت روسيا في حشد عشرات الآلاف من الجنود في ثلاثة محاور حدودية مع أوكرانيا. وفي يناير/كانون الثاني 2022، نُقلت قوة روسية معتبرة الحجم، مدعومة بأحدث الطائرات المقاتلة، إلى بيلاروسيا، المحاذية لأوكرانيا في الغرب، بحجة إجراء مناورات مشتركة.
طوال ما يقارب ثلاثة شهور من الحشد، لم تخترق القوات الروسية الحدود الأوكرانية، ولا أطلقت طلقة واحدة باتجاه الجيش الأوكراني ولكن العواصم الغربية تصر على أن الحشد العسكري الروسي ليس سوى مقدمة لغزو أوكرانيا، بصورة محدودة أو واسعة النطاق، ومحاولة تغيير نظام الحكم الأوكراني بقوة السلاح. ولذا، ولاحتواء احتمالات التهديد الروسي لأوكرانيا، سارعت الولايات المتحدة ومعظم حليفاتها الغربيات إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات.
تحدث الرئيس الأميركي مع نظيره الروسي، في مطلع ديسمبر/كانون الأول 2021، والتقى وزيرا خارجية الدولتين مرتين: في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2021 والعاشر من يناير/كانون الثاني 2022. يفيد ما رشح من هذه الاتصالات أن الأميركيين أبلغوا الروس بأن غزو أوكرانيا سيواجَه بعقوبات اقتصادية مباشرة وبالغة القسوة على روسيا، وأن الولايات المتحدة على توافق كامل مع حليفاتها الأوروبيات بهذا الخصوص. إضافة إلى ذلك، قامت الولايات المتحدة وقوى أوروبية أخرى، سيما بريطانيا، بإمداد أوكرانيا بأسلحة دفاعية نوعية، وأسلحة للاستخدام في مقاومة القوى المحتلة؛ وبنشر عدة آلاف من الجنود في عدد من دول الناتو القريبة من أوكرانيا وبيلاروسيا.
عقب لقائه الثاني مع نظيره الأميركي، أشار وزير الخارجية الروسي، لافروف، إلى أن بلاده لم تعد تثق بوعود وتطمينات الغرب، وأنها طالبت إدارة بايدن بتقديم ردٍّ مكتوب على المطالب الأمنية الروسية؛ الرد الذي سُلِّم بالفعل للجانب الروسي، في 26 يناير/كانون الثاني. خلال الأيام القليلة التالية على تسلم الرد الأميركي، لم يُخْفِ الروس خيبة أملهم من الموقف الأميركي، بدون أن يعلنوا صراحة عن توقف المسار التفاوضي. أما في الجانب الأميركي، فقد أكد مسؤولو إدارة بايدن على أن الرد على المطالب الروسية لم يشمل تعهدًا بامتناع الناتو عن ضمِّ أوكرانيا في المستقبل؛ وهو الموقف الذي تكرر على لسان سكرتير عام حلف الناتو.
مع نهاية يناير/كانون الثاني 2022، وبينما تحولت الأنظار إلى جلسة مجلس الأمن الدولي التي عُقدت لمناقشة الأزمة الأوكرانية، أكدت مصادر استخباراتية غربية أن روسيا دفعت بمعدات وقوات إلى محاور الحشد العسكري المحيطة بأوكرانيا. بمعنى، أن روسيا، وبالرغم من توكيد مندوبها بمجلس الأمن على أنها لا تخطط لغزو أوكرانيا، لم تزل مستمرة في التجهيزات العسكرية الضرورية لعملية غزو عسكري.
مراهنة محفوفة بالمخاطر
النهاية الأفضل للأزمة الأوكرانية، من وجهة نظر بوتين، أن يؤدي نشر القوة العسكرية إلى إقناع واشنطن وحلفائها الأوروبيين بأن روسيا جادة وقادرة على غزو أوكرانيا، وأن تتحرك بالتالي نحو الاستجابة للمطالب الروسية، ولو في حدها الأدنى على الأقل. بمعنى، أن موسكو التي تطالب بالحفاظ على حياد أوكرانيا وعدم ضمها لحلف الناتو، وسحب وجود الحلف العسكري في بلغاريا ورومانيا، يمكن أن تقبل في هذه المرحلة باتفاق على وضع أوكرانيا، وحسب.
ولكن طريقة التعامل الأميركي مع الأزمة لا توحي بأن إدارة بايدن ستقدم لموسكو أي تعهدات بخصوص علاقة أوكرانيا المستقبلية مع الناتو. ولأن بوتين، الذي يعتقد -كما يبدو- أن هذه فرصة لا يمكن تفويتها، يصعب عليه التراجع بدون تحقيق أهداف روسيا الأمنية في أوكرانيا، يقول قطاع من صانعي القرار الغربي: لم يعد ثمة مفر من الحرب. عدد من المراقبين يعتقد أن الولايات المتحدة، وليس أوروبا أو تركيا، ربما تريد رؤية بوتين يقوم فعلًا بغزو أوكرانيا. إنْ تجرَّأ بوتين على اتخاذ هذه الخطوة، فلن يواجه مقاومة صلبة من الأوكرانيين وحسب، بل وستُفرض عليه، وعلى نظامه، وعلى الدولة الروسية، حزمة عقوبات غير مسبوقة، تعيد روسيا عدة عقود إلى الوراء.
الاحتمال الآخر، بالطبع، أن توجه روسيا ضربة قاصمة للمقدرات العسكرية الأوكرانية، مستخدمة هذا المسوِّغ أو ذاك، بدون أن تقدم على غزو فعلي، بهدف صناعة مناخ من عدم الاستقرار، يفضي إلى إطاحة نظام الرئيس، فلاديمير زينسكي، في كييف، ويفتح المجال لمفاوضات روسية-أوكرانية، وروسية-غربية، حول وضع أوكرانيا وعلاقتها المستقبلية مع روسيا.
المشكلة التي قد تواجه بوتين في هذه الحالة، بالطبع، أن تقوم الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات بفرض عقوبات على روسيا، حتى إن لم تتجاوز القوات الروسية خط الحدود مع أوكرانيا. أما الأكثر مدعاة لقلق موسكو فهو أن تسارع أوكرانيا، إن اعتُدي عليها بهذه الصورة أو تلك، إلى طلب عضوية الناتو، وأن يوافق الحلف في النهاية على ضمها.
الخيار الثالث، والأكثر أمنًا لروسيا، في المدى المنظور، على الأقل، يتلخص في تجنب غزو أوكرانيا أو الاعتداء عليها، والمحافظة على مناخ التوتر المحيط بها، في الوقت نفسه، لأطول فترة ممكنة. باعتماد سياسة الصبر والنفس الطويل، تأمل موسكو بأن تفضي الضغوط على أوكرانيا إلى تغيير نظام الحكم في كييف لصالح التفاهم مع روسيا. ولكن هذا الخيار، غير مضمون النتائج، وباهظ التكاليف، سيواجَه هو الآخر بردود فعل غربية، يصعب مقدمًا تقديرها أو كيفية تعامل روسيا معها.
في النهاية، ومهما كان المسار الذي ستتخذه الأزمة في الأسابيع والشهور المقبلة، فإن من الصعب تصور انسحاب بوتين بدون تنازلاتٍ غربيةٍ ما تنقذ ماء وجه روسيا. في تاريخ روسيا الطويل والمرهق، لم تبرز ثمة علاقة وثيقة بين بقاء الحاكم والأعباء الاقتصادية التي يمكن أن يعاني منها الشعب الروسي. وليس ثمة شك في أن عقوبات غربية على روسيا ستواجَه بإيقاف إمدادات الطاقة الروسية إلى أوروبا، بكل ما يعنيه مثل هذا التطور للاقتصاد الأوروبي، والاقتصاد العالمي ككل.
——————————-
واشنطن – موسكو .. معركة كسر عظم/ علي العبدالله
جاء الحشد العسكري الروسي الكبير على الحدود الأوكرانية في إطار خطّة تهدف إلى الضغط على الولايات المتحدة، لدفعها إلى القبول بإعادة النظر في اتفاقات إنهاء الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفييتي؛ وما تلاها بعد انهيار الأخير من تمدّد حلف شمال الأطلسي (الناتو) نحو الحدود الغربية لروسيا الاتحادية، ونشره موارد عسكرية كبيرة في دول شرق أوروبا التي كانت جزءا من الكتلة الشيوعية وحلف وارسو، فالقيادة الروسية ترى هذه الاتفاقات أضرّت بالمصالح الروسية، وأن “الحلف” قد حنث بوعده وتمدّد في دول شرق أوروبا وهدّد أمن روسيا القومي. وقد تجسّدت هذه المطالب بوضوح في مباحثاتها مع الولايات المتحدة و”الحلف” أخيرا، حيث طالبت بـ التزامات مكتوبة بعدم ضم أوكرانيا وجورجيا إلى “الحلف”، وسحب قوات “الحلف” وأسلحته من دول أوروبا الشرقية التي انضمت إليه بعد عام 1997، ولا سيما من رومانيا وبلغاريا. طلبات قرنتها بتهديد باتخاذ إجراءاتٍ تقنية؛ لم تحدّد طبيعتها؛ وبتحذير من التداعيات الأكثر خطورةً في حال جرى تجاهل قلقها المشروع.
لم تكتف القيادة الروسية بحشد قواتٍ كبيرة على الحدود مع أوكرانيا، تباينت تقديرات المراقبين حول عديدها بين مائة ألف جندي و175 ألفا، وعتاد ثقيل، بل دفعت بقوات إضافية إلى الأراضي البيلاروسية بحيث تطوّق أوكرانيا من ثلاث جهات. وأجرت مناورات عسكرية، برّية وبحرية، في شبه جزيرة القرم وبحر بارنتس، وأعلنت عن بدء مناورات ضخمة في بحر البلطيق بمشاركة 20 سفينة حربية، وعن مناورات كبيرة، 140 سفينة وعشرة آلاف بحار، بالذخيرة الحية ستجريها في شهر فبراير/ شباط الجاري في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك قبالة الساحل الأيرلندي، بهدف “حماية المصالح الوطنية لروسيا في محيطات العالم”، وفق إعلان وزارة الدفاع الروسية، وأجرت مناوراتٍ بحريةً في بحر عُمان مع قوات بحرية صينية وإيرانية. وبدأت بحشد قوات بحرية في البحر الأبيض المتوسط، فبالإضافة إلى الأسطول الروسي المتمركز في ميناء طرطوس السوري، والمؤلف من عشر سفن، تتوجه إليه ست سفن إنزال كبيرة عبر بحر المانش ومضيق جبل طارق، كما تتوجّه حاملة صواريخ كروز “فارياغ” التابعة لأسطول حرس المحيط الهادئ وسفينة الأدميرال تيربوتس الكبيرة المضادّة للغواصات، والناقلة البحرية الكبيرة بوريس بوتوما نحو سورية عبر البحر الأحمر وقناة السويس، لاستعراض القوة قرب الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ونشر 12 منظومة صاروخية مضادّة للطائرات من طراز إس 400 في بيلاروسيا، وإرسال طائرات سو35 إلى هناك لإجراء تدريبات جوية.
لم يكن تمدّد “الحلف” ونشره موارد عسكرية في دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى صفوفه جديدا أو طارئا، ولكن الجديد والطارئ ما استنتجته القيادة الروسية من معطيات اللحظة السياسية: الارتباك والضعف الذي تشهده الإدارة الأميركية نتيجة الانقسام المجتمعي والخلافات السياسية الحادّة داخل النخبة الأميركية وأحزابها ومؤسساتها بشأن سبل مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية، وإعطاء الولايات المتحدة جل اهتمامها لمواجهة الصعود الصيني، وانشغالها بتخصيص الموارد السياسية والعسكرية لهذا الهدف، وتعدّد الملفات الساخنة التي تواجهها وما تنطوي عليه من احتمالات خطيرة، وما تستدعيه من تخصيص موارد ضخمة لكل ملفٍّ يرفض الرأي العام الأميركي هدرها على قضايا خارجية، بينما يحتاجها الداخل الوطني، وأعراض ضعف أميركية عكستها مجموعة مؤشّرات سياسية وعسكرية: أولها سياسة الإدارة الأميركية عدم استفزاز روسيا. ثانيها، تحفظ دول في التحالف الغربي على التوجه الأميركي وخططه للتعاطي مع التحدّيات الخارجية، روسيا والصين وإيران، ومحاولتها تجنّب المخاطر في ضوء مصالحها مع هذه الدول وتبعات جائحة كورونا وانعكاسها الاقتصادي والاجتماعي، بما في ذلك ارتفاع سعر النفط والغاز، والتغيرات البيئية. ثالثها، وجود قوى وازنة، الصين وإيران، تناصب النظام الدولي الليبرالي العداء، وتتبنى موقفا مضادّا ومتحدّيا لزعامة الولايات المتحدة لهذا النظام؛ وترغب في رسم معالم نظام دولي بديل. رابعها، وجود سند اقتصادي قوي، الصين، تستطيع الاعتماد عليه لمواجهة العقوبات الغربية المتوقعة. خامسها وأهمها، ردّها الضعيف على اجتياحها أراضي جورجيا عام 2008 واحتلت شبه جزيرة القرم عام 2014 وضمتها، ودعمها روسيا في شرق أوكرانيا لإقامة جمهوريتين شعبيتين: دونيتسك ولوهانسك، ما يشير إلى نجاح استخدام القوة في تحقيق مكاسب جيوسياسية وإمكانية استخدامها لإقناع القادة الغربيين بإعادة التفاوض حول الحدود والنفوذ في القارّة الأوروبية.
جاء الرد الغربي على غير ما قدّرت القيادة الروسية، حيث ذهبت المواقف الغربية المعلنة نحو التصعيدين، السياسي والعسكري. لقد استنتجت القيادات الغربية أن تنمّر القيادة الروسية واستفزازاتها المتتالية نجمت عن قراءتها الذاتية لعدم ردّها على هذه الاستفزازات واعتباره ضعفا فتمادت في استفزازاتها؛ لذا قرّرت الرد بما يعيد القيادة الروسية إلى واقعها ورشدها، ويلجم اندفاعها فعقدت اجتماعاتٍ متتالية لدول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وقرّرت الرد على الخطوة الروسية بالتمسّك بحق أوكرانيا وجورجيا بالاختيار، وبدأت بحشد موارد عسكرية في دول شرق أوروبا وبتعزيز قدرات أوكرانيا العسكرية والمالية على مواجهة أي غزو روسي محتمل. أعلن الحلف أن بعض الدول الأعضاء وضعت قواتها في حالة تأهب، وأرسلت سفنا وطائرات مقاتلة إضافية إلى أوروبا الشرقية لطمأنة الحلفاء هناك، عرضت فرنسا إرسال قوات إلى رومانيا؛ وأرسلت الدنمارك فرقاطة وطائرات إف 16 إلى ليتوانيا، وأرسلت هولندا طائرتين من طراز إف 35 إلى بلغاريا، كما وضعت سفنا ووحدات برّية في حالة تأهب للمشاركة في قوة الرد السريع، ودعمت إسبانيا انتشارها البحري في البلطيق، ووضعت الولايات المتحدة 8500 جندي في قواعدها في تكساس وفورت هود ولويس ماكورد وفورت بولك وقاعدة دافيس مونتان الجوية في أريزونا في حالة تأهبٍ قصوى، استعدادا لانتشار محتمل في أوروبا الشرقية، ولمحت إلى إمكانية تغيير انتشار أكثر من 60 ألف جندي أميركي يتمركزون في أوروبا، “دفع الكثير من الأصول العسكرية الأميركية إلى عتبة باب بوتين”، وفق اقتراح قدمه البنتاغون للرئيس الأميركي، وبدء مناوراتٍ بحريةٍ وبريةٍ لقوات الحلف في إستونيا تستمر أسبوعين، لاختبار فعالية التنسيق بين القوات البرية والبحرية. وأرسلت دول في الحلف، ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، أسلحة إلى أوكرانيا، صواريخ أميركية “غافلين” المضادّة للدبابات و”ستينغر” المضادة للطائرات، والمملكة المتحدة نحو 1600 صاروخ من نوع “أن أل أي دبليو” قصير المدى، والولايات المتحدة طائرتين محملتين بأسلحة مضادة للدبابات وتجهيزات أمنية؛ ووقعت معها اتفاقية للتعاون الأمني؛ ومنحتها مساعدة مالية قيمتها 200 مليون دولار، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن مساعدات مالية بنحو 1.2 مليار يورو، أو 1.36 مليار دولار، لمساعدتها خلال هذه الأزمة. وهذا مع تلويح بفرض عقوبات أوروبية قاسية، لم يسبق لها مثيل، وفق إعلان وزارة خارجية الدنمارك، وأميركية ستشمل المصارف الروسية وقيوداً غير مسبوقة على صادرات معدات التقنية الأميركية المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتقنية صناعة الطيران، وهو ما “سيضرب بشدة طموحات الرئيس الروسي الاستراتيجية لتحويل اقتصاده نحو التصنيع”، وفق مسؤول أميركي رفيع، كما ستشمل، العقوبات، الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نفسه. مشهد يعيد إلى الأذهان صور التحرّك الغربي ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان.
وقد بدأت الحكومة الأوكرانية بتحضير مواطنيها للحرب، عبر منشورات عن تعليمات الإسعافات الأولية وتفسير الحرب للأطفال وتدريب المدنيين، بمن في ذلك النساء والأطفال، على استخدام الأسلحة والدفاع المدني وحرب العصابات. وقال ثلث المشاركين، في استطلاع أجري في نهاية العام الماضي، إنهم سيحملون السلاح إذا غزا الروس بلادهم، وقد امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي الأوكرانية بهاشتاغات تعلن استعداد الأوكرانيين للحرب، منها هاشتاغ “نحن مستعدون”. ووجدت القيادة الروسية نفسها في موقفٍ حرج، في ضوء التصعيد الجماعي الغربي، وصفته بالهستيري، والموقف الموحد الرافض لطلباتها بإعادة النظر في اتفاقات إنهاء الحرب الباردة وسحب قوات الحلف وموارده العسكرية من دول شرق أوروبا ونشرها على الحدود التي كانت عليها عام 1997، واعتبرت التلويح بفرض عقوباتٍ على الرئيس الروسي تجاوزا للخطوط الحمر، “هذا الأمر ليس مؤلماً بل مدمر”، وفق المتحدّث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، وندّدت بوضع آلاف الجنود الأميركيين في حالة تأهب قصوى، وسحب عائلات الدبلوماسيين من أوكرانيا باعتباره تصعيداً للتوتر.
اكتشفت القيادة الروسية أن حشدها المدرعات والصواريخ على أبواب أوكرانيا ردّا على سعي الأخيرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي قد أجّج النزعة القومية الأوكرانية وقوّى الموقف الأوكراني الداعي إلى التوجّه غربا، من جهة، وأيقظ وحفّز الردع الغربي الذي بقي متراخياً بعد نهاية الحرب الباردة، من جهة ثانية، فغزو روسيا شبه جزيرة القرم وضمها، ودعمها وحمايتها للجيبين الانفصاليين في الدونباس، أفرزت عكس ما قصدته، إذ إنها عزّزت المشاعر الأوكرانية المعادية لروسيا، بما في ذلك استبدال اللغة الأوكرانية بالروسية في الحديث اليومي والصحف والانفصال عن الكنسية الروسية وتغيير أسماء المدن والشوارع السوفييتية إلى أسماء أوكرانية وتحطيم تماثيل لينين لمحو كل بقايا العهد السوفييتي وتكريس هوية وطنية خاصة، وجعلت أوكرانيا تتمسّك بخيارها الغربي أكثر، كما أدّت الأزمة الحالية إلى عكس ما سعت إليه: تقسيم الغرب، حيث أدّت إلى وحدته وتماسكه.
لقد أوقعت القيادة الروسية نفسها في مأزق، فالأهداف التي تسعى إليها لا يمكن الحصول عليها بالدبلوماسية؛ والذهاب إلى الحرب غير محمود العواقب، فغزو أوكرانيا وصفة لحربٍ طويلةٍ يقف فيها الغرب إلى جانب الأوكرانيين، يمدّهم بالأسلحة والأموال لاستنزاف روسيا وإنهاكها، دون استبعاد إمكانية توسعها وامتدادها خارج أوكرانيا وتحولها إلى حرب شاملة، مع ما تنطوي عليه من احتمالات وقوع خسائر بشرية ومادية كبيرة، ستنعكس سلبا على القيادة الروسية ومستقبلها السياسي والشخصي، فالذهاب إلى الحرب ليس خيارا سهلا، وسحب القوات فيه مهانة وإذلال.
العربي الجديد
—————————–
عندما تتحوّل أوكرانيا إلى “كلمة سر”/ عبد اللطيف السعدون
يقول الروائي الأميركي، وليام فوكنر، إنّ “الماضي لا يموت لأنّه ليس ماضياً”. ولسوء حظ أوكرانيا، ينطبق هذا القول عليها أكثر من غيرها من دول القارة الأوروبية، إذ ما زالت مشكلات الماضي تلاحقها منذ كانت واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وحتى وهي في سعيها بعد إلى بناء دولتها ومؤسساتها الدستورية. وهذا ما جعلها محط أنظار الغرب والشرق على السواء، وحلقة من حلقات المواجهة المباشرة بين أميركا وروسيا، إذ تنظر إليها الأخيرة على أنّها امتداد لأمنها القومي، بحكم موقعها الاستراتيجي في شرق أوروبا ووسطها، وإطلالتها على السواحل الشمالية للبحر الأسود وبحر آزوف. وتحاول جاهدة ضمّها إلى حظيرتها كما فعلت مع شبه جزيرة القرم من قبل. ومع أنّ أوكرانيا ثاني أكبر بلد في أوروبا لناحية المساحة، فإنّ دورها في التأثير على سياسات القارّة يظل نهبا لمشيئة الأطراف الدولية التي يرى كل طرفٍ فيها ضرورةً لمصالحه وأمنه، ويعمل على دعم قوى وحركات سياسية فيها، بهدف الاستحواذ على قرارها، بينما يطمح معظم الأوكرانيين، وإن تعددت مناشئهم العرقية في أن يكونوا “بيضة القبان” في صراعات أوروبا بين الغرب والشرق، وهو الهدف الذي لم يتمكّنوا من تحقيقه بسبب تعقيدات أوضاعهم والانقسامات القائمة في صفوف اللاعبين السياسيين عندهم، إذ فشلت “ثورتان” قاموا بهما في العقد الأخير في منع التدخلات الخارجية في بلدهم.
ويلعب الجيوبوليتيك دوره في أوكرانيا، فبينما يسيطر الانفصاليون الموالون لروسيا على نقاط ومفاصل استراتيجية في الشرق، ويسعون إلى الحصول على حكم ذاتي تتيحه لهم اتفاقية مينسك التي عقدتها أوكرانيا وروسيا ومنظمة التعاون الأوروبي، نجد تأثير الطامحين إلى التحالف مع أوروبا حاضراً في غرب البلاد، وهم يعتبرون الاتفاقية بمثابة “مسمار جحا” الروسي، وقد تستغله في أي وقت.
أخيرا، تحولت أوكرانيا الى “كلمة سر” في ظل احتدام المواجهات بين موسكو وواشنطن في أكثر من مكان، وقيام روسيا بتحرّكات عسكرية على الحدود الشرقية، رأى فيها الغرب ما يُنذر باحتمال ابتلاع أوكرانيا، وهذا الأمر غير مسموح به أميركياً ولا أوروبياً. ولذلك تصاعدت حدّة التهديدات والتهديدات المضادة بين مختلف الأطراف. وظهر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لاعباً رئيسياً يمسك بكلّ خيوط اللعبة، وهو القائل: “ليست مهمة السياسي صبّ العسل في الأكواب، بل وإعطاء الدواء المرّ في بعض الأحيان” وهو في أزمة أوكرانيا اليوم يعكف على التعامل مع سيناريوهات بعضها يحوي “دواء مرّاً” قد يسبّب مضاعفات خطيرة على صعيد أمن أوروبا والعالم.
من بين هذه السيناريوهات ما كشفته وزارة الخارجية البريطانية عن اتصالاتٍ روسية بسياسيين أوكرانيين موالين لها لتنصيب أحدهم، قد يكون النائب السابق، يفغيني موراييف، حاكماً في كييف، ومن ثم طلبه من موسكو التدخل عسكرياً لحماية بلاده في مواجهة احتمال تدخل أميركي أو أوروبي، وهذا السيناريو يشبه ما رسمه صدّام حسين في ذهنه، عندما فكّر في غزو الكويت، إذ أقدم على تنصيب ضابط كويتي على صلة بالمخابرات العراقية حاكماً على الكويت، وطلب هذا الحاكم مساعدة الجيش العراقي لحماية “ثورة” مزعومة تسعى إلى ضم الكويت إلى العراق، ومعروف طبعاً ما حدث بعد ذلك، وما جرّه هذا السيناريو الأحمق على العراق والمنطقة.
ثمّة سيناريو آخر يعدّ الأقرب الى تفكير بوتين، مستمد من نظرية “مصيدة ثيوسيديدس” التي تقوم على افتراض نشوب حرب نتيجة تنمّر قوة صاعدة بوجه قوة عظمى مهيمنة دولياً. وهنا يمكن لبوتين، وهو ما يعمل عليه، أن يضع الحرب خياراً محتملاً من باب التهديد فقط، ما يدفع الطرف الخصم إلى تلبية بعض مطالبه، وهو يدرك أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن وحلفاءه الغربيين لا يميلون إلى خيار الحرب، لأنّه يغرق كلّ الأطراف في تداعياتٍ غير محسوبة، ومطالب بوتين معروفة: “لن نقبل بأن يصل حلف الناتو إلى عتبة بيتنا” في ردٍّ على تلويح الأميركيين بنشر صواريخهم في أوكرانيا واحتمال انضمامها إلى الحلف، فيما يريد الأميركيون إعطاء الحلف جرعة حياة جديدة عبر أوكرانيا، بعد اصابته بـ”موت دماغي” بوصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وهم يرفضون أيّ توغل روسي، ويعتبرونه “سابقة لم تحصل منذ الحرب العالمية الثانية” واللعبة الآن في أوج تصاعدها، ومن يضحك أخيراً قد لا يضحك كثيراً إذا ما سنحت الفرصة لخصمه لتغيير قواعد اللعبة!
العربي الجديد
————————
الأيديولوجيا والمصالح في أزمة أوكرانيا/ أرنست خوري
للأزمة الحالية بين الغرب وروسيا، والتي تتخذ من أوكرانيا عنواناً، رأسان لجسد واحد. رأس يفكر بالمصالح، وآخر يثرثر أيديولوجيا. ولحظة تندمج المصلحة بالأيديولوجيا، تصبح الحرب على مرمى حجر. في لغة المصالح، رغبة أميركية خصوصاً وأطلسية عموماً بتوسيع حدود الحلف شرقاً. ضمان إمدادات الطاقة التي تعبر من أوكرانيا إلى أوروبا الوسطى والغربية غير بعيد عن العنوان العريض للمصلحة. التحوط من خطر محتمل لروسيا البوتينية لا يغيب عن عقول المسؤولين الغربيين. السعي لمنع قضم روسيا المزيد من البلدان السوفييتية السابقة لإعادة تشكيل اتحاد توسعي جديد، هدف سيكون الغربيون أغبياء لو لم يضعوه في الصفحة الأولى لأجندتهم. في الجهة الغربية، يصعب العثور على أيديولوجيا في السعي لاتقاء خطر روسيا البوتينية. أيديولوجيا رأس المال لا مكان لها من الإعراب في هذا السياق، ذلك أن الرأسمالية الروسية لا تختلف عن تلك التي يتبناها المعسكر المقابل إلا بكونها لا تترافق مع ليبرالية في الحريات والإعلام والأفكار، بينما رأسمالية الطرف الآخر توازيها حرية معقولة لتداول الأفكار والحركة والقول والفعل السياسي.
في المقلب الروسي، الأيديولوجيا تبدو وكأنها في علاقة زواج كنسي مع المصلحة، وهنا يكمن الخطر الحقيقي. التوسع باتجاه استعادة حدود الاتحاد السوفييتي لإحيائه من دون شيوعية، هو في آن واحد أيديولوجيا ومصلحة. ومهما قيل عن أيديولوجيا فلاديمير بوتين، فإن ذلك سيبقى ترهات لا قيمة لها ولا لمناقشتها. فـ”أيديولوجيا بوتين”، والتعبير مجازي، هي مجرد تجميع لأسوأ ما حملته عقائد عرفتها البشرية: التفوق القومي الذي يبرر الأحلام التوسعية والتي تحتاج غطاءً دينياً يريد جمع العالم الأرثوذكسي تحت راية الرأي الواحد والمجتمع المحافظ ومعاداة الغرب وكره الأجانب إن فكروا بالإقامة في روسيا، والبحث عن أعداء أميركا وأوروبا الغربية لشبك تحالفات وتقاطعات معهم إن استطاع الكرملين إليها سبيلاً. والبحث عن وحدة بين كل من لا يقيمون وزناً لقيم الحداثة والتنوير والليبرالية، جارٍ بنجاحات لا تُحصى: التحالف أو التقاطع أو التقارب الروسي مع إيران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا وحكام ميانمار وبشار الأسد وانقلابيي أفريقيا يكتب تاريخاً جديراً بحمل عنوان من نوع: دليلك لاحتقار حياة البشر.
ولأن مشروعاً “طموحاً” إلى هذه الدرجة يحتاج إلى أيديولوجيا حقيقية وكُتب ومقالات و”إطار نظري” ومراكز دراسات موجَّهة، فإن بوتين أحاط نفسه بالفعل بمجموعة من الأيديولوجيين. هم كثر، لكنّ ثلاثة منهم هم الأكثر تأثيراً في قرار مصيري بحجم: هل نجتاح أوكرانيا أو لا نفعل؟ جَمْع بعض ما يجب أن يُقال عن هؤلاء المستشارين الثلاثة، مهمة تطوّع لإنجازها أربعة من كتاب صحيفة “نيويورك تايمز” يوم الأحد الماضي. حدّد الصحافيون أنتون ترويانوفسكي وألينا لوبزينا وخافا خاسماغومادوفا وأوليغ ماتسنيف أسماء كل من مدير الاستخبارات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين ومستشار الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف ووزير الدفاع سيرغي شويغو كأهم مستشارين سيكونون حاسمين في قرار بوتين النهائي لناحية اجتياز الحدود الأوكرانية غرباً أو العودة خطوة إلى الخلف. والأيديولوجيا عند هؤلاء لا فخامة فيها، ولا مفاهيم معقدة. هي هلوسات من صنف أن “الغرب يشرّع الزواج بين البشر والحيوانات”، وهي درّة نظريات نيكولاي باتروشيف. أما زعماء أوكرانيا فإنهم بنفس درجة سوء هتلر، اسألوا سيرغي ناريشكين. وما لا يقوله ناريشكين المتهم بالتورط في تصفية معارضين خارج روسيا وداخلها، يتطوع سيرغي شويغو لبلورته في نظرية أن القوميين الأوكرانيين “ليسوا بشراً”. أما “الفوبيا” الغربية من روسيا، فليست سوى ترجمة للغيرة الأوروبية المزمنة من عظمة إيفان الرهيب. حكمة إضافية يسجلها باتروشيف المتيَّم بتاريخ أول قيصر روسي وباني الإمبراطورية التي يحلم مع رئيسه بوتين بإعادة جمع أطرافها.
في المعضلة الدولية الحالية المسماة الأزمة الأوكرانية، تكثيف لمأساة ولسذاجة ولمهزلة. مأساة أن تكون جاراً لروسيا. وسذاجة أن ترتبط أوروبا بإمدادات الطاقة الروسية. ومهزلة أن يصبح فلاديمير بوتين معتدلاً حين تقارنه بمستشاريه.
العربي الجديد
—————————
منها عزلها عن نظام GPS.. سبع خطوات إذا اتخذتها روسيا فسيصبح غزوها لأوكرانيا وشيكاً
عربي بوست
سبعة إجراءات إذا نفذتها روسيا فمعني ذلك أن عجلة الحرب على أوكرانيا قد دارت وأن غزوها أصبح وشيكاً.
وتعتقد الحكومات الأمريكية والأوروبية بشكل متزايد، أن شكلاً من أشكال الهجوم الروسي على أوكرانيا محتمل جداً، فيما تنفي موسكو نيتها غزو أوكرانيا ولكنها تلوح بإجراءاتٍ تقنية وعسكرية إذا لم تتم الاستجابة لطلباتها، في مقدمتها تقديم ضمانات بعدم انضمام كييف إلى الناتو.
ويقول موقع وزارة الخارجية الأوكرانية إن ما يصفه بالعدوان الروسي السابق عام 2014 كان يهدف إلى تدمير أوكرانيا كدولة مستقلة، فيما قلل الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من التكهنات الأمريكية الأخيرة بشأن احتمالات الاجتياح الروسي لبلاده، معتبراً أن الحرب ليست وشيكة.
وضخامة الحشود العسكرية الروسية تجعل من غير المرجح أن يتم حشد هذه القوة لمجرد استعراض للقوة، وفقاً للمراقبين.
في أحد أكثر المؤشرات التي تنذر بأن الجيش الروسي يستعد للهجوم بدلاً من مجرد إجراء تدريبات، ذكرت وكالة رويترز للأنباء أن إمدادات الدم والمواد الطبية الأخرى لعلاج الضحايا تشكل جزءاً من الحشد الروسي.
ويقول خبراء غربيون إن “أهداف أي عملية قد لا تشمل الاحتلال المادي لأوكرانيا بأكملها، لكن قد تشمل تدمير قدرة أوكرانيا على المقاومة العسكرية، واستبدال نظامها الحكومي، ومنع تلقيها المساعدة الخارجية”.
ومع ذلك يعتقد محللون آخرون أن الرئيس بوتين قد يختار عملية أكثر محدودية وأقل خطورة، مثل تأمين السيطرة على الأجزاء الشرقية من أوكرانيا التي يسيطر عليها بالفعل الانفصاليون المدعومون من روسيا.
لماذا لا يمكن لروسيا أن تشن هجوماً مفاجئاً تماماً؟
تعني طرق الحرب الحديثة أن أي هجوم مفاجئ بحيث لا يمكن ملاحظته، أمر مستحيل، حسبما ورد في تقرير لموقع Popular Mechanics.
إذا قرر بوتين بدء الحرب على أوكرانيا فستبدأ الاستعدادات- والهجمات غير العسكرية والهجينة على الأصول الأوكرانية- قبل أسابيع من الموعد المحدد.
ويحذّر الخبراء من أن الحرب على أوكرانيا قد تكون أكبر صراع في أوروبا منذ ما يقرب من 80 عاماً.
ولكن هذه الحرب لن تبدأ على الأرجح في أي لحظة. وبدلاً من ذلك، سيكمل الكرملين الاستعدادات من وراء درع الحرب الإلكترونية والتشويش الإلكتروني، بينما ينشر طائرات مسيرة وأحداث “الرجال الخضر الصغار” التي من شأنها أن تقدم بعض إشارات التحذير للعالم.
الحشود الروسية بعضها من أقاليم بعيدة في روسيا/رويترز
وحتى الآن، حشدت روسيا أكثر من 100 ألف جندي في روسيا وبيلاروسيا والمناطق الأوكرانية التي تحتلها، مع استمرار تدفق مزيد من القوات يومياً. ونشرت القوات البرية للجيش الروسي عناصر من عشرة جيوش وسالقات عسكرية في محيط أوكرانيا، تصل إلى عدة آلاف من الدبابات وعربات القتال المشاة ومئات قطع المدفعية والمروحيات وأنظمة الدفاع الجوي.
كما نشرت موسكو قوات من أماكن بعيدة مثل فلاديفوستوك بالشرق الأقصى الروسي (على بعد 4000 ميل) واستثمرت كثيراً من الجهد في العملية.
وضخامة هذه الحشود العسكرية تجعل من غير المرجح أن يتم حشد هذه القوة لمجرد استعراض للقوة.
لا يعرف أحد سوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما ينوي فعله بالنسبة لأوكرانيا، لكن الأمور لا تبدو جيدة بالنسبة لكييف. إذا حدثت الحرب، فستظهر في الأسابيع والأيام السابقة علامات تشير ليس فقط إلى اقترابها، ولكن إلى حجم الصراع وطبيعته.
فيما يلي، بعض العلامات التي يجب الانتباه إليها، بدءاً من أسبوعين قبل بداية الحرب، حسب تقرير موقع Popular Mechanics.
مؤشرات الحرب على أوكرانيا
إعداد مخزون الوقود والذخيرة: أهم من مشاهد الدبابات المهيبة
يتألف الانتشار الهائل للجيش الروسي على الحدود الأوكرانية في الغالب من المعدات العسكرية، مع ظهور مقاطع فيديو للدبابات وعربات المشاة القتالية وحتى أنظمة صواريخ أرض-جو بعيدة المدى، على وسائل التواصل الاجتماعي.
لكن من أجل شن حرب فعلية، ستحتاج روسيا إلى تخزين كميات هائلة من وقود الديزل ووقود الطائرات، فضلاً عن الذخيرة؛ هذه المخزونات الحربية لم يتم تخزينها مسبقاً بالقرب من الحدود الأوكرانية.
ورغم الحديث عن نقل موسكو أكياس دم؛ تحسباً لوقوع قتلى في صفوفها، فإنها لم تقم بعد بإنشاء مستشفيات ميدانية في غرفة العمليات.
إذا تحولت مقاطع الفيديو من نقل مشهد دبابات القتال الرئيسية إلى شاحنات تخزين الوقود وصفوف من أوعية الوقود المطاطية، فسيعني ذلك أن بوتين لا يتباهى بجيشه فحسب، بل إنه ينوي استخدامه.
الحرب الإلكترونية: ستشلُّ مرافق البلاد
لا تشمل الحرب الحديثة الوسائل الحركية التقليدية فحسب، بل تشمل أيضاً الحرب الإلكترونية. من المتوقع أن يستهدف المتسللون العسكريون الروس شبكات الكمبيوتر الأوكرانية بالكامل، لاسيما تلك التي تملكها الحكومة الوطنية، والمرافق، والمؤسسات المالية، وخدمات الطوارئ. قد يجد الأوكرانيون أنفسهم لا يتحكمون في حساباتهم المصرفية، وقد تنقطع الكهرباء في منتصف الشتاء القارس، ويمكن أن تتعطل أنظمة الكمبيوتر الحكومية.
الهدف من هذه القرصنة هو إضعاف معنويات الشعب الأوكراني وجعله يفقد الثقة بحكومته.
التشويش على نظام تحديد المواقع GPS: الروس لا يحتاجونه
وسيلة أخرى للهجوم هي التدخل في وصول أوكرانيا إلى نظام تحديد المواقع العالمي “GPS”، فروسيا لديها القدرة على التشويش على GPS أو عمل محاكاة ساخرة.
الأول يمنع المستخدمين من تلقي بيانات GPS، فيما يتسبب الأخير في تلقِّي المستخدمين بيانات GPS خاطئة أو مضللة. وهذا يمكن أن يجعل التنسيق بين الوحدات العسكرية الأوكرانية أكثر صعوبة ويزيد من إحباط السكان.
تستخدم روسيا أقمارها الصناعية لتحديد المواقع والملاحة والتوقيت (المعروفة باسم GLONASS)، لذلك لن يتأثر الشعب الروسي بالتشويس على نظام GPS الأمريكي المنشأ.
هجوم الغواصات على سفن الإمدادات: خيار مستبعد
التدخل المباشر للولايات المتحدة والناتو إلى جانب أوكرانيا أمر غير مرجح.
ولكن حتى لو كان مستبعداً، فقد تساعد الدول الغربية أوكرانيا، ولذا قد تحتاج روسيا إلى استعراض القوة ضدها.
قد يكون أحد الإجراءات الاحترازية التي قد تتخذها روسيا، إطلاق أكبر عدد ممكن من الغواصات الهجومية في شمال المحيط الأطلسي في الأيام التي تسبق بدء الصراع.
يمكن للغواصات مثل الغواصات الحاملة لصاروخ كروز الجديدة التابعة للبحرية الروسية، إطلاق سرب من صواريخ كروز الهجومية، والصواريخ منخفضة التحليق التي تتخذ مسارات أقصر وأقل قابلية للتنبؤ إلى أهداف في الجزر البريطانية، والدول الاسكندنافية، وأوروبا الغربية.
غواصة روسية من طراز تايفون/ويكبيبديا
في حالة بدء الولايات المتحدة بشحن المعدات من أمريكا الشمالية إلى أوكرانيا عن طريق البحر، يمكن لتلك الغواصات نفسها مهاجمة القوافل البطيئة الحركة المحمَّلة بالمركبات والإمدادات العسكرية، تماماً كما فعلت البحرية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.
ولكن هذا الخيار غير مرجح بشكل كبير إلا إذا استهدف سفناً غير أمريكية أو لا تتبع دول الناتو بالنظر إلى أن هذا يشعل مواجهة بين القوتين العظميين.
روسيا قد تحجب مواقع التواصل عن مواطنيها: الخوف من صديقات البحارة
هناك إجراء آخر يمكن توقعه في الأسبوع الذي يسبق الهجوم، وهو إغلاق وسائل التواصل الاجتماعي الروسية.
والسبب أن الشبكات الاجتماعية الروسية تعد منبعاً غنياً للمعلومات المفيدة التي تمت مشاركتها عن غير قصد مع بقية العالم؛ بعض الأمثلة قد تشمل صديقات البحارة الروس الذين يشكون من طلبات أصدقائهم في اللحظة الأخيرة قبل السفر للجبهة، أو ناقلات النفط الروسية من الشرق الأقصى التي تتذمر من شحنها لآلاف الأميال عبر البلاد.
هذه المعلومات مفيدة لتتبُّع التحركات العسكرية الروسية. سترغب موسكو أيضاً في تضييق الخناق على وسائل التواصل الاجتماعي؛ للسيطرة على قصص الضحايا.
إرسال “الرجال الخضر الصغار”: سيناريو قد لا يفاجئ أوكرانيا
في بداية الحرب الروسية الأوكرانية عام 2014، انتشر رجال مسلحون غامضون يرتدون أقنعة عبر أهداف في منطقة القرم الأوكرانية التي احتلتها. “الرجال الخضر الصغار”، الذين سُموا على اسم زي القوات البرية الروسية، زرعوا الارتباك عندما استولوا بسرعة على الأهداف الرئيسية. وكان المسلحون في الواقع من القوات الخاصة الروسية.
من الممكن أن تتكرر مشاهد جديدة لـ”الرجال الخضر الصغار” في الساعات التي تسبق الهجوم الروسي. حدود روسيا مع أوكرانيا طويلة والقوات الخاصة يمكنها أن تتسلل مرة أخرى عبر الحدود وتستولي على أهداف رئيسية.
لن يفاجأ الأوكرانيون كثيراً هذه المرة؛ بنشر مسلحين مجهولين، ومن ثم فإن الأمر لن يكون له التأثير نفسه الذي كان عليه قبل ثماني سنوات.
طائرات التجسس ستحلِّق فوق سماء أوكرانيا: خيار اللحظات الأخيرة
قبل أي حرب على أوكرانيا، ستعمل قوات الحرب الإلكترونية الروسية أيضاً على استخدام أنظمتها الهائلة قبل أيام من الهجوم الفعلي، بهدف مزدوج هو جمع المعلومات وتعقيد الاستعدادات الدفاعية لأوكرانيا.
ستطير طائرة استطلاع الرادار الروسية “إليوشن إيل -20” والاستخبارات الإلكترونية على طول الحدود، وتخترق عمق أوكرانيا؛ لاكتشاف القوات البرية ومراقبة حركة الاتصالات الحكومية والعسكرية.
كما ستقوم طائرات الإنذار المبكر المحمولة جواً من طراز Beriev A-50 بمراقبة الطائرات الأوكرانية وحلف شمال الأطلسي. سوف تتداخل أجهزة التشويش مثل أنظمة تيراندا وكراشوكا مع الرادار والاتصالات الأوكرانية وحلف شمال الأطلسي، وحتى الأقمار الصناعية لاستطلاع الرادار الذي يدور حولها.\
كما ستقوم طائرات بدون طيار عسكرية روسية قصيرة المدى بإجراء استطلاع في اللحظة الأخيرة للمواقع الأوكرانية ، وجمع أكبر قدر من المعلومات حول قوة القوات والدفاعات الأوكرانية.
لن تهتم الطائرات بدون طيار بالحدود بين البلدين، ستفقد روسيا بعض الطائرات بدون طيار، بسبب النيران الدفاعية، لكن هذا سيكون ثمناً زهيداً يجب دفعه مقابل الحصول على معلومات استخباراتية جديدة. ستواصل المعلومات التي تم جمعها بعد ذلك، توفير أهداف للمقاتلين الروس والطائرات الهجومية وصواريخ كروز والصواريخ الباليستية التكتيكية والمدفعية والطائرات بدون طيار المسلحة.
ويقول موقع Popular Mechanics: “لن يأتي أي هجوم روسي على أوكرانيا فجأة، ولن يريده بوتين على الأرجح. كلما زاد الضغط الذي يمكن أن تمارسه روسيا قبل الحرب على أوكرانيا، زاد احتمال تصدُّع الحكومة الأوكرانية أو تقديمها تنازلات كبيرة، مما يجنب بوتين مجهود الحرب والعقوبات الشديدة”.
———————–
دليلك لفهم “الأزمة الأوكرانية”/ محمد سعد
أعادت أزمة الحشود العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية العالم إلى مفردات الحرب الباردة وتصادم القوى العظمى والأزمات الكبرى التي يحبس العالم فيها أنفاسه على غرار أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، والتي هددت بنشوب حرب نووية بين القوى العظمى.
لكن إلى أي مدى هذه الأزمة مرشحة للتفاقم؟ وما الدوافع الكامنة للتصعيد؟ وما الجذور التاريخية لما يعرف بـ”خيانة الناتو”؟ وما انعكاسات الأزمة على الشرق الأوسط؟
“خيانة الناتو”؟
ظهر حلف شمال الأطلسي كأكبر تحالف عسكري في التاريخ يجمع القوى الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي كرد فعل على التهديد السوفياتي لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
ويستمر الناتو لنفس السبب، مع اختلاف مسمى الخصم، رغم عدم اختلاف موقع هذا الخصم الجغرافي. فقد انتهت كل آمال التسعينيات الكبرى، بعد نهاية الحرب الباردة، بأن تندمج روسيا في ثقافة الغرب وأن تنضم إلى الناتو، وعاد “الدب” مخلصاً لجذوره الأوتوقراطية وثقافة الأجداد القياصرة: حكم مركزي إمبراطوري قوي، قمع أي معارضة، توجس أمني من الغرب كخصم للثقافة السياسية الروسية ومصدر تهديد يلزم موازنة القوة العسكرية ضده.
في خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، اتّهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الغرب بخيانة بلاده واتّهم الغرب بالكذب لأنه لم يحافظ على تعهداته التي قطعها على نفسه في فترة العلاقات الدافئة في بداية التسعينات. فما هي هذه “الخيانة” وما هو تعهد الناتو؟
تستند العقيدة الأمنية الروسية على قناعة أسستها الحقائق الجيوبوليتيكية، إذ إنها تملك قلباً رخواً يجب أن تحميه بأطراف صلبة، بمعنى أن عواصمها ومدنها الكبرى تقع في السهول الأوروآسيوية الكبرى أو في “قلب الأرض” (أو “قلب العالم”)، بحسب وصف الجيوبوليتيكي الإنكليزي الشهير هالفورد ماكيندر.
وقوع القلب في هذه المنطقة الجغرافية جعلها تاريخياً هدفاً سهلاً للغزو الغربي. لذا أسست روسيا عقيدتها الدفاعية على تكتيكات غير دفاعية، بحيث تبتلع مساحات هائلة من الأرض التي تقع حول قلبها وفي مجالها الحيوي، ما يجعل مهمة الدفاع عن القلب أسهل نسبياً.
ورغم أن أصل العقيدة الإستراتيجية الروسية دفاعي، إلا أن أغلب تكتيكاتها كانت هجومية وحوّلتها إلى أمة “مفترسة” ابتلعت أمماً حولها وضمتها بالقوة إلى الاتحاد الروسي أو اعتبرتها مجالها الحيوي.
لذا تنظر روسيا إلى تمدد الناتو في مجالها الحيوي كمصدر تهديد. قبل تفكك الاتحاد السوفياتي، طالب الأخير بتعهد من الناتو بعدم التمدد شرقاً، مقابل الموافقة على الوحدة الألمانية. وفي اجتماع بين وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر بالزعيم السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، في 9 شباط/ فبراير 1990، لمناقشة وضع ألمانيا الموحدة، اتفق الرجلان على أن الناتو لن يتجاوز أراضي ألمانيا الشرقية. نفس الوعد كرره الأمين العام للناتو في خطاب ألقاه في 17 أيار/ مايو من نفس العام في بروكسل.
لكن القادة الغربيين يرون أن هذا الوعد كان في ظل وجود الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو. وبتفكك الاتحاد السوفياتي فإن الغرب في حل من وعوده تجاه وريثته روسيا الاتحادية التي لم ترث مناطق نفوذه بعد ثورات أوروبا الشرقية.
خلق هذا الإحساس بالخيانة مرارة روسية وإحساساً بالخديعة ما زال مستمراً إلى اليوم. يفسر البعض تكتيكات روسيا العدوانية بداية من عام 2008، في حربها ضد جورجيا، وفي ضم القرم في حرب هجينة ضد أوكرانيا سنة 2014، في ضوء هذا الإحساس بالخيانة.
هذه العقدة الروسية التاريخية هي نفسها ما خلق الأزمة الحالية. ترى موسكو أن أوكرانيا جزء من الإمبراطورية الروسية التاريخية، فعاصمتها كييف كانت أول عاصمة لروسيا الكبرى، وأن أوكرانيا الحالية جزء من المجال الروسي الحيوي وخطوط الكرملين الحمراء.
في المقابل، ترى الحكومة الأوكرانية الحالية أن مصالح بلادها هي في الانضمام إلى الغرب والناتو، بما يضع الناتو في الفناء الخلفي لروسيا. تصادم الإرادات هذا كان سبب تصاعد الأزمة الحالية التي أوقفت العالم على أطراف أصابعه.
روسيا تعيد ترميم الناتو!
على الجانب الآخر، كان الناتو قد بدأ بالتفكك من داخله بعد خلافات ضفتي الأطلسي وتصاعد المطالبات الأمنية في أوروبا بتشكيل جيش أوروبي منفصل عن الناتو ليحمي أمن القارة، خاصة بعد الخلافات الأمريكية الأوروبية في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب وسياسة أمريكا أولاً.
كما تعمقت الخلافات بين فرنسا من ناحية وأمريكا وبريطانيا وأستراليا من ناحية أخرى بعد صفقة الغواصات الأسترالية الملغاة، ما خلق حلفاً أنغلوساكسونياً في مواجهة فرنسا داخل الناتو.
وعادت الخلافات التاريخية بين دول أعضاء للظهور مثل خلاف تركيا واليونان اللتين اقتربت مناوشتهما من تصادم عسكري.
لكن، وكما تسبب التهديد السوفياتي في إنشاء الناتو، تسببت سياسات روسيا في إعادة الوحدة إليه بقُبلة حياة جديدة بعد أن ظهرت كمصدر خطر على الجميع.
ورغم أن أوكرانيا ليست عضواً في الناتو إلا أن تقاربها معه وطلبها الانضمام إليه جعلها حليفاً تحت التهديد وجعل ابتلاع روسيا لها بمثابة سابقة لو تمت، ستشكل خطراً على الخصوم التاريخيين لروسيا في شرق أوروبا والبلطيق وتركيا، وعلى الحلف نفسه إذ سيجد أعضاؤه أنفسهم أمام خطر روسي معزز بقوة نووية جبارة قادره على تكرار تجربة أوكرانيا مع ’آخرين.
المواجهة العسكرية بين الناتو وروسيا ليست واردة حتى وإنْ غزت موسكو أوكرانيا، لكن تبقى الحروب غير مباشرة ومساندة أعضاء الناتو لأوكرانيا دون أن يدخلوا في مواجهة عسكرية مع روسيا هو الاستراتيجية الأقرب للتفعيل.
وتحاول الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، رفع تكلفة الغزو عن طريق تأسيس ردع دفاعي قوي، منطقه ببساطة: نعم، يمكنك الغزو لكن ستكون التكلفة العسكرية والاقتصادية عالية جداً عليك إلى درجة قد تفوق أي مكاسب ممكنة.
وفي هذا السياق، يدفع الناتو بمعدات عسكرية هجومية ودفاعية لأوكرانيا لتجعل لأي غزو لها تكلفة عسكرية ضخمة، بخلاف التهديد بحصار روسيا اقتصادياً.
سيناريو آخر يتوقعه البعض وهو قيام روسيا بغزو جزئي لمنطقة دونباس، فهذا لن يؤدي إلى حرب عالمية ولن يتدخل الناتو عسكرياً لتحرير إقليم في دولة غير عضو، لكن سيخلّف آثاراً اقتصادية وخيمة على روسيا وأوروبا، وربما ينذر بشتاء شديد البرودة في عام 2023 إذا ما تصاعدت أزمة الطاقة، إذ تعتمد أوروبا على روسيا في تغطية 35% من الغاز الطبيعي.
على الجانب الروسي، وعلى الرغم من قناعات عواصم غربية بأن لدى موسكو خطة لغزو كامل لأوكرانيا، يبدو أن الأخيرة لا تود غزو أوكرانيا نظراً للتكلفة الباهظة لهكذا خطوة، لكنها تود أن تصل بالخلاف إلى حافة الهاوية، بحيث تضع الغرب في ازمة تجعله يعيد حسابات التمدد شرقاً. صانع القرار الروسي يريد أن يصل بالأزمة إلى نقطة الرعب التي يعقبها التنازل. التلويح بالعصا أحياناً أكثر فاعلية من الضرب بها.
الانعكاسات على الشرق الأوسط
يظل احتمال الغزو الشامل والحرب الشاملة احتمالاً مستبعداً في الأزمة الأوكرانية الحالية، إلا أن الأزمة ألقت بظلالها على العالم كله بما فيه الشرق الأوسط، نظراً لطبيعة القوى العظمى المنخرطة فيها.
كما أن احتمال فرض عقوبات على روسيا ربما يجعل أوروبا كمَن يطلق النار على قدمه، إذ ستحرمها العقوبات من الغاز الروسي. دفع ذلك الولايات المتحدة وأوروبا إلى اللجوء إلى مصادر أخرى لتغطية النقص المحتمل في الغاز، وكان الشرق الأوسط المحطة الأهم لسد هذه الفجوة.
استفادت قطر، أكبر مصدر للغاز المسال في العالم، من الأزمة، إذ توجهت إليها واشنطن لتعويض النقص وتم إعلان أنها حليف رئيسي للولايات المتحدة من خارج الناتو، ما يشكل خيبة أمل للمنافس الإماراتي الذي ظل يتطلع للقيام بهذا الدور خاصة في ظل تصاعد تكاليف الحملة الإماراتية في اليمن.
لعبت قطر دوراً مهماً في خروج الولايات المتحدة من أفغانستان، بعد رعاية مباحثاتها مع طالبان، تلك المباحثات التي جعلت واشنطن تثق بها كوسيط ينقل رسائلها إلى إيران.
وفي ما خص إيران، تريد الولايات المتحدة تبريد جبهتها معها بعد سخونة جبهة أكثر خطورة في أوكرانيا. ربما تدفع الأزمة الولايات المتحدة إلى تسريع وتيرة المحادثات مع إيران للوصول إلى اتفاق حول برنامجها النووي ودمجها في سوق الطاقة الأوروبي في حالة خروج روسيا منه.
تلقي الأزمة بظلالها أيضاً على أسعار النفط، فقد ارتفعت الأسعار لتقارب 100 دولار لبرميل خام برنت، وهو خبر سار للسعودية والإمارات إذ سيمثل خروج روسيا من سوق النفط هدية لإنعاش خزائنهما المثقلة بالتطلعات العسكرية وحرب اليمن ومشاريع التنمية.
لكن سيظل الهاجس الأمني يطارد هذه الدول إذا خرجت روسيا منتصرة من هذه المواجهة، ما يؤشر بنظام عالمي جديد فيه إيران وروسيا والصين أكثر قوة وتشدداً في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، ما يجعل الحسابات الأمنية لهذه الدول أكثر تعقيداً.
الخلاصة:
تشكل الأزمة الأوكرانية أخطر أزمة تواجه القوى العظمى منذ الحرب الباردة، ورغم أن الحسابات العقلانية لا تصب في صالح قيام روسيا بغزو شامل لابتلاع أوكرانيا، إلا أن احتمال المواجهة سواء بسبب غزو جزئي لإقليم دونباس الأوكراني، أو خطأ غير محسوب في تقديرات الأطراف لم يزل قائماً.
ونظراً لتشبث الأطراف بمواقفها إلى وقتنا الحالي، إذ يرفض الناتو إعطاء تطمينات لروسيا بعدم التوسع في مجالها الحيوي وضم دول أخرى من الاتحاد السوفياتي السابق، وترفض روسيا أي تنازل عن مطلب منع الناتو من التمدد في ما تعتبره فنائها الخلفي، فإن احتمال وقوع خطأ في حسابات الأطراف لم يزل قائماً.
تنعكس الأزمة على الشرق الأوسط بعد أن أصبح محطة أساسية لتغطية العجز المحتمل في سوق الطاقة العالمي، كما تنعكس على ترتيب أولويات الولايات المتحدة نحو الدول الخليجية، إذ تظهر قطر كفائز أكبر بما يثير حفيظة الإمارات.
وكذلك تنعكس الأزمة على المفاوضات مع إيران لصالح الجمهورية الإسلامية.
لكن الملاحظ أن الأزمة ربما تكون نقطة فاصلة في ترتيب النظام العالمي الجديد وانعكاساته على الشرق الأوسط.
————————
====================
تحديث 03 شباط 2022
———————-
التصعيد في أوكرانيا .. ورطة دولية في غير أوانها/ رانيا مصطفى
وصلت الأزمة في أوكرانيا إلى ذروتها؛ التصعيد الروسي سيعني خساراتٍ كبيرة لكل الأطراف. وبالتالي، يحاول الجميع، بمن فيهم روسيا، تجنُّبَه. تكمن الأزمة في رفض روسيا تقديم أي تنازلات، والتمسّك بورقتها التي أرسلتها إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتي تخلص إلى أن على المجتمع الدولي الاعتراف بأحقية روسيا في النفوذ بمحيطها الإقليمي؛ فيما تحاول واشنطن، عبر التهديد بالعقوبات القصوى على روسيا والمحاصرة الاقتصادية، إيجاد مقاربةٍ تضمن التهدئة، وفي الوقت نفسه، كبح الجماح الإمبراطوري البوتيني الراغب في استعادة الأمجاد السوفييتية التوسعية، الأمر الذي يرفضه الكرملين، ما يدخل الأزمة في حالة استعصاء دولي، ستطاول امتداداته مناطق أبعد من المحيط الروسي، إذا ما أصرّت موسكو على شن حربٍ في شرق أوكرانيا.
يرى بوتين أن لروسيا الحق في مجالها الأمني، ويريد التخلّص من تبعات الحرب الباردة، وهو يعارض بشدّة انضمام أيٍّ من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً إلى حلف الناتو، وبالتالي وجود بنى تحتية وقواعد للصواريخ تابعة للحلف في المجال الأمني الروسي؛ في حين يخشى جيرانها من غزو روسي ممكن (حصل في جورجيا عام 2008، وفي شبه جزيرة القرم عام 2014)، ما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة “الناتو” وطلب الانضمام إليه. تملك موسكو أوراقاً للضغط على خصومها الأميركيين والأوروبيين؛ فالكرملين يسعى إلى قيادة أنظمة موالية له في المنطقة، ويجد مداخل لذلك بدعم الديكتاتوريات القائمة وضد ثورات الشعوب، في ظل تراجع الدور الأميركي. ولدى موسكو ورقة الدعم الصيني السياسي والاقتصادي، باعتبار أن الصين مهتمة بدعم الديكتاتوريات، وتريد كسب روسيا في صفها، كما تفعل مع إيران، في معركتها للصعودين، الاقتصادي والسياسي، وربما العسكري، ولمواجهة الحصار الأميركي والغربي عليها. تتحدّث روسيا عن احتمال نشر صواريخ في كوبا وفنزويلا، وسفن تحمل صواريخ في المياه الدولية قرب الشواطئ الأميركية، وتعمل موسكو على توسيع القواعد العسكرية في بيلاروسيا، في حين أنها زادت تقاربها مع إيران، وأصبحت تؤيد شروط الأخيرة التصعيدية في الملف النووي، بعد أن كانت روسيا وسيطاً بينها وبين الغرب. وفي سورية، قد تتخلّى روسيا عن سياسة غض النظر عن الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، وقد تسمح بضربات إيرانية لإسرائيل. وأخيرا، أجرت موسكو مناورات مشتركة مع النظام السوري في الجولان المحتل، في رسالة إلى إسرائيل وأميركا، وأن إيران أصبحت أكثر أهمية من إسرائيل بالنسبة لروسيا.
يضاف إلى ما سبق حجم التبادل التجاري الكبير نسبياً بين روسيا والاتحاد الأوروبي. وهناك أزمة الطاقة التي تعيشها أوروبا، بسبب جائحة كورونا، ولوحت روسيا بقطع غازها (يشكل 40% من إمدادات الغاز الأوروبي) عن أوروبا، في حين أن البدائل الأوروبية هامشية، إذ لا تستطيع قطر (أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي المسال)، تغطية الحاجة الأوروبية من الغاز، بسبب ارتباطها بعقود طويلة الأمد تخصّ تحويل معظم غازها إلى دول آسيا. بالتالي، تراهن روسيا على عدم رغبة دول الاتحاد الأوروبي باستمرار الأزمة، وعلى التلكؤ التركي في دعم حلف الناتو ضد روسيا، بسبب الحسابات التركية الجيوسياسية والعسكرية التي تخصّ العلاقة مع روسيا؛ وكذلك تملك موسكو أوراق ضغط متعدّدة على واشنطن على الجبهات الأوروبية وشبه جزيرة القرم وبيلاروسيا وجورجيا وفنزويلا وكوبا وفي الشرق الأوسط.
على الرغم من كل ما سبق، لا ترغب موسكو بالتصعيد في أوكرانيا؛ فهي لا ترغب بمزيد من العقوبات الاقتصادية، حيث تعاني من أزمة اقتصادية ومعيشية تهدّد بتحرّك شعبي داخلي، وهي أكثر تضرّراً من دول الاتحاد الأوروبي، في حال قطع العلاقات التجارية والمالية معها؛ وروسيا متورّطة في حروب في الشرق الأوسط، لم تستطع إيجاد حلولٍ نهائية لها، وقد تضطر إلى توسيع تدخلها في كازاخستان لدعم نظام الحكم ضد الانتفاضة الشعبية، ولا ترغب بالذهاب كثيراً في تحالفها مع الصين، لأن الغلبة ستكون لبكين، ولا في تحالفها مع طهران، حيث لا تؤيد وجود إيران نووية، وتدرك أهمية الحفاظ على صداقةٍ قويةٍ مع إسرائيل، كما أن فشلها في الدفع بالحل الروسي في سورية، ودعم بقاء نظام الأسد، والتطبيعين، العربي والدولي مع هذا النظام، سبب هذا كله التعطيل الأميركي، ما يدفع موسكو إلى حل مشكلة العداء مع واشنطن. الممكن أمامها غزو محدود لإقليم في أوكرانيا، يضم الأقلية الروسية التي تدعي موسكو، على الدوام، أنها مضطهدة في أوكرانيا.
بالمثل، لا رغبة لدى الأوروبيين بالتصعيد مع روسيا، بسبب انشغالهم بالأزمات المحلية الناتجة عن مواجهة جائحة كورونا وأزمة الطاقة، وواشنطن ترغب في إيجاد صيغةٍ للتهدئة مع موسكو، وليست في وارد تدخل عسكري، وهي المنسحبة من أفغانستان، والراغبة في الانسحاب من الشرق الأوسط، لولا خوفها من أن تحل الصين محلها بمبادراتها حول الحزام والطريق، وحلف شنغهاي ومحاولتها نشر قواعد عسكرية في الخليج العربي، وتشكيل حلفٍ صينيٍّ روسي وإيراني، قد يتوسّع أكثر. وكذلك فإن سلاح العقوبات المشدّدة على روسيا والحصار الاقتصادي، قليل الفعالية، بسبب عدم تحمّل أوروبا تبعاته، وبسبب إمكانية مساعدة الصين لروسيا.
يعتقد القيصر الروسي أن بإمكانه استعادة أمجاد روسيا السوفييتية، عبر ملء الفراغ الناجم عن تقلص حجم الدور الأميركي في الصراعات العالمية، فتقديرات بوتين ومستشاريه عن حجم التراجع الأميركي في العالم غير دقيقة، ومن الخطأ المراهنة عليها، أو المغامرة في تصعيدٍ يؤدّي إلى زيادة تأزيم الأوضاع من دون حلّها؛ فروسيا غارقة في المستنقع السوري، وعاجزة عن فرض حلول أحادية، وتدخّلها في سورية ممسوك بالقبضة الأميركية، وبتعقيدات التدخلات، التركية والإيرانية والإسرائيلية، وقد تعيد الكرّة بدعمها الديكتاتورية في كازاخستان، كما فعلت من قبل بضمّها شبه جزيرة القرم في 2014، عقب سقوط الرئيس الأوكراني الموالي لها باحتجاجات شعبية في كييف. وها هي تتورّط بتصعيد بهلواني في أوكرانيا، وهي أول الراغبين بتجنّبه.
العربي الجديد
——————————-
أوكرانيا 2022 وتشيكوسلوفاكيا 1938: تشابهات؟
تذكّر أحداث أوكرانيا الحالية العالم بما جرى عام 1938 حين طالب المستشار الألماني أدولف هتلر القوى الأوروبية الكبرى بالموافقة على ضم إقليم السوديت الذي كان تابعا لتشيكوسلوفاكيا وتسكنه غالبية ألمانية.
حضر الاجتماع، في ميونيخ الألمانية حينها، إضافة إلى الزعيم الألماني، نظيره الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني (الذي طلب البريطانيون وساطته) ورئيس وزراء بريطانيا نيفيل تشامبرلين، ونظيره الفرنسي أدوار دلادييه، وكان الهدف من المباحثات منع الهجوم الوشيك للقوات الألمانية على تشيكوسلوفاكيا.
حصل هتلر على إقليم السوديت فعلا (من دون استشارة أصحاب الأرض التشيكوسلوفاكيين) لكنّ ذلك شجّعه، بعد ذلك، على توسيع دائرة الحرب والغزو حيث احتل بولندا عام 1939، ثم الدنمارك والنرويج عام 1940، وبعدها احتلت قواته البلقان وباقي أوروبا، واجتاحت فرنسا نفسها، لتنتقل بعدها لـ«معركة بريطانيا» التي بقيت وحدها تقاوم الهجوم الألماني لسنتين قبل اضطرار الولايات المتحدة الأمريكية للدخول في الحرب بعد هجوم اليابان على ميناء بيرل هاربور عام 1941.
كان أحد أسباب سياسة الاسترضاء التي اتبعتها بريطانيا وفرنسا لوقف التمدّد الألماني (إضافة إلى وهم منع الحرب) هو الخوف من الاتحاد السوفييتي، وقد اتبع جوزف ستالين، الزعيم المطلق للاتحاد السوفييتي حينها، سياسة مشابهة لهتلر بعقده معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا ضمّت بروتوكولا سريا يقسم شمال وشرق أوروبا إلى مناطق نفوذ سوفييتي وألماني، وقد نفذ هذا الاتفاق عمليا بغزو جيشي البلدين لبولندا واقتسامها، ثم ضم موسكو لأستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبيساربيا ومهاجمة فنلندا.
أنهت الحرب العالمية الثانية، عمليا، مغامرة دول «المحور» التي ضمّت ألمانيا واليابان وإيطاليا (وكذلك بلغاريا والمجر ورومانيا وفنلندا) وخلقت نظاما عالميا جديدا تقف فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الأوروبيون في جهة، والاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية الخاضعة له، في جهة أخرى.
انتهى هذا النظام، عمليا، مع بدء تفكك الاتحاد السوفييتي (1989 ـ 1991) حيث أعلنت ليتوانيا، التي ضمت أثناء الحلف الألماني ـ السوفييتي، استقلالها، وتبعتها نظيراتها في لاتفيا واستونيا، وانفرطت النظم الشيوعية في أوروبا الشرقية، واستقلت أغلب دول الاتحاد السوفييتي السابق عن موسكو، بما فيها أوكرانيا.
هناك قول لفلاديمير بوتين، الذي نصّب رئيسا عام 2000، يعتبر سقوط الاتحاد السوفييتي «أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين» وهناك تصريحات أخرى لمسؤولين روس آخرين تتحسر على خسائر الإمبراطورية القيصرية، بما فيها حصة موسكو من اتفاق سازونوف ـ سايكس ـ بيكو، الذي ألحق أجزاء كبرى من تركيا بروسيا (وقد أوقف الشيوعيون العمل بالاتفاقية بعد سيطرتهم على الحكم عام 1917).
تاريخ بوتين في الرئاسة، هو عمليا، محاولة لتغيير تلك «الكارثة» الجيوسياسية، وهو ما يفسّر مسارا عسكريا وسياسيا متصاعدا، يبدأ من حرب الشيشان، ويمرّ بجورجيا وبيلاروسيا واحتلال القرم وشرق أوكرانيا، ومدّ النفوذ في دول وسط آسيا، وصولا إلى سوريا، التي صارت جزءا أساسيا من شبكة القوة الروسية، مع تأثيرات ملحوظة في ليبيا ومالي والسودان وفنزويلا وكوبا الخ.
الإطار النظريّ لهذا التوسع هو حماية الأمن القومي الروسيّ، لكنّ ما يحصل فعليا هو العمل على استعادة الإمبراطورية الروسية التي تفككت عام 1991، ويعمل بوتين على استعادتها عبر استخدام حشد القوات والتهديد بالحرب، والواضح أن سياسة الاسترضاء، التي اتبعها البريطانيون والفرنسيون عام 1938، لم تعد ممكنة عام 2022.
القدس العربي
——————————
لبنان ليس بعيداً عن أوكرانيا!/ يوسف بزي
عندما زار هيرمان غورينغ، قائد سلاح الجو النازي، أوكرانيا المحتلة، متفقداً مساحاتها الزراعية وحقولها الشاسعة ومناطقها الصناعية، قال إن على هؤلاء السكان أن يعملوا وينتجوا لصالح ألمانيا حتى الموت (بالمعنى الحرفي للكلمة). كانت أوكرانيا جزءاً من خطة “المجال الحيوي” للرايخ الثالث. فهي لم تكن بنظر ألمانيا النازية سوى سلة غذاء وأرض للاستيطان. الأوكرانيون سيُسخَّرون ويُستعبدون لرفاهية الرايخ الثالث.
قبل أقل من تسع سنوات على غزو أوكرانيا، وهي جزء من الاتحاد السوفياتي، تعرّض الأوكرانيون إلى ما يشبه الإبادة الجماعية فيما بات يُعرف بـ”هولودومور” (القتل بالتجويع). مات من الجوع أكثر من ثلاثة ملايين في بلد يُعتبر سلة خبز أوروبا، بسبب سياسات ستالين وحزبه الشيوعي، الذي أراد أيضاً تسخير خيرات أوكرانيا لصالح اقتصاد الاتحاد السوفياتي.
منذ مطلع الثلاثينات قاد ستالين أيضاً حملة في أوكرانيا أدت إلى ما يطلق عليه الأوكرانيون “النهضة المشنوقة”، أو التطهير الكبير للتخلص من نخبة المجتمع الأوكراني، علماء ومثقفين. محاكمات صورية أودت بالألوف إلى السجن والنفي والإعدام.
إبادة اليهود على يد فرق “أس. أس” الهتلرية بدأت أولاً في أوكرانيا، أو ما يُعرف بـ”هولوكوست الرصاص”: خنادق ضخمة يُحشد فيها عشرات الألوف من الأطفال والنساء والرجال عرايا ويُعدمون بالرصاص.
المأساة الأوكرانية هي في وقوع البلد تحت سطوة روسيا التاريخية والشديدة القسوة من ناحية، والأطماع الامبراطورية الأوروبية التي كانت ذروتها مع ألمانيا النازية بكل وحشيتها ونزعتها الإبادية. أما تلك الرغبة العميقة بالاستقلال فغالباً ما يتم سحقها أو حرفها عن صوابها. فأوكرانيا السلافية والأرثوذكسية شديدة الارتباط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بروسيا. والأخيرة لا يمكنها أن تتخيل يوماً “انسلاخ” أوكرانيا عنها. ولذا، كلما حاول الأوكرانيون الاتجاه غرباً أو الانفصال ولو قليلاً عن هيمنة موسكو، كانت التراجيديا تتجدد، مصحوبة غالباً بسوء حظ تاريخي أو بسوء تقدير مروّع، تماماً كما حدث في العام 1941 عندما استقبل معظم الأوكرانيين الجيش الألماني بوصفه قوة تحرير من الطغيان الستاليني، وبدأت واحدة من أسوأ فترات التاريخ الأوكراني. أو حين سنحت الفرصة للتحرر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فوقعت الدولة بيد طغمة مافياوية، ثم كانت الانتفاضة “البرتقالية” عام 2004 التي أفضت إلى تصويب نتائج الانتخابات وخلع الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش. مع ذلك، استمر الاضطراب السياسي والانقسام الأهلي الذي يمكن اختصاره بالتنازع بين الميل الروسي والميل الأوروبي وبلغ ذروته مع الانتفاضة الشعبية الثانية عام 2014، “حركة يوروميدان”، التي أدت إلى تشكيل حكومة استقلالية بدأت على الفور مباحثات الشراكة والاندماج مع الاتحاد الأوروبي، ما أثار رعب روسيا، التي دخلت عسكرياً وبالنار إلى شرق أوكرانيا وأعادت ضم شبه جزيرة القرم إليها، بمؤازة من سكان تلك المناطق الموالين لموسكو. كانت “حرباً مصغرة” ما زال جمرها متأججاً.
الخطوة الأهم كانت في نهاية 2018، حين أعلن الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو، البدء في إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة، في إطار إجراء تاريخي تتخذه أوكرانيا بالانفصال عن الكنيسة الروسية. وقال بوروشينكو حينها “إن الأمن الوطني يعتمد إلى حدٍ كبير على الاستقلال الديني عن روسيا”.
خروج أوكرانيا من المدار الروسي والدخول في الفضاء الأوروبي، هو أمر بنظر الرئيس فلاديمير بوتين “مسألة حياة أو موت” بالنسبة لعقيدته السياسية –الأمنية، التي لا ترى في الدول الملاصقة لروسيا إلا “مجالاً حيوياً”، وبكثير من الاحتقار لخيارات الشعوب أو رغباتها بالاستقلال والسيادة، والأسوأ نزعتها السياسية نحو الديموقراطية والتحرر.
بالمقابل، ليس للاتحاد الأوروبي الإرادة أو القدرة على التصدي الجدّي لبوتين ولا يُظهر حزماً قوياً أو الاستعداد لمواجهة فعلية مع روسيا (التلويح بالعقوبات وحسب). والولايات المتحدة أيضاً يبدو دعمها لأوكرانيا أقل بكثير ما يمكن أن تفعله أو تستطيعه. بل يمكن القول أن الغرب يهاب عدوانية بوتين الذي يلوّح بالغزو. والكابوس هو في أن تتم مقايضة أو صفقة روسية غربية تُهدر فيها مصلحة أوكرانيا وتطلعات شعبها، تماماً كما حدث في سوريا مثلاً.
مأزق أوكرانيا أو مأساتها، عرفتها تاريخياً بلدان مشابهة في قدرها الجغرافي، كحال دول البلطيق (لاتفيا، استونيا، لتوانيا) أو بولندا التي غالباً ما كانت تُسحق بين المطرقتين الروسية والألمانية، وكذلك كان حال دول وكيانات البلقان.
وهذا ما يذكرنا على نحو ما بمأساة لبنان وقدره الجغرافي التعس.
على أي حال، في عالم اليوم، تكمن الخطورة الحقيقية بأزمة أوكرانيا أنها تذكرنا أيضاً بخريف 1939، الديموقراطيات الأوروبية المستميتة لتجنب الحرب، المرتجفة من هتلر والمتنازلة له مراراً وتكراراً (مؤتمر ميونيخ 1938)، ستستيقظ يوم 29 أيلول على اندلاع الحرب العالية الثانية.
ما يحدث اليوم في أوكرانيا يجب أن نرتعش فزعاً منه. ما سيتقرر هناك سيؤثر على مستقبل العالم، ما بين محورين صارا واضحين.
المدن
—————————-
أوكرانيا في ميزان العلاقات الأميركية الروسية/ منير الربيع
فلاديمير بوتين مهجوس بالتاريخ. في قلبه حنين لماضي السنين، يضع العالم أمام خيارين، إما تفكيك حلف الناتو على غرار انتهاء مفاعيل حلف وارسو، أو أنه سيعيد عملية الانقضاض على الجمهوريات الصغيرة المحاذية لروسيا والتي قد تشكل مواطئ قدم لحلف الناتو.
لدى بوتين تحديات استراتيجية كبرى، الجمهوريات الإسلامية أولاً، والجمهوريات الخارجة من الاتحاد السوفييتي والتي ترتبط بعلاقات مع الغرب وتحظى بحماية حلف الناتو. حكاية الرجل مع التحدي الأوكراني تعود إلى العام 2014. حينها سبق دخوله إلى القرم الاتفاق النووي مع إيران، واجتياحه لسوريا. كان لديه مطلب واحد وهو تفكيك الدرع الصاروخية، ووقف نشاط حلف الناتو في أوروبا وتحديداً في محيط روسيا الاتحادية. في المقابل، كان لديه مطلب آخر يتعلق بنسج تفاهمات مع دول خليجية وعربية لتفادي أي تحركات قد تشهدها الجمهوريات الإسلامية الروسية فيتعرض إلى حرب من داخل البيت.
يوقف بوتين العالم حالياً على قدم واحدة. يتلاعب بأعصاب الجميع، تحت عنوان الدفاع عن الأمن القومي الروسي، يضع نفسه في خانة الدفاع عن النفس، وليس كما كان حال الاتحاد السوفييتي سابقاً، يقدم مشروعاً توسعياً. يستند بوتين إلى ادعاء المظلومية والدفاع عن النفس، على الرغم من سعيه إلى التوسع. حالياً يجد بوتين نفسه مطوقاً من الغرب (أوكرانيا) ومن الشرق (كازاخستان) التي سارع إلى الدخول إليها واحتواء أي حركة جديدة فيها تؤثر على العمق الروسي. بمقدار ما يسعى بوتين إلى التلاعب بأعصاب “الأمم” ثمة من يتلاعب بأعصابه أيضاً. لعبة خطرة قابلة لتفجير حرب عالمية. حرب لا يريدها أحد وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
لكن مراقبة التطورات الروسية الأوكرانية وردّة الفعل الأميركية تستحق التوقف عندها إلى حدود بعيدة. يمكن استشراف العلاقة الروسية الأميركية، بالنظر إلى سلسلة مواقف أبرزها ما أطلقه الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، الذي دعا الغرب وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية إلى ضرورة الهدوء والكفّ عن بث الذعر. موقف يقول الكثير في هذا الظرف الدقيق، والذي يفترض فيه أن تكون أوكرانيا بأمس الحاجة لموقف دولي داعم لها أو يوفر الحماية لها. لكن حقيقة موقف الرئيس الأوكراني يعبّر بصدق عن واقع حلفاء أميركا معها، يعلم الرجل أن كل التصريحات الأميركية والتهديدات بفرض عقوبات على بوتين لن تثنيه عن غزو أوكرانيا لو أراد ذلك، ويعلم أيضاً أن لا مشروع أميركياً واضحاً لمنع بوتين من الاجتياح. يخشى الرجل على نفسه في موقعه وبلاده من أن تكون السياسة الأميركية دفعة تدفع ثمنها أوكرانيا وحدها، فيما يحقق بوتين ما يريده. وما يشير إليه الرئيس الأوكراني، عانى منه الكثير من حلفاء أميركا. ما يكمّل موقف الرئيس الأوكراني، موقف للمبعوث الدولي إلى سوريا غير بيدرسون، الذي يشير إلى أنه لا وجود لأي اختلاف روسي أميركي حول الملف السوري، وهذا يؤكد أن هناك التقاءً استراتيجياً بين الطرفين، وبمعنى أوضح فإن أميركا هي التي سلّمت سوريا لروسيا، في سياق سياسة دولية جديدة تنتهجها واشنطن عنوانها الخروج من المنطقة باتجاه الباسيفيك.
يعلن بوتين أنه يريد مواجهة الناتو، ذلك الحلف الذي أضعفه الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى أقصى الحدود، وهمّش دوله ودخل في علاقات سيئة مع مكوناته، وكان أبرز دليل على ضعف الناتو وانتهاء مفاعيله، هي الخلافات الأميركية التركية وتحديداً حول الملف السوري. هنا الفارق الأساسي بين طريقة العمل الأميركية والروسية. فالأميركيون لا يمانعون إظهار أنهم في موقع الضعيف أو المتراجع أو الطرف الخاسر، أو المُجبر على الانسحاب من ساحة معينة، فيما تكون النتائج قد صبّت في صالحه الاستراتيجي سياسياً، عسكرياً، أو اقتصادياً. كما هو الحال بالنسبة إلى الخروج من أفغانستان أو العراق، أو المنطقة، وكما هو الحال بالنسبة إلى الخلاف القائم بين أميركا ودول الخليج، أو سعي واشنطن لإبرام اتفاق نووي مع إيران. إذ ستكون واشنطن حققت أهدافاً استراتيجية بعيدة المدى، فيما ستخرج طهران لتعلن نفسها قد حققت انتصاراً. أما الروس فيعملون بطريقة مختلفة، تقوم على إظهار القوى الكلامية والاستعراض العسكري والبنيوي وإن لم يكن ذلك مقروناً بنتائج واقعية.
لم يكن أوباما وحده من أضعف الناتو، ما جاء به دونالد ترامب كان أكثر وضوحاً وفظاظة، لم يتأخر الرئيس الأميركي عن الإعلان عن نيته الانسحاب من الحلف وتفكيكه. فذلك ينسجم مع مسار استراتيجي واضح المعالم ينطلق من قاعدة “أميركا أولاً” أو عدم استعداد أميركا لتحمل تكاليف الأمن العالمي، وذلك يندرج أيضاً في مسار تصغير الكيانات. فأكثر النقاط التي التقى عليها ترامب وبوتين كانت ضرب أوروبا كاتحاد، والسعي إلى تفكيكه، ففي ذلك مصلحة روسية تاريخية، ومصلحة أميركية مستجدة واستراتيجية، سواء بالنسبة إلى سعي واشنطن لإبرام تحالفات جديدة مع أستراليا، اليابان، والهند في سياق التفرغ للصين، وذلك لا ينفصل أيضاً عن الخلاف الاستراتيجي الذي وقع مع فرنسا على خلفية صفقة الغواصات لصالح أستراليا، فيما فرنسا برئيسها إيمانويل ماكرون الذي يطمح لأن يكون رافعة القاطرة الأوروبية، قد تلقى ضربة أميركية كبرى. لا ينفصل ذلك أيضاً عن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والذي كان مؤشراً واضحاً حول تنامي هذه النزعات “الانشقاقية” عن الاتحاد.
الصراع الأميركي الروسي يستهدف أوروبا. والتصعيد بينهما يسهم في التأثير سلباً على كل الواقع “الطاقوي” في أوروبا التي قرر بوتين وقف إمدادات الغاز إليها، وسيكون له تأثير أكبر على الصعيد الاقتصادي، وأي اجتياح روسي لأوكرانيا لن يواجه بتصعيد أميركي، إنما بسلسلة عقوبات، أو بمواقف أميركية تصف خطوة بوتين بأنها وقوع في فخ جديد والغرق في مستنقع، تماماً كما كان نوع الكلام حول دخوله إلى سوريا. لكن الكلام شيء والواقع أمر مختلف تماماً، وستنتج عنه وقائع جديدة على صعيد النظام العالمي.
تلفزيون سوريا
———————–
مورفولوجيا التاريخ/ سليمان الطعان
يقف النظام العالمي اليوم أمام لحظة فارقة قد تقرر مصيره لعقود قادمة، فكل ما نراه على الساحة العالمية يشبه إلى حد كبير ما كان العالم قد شاهده في الأشهر التي سبقت الحرب العالمية الثانية، ففي السنة التي سبقت الحرب الكونية الكبرى، وُقعت معاهدة ميونخ (30 أيلول، 1938م) والتي سمحت فيها القوتان الاستعماريتان آنذاك: بريطانيا وفرنسا، لألمانيا بضم منطقة السوديت التشيكوسلوفاكية، والتي يقطنها مواطنون يتكلمون الألمانية، وهي المعاهدة التي نقضها هتلر بعد ستة أشهر، فاحتل ما تبقى من تشيكوسلوفاكيا، ثم بدأ بالهجوم على بولندا في الأول من أيلول عام 1939م، والذي عد اليوم الرسمي لبداية الحرب العالمية الثانية.
في كتاب مورفولوجيا الحكاية لبروب، يخلص الناقد الأدبي الشهير فلاديمير بروب إلى أن المهم في دراسة الحكايات البحث عن الوظائف التي تتكرر باستمرار، فالشخصيات والأحداث تتبدل في كل حكاية، فما يفعله الأدب منذ الأزل هو صياغة هذه الوظائف ومعالجتها وتدويرها ضمن قصص جديدة فقط. الأمر في التاريخ يبدو مشابها للأدب، فباستثناء تبدل الفاعلين والدول، تبدو أحداث الأحداث المتسارعة على الحدود الروسية الأوكرانية نسخة مكررة للشهور التي سبقت الحرب العالمية الثانية.
من نواح عديدة، تبدو البوتينية اليوم نسخة معاصرة للمظلومية الألمانية، فبوتين لديه هاجس وحيد هو استعادة دور روسيا الذي فقدته مع انهيار الاتحاد السوفييتي الذي يعتقد الرئيس الروسي أنه كان عباءة تخفت تحتها الأحلام الإمبراطورية الروسية التقليدية، مثلما كان هاجس هتلر استعادة كرامة ألمانيا وعزتها بعد الإذلال الذي تعرضت له في معاهدة فرساي الشهيرة عام 1919م. والذريعة تكاد تكون هي نفسها، فعلى غرار ما طالب به هتلر في نهاية الثلاثينيات من القرن المنصرم، أي: السماح له بضم الأراضي التي يقطنها الألمان في تشيكوسلوفاكيا، انطلاقا من مظلومية الناطقين بالألمانية، فإن بوتين يكرر اللعبة نفسها، سواء حين يساعد المتمردين في شرق أوكرانيا، أو حين يرسل إشارات إلى الاضطهاد الذي يعانيه الناطقون باللغة الروسية في جمهوريات البلطيق.
وإذا كانت النازية قد خاطبت غرور الألماني، وزرعت فيه الرغبة في الثأر لهزيمته في الحرب العالمية الأولى، وعطفت على ذلك بفلسفة عرقية تعلي من شأن العرق الجرماني، وتسمو به على بقية الأعراق، فإن البوتينية تبدو في جوانب منها نسخة من العنجهية الألمانية التقليدية، نراها ماثلة في الفلسفة السياسية التي يبشر بها ألكسندر دوغين والمنصبة على معاداة الليبرالية، وإحياء التقاليد المسيحية، والعزف على وتر القومية الروسية…إلخ.
فيما يتصل بالأزمة الأوكرانية، يسود في بعض الأوساط السياسية، ولدى كثير من المحليين، رأي مفاده أن روسيا اليوم لن تتجاوز حدود التهديد، وأنها من خلال استعراض القوة العسكرية والتلويح بها تسعى للحصول على مكاسب اقتصادية، وخصوصا في ظل الأزمات التي تعانيها بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، واقتصادها القائم على تصدير الطاقة. ولكن علينا –ونحن نستذكر التاريخ- أن هذا هو الرأي الذي كان سائدا في معاهدة ميونخ التي أصبحت علامة على أن الخضوع للابتزاز والتهديد هو وصفة مثالية لحرب كارثية. فحتى لو تحققت المطالب الاقتصادية الروسية التي يبدو أن القادة الغربيين مستعدون لتقديمها، فإن هذه لن توقف على الأرجح الأحلام الإمبراطورية الروسية، ولا سيما في ظل التراخي الأميركي الذي عبرت عنه تصريحات الرئيس الأميركي الأخيرة بأن العقوبات على روسيا في حال غزوها أوكرانيا مرتبطة بمدى اجتياحها للأراضي الأوكرانية، الأمر الذي فسر على أنه تراجع مخيف أمام سياسة حافة الهاوية التي ينتهجها الرئيس الروسي.
في مواجهة الهجمة البوتينية التي بدأت منذ عام 2014 باحتلال جزيرة القرم، وبالدخول إلى سوريا عام 2015م لمساعدة نظام الأسد في حربه على الشعب السوري، وأخيرا في دخول كازاخستان لقمع الانتفاضة الشعبية ضد النظام الحاكم هناك، لم تقم الدول الغربية ممثلة بحلف شمال الأطلسي (الناتو) بأي عمل لمواجهة هذه الهجمة الشرسة، الأمر الذي أفقدها القدرة على الردع، لا بل إن المواقف المهادنة من الدول الغربية، وخصوصا ألمانيا التي تعتمد على الغاز الروسي اعتمادا كليا، تنذر بأن الاندفاعة البوتينية مستمرة مادام أمثال تشمبرلين لا تشرشل يحتلون مواقع السلطة في العالم الغربي. فالحقيقة التي لم تعد خافية أن الرئيس الأميركي جو بايدن، هو نسخة معاصرة لرئيس الوزراء البريطاني، نيفل تشامبرلين، الذي استغلت ألمانيا النازية ضعفه وركونه إلى الخيارات التفاوضية، فزادت مطامعها، وبدأت تطالب بالمزيد من الامتيازات والأراضي. لكن علينا أن نقول إن بايدن وحده لا يتحمل مسؤولية هذه الشراسة الروسية، فقد غض باراك أوباما النظر عن دخول روسيا إلى سوريا، لتقوم “بعمل قذر” تأنفه الادعاءات الأميركية عن حقوق الإنسان، يضاف إلى ذلك ما كان ترامب قد حاوله من قبل حين أراد أن يحيد روسيا، أو أن يكسبها إلى جانب الولايات المتحدة في صراعها مع الصين، ولكن كل ذلك انتهى الآن إلى تنمر بوتين وغطرسته.
في ظل هذه الهجمة التي تنذر بحرب عالمية، مازال جزء كبير من بقايا اليسار العربي يهلل لروسيا ولما تقوم به ظنا من اليسار التقليدي أن مناهضة أميركا يكفي وحده للوقوف مع أي قوة تناهض هيمنتها على العالم. وهو أمر كان أجدادنا قد عاينوه من قبل حين هلل بعضهم لانتصارات ألمانيا النازية على بريطانيا وفرنسا الدولتين الاستعماريتين اللتين كانتا تحتلان الوطن العربي. ويسجل في هذ الصدد للقوى الليبرالية، آنذاك، وفي مقدمتها حزب الوفد المصري، وقوفها في وجه هذا التيار ورغبته في تحويل تعاطفه مع النازية إلى تحالف، لا نستطيع اليوم تخمين النتائج المترتبة عليه. لكن ما لم يختبره أجدادنا أن جزءا من اليسار العربي مازال يعيش في عالم المؤامرات، ومازال يعتقد أن كل ما يقوم به بوتين يقع في إطار المساحة التي تعطيه إياها أميركا، فهي موزع الأدوار الذي منح لروسيا مهمة تهديد أوروبا كي تتفرغ أميركا نفسها للصراع مع الصين.
حتى الآن لا مؤشر يوحي بأن مصير البوتينية سيكون مشابها لمصير النازية، لكن مسار التاريخ لا يعود إلى الوراء أبدا، فالشعوب الحرة ستقف في لحظة ما في مواجهة البربرية والتوحش. لكن البرابرة والمتعطشين للدماء لا يتعلمون من دروس التاريخ كما يقال.
——————————–
الثلج السوري يذوب على مرج أوكرانيا/ هشام اسكيف
“ما الذي تريده روسيا من سوريا؟” سؤال طالما رافق الثورة السورية منذ الفيتو الأول لروسيا ولا سيما أن حسابات الجميع كانت متجهة للعوامل التي ستدفع الولايات المتحدة الأميركية للدفع باتجاه التغيير في سوريا، وقد كانت التجارب السابقة مع روسيا تفيد بأنها ستخضع في نهاية المطاف للإرادة الأميركية خاصة بعد تجربة مرور قرار مجلس الأمن الخاص بليبيا تحت الفصل السابع في آذار عام 2011، والذي فرض منطقة حظر جوي على ليبيا، وكان القرار عاملا محفزاً على خلق شعور بضآلة الدور الروسي في مواجهة الحلف الغربي، أو على الأقل عدم قدرة روسيا على مواجهة الدول الغربية ولا سيما أن وعوداً أطلقت لروسيا مقابل تمرير قرار التدخل في ليبيا ولكن كانت حالة الخذلان الذي تجرعته روسيا من هذا الأمر الذي سنراه لاحقا في تطور موقفها من القضية السورية التي اتسمت بالتراكم الاستراتيجي وصولا إلى الغايات التي ستتضح في سياق استراتيجية بوتين القائمة على استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي.
انطلاقا من سوريا.. روسيا القيصرية بدأت بالتحرك
روسيا التي تعرضت “لخديعة غربية” على حد تعبيرهم في ليبيا، حيث كانت الوعود الغربية للروس بأن تبقى الشركات النفطية الروسية في ليبيا وتستحوذ على استثمارات أكبر مما دفع بها ـ وكإجراء عقابي للغرب ـ إلى استخدام أول فيتو في تشرين الأول عام 2011، أي بعد نحو ستة أشهر على اندلاع الثورة السورية، ثم توالى الفيتو الروسي مرتين في 2012 وفي 2014، روسيا فيما يبدو غاضبة لتجاهل الغرب لمصالحها الحيوية ـ وزاد في العربدة الروسية في مجلس الأمن التراخي الأميركي مع موقف روسيا قياسا مع مرور قرار ليبيا تحت الفصل السابع، و ظهرت تفسيرات عدة لفهم توجهات موسكو، إزاء القضية السورية تراوحت بين احتمالية التواطؤ الأميركي ـ الروسي وبين الرغبة الإسرائيلية في الحفاظ على الأسد، وبين تحدي روسي للغرب وصولاً إلى استغلال روسيا الفراغ الذي خلفه تردد الإدارة الأميركية في عهد “الرئيس باراك أوباما” بعد صفقة الكيماوي 2013 والتي -نجحت فيها موسكو في قنص الفرصة وتعطيل الضربات الجوية الناتجة عن تجاوز الخط الأحمر “الخاص بأوباما” – ونجحت أيضا موسكو في سبر أفق التدخل الأميركي في سوريا ورأت ألّا شهية أميركية للدخول في حرب جديدة بعد ليبيا ـ ولكن ظل المحرك الأساسي للتعاطي الروسي مع الملف السوري مختبئاً في ظلال استراتيجية بوتين الذي يسعى منذ تسلمه للسلطة لاستعادة الاتحاد السوفييتي الذي وصف انهياره ذات مرة (بالكارثة العالمية).
انطلقت في آذار 2014 عمليات عسكرية روسية للسيطرة على شبه جزيرة القرم ودونباس، وقد أثار التدخل الروسي في أوكرانيا غضباً غربياً عارماً. لكن لابد أن نعترف بحرفية بوتين في اختيار التوقيت المناسب حيث إن الولايات المتحدة حينها منشغلة في مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني وأوروبا لا تريد أن تعود لأجواء الحرب العالمية بأي ثمن، مع أن التهديد الروسي لأوروبا أصبح هاجساً سيؤرق القارة العجوز كثيراً، لذلك اختار الغرب بشقيه الأميركي والأوروبي طريق العقوبات المشددة على الروس، من دون أي رد عسكري ولا حتى التلويح به وكانت النتيجة مؤلمة فقد أمسكت روسيا بتلابيب القارة العجوز من جهة الشرق في أوكرانيا فيما تتجهز لكي تمسك في الجنوب الشرقي في سوريا، والتي ستشهد تدخلا عسكريا صريحا من قبل الروس عام 2015 لتصبح الورقة السورية هي الأغلى في بازار بوتين.
سوريا الورقة التي لم تبَع في سوق الولايات المتحدة
في خريف عام 2015 كان النظام السوري يتهاوى تحت ضربات الجيش الحر والفصائل ذات التوجه الإسلامي، فقد ظهر بشار الأسد معلنا في خطاب أقرب لخطاب الهزيمة أنه يتراجع من مناطق ليحمي مناطق أخرى، بعد هذا الخطاب المهين لرأس النظام تحركت العجلة الروسية تجاه أخذ القرار الأخطر، ولا يهم كثيراً هنا تشجيع أو طلب إيران عبر قاسم سليماني من عدمه لأن الخطوة تعتبر أكبر من أن تكون تلبية لطلب إيراني أو استجابة لإغراء اقتصادي، ظهر بوتين بعنجهية روسية ذات نكهة سوفييتية قائلا (أعتقد أننا في مهمة ستنتهي بعد ثلاثة أو ستة أشهر على أبعد تقدير ) أعتقد أن أحد أهداف العمليات العسكرية الروسية بشكلها الذي ظهرت به كحرب إبادة حقيقية كان ظهورها كبروفا واستعراض عضلات لترك نماذج سيئة في ذهنية أوروبا عن مدى الوحشية التي سترد بها موسكو على أي تحرك عسكري من أجل أوكرانيا، مع توالي الفيتو الروسي في مجلس الأمن لإسقاط أي قرار يدين النظام السوري، يعود السؤال الذي طرحناه في المقدمة (ما الذي تريده روسيا من سوريا؟) مع ذلك استمرت المفاوضات الروسية الأميركية والتي فيما يبدو كانت تصطدم بعدم رغبة أميركية بدفع الثمن لروسيا، ولا سيما أن اتفاقاً نووياً مع إيران قد أصبح أمراً واقعاً، حينها قبلت موسكو بجائزة الترضية باتفاق كيري ـ لافروف الذي قسم النفوذ بين الدولتين بين شرق الفرات وغربه، هذا الاتفاق الذي أطلق يد بوتين في غرب الفرات من ناحية ولكنه قيدها بشكل مؤلم من ناحية أخرى، حيث بقيت مناطق الثروات الطبيعية والزراعية بيد الولايات المتحدة، واضح أن الثمن الذي طلبته موسكو كان:
ولكن الكرملين لم يستطع بيع الورقة السورية رغم عرض بشار للبيع أكثر من مرة، ولكن بثمن لم ترَ واشنطن أن بشار يستحقه، ولا سيما ونحن نرى ورطة الروس في سوريا بعد نجاح الحملات الجوية الروسية في تدمير سوريا وأصبحت بحاجة لأموال طائلة لإعادة الاعمار، ومع انتهاء ولاية أوباما وبدء ولاية ترامب الذي كان شعوبيا لدرجة غير معقولة بالتعاطي مع كل الملفات وعلى رأسها روسيا ونفوذها وسوريا، ولكنه وضع استراتيجية واضحة للولايات المتحدة مبنية على نقاط أبرزها إغراق روسيا في المستنقع السوري وخنق النظام السوري.
ذاب الثلج الروسي أخيرا وبان المرج
أوكرانيا كانت مادة التداول التي شغلت ساكن البيت الأبيض الجديد “جو بايدن” وترافقت مع حملات تصعيد كلامية بين روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة وصلت إلى حد الاستعراض العسكري بطلب المرور للسفن الحربية الأميركية من مضيق البوسفور والمطالبة بتطبيق اتفاقية (مونترو)، وصولاً إلى لقاء القمة الأميركي الروسي والذي نتج عنه تشكيل مجموعة عمل لنقاش القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة وروسيا، الملفت بالأمر أن العروض الروسية كانت تتمحور بشكل أساسي على المقايضات بين الملفات، وكان طبعاً الملفين الأساسيين لدى الروس هما الملف السوري والملف الأوكراني، واللافت وبشكل مهم أن الاجتماع نتج عنه اتفاق تسهيل صدور قرار “تمديد وصول المساعدات الدولية إلى سوريا عبر الحدود”، وكان إلحاح الروس على فتح الملف الأوكراني عبر سلسلة الاجتماعات التي عقدتها اللجنة المشتركة الأميركية الروسية لافتاً، وانعكس ذلك عبر حملات كلامية وتراشق إعلامي يتلو كل اجتماع على القضية الأوكرانية وصولاً إلى الصورة الأوضح بعد انسداد الأفق في وجه روسيا لفتح أي ثغرة في جدار العقوبات السميك على النظام السوري، وعدم مقدرتها على الدفع باتجاه التطبيع مع جزار دمشق وبالتالي تدفق أموال إعادة الاعمار، أو المقايضة بين الملف السوري والأوكراني، لذلك اندفعت موسكو إلى أعلى الشجرة وبدأت تحضر لغزو أوكرانيا كما قال الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخراً “يبدو أن روسيا بالتأكيد ستغزو أوكرانيا”.
خلاصة القول كان الملف السوري بالنسبة لروسيا هو ورقة لها هدفان أساسان يخدمان بعضهما البعض.
الأول: العودة إلى الساحة الدولية بقوة واستعادة نفوذ الاتحاد السوفييتي عبر السيطرة على مياه المتوسط الاستراتيجية والورقة السورية كانت مثالية بشكل أكبر من المتوقع.
الثاني: في حال عدم النجاح في تحقيق الهدف الأول يتم الانتقال إلى الخطة ب المتمثلة بالمقايضة للملف الأوكراني بالسوري.
ولكنّ الهدفين تعثرا في المضي إلى الأمام، وليس أوضح من البيان الروسي الذي أصدرته البعثة الروسية في الأمم المتحدة في 26/1/2022 مهاجمةً به الولايات المتحدة الأميركية في دعم الإرهاب وهيئة تحرير الشام وسرقة الثروات السورية على حد زعمهم، واضح من البيان أنه يترافق مع أجواء الحرب في أوكرانيا، وأن موسكو ما تزال تلح على المقايضة بين الملفين ولا سيما أن بوتين انتقل إلى القوة الخشنة في تنفيذ وتثبيت نفوذ روسيا الجديدة ذات النكهة السوفييتية البوتينية، ولكنه يبدو أنه صعد إلى الشجرة فعلا ولا يعرف متى ومن سينزله عنها، والسؤال الأهم هل سيستخدم بوتين ورقة الشمال السوري وإدلب لكي يحفظ ماء وجه في حال لم يستطع خوض حربه في أوكرانيا، هذا السؤال ستكون الإجابة عليه في الميدان فتركيا وحلفاؤها في الناتو لا أعتقد أنهم في وارد رؤية روسيا تنفرد في الملف السوري بشكل مطلق.
———————————-
انعكاسات التوتر الروسي- التركي في أوكرانيا على القضية السورية/ محمود عثمان
يعود أصل النزاع الأوكراني الروسي على شبه جزيرة القرم إلى عام 1954 عندما ضمها الزعيم السوفييتي الأوكراني الأصل، نيكيتا خروتشوف، إلى أوكرانيا التي كانت إحدى الجمهوريات السوفييتية.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وانفصال الجمهوريات السوفييتية ومنها أوكرانيا عن الاتحاد أصبحت القرم جزءًا من أوكرانيا المستقلة. لكن روسيا أبقت على قاعدتها العسكرية في القرم التي تؤمّن وصولها إلى البحر المتوسط، وتعتبر وجود قواتها على شبه جزيرة القرم قانونيًا، بينما تعتبره أوكرانيا احتلالًا.
شهدت أوكرانيا في نهاية عام 2013، أزمات سياسية متصاعدة، تطورت فيما بعد إلى انتفاضة شعبية ضد حكومة الرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالية لروسيا، حيث تمكنت انتفاضة الأوكرانيين من الإطاحة بالرئيس يانكوفيتش، ونجحت في إعادة العمل بدستور 2004 الذي يعزز من سلطتي البرلمان ورئاسة الحكومة.
ثم جاء الإفراج عن يوليا تايموشنكو، تتويجا لنجاح ثورة الأوكرانيين، وإعلانا عن خروج البلاد من المنظومة الروسية، وإيذانا بدخولها في الفلك الأوروبي.
وبينما ذهبت الدول الغربية إلى اعتبار ما جرى ثورة دستورية معبرة عن تطلعات الشعب الأوكراني في بناء دولته الحديثة على أسس ديمقراطية وفق النموذج الغربي، بالتخلّص من الإرث الروسي، فإنّ روسيا اعتبرته انقلاباً يمينياً متطرفاً.
بتاريخ 27\02\2014 ردت روسيا على الإطاحة بالحكومة الموالية لها، بتدخل عسكري مباشر، تمثّل باحتلال شبه جزيرة القرم، من خلال دخول القوات الروسية إلى منطقتي لوهانسك ودونيتسك، وإعلان قيام جمهوريتين شعبيتين، بهدف تثبيت الجماعات الانفصالية الموالية لها عسكرياً، وإكسابها صفة شرعية.
عقب ذلك نفذت القوات الروسية انسحابا ظاهريا، لكنها تمركزت في الجهة المقابلة من الحدود، ليستمر دورها بشكل غير مباشر، في تدريب وتمويل وإدارة عمليات الانفصاليين، وتزويدهم بالأسلحة الثقيلة والعناصر المقاتلة.
أدّت الإطاحة بالحكومة الموالية لروسيا، إلى حالة نزاع مسلّح داخل أوكرانيا وعلى حدودها، مترافقاً بتصعيد متتالٍ من قبل الأطراف المعنية. لكن التصعيد الروسي الأخير، والحشود العسكرية الضخمة على الجهة المقابلة من حدودها مع أوكرانيا، بات ينذر باحتمال تطور الأمور إلى حرب تشمل كافة الأراضي الأوكرانية، بل ويزداد القلق في الجانب الأوكراني بأن يكون السلوك الروسي تمهيداً لإزالة الدولة الأوكرانية نهائياً وإعادتها للحاضنة الروسية.
أوكرانيا تشكل بؤرة التنافس الأميركي الروسي
يتهم الغرب روسيا بنشر ما يصل إلى 100 ألف جندي عند الحدود مع أوكرانيا، ويتوعد بفرض عقوبات غير مسبوقة في حال حدوث غزو جديد للبلاد بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014.
وتطالب واشنطن ومعها الأوروبيون، بانسحاب القوات الروسية وإحياء اتفاقات مينسك التي يُفترض أن تنهي النزاع في دونباس بشرق أوكرانيا بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا.
في الجهة المقابلة تطالب موسكو بوضع حد لتوسيع حلف شمال الأطلسي عند حدودها، وتقليص عدد العسكريين التابعين للحلف في أوروبا الشرقية. بتعبير آخر تسعى موسكو إلى استعادة إرث الاتحاد السوفييتي بعد أن أصبحت غالبية دول أوروبا الشرقية عضوا في حلف الناتو.
ثمة نقاط ساخنة أُخرى محل خلاف بين الطرفين، فقد انتقدت الولايات المتحدة نشر قوات روسية لدعم حكومة كازاخستان التي تواجه أعمال شغب، بعدما كانت شككت أيضا بالدعم الذي قدمته روسيا لرئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، إثر إعادة انتخابه المثيرة للجدل، وكذلك السلوك الروسي حيال أزمة المهاجرين الأخيرة مع أوروبا.
كذلك، ما يزال دعم موسكو الحاسم واللامحدود للرئيس السوري بشار الأسد محل اعتراض أميركي.
وفي إفريقيا، تضغط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقليص دور مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية المتهمة بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في ليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية مالي.
كذلك يبقى ملف نزع السلاح الاستراتيجي، يشكل الهدف الأساسي من “الحوار حول الاستقرار الاستراتيجي” والحد من التسلح بين القوتين النوويتين.
صحيح أن محاولة تجنب نزاع جديد في أوكرانيا، قد شكّلت أحد أبرز مواضيع المحادثات في جنيف بين الولايات المتحدة وروسيا، إلا أنها لم تكن الوحيدة على طاولة المفاوضات بين الطرفين، إذ تكتظ أجندات الطرفين بخلافات عديدة، تتركز حول الأمن في أوروبا، ونزع السلاح الاستراتيجي، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما إلى المستوى الذي كانت عليه.
انعكاسات التوتر الروسي-التركي حول أوكرانيا على الحالة السورية
حذرت مصادر تركية من تدهور العلاقة بين أنقرة وموسكو في حال غزو روسيا لأوكرانيا، حيث يستعد حلف شمال األطلسي ”ناتو“ للرد بإجراءات ملموسة ضد روسيا، وذلك من خلال قوة التدخل المحتملة التي تقع قيادتها في تركيا، وكانت قيادة الحلف قد تبادلت معلومات استخباراتية مع الـدول الأعضاء تفيد ببدء الاستعدادات الروسية لغزو أوكرانيا، ما دفع الولايات المتحدة للتباحث مع حلفائها حول الخيارات المتاحة، وسبل توفير الدعم العسكري إلى جانب فرض العقوبات الاقتصادية.
وتتولى تركيا قيادة، قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية، إحدى فروع قوة الرد لـ “الناتو”، حيث يضم قيادة لواء المشاة الـ66 التابع لها نحو 4200 جندي، مزودة بعربات مدرعة وصواريخ مضادة للدبابات من الطراز المتطور.
وكان زعماء دول “الناتو” قد اتفقوا على إنشاء قوة عمل مشتركة عالية الجاهزية، خلال قمة ويلز عام 2014، عقب أنشطة روسيا الرامية إلى زعزعة الاستقرار في أوكرانيا، والتوترات بمنطقة الشرق الأوسط. وتكمن الخطورة في تنامي احتمالات اضطرار أنقرة لقيادة جهود التعبئة والتزويد اللوجستي ونقل المعدات العسكرية ضد القوات الروسية، وإدارة فرق الإخلاء بالطائرات والمروحيات.
في هذه الأثناء تتردد في أنقرة انعكاسات تصريح المتحدث باسم الكرملين الروسي، دميتري بيسكوف، والتي انتقد فيها خريطة ”العالم التركي“، التي تسلمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كهدية ً من رئيس حزب ”الحركة القومية“ التركي، دولت بهتشلي، قائلا: “يرعى شركاؤنا الأتراك فكرة الوحدة التركية وهذا أمر طبيعي، والشيء الوحيد الذي يستدعي أسفي هو أن هذه الخريطة التي تضم نجمة حمراء كبيرة في مركز العالم التركي، وهو ليس في تركيا بل في الأراضي الروسية”.
وكانت وسائل إعلام روسية قد انتقدت شمول الخريطة كل من، شبه جزيرة القرم وإقليم الكوبان ومقاطعة روستوف وجمهوريات شمال القوقاز، وشرق سيبيريا، وتزامنت تلك الانتقادات مع تصعيد مكثف للقصف الروسي بالقرب من النقاط التركية شمال غربي سوريا، ففي 13 ديسمبرـ كانون الأول الماضي وسع الطيران الحربي الروسي قصفه ليشمل عموم المناطق الواقعة بالقرب من الحدود السورية-التركية، التي تخضع لاتفاقيات وقف التصعيد، ضمن تفاهمات أستانا، التي انتهت الجولة السابعة عشرة منها قبل أيام من التصعيد الروسي الخطير.
وفي الرابع من شهر ينايرـ كانون الثاني قصفت مقاتلات حربية روسية محيط بلدة البارة بريف إدلب الجنوبي، بالتزامن مع اتصال هاتفي بين الرئيسين الروسي فلادمير بوتين، والتركي رجب طيب أردوغان، بحثا خلاله العديد من الملفات من بينها الملف السوري.
وفي 21 ينايرـ كانون الثاني أصيب ثلاثة عناصر من الجيش التركي بجروح جراء قصف مدفعي استهدف نقطة المراقبة التركية في بلدة كنصفرة في منطقة جبل الزاوية جنوب إدلب، وذلك في تصعيد جديد من قبل قوات النظام التي نفذت قصفها الجوي بالتزامن مع تحليق الطائرات الروسية في أجواء المنطقة.
الرسائل التي حملها استهداف الطيران الحربي الروسي في شمال غربي سوريا بالقرب من تمركز القوات التركية، تشير بما لايدع مجالا للشك إلى أن موسكو لن تتردد في تحريك الجبهة السورية ضد تركيا، في حالة نشوب اشتباك عنيف في أوكرانيا.
وكان عدد من المسؤولين الروس عبروا عن غضبهم جراء تزويد تركيا لأوكرانيا بالمسيرات القتالية التي أثبتت جدارتها في حسم المعركة بين أذربيجان وأرمينية.
في المحصلة، إن انشغال روسيا بإطفاء الحرائق في محيطها الاستراتيجي، بدول الجوار التي تعتبر حدائق خلفية لموسكو، سوف ينعكس بشكل إيجابي على الملف السوري، حيث ستضطر موسكو للتخلي عن المهم لصالح الأهم. لكن ذلك يبقى مرتبطا بالطرف المقابل القادر والمستعد للضغط على دفع بوتين لجهة التخلي عن بشار الأسد، ذي الكلفة الباهظة والعائد القليل.
——————————-
=====================
تحديث 04 شباط 2022
———————-
أزمة أوكرانيا وخريطة جديدة لأمن أوروبا/ باسل الحاج جاسم
عند الحديث عمّا بات يطلق عليه اليوم إعلامياً الأزمة الأوكرانية، لا يمكن إغفال ملفات كثيرة مرتبطة ومتداخلة بهذه الأزمة، ليس أولها الأمن الأوروبي، وأمن الطاقة، ومكانة روسيا العالمية ومطالبتها بضمانات أمنية كتابية، وموقع أميركا وأحادية القطب، ولا تنتهي عند دور الصين الصاعد. وبكلام آخر، هذه الملفات محاور التجاذبات والمد والجزر بين موسكو والغرب، وأوكرانيا الغائب الحاضر، فهي ليست طرفاً في المفاوضات والمحادثات المكثفة الجارية بين موسكو من جهة وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية طوال الأسابيع الماضية.
لم تحصل روسيا عملياً على أي شيء، في الرد الخطي من واشنطن وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على الضمانات الأمنية التي كانت تطالب بها، وأعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن موسكو لا تزال تبحث ردّ واشنطن و”الناتو” على مقترحاتها للضمانات الأمنية، وأنه أصبح واضحاً لروسيا أن الغرب يتجاهل هواجسها على هذا الصعيد.
وفي ختام محادثاتٍ أجراها مع رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، في الكرملين، الأول من فبراير/ شباط الجاري، أكد بوتين أن موسكو لم تتلق جواباً مناسباً من واشنطن والاتحاد الأوروبي على المطالب الروسية المحورية الثلاثة، عدم تمدّد “الناتو” شرقا، والتخلي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدود روسيا، وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا إلى خطوط عام 1997. ويمكن القول إن الشيء الوحيد الإيجابي الذي حصلت موسكو عليه من بين كل ما طالبت به أن الرد كان “خطياً” بناء على طلب روسيا، وهو ما يثير تساؤلاتٍ كثيرة من قبيل: لماذا إذاً تتأخر الحرب؟
وفي الوقت الذي نجد أن أوكرانيا أمن قومي روسي، وقضية لا تمتلك فيها موسكو رفاهية التراجع، لا يوجد قرار واضح في واشنطن، يحدّد أولويات أوكرانيا للأمن القومي الأميركي، وليس لدى الغرب في العموم خطط واضحة للتعامل مع تطورات الأوضاع، سواء في حال حدث غزو روسي شامل، أو اجتياح محدود، وهي الاحتمالات التي تحدّث عنها الرئيس الأميركي بايدن، وهو ما أثار الغضب في كييف، كما أن بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لدى كل منها أولويات ومصالح ورؤية خاصة مختلفة حيال موسكو.
وانعكس كل ما سبق بشكلٍ لا لبس فيه على الاتصال الهاتفي بين الرئيس بايدن ونظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، ولم تسر المكالمة أخيرا بينهما على ما يرام، وفق مصادر أوكرانية عديدة رفعية، بسبب الخلافات حول “مستويات الخطورة” فيما يتعلق بالهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا. لم يوافق بايدن على ما قاله الرئيس الأوكراني إنه ليس مؤكّدا أن الهجوم الروسي سيحدُث، وأصرّ على أن الغزو أصبح شبه مؤكّد، وسيحدُث في وقت لاحق من فبراير/ شباط الجاري. وبحسب مسؤول أوكراني كبير، أبلغ بايدن زيلينسكي بأن بلاده لن تحصل على مزيد من المساعدات العسكرية، ولا قوات أميركية، أو أنظمة أسلحة متطوّرة. وقال المسؤول الأوكراني إن بايدن رفض الدعوات الأوكرانية لفرض عقوباتٍ على روسيا قبل أي غزو، قائلاً إن العقوبات لن تُفرض على موسكو إلا بعد تقدّم روسي إلى الأراضي الأوكرانية.
ويعكس الخلاف بين بايدن وزيلينسكي قلق كييف التي هي موضوع تفاوض بين اللاعبين الدوليين على قضايا وملفات تتجاوز حدود أوكرانيا. وصحيح أن روسيا لم تحصل حتى اليوم على كل ما تريده من وراء حشودها العسكرية، والتي باتت تطوّق أوكرانيا من كل الجهات، من الشرق على حدود الدونباس، ومن الشمال في بيلاروسيا، وفي الجنوب من أراضي شبه جزيرة القرم، بالإضافة إلى وجود القوات الروسية على الحدود الغربية لأوكرانيا في جمهورية ترانسنيستريا المعلنة من جانب واحد في مولدافيا، إلا أن موسكو نجحت في إجلاس الغرب على طاولة المفاوضات لأول مرة منذ نهاية الحرب الباردة لبحث خريطة أمنية جديدة.
وفي قراءة أخرى لمطالب روسيا الأمنية، نجد أن موسكو تريد إخراج القوات الأميركية وحلف الناتو من أوروبا الشرقية والدول التي كانت ضمن حلف وارسو، وبالطريقة نفسها لخروج القوات الروسية أو بقايا القوات السوفياتية من تلك الدول بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات.
ليس استعراض موسكو قدراتها العسكرية جديداً، ومؤكّد أن هذه التحرّكات، أخيرا، تختلف كثيرًا عن التدريبات العسكرية التي تقوم بها روسيا في العادة، وأهميتها اليوم تأتي في إطار توجيه رسالة إلى كييف بالدرجة الأولى، محذّرة من العمل العسكري ضد دونباس، ورسالة أخرى إلى الغرب عموماً أن أمن روسيا لا يبدأ عن حدود روسيا، وإنما عند حدود الدول السوفياتية السابقة.
يبقى القول، أمام برلين وباريس اليوم فرصة تفعيل صيغة النورماندي في إطار أزمة أوكرانيا فقط، في ظل إدراك استحالة تحقيق أي طرف نصر عسكري حاسم هناك، بدون إحداث نزاع عالمي لا يريده أحد الآن.
العربي الجديد
—————————–
معلومات استخبارية أميركية تكشف مضامين خطة روسية لفبركة فيديو يبرّر غزو أوكرانيا
حصلت الولايات المتحدة على معلومات استخبارية حول خطة روسية لاختلاق ذريعة لغزو أوكرانيا، من خلال فبركة مقطع فيديو مزيف، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية وآخرين تم إطلاعهم على المعلومات الاستخبارية.
وتسعى الولايات المتحدة إلى إفشال المخطط الروسي من خلال الإعلان عنه، والذي يتضمن شن هجوم مفبرك من قبل الجيش الأوكراني وتصويره، إما على الأراضي الروسية أو في المناطق التي يسيطر عليها الانفصاليون في شرق أوكرانيا.
وبحسب المسؤولين، فإن روسيا تعتزم استخدام الفيديو لاتهام أوكرانيا بارتكاب إبادة جماعية ضد الناطقين بالروسية في شرق أوكرانيا، ثم ستستغل الغضب الناتج عن الفيديو لتبرير هجوم أو دعوة قادة الانفصاليين في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا إلى التدخل الروسي.
ورفض المسؤولون الكشف عن أي دليل على صدقية الخطة الروسية أو كيفية العلم بها للصحيفة، زاعمين أن القيام بذلك من شأنه أن يعرّض مصادر معلوماتهم للخطر. وترى “نيويورك تايمز” أن حملة التضليل الروسية الأخيرة التي ركزت على الاتهامات الكاذبة بالإبادة الجماعية، وجهود البرلمان الروسي للاعتراف بالانفصاليين في أوكرانيا؛ تعطي مصداقية للتسريبات الاستخبارية.
ويرى مسؤولو المخابرات الأميركية وخبراء في الخارجية أن موسكو تحاول التمهيد لمخططها والترويج لروايتها منذ نوفمبر/تشرين الثاني، من خلال الضغط على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع نظرية المؤامرة ووسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة.
وبحسب الصحيفة، فإن الفيديو المفبرك سيقدم صوراً مليئة بالجثث التي سقطت في أعقاب انفجارات، ولقطات لمواقع تم تدميرها، وصور معدات عسكرية أوكرانية مزيفة، وطائرات مسيّرة تركية، وممثلين من صفوف الانفصاليين.
ولم يحدد المسؤولون الأميركيون الجهة التي تتولى التخطيط للعملية في روسيا، لكن “نيويورك تايمز” تنقل عن مسؤول كبير، لم تسمّه، أن مديرية المخابرات الرئيسية (GRU)، وهي الذراع الخارجية للمخابرات العسكرية الروسية، متورطة بشدة في هذا المخطط.
وقد ناقش نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، بعض تفاصيل الفيديو المخطط له في مؤتمره الصحافي اليومي يوم الخميس، ورفض الإفصاح عن الأدلة على المخطط الروسي، متذرعاً بحماية المصادر الأميركية.
وقال برايس: “إن إنتاج هذا الفيديو الدعائي هو واحد من عدة خيارات تطورها الحكومة الروسية كذريعة وهمية لتبرير العدوان العسكري ضد أوكرانيا”.
وبحسب الصحيفة، فإنه من غير الواضح ما إذا كان كبار المسؤولين الروس قد وافقوا على العملية؛ أم أنها كانت في طور التخطيط، ولكن المصادر تؤكد ثقتها بأن المخطط كان “قيد الدراسة الجادة”، وتضيف المصادر أنه “تم تحضير جثث لاستخدامها في الفيديو، كما تم تدريب انفصاليين ليلعبوا دور ذوي الضحايا المفجوعين”، كما “تم التجهيز لجعل معدات عسكرية تبدو أوكرانية أو شبيهة بتلك التي زودها بها حلف شمال الأطلسي”، إلى جانب استخدام طائرات بيرقدار التركية المسيّرة التي تستخدمها أوكرانيا.
رجب طيب أردوغان والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي – تويتر “حساب أردوغان التركي”
وعلى الرغم من أن المخطط يبدو معقداً وبعيد المنال بحسب الصحيفة؛ فإن المصادر الأميركية ترى أنه كان من الممكن أن يوفر شرارة الانطلاق لعملية عسكرية روسية، وتأمل المصادر أن يكون قد تمّ إفشالها من خلال فضح المخطط.
وفي الأسابيع الأخيرة، سعت كل من واشنطن ولندن لكشف مخططات موسكو لشن الحرب، من خلال فضح السيناريوهات التي يتم العمل عليها؛ كالحشود العسكرية على الحدود، ومخطط الفيديو المفبرك، وخطط تنصيب حكومة حليفة لموسكو في كييف.
وبحسب “نيويورك تايمز”، فإن الاستراتيجية الأميركية والبريطانية تهدف إلى “إقناع الحلفاء بأن روسيا تمتلك خططاً حقيقية للحرب يمكن أن تضعها موضع التنفيذ”، كما تهدف عمليات فضح هذه الخطط ونشرها إلى “إجبار روسيا على التخلي عن هذه الخطط وإعادة صياغتها، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تأخير أي خطة غزو”.
وتأتي خطوة الإعلان عن خطة الفيديو في الوقت الذي يبدأ فيه مجلس الدوما الروسي النظر في تشريع يعترف بمناطق شرق أوكرانيا، التي يسيطر عليها الانفصاليون، كأراض مستقلة، بالطريقة نفسها التي اعترفت فيها موسكو بمنطقتي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، اللتين احتلهما الجيش الروسي في جورجيا.
وترى الصحيفة أن اعتراف البرلمان الروسي بمنطقة دونباس الأوكرانية دولةً مستقلةً من شأنه أن يتيح لزعيم تعيّنه موسكو طلب المساعدة من بوتين. الذي يرى أن “التدخل الروسي في هذه الحال سيكون وفقاً للقانون الدولي والسوابق التي مارستها الولايات المتحدة”.
وسيعترف مشروع القانون قيد النظر في الدوما الروسي بما تسميه موسكو جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين. وكانت روسيا قد سعت للاعتراف بالمنطقتين اللتين يسيطر عليهما الانفصاليون في عام 2014، لكنها تراجعت في النهاية.
أوكرانيا تنتظر تفاصيل المخطط الروسي
من جهتها، قالت وزارة الخارجية الأوكرانية، اليوم، إن الولايات المتحدة الأميركية أخطرتها بشأن المخطط الروسي المزعوم، وتنتظر الحصول على مزيد من التفاصيل منها بهذا الصدد.
الردّ الروسي على الاتهام الأميركي
نفى المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف المزاعم الأميركية، في تصريحات نقلتها وكالات الأنباء الروسية عقب الإعلان الأميركي، قائلاً: “هذا ليس التقرير الأول من نوعه.. لقد تم ادعاء أشياء مماثلة من قبل، لكن لم تثبت صحة شيء منها”.
كما ذكرت وكالة الإعلام الروسية أن وزير الخارجية سيرغي لافروف جدّد اليوم الجمعة نفي مزاعم الولايات المتحدة بأن موسكو تلفق تسجيل فيديو كذريعة لشن حرب في أوكرانيا، ووصف الأمر بأنه “هراء”.
العربي الجديد
————————–
========================
تحديث 05 شباط 2022
—————————
الأزمة الأوكرانية في مرآة الطموحات الروسية/ حسن نافعة
تصاعدت في الأسابيع القليلة الماضية حدّة الأزمة الدائرة على الساحة الأوكرانية، حيث دأبت وسائل الإعلام الغربية على التنديد بالحشود العسكرية التي دفعت بها روسيا في اتجاه الحدود مع أوكرانيا، وترى فيها تميهدا لغزو وشيك يستهدف إسقاط النظام الحاكم في أوكرانيا واستبداله بآخر موال لموسكو. ولأن التصريحات الصادرة عن مسؤولين كثيرين في الإدارة الأميركية الحالية توحي بتصميم الولايات المتحدة على التصدّي للمخططات الروسية تجاه أوكرانيا، أيا كانت حقيقتها، حتى لو تطور الأمر إلى صدام مباشر، فليس من المستبعد أن تتحوّل الأزمة الراهنة إلى مواجهة مفتوحة بين الشرق والغرب، ما يذكّر بنمط الأزمات التي جرت إبّان الحرب الباردة، كأزمة برلين في بداية الخمسينيات من القرن الماضي وأزمة الصواريخ الكوبية في بداية الستينيات من القرن نفسه. أستبعد أن يغامر الرئيس الروسي بوتين باتخاذ قرار وشيك بغزو أوكرانيا، على غرار ما قام به بوش الابن في العراق بداية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنني لا أستبعد، في الوقت نفسه، تحوّل الساحة الأوكرانية في اللحظة الراهنة إلى معمل اختبار لموازين القوى في نظام دولي جديد ما زال في طور التشكل.
لفهم ما يجري حاليا، تجدر العودة بالذاكرة إلى لحظة سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، والذي لم يكن آنذاك مجرّد قوة عظمى تتراجع مكانتها في نظام عالمي اختلّت موازينه، وإنما كان يشكل، في الوقت نفسه، كتلة جيوسياسية هائلة، تتمدد على مساحة تزيد على 22 مليون كيلومتر مربع، وتستوعب ما يقرب من 300 مليون نسمة، وتضم مجموعات متباينة من دول وقوميات متنوعة (مجموعة الدول السلافية: روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا، ومجموعة الدول المطلة على بحر البلطيق: لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، ومجموعة الدول التركية: أذربيجان وأوزبكستان وكازاخستان وتركمانستان وقرغيزستان. ومجموعة دول القوقاز: أرمينيا وجورجيا.. إلخ). ولأن روسيا الاتحادية، التي شغلت وحدها ما يقرب من ثلاثة أرباع مساحة هذه الكتلة وضمت أكثر من نصف سكانها، كانت بمثابة المركز الذي تدور في فلكه كل هذه المجموعات، فقد كان من الطبيعي أن يؤدّي تماسكها واستعادتها قواها المفتقدة إلى تأثيرات بعيدة المدى، ليس فقط على المنطقة المحيطة بها، وإنما على مجمل موازين القوى العالمية.
لقد احتاجت روسيا إلى عقدين لإزاحة بقايا الحطام الناجم عن سقوط الاتحاد السوفييتي، ولتمهيد الطريق أمام انطلاقة جديدة. وقد لعب فلاديمير بوتين، الذي يتصدر المشهد السياسي الروسي منذ عام 1999 سواء من موقعه رئيسا للدولة أو رئيسا للحكومة، دورا حاسما في تحقيق الاستقرار السياسي والأمني اللازمين لإعادة البناء الداخلي أولا، قبل أن يصبح بمقدوره التفرغ لمواجهة التحديات الخارجية. ولأنه شهد بنفسه انهيار الاتحاد السوفييتي وما أدى إليه من آلام نفس وجرح للكبرياء الوطني، من موقعه ضابطا شابا في جهاز المخابرات الروسية (كي جي بي)، فربما أصبح أكثر من غيره وعيا وإدراكا لطبيعة التحدّيات التي تواجه بلاده على الصعيد الخارجي وجسامتها، ولما عليها أن تقوم به لاستعادة مكانتها المفقودة، فقد وجدت روسيا نفسها أمام مشروعين غربيين توسعيين، يهدفان إلى السيطرة على إرث الاتحاد السوفييتي القديم، ويعملان، في الوقت نفسه، لاحتواء روسيا وإجبارها على الانكفاء على ذاتها، وعدم التطلع إلى لعب دور مؤثر على الصعيد العالمي: الأول: جسّده الاتحاد الأوروبي، الذي يسعى إلى توحيد دول القارة الأوروبية، من خلال آليات التكامل والاندماج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. الثاني: جسده حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تسعى الولايات المتحدة من خلاله لبسط نفوذها على جانبي الأطلسي، بالاعتماد على آليات التحالف وتنسيق السياسات والاستراتيجيات السياسية والأمنية، ففي اللحظة التي كان فيها الاتحاد السوفييتي يتفكك وينهار، كانت حركة التكامل والاندماج، التي انطلقت من أوروبا الغربية في بداية الخمسينيات، قد قطعت شوطا طويلا على الطريق، وتبدو في كامل نشاطها وعنفوانها، فبعد أن فرغت من ضم دول أوروبية غربية واستيعابها، حال تعثر عملية التحول الديمقراطي دون التحاقها بالركب، كإسبانيا والبرتغال، شرعت الجماعات الأوروبية في الإعداد لمعاهدة ماستريخت، المؤسسة للاتحاد الأوروبي، ووقعت الدول الأعضاء فيها عليها عام 1992، ثم راحت، على الفور، تتطلع نحو التوسّع شرقا، لضم (واستيعاب) ما تستطيع، ليس فقط من دول أوروبا الشرقية، وإنما أيضا من الجمهوريات التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي بعد تفكّكه. وهكذا بدت حركة التكامل والاندماج في أوروبا وكأنها تقترب من تحقيق حلمها التاريخي بالتحوّل إلى تنظيم مؤسّسي جامع للقارّة الأوروبية بمفهومها الجغرافي. على صعيد آخر، فقد تصوّر بعضهم أن إقدام حلف وارسو على حل نفسه نتيجة طبيعية لانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكّكه، وسيؤدّي تلقائيا إلى إقدام حلف الناتو على حل نفسه، غير أن ما حدث كان العكس تماما، فقد بدأ لعاب الحلف يسيل وتنفتح شهيته، وراح يتطلّع إلى بسط نفوذه الأمني والعسكري على بقايا الامبراطورية السوفييتية المحطّمة، ويبدي استعداده لمدّ نطاق حمايته إلى حيث تستطيع قدراته أن تحمله.
أما روسيا الجريحة، والمنطوية على ذاتها في ذلك الوقت، فكانت تتابع هذا المد التوسّعي المزدوج بقدر كبير من القلق، وتدرك أنها المستهدفة الأولى به، وأن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يسعون إلى تطويقها وحصارها كي تظل منكفئة على نفسها، وتتخلى عن كل الأحلام التي قد تراودها لاستعادة الدور والمكانة اللذين كانا للاتحاد السوفييتي يوما ما. ولأنه لم يكن في وسع روسيا في ذلك الوقت أن تفعل الكثير لوقف طموحات كل من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، كان عليها أن تتريث لتستكمل بناءها الداخلي أولا، وما إن بدأت تتعافى من عللها، حتى شرعت في العمل على وقف هذا المد الغربي، تمهيدا لفك الطوق وكسر الحصار المضروبيْن حولها.
والواقع أن التحرّك الروسي على هذا الصعيد ليس وليد اللحظة، وإنما قبل ذلك بسنوات، وسار وفق خطة محدّدة، بدأت برسم خطوط حمراء لا يجوز للتوسّع الغربي، خصوصا جناحه العسكري ممثلا في حلف الناتو، أن يتعدّاها. ومن السهل على أي مراقبٍ لحركة السياسة الخارجية الروسية خلال العقدين المنصرمين أن يدرك أن هذه الخطوط الحمراء تشمل نوعين من الدول التي كانت فيما مضى جزءا من الاتحاد السوفييتي، وهما دول الجوار الجغرافي المباشر، خصوصا كازاخستان في الجنوب وبيلاروسيا وأوكرانيا في الشرق، من ناحية، وكذلك الدول التي توجد فيها أقليات روسية كبيرة، مثل جورجيا وغيرها، من ناحية أخرى. ولهذا السبب، يلاحظ أن روسيا لم تتردّد في خوض الحرب ضد جورجيا عام 2008، لمنعها من الاستيلاء على أوسيتيا الجنوبية، كما لم تتردّد في استخدام القوة لضم منطقة القرم إليها وفصلها عن أوكرانيا منذ عام 2014. وها هي تسعى الآن، بكل السبل المتاحة، إلى الحيلولة دون تمكين حلف الناتو من بسط نفوذه على بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقا، خصوصا التي تقع في القلب مما تعتبره روسيا مجالها الحيوي، الذي لا ينبغي لأحد أن يستخدمه مصدرا لتهديد أمنها القومي.
تدرك روسيا أن مشروع الاتحاد الأوروبي يختلف كثيرا عن مشروع حلف الناتو، فلكل منهما إطاره المؤسسي الخاص، ولكل منهما أهداف وآليات وأدوات ومناهج عمل خاصة به، غير أن القيادة الروسية الحالية تتعامل مع هذين المشروعين باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، الأمر الذي لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة، خصوصا إذا جرى النظر إليهما من منظور جيواستراتيجي، فالواقع أنه ما كان يمكن لعملية التكامل والاندماج في أوروبا، التي بدأت في أوروبا الغربية، أن تنطلق إلا على جناحين أميركيين: مشروع مارشال وحلف الناتو، وكلاهما صناعة أميركية صمّمت في الأصل لاحتواء الاتحاد السوفييتي ومحاصرته (راجع كتابنا: الاتحاد الأوروبي والدروس المستفادة عربياً، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2004). صحيحٌ أنه كان في وسع الاتحاد السوفييتي سابقا، وروسيا الاتحادية حاليا، التعامل مع عملية التكامل والاندماج التي يجسّدها الاتحاد الأوروبي حاليا باعتبارها مشروع سلام أوروبي خالص، يهدف إلى الحيلولة دون ظهور نابليون فرنسي أو هتلر ألماني جديد. وبالتالي، قابل للتعامل معه وفقا لمبدأ اقتسام المصالح والمنافع، غير أن الأمر يبدو مختلفا تماما مع حلف شمال الأطلسي لأسباب بديهية، فالولايات المتحدة هي القوة الدافعة والمحرّكة لهذا الحلف، الذي لم يعد دفاعيا مثل ما كان عليه الحال في زمن الاتحاد السوفييتي، بل أصبح تدخليا توسعيا موجها ضد روسيا في الأساس، ويسعى إلى دفع منظومات صواريخه متوسطة المدى إلى أقرب نقطة ممكنة من حدودها، وهو ما يستحيل على روسيا أن تقبله اليوم أمرا واقعا، خصوصا أنه لم يعد أمام الولايات المتحدة أي مبرّر عسكري أو أخلاقي للدفع بقواتها بالقرب من الحدود الروسية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. يضاف إلى ذلك أنه سبق لبعض الدوائر الإعلامية الغربية أن أشارت إلى أن الإدارة الأميركية، بقيادة جورج بوش الأب، وعدت الرئيس يلتسين بعدم توسع حلف الناتو شرقا والاقتراب من الجوار الجغرافي المباشر لروسيا، لأن الإدارات الأميركية اللاحقة أنكرت هذا الوعد ولم توف به.
لقد دأبت وسائل الإعلام الغربية على ترديد مقولة بوتين عن انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي يرى أنه “أكبر كارثة جيوسياسية حدثت في القرن العشرين”، واعتبرتها دليلا على أنه يطمح إلى إعادة توحيد الاتحاد السوفييتي، لكنها تجاهلت قوله في الوقت نفسه: “مَن لم يحزن لانهيار الاتحاد السوفييتي شخص لا قلب له، ومن يسعى إلى إعادة الاتحاد السوفييتي لا عقل له”. والأرجح أن بوتين، الذي يملك عقلا راجحا، لا يسعى إلى إعادة توحيد الاتحاد السوفييتي بقدر ما يسعى إلى إبعاد الصواريخ الأميركية عن حدود بلاده، وهو محقّ. أظن أنه آن الأوان ليتخلى قادة العالم عن منطق الأحلاف العسكرية، ولبذل جهد أكبر نحو تفعيل نظام الأمن الجماعي كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، ففي هذا المنحى سلامة للجميع.
العربي الجديد
——————————–
سوريا في المرجل الأوكراني/ بسام مقداد
العملية الأميركية الأخيرة في الشمال السوري، والتي تعجل البعض في إعلانها فاشلة، تبين أنها انتهت بصيد ثمين أعلن عنه الرئيس الأميركي بنفسه. والنتيجة التي أسفرت عنها العملية تشي بأن التخطيط لها استمر طويلاً، إلا أن توقيت تنفيذها بدا وكأنه رد على مطالبة روسيا بانسحاب الولايات المتحدة من سوريا. المطالبة الروسية ليست جديدة، بل دأبت على تكرارها منذ سنوات، لكنها جاءت هذه المرة في خضم المعمعة الدائرة بشأن أوكرانيا، واختارت روسيا منبر مجلس الأمن الدولي لتأتي المطالبة بصوت أرفع ويسمعها العالم أجمع. والتذرع بعدم شرعية الوجود الأميركي في سوريا ليس بجديد ايضاً، بل دأبت روسيا منذ انخراطها العسكري في الحرب السورية على إشهار شرعبة وجودها في سوريا بناء على طلب الأسد بوجه جميع اللاعبين الخارجيين. كما ليس جديداً أيضاً إختيار الأزمة الأوكرانية، من بين كل الأزمات الكثيرة في المواجهة مع الولايات المتحدة والغرب، لإعلان مطالبتها بالإنسحاب الأميركي. فقد رُبط إنخراطها في الحرب السورية منذ البداية بالأزمة الأوكرانية، مما جعل البعض يعتبر الأزمتين السورية والأوكرانية جبهتين في حرب روسية واحدة ضد الغرب.
حتى قبل إنخراط روسيا العسكري في الحرب السورية، وبمناسبة إنتفاض العالم أجمع ضد إستخدام النظام السوري السلاح الكيماوي، نقل موقع روسي عن Le Monde الفرنسية في العام 2014 مقالة بعنوان “السوريون اصبحوا رهائن الأزمة الأوكرانية”. قالت الصحيفة في حينه أن الأزمة الأوكرانية أشعلت حرباً باردة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة، وهذا لا يمكن إلا أن ينعكس على سوريا. فمنذ ثلاثة أشهر وبرنامج نزع السلاح الكيماوي من يد دمشق لا يتحرك من مكانه، ومن المستبعد أن تتفق موسكو وواشنطن قريباً على وقف نزيف الدم في سوريا. في النزاع السوري كما الأوكراني تتخذ روسيا والولايات المتحدة موقفين متعارضين بالمطلق، ومعظم المراقبين لا يتصور نهاية للتراجيديا السورية من دون التوافق الأميركي الروسي، لكن روسيا لا تفعل سوى عرقلة الأمر. لذلك، ولسوء حظ السوريين، يتبين أنهم رهائن للوضع في كييف وسيباستوبل.
وبعد شهر من الإنخراط الروسي العسكري في الحرب السورية، نشرت الخدمة الروسية في “رويترز” نصاً بعنوان “سوريا وأوكرانيا:جبهتان في الحرب الروسية من أجل النفوذ”. قالت الوكالة في حينه أن بعض السياسيين الغربيين يعتبرون أنه، على الرغم من أن دمشق تبعد 3 آلاف كيلومتر عن كييف، إلا أنه بالنسبة لبوتين يمكن أن تكون سوريا وأوكرانيا جبهتين في حرب واحدة تهدف إلى الحؤول دون إنضمام أوكرانيا إلى الإتحاد الأوروبي. ونقلت الوكالة عن عدد من المسؤولين الغربيين رفيعي المستوى قولهم بان الزعيم الروسي يمكنه أن يستخدم الضربات في سوريا كوسيلة للضغط على الغرب الذي يريد منه الحصول على إعتراف بالقرم جزءاً من روسيا، وكذلك الرفع التدريجي للعقوبات الإقتصادية المؤلمة لروسيا.
ورأت رويترز أنه من الناحية الإستراتيجية الضربات الجوية في سوريا تحمي مصالح بوتين، حيث أنها تقدم الدعم للأسد وتساعد في توفير الأمن للقاعدة الروسية في ميناء طرطوس التي تكمل قاعدة الأسطول الحربي الروسي في القرم. ويرى مسؤولون غربيون دوافع إضافية للعملية الروسية في سوريا، حيث يمكن لموسكو أن تفسر أول مشاركة لها في نزاع شرق أوسطي منذ مدة طويلة بالرغبة في المساعدة في حل أزمة المهجرين التي ضربت أوروبا.
كما نقلت الوكالة عن مسؤول أوروبي جيد الإطلاع على الوضع في أوكرانيا قوله بأن تدخل بوتين في سوريا هو وسيلة للحصول من الغرب على تنازلات وإجباره على تفادي ذكر موضوع القرم، وكذلك إلغاء العقوبات والموافقة على تجميد الصراع في شرق اوكرانيا. ونقلت عن عدد من السياسيين في بروكسل وكييف الذين يتهمون موسكو بمساعدة المنتفضين الموالين لروسيا في الصراع الدموي في شرق أوكرانيا، قولهم بأن الهدوء في أوكرانيا وبدء الضربات في سوريا مرتبطان ببعضهما.
الموقع الأوكراني krymr (وقائع القرم) نشر بعد شهرين من بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا مقابلة مع إثنين من السياسيين الأميركيين السابقين وبروفسور روسي في معهد أميركي بعنوان “هل سوريا هي الورقة الأوكرانية الرابحة بيد الكرملين ؟”، طرح الموقع على الأميركيين الأسئلة التالية: هل سيتمكن الكرملين من استخدام الحملة السورية كأداة لرفع العقوبات؟ العملية العسكرية الروسية في سوريا: سوء تقدير من موسكو أم أسلوب عمل سياسي متقن جداً؟ لماذا يعجز الغرب عن رد يوتين إلى جادة الصواب؟
أحد الأميركيين (نائب وزير خارجية أميركي سابق) قال بأن يوتين قد يحقق الغلبة في البداية، لكن هذا يعود في الكثير منه إلى عدم رغبة واشنطن في بذل ولو الحد الأدنى من الجهود الجدية لدعم قوى المعارضة المعتدلة. وبكل بساطة، بوتين وحلفاؤه في سوريا يملأون هذا الفراغ. المرحلة الأولى للحملة العسكرية الجوية سمحت للكرملين بخلق صورة اللاعب الحاسم الذي يهب لمساعدة حلفائه ويقضي على الإرهابيين من الجو. ويبدو هذا شديد التناقض مع غياب ردة فعل البيت الأبيض على قصف الطيران الروسي لمواقع المجموعات التي تدعمها الولايات المتحدة, لكن من المحتمل جداً أن بوتين سيندم بشدة على قراره في المستقبل غير البعيد، عندما ستبدأ الخسائر الروسية بالتزايد.
لكن السياسي الأميركي السابق يعترف بأن بوتين تمكن من ضمان مكان لروسيا على طاولة المفاوضات وإنهاء عزلتها. غير أن مصير العقوبات سوف يكون متعلقاً في الكثير منه بما يجري في شرق اوكرانيا. ويرى أن التدخل العسكري الروسي أسفر “حتى الآن” عن رفع خطورة “الوضع الرهيب” في سوريا، مع العلم أن بوتين يحقق بتدخله نصراً سياسياً قصير الأجل.
آخر الأوراق السورية التي استثمرها الكرملين في الأزمة الأوكرانية المحتدمة الآن وتهدد العالم بأزمة شبيهة بأزمة الصواريخ في كوبا العام 1962، كانت مطالبة الولايات المتحدة بالإنسحاب من سوريا. وتعليقاً على هذه المطالبة نشرت صحيفة الكرملين vz أواخر الشهر المنصرم مقابلة مع البوليتولوغ يفغيني ساتانوفسكي المعروف بلسانه السليط وجلافة تعابيره، تحت عنوان “ساتانوفسكي: روسيا قدمت تلميحا واضحاً للولايات المتحدة بشأن سوريا”.
يقول ساتانوفسكي أن منطق الولايات المتحدة يقوم على أنه مسموح لها بكل شيء، أما الآخرون جميعاً فليس مسموحاً لهم إلا بما يأذن به البيت الأبيض. برأي الأميركيين، على روسيا أن تسأل واشنطن عما تفعله مع محيطها القريب. مفهوم الأميركيين السياسي القديم هذا تعود جذوره إلى زمن تأسيس الولايات المتحدة. ويتهم ساتانوفسكي نائب وزبر الخارجية الأميركي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند بالتناقض حين صرحت بأن الرد الأميركي على مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية يتضمن إشارة إلى خرق موسكو لسيادة جيرانها (أوكرانيا).
تناقض نولاند في تصريحها يراه ساتانوفسكي في الإشارة إلى خرق موسكو سيادة محيطها القريب، في حين أنها لا تعتبر وجود الولايات المتحدة في سوريا غير شرعي، على الرغم من أنها لم تحصل على إذن من رئيس البلاد بشار الأسد. ويذكر الأميركيين بعدد قتلاهم وهزيمتهم في حرب فيتنام، ويقول بأن السوريين أيضاً بوسعهم أن يبدأوا قريباً قطع الأعناق وإطلاق النار. ويؤكد بأن التلميح الذي قدمته روسيا لممثلي الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي كان “شديد الوضوح”.
المدن
———————-
====================
تحديث 06 شباط 2022
———————–
إصرار تركي وترحيب أوكراني وتوجس روسي: ما هي فرص نجاح وساطة اردوغان؟/ إسماعيل جمال
تحاول تركيا اقناع أوكرانيا بأن بعض الدول الغربية تسعى لتصعيد النزاع مع روسيا من أجل استنزافها في أوكرانيا، وتتوقع من زيلينسكي تقديم بعض التنازلات لتثبت لروسيا أنها قادرة على الوساطة.
إسطنبول ـ «القدس العربي»: تؤمن أنقرة أن منع وقوع حرب في أوكرانيا هو الخيار الوحيد القادر على حماية مصالحها وتجنيبها خيارات صعبة قد تخلف آثاراً كارثية عليها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وفي هذا الإطار تضغط بكامل ثقلها للوساطة بين موسكو وكييف لإبعاد شبح الحرب ويصعب التكهن بمدى نجاحها في ظل التوجس الروسي المتزايد من العرض التركي رغم الترحيب الأوكراني الواسع.
فروسيا التي تضغط لإجبار الولايات المتحدة الأمريكية وكبار دول حلف شمال الأطلسي «الناتو» على التفاوض معها وتقديم ضمانات أمنية استراتيجية لها، لا ترى في الوساطة التركية ما يلبي طموحاتها التي تسعى لتحقيقها من التلويح بالحرب وما رافق ذلك من نقل عشرات آلاف الجنود وأعداد هائلة من الأسلحة المتطورة بتكلفة ربما وصلت إلى مئات ملايين الدولارات، الأمر الذي يعطي انطباعاً أن موسكو لا تضع في أولوياتها التجاوب مع الوساطة التركية، أو في هذه المرحلة على أقل تقدير.
كما أن روسيا لا تعتبر أنقرة «وسيطاً حيادياً» في ملف أوكرانيا، حيث تربط أنقرة وكييف علاقات «استراتيجية» وسط تعاون متزايد في كافة المجالات، والأهم هو التأكيد التركي الدائم على دعم أنقرة لوحدة الأراضي الأوكرانية والإصرار حتى اليوم على عدم الاعتراف بقانونية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم ودعم أنشطة تتار القرم وجهود أوكرانيا لتفعيل القضية في المحافل الدولية رغم تراجع الجهود الغربية في هذا الإطار.
إلا أن الملف الأكثر حساسية في هذا الإطار، هو التعاون الدفاعي المتزايد بين أنقرة وكييف، حيث باعت تركيا سابقاً لأوكرانيا قرابة 20 طائرة مسيرة من طراز بيرقدار التي بدأت أوكرانيا بالفعل في استخدامها ضد المتمردين المدعومين من روسيا في دونباس، وهو ما فجر غضب موسكو، قبل أن يجري التوقيع خلال زيارة اردوغان لكييف، الخميس، على اتفاق جديد لصناعة المزيد من هذه الطائرات بشكل مشترك على الأراضي الأوكرانية وهو ما يمنح الجيش الأوكراني فرصة امتلاك أعداد أكبر بكثير من هذه الطائرات التي أثبتت قوة أدائها العسكري ضد المنظومات الدفاعية والهجومية الروسية في معارك سابقة في ليبيا وسوريا وقره باغ.
وعلى الرغم من الغضب الروسي المتزايد، أكد فخر الدين ألطون رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية في تصريحات لشبكة «بلومبرغ» أن بلاده لن توقف بيع الأسلحة إلى أوكرانيا لإرضاء روسيا الغاضبة، مشدداً على أن التعاون الدفاعي بين تركيا وأوكرانيا غير موجه ضد روسيا، لكن هذه التطمينات لم تلق صدى في روسيا التي إنبرت وسائل إعلامها وكبار كتابها لاتهام تركيا بـ«النفاق» ودعم أوكرانيا عسكرياً من جانب و«ادعاء الرغبة في الوساطة» من جانب آخر.
في المقابل، وعلى الجانب التركي، تشير كافة التحليلات والمعطيات إلى أن أنقرة ليست لديها أي مصلحة في اندلاع نزاع عسكري في أوكرانيا، بل على العكس تماماً تُجمع كافة التقديرات على أن تركيا سوف تكون الخاسر الأكبر بعد أوكرانيا في حال حصول اجتياح روسي، حيث ستجد أنقرة نفسها أمام خيارات معقدة وصعبة للغاية لا ترغب على الإطلاق في الانزلاق إليها ليبقى خيارها الأول الزج بكامل قوتها الدبلوماسية في محاولة للعب دور الوسيط ومنع وقوع هذه الحرب.
فإلى جانب التحولات الاستراتيجية التي ستفرضها سيطرة روسية على أوكرانيا تتضمن تغيير موازين القوى في حوض البحر الأسود الذي سعت تركيا تاريخياً للحفاظ على الهدوء والسلام فيه، ستكون تركيا أمام خيارات صعبة يمكن أن تفجر مواجهات غير مباشرة مع روسيا في سوريا وليبيا وساحات أخرى إلى جانب الخسائر الاقتصادية المتوقعة في حال وقف تدفق السياح الروس وتراجع التبادل التجاري وصولاً لإمكانية تضرر امدادات الغاز الطبيعي من روسيا الذي تعتمد عليها تركيا بدرجة أساسية في توفير احتياجاتها من الطاقة.
ورغم هذه التناقضات والتعقيدات، إلا أن الرئيس التركي يعول على علاقاته المباشرة مع الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أجل عقد هذه المباحثات في أقرب وقت ممكن وإن كان عبر لقاءات ثنائية مع الجانبين في محاولة لإقناع بوتين بعقد لقاء ثلاثي مع زيلينسكي وهو ما ترفضه روسيا حتى اليوم التي تضع شروطاً مسبقة لعقد هذا اللقاء ما زالت ترفض أوكرانيا تنفيذها.
وإلى جانب التعويل على العلاقات الشخصية، تحاول تركيا اقناع أوكرانيا بأن الغرب لا يريد مصلحتها بالضرورة وأن بعض الدول الغربية تسعى لتصعيد النزاع مع روسيا من أجل استنزافها في أوكرانيا التي لم تحصل على دعم غربي كاف حتى الآن، وبالتالي تتوقع من زيلينسكي ربما تقديم بعض التنازلات تستطيع من خلالها تركيا الإثبات لروسيا أنها الطرف القادر على الوساطة في هذا الملف، وظهرت إشارات ذلك من خلال توجيه اردوغان انتقادات حادة لتعامل الإدارة الأمريكية والغرب بشكل عام مع الأزمة الأوكرانية.
كما تعول تركيا على قدرتها على إقناع روسيا بأن أي نزاع ستكون له نتائج صعبة على روسيا نفسها وأمن البحر الأسود ويفتح الباب أمام تدخلات غربية ربما تكون تركيا جزءا منها في حال تمادت روسيا باجتياح أوكرانيا وهو سيناريو لا ترغب فيه موسكو الراضية حتى الآن عن سياسة تركيا الحذرة تجاه إدخال قوات الناتو إلى البحر الأسود عبر المضائق التركية.
القدس العربي
————————–
صورة روسيا في مخيّلتين غربيّتين يساريّة ويمينيّة متطرّفة/ زياد ماجد
تحوّلت روسيا منذ حوالي العشر سنوات إلى فاعل سياسي دولي يملك بعض خصائص القوّة العظمى، رغم كون اقتصاده متوسّط الحجم وبطيء النموّ (تحتلّ روسيا المركز الحادي عشر عالمياً)، ويجذب بموازاة عدوانيّته العسكرية، المباشرة في بلدان عديدة (من جورجيا إلى أوكرانيا وصولاً إلى سوريا) وغير المباشرة عبر مرتزقة شركة «فاغنر»، تأييداً في مناطق عانت تاريخياً من هيمنة سياسية واقتصادية وأحياناً حربية أمريكية أو استعمارية غربية (بريطانيّة وفرنسيّة بخاصة).
وإذا كان ذلك يُفسَّر بردّة فعل أو بنكايةٍ أو ببحثٍ عن قويّ يواجه أقوياء آخرين مارسوا ويمارسون القسوة والاستغلال، فإن تفسيره المذكور لا يستقيم إن دقّقنا في مواقف أطراف سياسية في الغرب، بعضها يساريّ وبعضها الآخر يمينيّ متطرّف.
وهم الحرب الباردة والحنين السوفياتي
فعلى مستوى اليسار، ثمة انبهار بموسكو وبفلاديمير بوتين في أوساط جلّها شيوعي أو حامل لخطاب شعبويّ (غاضب على القائم من دون برنامج بديل قابل للتطبيق). ومردّ انبهاره، الذي حلّ مكان نقمة عارمة على ضعف آخر رئيس سوفياتي (ميخائيل غورباتشيف) وأول رئيس روسي (بوريس يالتسين)، توافقٌ على كراهية الولايات المتحدة لنموذجها الاقتصادي ولأحادية تسيّدها المسرح الدولي وتدخّلها في ساحاته لعقود طويلة، والتوق لصعود قطب يتحدّاها أو يفرض عليها التنازلات، من خلال تحالفات واسعة وتدخّلات مضادة. ويُعطف على ذلك وهمُ استرجاع حربٍ باردة تذكّر بالحقبة السوفياتية وبالمواجهة الدعائية بين موسكو وواشنطن وبالاصطفاف القديم تجاهها.
ويَسقط من بال هؤلاء أن الحقبة الآفلة تلك حملت صراعاً إيديولوجياً هو الذي أسّس للحرب الباردة، وأن الشيوعية (بصيغتيها السوفياتية والصينية) طرحت نفسها يومها بديلاً عن الرأسمالية وأفقاً جديداً للبشرية، في حين أن الاقتصاد الروسي اليوم (ومثله الصيني الأكبر حجماً والأكثر تطوّراً وتوسّعاً) رأسمالي شديد الاختلالات الطبقية وتركّز الثروات، والنموذج الذي تحاول موسكو اعتماده لا يدّعي أكثر من الركون إلى اقتصاد السوق (المنفلت من الضوابط)، مع المحافظة على هياكل الدولة المركزية التسلّطية وأجهزتها الثقيلة البيروقراطية والقمعية ورفض «القيم والمفاهيم الاجتماعية والثقافية الغربية» وآليات عمل العديد من المؤسّسات السياسية والقضائية الديمقراطية.
الصفاء العرقي والعداء للهجرة وللتنوّع
غير أن الأكثر تأثيراً راهناً في ما خصّ التأييد لموسكو في الدول الغربية، هو موقف اليمين المتطرّف الذي باتت قواعده الشعبية أوسع من قواعد التيارات الشيوعية واليسارية الشعبوية، وخطابه ومفاهيمه أكثر حضوراً في وسائل الإعلام المرئي والمسموع وفي مواقع التواصل الاجتماعي وفي السجالات السياسية اليومية والموسمية الانتخابية.
فهذا اليمين، المبلور برامجه وهويّته انطلاقاً من مركّب كراهيات للمهاجرين والمسلمين والسود وللأقلّيات الجنسية وللحركات النسوية كما للنخب السياسية والاقتصادية (وأحياناً الثقافية) المسمّاة بالـ»إستبلشمنت»، يجد في روسيا وفي بوتين كلّ ما يجسّد رغباته ويعبّر عنها. فمن الخطاب القومي، إلى صفاء العرق الأبيض المسيحي (وموقع الكنيسة القريب من القرار السياسي في الكرملين)، إلى المواقف الذكورية ورفض المساواة بين النساء والرجال وإشهار احتقار المثلية الجنسية، وصولاً إلى التشكيك الدائم بكل ما يصدر عن «الإستبلشمنت» الغربي، يجد اليمين المتطرّف الأوروبي والأمريكي في موسكو ضالّته، ولا يشذّ عن الأمر سوى بعض البولونيين والهنغاريّين والأوكران والتشيك وسواهم في أوروبا الشرقية لأسباب تاريخية قومية (ومذهبية) ولمراعاة خوف في مجتمعاتهم من تجارب الماضي السوفياتي القريب.
كما أن معاداة السامية المشتركة بين الأوساط الكنسية والقومية الروسية وتيارات التفوّق الأبيض والحركات الفاشية الأوروبية والأمريكية، المقرونة بتأييدٍ لإسرائيل لتجميعها اليهود بعيداً عن مجتمعاتهم، ولقتالها عرباً ومسلمين واستعمارها أرضهم، تشكّل عنصر تلاقٍ آخر سياسي وقيميّ مع موسكو.
بهذا المعنى، تمثّل روسيا في المخيّلة اليمينية المتطرّفة نقيضاً للتعدّد الثقافي والإثني الأمريكي مثلاً (الذي لم تكفِ ولاية واحدة لدونالد ترامب لمحو صورته التي جسّدها انتخاب باراك أوباما مرّتين وصعود حركات مناهضة العنصرية). كما أنها تعادي مثلهم الوحدة الأوروبية وتبحث عن تشجيع النزعات الانكفائية ورفض الهجرات، وتشجّع نظريات المؤامرات وزرع الشك في العقول حول كل خطاب رسمي أو معطيات علمية عبر شبكة مواقع وأجهزة إعلام أنشأتها ابتداءً من العام 2006 لهذه الغاية. ذلك أن استراتيجية التشكيك بكل الأمور تجعل «الحقيقة» في كل الميادين نسبية، وتُتيح رفض ما لا يتوافق من تقارير سياسية أو اقتصادية أو حقوقية أو طبية أو بيئية أو توثيقية لجرائمَ وانتهاكات مع مصالح موسكو. وهذا يكفي بالنسبة للروس لمواجهة خصومهم الغربيّين وآلتهم الإعلامية العملاقة من خلال اعتبار ما تردّده على الدوام أكاذيب أو مزاعم لا شيء يثبتها. وليست بالتالي مصادفة أن أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي والأمريكي اليوم هي الأكثر اعتماداً في تكوين «ثقافتها» السياسية ومواقفها على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار المرتبطة مباشرة بروسيا.
فوق ذلك، شكّلت الحرب الروسية في سوريا، والادّعاء بالدفاع عن الأقليات المسيحية في وجه خطر إبادتها، عنصر جذب إضافي لليمين المتطرّف، تمجيداً للقوة العسكرية «البيضاء» ولسحقها «سكّاناً أصليّين» وإسلاميين و«جهاديين» هم مشاريع هجرة إلى الغرب وضواحي مدنه.
بكل هذا، تتقاطع المواقف وتتشابك تجاه موسكو بين تيّارات يسارية ويمينية غربية يفترض أنها على النقيض قيَمياً وسياسياً. كما تتقاطع هذه المواقف في ما يخصّ الرفض المشترك لرزمة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحّدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على روسيا منذ تحوّلات الأزمة الأوكرانية وضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم العام 2014. ويجد الرافضون في العقوبات دليلاً جديداً على التآمر لعرقلة الصعود الروسي، بما يماثل ما يعدّونه تواطؤاً ضدّهم في الدول الغربية ذاتها لمنع وصولهم إلى السلطة وللإبقاء على السياسات الراهنة التي تحول دون الإصلاحات الاقتصادية التي ينادي بها اليساريون المعنيّون هنا، ودون العودة إلى الصفاء العرقي والانعزال القومي اللذَين يعدّهما اليمين المتطرّف جوابه على الأزمات والتحدّيات التي تواجه المجتمعات الغربية.
وموسكو، الراضية تماماً عن ذلك، تشجّعه مباشرة عبر رعاية اجتماعات واستضافة سياسيين وتأمين حضور إعلامي لهم على وسائل إعلامها وفي شبكات التواصل التي يديرها «جيشها الإلكتروني». وتشجّعه أيضاً عبر محاولات التأثير في نتائج الانتخابات والاستفتاءات، وعبر نشر ما يذكّر دورياً بأكاذيب سياسية أمريكية وأوروبية (هي بالفعل أكاذيب) لدحض الاتهامات المُكالة عليها في ملفّات عديدة، أوكرانية وسورية مثلاً، وإحالتها إلى الدعاية الغربية القديمة (كتلك التي ردّدتها واشنطن لتبرير الحرب على العراق العام 2003) أو إلى المكائد ورفض القبول بعالم لا يستفرد طرفٌ بقيادته.
ولا يبدو أن كلّ هذا في طريقه إلى التراجع أو الانحسار في المقبل من الأيام.
*كاتب وأكاديمي لبناني
القدس العربي
————————
ما لا تقوله الأرقام عن الأزمة الأوكرانية/ إياد أبو شقرا
خلال إحدى إجازات نهاية الأسبوع عام 1990، على ما أذكر، كنت وزوجتي في زيارة إلى حرم مدرستي الأم بريف غرب إنجلترا، وكانت من عادتي التردّد على المدرسة والالتقاء بأحب أساتذتي هناك.
أحد هؤلاء أستاذ متميّز وصديق عزيز – في منتصف الثمانينات من عمره اليوم – من أصل روسي، كانت عائلته ممّن كانوا يلقبون بـ«الروس البيض» (لا علاقة لهم بجمهورية روسيا البيضاء أو بيلاروسيا) لأنهم ناهضوا الثورة البلشفية «الحمراء»، واضطروا لمغادرة روسيا بعد انتصارها. وهنا لا بد من القول إن روسيا القيصرية تمتّعت بصلات دينية وثقافية قديمة في المشرق العربي، ونشطت كـ«راعية» للمسيحيين من الروم الملكيين الأرثوذكس في بلاد الشام. وأثمرت هذه الصلات، ومنها «المدارس المسكوبية»، استقرار العديد من الروس المناهضين للبلاشفة في منطقتنا.
أستاذي «الروسي الأبيض»، واسمه ثيودور، اعتز دائماً بقوميته الروسية وإتقانه لغته الأم رغم عدائه الشديد للشيوعية، وعيشه في بيئة لبنانية عربية أحبّها وأجاد لغتها، ثم زواجه من زميلة له بريطانية… ولاحقاً انتقالهما معاً للعيش والعمل في بريطانيا.
تلك كانت فترة تداعي الاتحاد السوفياتي تدريجياً، بدءاً من الجمهوريات البلطيقية الثلاث إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. ولم يطُل الزمن حتى شمل التداعي جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى ومولدافيا. وأثناء تداولنا الأخبار الآتية من موسكو، خطر لي أن أسأل أستاذي رأيه فيها. فأجابني «يا عزيزي إياد، أنت تعرف جيداً أنني لم أؤيد ولا أؤيد الدولة السوفياتية مطلقاً، ولا أؤمن بتجربتها، بل كنت أتوقع أن تنهار عاجلاً أو آجلاً».
وأردف بلهجة حازمة «أنا لا يهمّني البتة انفصال جمهوريات البلطيق واستقلالها، ولا أقلق مطلقاً من انفصال جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز… إذ لا يربطني شيء بهذه الكيانات لا ثقافياً ولا لغوياً ولا عاطفياً. لكنني سأقلق كثيراً إذا امتدت عدوى الانفصال والاستقلال إلى أوكرانيا وبيلاروسيا. إذ ذاك، سأشعر بالفعل أن هويتي وتراثي انهزما وباتا في خطر. إن لروسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا هوية مشتركة بل هي هوية واحدة. نحن شعب واحد وتاريخنا واحد ومصيرنا واحد!».
هذه الكلمات أثّرت في قراءتي للمشهد، ونبشت أعماق ذاكرتي… فاسترجعت قراءاتي للنسيج الاجتماعي المتغيّر دائماً في أوروبا، بل قل في مناطق عديدة من العالم. كذلك تذكّرت أهمية الجمهوريات «السلافية» الثلاث واعتباراتها الخاصة بالنسبة للكرملين، الذي أصر على تمثيل أوكرانيا وبيلاروسيا في الأمم المتحدة بجانب الاتحاد السوفياتي، ناهيك من المشاعر القومية على مستوى الشعب.
ثم إن الاختلاط الديموغرافي والتمازج العرقي والتلاقح الثقافي حقائق لا تنحصر في حدود سياسية. ومعظم كيانات أوروبا الكبيرة الحالية تضم أقليات عرقية أو مذهبية أو لغوية. من هذه الأقليات مَن تتعايش وفق صيغ اتحادية ناجحة مثل سويسرا أو ألمانيا. وفي المقابل، ثمة حالات أخرى قد لا يكون تعايشها هادئاً… فنراه يتجسّد بالأحزاب والحركات القومية الانفصالية في دول مثل بريطانيا وإسبانيا.
كذلك فإن عشرات، بل مئات، المسميات الجغرافية والتاريخية الأوروبية سقطت بفعل الحروب وتجمّع الإقطاعيات وتفسّخ الإمبراطوريات وتشكّل الكيانات والدول البديلة. ولذا ما عدنا نقرأ هذه المسمّيات إلا في كتب التاريخ، أو نسمع عنها لدى مقارنة اللهجات والمصطلحات، أو تمايز الأزياء والأكلات والفنون الشعبية.
هذا هو الحال بالفعل في ألمانيا، التي تُعد كياناتها ومكوّناتها «قلب أوروبا» وشاهداً على تاريخ القارة المضطرب وخرائطها المتحورة أبداً، ولا سيما بعد خسارتها حربين عالميتين خلال قرن واحد. ولعل الاسم الجغرافي الأشهر في تاريخ ألمانيا هو بروسيا. فأين أصبحت اليوم بروسيا العظيمة الممتدة سابقاً من حدود روسيا شرقاً إلى الأراضي المنخفضة (هولندا)؟ ذلك الكيان السياسي الكبير تلاشى بعد الحرب العالمية.
ثم هناك اسم آخر مهم في تاريخ أوروبا هو سكسونيا، لكننا لا نجده الآن في التقسيمات الإدارية الألمانية الحالية إلا موزّعاً على ثلاث ولايات هي: سكسونيا، وسكسونيا – أنهالت، وسكسونيا السفلى.
ما يصدق على ألمانيا يصدق أيضاً على إيطاليا وفرنسا، وطبعاً… روسيا. وهنا، في ضوء الأزمة الأوكرانية، يجب التذكر أنه، على الرغم من الأهمية البالغة لحسابات الأرقام، لا يجوز أن ينسى المحلل السياسي إطلاقاً ما تعنيه مسائل الهوية، والانتماء العاطفي، والولاء الثقافي الحضاري. ولعل هذه المسائل مجتمعةً تتبلور في زمن الاستهداف أو الحصار، بما نسميه الشعور بـ«وحدة المصير».
كعرب، أعتقد أننا نقدّر تماماً ظهور الشعور بـ«وحدة المصير» كرد فعل طبيعي على اشتداد الحصار والاستهداف ومحاولات الاستضعاف.
وعليه، فإن شخصاً بخلفية فلاديمير بوتين السياسية والأمنية والقومية، ما «هضم» يوماً فكرة انتهاء «الحرب الباردة» بهزيمة الإمبراطورية السوفياتية، أو تقبّل برضىً قيام «الأحادية القطبية» الأميركية على أنقاضها.
بوتين، رجل الأمن والسلطة والذاكرة القومية، تعايش طويلاً، ولكن بكثير من المرونة مع واقع مرفوض بالنسبة له. وتركز رهانه منذ ورث «تركة» بوريس يلتسين على أمرين: الأول إعادة البناء الداخلي بأسرع وقت ممكن وبكل السبل والتحالفات الممكنة، والثاني انتظار بداية «التعب» عند الغريم الأميركي المنتصر.
خلال عقدين من الزمن قطع الزعيم الروسي شوطاً بعيداً في ما طمح إليه. إذ أعاد فعلياً بناء القوة العسكرية الروسية، واستثمر في استنهاض مشاعر العزة القومية والأمن الوطني أمام أميركا…. التي أخذت تلوح في الأفق بوادر هشاشة في منعتها المعهودة، وبالأخص، بعد فترتين رئاسيتين متناقضتين تقريباً في نظرتيهما إلى مستقبل النظام العالمي.
أيضاً، يدرك بوتين، بلا شك، الآثار الحتمية لصعود الصين… سواءً كمنافس أو كحليف للغريم المشارك. وربما هذه كانت الإشارة التي تعمّد الرئيس الروسي إرسالها، أمس، أثناء وجوده في بكين، حيث التقى نظيره الصيني شي جينبينغ، بينما لا تزال واشنطن في عهد جو بايدن حائرة في رسم أولويات علاقاتها بالعملاقين الشيوعيين السابقين.
في أي حال، مدّ حدود حلف شمال الأطلسي «ناتو» ليشمل أوكرانيا يشكل استفزازاً غير مبرّر بنظر الروس، وأيضاً في نظر بعض الأوروبيين المستفيدين اقتصادياً من ثروات روسيا. ولكن، بينما لا مصلحة للدول الأوروبية في الذهاب بعيداً بمواجهة «أطلسية» حيث يكفي تسجيل النقاط عبر «لي الأذرع»، يقول المنطق إن بوتين، نفسه، يتجنّب سياسة «شفير الهاوية» التي قد يكون انزلق إليها خلال الأسبوعين الأخيرين.
——————————
سيّد الكرملين يحبس أنفاس العالم… وأنفاسه/ راغده درغام
لن توقّع الصين اتفاقيات عسكرية مشتركة مع روسيا أثناء زيارة الرئيس فلاديمير بوتين لافتتاح الألعاب الأولمبية الصينية وإنما ستكتفي بمؤازرة سياسية لروسيا وبيانات التذمّر مما تعتبره عنجهية الغرب، متّهمة الولايات المتحدة باختلاق أجواء الحرب الباردة.
لن ينجح وزيرا خارجية ألمانيا وفرنسا أثناء زيارتهما العاصمة الأوكرانية هذا الأسبوع ببعث الحياة في اتفاقية “مينسك” بين روسيا وأوكرانيا والتي ولدت شبه ميتة وباتت اليوم شبه مستحيلة وسط دق طبول الحرب. ليس هناك قائد أو دولة مؤهّلة للعب دور الوسيط بين موسكو وكييف، وما سعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وراء تسويقه من قدرته على الوساطة اصطدم قبل إقلاعه بحائط رفض روسيا القاطع له كوسيط بسبب مواقفه من الأزمة برمّتها، كما بسبب دعم تركيا لأوكرانيا بما في ذلك عسكرياً واعتمادها موقف حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي اليه.
باب الدبلوماسية يبدو اليوم مغلقاً ما لم يقرّر سيد الكرملين انه لا يريده باباً موصداً تماماً لأن الخيارات التصعيدية ستكون مكلفة جداً للاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات الغربية التي أعدّتها الدول الأعضاء في حلف “الناتو”. لكن الرئيس بوتين يجد نفسه مضطراً لعدم التراجع أمام “الناتو” ومشاريعه في أوكرانيا وعبر توسيع العضوية فيه لأن المسألة وجودية له ولروسيا، في رأيه- فماذا سيفعل؟ كيف سيقرأ فلاديمير بوتين قيادات دول “الناتو” وبالذات الرئيس الأميركي جو بايدن؟ وهل لديه مفاجآت في أماكن أخرى فيما الأنظار منصبّة على الحدود الأوكرانية؟ أم أنه سيقرر أن مصلحته تقتضي إبقاء العالم معلّقاً على أعصابه الى حين زوال أجواء المواجهة والتصعيد بنفسها بلا حلول أو تنازلات، بلا حروب أو عقوبات؟
فلاديمير بوتين هو الذي يقرّر، وقراره ما زال في ذهنه وسط معارك التجاذب بين الدبلوماسية والعسكرة في أوساط وزارتي الخارجية والدفاع وبين مستشاريه. الأسبوع الجاري قد يكون مصيريّاً، وقد لا يحدث شيء يُذكر خلاله. قد يُعقد الاجتماع المؤجّل بين وزيري الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف هذا الأسبوع، إنما المشكلة تكمن في فحوى ما يريد كل منهما أن يكون في صلب الحديث. فالوزير الأميركي يسعى الى التحدّث عن مسائل الأمن، والوزير الروسي لديه تعليمات من رئيسه بأن يكون لب الحديث حول الضمانات التي طالب بها الرئيس بوتين بشأن أوكرانيا وعضوية “الناتو” وتواجد القوات الغربية في منطقة نفوذ روسيا. مطالب فلاديمير بوتين لاقت الرفض القاطع من دول “الناتو” وإنْ كان رفضاً مغلّفاً بقليل من اللطف والاستعداد للأخذ والعطاء إنما ببعدٍ قاطع عن الضمانات المطلوبة. وهذا ما لا يعجب سيد الكرملين الغاضب، والغاضب جداً.
كل الأطراف المعنيّة قلقة ومتوتّرة. الرئيس بوتين سيتجنّب التصعيد عسكرياً عمداً أثناء زيارته الصين -والتي تنتهي اليوم الأحد- كي لا يعكّر على الألعاب الأولمبية ويزعج حليفه. هذا منطقي. إنما ماذا لو حدث حادث في دونباس أو غيرها من المواقع المتأهّبة للانفجار؟ أو ماذا لو صدقت المعلومات الاستخبارية التي تسوّقها واشنطن وتفيد بخطة روسية لتلفيق ذريعة لغزو أوكرانيا عبر تصوير “اعتداء مفبرك” تشنه قوات أوكرانية على الأراضي الروسية أو في شرق أوكرانيا حيث المتحدثون بالروسية؟
صنّاع القرار في روسيا وفي دول حلف شمال الأطلسي ينصبّون على درس مختلف السيناريوات، ويتهيّأون. هناك من يستعدّ لتسويات تبدو مستحيلة الآن مثل إحياء عملية “مينسك” التي رعاها الأوروبيون علماً أن لا موسكو ولا كييف قادرتان على إعادة عقرب الساعة الى الوراء في دونباس.
هناك من يراقب بيلاروسيا حيث تحشد روسيا آلاف القوات وتقوم بمناورات عسكرية مشتركة وحيث يمكن لروسيا أن تحدّق في عيون كييف البعيدة مجرد ساعات من الحدود الأوكرانية مع بيلاروسيا بحشد من القوات الروسية، وبدعوة من الحكومة البيلاروسية والرئيس الكساندر لوكاشينكو. بولندا ستشعر بالضيق، وكذلك ليتوانيا ولاتفيا، إذا ما اعتمدت روسيا سياسة التضييق العسكري عبر بيلاروسيا لتطويق أوكرانيا.
البعض يستذكر مفاجآت فلاديمير بوتين عندما قام بغزو الشيشان عام 1999 واستولى على شبه جزيرة القرم عام 2014. البعض يشير الى حذاقة فلاديمير بوتين في بسط النفوذ الروسي في سوريا منذ 2015، وإنشاء قاعدة حميميم الجوية الاستراتيجية في اللاذقية، وامتلاك القرار في سوريا عبر الشريك الضروري لها، الرئيس السوري بشار الأسد. وهذا البعض يراقب عن كثب لعل في ذهن بوتين مفاجآت نوعية.
ثم هناك من يتوقّع أن يحوّل فلاديمير بوتين الأزمة فرصة ليزعم أن تصعيده فرض على الغرب عموماً والولايات المتحدة بخاصة الجلوس الى طاولة المباحثات الأمنية في أوروبا. يمكنه أن يلعب الورقة الإيرانية ليبدو أنه القائد الحريص على مصير المحادثات النووية في فيينا والقادر وحده على اقناع طهران بالتنازلات الضرورية لإحياء الاتفاقية النووية JCPOA- فيخدم إدارة بايدن بدلاً من تطوير العداء معها.
الأسبوع المقبل مُهمّ جدّاً على صعيد محادثات فيينا كما في ساحة الأزمة الأوكرانية. لكن صنّاع القرار في العواصم الغربية وفي موسكو بدأوا يدرسون الخيارات في حال فشل المحادثات أو في حال نجاحها، في حال انحسار التصعيد في أوكرانيا أو انفجاره بغزو أو توغل روسي هناك.
روسيا تخطط لنشاطاتها عالمياً ضمن كل السيناريوات، بما في ذلك تفعيل جبهات بعيدة من أوروبا إذا ما تطوّرت الأزمة الى مواجهة بينها وبين دول حلف شمال الأطلسي- وفي بالها تكتّل العداء للغرب والكتلة التي تشمل فنزويلا ودولاً في البحر الكاريبي وإيران وبالطبع الصين.
بحسب المعلومات، بدأت موسكو رسم السياسات الممكنة أمام التطوّرات الواردة في فيينا. إيران حليف دائم في السيناريوات الروسية، لكن نوعية السلوك الإيراني الإقليمي في حال نجاح المباحثات النووية ستتطلّب سياسة روسية معيّنة تسعى الى حصاد الاستثمار الروسي في النجاح. أما في حال فشل المباحثات، فإن الانتقام الإيراني المرتقب يدفع بالحليف الروسي الى دراسةٍ مختلفة، لا سيّما أن موسكو لا تريد العداء المباشر مع الدول الخليجية التي لها معها مصالح واستثمارات. موسكو لا تريد مثلاً تقييد نفسها في عداء مع إسرائيل إذا تم احتواء وتطويق أزمتها مع الولايات المتحدة، لكنها جاهزة لاستخدام العداء الإيراني مع إسرائيل لمصلحتها إذا تطوّرت الأمور الى مواجهة مع الغرب وذلك للانتقام من الولايات المتحدة.
ما تعمل عليه المؤسّسة السياسية الروسية هو إيجاد مفهوم أو تصوّر concept جديد للسياسة الخارجية الروسية وخطة جديدة للنشاطات الروسية بما فيها نحو الشرق الأوسط. كمثال، يدرس خبراء صنع القرار الروسي ماذا سيكون عليه الأمر في موضوع سوريا حيث هناك حالياً جمود وطريق مسدود deadlock فيما أراد الرئيس بوتين إبراز سوريا بطاقة وشهادة نجاح استراتيجي وسياسي له ولروسيا.
الآن، تبدو روسيا في حاجة الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية والى “حزب الله” في سوريا، لا سيّما كشريك في الانتقام من الغرب، ما يكبّلها ويسحب عنها اليد الأعلى والأقوى. هذا بدوره يجبر موسكو على أن تكون في خانة واحدة مع إيران و”حزب الله” في موضوع لبنان بقيادة من أجندة “الحرس الثوري” الإيراني. وهذا يحرج الدبلوماسية الروسية التي وجدت نفسها مضطرة للتواصل مع الدبلوماسية الكويتية للتحدّث عن المبادرة الخليجية للبنان لتشجيعها كمنطلق، إنما ليس لدعمها بالتفاصيل، علماً أن طهران و”حزب الله” يرفضان بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الأراضي ما يعني تنفيذ القرارين 1701 و1559 ونزع سلاح “حزب الله”.
حالياً، ما تتلاقى عنده الدبلوماسية الروسية والدبلوماسية الخليجية وكذلك الدبلوماسية الأميركية والأوروبية هو الرغبة في وقف التصعيد. الدبلوماسية الإماراتية تواصلت مع الدبلوماسية الإيرانية عبر اتصال هاتفي بين وزير الخارجية عبدالله بن زايد ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للتشديد على ضرورة وقف التصعيد الخطير في المنطقة والالتزام بالحل السياسي في اليمن. الإمارات اختارت نزع الفتيل ولجم التصعيد إزاء التهديدات والهجمات التي شنتها مجموعات حوثية على مرافق في الإمارات. والوزير الإيراني تحدّث بلغة “العمل لمنع مصادر الأزمات من اتخاذ موطئ قدم لها في المنطقة” مشيراً الى أن “حضور الكيان الإسرائيلي في المنطقة تهديد لكل دولها”، واعتبر أن “استمرار الحرب في اليمن ليس لمصلحة أي طرف”.
كذلك الأمر في ما يخص المحادثات السعودية – الإيرانية التي يُفتَرض عقد الجولة الخامسة منها في العراق والهادفة الى تفاهمات تبدو اليوم صعبة المنال. لكن مجرّد استمرار المحادثات مؤشر إيجابي في نظر الدول الخليجية والولايات المتحدة وأوروبا والصين وروسيا.
التأزم والتوتّر والقلق نتيجة الأزمة الأوكرانية تحبس الأنفاس أينما كان، لا سيّما في ظل غموض القرارات التي سيتخذها فلاديمير بوتين. لكن صنّاع القرار لا يستطيعون الانزواء ريثما تنفجر المواجهة أو تنحسر. ولذلك الكل يجلس الى طاولة رسم الخيارات والسيناريوات تحسّباً لإفرازات وتداعيات ما سيفعله سيّد الكرملين بعدما زجّ نفسه في الزاوية.
————————-
«الدب الروسي»… والرقص في سوريا/ إبراهيم حميدي
مرفأ اللاذقية في القبضة الروسية. لم يعد الأمر تكهنات، بل إن الشرطة العسكرية الروسية تقف على بواباته، وبات ضباط قاعدة حميميم يتدخلون في كل شاردة وواردة في المرفأ، من السفن التي ترسو فيه إلى المستودعات والمخازن وما تحتويه من شحنات.
هذه رقصة جديدة لـ«الدب الروسي» في المسرح السوري. كان مفروضاً أن يكون الأمر طبيعياً في ضوء العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ودمشق، والدور الكبير الذي لعبه الجيش الروسي في «منع سقوط النظام السوري» بعد تدخله المباشر في نهاية 2015، وتوسيع مناطق سيطرة الحكومة من 10 في المائة إلى 65 والضغط على حلفاء موسكو في المنطقة للتطبيع وعلى خصومها لقبول الواقع الجديد.
أيضاً، كان أمراً متوقعاً في ضوء الاتفاقات المفتوحة الموقعة بين الجانبين، وسمحت لروسيا بإقامة قاعدة عسكرية ضخمة في حميميم، في ريف اللاذقية، وتوسيعها لتستقبل قاذفات استراتيجية قادرة على حمل صواريخ نووية، وتحويل ميناء طرطوس من منشأة صغيرة لإصلاح السفن، كما كان الأمر قبل 2011، إلى مرفأ واسع قادر على استقبال سفن مهمة من الأسطول الروسي، كما حصل أمس لدى وصول 6 سفن إنزال كبيرة من أسطولي «الشمال» و«بحر البلطيق».
اذن، ما هو الجديد في وقوع مرفأ اللاذقية في القبضة الروسية؟
كانت دمشق تراهن في السنوات الأخيرة على «اللعب على حبلين» أو التأرجح بين حليفين: روسيا وإيران. عندما تتعرض لضغوط كبيرة من الأول تميل إلى الآخر. تعطي لهذا الحليف تنازلاً سيادياً وتعطي للآخر تنازلاً سيادياً آخر. وضمن هذا السياق، كانت «الخطة السورية» أن تعطى إيران السيطرة على مرفأ اللاذقية قرب قاعدة حميميم الروسية، وأن تمنح روسيا مرفأ طرطوس المدني والإمدادي. وبالفعل، صدر قرار حكومي من دمشق في نقل إدارة مرفأ اللاذقية من شركة أجنبية إلى أخرى إيرانية.
لكن لروسيا حسابات أخرى. كما عرقلت موسكو تنفيذ عدد كبير من الاتفاقات ومذكرات التفاهم الاقتصادية الموقعة بين طهران ودمشق في 2017 التي أعطت شركات إيرانية الكثير من الامتيازات في مجالات الفوسفات والزراعة والغاز والنفط في سوريا «تعويضاً على نحو 20 مليار دولار دفعتها إيران لإنقاذ النظام»، استغلت موسكو حسابات جيوسياسية كي تضع يديها على مرفأ اللاذقية، إذ إنها وجدت في الغارات الإسرائيلية عليه مناسبة لتسحب البساط من تحت إيران.
كانت واشنطن قد قطعت الطريق البري بين طهران ودمشق وبيروت عبر السيطرة على قاعدة التنف على الحدود السورية – العراقية. رد رئيس «فيلق القدس» في «الحرس» الإيراني قاسم سليماني على ذلك بتأسيس خط إمداد بديل عبر السيطرة على معبر البوكمال، فتعرض لكثير من الغارات الغامضة. كما تعرض خط الإمداد الجوي عبر مطار دمشق، للكثير من الاستهدافات. وأمام الوقائع الجديدة على الطرق البرية عبر حدود العراق والجوية عبر مطار دمشق، اتجهت أنظار إيران إلى مرفأ اللاذقية وميناء صغير آخر، كي يكون خطاً بديلاً للإمداد إلى «حزب الله».
لا شك أن القصف الإسرائيلي على المرفأ قبل أسابيع، غير بعض الحسابات. قيل وقتذاك، إن القصف استهدف أسلحة من إيران إلى «حزب الله». وقيل أيضاً إن القصف جاء بعلم أو بعدم اعتراض روسي، خصوصاً في ضوء «التفاهمات العسكرية الصلبة» بين الرئيس فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بنيت في 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبعد الغارة قام موالون لدمشق بنشر صور هائلة لحجم الحرائق في مستودعات الحاويات، إلى حد بدا الأمر محرجاً إلى حد كبير لقاعدة النظام، فانتهزت روسيا الفرصة ووضعت يديها عليه.
طهران أرادت ربط مرفأ اللاذقية بحساباتها الإقليمية والدولية. موسكو تريد ربط هذا الملف بحساباتها بالشرق الأوسط والعالم. مساعي دمشق للتوفيق بينهما لم يعد ممكناً الاستمرار فيها. وكما تركت موسكو دمشق تنزف أمام المعارضة عام 2015، قبل أن تقرر التدخل لتحصل على تنازلات سيادية كبيرة في سوريا، رأت تل أبيب توجيه ضربات إلى مرفأ اللاذقية وغيره كي تنتزع تنازلاً جديداً. واستطاع بوتين أن يحصل على تنازل كانت تحلم به روسيا القيصرية، وهو الوصول إلى المياه الدافئة. بالفعل وصلت وهيمنت على ميناءي سوريا، في وقت هي تضع عينها على ميناء في ليبيا وآخر في السودان.
قبضة بوتين في مرفأ اللاذقية ثقيلة وغير مريحة لدمشق، ومربوطة بـ«رقصاته الكبرى» في مسارح الشرق الأوسط والعالم. بالفعل، كما قال المثل الروسي: «إذا دعوت الدب إلى الرقص، فالذي يقرر موعد انتهاء الرقص هو الدب (الروسي)، وليس أنت»… السوري.
الشرق الأوسط
—————————
بعد رد الناتو “الأيديولوجي” بشأن أوكرانيا.. ما سيناريوهات حل أزمة الصراع الجيوستراتيجي بين الغرب وروسيا؟
في ظل تصاعد توقعات الغرب لغزو روسي محتمل لأوكرانيا، والخوف من حرب قادمة، كيف يمكن فهم البيئة الجيوستراتيجية للصراع بين روسيا والغرب؟ وما الدوافع الروسية من وراء هذا التصعيد؟ وهل نجحت استراتيجية روسيا باللعب على “حافة الهاوية” أو ما يسميه الغرب “التضليل الروسي” في الوصول إلى لحظة التفاوض مع الغرب؟ وما السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة؟
ما سيناريوهات لعبة عض الأصابع بين روسيا والناتو على الملعب الأوكراني؟ (الأناضول)
لم تسفر جولات الحوار التي جمعت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن في جنيف، والمحادثات الروسية مع حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) في بروكسل، عن اختراق مهم حول مجمل القضايا المطروحة بين الجانبين، وعلى رأسها الأزمة المتصاعدة في أوكرانيا، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التعقيد للأزمة، وتنامي فرص لجوء روسيا للخيار العسكري لحل الأزمة، إلا أنها في الوقت نفسه لم تنه فرص الحلول غير العسكرية، بما في ذلك التوصل إلى تفاهمات من شأنها تجاوز التصعيد المتبادل بين الجانبين.
وتراقب الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عن كثب تحركات روسيا على الحدود مع أوكرانيا، في ظل إعلان موسكو عدم رضاها عن الرد المكتوب، الذي قدمه الجانب الأميركي بشأن مقترحاتها حول توسع الناتو شرقا؛ إذ قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن رد حلف الناتو على الضمانات الأمنية التي طلبتها بلاده كان ردا “أيديولوجيا”.
وفي ظل تصاعد توقعات الغرب لغزو روسي محتمل لأوكرانيا، والخوف من حرب قادمة، كيف يمكن فهم البيئة الجيوستراتيجية للصراع بين روسيا والغرب؟ وما الدوافع الروسية من وراء هذا التصعيد؟ وهل نجحت إستراتيجية روسيا باللعب على “حافة الهاوية” أو ما يسميه الغرب “التضليل الروسي” في الوصول إلى لحظة التفاوض مع الغرب؟ وما السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة؟
الخلافات الجيوستراتيجية بين الغرب وروسيا
تعود جذور الأزمة بين روسيا والغرب إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة وتفرد الولايات المتحدة في بناء نظام عالمي جديد يراعي مصالحها بشكل خاص، إذ عمدت الولايات المتحدة إلى تعزيز مركزية حلف الناتو في ضمان أمن ومصالح الغرب. ووجدت روسيا المنهكة وقتئذ نفسها خارج النادي الغربي، ولم تراع مصالحها بشكل كاف، ونُظر لها أميركيا بأنها قوة آيلة للتضاؤل.
إلا أنه منذ مطلع الألفية الجديدة بدأت روسيا في شق مسار لمقاربة جديدة تقوم -بالدرجة الأولى- على مواجهة هذا الواقع، في ظل تحسن في أوضاعها الاقتصادية، وامتلاك قيادتها الإرادة السياسية والدعم الشعبي، الذي تمثل في تولي الرئيس فلاديمير بوتين زمام القيادة في روسيا، وهو الذي أثبت امتلاكه لرؤية تختلف عن تلك التي تبناها سلفه في السعي إلى الانضمام للنادي الغربي، والالتحاق بركب النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة.
وشكل الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 لحظة فارقة في التعبير عن التوجهات الروسية الجديدة، كما يشير رد فعل موسكو على الأزمة في أوكرانيا والمواجهة اللاحقة مع الولايات المتحدة وانهيار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي إلى الاتجاه نفسه.
في المقابل، عمل الناتو على توسيع نفوذه في 4 موجات من انضمام دول أوروبا الشرقية للحلف حدثت كلها في عهد بوتين، تمثلت في ضم دول البلطيق وسلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا عام 2004؛ وكرواتيا وألبانيا عام 2009؛ والجبل الأسود عام 2017؛ ومقدونيا الشمالية عام 2020.
ولم يكن بمقدور روسيا في ذلك الوقت صد هذه الموجات، لكنها باتت تشعر الآن أن الفرصة أمامها لتحسين موقفها في حدودها الغربية، واستباق خطوات أميركية جديدة في السعي لتطويقها وإخضاعها لمعادلة الأمن الغربي على حسابها.
وعليه، حددت روسيا مجالها الحيوي ليشمل حدود ما بعد الاتحاد السوفياتي. وبنت في سبيل ذلك إستراتيجيتها القائمة على “منع نشوء بيئة معادية في مجالها الحيوي”، وما يعنيه ذلك من ضرورة أن يتخلى جيرانها في شرق أوروبا عن أفكار الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. وشكلت أوكرانيا خصوصية في ذلك كونها دولة -من وجهة نظر بوتين- تلعب دورا رئيسيا في تعزيز أو تهديد أمن روسيا.
دوافع روسيا من التصعيد في أوكرانيا
يسعى الكرملين -عبر الحشد غير المسبوق لقواته على الحدود مع أوكرانيا، وتصعيد الأزمة مع الغرب- إلى إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات لمناقشة مجموعة أوسع من القضايا.
الأمر الذي نجح جزئيا عندما دفع حشد عسكري مماثل، في مارس/آذار 2021، الرئيس جو بايدن إلى دعوة بوتين لحضور قمة في جنيف. وهو ما اعتبرته روسيا اعترافا بدرورها كقوة رئيسية لا يمكن تجاوزها في ما يخص ضمان أمن الغرب. وهو ما عبر عنه بايدن حين أعلن أن روسيا كانت “خصما جديرا”. ومؤخرا، جرت لقاءات على مستوى وزراء الخارجية، ومشاركة روسيا في محادثات مع الناتو في بروكسل.
إلا أن ذلك لا يعد الدافع الوحيد لدى بوتين الذي يسعى -عبر مواصلة الضغط على حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين- إلى إحداث تباين في الموقف الغربي يتيح لروسيا تعزيز إستراتيجيتها حول أمنها الحيوي في حدودها الغربية والجنوبية، في ظل تباين حاصل في المعسكر الغربي حيال السبل الأنسب للتعامل مع الأزمة في أوكرانيا.
فترى الأطراف الأوروبية ضرورة مواصلة السبل الدبلوماسية الساعية لتخفيف التوتر، ومنع وصول الموقف للحظة صدام عسكري سيجري في حال وقوعه على أراضيها، وسيسبب لها أزمات أمنية واقتصادية ويؤثر على إمدادات الطاقة من روسيا.
كما ترى هذه الأطراف أنها في غنى عن أزمات جديدة، وهي تحاول التصدي لأزمات مثل وباء كورونا، وأزمة المهاجرين، ومعالجة آثار انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الاستحقاقات الانتخابية الداخلية في العديد من الدول الأوروبية.
إضافة إلى ذلك، تسعى روسيا إلى تعزيز مكانتها في نظام دولي جديد آخذ في التشكل، في ظل إعادة تموضع إستراتيجي أميركي، وانسحابات عسكرية أميركية من “ساحات القتال” التي خاضتها مطلع الألفية الجديدة.
وتركز روسيا في مسعاها هذا على تعزيز أهميتها لدى الصين على وجه الخصوص، التي باتت تمثل مركز الاهتمام الإستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، حيث ستكون الصين بحاجة إلى تحصين موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها.
وقد أسهمت نتائج الأزمة في كازاخستان مؤخرا في تعزيز أهمية روسيا لدى الصين في منطقة آسيا الوسطى، التي تعد ممرا حيويا لمشروع الصين “الحزام والطريق”، وهو ما يشير في الوقت ذاته إلى مركزية الصين في التحركات الروسية ضد الغرب.
ولا يخلو تحرك بوتين من دوافع تتعلق بالصعيد الداخلي الروسي؛ إذ يسعى بوتين إلى إحكام مسار روسيا الإستراتيجي تجاه الغرب، وحشد النخبة الروسية خلف هذا التوجه، نظرا لاقتراب مرحلة توريث السلطة في روسيا في ظل تقدم بوتين في العمر، فمن المحتمل أن نكون في العقد القادم أمام قيادة جديدة لروسيا، لذلك يهدف بوتين لضمان استمراراها في المسار الذي وضع أسسه.
السيناريوهات المحتملة لمسار الأزمة
سيناريو تفاوضي
ملامح السيناريو التفاوضي -وهو المفضل لدى روسيا- بدأت في الظهور عمليا في اجتماع الرئيسين في جنيف، رغم اقتصار نتائج الاجتماع على بدء المشاورات الروسية الأميركية حول الاستقرار الإستراتيجي والأمن السيبراني، وعدم تطرقها للأزمة بشكل مباشر.
في الوقت نفسه، وصل مسار مينسك الهادف إلى إنهاء الصراع بأوكرانيا إلى طريق مسدود، بل كانت نتائجه عكسية مع قيام الناتو بزيادة حجم ووتيرة تدريباته العسكرية في منطقة البحر الأسود، في مقابل الحشود الروسية على الحدود مع أوكرانيا.
في هذا الصدد، نجح تكتيك روسيا المتمثل في إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. لذلك، بناء على هذا النجاح الأولي، قدمت موسكو للأميركيين وحلفائهم مسودة معاهدة واتفاقية تحدد مطالب روسيا من الغرب بشأن مسألة الأمن الأوروبي.
وفي نقاش إمكانية تطبيق المطالب الروسية، يعد مطلب موسكو الرئيسي بوقف توسع الناتو في أراضي الاتحاد السوفياتي السابق حيز التنفيذ بحكم الواقع، لأن الولايات المتحدة وحلفاءها ليسوا مستعدين لتحمل مسؤولية الدفاع العسكري عن حلفائهم، أوكرانيا وجورجيا، ومن غير المرجح أن يتغير ذلك.
وبالنسبة للغرب، لا تكمن المشكلة في النزاعات التي لم يتم حلها في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ودونباس، بقدر ما تكمن في احتمال مواجهة مباشرة مع روسيا في الأماكن التي تمتلك فيها موسكو مصالح أمنية حقيقية، ومستعدة لاستخدام القوة لحمايتها إذا لزم الأمر. في غضون ذلك، ليس لدى الولايات المتحدة مثل هذه المصالح أو الاستعداد لاستخدام القوة في سبيلها.
وانطلاقاً من ذلك، من المرجح عدم قبول انضمام أوكرانيا أو جورجيا في الناتو ما دام أن روسيا قادرة على منع ذلك. وعليه، فإن التهديد المتمثل في وجود أوكرانيا في الناتو هو في الواقع تهديد وهمي تفاوضي في وجه المطالب الروسية مرتفعة السقف.
وتبقى فرصة حضور الناتو في أوكرانيا في شكل أسلحة هجومية، وقواعد عسكرية، ومستشارين عسكريين، وإمدادات أسلحة، وما إلى ذلك أكثر صعوبة، كما أن للولايات المتحدة قدرات عسكرية في إطار الدرع الصاروخي حول روسيا، وحاملات الطائرات كفيلة باستغنائها عن وجود مباشر في أوكرانيا.
وعليه، قد لا يمثل إنشاء قواعد الصواريخ أولوية عسكرية بالنسبة لواشنطن، كما يمكن لروسيا مواجهة ذلك من خلال تزويد الغواصات الروسية التي تبحر بالقرب من البر الرئيسي للولايات المتحدة بصواريخ “تزيركون” (Tsirkon) الروسية التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وهو ما يعد محددا مهما لدى الولايات المتحدة في حاجتها إلى مزيد من الوجود في الجوار الروسي.
في المقابل، سيكون من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- الاتفاق على إنهاء التعاون العسكري والتكنولوجي العسكري بين أوكرانيا والولايات المتحدة والناتو. كما تسعى موسكو إلى الاتفاق على القيود المفروضة على طبيعة الأسلحة التي يمد الغرب بها كييف، وهو سقف قد يكون مقبولا لروسيا.
ولكي يحدث ذلك، من المرجح أن تطالب الولايات المتحدة روسيا بوقف تصعيد الاستعدادات العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا. ومع ذلك، ستصر روسيا أن يكون أي خفض للتصعيد مصحوبا بقيود على مناورات الناتو بالقرب من حدود روسيا في أوروبا.
إن مطالبة موسكو بسحب جميع البنية التحتية العسكرية المنتشرة في الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية في الناتو مستحيلة، بقدر ما هي غير ضرورية إلى حد كبير، في ما يتعلق بأمن روسيا في ظل التطور العسكري الذي أعلنت عنه موسكو بقدرتها على تحريك صواريخ تزيركون على السواحل الأميركية، كما أن عدة آلاف من الجنود الأميركيين الموجودين في المنطقة لا يشكلون تهديدا خطيرا على روسيا، رغم تحفظها على وجودها إلا أن الأمر قابل للتفاوض.
ويبقى مطلب العودة لوضع ما قبل عام 1997 -بانسحاب دول شرق أوروبا التي انضمت للناتو- المطلب الوحيد عالي السقف، الذي قد يكون وضعه على الطاولة كورقة للتفاوض، بحيث يمكن التراجع عنه لاحقًا، مما يدل على استعداد موسكو لتقديم تنازلات.
وقد تكمن احتمالية أكبر للتوصل إلى اتفاقات في الدخول في نقاش حول مجموعة المقترحات والمطالب الروسية، والاستعداد لمتابعة مسارات متوازية بين الجانبين. ولكن يبقى عامل الثقة بإمكانية التوصل إلى اتفاقيات ترضي المصالح الأمنية لروسيا محوريا في ذلك.
فرص تنفيذ الولايات المتحدة لمطالب روسيا بالشكل والإطار الزمني اللذين حددتهما موسكو معدومة تقريبا. وتبقى احتمالية الاتفاق ممكنة من الناحية النظرية حيال اثنتين من القضايا الرئيسية الثلاث، وهما عدم التوسع وعدم الانتشار. لكن أي اتفاقيات من هذا القبيل ستكون ذات طبيعة سياسية، وليست ملزمة قانونا، نظرا لتعقيدات المشهد الداخلي الأميركي، ورغبة الولايات المتحدة في تجنب خلاف داخل المعسكر الغربي.
سيناريو الإجراءات الغربية أحادية الجانب
يمكن لحلف الناتو، بمبادرة من الولايات المتحدة، الإعلان عن وقف طويل الأمد لعملية ضم للأعضاء الجدد، على سبيل المثال. الأمر الذي أشار إليه بايدن مرارا إنه من غير المرجح أن تتم الموافقة على عضوية أوكرانيا في الناتو في العقد المقبل.
يضاف إلى ذلك التوقف عن نشر صواريخ متوسطة المدى وأسلحة هجومية أخرى، ليس كجزء من اتفاق مع روسيا، ولكن كاتفاقية حكومية دولية بين روسيا والولايات المتحدة فقط، والتي لا تحتاج إلى التصديق عليها في الكونغرس.
يبقى الكلاشينكوف على الكتف
في الوقت الحالي، لا يبدو أن أيا من مسارات اتفاقيات بشأن معالجة مطالب روسيا قد أخذت حيزا في الواقع، رغم بقاء فرصة ذلك متاحة.
ومع ذلك، بالنسبة لبوتين، فإن فشل مسار المفاوضات قد يكون له أهمية من نوع ثاني، حيث عمل بوتين على تكريس رؤيته بشأن مخاوفه الأمنية في أوروبا، وقد بات ذلك واضحا للجميع، ويتطلب من الغرب التعامل مع هذه الحقيقة. وهي في الواقع الأهداف الإستراتيجية للسياسة الروسية في أوروبا.
وإذا لم تستطع روسيا تحقيق هدفها بالوسائل الدبلوماسية، فستحتاج إلى اللجوء إلى أدوات وأساليب أخرى تعتمد في جوهرها على استخدام القوة العسكرية.
المصدر : الجزيرة
————————
مساحات الاتفاق والافتراق بين موسكو وواشنطن في سوريا وعليها/ عريب الرنتاوي
إن البحث في عمق المواقف/المصالح الروسية والأميركية في سوريا، يظهر بشكل واضح، أن مساحة الاتفاق بين الدولتين، أوسع بكثير من مساحة الافتراق.. وأن إمكانية التجسير بين الجانبين، تبدو متاحة للغاية إن توفرت الرغبة والإرادة المشتركتين لفعل ذلك، لكن أسباباً أخرى، خارج سوريا، ربما تكون العقبة الأهم في طريق عمل أميركي – روسي في سوريا، وأهمها احتدام حدة الصراع بين الدولتين في ملفات دولية أخرى: أوكرانيا، الناتو وأمن أوروبا، الحرب السيبرانية، أمن الطاقة والأمن الاستراتيجي وغيرها من ملفات أشد صعوبة وأكثر خطورة وتعقيداً.
ويُعد تمسك الجانبين بنظرية “الرزمة الشاملة” في علاقاتهما الثنائية، عقبة تحول دون “فصل الأزمات” إحداها عن الأخرى، والتعامل مع كل واحدة منها، وفقاً لظروفها ومعطياتها، والدولتان الكبريان كما يتضح، تفضلان تكتيك “التهدئة على مختلف الجبهات، أو التصعيد على جميع خطوط التماس”.
حددت واشنطن مصالحها في سوريا بأربع: الحرب على الإرهاب، احتواء النفوذ الإيراني وتغيير سلوك النظام في إطار عملية سياسية ذات مصداقية، تحفظ من ضمن ما تحفظ، مصالح وحقوق حلفائها الكرد في شمالي سوريا.
وفي التفاصيل، ترى واشنطن أن “داعش” والقاعدة والمنظمات الإرهابية المتفرعة عنهما، ما زالت تشكل تهديداً لأمنها وأمن حلفائها في العالم، وليس في الإقليم وحده، وتنهض أحداث الحسكة والاشتباكات الكبرى بين “داعش” و”قسد” ودخول القوات الأميركية على خط المعارك للسيطرة على “سجن الصناعة”، كشاهد على واحدة من أولويات الوجود الأميركي في سوريا، كما أن العملية النوعية التي نفذتها القوات الخاصة الأميركية وانتهت إلى مصرع أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم داعش، تبرز كدلالة إضافية على أن الحرب على الإرهاب لم تضع أوزارها بعد.
حول هذه الأولوية، لا يبدو الموقف الروسي بعيداً عن الموقف الأميركي، فلموسكو مصلحة في القضاء على التطرف الإسلامي العنيف، وبعض مقاتلي داعش والقاعدة، يتحدرون من أصول روسية، أو من الدول المسلمة الدائرة في فضاء روسيا وجوارها… لكن التعريف الروسي للإرهاب، يتوسع قليلاً عن التعريف الأميركي، فروسيا تنظر عموماً لمعظم الجماعات المسلحة، ذات المرجعية الإسلامية، بوصفها تنظيمات إرهابية يتعين اجتثاثها… هنا يُعتقد أن قليلاً من التعاون والتنسيق بين الجانبين، من شأنه التسريع في “تحييد” خطر الإرهاب، سيما وأن الإرهابيين يمتدون على مناطق سيطرة كل منهما… التكامل يبدو خياراً مفضلاً في الحرب على الإرهاب، مع أن التنافس في استهداف الإرهابيين، يبدو بدوره أمراً حميداً، ويخدم مصالح جميع الأطراف.
على أن الملاحظة الأهم في هذا السياق، هو ضمان ابتعاد الأطراف عن أي مسعى لتوظيف جماعات الإرهاب للمس بمصالح وقوات الطرف الآخر، سواء أتم ذلك بحجب المعلومات الاستخبارية، أو بالدعم والتشجيع، أو بالصمت المتواطئ.
الهدف الثاني، وربما الأول، للسياسة الأميركية في سوريا، هو احتواء النفوذ الإيراني إن تعذّر استئصاله، ويتجلى ذلك في جملة من الأهداف الفرعية:
إبعاد الميليشيات الإيرانية عن الحدود مع إسرائيل والأردن لـ”مسافة آمنة”.
منع إيران من السيطرة على ممرات برية تصل العراق بسوريا، وتؤمن لطهران طريقاً برياً يربط قزوين بالمتوسط، ولهذا رأينا واشنطن تحتفظ بقاعدة “التنف” جنوباً، وبحضور مباشر في مناطق “قسد” شمالاً.
منع إيران من الاحتفاظ بوجود عسكري وازن في سوريا، مباشر أو من خلال ميليشيات محسوبة عليها.
الحيلولة دون إيصال السلاح النوعي والصواريخ الدقيقة لحزب الله في لبنان، عبر سوريا.
روسيا ليست بعيدة عن هذه الأهداف، سيما بعد انقضاء زمن المعارك البرية الكبرى في سوريا، كما أعلن الكرملين ذاته، فكافة الدلائل تشير، إلى رغبة ومصلحة روسية مباشرتين، في إضعاف التأثير والنفوذ الإيرانيين في سوريا، وبشتى الوسائل، وهي عملت عن قرب مع الأردن وإسرائيل لإبعاد الميليشيات المذهبية عن الحدود ما أمكن، وهي دفعت بالفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد المقربة من إيران، بعيداً عن ترتيبات محافظة درعا، وأحلت محلها الفرقة الخامسة المحسوبة عليها، وهي ساعدت بالتنسيق مع الأردن، في تقليص أعداد اللاجئين المقيمين في مخيم الركبان على مقربة من المثلث الحدودي الأردني – السوري – العراقي، وغير البعيد عن قاعدة “التنف”.
وموسكو تعطي أذناً من طين وأخرى من عجين، لكل نداءات أصدقائها في سوريا وإيران ولبنان، ولا تبالي بانتقاداتهم لها، على خلفية امتناعها عن التصدي للضربات الجوية والصاروخية الإسرائيلية ضد أهداف لإيران وميليشياتها في سوريا، وصولاً إلى ميناء اللاذقية على مبعدة كيلومترات قلائل من قاعدة “حميميم”، فيما يشبه “تفاهم الجنتلمان” بين الجانبين، تعطي بموجبه موسكو الأمان للطائرات الإسرائيلية التي تعربد في السماوات السورية، نظير امتناع إسرائيل عن ضرب أهداف حيوية للجيش السوري، أو تهديد الوجود العسكري الروسي في سوريا.
وفي المرات القليلة التي أعربت فيها موسكو عن غضبها للضربات الإسرائيلية، كانت حين استهدفت مواقع حيوية للجيش السوري، أو هددت أو كادت تهدد، حركة الطيران أو القوات الروسية المنتشرة في شتى البقاع السورية.
روسيا راغبة في تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، والحد من الهيمنة الإيرانية على بعض مؤسسات صنع القرار السياسي والأمني في سوريا، وما يتردد عن “سحب” كثير من صلاحيات رجل سوريا الأمني القوي الجنرال علي مملوك لصالح اللواء حسام لوقا، النجم الصاعد في عالم الأمن والمخابرات السورية، إنما يندرج في سياق التنافس الروسي الإيراني في سوريا وعليها… وعليه فإن فرص الوصول إلى تفاهمات أميركية – روسية حول الوجود الإيراني الرسمي والمليشياوي، تبدو راجحة، إن توفرت للجانبين الرغبة المشتركة في العمل المشترك.
واشنطن كفّت منذ زمن، عن المطالبة بـ “تغيير النظام” في دمشق، وقد تعزز هذا التوجه، بمقدم إدارة بايدن، وأكد هذا المعطى إلى جانب كثير من المسؤولين الأميركيين، الموفد الأممي غير بيدرسون مؤخراً… واشنطن تريد تغيير “سلوك النظام”، ولا تريد إسقاطه.
تفتح هذه المقاربة الباب لحوار روسي – أميركي، حول المقصود بتغيير السلوك، في أية مجالات وبأية حدود، وكيف سيتم ذلك… هنا، يبدو من الهام الإنصات إلى ما يقوله بيدرسون عن مقاربة “خطوة مقابل خطوة”، وهي مقاربة سبق للأردن والإمارات أن تحدثا بها، بعد أن أدركت الدولتان أن زمن الحروب الكبرى وتغيير النظام قد ولّى، وبعد أن تيقنتا من أن مسار أستانا لم يعد لديه “فائض قيمة” يضفيها على فرص الحل السياسي، وأن واشنطن وحلفائها، لن يكون بمقدورهم وحدهم، من دون روسيا، التقدم على دروب الحل السياسي، ولعل فكرة “المؤتمر الدولي” التي يتحدث عنها الموفد الأممي، ومقاربته الجديدة، “خطوة مقابل خطوة”، هي التجسيد لهذه المعطيات والمتغيرات، وربما هذا هو ما حدا بالموفد للقول بأن لديه “دعم صلب” من قبل كل من روسيا والولايات المتحدة.
ستحتاج مسألة النظام وتغيير سلوكه، إلى جهد أكبر للتقريب بين واشنطن وموسكو… الأولى، قد تصر على إثارة الكثير من ملفات حقوق الانسان و”العدالة الانتقالية” (وقد لا تفعل)، أما الثانية فأقل اعتناء بهذه الملفات، وحليفها في دمشق، أقل مرونة في الاستجابة لهذه العناوين، ولا ندري إن كان بوارد “تغيير سلوكه” أصلاً، أم أنه يفكر بخطوات تجميلية، تجعل التوافق متعذراً.
تصر واشنطن على رعاية المشروع الكردي في شمالي سوريا، وبالذات في شماليها الشرقي، وهي تجازف بعلاقات مضطربة مع حليفتها “الأطلسية” نظير حمايتها ورعايتها للكيان الكردي الذي تناصبه أنقرة أشد العداء، وتصفه إرهابياً… لكن موسكو في المقابل، تحتفظ بعلاقات تاريخية وراهنة طيبة مع أكراد سوريا والمنطقة، وهي تعمل بكثافة على خط القامشلي – دمشق، ولكن دون جدوى، فالأكراد ما زالت “سقوفهم عالية” و”رهاناتهم مرتفعة” متشجعين بالدعم الأميركي، ودمشق، كما يقول دبلوماسيون روس في مجالس خاصة، لا تبدي أي قدر من المرونة حيال مطالب الأكراد، ويبدو أنها ما زالت تراهن على العودة بهم إلى ما كان عليه حالهم قبل العام 2011.
موسكو، وليست واشنطن، وفي الجولة الثانية من مفاوضات استانة بين النظام والمعارضة، تقدمت للطرفين بمشروع دستوري “فيدرالي” لسوريا، رفضه النظام والمعارضة سواء بسواء، وجرى طي صفحة المشروع، أما الاستنتاج المتأتي من هذه المحاولة، فيقول أن موسكو يمكن أن تكون منفتحة على أية أفكار للإدارة المحلية للكرد، في إطار فيدرالي أو “لا مركزية موسعة”، شريطة أن يظل الكرد جزءاً من الدولة السورية، وهو أمر لا شك، ستجد فيه واشنطن، ما يمكن أن يشكل حلاً للمسألة الكردية، سيما وأن واشنطن تدرك أن أي مسعى انفصالي كردي، سيقود إلى مواجهة مع أنقرة ودمشق وبغداد وطهران، وهذا آخر ما تريده واشنطن في الوقت الحالي.
هنا أيضاً، تبدو فرص التوافق بين موسكو وواشنطن، أعلى بكثير من فرص الافتراق والتباعد، لكن الظروف المحيطة بتصاعد الأزمة الأوكرانية، وحالة الاستقطاب شديدة الخطورة بين القطبين، تجعل التفكير ببناء جسور تقارب بينهما في سوريا، أمراً غير مندرج على جدول أعمالهما، أقلهما في المدى المرئي.
——————————–
الموقف التركي تجاه أزمة أوكرانيا/ محمود سمير الرنتيسي
ما زالت أزمة أوكرانيا مفتوحة على جميع السيناريوهات من غزو روسيا لأوكرانيا أو أجزاء منها إلى القبول بحكومة موالية لروسيا، أو حتى نجاح الإجراءات الغربية بقيادة الولايات المتحدة في ثني روسيا أو ردعها عن التفكير في خيارات كبيرة.
بالطبع يشير الروس إلى دمج أوكرانيا في حلف الناتو على أنه السبب الأساسي للأزمة، وتتمسك موسكو بموقفها الرافض لانضمام أوكرانيا لحلف الناتو حيث يمكن أن تصل الصواريخ التابعة للناتو لو وضعت في أوكرانيا إلى العاصمة موسكو خلال 6 دقائق فقط كما أعلن بوتين.
ومع أن إدارة بايدن فضلت أن تسلك مسار الحوار مع الكرملين لمنع تصاعد الأمور إلى أزمة كبيرة خاصة في ضوء وضعها للتهديد الصيني في أولوية قائمة التهديدات، إلا أن الأمور لم تصل إلى حل في ظل ثبات كل طرف عند بعض الخطوط الحمراء الخاصة به.
بالرغم من الحوار الروسي الأميركي وبالرغم من أن الأزمة الأوكرانية قد تبدو أكبر من حجم وقدرات تركيا على التأثير، إلا أن تركيا بادرت من خلال موقف يثبتها كوسيط في هذه الأزمة وكلاعب يعمل من خلال الدبلوماسية وقد حاول أردوغان بإصرار أن يعمل على دعوة كل من الرئيس بوتين ورئيس الوزراء الأوكراني زيلنيسكي إلى أنقرة، ويبدو أن السر وراء هذا الموقف أن يظهر أردوغان لكل الأطراف أن موقف الوساطة هو الدور الفعال الذي يمكن أن تخدم فيه أنقرة جميع الأطراف وبهذا يتجنب أردوغان الضغوط من كل الأطراف.
وفي هذا السياق سيتجنب مستقبلا أي ضغوط أميركية وأوروبية بالرغم من كونه في حلف الناتو، حيث سيكتفي بالموقف العام للحلف من دون الإعلان عن موقف تركي مشارك في عقوبات غربية محتملة على روسيا، كما أن هذا الموقف سيجنبه الظهور كعدو لروسيا خاصة بعد بيع الأتراك للمسيرات التركية التي اعتبرت سلاحا حاسما في ليبيا وكارباخ، وقد كان في مواجهة قوى تعتبر مدعومة من روسيا تقليديا.
هناك تحديات أمام نجاح الموقف التركي منها أن روسيا تنظر في بعد من أبعاد تقييمها لأنقرة إلى أن الأخيرة جزء من حلف الناتو، فضلا عن أن تركيا قامت ببيع أوكرانيا مسيرات تعطيها ميزة في مواجهة الانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس. كما أن تركيا ترفض بشدة احتلال جزيرة القرم الأوكرانية التي يعد سكانها من القومية التركية (تتار القرم الأتراك). بالإضافة إلى ما ذكرناه في بداية المقال وهو أن الملف الأوكراني يكاد يرقى لكونه مسألة عالمية أكبر من دور تركي فردي.
أما الأمر الآخر فهو يتعلق بشخصية بوتين ونظرته إلى نفسه وإلى روسيا كقوة عظمى لابد أن تستعيد أمجاد الاتحاد السوفييتي، وبالتالي سيصعب عليه تقبل وساطة تركيا بينه وبين أوكرانيا حيث سيعتبر في مثل هذا الموقف مساواة بين روسيا وأوكرانيا كما أنه سيعطي تركيا تفوقا على الطرفين.
في ذات الموقف لا يريد بوتين أن يخسر الموقف التركي الذي وصل لأسوأ نقطة في العلاقة مع الغرب بعد حصوله على السلاح الاستراتيجي الروسي إس 400، وبالتالي سيحافظ بوتين بدرجة ما على التماس مع تركيا وفي هذا السياق جاء قبول بوتين دعوة أردوغان مع تعليق ذلك بوضع وظروف الوباء وسيعمل بوتين على أن تكون زيارته لتركيا زيارة لمناقشة العلاقات الثنائية أكثر من موضوع أوكرانيا.
وقد يزور أردوغان أوكرانيا ويحاول إرسال رسائل للطرفين لتأكيد موقف تركيا، ويعتبر الموقف التركي حاليا موقفا مريحا بالنظر إلى أن الموقف الغربي ليس موحدا، وذلك بالنظر إلى موقف ألمانيا مثلا يعتبر فاترا بالمقارنة مع موقف بريطانيا أو دول البلطيق مثلا، وذلك لأن ألمانيا تعتمد بشكل كبير على روسيا في مجال الغاز.
تتمنى تركيا أن لا تتجه الأمور باتجاه العسكرة أكثر والحرب لأن هذا سيعقد موقفها وسيفرض عليها معطيات جديدة، وعلى كل الأحوال سترفض تركيا أي هجوم روسي على أوكرانيا أو أي احتلال روسي ولكن هذا لا يعني بالضرورة تبنيها الكامل للموقف الغربي.
قد تعامل تركيا الناتو بالمثل فقد كان حليفا نظريا لها عندما كانت روسيا تدخل عسكريا في سوريا في 2015، ولم يحرك الناتو ساكنا وترك تركيا في مواجهة قدرها عمليا وبالتالي قد ترد تركيا بدورها الموقف من خلال موقف نظري مساند للناتو ولكنها عمليا لن تتحرك إلا وفقا لمصالحها العليا.
————————–
الهوس الدولي بفلاديمير بوتين
ترجمة: أحمد عيشة
إذا انتصر الزعيم الروسي في أوكرانيا، فإن أسلوبه البلطجي سيكتسب مزيدًا من الأتباع
قد يكون العالم الغربي منقسمًا حول كيفية التعامل مع فلاديمير بوتين. لكن يمكننا بالتأكيد أن نتفق جميعًا على أمر واحد، هو أن رئيس روسيا هو الرجل السيئ في هذه الدراما بالتحديد.
في الواقع، لا. فمن أكثر السمات التي تجلب الكآبة للسياسة الدولية وجود جماعة مهووسة بمنهج بوتين. هناك مجموعة كبيرة من قادة العالم والشخصيات السياسية المؤثرة التي تُعجب ببوتين بشكل كبير. نادي المعجبين به عالميّ، ويمتد من آسيا والشرق الأوسط إلى الأمريكيتين وأوروبا.
تصوير جيمس فيرغسون
كان ديمتري بيسكوف، المتحدث باسم بوتين، واعيًا لحديثه عندما قال في عام 2018: “هناك طلب في العالم لقادة خاصين وذوي سيادة، لقادة حاسمين. . . كانت روسيا في عهد بوتين نقطة البداية”.
عندما ظهر بوتين لأول مرة، كزعيم لروسيا في 1999-2000، بدا وكأنه حالة شاذة: رجل قومي قوي في عصر العولمة التكنوقراطية. وأشارت أنجيلا ميركل، المستشارة السابقة لألمانيا، ذات مرة، إلى أن بوتين كان يحاول تطبيق تقنيات القرن التاسع عشر على عصر مختلف.
ولكن مع تعرّض القيم الديمقراطية للتحدي في جميع أنحاء العالم، يبدو بوتين بشكل متزايد وكأنه رجل تنبّأ بمستقبل السياسة العالمية، بدلًا من أن يكون بقايا من الماضي. اجتذب الزعيم الروسي المعجبين والمقلّدين الذين أعجبوا ببطشه واستعداده لاستخدام العنف، وبتحديه الرجولي لـ “الصواب السياسي”، وبأسلوبه الاستبدادي في القيادة. وكما قال المعلق الروسي دميتري ترينين، الأسبوع الماضي: “بوتين زعيم ما قبل الشيوعية. . . إنه قيصر”.
يتمثل أحد الأخطار الكبيرة لأزمة أوكرانيا الحالية في أن يخرج بوتين منتصرًا، وإذا حدث ذلك؛ فإن أسلوبه في القيادة سيكتسب مزيدًا من المكانة والمقلدين في جميع أنحاء العالم. وستبدو عمليات الاستيلاء على الأراضي والتهديدات العسكرية والأكاذيب والاغتيالات مثل تقنيات الفائز.
لقد عمل بوتين بالفعل كنموذج لجيل جديد من القادة الاستبداديين والشعبويين، حتى في أوروبا والولايات المتحدة. كان على دونالد ترامب أن يكون خجولًا بعض الشيء، بخصوص إعجابه ببوتين، لكن بعض المساعدين المقربين للرئيس الأميركي السابق كانوا أكثر انفتاحًا. بعد ضمّ شبه جزيرة القرم في عام 2014، أشاد رودي جولياني ببوتين، قائلًا: “إنه يتخذ القرار وينفذه بسرعة. . . هذا ما تسميه القائد”. خلال الأزمة الحالية حول أوكرانيا، كان تاكر كارلسون، المعلق الأكثر نفوذًا وتأثيرًا على قناة (فوكس نيوز)، داعمًا صريحًا لبوتين.
فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، الذي نصّب نفسه بطل “الديمقراطية غير الليبرالية” في الاتحاد الأوروبي، يزور بوتين، هذا الأسبوع. في الماضي، جادل أوربان بأن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى الاعتراف بأن “بوتين جعل بلاده عظيمة من جديد”. مثل بوتين، نصّب أوربان نفسه على أنه بطل أقلية في أوكرانيا، في حالته العرقية الهنغارية.
ومن المعجبين البارزين الآخرين لبوتين في أوروبا الغربية، نايجل فاراج، المناضل المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وماثيو سالفيني، زعيم الرابطة الإيطالية اليمينية المتشددة، ونائب رئيس الوزراء السابق. وتعليقًا على إرسال بوتين للقوات إلى الشرق الأوسط، قال فاراج: “الطريقة التي استولى بها على سورية برمتها، باهرة”. أما سالفيني فقد التقط ذات مرة صورًا في الساحة الحمراء، وهو يرتدي قميصًا عليه صورة بوتين.
يمتد نادي المعجبين ببوتين إلى آسيا والشرق الأوسط. رودريغو دوتيرتي، زعيم الفلبين، متهم على نطاق واسع برعاية فرق الموت خلال فترة رئاسته. وعندما سُئل دوتيرتي عن أيّ زعيم في العالم يحظى بإعجاب أكبر، أجاب من دون تردد: “بطلي المفضل هو بوتين”.
بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، رجل قوي آخر، كما يسمي نفسه، استمتع برحلاته إلى روسيا لمناقشة الجغرافيا السياسية مع بوتين. وتضمنت حملته لإعادة انتخابه لعام 2019 ملصقًا للزعيم الإسرائيلي يصافح بوتين، تحت شعار “نتنياهو: أفضل من أي زعيم آخر في الميدان”.
وارتبط بوتين بقادة أقوياء في أماكن أخرى من الشرق الأوسط. وأهدى لعبد الفتاح السيسي (رئيس مصر) بندقية كلاشينكوف. وبدا السيسي، الذي قتلت قواته الأمنية مئات المتظاهرين في شوارع مصر، مسرورًا بتلك الهديّة.
محمد بن سلمان، وليّ العهد السعودي والزعيم الفعلي، هو معجب آخر ببوتين. مع صعوده إلى السلطة، أشار بعض المستشارين البريطانيين لمحمد بن سلمان إلى إعجابه المذهل ببوتين، وعلقوا: “لقد كان مفتونًا به. . . لقد أحبّ ما فعله”.
اتخذ الشعور المتبادل بين الزعماء السعوديين والروس بُعدًا جديدًا، بعد اتهام محمد بن سلمان بإصدار أمر بقتل جمال خاشقجي، الصحفي السعودي. لفترة من الوقت، بدا الأمر كما لو أن محمد بن سلمان يخاطر بأن يصبح منبوذًا دوليًا. وكان بوتين حريصًا على الترحيب به مرة أخرى في العودة إلى نادي زعماء العالم. في أول قمة لمجموعة العشرين عقدها محمد بن سلمان بعد مقتل خاشقجي، صافح الزعيم السعودي بوتين بقوة وبابتسامة عريضة من بوتين. واتُهم بوتين نفسه لاحقًا بإعطاء الإذن بمحاولة قتل زعيم المعارضة الروسي أليكسي نافالني.
هذه المصافحة الحماسية بين بوتين ومحمد بن سلمان تكشف بشكل حقيقي الهوس الدولي ببوتين. غالبًا ما يكون الذين يشاركونه طعم العنف وازدراءه لحقوق الإنسان من أكبر المعجبين بالزعيم الروسي، مثل دوتيرتي ومحمد بن سلمان.
هذا هو السبب في أن المواجهة الحالية بين روسيا والغرب تدور حول أكثر من استقلال أوكرانيا، على الرغم من أهمية ذلك. قد تحدد نتيجة الأزمة أيضًا نغمة السياسة العالمية. إذا هزم بوتين الديمقراطيات الغربية، فإن أسلوبه في القيادة سيبدو مثل موجة المستقبل.
اسم المقالة الأصلي The international cult of Vladimir Putin
الكاتب جيدون راشمان، GIDEON RACHMAN
مكان النشر وتاريخه فايننشال تايمز، FT، 31/1/2022
رابط المقالة https://on.ft.com/3seF77h
عدد الكلمات 875
ترجمة وحدة الترجمة/ أحمد عيشة
————————
“الاستعدادات الروسية اكتملت”..أربعة سيناريوهات لغزو أوكرنيا
تتصاعد حدة التهديدات حول أزمة أوكرانيا، بين روسيا من جهة، وأمريكا مع حلفائها الغربيين من جهة أُخرى، وسط تحذيرات من إمكانية الغزو المحتمل من الإطاحة بحكومة كييف خلال 48 ساعة.
وكشفت مصادر استخباراتية أمريكية حديثة، أن روسيا كثفت استعداداتها لغزو واسع النطاق لأوكرانيا، و”بات لديها بالفعل 70% من القوة اللازمة لتنفيذ عملية كهذه”.
وقال مسؤولون أميركيون، حسب صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، إن “الوجود الروسي على طول الحدود الأوكرانية يبلغ أكثر من 100 ألف جندي، في حين قدر مسؤول أمني غربي العدد بـ 130 ألف جندي”.
وأضاف المسؤولون أن “مجموعة كتائب تكتيكية وصل عددها إلى 83 تضم كل منها نحو 750 جندياً، مهمتها شن هجوم محتمل”، في حين يبلغ عدد الجنود في هذه الكتائب أكثر من 62 ألف جندي، مدعومين بعشرات الآلاف من الأفراد لتقديم الدعم.
وحسب المصادر الاستخباراتية، التي نقلتها الصحيفة اليوم الأحد، فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يتخذ قراراً بعد بالانتقال إلى الهجوم على أوكرانيا، أم سيكون أمام خيار الغزو الجزئي لجيب دونباس.
وحسب الصحيفة، فإن الاستخبارات الأمريكية قدّرت إمكانية تطويق العاصمة الأوكرانية (كييف) خلال 48 ساعة، إذا بدأت روسيا بالغزو فعلاً.
ووفقاً للتقديرات فإن الغزو الروسي سيؤدي إلى مقتل نحول 50 ألف مدني، ونزوح ما يصل إلى خمسة ملايين شخص.
كما سيؤدي الغزو الروسي إلى مقتل ما بين “5 و25 ألف جندي أوكراني، وما بين 3 و10 آلاف جندي روسي”، حسب وكالة “AFP“.
ويأتي ذلك في وقت يتلاشى فيه الحل الدبلوماسي للأزمة بين روسيا وأوكرنيا، حسب ما قالت الصحيفة.
4 سيناريوهات حول بدء العملية
من جهتها توقعت شبكة “CNN” الأمريكية أربع سيناريوهات لموعد بدء العمليات العسكرية الروسية بأوكرانيا.
السيناريو الأول، يتوقع بدء غزو روسيا لأوكرانيا قبل ذوبان الجليد في الربيع، إذ قال الصحفي تيم مارشال للشبكة:”أفضل وقت للقيام بذلك هو الشتاء لأنه سيوفر ميزة ميكانيكية، باعتبار أن الفرق الآلية تحتاج إلى أرض صلبة متجمدة”.
أما السيناريو الثاني، حسب سام كراني إيفانز، وهو محلل أبحاث في معهد رويال يونايتد للخدمات، ومقره المملكة المتحدة، فإن قرار الغزو لا يرتبط بالطقس.
وقال إيفانز، إن “روسيا لديها تاريخ طويل من القتال فقط بالتوقيت الذي يناسب روسيا.. القوات الروسية لديها خبرة في العمل في هذه المنطقة وتتمتع عربات القتال المدرعة، بإمكانية تنقل جيدة جدًا بشكل عام حتى على التربة الرخوة جداً”.
السيناريو الثالث، حسب تقديرات الاستخبارات الأمريكية الصادرة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فإن الغزو الروسي يمكن أن يكون في وقت مبكر من العام الجاري.
ونقلت الصحيفة عن مصدر مقرب من الرئاسة في كييف:”المخابرات الأوكرانية تقدر أن التهديد من روسيا خطير، ولكنه ليس وشيكاً”.
وحسب المصدر فإنه “إذا تم إصدار أي أمر روسي بالهجوم، فسيستغرق الأمر من أسبوع إلى أسبوعين حتى تكون القوات الروسية بالقرب من الحدود جاهزة”.
روسيا: تصريحات الغرب جنون وذعر
من جهتها علقت روسيا على التقديرات الأمريكية بإمكانية غزوها لأوكرانيا، وقال النائب الأول لمندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، دميتري بوليانسكي، إن “تفكير الدول الغربية حول عدد الأيام التي يمكن أن تُهزم فيها كييف هو الجنون والذعر”.
وأضاف، حسب “روسيا اليوم“، إن “الجنون والذعر لا يزالان مستمرين..ماذا سيحدث إذا قلنا إن الولايات المتحدة يمكن أن تهزم لندن خلال أسبوع واحد وسيؤدي ذلك إلى مقتل 300 ألف شخص؟ وذلك اعتماداً على المعلومات الاستخباراتية التي لا نكشفها؟ هل يعتبر ذلك أمراً صحيحاً بالنسبة للأمريكيين والبريطانيين؟ لا. ولا يعتبر ذلك صحيحاً بالنسبة للروس والأوكرانيين أيضاً”.
ويترقب العالم ما ستؤول إليه الفترة المقبلة، حول احتمالية غزو أوكرانيا، وسط تصاعد في حدة الخطاب والتهديدات المتبادلة.
وتتخوف الدول الأوروبية من تكرار سيناريو القرم عام 2014، إذ ضمت روسيا شبه الجزيرة بعد الإطاحة بالرئيس السابق بترو بوروشنكو.
كما سيطر انفصاليون مدعومون من روسيا عام 2014، على أجزاء من الأراضي الشرقية لأوكرانيا.
————————
===========================
تحديث 07 شباط 2022
————————–
واشنطن: الغزو الروسي خلال اسابيع..وجسر جوي لتسليح أوكرانيا
قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إن روسيا قد تغزو أوكرانيا في غضون أيام أو أسابيع، لكن لا يزال بإمكانها اختيار مسار دبلوماسي للمضي قدماً.
وأضاف في لقاء مع شبكة “إيه.بي.سي نيوز” أن أي إجراء روسي محتمل يمكن أن يشمل ضم منطقة دونباس الأوكرانية، أو شن هجمات إلكترونية، أو غزواً واسع النطاق لأوكرانيا.
وأكد سوليفان أن الهدف من إرسال القوات الأميركية ليس “إشعال” حرب مع روسيا، وذلك بعدما نشرت 3000 جندي إضافي في ألمانيا وأوروبا الشرقية، وقال إن “الرئيس كان واضحاً على مدى شهور بأن الولايات المتحدة لا ترسل قوات من أجل إشعال حرب أو القتال في حرب ضد روسيا في أوكرانيا”، مضيفا “أرسلنا قوات إلى أوروبا للدفاع عن أراضي (دول منضوية في) حلف شمال الأطلسي”.
يأتي ذلك في وقت كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية أن الولايات المتحدة وعدداً من دول حلف شمال الأطلسي “ناتو” ترسل أسلحة وذخائر إلى أوكرانيا “لردع روسيا”، ولهذا الغرض تم إنشاء “جسر جوي”.
وأضافت الصحيفة أن الولايات المتحدة وتحالفاً غير رسمي من دول في “ناتو” تقوم بتشغيل وإدارة جسر جوي لشحن المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا، حيث تنقل الأسلحة والذخيرة التي طلبتها كييف “لمقاومة روسيا وردع أي غزو محتمل”.
ونقلت عن مسؤول أميركي أن أوكرانيا تعاني من نقص حاد في الذخيرة. وقال متحدث باسم البنتاغون للصحيفة: “الإمدادات مستمرة. الولايات المتحدة تحدد معدات إضافية مخزنة في مستودعات وزارة الدفاع”.
وأوضحت الصحيفة أنه منذ 22 كانون الثاني/يناير، عندما وافق الرئيس الأميركي جو بايدن على تخصيص مساعدات عسكرية لأوكرانيا، هبطت ثماني طائرات شحن أميركية في كييف. في المجموع، أرسلت الولايات المتحدة حوالي 650 طناً من الأسلحة والمعدات إلى أوكرانيا. كما أرسلت دول “ناتو”، بما في ذلك بريطانيا ودول البلطيق “الكثير من الأسلحة”، وستقوم بولندا والتشيك بتسليم أوكرانيا شحنات من الأسلحة في المستقبل.
من جهتها، زودت الولايات المتحدة كييف بذخيرة من عيارات مختلفة، وقنابل يدوية بسعات مختلفة، وخراطيش ذات عيار كبير، ومئات الآلاف من الذخائر المضادة للدبابات، ورصاصات إضافية من عيار 7.62 للأسلحة الصغيرة التي تعود إلى الحقبة السوفيتية المنتشرة على نطاق واسع والمستخدمة في الجيش الأوكراني.
ويشهد الاثنين حركة دبلوماسية مكثفة تهدف إلى محاولة نزع فتيل الأزمة الأوكرانية، إذ يستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما يلتقي المستشار الألماني أولاف شولتس الرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن.
ويُتوقّع أن يصل ماكرون الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إلى موسكو بعد الظهر وقد يتواصل اجتماعه مع بوتين حتى المساء، على أن يُختتم بمؤتمر صحافي مشترك بحسب الإليزيه.
وقال الكرملين الاثنين، إن اللقاء المقرر بين ماكرون وبوتين في موسكو “مهم جداً”، غير أنه لا يمكن ترقب “اختراق” كبير خلاله من أجل خفض التصعيد في الأزمة الأوكرانية. وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف إن “الوضع أكثر تعقيداً من توقع اختراق حاسم خلال لقاء واحد”.
ووصف بيسكوف زيارة ماكرون بأنها “مهمة جدا” في وقت تتولى فرنسا حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي. وترقب محادثات “جوهرية ومطولة” بين الرئيسين، مشيراً إلى أن “ماكرون قال لبوتين إنه يأتي حاملاً أفكاراً من أجل خيارات محتملة لتحقيق انفراج في التوتر في أوروبا”.
وقالت الرئاسة الفرنسية الجمعة إن ماكرون وبوتين عازمان على “المضي إلى جوهر الأمور” خلال اجتماعهما، من خلال درس إجراءات “خفض التصعيد” في الأزمة على حدود أوكرانيا.
وتحدث ماكرون الأحد مع بايدن هاتفيا. وأوضحت الرئاسة الفرنسية أن الاتصال الذي استمر 40 دقيقة جزء من “منطق التنسيق” قبل زيارة الرئيس الفرنسي إلى موسكو ثم توجهه الثلاثاء إلى كييف حيث سيلتقي الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وقدّرت الاستخبارات الأميركية أن روسيا بات لديها فعليا 70 في المئة من القوة اللازمة لتنفيذ غزو واسع النطاق لأوكرانيا ويمكن أن تكون لديها القدرة الكافية، أي 150 ألف جندي، لتنفيذ هجوم خلال أسبوعين. لكن كييف لطالما حاولت التخفيف من المخاوف بإمكان حصول هجوم وشيك، وذلك في إطار سعيها إلى تجنب إلحاق أذى إضافي باقتصادها المتداعي.
وكتب وزير الخارجية الأوكراني ديمترو كوليبا في تغريدة: “لا تصدقوا التوقعات المدمرة. عواصم مختلفة لديها سيناريوهات مختلفة، لكن أوكرانيا مستعدة لأي تطور”. وأضاف “اليوم أوكرانيا لديها جيش قوي ودعم دولي غير مسبوق وإيمان الأوكرانيين ببلدهم. العدو يجب أن يخاف منّا”.
المدن
————————————–
“الضمانات الأمنية”.. العزوف الغربي عن طمأنة موسكو يرفع حرارة المواجهة
نشرت روسيا يوم 17 ديسمبر الماضي، مشاريع اتفاقات مع الولايات المتحدة والدول الأعضاء في الناتو، تشمل بنوداً حول “ضمانات أمنية” متبادلة في أوروبا، بما في ذلك عدم نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في مناطق الوصول إلى أرض الخصم وتخلي الحلف عن مواصلة توسعه، وتقرر إجراء مفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة بشأن المقترحات الروسية في 10 يناير في جنيف، بجانب عقد اجتماع لمجلس روسيا والناتو في بروكسل في 12 يناير، ثم إجراء محادثات بين روسيا ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في فيينا يوم 13 يناير.
المحادثات الروسية الغربية، هي على خلفية اتهامات مستمرة من قبل أعضاء الناتو والسلطات في كييف حول حشد روسيا لقواتها قرب حدود أوكرانيا وتحذيرات متكررة من قبل الحلف من شن موسكو “أي عدوان جديد” على الأراضي الأوكرانية، فيما تطالب موسكو الغرب بتقديم ضمانات قانونية ملزمة لتخليهم عن فكرة توسع الناتو شرقا وضم أوكرانيا إلى الحلف وإنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفيتية السابقة.
اجتماع طارئ للناتو
وعليه، عقد وزراء خارجية الناتو في السابع من يناير، اجتماعاً طارئاً لمناقشة المتطلبات الأمنية لروسيا، في محاولة للتوصل إلى موقف مشترك، وأشار الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إلى أنه يريد أن يناقش في الاجتماع القضايا المتعلقة بأمن أوروبا “ولا سيما الوضع في أوكرانيا وما حولها”، ودعا وزراء خارجية الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي إلى “الدبلوماسية والحوار وخفض التصعيد” في العلاقات مع روسيا، وقالت البعثة الأمريكية لدى الناتو، في تغريدة نشرتها إنهم “أكدوا الوحدة رداً على العدوان الروسي ضد أوكرانيا”.
لكن تلك الاجتماعات والتصريحات الصادرة عن المشاركين فيها، لم تشجع موسكو كثيراً، إذ قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغى ريابكوف في التاسع من يناير، إن توقعات بلاده بشأن المحادثات الروسية – الأمريكية بجنيف واقعية، وأن موسكو ليست متفائلة بعد سماع تصريحات واشنطن وبروكسل الأخيرة، كذلك لم يستبعد ريابكوف أن يقتصر الحوار مع الولايات المتحدة في جنيف حول الضمانات الأمنية على اجتماع واحد، ما لم تظهر الولايات المتحدة رغبة في مناقشة مخاوف موسكو.
مفاوضات مع أمريكا
ورغم ذلك، فقد حط الوفد الروسي في جنيف، في التاسع من يناير، للمشاركة في المفاوضات الروسية الأمريكية حول الضمانات الأمنية، فيما أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة وروسيا يمكنهما تحقيق تقدم بشأن قضايا أمنية تهم كلا الطرفين، بينما اعتبر الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبيرغ، أن خطر اندلاع نزاع بين الحلف وروسيا لا يزال قائماً، لكن ثمة إمكانية لتحقيق حل سياسي للخلافات العالقة بين الطرفين.
فيما أكد مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية والأمنية، جوزيب بوريل، أن على الاتحاد خوض حوار مع روسيا وردعها في آن واحد، محذراً موسكو من “تبعات خطيرة” في حال مهاجمتها أوكرانيا، لتختتم في العاشر من يناير، جولة المفاوضات الروسية الأمريكية في جنيف، التي استمرت نحو 7.5 ساعة، وجرت خلف الأبواب المغلقة في مقر بعثة الولايات المتحدة.
وأعلنت روسيا أنها أجرت مفاوضات “صعبة ومهنية” مع الولايات المتحدة حول ملف الضمانات الأمنية، مشددة على أنها أوضحت للطرف الأمريكي ضرورة عدم توسع الناتو، وذكرت أن هناك “قاعدة للاتفاق”، وأكد سيرغي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، أن بلاده تشعر بالقلق بسبب احتمال إقدام السلطات الأوكرانية على استفزازات متعمدة قد تزيد من مخاطر اندلاع مواجهة في المنطقة.
بينما رحبت الرئاسة الأوكرانية بـ”جهود” القوى الغربية وروسيا الرامية إلى خفض حدة التوتر بشأن أوكرانيا في إطار سلسلة من المحادثات، مع تأكيد وزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا، أن الدول الغربية لن تعطي ضمانات ملزمة قانوناً لروسيا بتخلي حلف الناتو عن التوسع شرقاً.
مفاوضات مع الناتو
ثم انطلقت في العاصمة البلجيكية بروكسل في الثاني عشر من يناير، جلسة مفاوضات بين روسيا وحلف الناتو بغية مناقشة مقترحات موسكو حول الضمانات الأمنية، حيث اعتبرت وزارة الدفاع الروسية أن العلاقات بين روسيا والناتو هبطت إلى مستوى منخفض لدرجة حرجة، متهمة الحلف بتجاهل مبادراتها لتخفيف التوتر “ما يثير بوادر لنشوب نزاعات”، بينما أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، إن سلسلة المفاوضات التي جرت مع الولايات المتحدة والناتو، حول الضمانات الأمنية لروسيا، لم تكن ناجحة.
مشيراً إلى أنه خلال المشاورات في جنيف وبروكسل بين روسيا من جهة والولايات المتحدة والناتو من جهة أخرى، حول القضايا الأساسية، تم تسجيل وجود خلافات، وهذا أمر سيء، فيما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن موسكو تتوقع أن يسلم الغرب إليها اقتراحاته بشأن مبادرتها بخصوص الضمانات الأمنية في غضون أسبوع، بينما أعلن السفير الروسي لدى واشنطن أناتولي أنطونوف أن روسيا ستبت في مواصلة حوارها مع الولايات المتحدة والناتو بعد تلقيها جواباً مكتوباً على مقترحاتها للضمانات الأمنية، مؤكداً أن التوسع المحتمل لحلف الناتو شرقا، يمثل أحد أخطر التهديدات للأمن القومي الروسي.
في حين رفض حلف شمال الأطلسي مطلب روسيا بسحب القوات الأجنبية التابعة له من بلغاريا ورومانيا، مندداً بمبدأ إقامة دوائر نفوذ في أوروبا، وقالت المتحدثة باسم الناتو، أوانا لونجيسكو، في الواحد والعشرين من يناير: “إن حلف شمال الأطلسي يبقى متيقظاً ويواصل تقييم ضرورة تعزيز الحد الشرقي لتحالفنا”، أما وزارة الخارجية الأمريكية، فقد أكدت أن واشنطن تأخذ بعين الاعتبار رأي الدول الأوروبية أثناء تحضير الرد على المقترحات الروسية حول الضمانات الأمنية في أوروبا.
وقال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إن بلاده سترسل رداً مكتوباً على مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية، وستنتظر جواب موسكو، بينما أكد الأمين العام للناتو ينس ستولتنبيرغ، على عزم الحلف تسليم رد نصي لموسكو، على مقترحاتها بشأن ضمانات الأمن، بالتزامن مع تسليم واشنطن ردها لروسيا.
الردّ المكتوب
وفي السادس والعشرين من يناير، أكدت وزارة الخارجية الروسية أن السفير الأمريكي لدى موسكو، جون ساليفان، سلمها رد الولايات المتحدة الخطي على المقترحات الأمنية التي تقدمت بها روسيا، وأعربت موسكو، عن تشاؤمها إزاء رد الولايات المتحدة وحلف الناتو، موضحة أنهما لم يتجاوبا مع مباعث القلق الرئيسية للجانب الروسي.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أول تعليق من موسكو على رد الولايات المتحدة الخطي على مبادرة الضمانات الأمنية: “لا تضم أي رد إيجابي بشأن المسألة الرئيسة”، وهي طلب موسكو بوقف استمرار تمدد حلف الناتو شرقا ونشر منظومات هجومية من شأنها أن تشكل خطراً على أراضي روسيا.
في وقتاً قالت فيه وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، في الأول من فبراير الجاري، أن الولايات المتحدة تلقت “رداً مكتوباً” من موسكو على مقترحاتها بخصوص الضمانات الأمنية في أوروبا وحول الأزمة الأوكرانية، فيما سربت صحيفة “إل باييس” الإسبانية في الثاني من فبراير، النص الكامل لرد الولايات المتحدة وحلف الناتو على مبادرة الضمانات الأمنية التي تقدمت بها روسيا إليهما في منتصف ديسمبر الماضي.
وثائق مسربة
وعرضت وثيقتان باللغة الإنجليزية تضم إحداهما (المؤلف من خمس صفحات) الرد الخطي على المبادرة الروسية من قبل الولايات المتحدة، والآخر (المؤلف من أربع صفحات) رد الناتو، وضمت الوثيقتان أساساً أفكاراً سبق أن جاءت على لسان مسؤولين غربيين، أو وردت في وسائل إعلام نقلاً عن مصادر رسمية، منها رفض طلب موسكو بوقف تمدد حلف شمال الأطلسي شرقاً، مع التأكيد على التزام الحلف بـ”سياسة الأبواب المفتوحة”، وقد أكد المتحدث باسم “البنتاغون” جون كيربي صحة ما سرّب.
نتيجة ليست على هوى روسيا بكل تأكيد، وهو ما رفع حرارة المواجهة في شرق أوروبا، في ظل التحشيد المتواصل للطرفين الروسي والغربي، حيث كان ممكناً للضمانات الأمنية من أن تخفف حدة التصعيد، أما وقد فشلت موسكو في الحصول عليها، فإن احتمالات المواجهة الفعلية هي أكثر مما كانت عليه قبل المباحثات مع الأمريكيين والناتو.
ليفانت-خاص
إعداد وتحرير: أحمد قطمة
——————————–
=======================
تحديث 08 شباط 2022
—————–
أبعاد خليجية في الأزمة الأوكرانية/ السر سيد أحمد
جرياً على عادتها كل أربع سنوات، قامت الشبكة الأوروبية لنظام موزعي الغاز العام الماضي بعمل تمرين لمواجهة أي كوارثَ محتملة. التمرين اشتمل على عمليات محاكاة لعشرين إمكانية لحدوث كوارث، وخلصت إلى أن البنية التحتية لنظام توزيع الغاز يعمل بكفاءة جيدة. لكن أيّاً من هذه التمارين لم يتطرق إلى احتمال أن تغزو روسيا أوكرانيا، وأن ترد الدول الغربية على ذلك بإجراءات مقاطعة وحظر اقتصادي يمكن أن يدفع موسكو إلى الرد بوقف صادرات الغاز إلى العديد من دول الاتحاد الأوروبي، علماً أن روسيا توفر حوالي ثلث الاحتياجات الأوروبية من الغاز مما يخلق فجوةً ضخمة في الإمدادات قد يصعب تعويضها.
مؤخراً، استقبل الرئيس الأمريكي جو بايدن في البيت الأبيض أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، وأرفق إعلانه عن أن قطر تمثل حليفاً مهماً خارج الناتو، بالطلب أن تعمل الدوحة على استغلال قدراتها في ميدان صادرات الغاز الطبيعي، ومساندة الجهود الهادفة إلى التقليل من تأثير ورقة ضغط إمدادات الغاز التي بيد بوتين. فقطر تعتبر ثالث أكبر مصدّر للغاز الطبيعي في العالم بعد كل من روسيا والولايات المتحدة، ولديها خطة طموحة لزيادة طاقتها الإنتاجية من الغاز من 77 مليون طن في العام، في الوقت الحالي إلى 127 مليون طن في غضون خمس سنوات.
ومع أن واشنطن بدأت قبل فترة، وعبر مستشار وزارة الخارجية لأمن الطاقة، أموس هوشستاين، في الحديث مع الدوحة وعواصمَ أخرى في هذا الأمر، إلا أن المسؤولين القطريين أوضحوا بجلاء أن أي حلول يسهمون فيها ستكون مؤقتةً وقصيرة الأجل، ولن تتمكن من تغطية الاحتياجات الأوروبية بنسبة كبيرة. ويتركز ما يمكن أن تقدمه قطر بصورة رئيسية في اللجوء إلى بعض مخزوناتها، وأيضاً تحويل بعض شحنات الغاز المتجهة نحو الأسواق الآسيوية إلى أوروبا. وهي في هذا تحتاج إلى أن تأخذ واشنطن زمام المبادرة، وأن تتحدث مع زبائنها الآسيويين أمثال اليابان وكوريا الجنوبية. وكانت قطر قد مرت بتجربة مماثلة عندما قامت بتحويل بعض شحناتها إلى اليابان في 2011 إثر حادثة المفاعل النووي في فوكوشيما.
محدودية الإسهام القطري تعود إلى عاملين: أولهما أن معظم صادرات الغاز القطري أصبحت تتجه إلى السوق الآسيوية، وذلك وفق تعاقدات طويلة الأمد تصل إلى 20 عاماً. ونتيجةً لهذا فإن متوسط حجم الصادرات القطرية إلى آسيا تبلغ حوالي خمسة ملايين طن في الشهر مقابل مليون طن للأسواق الأوروبية. وفي الواقع، كانت تلك الصادرات تتوزع بالتساوي بين السوقين، لكن ومنذ العام 2018 قامت المفوضية الأوروبية بالبدء بتحقيقات حول أسلوب التعاقدات القطرية طويلة الأمد لِما رأت فيها من شبهة احتكارية، وهو ما دفع الدوحة إلى تقليص صادراتها إلى الأسواق الأوروبية، وهذا ما يشكل العامل الثاني في الرد القطري. ويبدو أن الدوحة ألمحت في حواراتها مع المسؤولين الأمريكيين إلى هذه النقطة، وأنها في إطار التوسع الإنتاجي الذي تخطط له، فإنها ترغب في تعزيز حصتها في السوق الأوروبية، وتأمل في تعبيد الطريق لذلك عبر إنهاء التحقيق في شبهة الاحتكار هذه، بما يسمح بالمضي قدماً في تعاقدات طويلة الأمد.
الوضعية الراهنة لسوق الإمدادات هذه كانت من العوامل التي دفعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى التصعيد بخصوص علاقة بلاده وأوكرانيا والغرب، كما يرى بعض المحللين، إضافةً إلى توقيت فصل الشتاء حيث يزداد الطلب على الغاز للتدفئة. وتقدر دراسة لـ” جى.بي.مورغان شيس” أن إجمالي فاتورة الطاقة بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي يتوقع لها أن تصل هذا العام إلى ترليون دولار وكانت 500 مليار قبل ثلاث سنوات فقط.
السؤال الرئيسي الذي لا يزال يبحث عن إجابة قاطعة هو عن هدف بوتين، وما يأمل في تحقيقه من خلال هذا الموقف، وعن مدى استخدام موسكو لسلاح الغاز الطبيعي، وإذا كان سيقوم بإغلاق أنابيب الغاز إلى مختلف الدول الأوروبية، أم سيقتصر الأمر على كميات الغاز التي تمر عبر أوكرانيا فقط؟
المتابعون للشؤون الروسية يشيرون إلى أن صادرات روسيا من النفط والغاز ظلت على الدوام تشكل مورداً مهماً للعملات الصعبة للخزينة الحكومية، وأنه حتى في ظل أسوأ فترات الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، لم تتأثر تلك الصادرات، ولم تلجأ موسكو إلى سلاح وقفها أو تقييد تدفقها إلى الدول الغربية.
يبقى احتمال وقف صادرات الغاز التي تمر عبر أوكرانيا. وفي هذه الحالة، فإن أكثر الدول التي ستتأثر بهذه الخطوة ستكون سلوفاكيا والنمسا وإلى حد ما إيطاليا، لكن التركيز سيكون فعلاً على ألمانيا، التي تعتمد على الغاز الروسي بصورة كبيرة تصل إلى نصف وارداتها، وذلك بعد أن عملت على إلغاء استخدام الفحم لأسباب بيئية، كما أنها وفي رد فعل على حادثة فوكوشيما في اليابان، قررت تعليق عمليات توليد الطاقة من المفاعلات النووية، وهو ما يصفه البعض بأنه كان قراراً متعجلاً من قبل المستشارة السابقة ميركل لأنه جعل بون أكثر اعتماداً على موسكو، وأقل قدرة على اتخاذ مواقف مناوئة لها.
الموقف الألماني
حتى الآن، يبدو المسؤولون الغربيون غير واثقين من المدى الذي يمكن أن تذهب إليه ألمانيا في مساندة أي مواقف صارمة في مواجهة موسكو. فألمانيا رفضت إرسال أسلحة دفاعية إلى أوكرانيا، وطلبت من حلف الناتو أن يسحب الأسلحة الألمانية من الشحنات التي سيرسلها إلى هناك، كما أن المستشار أولاف شولز قام بخطوة ذات مغزًى أجّل اجتماعاً له مع رصيفه الأمريكي بايدن في واشنطن، وأهم من ذلك أنه لم يتحدث علانيةً بأنه سيلتزم بعدم تشغيل خط الغاز نورد ستريم-2 إذا قامت موسكو بغزو أوكرانيا، وهو الخط الذي اكتمل بناؤه العام الماضي، وسيقوم بنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا.
وخط نورد ستريم-2 يأتي استكمالاً لخط نورد ستريم-1، وقد كلف إنشاؤه 11 مليار دولار لنقل الغاز الروسي من غرب سيبيريا من خلال شركة غازبروم الروسية إلى ألمانيا. ثم أنه يكتسب أهمية جيوستراتيجية كونه يتجاوز أوكرانيا من ناحية، ويجردها من ملياري دولار كانت تحصل عليها كرسم عبور، إضافةً إلى تدفئة 26 مليون منزل في ألمانيا. كما أنه عزز من الشقاق بين واشنطن وبون، لكنه لا يزال في انتظار استكمال بعض التشريعات وإجراءات المصادقة اللازمة ليبدأ العمل. وهكذا يبدو، وبصورة عامة أن الاحتمال الكبير حتى الآن هو أن أي خطوة روسية لاستغلال إمداداتها من الغاز كورقة ضغط على الغرب، يمكن أن تؤدي إلى خسائر ومتاعب مالية للأوروبيين، أكثر من تحقيقها لمعاناة حسية بسبب البرد.
وهناك جانب آخر يتعلق بالآثار غير المباشرة للعقوبات التي قد تُفرض على روسيا، وقد تنعكس على الشركات النفطية الغربية العاملة في روسيا، مما يمكن أن يؤثر على عمليات هذه الشركات ولو بصورة غير مباشرة، خاصةً إذا توسعت هذه العقوبات في المجالات التقنية. ومن الشركات المرشحة للتأثر بصورة ما شركة بريتش بتروليوم مثلاً التي لها حصة 20 في المئة في شركة “روزنفط” الروسية، وكذلك كل من شركتي شل وأكسون/ موبيل وتعملان في حقل “سخالين” الضخم للغاز الطبيعي غرب سيبيريا.
ومع أن واشنطن عملت على السير بحذر في مجال تطبيق العقوبات في ميدان الطاقة بصورة مباشرة، خوفاً من انعكاسات ذلك على السوق التي تشهد ارتفاعاً في أسعار النفط متجاوزةً أعلى معدل لها حققته منذ تسع سنوات. وهنا أيضاً تتجه الأنظار الأمريكية إلى حليف خليجي آخر وهو السعودية التي تتمتع بطاقة إنتاجية إضافية تتجاوز مليوني برميل يومياً، ولو أن تجارب إدارة بايدن السابقة مع الرياض تشير إلى أن للأخيرة حساباتها المختلفة، إذ رفضت العام الماضي طلباً حمله مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إلى ولي العهد محمد بن سلمان بزيادة الإنتاج، بعد أن أصبحت أسعار الوقود المرتفعة همّاً اقتصادياً للمستهلكين الأمريكان، وأثرت في رفع وتيرة التضخم، مع انعكاسات ذلك سياسياً على الإدارة التي تواجه انتخابات نصفية للكونغرس يمكن أن تجرد الديمقراطيين من سيطرتهم الحالية عليه.
هل تغلَق أنابيب الغاز الروسي إلى مختلف الدول الأوروبية، أم سيقتصر الأمر على تلك التي تمر عبر أوكرانيا؟ المتابعون فصادرات روسيا من النفط والغاز ظلت على الدوام تشكل مورداً مهماً للعملات الصعبة للخزينة الحكومية، وأنه حتى في ظل أسوأ فترات الحرب الباردة ، لم تتأثر تلك الصادرات، ولم تلجأ موسكو إلى سلاح وقفها أو تقييد تدفقها إلى الدول الغربية.
كلف إنشاء خط نورد ستريم-2، 11 مليار دولار لنقل الغاز الروسي من غرب سيبيريا إلى ألمانيا. وهو يكتسب أهمية جيوستراتيجية كونه يتجاوز أوكرانيا من ناحية، ويجردها من ملياري دولار كانت تحصل عليها كرسم عبور، ويوفر تدفئة 26 مليون منزل في ألمانيا. لكنه لا يزال في انتظار استكمال بعض التشريعات وإجراءات المصادقة اللازمة ليبدأ العمل.
من ناحية أخرى، فإن أي إغلاق كامل لخطوط أنابيب الغاز سيكلف شركة غازبروم، المزود الروسي بإمدادات الغاز، ما بين 203 مليون دولار إلى 228 مليون دولار يومياً، وهو ما يمكن لموسكو تحمله على المدى القصير كونها تتمتع برصيد كبير من احتياطيات النقد الأجنبي يصل إلى 600 مليار دولار. لكن يبقى الثمن الأكبر بالنسبة للخسائر على المدى البعيد بالنسبة لشركة غازبروم، إذ سيصبح السؤال عن مدى الوثوق بها مزوداً مؤتمناً وقادراً على الوفاء بتعاقداته، وهو ما يمكن أن يتجاوز الأوروبيين وينسحب حتى على الصين، على الرغم من العلاقة الجيدة التي تربطها في الوقت الحالي بروسيا، وتمثل إمدادات النفط والغاز أحد عناصرها المهمة.
السفير العربي
————————–
في سيناريوهات الأزمة الأوكرانية .. الحرب والفوضى/ مدى الفاتح
منذ ألمح حلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى أنه يدرس ضم أوكرانيا إليه، توترت الأجواء في المنطقة، حتى وصلت إلى مشهد احتشاد عشرات آلاف من الجنود والمركبات العسكرية الروسية على طول الحدود مع أوكرانيا، بما شمل قوات الحرس الوطني المكلفة بتوفير خدمات الحرب اللوجستية. ويدرك المتأمل في الأزمة أنّها شديدة الدقة والتعقيد، وهو تعقيدٌ يحاول الأميركيون تجاوزه، حينما يتساءلون ببراءة: ما هي المشكلة في أن تنضم أوكرانيا إلى حلف الناتو؟ وكيف يمكن لروسيا أن تسمح لنفسها بتحديد حدود الحلف؟
ليس الأمر بهذه البساطة، فبالنسبة إلى روسيا لا تعتبر أوكرانيا مجرّد عمق استراتيجي، وإنّما هي خط أحمر فعلي. وإذا كان الاتحاد السوفييتي سمح، في أواخر أيامه، بأن يوحد الألمانيتين، وأن يمنح الكثير من جمهورياته السابقة استقلالها، فقد كان اشترط أن يحافظ الغربيون على أمنه، وأن يعدوا بألّا يتم توسيع الحلف شرقاً، غير أنّ الدول الأطلسية، وفق المنطق الروسي، هي التي أخلّت بهذا التعهد، وسمحت للحلف بأن يتمدّد بشكل مقلق.
خلال الأسابيع الماضية، كان هناك جدل كثيف حول الموضوع. وكان من الواضح أنّ روسيا مستعدّة للذهاب إلى أبعد نقطة من أجل حماية أمنها. وقد بدا المعسكر الغربي، بجميع مكوناته، في خانة العاجز عن اتخاذ قرار، لعدة أسباب، أهمها عدم وجود توافق أو استعداد لحربٍ لا يستطيع أحد أن يعرف كيف ستنتهي.
يجادل الأميركيون بأنّ روسيا نفسها ليست مستعدةً، في الوقت الحالي، لمواجهة قاسية، فحتى لو تحوّل الصراع إلى مجرد حرب باردة أو ضغوط اقتصادية قاسية، فإنّ ذلك سيكون مؤلماً جداً للاقتصاد الذي يعاني حالياً من تراجع. ويجمع الخبراء بالشأن الروسي في المقابل على أنّ المراهنة على ذلك خاطئة، وأنّ تعزيز العقوبات لن يمنع الروس من التدخل العسكري، لأنّ الأولوية آنذاك ستكون للأمن القومي. أما قول بعضهم إنّ العقوبات الجديدة قد تؤدّي إلى ثورة في داخل روسيا أو تغيير في نظامها فيبدو مبالغاً فيه.
الانقسام الأكبر هو على الصعيد الأميركي، فبينما ترى أقلية أنّه يجب الدفاع عن أوكرانيا الحليفة بأيّ ثمن، ترى مجموعات أخرى أنّ هذه معركة غير مفيدة، ويمكن أن تدخل الأميركيين في مشكلاتٍ هم في غنى عنها. الولايات المتحدة المهزومة في أفغانستان، والتي لم تستطع إجبار إيران على اشتراطاتها من أجل العودة إلى الاتفاق النووي، يمكن أن تكون باحثة عن انتصار عسكري لاسترجاع هيبتها، لكنّ المؤكد أنّ الحلبة الأوكرانية ليست المكان المناسب لذلك. واليوم تستشعر روسيا التي تمدّدت في دول أفريقية كثيرة، وأوجدت تحالفات مهمة مع دول كثيرة، أنّها قوية كفاية لفرض شروطها ولتصحيح الأخطاء التي أفضت إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي. المطلب الأول للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اليوم، عدم قبول دول جديدة في حلف الناتو، ونزع المنظومات الأطلسية التي تم وضعها في دول مجاورة، وباتت تهديداً. بالنسبة للغربيين، يبدو الأمر وكأنّ روسيا تطالب بإيجاد منطقة عازلة، أو كأنّها تسعى إلى إعادة عقارب التاريخ إلى حقبة نهاية الثمانينيات. وقد أعاد وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، التأكيد على وجهة النظر الروسية، حينما قال، في رسالة إلى وزراء خارجية منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، إنّه يجب إيجاد توازن ما بين حرية اختيار التحالفات وحق الدول في تعزيز أمنها وما بين ضمان ألّا يهدد ذلك دولاً أخرى.
التنازل الروسي مستبعد. لكن يمكن لموسكو أن تستخدم أوراقاً أخرى غير الحرب لتحقيق أهدافها، فإذا استطاعت استبدال الرئيس الأوكراني المعادي زيلينسكي برئيس موالٍ لها، كما هو الحال في معظم الجمهوريات السوفييتية السابقة، فإنّ الأزمة ستنتهي، وكذلك إذا وصلت السلطة الحالية إلى قناعة مفادها بأنّه لن يكون في مقدورها الاستمرار في تحدّي الجار الكبير، خصوصاً بعدما ثبت أنّ الدول الغربية ليست جاهزة لخوض معركة من أجلها، وأنّها، في الغالب، ستتخلى عنها كما فعلت في عام 2014، حينما سمحت لروسيا باستعادة شبه جزيرة القرم.
على الرغم من ذلك، لا يزال سيناريو الحرب المباشرة الساعية إلى احتلال أوكرانيا أو لاقتطاع أجزاء منها، كدونباس، غير واقعي. ولا يستبعد مركز استراتيجيات الدفاع الأوكراني، في تقرير له، أن تكون الحرب المقبلة هجينة، بمعنى أنّها لن تقتصر على الغزو العسكري، وإنّما قد تشمل الهجوم السيبراني وحرب المعلومات والحرب النفسية أيضاً. وأوكرانيا في موقف لا تُحسد عليه، فهي ليست مقبولة أطلسياً، ما يجعل حرص الغرب على ضمان سلامتها واستقلالها محل شكّ، كما أنّها تتبع، في الوقت ذاته، سياسة تحدٍّ ضد جارتها الإقليمية الكبرى. الوضع اليوم أنّها محاصرة من الجبهة الروسية ومن جبهة بيلاروسيا الحليفة لروسيا أيضاً، وهو ما يجعلنا نتوقع حرباً متزامنة على جبهتين. وللمخاوف الأوكرانية ما يبرّرها، فالواضح، على الأقل بالنسبة لدول الغرب الأوروبي، أنّ هذه الدول تسعى إلى حفظ علاقتها مع روسيا، ولا ترى فيها مهدّداً استراتيجياً، قياساً على دول أخرى كالصين، وهو ما عبر عنه قائد البحرية الألمانية، الأميرال شونباخ، حينما اعتبر إبّان تقديم استقالته أنّ الدخول في حربٍ مع روسيا حماقة لأنّها مسيحية.
كانت الأزمة الأوكرانية أحد بنود زيارة أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، فتهديد توريد الغاز الطبيعي إلى الدول الأوروبية يظلّ من أهم انعكاسات الأزمة، وهو كارثة حقيقية على الدول الأوروبية التي تستورد نصف غازها من روسيا. وعلى الرغم من أنّ دولة قطر من أهم منتجي الغاز العالميين، إلّا أنّ تحولها بديلاً للغاز الروسي ليس أمراً سهلاً، وتكتنفه صعوبات وتعقيدات لوجستية وفنية متعددة، هي التي جعلت النسبة الحالية من الغاز القطري المصدّر إلى أوروبا قليلة جداً.
تشغل الأزمة الأوكرانية أيضاً الدول الإقليمية المهمة كتركيا، ففي لقاء جماهيري عقده الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل أيام، في مدينة طرابزون التركية، عبر عن أمله في أن تنتهي الأزمة، موضحاً موقف بلاده التي ترفض الانحياز لأيّ طرف. تسعى تركيا اليوم إلى استغلال علاقتها الطيبة مع الطرفين للتوسط بينهما. والسؤال الأهم يظل المتعلق بمصادر الطاقة، وما إذا كان في الوسع توفر بديل يمكن التعويل عليه لمقابلة الاحتياجات الأوروبية في حال توقفت روسيا عن مدّ زبائنها بالطاقة، وهو أمر وارد في حال نشوب حرب.
هل ستُقدم روسيا على غزو أوكرانيا؟ ما زال السؤال شديد الصعوبة، فلا أحد يمكنه تخمين ما يفكر به الرئيس بوتين، وكما ذكرت مجلة “إيكونومست” في مقال أخيراً، ربما لا يملك وزير الخارجية الروسي نفسه إجابة واثقة في هذا. الأكيد اليوم أنّ دولاً كثيرة تتعامل مع فرضية الحرب بجدّية، خصوصاً بعد استقدام الأميركيين جنوداً ومعدّات وضعتهم في دول الجوار، وهو ما جعل سفارات عديدة تبدأ بإجلاء رعاياها من أوكرانيا.
ينصبّ اليوم التفكير بشأن الأثر العالمي لأيّ توغل روسي، وما سيولده من موجة فوضى، سواء إذا ما تدخلت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية، أو حتى لو لم تتدخل، وتركت أوكرانيا لمواجهة مصيرها، لأنّه في الحالة الأخيرة لن نستبعد أحداثاً أخرى، من قبيل اجتياح الصين تايوان أو سعي دول كثيرة إلى حسم خلافاتها الحدودية عن طريق القوة.
العربي الجديد
—————————
إسرائيل تخشى غضب روسيا/ بسام مقداد
الضجيج الإعلامي الغربي حول حرب قريبة بين روسيا وأوكرانيا، بل تحديد مواعيد لها خلال الشهر الجاري، لايعكس حقيقة الواقع على الأرض. على الأقل هذا ما يكرره المسؤولون الروس والإعلام الروسي منذ أسابيع، وتؤكده مصادر “المدن” في موسكو وثيقة الصلة بالمسؤولين في الخارجية الروسية. وعلى الرغم من تأكيدات كييف أيضاً بأن لا حرب وشيكة مع روسيا، إلا أن شحنات الأسلحة الغربية تستمر في التدفق على أوكرانيا، بل وطالب رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن سلطات ألمانيا بتزويد أوكرانيا بالأسلحة، حسب راديو Sputnik. لكن تصرحات كييف وتأكيدات المسؤولين الروس بأن لا حرب وشيكة مع روسيا، لا تقنع الولايات المتحدة وأوروبا بعدم إقدام بوتين على إجتياح أوكرانيا واحتلال العاصمة كييف خلال 72 ساعة فقط. وتقول مصادر”المدن” في موسكو بأن لا مجال للمقارنة بين القوتين العسكريتين الروسية والأوكرانية، فروسيا تحشد على الحدود مع أوكرانيا أكثر من 130 ألف عسكري مزودين بأحدث الأسلحة والطائرات الحربية، في حين لا تشكل القوة العسكرية الأوكرانية أكثر من 10% من القوة الروسية، وطيرانها العسكري بقي على حاله منذ العهد السوفياتي، ولم يعرف التجديد منذ اكثر من 30 عاماً.
وضع أوكرانيا العسكري هذا يضطرها لطلب تزويدها بالسلاح من جميع المصادر المتاحة، بما فيها من إسرائيل التي تربطها علاقات صداقة وثيقة معها. لكن الخشية من إثارة الغضب الروسي جعل إسرائيل ترفض الطلب الأوكرني، وهي التي تشكل مبيعات السلاح لأكثر من 130 دولة في العالم أحد المصادر الأساسية لدخلها.
صحيفة NG الروسية نشرت في 3 من الشهر الجاري نصاً بعنوان “أوكرانيا تلجأ إلى إسرائيل طلباً للمساعدة العسكرية”، وأرفقته بآخر ثانوي “كييف تبحث في الشرق الأوسط عن وسائل دفاع جوي حديثة”. تقول الصحيفة بأن وزير الخارجية الأوكراني هو الذي أعلن عن هذا الطلب، وهي ليست المرة الأولى التي تبدي فيها كييف إهتمامها في الحصول على أنظمة “القبة الحديدية” المضادة للطيران والصواريخ التي يتسلح بها الجيش الإسرائيلي. ومن المعروف أن إمدادات التقنيات العسكرية من هذا النوع تعيقها إتفاقات الجنتلمان بين روسيا وإسرائيل.
وتنقل الصحيفة عن وزير الخارجية الأوكراني قوله بأن العلاقات بين أوكرانيا وإسرائيل هي “علاقات رفيعة المستوى”، وتصريحه بأن أوكرانيا مهتمة “بتعميق التعاون مع الدولة اليهودية” في حقول الدفاعات المضادة للصواريخ والأمن السيبراني، خاصة على خلفية التناقضات المتصاعدة مع الكرملين. كما تنقل عنه ترحيبه بمحاولة إسرائيل لعب دور دبلوماسي بين أوكرانيا وروسيا. وتشير إلى أن الموقع الإخباري الإسرائيلي “كان” يقول بأن جارة روسيا (أوكرانيا) عبرت في السنوات الأخيرة عن إستعدادها لحيازة “القبة الحديدية”، إلا أن إسرائيل تسير دائماً على حبل مشدود في ما يتعلق بالعلاقات الروسية الأوكرانية.
وتقول الصحيفة أن الموقف الإسرائيلي هذا من العلاقات الأوكرانبة الروسية عبر عنه منذ أيام وزير الخارجية الإسرائيلي في مقابلة مع Axios، حيث قال “يجب علينا أن نتصرف بحذر حيال الأزمة الروسية الأوكرانية”، لأن ثالث أكبر جالية يهودية تعيش في روسيا والجالية الخامسة من حيث الحجم تعيش في أوكرانيا (الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي من عائلة يهودية). وأضاف الوزير الإسرائيلي بأنه لا يرى بأن صراعاً عسكرياً سيقع بين الدولتين في الفترة القريبة، كما لا يرى بأن “الحرب العالمية الثالثة على الأبواب”. وعلى خلفية كلام الوزير الإسرائيلي يقول موقع Axios بأن إدارة الرئيس الأميركي بايدن طلبت من إسرائيل توجيه إشارة إلى روسيا “بضرورة خفض التوتر”.
وتنقل الصحيفة عن سفير أوكراني سابق في إسرائيل قوله في رسالة مفتوحة، نشرها في حينه في صحيفة هآرتس، بأن إسرائيل لم تورد سلاحاً متطوراً لأوكرانيا منذ العام 2014، حين نشبت الأزمة شرق أوكرانيا. وتقول بأن التأكيد على وجود عقبات بوجه توريد السلاح إلى كييف أكدها منذ سنتين محيطون برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو، حيث أشاروا إلى إتفاقات غير معلنة بين روسيا وإسرائيل. وتشترط هذه الإتفاقات أن تلتزم موسكو بمطالب إسرائيل عدم بيع طهران أنواعاً معينة من الأسلحة، مقابل أن تراعي إسرائيل مصالح موسكو في الفضاء السوفياتي السابق.
وتقول الصحيفة أن أوكرانيا تقوم بخطوات لتعزيز الثفة مع إسرائيل، وتنقل عن السفير الأوكراني الحالي في إسرائيل قوله آخر السنة الماضية بأن أوكرانيا على إستعداد ليس فقط لتعزيز وجودها الدبلوماسي في القدس، بل والإعتراف بها خلال أشهر عاصمة لإسرائيل.
وتنقل الصحيفة عن ضابط إسرائيلي سابق قوله بأن التعاون العسكري بين إسرائيل وأوكرانيا كان موجوداً بالفعل حتى العام 2014، لكن إسرائيل فضلت بعدها الوقوف على الحياد للحفاظ على صداقتها مع الجانبين. غير أن الصداقة مع روسيا أهم لإسرائيل بما لايقاس من صداقتها مع أوكرانيا، وذلك لوجود قوات روسية في سوريا وجالية يهودية كبيرة في روسيا، ولكون روسيا عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي بوسعها التأثير على عمليات كثيرة في الشرق الأوسط. وليس من فرصة لأوكرانيا بتلبية طلباتها، السرية والعلنية، من الأسلحة الإسرائيلية طالما بقيت الأزمة مع روسيا مستمرة.
ولطمأنة روسيا اكثر خشية من إثارة غضبها، حظرت إسرائيل الدول التي تشتري سلاحاُ منهاً إعادة تصديره إلى أوكرانيا، خاصة دول البلطيق الثلاث القريبة منها. فقد نقلت صحيفة RBK في 5 من الشهر الجاري عن موقع Breaking Defense الأميركي قوله بأن إسرائيل حظرت على دول البلطيق توريد سلاح من صنعها إلى أوكرانيا، أو تسليمه لها عبر دولة ثالثة. وكانت أوكرانيا تنوي الحصول على انظمة مضادة للدبابات من صنع إسرائيل.
موقع روسي آخر ruposters نقل عن الموقع الأميركي عينه قوله بأن الحكومة الإسرائيلية بعثت برسالة إلى دول البلطيق تعبر فيها عن رفض مبدئي السماح بنقل أسلحة إسرائيلية إلى أوكرانيا. وسبق لدول البلطيق أن وجهت سابقاً لدول أخرى طلبات بالسماح لها بنقل أسلحة من صنعها إلى دول ثالثة. لكنها لم تتوجه هذه المرة إلى إسرائيل بطلب مماثل، بل بادرت إسرائيل هي نفسها لتوجيه رسالة إلى هذه الدول تحسباً لإقدامها على نقل سلاح إلى أوكرانيا.
موقع focusالأوكراني نشر النبأ عينه تحت عنوان آخر ” من أجل طمأنة روسيا، حظرت إسرائيل دول البلطيق من تسليم أوكرانيا سلاح من صنعها”.
موقع راديو Sputnik نشر في 4 من الشهر الجاري نبأ إستدعاء الخارجية الإسرائيلية للسفير الأوكراني في إسرائيل بسبب تصريح تناول فيه وزير الخارجية الإسرائيلي، وأعاب عليه تسمية ما يجري في الدونباس “صراعاً” وليس “حرباً”. واتهم الوزير بأنه يردد البروباغندا الروسية ويتجاهل ما يقوله “أقوى حلفائه” عن خطط روسيا لغزو أوكرانيا.
المدن
———————————–
الأزمة الأوكرانية.. بوادر سباق تسلّح وحرب باردة جديدة تلوح في الأفق/ حسام طرشة
في مقالة سابقة نشرت على تلفزيون سوريا تناولنا الأدوار والأهداف الروسية والأميركية في منطقة آسيا الوسطى. خلصت المقالة إلى أن التنافس الروسيّ الأميركيّ في المنطقة غير متكافئ، وأن من مصلحة موسكو الدخول في مفاوضات جدّيّة عميقة لعقد اتفاقيات كُبرى تؤسس للاستقرار الاستراتيجي الذي تحدث عنه بلينكن في السابع من شهر يناير/كانون الثاني هذا العام. الولايات المتحدة الأميركية تطمح إلى تأسيس هذا الاستقرار الاستراتيجيّ من خلال طاولة متعدّدة الأطراف تضمّ كلّا من الاتحاد الروسي وتركيا، بهدف زيادة الضغط على بكّين من خلال تغيير جذري في الجغرافيا السياسية غرب الصين وإخضاعها للتفاوض مع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية لدفعها باتجاه قبول الاحتواء الغربيّ والانضمام إلى طاولة المفاوضات.
التحركات الأميركية:
“أمام روسيا مساران إما الحوار والدبلوماسية لتبديد القلق بشأن الأمن أو مواجهة عواقب وخيمة” آخر تصريحات لبلينكن الجمعة 4/2/2022 الموجّهة إلى روسيا سبقتها تحرّكات أميركيّة على كافة الصّعُد. وصل عدد القواعد العسكرية الأميركية في اليونان إلى (6) قواعد عسكرية، وأرسلت بضعة آلاف من الجنود ضمن تحالف الناتو إلى الحدود الشرقيّة الأوروبيّة. كما زادت واشنطن والاتحاد الأوروبيّ من وتيرة التسليح لجمهورية أوكرانيا، ولاقى ذلك استنكارا روسيّا. أسست واشنطن تحالف (AUKUS) ثم عملت جهودا لتوسعته من خلال إطلاق حوار (QUAD) مع اليابان والهند. تتهم بكين وموسكو الولايات المتحدة الأميركية بأنها تعمل على زيادة سباق التسلّح في المنطقة وانتشار الأسلحة النووية، في الوقت الذي تهدف فيه واشنطن من هذه التحالفات إلى ضمان حرّيّة التجارة والملاحة الدولية امتدادا من المحيط الهادئ حتى المحيط الهندي بسبب زيادة نشاطات بكين في بحر الصين والتحركات باتجاه تايوان لضمّها بغية تحويل بحر الصين إلى بحيرة صينية داخلية، مما يؤدي إلى تهديد الملاحة الدولية المفتوحة على طول المحيط الهادئ والهندي. وسبق أن أجرت موسكو في أواخر العام الماضي مناورات عسكرية في المحيط الهادئ، وقبله تحرّكات أميركيّة سابقة بمناورات عسكرية ثنائية مع اليابان في بحر الفلبين تزامنا مع اختراق للمجال الجوّي التايواني من قبل الصين.
التحركات الروسيّة:
تصاعدت التصريحات والتحركات الروسية فيما يخص الأزمة الأوكرانية خلال الأيام القليلة الماضية وما تزال. كان آخرها التحركات الثنائية الروسية الصينيّة ابتداء من المناورات العسكرية بينهما في بحر العرب، وصولا إلى مخرجات القمة الروسية الصينية التي صرّحت بافتتاح عصر جديد في العلاقات الدولية وأحقّية الصين بضمّ تايوان، وإبداء القلق حيال التحالفات التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية.
وبالانتقال إلى الأزمة الأوكرانية وتصاعد تراشق التصريحات والتهديدات بين الطرفين، دعت الخارجيّة الروسيّة مؤخرا رئيسَ الوزراء البريطاني للكفَّ عن نشر المعلومات الكاذبة – على حد وصف الخارجية الروسية – حول عزم روسيا غزو أوكرانيا. هذه المزاعم من الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا زادت وتيرتها، ولم تلق استياء من قبل روسيا فحسب، فقد حذّر الرئيس الأوكراني الغرب من إمكانية إلحاق أضرار باقتصاد أوكرانيا حال الاستمرار في إثارة الذعر. كما صدرت عدّة تصريحات من الاتحاد الأوروبيّ تبدي استياءها من ذلك. فقد قال الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيب بوريل في وقت سابق، إنه لا يوجد أي سبب يدعو الاتحاد لسحب موظفيه وأسرهم من أوكرانيا. جاء ذلك قبيل مشاركته في اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي لمناقشة التوتر الحاصل بين أوكرانيا وروسيا. مما دعا المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي مؤخرا للقول بأن واشنطن “لن تصف بعد اليوم الهجوم العسكري الروسيّ المحتمل على أوكرانيا بالوشيك”، مع أن الإدارة الأميركية ما تزال تعتبر أنه “قد يحصل بأي وقت”[1]. ومع ازدياد الحشود الروسية في بيلاروسيا التي وصفت بأنها الأضخم من نوعها منذ انتهاء الحرب الباردة، وتضمّن نشر أكثر من 30 ألف جندي وطائرات مقاتلة وصواريخ إسكندر ومنظومات صواريخ S400، ثم تصريح وزير الدفاع الأوكراني عن حجم الحشودات العسكرية الروسية على الحدود الأوكرانية التي وصلت إلى 115 ألف جندي روسيّ. ولا بدّ هنا من التذكير بالمقال الذي نشره الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في 12 تموز/ يوليو 2021 على موقع “الكرملين” موجّها إلى الرأي العام الروسيّ، عن الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين. وفي المقال اعترف بوتين بارتكاب أخطاء شخصية في فترات مختلفة، وتحدّث عن انتماء شعوب روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا إلى القبائل السلافية (الروس). وشحن المقال بعبارات تاريخية من الثقافة المسيحية كعبارة القديس أوليغ عن كييف “أتمنى أن تكون هذه أم المدن الروسية”. وفي المقال يقرّ بوتين بالسيادة الحقيقية لأوكرانيا ولكنه يحصر إمكانيّة ذلك فقط بالشراكة مع روسيا الاتحادية. وختم بوتين مقالته بالقول: “لم تكن روسيا أبداً ولن تكون منهاضةً لأوكرانيا، أما كيف يجب أن تكون أوكرانيا فهذا يُقرّره مواطنوها”[2].
وباتجاه القطب الشمالي، قام الأسطول الشمالي الروسيّ بتدريبات تحاكي صد هجوم للعدوّ المفترض بالمدفعية الثقيلة وراجمات الصواريخ في القطب الشماليّ في منطقة بيتشينيغسكي بمقاطعة مومانسك شمالي غربي البلاد. شارك في هذه التدريبات مشاة الأسطول الشماليّ الروسيّ[3].
تحركات تركيّة محدودة:
بقيت أنقرة صامتة رغم انضوائها ضمن حلف الناتو إلى وقت قريب. ثم دشّن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التحركات التركيّة بدعوة الرئيس الروسيّ لزيارة تركيا لتعلن بعدها الحكومة الروسيّة عن قبول الدعوة دون تحديد وقت محدد لها. تمثل الجغرافيا الأوكرانية قضيّة متعلّقة بالأمن القوميّ التركيّ، وترفض تركيا أي تعدّ على الأراضي الأوكرانية من قبل روسيا، ولها موقفٌ واضح تجاه ضم روسيا لشبه جزيرة القرم. كما أن أنقرة لم تتردد كما هو الحال مع بعض الدول الأوروبية بخصوص تسليح أوكرانيا ودعمها بتنكولوجيا المسيّرات التركيّة كسلاح استراتيجيّ ميدانيّ في أي مواجهات مستقبلية محتملة. وقد صرّح الرئيس التركيّ رجب طيّب أردوغان عقب زيارته لأوكرانيا الخميس الفائت بقوله: بايدن لم يظهر حتى الآن نهجا إيجابيا لحل التوتر الروسي الأوكراني، مبديا استعداد أنقرة للوساطة. ورد الكرملين على هذه التحركات التركية بالقول: لا وضوح بعد بشأن مبادرة الوساطة التركية للحوار مع أوكرانيا ولا بشأن توقيت زيارة بوتين لتركيا.
تدرك تركيا أن حدودها الشمالية والجنوبيّة والشرقية تشتعل بالأزمات الكُبرى، الأزمة الأوكرانية، والأزمة السورية والعراقية، ومسألة القواعد العسكرية الأميركية في الأرخبيل اليوناني التي تهدد مصالحها وحقوقها بالغاز في شرق المتوسط. ولذلك ترتكز التحرّكات التركيّة في جميع قضايا المنطقة باتجاه التهدئة وحلّها بالأساليب الدبلوماسية، ومحاولة الاستفادة من هوامش الاختلاف والصدوع البادية في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبيّ.
الخلاصة:
تتسم التحركات الروسيّة بالفاعلية والكثافة، نظراً لكونها الجهة الفاعلة الوحيدة القادرة على التأثير في المفاوضات الأميركية لتأسيس الاستقرار الاستراتيجي للنظام الدوليّ، وهي الدولة الوحيدة القادرة على ممارسة دور مركزيّ في احتواء الصّين وضمّها إلى طاولة المفاوضات الأميركية. تريد موسكو تقوية موقفها في المفاوضات، ويبدو أنه هو الأقوى “ظاهريّا”. وتعتمد أميركا بشكل أساسيّ على الاستجابة الروسيّة لتحقيق تطلّعاتها في المنطقة الممتدة من أواسط آسيا وصولا إلى بحر الصين.
سباق للتسلّح بدأ، وبوادر حرب باردة جديدة تلوح في الأفق من المستبعد أن تتطوّر إلى حرب حقيقيّة، تمارس من خلالها الولايات المتحدة الأميركيّة والغرب ضغطاً كبيرا على كلّ من روسيا والصين وتركيا بشكل أساسيّ يبدو – حتى الآن – أنه لم ينجح، إذ قامت روسيا بالتحرك شرقا باتجاه الصين وتحريك القوى العسكرية الروسية في جميع الاتجاهات.
ترغب واشنطن والاتحاد الأوروبي بتعاون مفتوح مع روسيا، وهناك الكثير من الأسباب التي تدفع الروس للتفاوض مع الغرب على مصالحها بشكل قويّ. ومن المتوقّع أن تلعب روسيا دورها بما يصب في المصلحة الغربية الأميركية وما يعطّل ذلك تعنّت الغرب أمام عدّة مطالب روسيّة ما تزال واشنطن ترفض تلبيتَها بخصوص قضايا تمدد الناتو واشتراطات تعتبرها القوى الغربيّة أمراً لا يتسق مع سيادات الدول وحرّيتها في اختيار تحالفاتها وسياساتها الخارجية، ويمارس الروس ضغوطات مضادّة باتجاه الصين والقطب الشماليّ. إلا أنه يمكن التكهّن بأن مصلحة روسيا في النهاية تصبّ في المعسكر الغربيّ نظراً لحتمية الصعود الصينيّ الذي بات يشكل أرقا استراتيجيا لروسيا القيصرية.
[1] https://arabic.rt.com/world/1320918-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D9%8A%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B4%D9%8A%D9%83
[2] http://kremlin.ru/events/president/news/66181
[3] https://arabic.rt.com/videoclub/1320092-%D8%B1%D9%85%D8%A7%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AF%D9%81%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%AA%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%B4%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A/
تلفزيون سوريا
———————–
====================
تحديث 09 شباط 2022
——————————-
بايدن والحلفاء الأوروبيون يفشلون إلى الآن في ردع بوتين/ فكتور شلهوب
تواجه إدارة بايدن مأزقاً لا تُخفى معالمه، إذ إن توظيف جزء كبير من الرأسمال السياسي للرئيس جو بايدن من أجل حمل الكرملين على التراجع في أزمة أوكرانيا، بقي بدون مردود.
وبالمثل، كانت نتيجة استنفار للحلفاء الأوروبيين الذين خابت محاولاتهم مع الرئيس فلاديمير بوتين لزحزحة مواقف الكرملين. والأسوأ من ذلك أنه بعد كل هذه الجهود الدبلوماسية والتحذيرات والتلويح بالعواقب القاسية، فضلاً عن محاولات الردع من خلال إرسال قوات أميركية إلى بعض الحلفاء في أوروبا الشرقية والتلويح بالمزيد منها، زاد سيّد الكرملين من حشوده، وآخرها البحرية، ومن دون أن يتراجع قيد أنملة عن شروطه، بل جعلها أكثر غموضا وصعوبة في فك طلاسمها.
وأحرج هذا الوضع واشنطن التي بدت كمن لا حيلة لها على التأثير بمجرى الأزمة، ناهيك بالقرار الروسي. وقد أثار ذلك طوفانا من النقاش والجدل والقراءات، بين متشدد وعاتب على الحلفاء.
الصقور خاصة من خصوم الرئيس في الكونغرس وصفحات ومنابر الرأي، يدعون، إلى فرض “عقوبات مسبقة” لردع موسكو وإنذارها بالمزيد لو دخلت القوات الروسية إلى أوكرانيا، والدفع بتعزيز القدرات الدفاعية في أوروبا الشرقية وأوكرانيا، مع الإصرار على النية بتوسيع “الناتو” باعتبار أن هذه مسألة غير قابلة للبحث. ومع أن الإدارة اتخذت مثل هذا الموقف من البداية، إلا أن الطرح تغلب عليه المزايدة السياسية وخاصة العقوبات المسبقة التي لم يأخذ بها البيت الأبيض.
أما موضوع الحلفاء الأوروبيين، فهناك عدم ارتياح أميركي، بل عتب ومرارة ولو مضمرة من ضعف تضامنهم القوي والصريح وعدم “تطابق” ردودهم مع الموقف الأميركي، خاصة أن مسألة أوكرانيا ومخاطرها تتعلق بالأمن الأوروبي، وبالأخص أن الكبار منهم مثل ألمانيا وفرنسا، حرصوا على مراعاة مصالحهم الكبيرة مع موسكو وتقديمها على موجبات التصدي لتهديداتها في أوكرانيا.
ومن المآخذ أن برلين ترفض تزويد أوكرانيا بمعدات عسكرية حتى لا تغيظ موسكو، واستعاضت عن ذلك بتقديم مساعدات اقتصادية لها. وأكثر ما أثار الاستياء في واشنطن أن ألمانيا أصرت من البداية على تحييد أنبوب الغاز الروسي نورد – 2 إلى أوروبا والذي اقترب من مرحلة التشغيل. وتبدى ذلك بوضوح أمس خلال زيارة المستشار أولاف شولتز لواشنطن، والذي امتنع في أكثر من مقابلة ومؤتمر صحافي، عن ذكر هذا المشروع والتلويح به كورقة في معركة ردع موسكو.
ولم تخف بعض الأوساط تشكيكها بصدقية الحليف الألماني، ولو أن امتناعه ربما كان مرتبطا بزيارته الأسبوع القادم إلى موسكو للبحث في الأزمة مع بوتين. وكان من اللافت أن كُشفت معلومات مسربة بعد مغادرة شولتز لواشنطن، أن الرئيس بايدن غير مرتاح عموماً لأدوار وممارسات بعض الأوروبيين مثل الرئيس ماكرون “الذي يطمح ليكون ديغول” فرنسي آخر. ويُتهم ماكرون بتعمد التحرك باسم الاتحاد الأوروبي، وليس التحالف الأطلسي، ليُبقي بريطانيا خارج اللعبة.
كما يعتقد بايدن أن شولتز “لا يقوى على توحيد الأوروبيين، كما كانت أنجيلا ميركل”، وكأنه في ذلك يعبّر عن شيء من الخيبة في تعويله على الدبلوماسية الأوروبية لتلعب دور الرافعة في الأزمة الراهنة مع موسكو، كما أن في ذلك غمزا مبطّنا من تغليب أوروبي ضمني للمصالح الكبيرة في القارة والتي كانت ميركل نفسها قد دعت الأوروبيين قبل تقاعدها إلى حمايتها من خلال” الاتكال على أنفسنا من الآن وصاعدا”. وكانت ميركل ترد آنذاك على الفوقية التي مارسها الرئيس ترامب على الأوروبيين وحلف “الناتو”، فهناك مرارة أوروبية يعرفها الأميركيون وخاصة بايدن، الذي خطف من فرنسا بالتواطؤ مع بريطانيا، صفقة الغواصات الأسترالية.
ويبدو أن الأوروبي المكتوي من واشنطن لم ينس وصية ميركل، ويبدو أنه ترك لها حيزا في تحركه لاحتواء المشكلة الراهنة، لكن في اعتقاد دوائر أميركية أن إصرار بوتين على التصعيد بكل ما ينطوي عليه من مخاطر على الأمن الأوروبي، قد يؤدي في النهاية إلى تعزيز التماسك في التحالف الأطلسي بدل أن ينعكس سلبا عليه “كما يطمح بوتين”.
ويبدو أن الأمور سائرة في هذا الاتجاه، حسب قراءات رصينة أخرى، فالرئيس بوتين يبدو أنه “يتوسل حيثيته الأوكرانية” التي أبدى الأميركيون والأوروبيون استعدادهم “للنظر والبحث فيها”، لتسجيل أهداف أبعد من مسالة عدم ضم أوكرانيا إلى حلف “الناتو”. أهداف من عيار إعادة رسم خريطة الأمن الأوروبي” وإخراج أميركا منها بالإضافة إلى خلخلة حلف الناتو”.
وحسب هذا التصور، يبني بوتين حساباته على أساس أن الظرف الدولي المنهك ملائم وأن الولايات المتحدة غارقة بمتاعبها الداخلية والخارجية من الصين إلى إيران. ولترجمة أجندة من هذا النوع قد يعتمد بوتين خطة معقدة ومتنوعة تكفل خلق الذرائع كغطاء للقضم وبما يحقق الشروط بالتقسيط عبر عملية طويلة يتحكم بمفاتيحها. هذا واحد من السيناريوهات المتداولة والمبنية على التكهن الذي تفرضه حركات وإشارات لاعب الشطرنج والمفتوحة على التأويل، مثل دعوته إلى مواصلة الحوار، وفي الوقت ذاته يواصل تعزيز حشوده العسكرية. وبذلك يحتفظ بكل خياراته لترجمة حساباته في الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة. ويبقى السؤال مطروحاً حول ماهية الطريقة المناسبة لذلك.
————————
روسيا ستلعب دور المفسد في سوريا..إذا غزت أوكرانيا
حذر الجنرال الاميركي إريك كوريلا المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأميركية من أن غزو روسيا لأوكرانيا قد يؤدي إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا.
وقال كوريلا خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الاميركي بشأن ترشيحه الثلاثاء، إنه يعتقد أنه “يمكن أن تمتد تداعيات الغزو الروسي لاوكرانيا إلى سوريا حيث تمتلك روسيا قاعدة عسكرية وقوات”، بحسب وكالة “أسوشيتد برس”.
وأضاف كوريلا، الذي شغل سابقاً منصب نائب في القيادة المركزية الاميركية، أنه “إذا غزت روسيا أوكرانيا فلن تتردد في لعب دور المفسد في سوريا أيضاً”، وأضاف أن الولايات المتحدة لا تعتقد أن روسيا تريد خوض حرب معها. وتابع أن إيران لا تزال تمثل التهديد الرئيسي للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
كما أخبر لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ أن الصين توسع قوتها وإنفاقها في منطقة القيادة المركزية، بما في ذلك البلدان التي تحتاجها الولايات المتحدة لجمع المعلومات الاستخبارية عن الأنشطة المتطرفة في أفغانستان.
وقال كوريلا: “تواجه الولايات المتحدة حقبة جديدة من المنافسة الاستراتيجية مع الصين وروسيا، لا تقتصر على منطقة جغرافية واحدة بل تمتد إلى منطقة مسؤولية القيادة المركزية”، مضيفاً “بما أن الولايات المتحدة تعطي الأولوية للمنافسة مع الصين، يجب أن نظل منخرطين في الشرق الأوسط ووسط وجنوب آسيا”.
وكوريلا هو ضابط مخضرم يتمتع بخبرة واسعة في حربي العراق وأفغانستان، تلقى استقبالاً ودياً من لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ وقيل له إنه من المرجح التصديق على تعيينه.
وإذا حصل على المنصب، سيتولى كوريلا المسؤولية بينما تواصل وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) محاولة تحويل تركيزها إلى المحيطين الهندي والهادي ومواجهة الصين الصاعدة وتعزيز الدفاعات ضد روسيا في أوروبا.
لكن الوكلاء المدعومين من إيران واصلوا هجماتهم على الولايات المتحدة والقوات المتحالفة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مما يعيق في كثير من الأحيان خطط نقل المزيد من القوات خارج المنطقة.
وسيحل كوريلا محل الجنرال فرانك ماكنزي الذي سيتقاعد بعد توليه منصب قائد المنطقة المركزية لثلاث سنوات. وأشرف ماكنزي على فترة مضطربة في المنطقة مع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان وتفكيك تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، وتصاعد التهديدات من إيران ووكلائها الذين يشنون المزيد من الهجمات ضد السعودية والإمارات والسفن في البحر.
وأخبر كوريلا لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ أنه بعد جلسة الاستماع سينتقل إلى ألمانيا، كجزء من الجهود الأميركية لطمأنة الحلفاء القلقين بشأن الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا.
—————————
الأزمة الروسية- الأوكرانية.. دول غربية تتسابق لمنع “غزو كارثي”
تشهد روسيا وأوكرانيا زيارات من زعماء دول غربية، بينها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، لمنع تفاقم الأزمة بين البلدين الجارين، وسط مخاوف من غزو روسي لأوكرانيا ستكون عواقبه “وخيمة”.
وعقب الزيارة التي أجراها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى موسكو وكييف، أمس الثلاثاء، أعلنت وزيرة الخارجية البريطاني، ليز تروس، أنها ستجري زيارة إلى موسكو، اليوم الأربعاء، تلتقي خلالها نظيرها الروسي، سيرجي لافروف.
وقالت تروس إنها ستنقل خلال زيارتها رسالة “واضحة” بأن أي غزو روسي لدولة ذات سيادة “ستكون له عواقب وخيمة على جميع الأطراف المعنية”.
وأضافت حسبما نقلت صحيفة “ذا تلغراف” عنها: “يجب ألا يساور روسيا شك بشأن قوة ردنا والأثمان الباهظة التي ستشمل حزمة عقوبات منسقة”، داعية موسكو إلى وقف التصعيد واختيار طريق الدبلوماسية.
“الاستعدادات الروسية اكتملت”..أربعة سيناريوهات لغزو أوكرنيا
وتتصاعد حدة التهديدات حول أزمة أوكرانيا، بين روسيا من جهة، وأمريكا مع حلفائها الغربيين من جهة أُخرى، وسط تحذيرات من إمكانية الغزو الروسي المحتمل والإطاحة بحكومة كييف خلال 48 ساعة.
وكشفت مصادر استخباراتية أمريكية حديثة، أن روسيا كثفت استعداداتها لغزو واسع النطاق لأوكرانيا، و”بات لديها بالفعل 70% من القوة اللازمة لتنفيذ عملية كهذه”.
تلك التطورات دفعت الدول الغربية لتكثيف زيارتها نحو روسيا لمنع تفاقم الأوضاع، إذ أجرى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، زيارة لموسكو وكييف، أمس الأربعاء، التقى خلالها زعيمي الدولتين.
الكرملين أعلن أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم يعطِ أي وعود لنظيره الفرنسي حول التحركات العسكرية، فيما أكد ماكرون عقب زيارته أن “خطر التصعيد لا يزال قائماً”.
وكذلك التقى ماكرون بنظيره الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، عقب لقائه ماكرون، مشيراً إلى أنه بات بالإمكان إجراء محادثات بين الجانين الروسي والأوكراني، ومواصلة تنفيذ اتفاقية “مينسك” التي تنص على ضمان استقلال أوكرانيا.
أزمة أوكرانيا..حكومات غربية ترفع نبرة التهديد وروسيا تناور عسكرياً
بموازاة ذلك، أجرت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، زيارة إلى إقليم دونباس شرقي أوكرانيا، أمس الثلاثاء، للاطلاع على الوضع على الحدود الأوكرانية- الروسية.
وقالت بيربوك: “سنعمل كل ما يلزم لضمان عدم حدوث مزيد من التصعيد”، وأضافت “نحن نقف بدون أي تردد مع وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها”.
ويتهم الغرب روسيا بالتخطيط لغزو أوكرانيا من أجل ضم مناطق جديدة لحدودها، فيما تقول روسيا إنها لن تغزو أوكرانيا في حال حصلت على تعهد من “حلف الناتو” بعدم ضم أوكرانيا إلى عضويته.
وتتخوف الدول الأوروبية من تكرار سيناريو القرم عام 2014، إذ ضمت روسيا شبه الجزيرة بعد الإطاحة بالرئيس السابق بترو بوروشنكو.
كما سيطر انفصاليون مدعومون من روسيا عام 2014، على أجزاء من الأراضي الشرقية لأوكرانيا.
————————
فورين بوليسي:من داخل الاتفاق الأميركي-الروسي الذي يخفف الضغوطات على الأسد
فورين بوليسي – ترجمة: ربى خدام الجامع
بكل هدوء، أبرمت الولايات المتحدة صفقة مع روسيا لتخفيف الضغوطات السياسية على سوريا لدى الأمم المتحدة، وفي حال صدق عليها مجلس الأمن الدولي المؤلف من 15 دولة على هذه الاتفاقية، عندها ستقلل تلك الهيئة الأمنية الدولية من اجتماعاتها حول الأسلحة الكيماوية بسوريا، كما ستعزز عقدها لجلسات منفصلة حول الإغاثة الإنسانية والانتقال السياسي الذي لم يعد له ذلك الزخم الكبير خلال السنوات الماضية.
تعب لدى مجلس الأمن
وهذا المقترح الذي مايزال موضع تفاوض مع مجلس الأمن الدولي، يعكس حالة التعب المتزايدة في مجلس الأمن من جراء عقده لسلسلة لا تنتهي من الاجتماعات التي يناقش فيها الدبلوماسيون الموضوع ذاته ويختلفون حوله بشدة، مما يؤدي إلى تفاقم الخلافات بين القوى العظمى، دون أن تتمخض تلك الاجتماعات عن إنجازات ملموسة إلا نادراً.
إلا أن هذه الاتفاقية تمثل أيضاً سلسلة من التنازلات التي بدأت كل من الولايات المتحدة والدول الغربية بتقديمها بالتدريج لروسيا التي أصبحت تترأس هذا المجلس خلال هذا الشهر. وتلك التنازلات نشأت عن الأهداف الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية، والتي تتمثل بتجنب الاصطدام مع موسكو، وضمان بقاء شريان الحياة الإنساني لنقل ما يلزم عبر تركيا إلى شمال غربي سوريا بما أن روسيا ترغب بإغلاق ذلك المعبر.
غير أن هذه الاتفاقية جعلت بعض الدبلوماسيين في مجلس الأمن يتنفسون الصعداء بما أن المهاترات الكلامية المتكررة بين القوى الكبرى حول مصير سوريا قد أرهقتهم، كما أن القوى الكبرى لم تبد كثيرا مما يسهم بحل النزاع السوري الذي امتد لعقد من الزمان، إذ يقول أحد الدبلوماسيين في ذلك المجلس رفض الكشف عن اسمه بما أنه تحدث عن مفاوضات دبلوماسية سرية: “بقيتُ في المجلس لمدة سنة، وصار بوسعي أن أكتب البيان الذي تصدره كل دولة، فقد كنا نكرر الشيء ذاته مرات ومرات خلال ثلاث جلسات في الشهر، أي أنه بوسعنا استغلال ذلك الوقت في مجلس الأمن في شيء أكثر إفادة”.
انتقادات لهذه الاتفاقية
لكن هذه الاتفاقية أثارت انتقادات بين بعض المختصين بالشأن السوري الذين يرون بأن اجتماعات مجلس الأمن الاعتيادية تحافظ على إبقاء الضغوطات على النظام السوري الذي ما برح يتحدى الأعراف والقوانين الدولية، فيما تشير حالة وقف تلك الاجتماعات إلى أن الجهود التي بذلتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأعضاء في مجلس الأمن على مدار عقد من الزمان للمساهمة في تشكيل ورسم ملامح سوريا بعد الحرب والتي يجب أن تستوعب وتشمل الجميع قد استنفذت جميعاً، ولذلك تبدي تلك الأطراف استعدادها للتعايش مع الانتهاكات المتكررة التي يرتكبها النظام السوري بالنسبة لالتزامات مجلس الأمن الدولي وتفويضاته.
إذ تقول جمانة قدور وهي خبيرة بشؤون الشرق الأوسط لدى مجلس الأطلسي ساهمت في تأسيس منظمة سوريا للإغاثة والتنمية: “هذا ما تريده روسيا وإيران والأسد بكل صراحة، أي أنهم يريدون منا أن نستبعد الضغوطات القائمة على أي دليل يتم الكشف عنه علناً حول ما يفعله النظام السوري بالمدنيين، وذلك ليتجنبوا إحراج الموقف”.
يذكر أن الولايات المتحدة وروسيا تقدمتا بهذا المقترح للدول الأعضاء في المجلس المؤلفة من 15 دولة، وذلك في 31 من كانون الثاني، أي في اليوم الذي تبادل فيه مندوبا هاتين الدولتين لدى الأمم المتحدة وهما ليندا توماس-غرينفيلد وفاسيلي نيبينزيا اتهامات قاسية بخصوص أوكرانيا. ولقد قوبلت تلك الخطة في بداية الأمر بالصد من قبل بعض الدول الأعضاء التي ذكرت بأنها بحاجة لوقت أطول لمناقشة تفاصيل الخطة، ولكن من المتوقع أن يتم التصديق على هذه الخطة من قبل كل أعضاء المجلس في نهاية المطاف، مع إمكانية إضافة تعديلات طفيفة عليها.
“إننا لا نأخذ الأمور بشكل شخصي”
وقد تحدث ديمتري بوليانسكي إلى فورين بوليسي وهو ثاني أرفع دبلوماسي روسي لدى الأمم المتحدة فقال بإن الناس “يبالغون” في بعض الأحيان بالحديث عن أثر تلك المشادات الكلامية التي تظهر أمام الملأ على قدرة الولايات المتحدة وروسيا في التعاون والعمل سوية بشكل ناجح، وأضاف: “إننا دبلوماسيون، أي أننا نتفهم أن لدى كل منا تعليمات معينة، والأميركيون يعانون من ضغوطات كبيرة في الداخل تجاه هذا الجنون الذي يعززونه، ولذلك فإننا لا نأخذ الأمور بشكل شخصي”.
بيد أن هذا الاتفاق الأميركي-الروسي من شأنه تقليص الجدل في المجلس حول الأسلحة الكيماوية الموجودة لدى سوريا إلى حد كبير، والاستعاضة باجتماعات ربع سنوية بدلاً من الاجتماعات الشهرية، بالرغم من أن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية التابعة للأمم المتحدة ماتزال تخوض حربها مع المسؤولين السوريين للحصول على موافقة للدخول إلى مواقع السلاح الكيماوي في سوريا.
وهذا ما دفع جورج كوبلينتز وهو مدير برنامج الدفاع البيولوجي للدراسات العليا في جامعة جورج ماسون للقول: “ليس الوقت مناسباً الآن للحد من الجهود الساعية لمحاسبة سوريا على استخدامها للأسلحة الكيماوية في السابق وعلى إصرارها على رفض السماح للمفتشين الدوليين بالتحقق من تدمير ما تبقى من سلاح كيماوي لديها”.
كما ذكر كوبلينتز وهو خبير ببرنامج السلاح الكيماوي السوري بأن منع سوريا للمفتشين الدوليين الذين يمثلون منظمة حظر الأسلحة الكيماوية قد زاد خلال السنوات الأخيرة فقط، وقد شمل ذلك حرمانهم من الحصول على تأشيرات وتدمير الأدلة السابقة التي تثبت وقوع هجمات كيماوية. يذكر أن النظام السوري استخدم الأسلحة الكيماوية بشكل متكرر ضد شعبه، وكان آخر هجوم بالسلاح الكيماوي في أيار 2019، عندما أطلق النظام صاروخاً محملاً بمادة الكلور على محافظة اللاذقية بحسب ما كشفته المخابرات الأميركية.
وفي إشارة إلى معاهدة حظر الأسلحة الدولية التي تهدف للحد من استخدام الأسلحة الكيماوية، قال كوبلينتز: “بما أن هيئة الأمم المتحدة مسؤولة عن حفظ الأمن والسلم الدوليين، لذا من مسؤوليات مجلس الأمن معالجة انتهاكات سوريا لاتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية وفرض تنفيذ تلك المعاهدة”.
اجتماعات صيغة آريا
وفي غضون ذلك، سعت روسيا لتقويض شرعية منظمة حظر الأسلحة الكيماوية، حيث استضافت العديد من الاجتماعات غير الرسمية حول إحاطات مجلس الأمن، عرفت باسم اجتماعات صيغة آريا، إذ عملت من خلالها على استضافة شخصيات لتقوم بانتقاد تلك المنظمة أو تقديم نتائج أخرى غير التي توصلت لها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (وقد ارتبط اسم تلك الاجتماعات بالدبلوماسي الفنزويلي دييغو آريا الذي سعى في مطلع تسعينيات القرن الماضي للحصول على إحاطات من أشخاص عاديين موجودين على الأرض فيما يتصل بالنزاعات دون الحصول على موافقة كل الدول الأعضاء في المجلس).
وبالعودة إلى الاتفاقية الأميركية-الروسية، فإنها تسعى لتقليل عدد الاجتماعات التي يجري من خلالها مناقشة موضوع الانتقال السياسي في سوريا لتتحول من شهرية إلى اجتماعات تعقد كل شهرين، كما أن هذا الاجتماع سيختصر إلى جلسة تتم من خلالها مناقشة الأزمة الإنسانية.
لا مجال لتقاسم السلطة في سوريا
تشير تلك التحركات برأي بعض المراقبين إلى تضاؤل اهتمام مجلس الأمن بمتابعة اتفاقية تقاسم السلطة في سوريا التي من غير المرجح أن تتحول إلى أمر واقع. إذ منذ عام 2012، قام الأمناء العامون الذين تعاقبوا على الأمم المتحدة بتعيين أشهر الشخصيات المعروفة بقدرتها على حل المشكلات، وكان من بينهم الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان، ووزير الخارجية الجزائري السابق الأخضر الإبراهيمي، وذلك ليقوموا بتأليف حكومة ائتلافية ولإنهاء الحرب الدموية في سوريا، ولكنهم فشلوا جميعاً في تحقيق ذلك.
أي أنه لم يعد أمام جير بيدرسون سفير النرويج السابق، الذي يشغل منصب المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا منذ تشرين الأول 2018، سوى القليل من الجهد ليبذله ويقدمه في هذا السياق، وذلك بعدما أحكم بشار الأسد قبضته على السلطة بالتدريج، وذلك بمساعدة روسيا وإيران، مما أضعف الأمل بالتوصل إلى اتفاقية يتم من خلالها تقاسم السلطة.
وعندما قوبل الاقتراح المبدئي لتقليل عدد اجتماعات مجلس الأمن بالصد من قبل بعض الدول الأعضاء في المجلس، وافقت الولايات المتحدة وروسيا على فتح باب النقاش. وبحسب ما ذكره أحد الدبلوماسيين في مجلس الأمن، فإن التحفظات بشأن ذلك الاتفاقات لم تبنَ على الشكوك والخوف من تقليص الاجتماعات التي تناقش القضية السورية، بل إن تلك التحفظات كانت بشأن الطريقة التي تم من خلالها تقديم ذلك المقترح على أنه صفقة مبرمة، مما يحرم الدول الأعضاء في مجلس الأمن من إبداء رأيهم حول تحديد نوعية وطبيعة الاجتماعات التي ستستمر بالانعقاد. إذ مثلاً، رأت كل من فرنسا والمملكة المتحدة بأنه يتعين على المجلس أن يترك احتمال عقد تلك الاجتماعات مفتوحاً، وهذه الاجتماعات تكون متاحة للعموم عادة، حتى وإن جرت خلف الأبواب المغلقة، وذلك لأن المداولات الخاصة تسمح للمجلس بالانخراط في مناقشات صريحة.
ليس أول تنازل تقدمه الولايات المتحدة
إلا أن هذا المقترح الأميركي-الروسي لا يعتبر أول تنازل تقدمه الولايات المتحدة لسوريا، وذلك لوجود تنازلات أخرى شملت اتفاقية وقعت في شهر تموز الماضي وتقضي باستخدام لغة تدافع عن دعم المشاريع الحيوية الخاصة بالبنية التحتية والتي تشمل الماء والصرف الصحي والصحة والتعليم ضمن قرار مجلس الأمن. إذ سبق لواشنطن أن اعترضت على ما يعرف باسم مشاريع الإنعاش المبكر إلى أن تلتزم دمشق بانتقال سياسي تدعمه الأمم المتحدة.
ومع كل هذا، ماتزال التنازلات الأميركية أقل بكثير من الأهداف التي وضعتها روسيا والتي تتمثل بإعادة سوريا إلى حضن المجتمع الدولي، وإقناع الجهات المانحة الغربية بإغداق مليارات الدولارات على سوريا لمساعدتها في عمليات إعادة الإعمار.
يذكر أن روسيا تعرضت هي أيضاً إلى نكبات ونكسات في مساعيها لحماية سوريا من أي محاسبة أو رقابة دولية. ففي شهر كانون الأول 2021، ترأست روسيا الجهود التي منيت بالفشل وذلك ضمن لجنة ميزانية الأمم المتحدة، حيث سعت إلى قطع التمويل عن الآلية الدولية المحايدة والمستقلة حول سوريا، والتي أسستها الجمعية العمومية التابعة للأمم المتحدة لمساعدة الدول على إجراء تحقيقات ومحاكمة متورطين في جرائم جسيمة وقعت في سوريا.
إلا أن كريستيان ويناويسار سفير لختنشتاين لدى الأمم المتحدة ذكر بأن هنالك “توجه نحو التطبيع” خاصة في المنطقة وداخل الجامعة العربية، ولذلك تحاول روسيا جاهدة ترجمة ذلك إلى موقف قائم على تقبل أكبر لسوريا داخل الأمم المتحدة.
يذكر أن روسيا عارضت وبشدة إقامة الآلية الدولية المحايدة والمستقلة حول سوريا في عام 2016، وسعت منذ ذلك الحين لحرمانها من تمويل سنوي تتجاوز قيمته 20 مليون دولار، حيث زعمت بأنه لا يحق للجمعية العمومية أن تقيم مؤسسة كهذه، بحسب ما ذكره كريستيان ويناويسار الذي كانت له اليد الطولى في إقامة تلك الآلية، ويعلق على ذلك بالقول: “لم يكف الروس عن معارضتهم للآلية، ولكنهم لم ينجحوا في ذلك”.
الأمم المتحدة توثق جرائم النظام
أما الخبيرة بشؤون الشرق الأوسط، جمانة قدور، فقد ذكرت بأن الأمم المتحدة تلعب دوراً أساسياً في توثيق جرائم النظام السوري بحق المدنيين ولديها سجل تاريخي حافل حول ذلك، ويعتبر توثيقها حاسماً وأساسياً بالنسبة للقضايا التي ترفع ضد مسؤولين سابقين لدى النظام السوري لمحاسبتهم على ما ارتكبوه من جرائم، كما هي حال المحكمة الألمانية التي دانت ضابط مخابرات سوري سابق بجرائم ضد الإنسانية خلال الشهر الماضي وحكمت عليه بالسجن المؤبد.
وتعلق جمانة على ذلك بقولها: “إن هذه الاجتماعات والتقارير والمناقشات التي تجريها الأمم المتحدة تعتبر مهمة وحاسمة بالنسبة لمحاسبة أفراد من النظام السوري مستقبلاً، وذلك بحسب نمط وطبيعة جلسات الاستماع والمحاكمات التي نراها تقام في أوروبا”.
فيما يرى خبراء آخرون بأن مداولات مجلس الأمن تعكس الحقيقة القائلة بإن الولايات المتحدة وكثير غيرها من دول العالم بدأت تنتقل إلى أزمات أخرى. بما أن سوريا قد شرعت بإعادة العلاقات الدبلوماسية والتجارية في منطقتها مع أهم القوى الإقليمية والتي تشمل البحرين والأردن والإمارات.
“سوريا سوف تركن على الرف”
ولهذا تعلق ديمة موسى وهي عضو في اللجنة الدستورية السورية على ذلك بقولها: “يبدو أن سوريا أصبحت تحتل مرتبة أدنى ضمن قائمة أولويات واشنطن، بعدما أصبحت الولايات المتحدة اليوم تركز بصورة أكبر على المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني والقضية الأوكرانية. كما أن سنة مضت تقريباً منذ تولي إدارة بايدن لمقاليد السلطة، وماتزال السياسة الأميركية بشأن سوريا “قيد المراجعة” منذ ذلك الحين، إذ لم يتم تعيين مسؤول رفيع المستوى ليعالج الملف السوري، أي لا يوجد مبعوث أميركي خاص إلى سوريا حتى الآن. ثم إن توجه مجلس الأمن نحو تقليص عدد الاجتماعات التي تناقش الملف السوري يعبر عن واقع وهو استعصاء ذلك الملف ووصوله إلى طريق مسدود على المستوى الدولي، وهذا بدوره يسهم في انقطاع العملية السياسية السورية برمتها. بيد أن تقليص عدد الاجتماعات ليس بأمر محمود، كونه يعني بأن سوريا سوف تركن على الرف، مما سيطيل أمد الأزمة ومعاناة السوريين”.
فيما يرى مختصون وخبراء آخرون بأن الولايات المتحدة تركز بكل بساطة على مناطق أخرى يمكنها أن تحدث تغييرات فيها.
“لم إضاعة الوقت على شيء لن يجدي نفعاً؟!”
وتعلق على ذلك منى يعقوبيان وهي مستشارة رفيعة المستوى مختصة بالشأن السوري والشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى معهد السلام الأميركي فتقول: “إن هذا يعكس الوضع على الأرض” مشيرة إلى أن المحادثات التي جرت بوساطة الأمم المتحدة حول الانتقال السياسي في سوريا لم تتمخض سوى عن نزر يسير من النتائج، وترى بأن السياسيين الأميركيين: “يبذلون طاقاتهم حيث توجد مشكلة حقيقية وفرصة أكبر للنجاح، وهنالك بصيص أمل في احتمال تحقيق تقدم على الصعيد الإنساني. دعونا نواجه الأمور كما هي، إذ إنني لا أجد أن محادثات جنيف قد أفضت إلى شيء معين، ألا ترون ذلك معي؟ إذن فلِمَ إضاعة الوقت على شيء لن يجدي نفعاً؟!”
يذكر أنه منذ أن وصل الرئيس جو بايدن إلى السلطة، أصبحت سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا آخر ما يهمها، ولهذا أخذت تستثمر رأسمالها السياسي في تعزيز العلاقات مع حلفائها في الخليج، كما سعت لإبرام اتفاق مع إيران بغية العودة للاتفاق النووي التاريخي الذي أبرم في عام 2015.
رسالة تقريع
إلا أن عدم اكتراث الإدارة الأميركية بسوريا قد أزعج حلفاء بايدن في مجلس الشيوخ الأميركي، ولهذا وجه كبار النواب الأميركيين في مطلع هذا الشهر رسالة إلى بايدن حثوه فيها على تسلم زمام القيادة بشكل أكبر بالنسبة لسوريا، وقد ذيلت تلك الرسالة بتوقيع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ ورئيس لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب وهما من الحزب الديمقراطي، بالإضافة إلى توقيع نظيريهما من الحزب الجمهوري.
وقد حذرت تلك الرسالة من أن الجهود التي بذلتها الإدارة الأميركية في سوريا حتى الآن، والتي تشمل تأمين تجديد التفويض للأمم المتحدة لإدخال المساعدات الإنسانية عبر الحدود: “تقتصر فقط على معالجة أعراض النزاع الضمني، ولهذا لا بد وأن تفشل في نهاية المطاف في ظل عدم وجود استراتيجية دبلوماسية أوسع لحل الحرب الأهلية التي امتدت لعقد من الزمان”. كما وجهت تلك الرسالة تقريعاً رسمياً نادراً للسياسة الخارجية التي انتهجتها تلك الإدارة، وذلك من قبل بعض أهم حلفاء الرئيس من الحزب الديمقراطي في مجلس الشيوخ.
إن إدارة بايدن لا تعتزم تعيين مبعوث خاص إلى سوريا بحسب ما يراه مسؤولون أميركيون، وهكذا بقي بريت ماكغورك الذي جعل هزيمة تنظيم الدولة أولى أولوياته، والذي يشرف على سياسة الإدارة الأميركية القائمة على إبعاد الولايات المتحدة عن أي حرب أبدية، مسؤولاً عن ملف السياسة الأميركية في سوريا.
هذا وقد رفض المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية الحديث عن التحرك الأميركي للحد من عدد اجتماعات الأمم المتحدة حول سوريا أو عدم تعيين مبعوث رسمي إلى سوريا عندما طلب منه التعليق على الموضوع، إلا أن هذا المتحدث الذي رفض الكشف عن اسمه لأنه يتحدث عن أمور دبلوماسية حساسة، ذكر بأن حل النزاع في سوريا ومعالجة الاحتياجات الإنسانية للشعب السوري مايزالان ضمن أولى أولويات الإدارة الأميركية، كما أن الولايات المتحدة لم تقم برفع أي من العقوبات المفروضة على النظام السوري، في الوقت الذي ماتزال فيه تضغط من أجل محاسبة هذا النظام، ثم أضاف: “إننا ندعم الجهود الدولية الساعية لمحاسبة الأسد، والتي تشمل الاعتراف بالدور المهم الذي تلعبه لجنة التحقيق والآلية الدولية المحايدة والمستقلة”.
يذكر أن بايدن احتفى يوم الخميس الماضي بمقتل زعيم تنظيم الدولة في عملية اقتحام نفذتها قوات العمليات الخاصة الأميركية، حيث وصفها بأنها: “خلصت العالم من خطر إرهابي كبير”، إلا أن هذه العملية خلفت عدداً من القتلى بين صفوف المدنيين، بالرغم من أن المسؤولين الأميركيين أنحوا باللائمة في ذلك على الشخص الذي استهدفته العملية، أي إلى أبي إبراهيم الهاشمي القريشي، وذلك بعدما فجر نفسه بوساطة سترة ناسفة عند اقتراب القوات الأميركية منه.
جهود أميركية متعثرة
والحق يقال إن الجهود الأميركية الساعية لرسم مستقبل سوريا السياسي قد تعثرت بشكل كبير، الأمر الذي دفع إدارة بايدن لتكريس طاقتها وجهودها في تخفيف العبء الإنساني في ذلك البلد. كما جعلت تلك الإدارة من استعادة تفويض تمرير شحنات المعونات الإنسانية عبر الحدود أولى أولويات سياستها الخارجية، إلى جانب احتفاظها بما يقارب من 900 جندي أميركي في شمال شرقي سوريا لمساعدة الجماعات الكردية في عمليات مكافحة الإرهاب.
أزمة المعابر الحدودية
يذكر أن الأمم المتحدة كانت قد أقامت معابر حدودية تصل إلى المناطق التي يسيطر عليها الثوار في سوريا وذلك مع كل من تركيا والأردن والعراق منذ تموز عام 2014، وذلك حتى تؤمن شريان الحياة لملايين السوريين الذين حرموا من الممرات الإنسانية التي تصلهم بدمشق والتي يسيطر عليها النظام السوري، فقطعت بذلك الطريق على النظام السوري وممارساته في تجويع السكان الذين يمثلون حاضنة للقوات المناهضة للنظام.
ولقد استنكر النظام السوري قيام الأمم المتحدة بذلك، واعتبره انتهاكاً لسيادة سوريا، وأصر على قيام حكومة النظام بإدارة عملية تسليم المساعدات للسكان في مختلف أنحاء سوريا. كما زعم النظام بأن قنوات المساعدات تلك تقوم بدعم الجماعات الإرهابية التي وجدت ملاذاً آمناً لها في شمال شرقي سوريا، والتي تشمل جماعات مثل تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية.
ثم حملت روسيا الملف السوري إلى مجلس الأمن، وضغطت على مدار سنوات لإغلاق تلك المعابر الحدودية، حيث زعمت بأن سوريا لديها القدرة على توزيع المساعدات عبر خطوط القتال في البلاد، غير أن الأمم المتحدة أثبتت بطلان تلك المزاعم.
ولقد نجحت روسيا في إنهاء تفويض الأمم المتحدة باستخدام معبرين حدوديين، أحدهما مع الأردن والثاني مع العراق، واللذين كانا يمثلان محوراً مهماً بالنسبة للمساعدات الطبية التي يتم إيصالها إلى شمال شرقي سوريا، لكنها تركت معبراً حدودياً وحيداً مع تركيا، وهو معبر باب الهوى، وذلك لتقديم المساعدات الغذائية الأساسية لما يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة.
وفي أواخر آذار 2021، استعان وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن بظهوره الأول أمام مجلس الأمن لحشد الدعم من أجل استمرار البرنامج الإغاثي عبر الحدود، كما شجع على إعادة فتح المعبرين اللذين تم إغلاقهما بين سوريا وتركيا وسوريا والعراق على أقل تقدير.
وعقب أول لقاء قمة جمع بين بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حزيران 2021، أوضح بايدن بأن استعداد روسيا لإبقاء ممر المساعدات مفتوحاً يمثل اختباراً لقدرة الأمم المتحدة على العمل بشكل بنّاء مع روسيا فيما يتصل بالشأن السوري.
كما زار توماس-غرينفيلد، المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة، ولاية هاتاي على الحدود التركية في أواخر شهر حزيران الماضي ليؤكد على أهمية ضمان الولايات المتحدة لاستمرار تقديم المساعدات لملايين المدنيين السوريين الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها الثوار.
إلا أن تلك المحادثات شددت على العملية المضنية في أغلب أحوالها، والتي تقوم على التعاون ما بين الولايات المتحدة وروسيا.
فخلال الصيف الماضي، سعت الولايات المتحدة لضمان إعادة فتح معبر اليعربية مع العراق، واستشهدت بتحذيرات الأمم المتحدة من أن المساعدات لم تصل للمدنيين في الوقت الذي تفشت فيه حالات الإصابة بكوفيد-19. وفي تلك الأثناء، سعت روسيا لإغلاق آخر معبر تبقى، أي معبر باب الهوى.
وفي نهاية الأمر، اتفق الطرفان على تسوية، حيث تم تمرير القرار رقم 2585 القاضي بإبقاء المعبر الحدودي مع تركيا مفتوحاً لمدة سنة على الأقل.
مشكلة القرار 2585
بيد أن الطبيعة السرية للمحادثات الأميركية-السورية أثارت حفيظة بقية أعضاء مجلس الأمن، الذين شعروا بأنهم استبعدوا من تلك المناقشات.
إذ يقول روبرت تشاب وهو محلل سياسي يعمل لدى تقرير مجلس الأمن وهي منظمة غير ربحية: “إن الصفقات التي جرت في الكواليس بين الولايات المتحدة وروسيا للتوصل إلى القرار رقم 2585 قد أزعجت بعض كبار الدبلوماسيين، كما شعر بقية الأعضاء بأنهم مستبعدون، إذ على الفور أعلنت فرنسا والصين عن عدم رضاهما على بعض جوانب ذلك الاتفاق، ثم انضمت إليهما المملكة المتحدة على ما أعتقد، وذلك لأنها ترغب بأن تكون مشاركة في المحادثات النهائية بين الطرفين”.
وفي نهاية المطاف استطاعت الولايات المتحدة تأمين موافقة روسيا على السماح باستمرار وصول المساعدات الإنسانية لشمال غربي سوريا على الأقل.
إلا أن ذلك أتى مقابل ثمن دفعته واشنطن.
فقد سبق للولايات المتحدة أن امتنعت عن تقديم تنازلات كهذه، حيث اشترطت على النظام السوري أن يبدي استعداده لتقبل فكرة الانتقال السياسي بشكل حقيقي.
ولكن في 26 من تشرين الثاني من عام 2021، قامت وزارة الخزانة الأميركية بتوسيع تفويضها للمنظمات الخيرية والإغاثية الدولية لتشارك في الأنشطة التي سبق أن أخضعتها الولايات المتحدة لعقوباتها، والتي تشمل الأنشطة الإنسانية التي تعمل على تلبية الاحتياجات الإنسانية والمشاريع التعليمية والديمقراطية والثقافية التي تعنى بحفظ التراث، وبرامج التنمية غير الربحية التي تفيد الشعب السوري بشكل مباشر، كما تسمح قوانين العقوبات المفروضة على سوريا بعد تعديلها لبعض الجهات المستثمرة غير الربحية بالعمل في سوريا، بالإضافة إلى بيع النفط بغرض الاستخدام المحلي.
وحول ذلك يعلق الدبلوماسي الروسي بوليانسكي بالقول: “تلك خطوة في الاتجاه الصحيح وإننا نقدر ذلك، إذ لا يشتمل ذلك على تغيير لقواعد اللعبة بكل تأكيد، بل مايزال الطريق طويلاً أمام الموقف الأميركي تجاه سوريا، ولكن ذلك يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح بكل تأكيد”.
المصدر: فورين بوليسي
————————————-
==================
تحديث 10 شباط 2022
——————–
«محور» صيني ـ روسي في مواجهة «تحالف» غربي؟/ بكر صدقي
قد لا يكون من الحصافة نسخ التجربة التاريخية في الاستقطاب الدولي إبان الحرب العالمية الثانية، لفهم ما يجري اليوم من استقطاب دولي حاد، لأن الحدث الراهن لم يكتمل بعد، ولأن الشروط القائمة اليوم تختلف كثيراً عن نظيرتها في أواسط القرن الماضي. مع ذلك لا نستطيع الانفكاك، في تحليلنا لأي حدث راهن، من مقارنته بأحداث مشابهة جرت في الماضي، لأنها تشكل دليلاً لا نملك غيره وضوءًا في الظلام الذي يكتنف الحاضر والمستقبل.
والحال أن هناك ما يشبه الإجماع حول كون المرحلة التي نمر بها في العلاقات الدولية مرحلة انتقالية تعاد فيها صياغة أوزان القوى الدولية والعلاقات فيما بينها وتوزيع الحصص في المصالح والثروات. فقد مضى اليوم نحو ثلاثة عقود على النظام العالمي الذي تلا انتهاء الحرب الباردة وقام على «الأحادية القطبية» بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، ويرى المتضررون من هذا التفرد الأمريكي أنه آن الأوان لإعادة النظر بهذا النظام وإقامة نظام متعدد الأقطاب.
الواقع أن هذه الدعوة ليست ابنة اليوم، بل طرحت منذ بداية التفرد الأمريكي، لكنها ظلت مجرد دعوة بلا قدرة على فرضها، أما اليوم فيبدو أن المسألة الأوكرانية ستشكل نقطة فصل في تحديد ملامح النظام الجديد. فقد تبلورت التحالفات على جانبي جبهة النزاع بوضوح: الولايات المتحدة وحلفاؤها من جهة، وروسيا والصين وحلفاؤهما من جهة أخرى. روسيا عززت قواتها على حدود أوكرانيا وطرحت شروطها على الولايات المتحدة لعدم غزو أوكرانيا، في حين رفضت واشنطن تلك الشروط وأرسلت قوات إلى أوكرانيا في نوع من التحدي.
ومن وجهة نظر روسيا بوتين تشكل أوكرانيا «حديقتها الخلفية» وتعتبر أي محاولة لضمها إلى حلف شمال الأطلسي تعزيزاً لتطويق روسيا وتهديداً لأمنها القومي. في حين يرى الناتو أن من حقه التمدد شرقاً بضم أي دولة تريد ذلك.
تواجه الصين وضعاً مشابهاً بخصوص تايوان التي تعتبرها جزءًا منها وتهدد بضمها، وإن كان ضمها إلى حلف الناتو غير مطروحاً كحالة أوكرانيا. لكن تزويد الأمريكيين أستراليا بغواصات نووية في إطار «الشراكة الأمنية الثلاثية» (إيكيوس) المعلن عنها العام الماضي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، والدعم الغربي لحق تايوان في إقامة دولتها المستقلة، يشكلان تهديداً للأمن القومي من وجهة نظر القيادة الصينية.
هذه الخلفية السياسية ـ الأمنية المشتركة دفعت بالصين وروسيا إلى إعلان تحالفهما في مواجهة الضغوط الغربية، في بيان صدر عن رئيسي البلدين، شي جين بينغ وفلاديمير بوتين، بمناسبة افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في الرابع من شباط الجاري، وحمل البيان عنواناً طموحاً: «بيان مشترك بين الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية بشأن العلاقات الدولية التي دخلت عصراً جديداً والتنمية العالمية المستدامة» وتضمن البيان نداءً موجهاً إلى دول الحلف الأطلسي بالتخلي عن «مقارباتها الإيديولوجية الخاصة بالحرب الباردة» في إشارة ضمنية إلى النزاع حول أوكرانيا وكذا فيما يتعلق بتايوان.
إضافة إلى تكريس البيان التعاون السياسي والأمني بين البلدين، ثمة إشارات إلى مواجهة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليهما من خلال إقامة نظام مصرفي يسعى إلى التحرر من التبعية للدولار في المعاملات التجارية، تحسباً لطرد البلدين خارج نظام التحويلات المصرفية المعروف بـ«سويفت» الذي تهددهما به واشنطن وحلفاؤها في حال حدث غزو روسي لأوكرانيا أو ضم صيني أحادي لتايوان.
لماذا يشبه التحالف الروسي ـ الصيني تحالف دول المحور، ألمانيا وإيطاليا واليابان، في الحرب العالمية الثانية؟ يقوم إغراء هذا التشبيه على النزعة التوسعية والعدوانية الروسية التي تأكدت في أكثر من مناسبة في العقدين الماضيين، ولم يكتف الروس بما يعتبرونه حديقتهم الخلفية في الدول التي استقلت عنها بعد تفكك الإمبراطورية السوفييتية، بل عززوا تمددهم العسكري في مناطق بعيدة عن حدودها كما في سوريا وليبيا. أما الصين فلا طموحات توسعية معلنة لديها، بالمعنى الاستعماري التقليدي، باستثناء موضوع تايوان الذي تعتبره أصلاً جزءً من الصين. لكن طموحاتها الاستعمارية بمعنى النمو الاقتصادي ومد النفوذ الصيني إلى مناطق شاسعة بسلاح الاقتصاد، هو طموح يكتسب مشروعيته من العولمة السائدة، فالصين ملتزمة بقواعد اللعبة في هذا الإطار.
من وجهة نظر الليبرالية السياسية يتشابه النظامان الروسي والصيني في سلطويتهما، على رغم الاختلاف بينهما في العقيدة السلطوية، الشيوعية في الصين والقومية في روسيا.
وهذا هو أساس تشبيه التحالف بينهما بـ«المحور» في الحرب العالمية الثانية الذي تشكل من دول تشترك في كونها رأسماليات تأخرت في النمو فلم تنل حصتها من التوسع الاستعماري كما فعلت بريطانيا وفرنسا، فأشعلت نار الحرب للمطالبة المتأخرة بحصتها. ينطبق هذا التوصيف على العملاق الاقتصادي الصيني، أما روسيا فلم تشهد نهضة اقتصادية مماثلة لتندفع نحو مغامرات عسكرية خارجية، بل هي مدفوعة بـ«الكرامة الروسية الجريحة» التي يمثلها فلاديمير بوتين خير تمثيل.
كأننا إذن أمام عملاق اقتصادي وتكنولوجي بلا عضلات عسكرية، و«بلطجي» روسي يملكها، فيكمل أحدهما الآخر.
على الجانب الآخر من «الجبهة» نجد الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين الذين طال استرخاؤهم في «جنة الليبرالية» والثراء والرخاء، دول أرهقتها الصراعات القديمة وتسعى إلى بقاء الأمور على ما هي عليه في العلاقات الدولية، غير مستعدة لخوض حروب كبيرة مكلفة، ولا لمواجهة واجبات والتزامات زعامة النظام الدولي، لكنها في الوقت نفسه لا تسمح للقوى الصاعدة بالحصول على نصيب أكبر من كعكة العالم.
كاتب سوري
القدس العربي
————————-
المنازلة الأميركية مع روسيا وإيران.. تركيا تعزز دورها ومشروعها/ منير الربيع
يترقب العالم مآلات المنازلة الأميركية الروسية حول أوكرانيا. يسرّب الأميركيون أخباراً وتقديرات استخبارية حول استعداد الجيش الروسي لغزو أوكرانيا وأن الحاجة لاجتياحها تحتاج إلى 72 ساعة. في حين يجهد الروس في نفي ذلك واتهام الأميركيين بأنهم يصطنعون هذه السيناريوهات.
إنها منازلة تطول أوروبا برمّتها ولذلك يحاول الأوروبيون تجنّب التصعيد. فيما تحاول واشنطن تقديم نفسها كصاحبة الدور القادر على توفير الغاز إلى الاتحاد الأوروبي كبديل عن الغاز الروسي. إلى جانب هذه الجبهة التي من شأنها إعادة ترتيب قواعد النظام العالمي بما يختلف عن مرحلة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وما بعد انتهاء الثنائية القطبية. ثمة جبهة اقتصادية أخرى مفتوحة بين الولايات المتحدة الأميركية من جهة والصين من جهة أخرى.
وفي موازاة الجبهتين المذكورتين ثمة جبهات متعددة، كما هو الحال بالنسبة إلى الوضع في آسيا، والشرق الأوسط، حيث إيران تسعى إلى تكريس دورها في المنطقة باعتراف غربي بناء على الاتفاق النووي الذي تسعى للوصول إليه مع الولايات المتحدة الأميركية، وبعد مشروعها التدميري للشرق ككل. فيما لا يمكن إغفال مشروع تركيا الآخذ في التقدم من آسيا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، وهو مشروع واضح المعالم يتعلّق بتوسيع الدور على مشارف العام 2023 لاستعادة تركيا قوتها التي سلبت منها قبل 100 سنة، وكنوع من سياق استكمالي لبناء اقتصاد يدخلها في مجموعة الدول العشر بدلاً من دول العشرين.
تحت هذه القراءة العامة لا بد من مراقبة جملة تطورات حصلت مؤخراً، فالرجل الذي اختاره جو بايدن كمستشار لشؤون أمن الطاقة العالمي آموس هوكشتاين، يستمر بمهماته المنوطة به، في تعبير واضح على أن الصراع الدائر بخلفيات جيوسياسية، واقتصادية، هو صراع على خطوط النفط. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أرست نظاماً ناتجاً عن صراع على منابع النفط، فإن القواعد التي سترسي النظام العالمي الجديد ستكون مرتكزة على الصراع على خطوط النفط، وخطوط التجارة العالمية.
يأتي ذلك في أعقد الصراعات التي تشهدها أوروبا حول الغاز بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية. بينما تسعى روسيا إلى الحفاظ على حصتها من توريد الغاز ومكتسباتها، وهي ستحاول أيضاً تحصيل مكتسبات في مجالات مختلفة، أبرزها الدرع الصاروخية، وصوغ علاقة جيدة مع دول الاتحاد الأوروبي وتحديداً ألمانيا، خاصة أن موسكو لا تتعاطى مع أوروبا كاتحاد، إنما مع كل دولة على حدة، بالإضافة إلى تحصيل مكاسب خارج أوروبا.
هوكشتين هو صاحب وجهة النظر التي تتحدث عن توفير البدائل للغاز الروسي إلى أوروبا، وهو نفسه المعارض لتحالف شرق المتوسط أو خط النفط “إيست ميد” والذي كان يفترض أن يمر من إسرائيل إلى قبرص واليونان فأوروبا، وهو غير جاهز حتى الآن وتبلغ كلفته مليارات الدولارات، بينما يفضل هوكشتين الغاز المسال الذي يمنح مرونة للمصدر والمستورد، وفي هذا السياق جاء سحب الغطاء الأميركي عن مشروع إيست ميد. وهو أمر رحبت به تركيا، التي ستكون من أكبر المستفيدين من غض النظر عن هذا الخطّ، فتركيا تعتبر نفسها مؤهلة جداً للعب دور نقطة تجمع الكونسورتيومات الغازية في المنطقة، طالما أن أنابيبها إلى أوروبا جاهزة، وكلفة النقل منخفضة جداً نسبة لأي مشروع آخر. ولا بد لهذا الطموح أن يتطابق مع الخلاف في المواقف الروسية والتركية حول الوضع في أوكرانيا، إذ إن تركيا من أبرز المعارضين للتدخل الروسي هناك، وقد عملت على دعم أوكرانيا بأنظمة دفاع عسكرية. يؤشر ذلك إلى اختلاف وافتراق روسي تركي استراتيجي، فتخسر روسيا موقف تركيا في هذه المعركة، خاصة أن تركيا هي التي ستتحول إلى منافسة لروسيا في توريد الغاز ألى أوروبا، عبر أذربيجان، وأربيل من حقل جيهان ومع إسرائيل.
يتطابق ذلك مع سعي أميركي إلى توفير بدائل للغاز الروسي، ومن بين الدول أذربيجان التي أعلنت الاستعداد لتوريد الغاز إلى أوروبا. وهنا لا بد من ترقب زيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا حيث سيكون هناك بحث في مجالات الطاقة، ذلك لا ينفصل أيضاً عن بروز توترات تركية إيرانية حول ملفات متعددة، خلاف حول سوريا، خلاف حول العراق وآلية تشكيل الحكومة، بالإضافة إلى سعي أنقرة لتحسين علاقاتها مع كل من إسرائيل، ودول الخليج وخصوصاً الإمارات والسعودية، هذا ما دفع بإيران إلى وقف إمدادات الغاز إلى تركيا. وأحد أبرز جوانب الالتقاء الأميركي التركي مؤخراً كان التنسيق في سبيل تصفية زعيم داعش في إدلب شمالي سوريا.
تحاول أنقرة تعزيز أوراقها الإقليمية والدولية، من خلال مسار تحسين العلاقات مع كل الدول التي كانت على خلاف معهم سابقاً، وهي تسعى إلى تسويق أنظمتها الدفاعية مع دول الخليج، خاصة أن أردوغان وفريق عمله عملوا على إعداد دراسات تفصيلية حول ما يمكن تقديمه لدول الخليج وخصوصاً السعودية والإمارات لمواجهة هجمات الحوثيين.
كل ذلك لا ينفصل عن مسار التفاوض النووي بين إيران والغرب، ووسط السعي الأميركي إلى الانتهاء من إنجاز الاتفاق، فلا بد لذلك أن يُقرن بتحقيق مجموعة من النقاط، أولها وضع حدّ لاستمرار حرب اليمن، وذلك يظهر من خلال الخطوط الحمر التي رفعها الأميركيون بوجه الحوثيين بعد الاعتداءات المتكررة على السعودية والإمارات، والاستعداد لإرسال أنظمة دفاع جوية متطورة. وهذا من شأنه تغيير المعادلة في اليمن. والنقطة الثانية هي ما تسعى إسرائيل إلى فرضه بموجب هذا الاتفاق، وهو أنه طالما لا ضربة عسكرية أميركية لإيران فلا بد من تطويقها من خلال الاتفاق ومنعها من استمرار مشروعها التوسعي، وبحال حصل أي اختلال في هذا المجال فإن إسرائيل قد توجه ضربات لإيران أو لحلفائها فيما تفترض أنه بموجب الاتفاق لن تكون إيران قادرة على الردّ على هذه الضربات.
تلفزيون سوريا
———————
صفقة أميركية-روسية في مجلس الأمن:خفض عدد الجلسات المخصصة لسوريا
كشفت مجلة “فورين بوليسي” عن صفقة أمريكية-روسية بهدف تخفيف الضغط السياسي عن النظام السوري في الأمم المتحدة، تشمل اتفاقاً بين الدول ال15 الأعضاء في مجلس الأمن الدولي لتخفيف عدد جلسات الأمم المتحدة المخصصة لمناقشة الوضع الإنساني في سوريا، كذلك الجلسات حول الأسلحة الكيماوية، وعملية الانتقال السياسي.
وأوضحت المجلة أن الاتفاق لا يزال موضع نقاش في أروقة المجلس و”لكنه يعكس حالة التعب من جلسات لا نهاية لها والتي يضطر فيها الدبلوماسيون لإعادة نفس الأمور التي تتفاقم بسبب شجار الدول الكبرى وتنتهي من دون أي نتائج ملموسة”.
ولكنها، تمثل بشكل آخر التنازلات الأخيرة التي تقدمها الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى روسيا التي تتولى رئاسة المجلس هذا الشهر. كذلك تأتي من ضمن أهداف السياسة الخارجية الأميركية الرئيسية المتمثلة بتجنب الصدام مع روسيا، والتأكد من بقاء الممر الإنساني الذي ينقل المواد الإنسانية من تركيا إلى شمال غرب سوريا مفتوحاً.
وقالت المجلة إن الصفقة الأخيرة أدت إلى تنفس الدبلوماسيين في مجلس الأمن الصعداء، حيث تعبوا من الحرب الكلامية المتكررة بين القوى الكبرى حول مصير سوريا ومن دون أي شيء لإظهاره من أجل حل النزاع.
ونقلت عن دبلوماسي في المجلس قوله: “أنا في المجلس منذ عام ويمكنني كتابة كل تصريح صدر عن كل دولة”. وأضاف “نحن نكرر نفس الشيء مرة بعد الأخرى وثلاث مرات في الشهر، مع أن ذلك الوقت كان يمكن للمجلس استخدامه بطريقة منتجة أكثر”.
لكن جمانة قدور من المجلس الأطلنطي انتقدت الصفقة قائلة: “هذا ما تريده روسيا وإيران وسوريا.. يريدون تخفيف الضغط عن أي دليل كشف عنه بشكل علني حول ما يفعله النظام السوري بأبنائه وإخراجهم من المقعد الساخن”. وأضافت أن الأمم المتحدة مهمة في توثيق جرائم النظام السابقة وتقديم أدلة في المحاكمات ضد رموزه، كما في محاكمة رئيس فرع الخطيب السابق أنور رسلان في محكمة كوبلنز الألمانية.
وبحسب المجلة، قدم البلدان المقترح إلى مجلس الأمن في 31 كانون الثاني/ يناير، عندما تبادلت المبعوثة الأميركية في الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفولد والروسي فاسيلي نيبنزيا كلمات حادة بشأن الوضع في أوكرانيا. وطلب بعض الأعضاء وقتاً لدراسة ما في الخطة، ومن المتوقع أن يتم تمريرها في النهاية من المجلس.
ونقلت المجلة عن نائب المبعوث الروسي في الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي قوله إن الناس “يبالغون” في تقدير أثر التبادل على قدرة الولايات المتحدة وروسيا للعمل بشكل مثمر. وقال: “نحن دبلوماسيون ونفهم أننا جميعا نتلقى تعليمات، والأميركيون يواجهون ضغوطا داخلية ضخمة على هذا الجنون الذي يحاولون الترويج له، ولهذا لا نتعامل معها (المواجهات الكلامية) بشكل شخصي”.
وبموجب الاتفاق فسيقوم مجلس الأمن بتخفيض عدد اللقاءات بشأن الأسلحة الكيماوية من شهرية إلى فصلية. وقال مدير برنامج الخريجين للدفاع البيولوجي بجامعة جورج ميسون غريغوري كوبلينتز: “هذا ليس هو الوقت لتخفيف جهود محاسبة سوريا على استخدامها السابق للسلاح الكيماوي ورفضها السماح (للمفتشين الدوليين) التأكد من تدمير سوريا ما تبقى لديها من أسلحة كيماوية”. وأضاف أن عرقلة جهود المنظمة الدولية زاد في السنوات الماضية بما في ذلك رفض منح تأشيرات لخبرائها وتدمير الأدلة السابقة عن الهجمات الكيماوية الأخيرة.
ورأى كوبلينتز أن على مجلس الأمن مسؤولية تنفيذ معاهدة الحد من انتشار السلاح الكيماوي باعتباره المؤسسة الموكل إليها بالحفاظ على السلام والأمن العالميين ومعالجة الانتهاكات الكيماوية.
وسيؤدي الاتفاق الأميركي-الروسي إلى تخفيض عدد اللقاءات بشأن عملية الانتقال السياسي من لقاء كل شهر إلى واحد كل شهرين.
وعندما واجه المقترح الأميركي-الروسي اعتراضات في المجلس قرر البلدان عقد نقاش، ولم يكن الرفض الأولي للخطة متعلقاً بمحتوياتها ولكن بطريقة تقديمها على أنها صفقة جاهزة من دون أن يكون للأعضاء الآخرين أي فرصة لمناقشة ما فيها، ومنها فرنسا وبريطانيا، بحسب “فورين بوليسي”.
وقال سفير لينختنشتاين كريستيان ويناوسر إن هناك “موجة تطبيع” وبخاصة بين الدول العربية وتحاول روسيا ترجمتها في الأمم المتحدة. وأضاف أن الروس “لم يتخلوا عن جهودهم ولكنهم لم ينجحوا”.
المدن
————————
=======================
تحديث 13 شباط 2022
——————————
أوكرانيا: مجازفات النووي بين أحماض وصواريخ/ صبحي حديدي
التصعيد الدرامي الذي يكتنف ملفّ التأزّم في أوكرانيا بين الولايات المتحدة والحلف الأطلسي وأوروبا من جهة، وروسيا وشخص سيّد الكرملين فلاديمير بوتين من جهة ثانية، والارتدادات الفرعية في الصين وأسواق الغاز من جهة ثالثة؛ لم يكن ينقصه سوى تسريبات قصر الإليزيه الأخيرة، حول امتناع الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون عن الخضوع لفحص فيروس كورونا في موسكو قبيل لقائه مع بوتين، خشية أن يسرق الكرملين معطيات حمضه النووي. صحيح أن التسريب يستهدف، بين ما يستهدف، تبديد بعض أجواء التهكم التي أطلقتها طاولة الاجتماع، الطويلة المتطاولة الغريبة المضحكة، بين الزعيمين؛ إلا أنّ من الصحيح أيضاً أن تكون سلسلة رسائل، سياسية قبل تلك البصرية والبروتوكولية، وراء اختيار قطعة الأثاث الفريدة تلك.
ثمة، بادئ ذي بدء، تباعد في محتوى الوساطة التي جاء ماكرون آملاً في إنجازها، سواء لجهة الهوّة الفاغرة بين مواقف الاتحاد الأوروبي الذي تتولى فرنسا رئاسته الدورية حالياً، ومواقف روسيا؛ أو، ليس أقلّ مغزى بالطبع، بين مواقف ماكرون/ فرنسا مع قسط غير قليل من مواقف دول الاتحاد الأوروبي إزاء الملف الأوكراني. ويندر، ثالثاً، أن يجازف أحد بالتفاؤل حول عناصر التطابق أو التنافر في قراءة الإليزيه أمام قراءة البيت الأبيض حيال الملفّ إياه، إذا وضع المرء جانباً حقائق تقييم باريس لدراما التهويل التي تعتمدها واشنطن، بشراكة غير مفاجئة مع لندن، لجهة تأكيد الغزو الروسي في أوكرانيا.
وإذا جاز الافتراض بأنّ للكرملين مصلحة غير ضئيلة في صبّ الزيت على نيران التهويل الأمريكي بصدد الغزو الروسي، أو أنّ تسعير هذا السيناريو تحديداً يدغدغ الجوانب «الحربجية» في شخصية بوتين وعلى نحو ذاتيّ وسيكولوجي في المقام الأوّل؛ فإنّ للعبة، بما تنطوي عليه من أخطار عضّ الأصابع المتبادل، حدودها القصوى التي لا تسمح بالكثير من اللهو. ثمة مجازفات نووية الطابع، لا تبدأ من نشر الصواريخ المدججة بالرؤوس إياها ولا تنتهي عند المناورات الحساسة التي يجريها الروس بأسلحة لا تُجرّب حتى ضمن عمليات روسيا العسكرية في سوريا؛ ورغم كل الاحتياطات التي تُتخذ حين يكون الخيار النووي على المحك، فإنّ الحذر لا يُنجي دائماً من… القدر!
وليست متجردة كثيراً من القيمة، والمغزى، ما تسرّبه إلى وسائل الإعلام وكالاتُ الاستخبار الأمريكية المختلفة حول مخاطر من نوع آخر مختلف، لا يخطر على بال أبناء البشر العاديين متواضعي العلم والمعلومات في هذا المضمار: أنّ الإفراط في التهويل، والإيحاء بأنّ المعطيات الاستخبارية الأمريكية تبيح القول باحتمال غزو روسي وشيك، قد يقلب السحر على الساحر إذا لم يقع الغزو فعلياً (وهذا أمر وارد ومرجّح بالطبع)، ويقزّم ما توحي به أجهزة التجسس الأمريكية من سطوة كبيرة ومكانة عالية ويد طولى. في المقابل، ليس في وسع بوتين أن يشعل الكثير من النيران في نفوس أبناء روسيا حول الكبرياء القومية ونوستالجيا القوّة العظمى وأنموذج ضمّ جزيرة القرم، فضلاً عن التبختر هنا وهناك في طول العالم وعرضه، وإفساد خطط أمريكا والغرب مباشرة أو عن طريق مرتزقة «فاغنر»… ثمّ الاضطرار إلى التراجع، أياً كانت مظاهره، بما يعنيه ذلك من انسحاب خارج اللعبة، أو حتى خسرانها.
جدير بالاستذكار هنا، وفي كلّ نسق مماثل من التأزّم، أنّ الضحية الأولى لن تسقط في صفوف الوحدات الروسية المنتشرة على الحدود مع أوكرانيا، ولا في صفوف أفواج الحلف الأطلسي أو الفرقة 82 الأمريكية الشهيرة؛ إذْ سيكون المواطن الأوكراني، حتى ذاك الموالي لروسيا أو نصير الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، هو وقود أيّ انتقال للحال من التصعيد الدرامي الحالي إلى خيارات أخرى ذات صبغة عسكرية.
وليس هذا المآل سوى واحد من أكثر دروس التاريخ صحّة وقسوة، في آن.
القدس العربي
—————————-
سياسات بوتين تكون واقعاً جديداً/ فراس بورزان
كشف بوتين في ديسمبر الماضي أنه اضطر للعمل ليلاً كسائق أجرة نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي، يتذكر معظم الروس بمرارة كبيرة حقبة التسعينيات التي شهدت معاناة اقتصادية قاسية بالإضافة إلى حالة الإذلال القومي نتيجة تحول روسيا إلى قوة غير مهابة في العالم، كان بوتين في وقت سابق وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “أكبر كارثة جيوسياسية في التاريخ المعاصر”، وأضاف “مَن لم يشعر بالأسى تجاه انهيار الاتحاد السوفيتي إنسان بلا قلب، ومن يريد استعادة مثل ذلك الاتحاد السوفيتي، إنسان بلا عقل”!
توحي التوترات على الحدود الأوكرانية بأن بوتين يشعر بأن الوقت أصبح مؤاتياً لتصحيح تلك الأوضاع الذي تسببت بها ما سمي بمؤامرة “بيلافجسكويه بوشا” التي احتضنتها غابات بيلاروس في عام 1991 وجمعت ثلاثة رؤساء لجمهوريات سوفيتية في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا آنذاك الذين اتفقوا على التخلص من الاتحاد السوفيتي ورئيسه ميخائيل غورباتشوف الذي يلومه بوتين على توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً، فوفقاً للرواية الروسية اكتفى غورباتشوف بوعد شفهي غير مكتوب من الأميركيين بعدم توسع حلف شمال الأطلسي في دول حلف وراسو.
أحيا بوتين في الكرملين تقليداً روسياً قديماً ينظر إلى المجال الجيوبوليتكي الحيوي لروسيا على أنها منطقة نفوذ حصري لها، وتتحرك عسكرياً للدفاع عنه في حال حدوث اختراق، حدث ذلك في جورجيا 2006 وفي أوكرانيا 2014, سعى بوتين إلى ربط الدول في المجال الحيوي الروسي بهياكل واتفاقيات أهمها الاتحاد الأوراسي الذي يضم إلى جانبها بيلاروسيا، كازاخستان، قيرغيزستان وأرمينيا.
خلال العامين الأخيرين، قامت موسكو بتحركات حاسمة كان من شأنها تعميق نفوذها في مجالها الحيوي، تدخلت موسكو في بيلاروسيا مستفيدة من الاضطرابات التي نجمت عن تزوير الانتخابات الرئاسية التي جرت نهاية عام 2020، مما اضطر الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو للتوقيع على مرسوم “دولة الاتحاد” والاعتراف بحقوق روسيا في شبه جزيرة القرم، وإطلاق إصلاحات دستورية تحد بشكل كبير من سلطته الشخصية لصالح نموذج جديد أكثر ملاءمة لموسكو وتسمح لها بنشر قواتها وأسلحتها النووية في بيلاروسيا.
أرسلت موسكو بداية هذا العام قوات عسكرية إلى كازاخستان لدعم الرئيس توكاييف في موجة الاحتجاجات الشعبية ولإنهاء حالة ازدواجية السلطة مطيحة بالحرس القديم الموالي للرئيس السابق نورسلطان نزرابييف، مما منح موسكو هيمنة كبيرة على القرار السياسي لكازاخستان وعلى مواردها الهائلة التي يأتي على رأسها اليورانيوم، فضلاً عن احتمال انضمام كازاخستان إلى دولة الاتحاد مع روسيا وبيلاروسيا.
وفي القوقاز الجنوبي فرضت موسكو واقعاً جديداً في منطقة ذات أهمية استراتيجية بحكم موارد أذربيجان النفطية وموقعها على بحر قزوين، وبموجب الاتفاق الذي صاغته موسكو لإنهاء الحرب الأذرية الأرمنية ضمنت انتشاراً عسكرياً لها في إقليم “ناغورني قره باغ” الذي عاد إلى أذربيجان نتيجة الهزيمة التي سمحت موسكو بأن تمنى بها أرمينيا كعقاب لقادة ثورتها الملونة.
لا يمكن للمجال الحيوي الروسي أن يكتمل بدون استعادة أوكرانيا التي وصفها بريجنسيكي بالدولة المحورية جيوبوليتكياً لروسيا وبدونها لن تستطيع روسيا أن تكون دولة عظمى، هذا يخلق حافزاً كبيراً لدى بوتين لإخضاع أوكرانيا التي خرجت من نطاق الهيمنة الروسية بعيد ثورة الميدان 2014 مختارة أن تتجه غرباً، هذا الاتجاه تعزز لدى الأوكرانيين خاصة بعد الاحتلال الروسي للقرم ودعم موسكو للتمرد الانفصالي في الشرق الأوكراني، السعي الأوكراني لأن تكون جزءاً من منظومة حلف شمال الأطلسي للأمن سيقوض مكانة الدولة العظمى لروسيا ويشكل تهديداً عسكرياً لقلبها الأوروبي وحرية ملاحتها في البحر الأسود ويحشرها داخل حدودها الوطنية.
يشعر بوتين أنه يمتلك اللحظة التاريخية التي تمكنه من فرض مراجعة لقواعد اللعبة الدولية الحالية، وإجبار الولايات المتحدة على التفاوض على قواعد جديدة تعترف بروسيا قوة عظمى لها مصالح مصانة ومعتبرة وغير مقبول التدخل في شؤونها الداخلية ومجالها الحيوي الذي يشمل أوكرانيا والبحر الأسود، والمحذور التمدد خلف حدوده، هذه اللحظة صنعت عبر تطوير العقيدة العسكرية الروسية التي أصبحت ترى الحرب والسلام متكاملين في مسار متصل، ما تطلب تحديثاً شاملاً للقوات العسكرية وإمدادها بمنظومات وعتاد حديثين وتحسين قدراتها على النشر السريع للقوات مع الحفاظ على مستوى عال من الضبط والسيطرة، بموازاة ذلك طورت القدرات السيبرانية التي تلعب دوراً رئيساً في أي عمليات اختراق تتسبب في شل البنية التحتية الحيوية وعرقلة مقدرة الخصم على تنسيق مجهوداته، وأخيراً الاستخدام الواسع للقوات المتعاقدة “فاغنر” للقيام بعمليات قذرة خلف الحدود بدون تحمل تبعاتها وبتكاليف محدودة.
يستند بوتين في اندفاعه في هذه المغامرة إلى دعم صيني في الخلفية وضعف حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين ساهم هو في تفاقم ضعفهم باستخدام سياسات الطاقة وألعاب الاختراق السياسي والمالي والمعلوماتي للجبهة الداخلية الأوروبية، وإدراكه أن الإدارة الأميركية الحالية هي إدارة انتقالية وغارقة في تحديات دولية عديدة أبرزها مواجهة الصين بالإضافة إلى التحديات التي يفرضها الوضع الأميركي الداخلي.
في الوقت الحالي، لن يكون بمقدور الأميركيين تقديم ما يرضي موسكو التي لن تتعجل الرد على إجاباتهم وتترك باب الحوار موارباً، فهي على الأقل أنجزت ما تريده من هذه المرحلة بفرض واقع جديد بدأ يتكون بالفعل.
—————————-
الأزمة الأوكرانية:إسرائيل ستخسر الكثير..خاصة في سوريا
قال موقع “بريكنغ ديفنس” إن الأزمة الأوكرانية قد تؤثر على استراتيجة إسرائيل تجاه سوريا وإيران، خاصة وأن إسرائيل تعتمد على علاقات جيدة مع روسيا التي تسمح لها بالقيام بعملياتها في سوريا.
وأوضح الموقع في تحليل، أنه في حال حصول الغزو الروسي لأوكرانيا، والتوترات المتوقعة مع الغرب، قد تتعقد العلاقات الإسرائيلية-الروسية. وأشار إلى أن “إسرائيل قد تجد نفسها في موقف حرج” فهي ترتبط بعلاقات قوية مع واشنطن، ولكنها في الوقت ذاته تحتاج إلى الحفاظ على علاقتها مع موسكو التي تسيطر إلى حد كبير على المجال الجوي في سوريا، حيث تنفذ إسرائيل ضربات عسكرية ضد المصالح الإيرانية.
ولفت التقرير إلى أنه في حال فرض عقوبات واسعة على روسيا، سيتعين على إسرائيل أن توازن خطواتها، إذ إن أي إجراءات ضد روسيا قد تؤدي إلى عرقلة العمليات الإسرائيلية في سوريا، وهو ما تعتبره إسرائيل أمراً “حيوياً لأمنها القومي”.
ونقل الموقع عن مصدر إسرائيلي أن اجتماعات أمنية رفعية المستوى بحثت مؤخراً ما يمكن أن يحدث للعمليات العسكرية في سوريا في حال تغير العلاقات مع روسيا. كما تتخوف إسرائيل من خسارة الشركات الروسية التي تشتري منها منتجات “تكنولوجية” متطورة غير عسكرية.
وترى إسرائيل أن الأزمة الأوكرانية أصبحت مصدراً للإلهاء خاصة في ظل ما يحصل من مفاوضات جديدة مع إيران تتعلق بالاتفاق النووي، حيث لا تؤيد إسرائيل أي صفقة من هذا النوع.
الموقف هذا يؤيده الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال عاموس يادلين، والباحث الاستراتيجي بجامعة ريخمان البروفيسور أودي أوفينتال، اللذان أكدا في تقدير مشترك نشره موقع القناة 12 الاسرائيلية، أن “تطورات أزمة أوكرانيا حملت مساعي روسية لإيصال رسائل إلى الولايات المتحدة على حساب إسرائيل، بطريقة قد تهدد حرية عمل الجيش الإسرائيلي في سوريا تحديداً”. وأضافا أنه “في ظل أزمة عالمية حادة، من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بالطلب من إسرائيل أن تدعم مواقفها بوضوح، ودون مواربة، وفي هذه الحالة ستكون إسرائيل أمام أزمة جديدة مع روسيا، وهو ما لا تسعى إليه البتة”.
ورأى التقدير أن هذه الأزمة قد تمهد الطريق أمام إسرائيل لاقتناص الفرصة على المستوى الإقليمي، من خلال البحث عن معاقل وتحالفات جديدة، عبر تطوير المزيد من اتفاقيات التطبيع مع دول أخرى عربية وإسلامية، خاصة في مجال الدفاع الجوي والإنترنت، لمواجهة التهديدات الإيرانية، وفي سبيل ذلك فإنه يمكن إتاحة الفرصة لتوسيع العلاقات مع اللاعبين المهيمنين في المنطقة، مثل السعودية والإمارات والبحرين وتركيا، بجانب تعميق العلاقات مع دول السلام وتوطيدها، وهما مصر والأردن.
وبحسب تقدير الكاتبين الإسرائيليين، فإن تدهور علاقات روسيا مع الغرب لهذا المستوى قد يدفع تل أبيب إلى الزاوية، ويجبرها على اتخاذ موقف واضح لا ليس فيه، بل إن الطين زاد بلة بنظر الإسرائيليين في ظل الاصطفاف الصيني الجاري في الأيام الأخيرة بجانب روسيا، حيث تلقت موسكو مكاسب غير متوقعة من بكين، على شكل دعم معلن لمواقفها، وتعاونهما في مجال الغاز، الذي سيعوض روسيا عن أي عقوبات تفرضها أوروبا عليها.
وطالما أن العلاقات التجارية بين إسرائيل والصين آخذة في التصاعد رغم الغضب الأميركي، والعلاقات الإسرائيلية السياسية مع روسيا متنامية خدمة لمصالحها في سوريا، فإن الاستخلاص الإسرائيلي من تطورات الأزمة الأوكرانية، بحسب التقدير، أن إسرائيل قد تكون خاسرة فعلياً منها، وهذا الواقع الجديد سيترك تأثيره السلبي على استقرار المنطقة، وعلى الجهود الأميركية المبذولة لوقف توسع إيران، وبشكل غير مباشر على استقرار وردع إسرائيل في المنطقة، لأن روسيا ستكون أكثر دعماً لمواقف إيران.
————————–
فلاديمير بوتين.. زعيم روسيا الذي يقامر بإخراجها من “إدارة الكوكب”/ إبراهيم الجبين
لا يمكن النظر إلى لقاء القمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيسي الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا بعدسة التاريخ. أوكرانيا آخر الخطوط الحمر التي يريد الغرب أن يتجاوزها كدفعة أخيرة من جائزة انتصاره في الحرب الباردة قبل ثلاثين عاما. فالناتو في أوكرانيا يعني أنه وصل إلى العمق الروسي.
صاحب العقدتين
نجح الغرب في فرض الاستعداء الشامل من الروس الليبراليين، وهو لا يحتاج أن يستعدي القوميين الروس. في منطقة رمادية كان بوتين يقف ويتأمل كيف تبددت وعود وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر لزعيم الاتحاد السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف بأن الناتو لن يتمدد في فلك الاتحاد السوفييتي السابق. لم تكتب هذه الوعود في اتفاقية، وما كانت ستكتب.
ç مفاجآت الرئيس الروسي التي لا تنتهي قد تحمل ما لا يتوقعه الغرب، وربما سيضرب بوتين في مكان آخر بينما ينشغل العالم بأوكرانيا، أقرب تلك الأهداف هو مقايضة بايدن بملف أوكرانيا بما يعرف عند بوتين بـ”هندسة أمن أوروبا”
بوتين صاحب العقدتين الشخصيتين، العامة والخاصة. العامة في مشاهدة إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفييتي وهي تلهث منقطعة الأنفاس في سباق غير متكافئ مع الولايات المتحدة ومحاولات إنقاذها بالحديث عن الإصلاح (البريسترويكا والغلاسنوست)، ثم نهايتها وتفككها. والخاصة عندما كان ضابطا برتبة متوسطة في مكاتب المخابرات الروسية في برلين يوم انهار الجدار، وصار عليه أن ينقذ شرف مؤسسته بمنع الاستيلاء على أسرارها من قبل الناس الذين تدفقوا يبحثون عن شيء ينتقمون منه. بوتين اليوم في مهمة مماثلة من وجهة نظره لا يمكن أن يستوعبها ديمقراطي غربي منتخب مثل ماكرون. إنقاذ شرف الأمة الروسية من خطر داهم على حدودها سبق وأن عبث بمقدراتها.
سيكون على بوتين أن يتنبه هذه المرة، فالعالم يعوّل على سيكولوجيا الزعيم الروسي أكثر مما يعتمد على حكمة منع وقوع الحرب، والحرب إن وقعت فستكون الضربة الثالثة والأكثر خطورة على الكيان الروسي كله.
الأولى تعود إلى لحظة انهيار الدب السوفييتي، والثانية كانت عبر موجة الثورات العربية التي كان بوتين أكثر من يخشى من امتدادها شرقاً وشمالاً إلى جمهورياته الإسلامية. لم يكن غافلاً عن ذلك حين اعتبر أن وجوده العسكري في سوريا إنما هو حائط صد يجنّب الكيان الروسي مصائب لن يكون بوسع أحد التنبؤ بالنقطة التي ستتوقف عندها.
وها هو اليوم في أوكرانيا يحاول رسم خرائطه الدفاعية. خرائط حسب حسابها مبكراً حين ضم شبه جزيرة القرم وأعلنها أرضاً روسية. والمشكلة أن هذا كله تحرّكه خيارات بوتين لا مشورة جنرالاته، وهم الأدرى بنتائج ذلك، فمن يريد اليوم حرباً من غير المعلوم مع من ستكون، وكيف ومتى ستضع أوزارها؟
الهدايا المسمومة
المشهد الحالي ترسمه خيارات بوتين ولا تحرّكه مشورة جنرالاته ودبلوماسييه، وهم الأدرى بنتائجه ◘ المشهد الحالي ترسمه خيارات بوتين ولا تحرّكه مشورة جنرالاته ودبلوماسييه، وهم الأدرى بنتائجه
حكمة القاعدة السياسية القديمة أن الهدايا في السياسة دوماً مسمومة، لم تبدأ نتائجها في الظهور بعد في حالة بوتين، قدّم له الغرب سوريا على طبق من ذهب، وتفاهم الأميركيين معه كان نوعاً من التفويض، كان يصغي إلى خبرائه قبل ذلك، مكتفياً بالمراقبة، لكنه دُفع دفعاً بالإغراء والشغل من جديد على الإيغو العالي لديه، حتى أنه بات يستعرض كل مرة حين يجلب رئيس النظام السوري بشار الأسد إليه بطائرة ثم يعيده سراً كما جاء، ليقول للعالم إن هذه المهمة قد أنجزت.
غير أن هذا ليس رأي كبار صناع السياسة الخارجية الروسية، فالوزارة بأكملها تقريباً باتت في حالة يأس من تحقيق رغبة بوتين بإعلان انتصاره في سوريا. قد يمكن ذلك عبر الحملات الصاروخية وتجريب أنواع الأسلحة واستعادة بعض المناطق، لكنه لن يصنع خشبة مسرح ينهي فيها مشروعه مع الأسد. فهناك عمل دبلوماسي مع العالم والأمم المتحدة، وهو ما لا يتيحه وضع الأسد، ليس فقط لأنه لا يريد، بل لأنه لا يستطيع تقديم المزيد لبوتين. وهو ما يشتكي منه مسؤولو الخارجية الروس منهين همساتهم بالقول ”ذاك الذي يسكن الكرملين هو وحده فقط من يريد الاستمرار“.
لا يستطيع الإسرائيليون إنقاذ بوتين من ورطة سوريا، وانسحابه منها سيكون هزيمة وهبة مجانية يقدّمها لخصومه وكذلك لحليفه الإيراني الذي لم يراع المصلحة الروسية في أيّ تحرك له على الخارطة السورية.
لكن سوريا ليست موضوعنا اليوم، فهي مجرد حمولة من الحمولات الثقيلة التي وضعها بوتين على كاهل روسيا، اليوم ستكون أوكرانيا هي المسرح.
ماكرون قال بعد اجتماعه الغرائبي مع بوتين إن الأخير أكّد له أن ”القوات الروسية لن تُصعّد الأزمة بالقرب من الحدود الأوكرانية“، وأضاف ”حصلتُ على تأكيد بألا يحصل تدهور أو تصعيد في الأزمة“. لكن الروس قالوا أيضاً بالتوازي مع ذلك إنّ “أيّ اقتراح بتوفير ضمانات يعدّ أمرا غير صائب“.
◘ بوتين صاحب العقدتين الشخصيتين، العامة والخاصة. العامة في مشاهدة إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفييتي وهي تلهث منقطعة الأنفاس في سباق غير متكافئ مع الولايات المتحدة والخاصة عندما كان ضابطا برتبة متوسطة في مكاتب المخابرات الروسية في برلين يوم انهار الجدار، وصار عليه أن ينقذ شرف مؤسسته بمنع الاستيلاء على أسرارها
يطيب لبوتين أن يجعل العالم يقف على رجل واحدة، بانتظار قراره، هو يعتقد مثل من سبقوه أن هذا يكمل بهرجة زعامته القومية التاريخية كمنقذ ومخلّص لروسيا. لكنه أيضاً يعرف ما الذي تخبّئه له الخطط طويلة الأمد للأميركيين.
كان مهماً للغاية ما كتبه روجر بويس في “التايمز” البريطانية محذراً الروس من حماقة قد يورطهم فيها بوتين، قائلاً “يجب جعل بوتين يفهم أن غزو أوكرانيا سيكون عملا من أفعال إيذاء الذات الأساسي لروسيا، ونهاية حلمها بأن تكون قوة عظمى مع امتداد عالمي“، وأضاف بويس إن “التحليل الروسي للطموحات المبكرة لإدارة جو بايدن كانت أن الرئيس (الأميركي) الجديد سوف يتخلص من بعض أعباء أميركا من أجل التركيز على تحويل التنافس الجيوسياسي مع الصين إلى نوع من الإدارة المشتركة للكوكب“.
إذا كان الروس يفهمون النهج الأميركي على هذا النحو، فهم لن يقبلوا بتحييدهم من أجل تفاهم أميركي – صيني قادم يجعلهم مجرّد حجر على رقعة الشطرنج.
في حال كان بوتين يدرك هذا جيداً، فهو في وضع حرج اليوم. لن يحقق انتصاره في أيّ مكان، وعليه أن يتعلم كيف يتراجع في الوقت المناسب، وهو الذي لم يفعل شيئاً مماثلاً منذ أن آلت إليه السلطة.
أما المشاركة في إدارة الكوكب فهي تحتاج منه أيضاً تنازلات من الصعب أن يقدم عليها، فهي تمس الشخصية الروسية التي يجسدها بوتين والتي ما زالت ترفض الانجراف في العولمة، بدءاً من الديمقراطية الغربية التي يعتبرها بوتين نموذجاً قديماً غير مناسب، إلى اقتصاد السوق الحرة، إلى حروب الغاز، وشبكة الإنترنت السوداء، وقوانين حقوق ملكية الابتكارات التكنولوجية، إلى القضايا الأصغر كالمثلية ونظائرها من قيم الغرب. تلك الشخصية ستكون في تحدّ صعب مع الشراكة.
الصين تختلف عن روسيا، لديها معادلاتها عند الأميركيين، أما بوتين وروسيا فهما ملف يكاد يكون منتهياً، أشبع درساً وبحثاً وتُرك في النهاية بين يدي بوتين ليحسمه بنفسه.
بيكين تشجّع بوتين على المضي في تحديه للغرب، وحتى قبل أيام قليلة، كان رئيسها شي جينبينغ يدعو مع بوتين إلى “حقبة جديدة” في العلاقات الدولية تضع حدّاً للهيمنة الأميركية.
الرئيسان وجداها فرصة للتنديد بدور حلف الناتو وحلف ”أوكوس” الجديد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، متهمين الحلفين بأنهما يقوّضان “الاستقرار والسلام العادل في العالم“.
لكن العالم ما يزال يضغط على الروس، وها هي وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس تذكّرهم في مؤتمرها الصحافي الساخن مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف إن حرب الشيشان كانت حرباً مكلفة، وأن الحرب في أوكرانيا ستكون طويلة جداً.
لم يبدُ لافروف ناطقاً باسم بوتين، على الرغم من أنه غضب ووجه إهانات لتراس رغم أنها ضيفته، بعد أن توسّع في وصف الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب على روسيا والسيناريوهات الوهمية التي اعتبر أن بريطانيا رأس حربة في تلفيقها ضد بلاده.
كان لافروف يوجه رسائل في العديد من الاتجاهات من بينها بوتين نفسه، حين تحدّث عن قرب عودة القوات الروسية إلى مواقعها وانتهاء التدريبات الروسية والبيلاروسية، وأضاف ”حينها سيقول الغرب الذي يريد تحويل موضوع أوكرانيا إلى دراما وكوميديا إنه قد انتصر على الروس“، وترجمة ذلك أنك لن تحقق انتصاراً في أوكرانيا يا سيدي الرئيس، فلا ضرورة لأن تمنح الغرب انتصاراً بلا مقابل ما دام هناك مخرج.
من سيطلق الرصاصة الأولى؟
بوتين اليوم في مهمة لا يمكن أن يستوعبها ديمقراطي غربي منتخب كماكرون، لإنقاذ شرف الأمة الروسية ◘ بوتين اليوم في مهمة لا يمكن أن يستوعبها ديمقراطي غربي منتخب كماكرون، لإنقاذ شرف الأمة الروسية
من الذي سيطلق الرصاصة الأولى في الحرب؟ لن يكون الغرب بالتأكيد. ولا توجد ضمانة تقول إن بوتين لن يفعل هذا استكمالاً لأبّهته التي توّجت بمئة ألف جندي على الحدود الأوكرانية، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو ووقف توسّع الحلف شرقًا.
الروس أعلنوا إجراء تدريبات ضخمة في بيلاروسيا ستمتد خلال الفترة من التاسع إلى العشرين من فبراير. وهذه الأيام ستكون حاسمة في رسم مستقبل بوتين وروسيا التي نعرفها، الغرب يكاد يكون متيقناً من أن بوتين سيجتاح أوكرانيا، كما يؤكد ماتيو بوليغ من مركز تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث الذي يقول إن “روسيا تتحضر، من الناحية العسكرية، لعدد كبير من الاحتمالات؛ من حرب نفسية عبر هجمات سيبرانية وإعلامية إلى غزو ضخم، ولم تعد المسألة بالنسبة إلى موسكو إن كانت ستتدخل في أوكرانيا ولكن متى وكيف“. مناخ يذكّر بمباحثات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين في ثلاثينات القرن الماضي في برلين لمنع غزو الجيش الألماني للتشيك، ونظرية المسؤول البريطاني المحنّك التي حالف بها من حوله، حين رأى أن منع وقوع الحرب اليوم قد يساعد في الاستعداد لها لاحقا، لكن مفاجآت الرئيس الروسي التي لا تنتهي قد تحمل ما لا يتوقعه الغرب، وربما سيضرب بوتين في مكان آخر بينما ينشغل العالم بأوكرانيا، على أن يكون ذلك هو الثمن لتراجعه عن غزو البلد الجار، أقرب تلك الأهداف هو مقايضة بايدن بملف أوكرانيا بما يعرف عند بوتين بـ”هندسة أمن أوروبا“.
◘ ربما سيضرب بوتين في مكان آخر بينما ينشغل العالم بأوكرانيا، على أن يكون ذلك هو الثمن لتراجعه عن غزو البلد الجار، أقرب تلك الأهداف هو مقايضة بايدن بملف أوكرانيا بما يعرف عند بوتين بـ”هندسة أمن أوروبا“
العرب
————————————
سوريا- أوكرانيا: سيناريو روسي ضد أميركا/ بشير البكر
تعمل الولايات المتحدة من أجل تحقيق هدفين في سوريا بشكل عاجل. الأول هو الحفاظ على الوجود الأميركي على الأراضي السورية. والثاني هو منع بسط استقرار الأوضاع بهذا البلد. هذه هي الخلاصة الأخيرة التي توصلت إليها هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية، وكشفتها للرأي العام في بيان أصدرته يوم الثلاثاء الماضي. وبنت على تقديراتها التي لا يرقى إليها الشك سيناريو مرتقبا في سوريا، يقوم على توجيه الولايات المتحدة “جماعات متطرفة في سوريا لاستهداف القوات السورية والروسية والإيرانية تزامناً مع تشجيع الاحتجاجات في البلاد”.
وبحسب البيان، تخطط الاستخبارات الأميركية “لتوجيه خلايا نائمة للمتطرفين في مدينة دمشق والمنطقة المتاخمة لها، وكذلك في محافظة اللاذقية إلى شن عمليات دقيقة على عناصر أجهزة قوات الأمن، وكذلك العسكريين الروس والإيرانيين”. وكي تتم هذه الخطة “تنوي واشنطن إطلاق حملة إعلامية واسعة بما في ذلك في الحسابات الناطقة باللغة العربية، في مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيع الميول الاحتجاجية في المجتمع،” وكي تبدو الحبكة الروسية محكمة، فإن موسكو تطرح المشكلة “من المخطط استغلال الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية الصعبة لتنظيم مظاهرات حاشدة مناهضة للحكومة”، وتقدم الحل “ما يدفع أجهزة إنفاذ القانون خلالها إلى استخدام غير متكافئ للقوة بحق هؤلاء، الذين سيتم فيما بعد تسميتهم بالمحتجين السلميين”.
والغريب هنا هو أن البيان ينص على “استخدام غير متكافئ للقوة” من طرف النظام، ضد الذين يزعم بأن واشنطن ستحركهم كي تسميهم ب “المحتجين السلميين”، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يقول السيناريو الروسي “سيقوم الأميركيون باستخدام اتصالاتهم الوثيقة مع ما يسمى المعارضة المسلحة، أو عملياً مع الجماعات المتطرفة الإسلامية”، وكي تنجح واشنطن في تنفيذ مخططها ستقوم بـ “إطلاق حملة إعلامية واسعة بما في ذلك في الحسابات الناطقة باللغة العربية في مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيع الميول الاحتجاجية في المجتمع”، ويجزم السيناريو الروسي بأنه يتحدث عن معلومات، وردت إلى هيئة الاستخبارات الخارجية الروسية، وليس عن فراغ، ولذلك يحدد الهدف بدقة وهو “سعي إدارة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الوجود الأميركي على الأراضي السورية، مع منع بسط الاستقرار في الأوضاع بهذا البلد”.
المخابرات الخارجية الروسية جهاز مكلف بالعمل في الخارج، ومن المفروض أنها محترفة ومكلفة بالسهر على مصالح روسيا، ومع ذلك فإن بيانها هش، ويستدعي تسجيل عدة ملاحظات، أولها هي، لا يمكن أخذ السيناريو الذي رسمته المخابرات الروسية للمستقبل القريب للوضع في سوريا بخفة، لاسيما وأنها نشرته في بيان رسمي تناقلته وسائل الإعلام. والملاحظة الثانية هي، لا يعني بكل الأحوال أن المخابرات الروسية تقوم بكشف هذه المعلومات حبا بالكشف، أو محاولة للتعليم على أميركا فقط، وإنما هناك أهداف أبعد. والملاحظة الثالثة هي، إن صحة المعلومات من عدمها، لا تغير في الهدف الذي تتوخاه روسيا من ورائها. والملاحظة الرابعة هي، اتهام واشنطن بأنها تعمل على “منع بسط الاستقرار في الأوضاع بهذا البلد”، وهو ما فشلت فيه القوات الروسية بعد أكثر من ست سنوات على تدخلها. والملاحظة الخامسة هي، إن توقيت نشر هذا البيان غير منقطع الصلة عن التطورات داخل سوريا، وما تواجهه مشاريع روسيا الأخرى، ولاسيما في أوكرانيا.
يعبر البيان عن انزعاج روسي من الحضور الأميركي في سوريا، رغم أنه حضور قديم يعود إلى ما قبل وصول الروس إلى سوريا في أيلول 2015، وهو محدود ضمن مساحة جغرافية معينة في محافظتي الحسكة ودير الزور، وله وظيفة معلنة هي الحرب على داعش، وسبب الغضب الروسي هو أن موسكو لم تتمكن من انتزاع مناطق حيوية ولاسيما منابع النفط من السيطرة الأميركية، وبقي حضورها يقتصر على بعض المواقع التي يوجد فيها النظام مثل مطار القامشلي، الذي تحول إلى قاعدة عسكرية روسية، ولكن لا يمكن تفسير بيان المخابرات الروسية على هذا الأساس فقط، ومن التفاصيل التي حفل بها يمكن توقع الأسوأ في سوريا، وليس من المستبعد أن تقوم روسيا والنظام وإيران بتفجير جديد للوضع، وهو ما حذر منه الجنرال الأميركي إريك كوريلا المرشح لمنصب القائد العام للقيادة المركزية الأميركية، خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي يوم الأربعاء الماضي. وقال إن “غزو روسيا لأوكرانيا قد يؤدي إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا”.
وفي كل الأحوال، من غير المستبعد أن تقوم روسيا بتفجير الوضع الهش في سوريا بعد أن فشلت في الاستثمار السياسي لحضورها العسكري، الذي يتمثل في القواعد التي أقامتها في الساحل وانتشار قواتها من أقصى الجنوب حتى أقصى الشمال. وقد يكون في حسابها استدراج القوات الأميركية في حال حصلت المواجهة في أوكرانيا.
————————————
ماذا يريد الغرب من أوكرانيا؟/ فاطمة ياسين
يمكن اعتبار أوكرانيا رمزا من رموز الهزيمة في الحرب الباردة التي تلقتها روسيا السوفييتية بداية تسعينيات القرن الماضي، وكان سباق قد بدأ بالفعل مع تحول المعارك في الحرب العالمية الثانية لمحاربة الألمان، فتحرك الجيش الأحمر السوفييتي بالسرعة القصوى لوضع يده وعقائده على كل المساحة التي يمر عليها، وكانت أوكرانيا قد خضعت بالفعل لهيمنة روسية السوفييتية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ولكن كل ذلك انتهى بانهيار النظام الشيوعي الذي أسقط معه كل ما كان يتعلق بالسوفييت، بما في ذلك أوكرانيا، التي حصلت على استقلالها وحددت نظامها السياسي الخاص.
بقيت روسيا متربصة بإرثها القديم كله، وقد منعها الضعف الذي عانت منه، طوال العقد الأخير من القرن الماضي، من أية محاولة لاستعادة ما خسرته بالفعل، لكن مجيء فلاديمير بوتين إلى السلطة، ونجاحه في التمسك بها طوال الفترة الماضية، مع تكرار مقولة أنه يقود نظاما ديمقراطيا، زحزح المشهد، فقد عبّر بوتين بسلوكياته المتنوعة عن رغبته في استعادة ما خسره الشيوعيون من أراضٍ، تلك التي كانت تقع ضمن نظام السوفييت، ومنها جمهوريات البلطيق الثلاث، بالإضافة إلى أوكرانيا التي تقع على الخاصرة الغربية لروسيا.
يلعب التاريخ والجغرافيا السياسية دورا لصالح بوتين، فلطالما كانت أوكرانيا تقع ضمن السيطرة الروسية، وتخشى روسيا اليوم أن تتحول أوكرانيا إلى خط مجابهة ساخن مع الناتو، إذا ما توصلت إلى نيل عضويته، ويسوق بوتين مخاوفه بهذا الشأن، ويمانع قيام أية صلة بين الناتو وأوكرانيا، بتحريك خلايا خلق الفوضى في الداخل الأوكراني، وقد نجح في دعم انفصاليين في إقليم الدونباس الواقع على الحدود بين الدولتين، وحشد قواته بالقرب من أوكرانيا، حتى بلغ تعدادها رقما يوحي بنية الغزو، ولكن ما يخشاه بوتين بالفعل، هو النظام السياسي الذي تبنيه أوكرانيا، والذي يعكس ديمقراطية حقيقية، يعبر فيها الناس بحرية كاملة عن توجهاتهم السياسية، ما قد يهدد سلطة بوتين بانتقال هذه العدوى إليه، ومثل هذا النوع من العدوى مرشح للمرور بسهولة، نظرا لحالة الحريات المتردية في روسيا، وقد يساعد الاقتصاد الروسي المتهاوي في خلق المتاعب لبوتين في شوارع موسكو، فحاجة بوتين لكييف حاجة تكاد تكون وجودية لذلك نجده يتمسك بإبقائها تحت نظره، وإن اضطر إلى استخدام قواته المسلحة، بما يحمل ذلك من أخطار كبرى على أوروبا كلها.
يعرف الغرب وأميركا بالتحديد أن روسيا لم تعد دولة عظمى، فقد ولت عهود الإيديولوجيا التي مكنت لروسيا السوفييتية من أن تمد يدها إلى أماكن بعيدة عنها، وقد وصلت فيما مضى إلى حدود أميركا ذاتها، فيما عرف حينها بأزمة صواريخ كوبا، والخطورة التي تمثلها روسيا هي خطورة أمنية فقط، بامتلاكها لترسانة نووية كبيرة، موزعة على رقعة جغرافية شديدة الاتساع، يمكن أن تشكل أخطارا وتهديدات على كل أوروبا، ومناطق شاسعة من أسيا، ويمكن لها أن تثير القلق بتحريك قواتها وإظهار ذلك إعلاميا، والغرب وأميركا يسعيان إلى السيطرة على مساحة الخطورة التي يتحرك فيها بوتين، وذلك بضم أوكرانيا وجورجيا أيضا إلى حلف الناتو، ونشر أسلحة ومحطات إنذار مبكرة تعطي مزيدا من الوقت للناتو للاستعداد أو الرد، وتريد الاقتراب أكثر من موسكو حتى يكون الكرملين على مرمى حجر، فتصبح قادرة على زعزعة استقرار بوتين السياسي والتخلص من عقبة عنيدة ومستعصية، ليتم الانتهاء تماما من ملف الحرب الباردة الذي ما زال وجود بوتين يبعثه حيا.
يعرف بوتين أن الناتو متردد عسكريا تجاهه، ويعرف انكفاء جو بايدن، الذي أكملت قواته الانسحاب من أفغانستان للتو، ولدى بوتين من القوة العسكرية ما يجعله قادرا على إثارة الشغب والقلق، وهو غير مضطر لنقل قواته بعيدا، فأوكرانيا على تخوم روسيا، ولديه اليد الطولى في إقليم الدونباس الذي توجد فيه مجموعة كبيرة من المؤيدين لروسيا، وهو يلعب بعض الأوراق التي يعتقد بأنها ستربح في ظل الظروف الحالية، ولكن سواء حدثت الحرب أم لم تحدث، فلن تحل مشكلة بوتين مع الغرب، أو مشكلة الغرب مع بوتين، ولن يتعدى الأمر سوى التأجيل، انتظارا لظروف أخرى، أما ويلات الحرب إن حدثت، فسيتحملها المواطن الأوكراني وكذلك الاقتصاد الروسي، ومع ذلك سيكسب بوتين “نصرا” قوميا يساهم ببقائه مدة جديدة.
——————————–
وهم التحالف الروسي الصيني/ ممدوح الشيخ
تتطوّر لغة الخطاب السياسي بشأن أزمة أوكرانيا على نحو يكشف عن “بنية” مواجهة حتمية بين روسيا والغرب. والحديث عن المواجهة لا يعني بالضرورة احتمال الحرب، لكنه يعني رجحان احتمال استمرار التصعيد: خطابًا وممارسةً. والتأكيدات الرسمية الأميركية المتتابعة بشأن سيناريو غزو روسي لأوكرانيا هي، بحد ذاتها، مؤشّر على المخاطر التي تنطوي عليها حالة المواجهة. صحيحٌ أن كلا الطرفين يملك أوراق لعب يمكن استخدامها في مواجهة الطرف الآخر، لكن المسافة كبيرة بين “القدرة الشاملة” لكلا الطرفين. وعليه، الخطاب التحليلي الذي يستخدم مفردات الحرب الباردة ويطابق (بلي عنق الحقائق) بين حال المواجهة بين ما يجري الآن وما كانت عليه الحال بين حلفي وارسو والناتو يرتكب “جريمة تحليلية”.
وضمن أكثر مفردات هذا الخطاب تضليلًا وصف العلاقات الروسية الصينية بـ “التحالف”، لأن “شراكة القيم” أول مؤهلات نجاح التحالفات وديمومتها، وهو ما لا ينطبق على الإطلاق على العلاقات الصينية الروسية، فضلًا عن “المجازفة” بادّعاء أن إيران ضلع ثالثة في هذا التحالف الموهوم. وكلا البلدين: روسيا والصين، شهدا تحوّلات كبيرة خلال العقود الثلاثة الماضية تجعل “مقولة القيم” بالنسبة لما يحدّد الخطوط العريضة لاستراتيجية الدولتين في إدارة علاقاتهما الدولية ضربًا من الخداع اللغوي، فالصين منذ حكم دينغ شياو بينغ (1978 – 1992) تشهد تغيرات تفتقر إلى أبسط قواعد الاتساق، وتشكّل “سياسات القسر” سبب نجاحها الرئيس. والمزاوجة التي اعتمدها بينغ بين نمط الإنتاج الغربي وحكم الحزب الواحد ما تزال تشهد تصدعات ليس أولها، وغالبًا لن يكون آخرها، مجزرة تيان آن مين (1989). وروسيا من ناحية أخرى تغيرت تغيرًا جذريًا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأصبح بناء نظامها السياسي خليطًا من المافياوية والشمولية الكلاسيكية والأرثوذكسية والقومية المتطرّفة، وبالتالي لم تعد تؤسّس تصوراتها الاستراتيجية على تصور نظري يتصف بالاتساق.
والتوجه الكبير في سياسات البلدين نحو سلوك براغماتي في العلاقة مع الغرب يجعل لغة المواجهة “ضيفًا غير مرغوب فيه”، على الرغم مما يحققه خطاب “المواجهة” والصراع من مكاسب سياسية آنية شعبوية تغذّي المخاوف وتتغذّى عليها في آن. ومن الناحية التاريخية، لم تكد العلاقات بين البلدين، خلال النصف الثاني من القرن العشرين كله، تخلو من دوافع انعدام الثقة، والوحدة على قاعدة “عدو عدوي صديقي”، لا تؤتي ثمارها إلا على المدى القصير، وتخفي التناقضات التي لا يكون مفرّ من انفجارها عاجلًا أو آجلًا. والتوجه الأميركي نحو “احتواء” إيران بالموقف من حرب اليمن، والمساومة (الصريحة أو الضمنية) على رفع العقوبات، وغيرها من “الأبواب نصف المفتوحة” مع طهران لا يستبعد يوقف مسيرة التقارب الإيراني مع موسكو وبكين معًا، ولو إلى حين.
وفي بعض التفاصيل ما يستحق التوقف عنده طويلًا، فالضمانات التي تطلبها روسيا من أميركا وحلفائها تشبه مطالب دولة حققت انتصارًا عسكريًا شاملًا على خصم، وتطلب منه توقيع وثيقة استسلام، وهي مطالبُ لا يوجد ما يبرّر قبولها مطلقًا. وفي حال استسلم الأطلسيون للابتزاز الروسي مرّة ستكون المآلات في المستقبل أكثر سوءًا. في الوقت نفسه، فإن المواقف الأوروبية التي تتحول بسرعة كبيرة نحو الرفض الجماعي والالتزام الواضح بالعمل كـ “حلفاء” يكشف حقيقة بؤس الموقف الروسي، فالتقارب التكتيكي شيء والتحالف شيء آخر تمامًا. والصين في الحقيقة أصبحت “مرتهنة” للرأسمالية الغربية بدرجةٍ غير مسبوقة، وهذا الارتهان سيكون العنصر الحاسم في القرار السياسي الصيني.
والموقف الروسي محاولة، لا يرجّح أن تنجح، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء عبر المطالبة بإعادة الاعتبار لـ “ضمانات شفوية” يؤكدون أن الزعيم السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، تلقاها من نظيره الأميركي جورج بوش الأب، وهي ضماناتٌ ينكر الأميركيون أنهم قدموها. أما الروس فيحمّلون غورباتشوف المسؤولية عنها كـ “خطأ شخصي”، لكنها في الحقيقة ثمن الفشل الكبير الذي منيت به الشيوعية، وهو فشلٌ لم يصنعه غورباتشوف، والضعيف/ المهزوم يقبل ما يمنحه القوي/ المنتصر، وليس من حقه أن يضع على الطاولة “وثيقة استسلام” ليوقعها المنتصر!
وحتى “تحالف يوكوس” الذي أنشأته أميركا لمواجهة الصين، وقد دخل “متأخرًا” قاموس الخطاب الرسمي الروسي عن الأزمة، يؤكد الطبيعة التكتيكية للتقارب الروسي الصيني، وهو بالتالي ليس تحالفًا، ووصفه بذلك تسويق للوهم.
العربي الجديد
————————–
بوتين وأوكرانيا وحلم العودة إلى عالم ما قبل سقوط الاتحاد السوفياتي/ محمد خلف
مع قرع طبول حرب واسعة بين روسيا وأوكرانيا ثمة شكوك في ما إذا كان بوتين سيستفيد شعبياً من حدث كهذا، أو على الأقل، إذا كان بإمكانه الاستناد إلى دعم شعبيّ كبير للحرب المحتملة.
تبدو الأزمة أبعد من الجغرافيا وأكبر من الأمن، وأصبحت تمثل جوهر العلاقات بين أعضاء الناتو حول مستقبل تحالفهم من جهة، وروسيا واختبار القوة ومحاولاتها انتزاع الاحترام والجلوس على طاولة تقرير المصير الدولية، من جهة أخرى.
ربما لم يتبق جانب من الأزمة الروسية- الغربية حول أوكرانيا إلا وتناولته الصحافة العالمية، ولكن الهوامش يمكن العثور عليها بين السطور عبر التمعن والتدقيق في مواقف الأطراف المتواجهة.
فيما يحشد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ماكينته الحربية ويزج بمئات آلاف الجنود الروس على حدود أوكرانيا، ويرسل الأسلحة والمعدات العسكرية المتطورة إلى حليفته المنبوذة شعبياً بيلاروسيا، ويتحالف مع عدو أميركا الصيني، يبقى الشيء المؤكد هو أن سكان شرق أوكرانيا الناطقين بالروسية يرفضون ما تقدمه قيادات الجماعات الانفصالية الحاكمة المدعومة من بوتين، من ترحيب وتأييد للغزو الروسي لمناطقهم. أظهر استطلاع للرأي نظمه مركز الاستطلاعات الروسي المستقل ( ليفادا) تضعضع وهشاشة في قاعدة بوتين الشعبية في أوساط هؤلاء. فقد عارضت سياسته نسبة 43 في المئة، تقابلها النسبة ذاتها من الداعمين له. من الواضح أن الجيل الجديد ممن هم تحت الأربعين، يرفض فكرة بوتين عن ضم أوكرانيا إلى الاتحاد الفيدرالي الروسي، ويرى كثيرون أن الحرب في أوكرانيا “هدفها تعزيز سلطته”.
بوتين وشعبه والحروب
في روسيا تبدلت امزجة الرأي العام عما كانت عليه إبان فترة غزو جزيرة القرم وضمها إلى الاتحاد الروسي عام 2014، عندما كانت قوة بوتين وصلت آنذاك إلى ذروتها. اليوم ومع قرع طبول حرب واسعة بين روسيا وأوكرانيا ثمة شكوك في ما إذا كان بوتين سيستفيد شعبياً من حدث كهذا، أو على الأقل، إذا كان بإمكانه الاستناد إلى دعم شعبيّ كبير للحرب المحتملة. فلقد أشار باحث في “مركز كارنيغي موسكو” ألكسندر كولسنيكوف إلى بحث أجراه المركز عام 2015 أظهر عدم وجود حماسة كبيرة لحرب واسعة “حقيقية” لدى المجتمع المديني الحديث في روسيا.
هذا يكشف بوضوح ان الرأي العام الروسي اصبح دفاعياً: “لا علاقة لروسيا بهذا الأمر، يجب لوم الولايات المتحدة وأوكرانيا على جميع الخسائر في الأرواح، ولا توجد حرب حقيقية جارية في أي حال”. ويسود الشعور ذاته الآن، إذ يتضح من استطلاع رأي حديث لمركز “ليفادا”، أن 50 في المئة من المستطلعين رأوا أن واشنطن وحلف شمال الأطلسي يتحملان مسؤولية تدهور الأوضاع في أوكرانيا، بينما وجد 16 في المئة أنّ أوكرانيا هي المسؤولة. وحمّل 4 في المئة روسيا مسؤولية تدهور الأوضاع. فإذا كانت هذه الاستنتاجات دقيقة، فمن الجلي أن “الروس سيرفضون حرب الاختيار” التي بدأها زعيم أصبح مهووساً بحلمه عن الزواج الإجباري مع أوكرانيا، وإعادة بناء مكونات الاتحاد السوفياتي القديم وتحت فوهة المدفعية، رغماً عن شعوب هذه الدول”، بحسب البروفيسور اوغنيان منتشيف استاذ العلوم السياسية في جامعة صوفيا.
وأظهر استطلاع أجري عام 2014، أن 26 في المئة من الروس يعتبرون أن “روسيا محاطة بالأعداء من جميع الجهات”. وانخفضت النسبة إلى 16 في المئة عام 2020. وازداد عدد من قالوا إنه من غير المجدي البحث عن أعداء لأن “جذور الشر كانت أخطاء روسيا نفسها”، من 17 في المئة إلى 25 في المئة خلال الفترة نفسها. عام 2021، قال 23 في المئة من الروس إنه على أوكرانيا وروسيا أن تكونا جارتين ودودتين مع الاحتفاظ بحدودهما. ودعم 17 في المئة فقط توحيد الدولتين. وقال 66 في المئة من الروس الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 إنهم يحتفظون بنظرة إيجابية أو إيجابية جداً تجاه أوكرانيا، على رغم الانتقادات اللاذعة الموجهة إليها على التلفزيون الحكومي والفكرة المتكررة بأن الهجمات الآتية من الخارج تتطلب اتخاذ روسيا إجراءات دفاعية.
ماذا عن موقف مواطني الاتحاد الأوروبي؟
الصورة على الجانب الأوروبي تشير إلى أن أن معظم الأوروبيين يؤيدون وقوف الاتحاد والحلف الأطلسي بجانب كييف في أزمتها الراهنة مع موسكو، واعتبروا أن روسيا سوف تقدم على غزو أوكرانيا خلال العام الحالي.
ونقلت صحيفة “الغارديان” البريطانية عن مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، الذي أجرى الاستطلاع في سبع دول يمثل مواطنوها ثلثي سكان بلدان الاتحاد الأوروبي، إن البيانات تشير “إلى شيء من الصحوة الجيوسياسية في أوروبا”.
ووفقاً للمشرفين على الدراسة فإن معطيات الاستطلاع تدحض الأكاذيب بأنه “لم يعد هناك الكثير من الصدقية في العبارات المبتذلة التي تقول إن الأوروبيين يعتقدون أن الحرب لا يمكن تصورها، وأن السلام أمر مفروغ منه”، مؤكدين أن كثراً من الأوروبيين باتوا يعتقدون أنهم في عصر ما قبل الحرب، وليس ما بعدها. وعند سؤالهم عن الجهات التي يثقون في حمايتها لمصالح مواطني الاتحاد الأوروبي في حالة غزو روسيا لأوكرانيا، قال ما لا يقل عن نصف الذين شملهم الاستطلاع في كل دولة (ارتفعت النسبة إلى أكثر من 60 في المئة في بولندا والسويد وإيطاليا ورومانيا) إنهم يثقون في الاتحاد الأوروبي. وفي السويد وفنلندا، كانت الثقة في الاتحاد الأوروبي أكبر مما كانت عليه في الناتو. وفي بولندا ورومانيا والسويد قالت معظم الآراء إن تقديم المساعدة لأوكرانيا “يستحق المخاطرة” بكل هذه العواقب المحتملة، وقال 53 في المئة ممن شملهم الاستطلاع في بولندا على وجه الخصوص إن دعم أوكرانيا يستحق المخاطرة. ومع ذلك، ربما كان المواطنون في فرنسا وألمانيا هم الأقل استعداداً لتحمل أي من هذه الأعباء المحتملة، ما يشير إلى أنهم يعتقدون أن تكاليف مساندة كييف قد تفوق المنافع، على حد قول معدي الدراسة.
الأميركيون وأوروبا والحرب في أوكرانيا
لننظر الآن إلى اتجاهات الرأي العام الأميركي في ما يخص التوتر المحتدم بين ادارة بايدن وبوتين حول أوكرانيا. يقول السفير الأميركي السابق لدى سوريا والجزائر، والباحث الآن في معهد الشرق الأوسط في واشنطن روبرت فورد “أنه بعد مرور 31 سنة على تحرير الكويت، ما زال الكثير من الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة قامت بتلك الحرب بسبب النفط. إلا أن ريتشارد هاس الذي كان أكبر مسؤول في شؤون الشرق الاوسط في البيت الأبيض يدحض في مذكراته هذا الرأي، مؤكداً أن الرئيس بوش الأب طرد القوات العراقية من الكويت ليس بسبب النفط، بل لأنه أراد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي نظاماً دولياً يوقف العدوان على البلدان الصغيرة. ويضيف: “الآن وجهة النظر السائدة في واشنطن حول مساعدة أوكرانيا، هي وجهة نظر بوش الأب بشأن الكويت”، موضحاً أن هناك إجماعاً نادراً من الوحدة بين الزعماء الديموقراطيين والجمهوريين حول هذه المسألة. ومع أن اتجاهات الرأي العام الاميركي معادية لروسيا، وهذا مؤشر يتضح من استطلاع للرأي أجراه معهد (بيو) الأميركي يفيد “بأن 26 في المئة فقط من الأميركيين يعتقدون أن التعبئة الروسية بالقرب من أوكرانيا تشكل تهديداً كبيراً للولايات المتحدة، واعتبر 33 في المئة منهم أنه تهديد طفيف فقط، واعتبر 41 في المئة أن روسيا هي عدو للولايات المتحدة، فيما رأى 49 في المئة انها منافس وليست عدواً.
وحذر محللون أميركيون ينتمون إلى المدرسة الواقعية للسياسة الخارجية من أن الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى الوحيدة، مشيرين إلى أنه نظراً للمنافسة مع الصين والتهديد الايراني، فإن واشنطن عليها أن تتوصل إلى اتفاق تسوية مع روسيا تقبل بموجبه أوكرانيا بعدم الانضمام أبداً إلى الناتو.
وقال الإعلامي في “فوكس نيوز” تاكر كارلسون إن الصين هي من يشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأميركية، لا روسيا. ولكي تتضح الصورة جيداً عما يحصل في كواليس النخبة السياسية الأميركية في ما يخص النزاع الخطير مع روسيا، فإن موضوع التدخل في بلدان مثل أوكرانيا يتسبب في انقسام في الحزب الجمهوري، وهذا ما يعكسه استطلاع أجراه معهد “يوغوف” مع تشارلز كوخ في كانون الأول/ ديسمبر 2021، وأفاد بأن 70 في المئة من الديموقراطيين و76 في المئة من الجمهوريين يريدون أن تركز واشنطن على القضايا المحلية، وليس على السياسة الخارجية. والسبب في هذا الانقسام يعود إلى انصار ترامب الذين يرفضون السياسة الخارجية التقليدية والتدخلات الخارجية.
ما الذي يريده بوتين؟
اللقاء الافتراضي بين الرئيسين الروسي والأميركي، كان كاشفاً لما يريده الكرملين الذي أوضح أن بوتين ندد خلال القمة بتنامي “القدرات العسكرية” (الناتو) على الحدود الروسية، وطالب بـ”ضمانات” بعدم توسيع الحلف شرقاً والعودة إلى فترة ما قبل انضمام دول أوروبا الشرقية إلى الحلف وسحب قواته وقواعده من بلغاريا ورومانيا. ما يعني أن بوتين يرغب في وقف التوسع الزاحف لحلف الناتو في بلد كان لقرون جزءاً من روسيا، وهو ما يعني أنه إما يُظهر استعداده للقتال أو أنه ينوي القتال بالفعل إذا لزم الأمر لوقف ما يراه تهديداً أمنياً لبلاده. في السياق، أصدرت الخارجية الروسية بياناً عرضت فيه مطالبها التفصيلية، إذ دعت حلف شمال الأطلسي إلى إلغاء بيانه الصادر عام 2008 بشأن انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف. وقالت إنه على الولايات المتحدة وحلفائها تقديم تأكيدات ملزمة قانوناً بعدم نشر أسلحة حول روسيا يرى الكرملين أنها تشكل تهديداً صريحاً.
يراهن الرئيس بوتين على إرجاع العالم ليس إلى عام 1989 عندما انتهت الحرب الباردة بشكل فعلي، ولكن إعادته إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما فرضت موسكو ما أطلق عليه رئيس الحكومة البريطاني ونستون تشرشل “الستار الحديدي” لحماية مجال تأثيرها ونفوذها في المنطقة والعالم.
يكاد يتفق الخبراء والمحللون على أن ما تريده روسيا من ضمانات دائمة بأن دولا مثل أوكرانيا ودول الاتحاد السوفياتى السابق الأخرى لن تنضم إلى الناتو وستظل محايدة كأساس جديد لاستقرار الإقليم ولن تحظى بالقبول من الغرب. ويقولون إن الهدف من نشر القوات هو فقط للفت انتباه كييف والغرب إلى مخاوف موسكو.
فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة «روسيا في القضايا الدولية»، وهي مجلة رائدة فى مجال السياسة الخارجية فى موسكو، فسر ما قاله بوتين من أن «التوتر جيد»، وهو ما يعني أن إبقاء الغرب في قلق سيجعله يأخذ مصالح روسيا في الحسبان. ويستطرد لوكيانوف قائلاً إن بوتين يريد فتح فصل جديد يقضي فيه على عمليات توسع الناتو.
إلا أن تاتيانا ستانوفايا، مؤسسة شركة “آر بولتيك” للأبحاث السياسية، في فرنسا، لها رأي مغاير وهو أن “بوتين ليس مستعداً للانتظار طويلاً، فإذا تأكد أنه لا سبيل للتفاهم، فلا يمكن استبعاد الخيار العسكري”.
اعتقد القادة الغربيون كما يشدد لوكيانوف المقرب من الكرملين على مدى عقود بأن لكل دولة الحق فى الانضمام إلى الناتو، وأن على الناتو قبول عضويتهم دون مراعاة التداعيات الاستراتيجية. هذا شيء لم يشهده التاريخ من قبل، ويتعارض تماماً مع التفكير الاستراتيجي الكلاسيكي، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تبنى القادة الغربيون فكرة أن الناتو عليه أن يتوسع وحسب، واعتبروا بطريقة ما أن هذا هو الشيء الصحيح لفعله، وأنه لا ينبغى لأحد الاعتراض على ذلك.
وبرأي لوكيانوف فإن هذا اعتقاد أيديولوجي، لا يقوم على حسابات استراتيجية أو عسكرية. واستطرد أنه «عندما بدأ توسع الناتو، في التسعينات، لم يتوقع أحد أن تتعافى روسيا بهذه السرعة. لكن روسيا عادت، ويقلقها جوارها الاستراتيجي، وعليها توضيح أن أوكرانيا لا يمكن أن تنضم إلى الناتو. وجهة نظر بوتين هي أننا نحتاج إلى أن يأخذ القادة الغربيون ذلك على محمل الجد، وعدم الاكتفاء بالكلمات». ولكن مع ذلك فإن معظم المحللين والخبراء في الشؤون الدولية يتوقعون هزيمة بوتين في المعركة الدائرة، إلا إذا قرر الغرب التنازل أولاً.
هل الحرب حتمية؟
يجيب نيكولاى سونغوروفسكى، الخبير العسكري في مركز رازومكوف المستقل فى كييف قائلاً «من الصعب قياس التهديد الحقيقي. التهديد العسكري موجود دائماً. يحاول بوتين إثبات أنه لا يمكن أن تكون هناك حلول أمنية فى أوروبا بدون روسيا لكنه ليس على استعداد لتقديم أي تنازلات بشأن أوكرانيا». هذا فيما لا يرى فاديم كاراسوف، مدير المعهد المستقل للاستراتيجيات العالمية في كييف، “أي تهديد مباشر بالغزو العسكري في الوقت الحالي”، موضحاً، “قد يكون للقادة الروس موقف صارم، لكنهم ليسوا حمقى».
يطرح مراقبون الغربيون آراء وأفكاراً مختلفة فمنهم من يعتبر أن بوتين لا يريد التورط في صراع عسكري ربما يكلفه كثيراً، لكن في الوقت نفسه لا ينبغي استبعاد ذلك الاحتمال بالنظر إلى أنه يرى أن روسيا، وحكمه الذي يستمر منذ أكثر من عقدين، يتعرضان لهجوم من الولايات المتحدة وحلفائها.
الباحثة، المتخصصة في العلاقات بين روسيا والغرب لدى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية كادري ليك تقول: “إن الاستعدادات العسكرية الروسية التي تنذر بغزو بري واسع قد تفضي لحرب ضخمة في قلب أوروبا، ما من شأنه أن يسفر عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا وإحداث تغييرات كبيرة في النظام الدولي”. وسألت “ولكن كيف سيفيد أي من هذا روسيا سواء على الصعيد المحلي أو الدولي؟”. وبحسب مقربين من الكرملين تحدثوا لموقع “بلومبيرغ”، فإن موسكو تعلم أن أي محاولة لاحتلال مساحات كبيرة من الأراضي الأوكرانية عسكرياً سيكون مصيرها الفشل، إذ ستواجه معارضة عامة واسعة النطاق على الأرض وفرض عقوبات محتملة من الغرب. ومع ذلك، فبعد سنوات من المقاومة للعقوبات وغيرها من الضغوط، لا يبدو أن بوتين عوقب بالفعل، بل على النقيض فإنه يعتبر تحركاته العسكرية وسيلة فعالة في الضغط على الغرب.
أظهرت دراسات واستطلاعات رأي ان الاوكرانيين سيقاومون أي غزو روسي لبلادهم، ووفقاً لموقع “ناشونال إنترست” الأميركي المتخصص بالشؤون العسكرية والاستراتيجية “فإن غزو أوكرانيا لن يكون مجرد نزهة بالنسبة إلى روسيا”، مؤكداً أن الآراء عن انهيار واستسلام أوكرانيا بمجرد هجوم جيش روسيا بالدبابات والطائرات ربما تكون خاطئة.
لكن يشير مراقبون روس إلى أن الكرملين يتفهم أنه لا توجد فرصة حقيقية للاستجابة لمطالب الرئيس الروسي، من جانب الناتو، بعدم الانتشار شرقاً أو نشر أسلحة الحلف بالقرب من روسيا، كما أن منح الكرملين أي نوع من الضمانات بشأن عدم ضم أوكرانيا للناتو سيكون بمثابة تنازل كبير للغاية. وتقول تاتيانا ستانوفايا، مؤسسة شركة “آر بوليتيك” للأبحاث السياسية، في فرنسا، إن بوتين ليس مستعداً للانتظار طويلاً، فإذا تأكد أنه لا سبيل للتفاهم، فلا يمكن استبعاد الخيار العسكري.
مراكز القوى في موسكو والقرار النهائي
هناك مجموعتان رئيسيتان داخل النخبة الروسية، الأولى تتألف من المحافظين وهم من قوى صنع القرار، ويتميزون باستعدادهم الكامل لتحمل أى تكاليف للمواجهة الجديدة وذلك لأنهم قد يستفيدون منها، وهؤلاء هم الذين يهيمنون على أجندة البلاد، ويؤجِّجون مخاوف بوتين ويثيرون توتره ويُصعِّدون الأزمة، المجموعة الثانية تتكون من التكنوقراط الذين يسيطرون على الحكومة ولكن ليست لديهم صلاحية التدخل فى الشؤون الأمنية أو إثارة المخاوف بشأن الجغرافيا السياسية، وهم المُكلَّفون بتكييف الاقتصاد والنظام المإلى مع أي صدمات جيوسياسية. وهناك أيضاً نخبة رجال الأعمال (الاوليغارشيا)، (باستثناء أصدقاء بوتين المُقرَّبين، الذين غالباً ما يكونون أكثر تشدداً من الناحية الأيديولوجية من المجموعة الأولى)، الذين تم طردهم من عملية صنع القرار السياسي منذ سنوات، وهم لا يملكون الحق فى التحدث مع السلطات حول الجغرافيا السياسية، وفي حالة التصعيد فإن هؤلاء يفضلون الاختفاء التام والصمت لتجنب أي اشتباكات مع السلطات يمكن أن تثير الشكوك حول ولائهم ووطنيتهم.
مع احتدام الصراع بين روسيا والغرب والولايات المتحدة والصين يلوح في الأفق الجيوسياسي العالمي محور جديد تسعى إيران لتكون جزءاً منه لكسب أوراق جديدة مع صراعها المستميت مع واشنطن بالتحديد، ولعل الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرمته مع بكين، وعرض اتفاق مماثل على موسكو يصب في هذا المجرى. وقالت المحللة في مجلة “نيويوركر” روبن رايت إن الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي بوتين وقعا اتفاقية لمواجهة الولايات المتحدة والغرب، هدفها تحدي النظام العسكري والسياسي الدولي الحالي. وقالت إن الرئيسين اللذين ظهرا في صورة يرتديان ربطة باللون البنفسجي، أعلنا عن “عهد جديد” في النظام العالمي، وأكدا “أحقية كل منهما في أوكرانيا وتايون”.
الثقة الأميركية والأوروبية على المحك
تكشف مواقف حكومات الدول الأوروبية بشقيها الغربي والشرقي ومعها الولايات المتحدة أنها تقف أمام اختبار الثقة، أولاً ثقة الأوروبيين ببعضهم خصوصاً دول أوروبا الفاعلة أو ما يسمى بـ”كبار أوروبا” (فرنسا وألمانيا) ودفاعهما عن مصالحهما مع روسيا بوجه دول أوروبا الشرقية المتخوفة من أن تكون هذه المصالح على حساب استقرارها، أما الثانية فهي الثقة ما بين الولايات المتحدة والأوروبيين، والتي تفتح الآن السؤال حول مستقبل الشراكة ما بين ضفتي الأطلسي وخصوصاً دور حلف الناتو ومستقبله، والذي يواجه الامتحان الأوكراني الذي سيحدد طبيعته الجديدة بعد نهاية مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وبتفسير أدق الناتو ما بعد الرد على المطالب الروسية أي ما يمكن وصفه بنهاية مرحلة 1991 وبداية مرحلة 2022. من هنا فإن إصرار الناتو على توسيع عمله في أوروبا يكشف عن تغيير جديد في طبيعته، خصوصاً أنه هذه المرة يتموضع في محاذاة الحدود الروسية الأمر الذي يشكل تهديداً أمنياً لروسيا، ما دفع موسكو إلى تهديد الاستقرار الأوروبي، أي اللجوء إلى الهجوم من أجل الدفاع، وبات خيار غزو أوكرانيا قائماً فعلياً وإمكاناته متاحة، كما أن بعض صناع القرار الروسي يعتبرون أن نتائج الغزو واضحة وهي إبعاد التهديد من حدودنا ونقله إلى قلب أوروبا.
أهداف بوتين الأكبر… والأسوأ
لم يعد سراً الخلاف بين واشنطن وبروكسيل حول كيفية التعامل مع روسيا وعدوانها المحتمل على أوكرانيا، إدارة جو بايدن ترى أن الغزو الروسي يبدو احتمالاً كبيراً يستلزم نشر قوات اميركية في أوروبا الشرقية، فيما تستبعد أوروبا ذلك.
رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي كما يظهر من كلامه يميل إلى الموقف الأوروبي بعدما قلل من أهمية التهديد المباشر بالحرب، إذ قال، “الوضع خطير، ولكنه ملتبس”. وهنا يتساءل المحلل الدولي ومدير مركز دراسات الليبرالية ايفان كريستيف عن مغزى تقييم زيلنيسكي”، قائلاً “يشكك الأوروبيون والاوكرانيون بإمكانية غزو روسي كبير لأوكرانيا، ليس لأنهم ينظرون إلى بوتين نظرة أكثر اعتدالاً من نظرائهم الأميركيين، على العكس، بل لانهم يرونه أكثر خبثاً ودهاء”.
يعتقد الأوروبيون أن “الحرب ليست لعبة الكرملين، إنما هي مجموعة واسعة من التكتيكات المصممة لزعزعة استقرار الغرب، وبالنسبة إليهم فإن تهديداً بالحرب قد يكون أشد تدميراً من الحرب نفسها”. يرى كريستيف أن بوتين يريد فترة انفصال رمزية من تسعينات القرن العشرين يدفن خلالها نظام ما بعد الحرب الباردة.
من الواضح أن الأميركيين يدركون أن بوتين لن يقوم بمغامرة غزو تكلفه الكثير في الداخل والخارج، بل ممارسة اقصى حدود الضغط من خلال استراتيجية مختلطة تضمن وجوداً عسكرياً على الحدود وعسكرة وتسييس تدفقات الطاقة والهجمات السيبرانية، فالرئيس الروسي يؤمن ويثق بأنها سوف تخدم أغراضه، يرى كريستيف أن “سياسة الضغط قد تؤدي في النهاية إلى انقسام شديد في حلف الناتو وشكل حركته”.
الواقع أن حكومات أوروبا الشرقية تشعر بالهلع من تردد ألمانيا الواضح في تقديم الدعم لهم لتعزيز قوتهم المسلحة. الحقيقة هي أن ألمانيا لم تتغير بشكل حاسم، بل العالم الذي تتحرك فيه قد تغير ووفقاً لمراسل صحيفة “وول ستريت جورنال” في ألمانيا بويان بانشيفسكي فإن “ألمانيا تشبه قطاراً يقف ساكناً بعد اشتعال النيران في محطة السكك الحديدية”. يقول كريستيف، “لا تتحدد القوة الجيوسياسية اليوم بمقدار القوة الاقتصادية، بل بمقدار الالم الذي يمكنك تحمله، فعدوك على النقيض مما كان عليه في أثناء الحرب الباردة، ليس شخصاً مختفياً خلف ستار حديدي، بل هو شخص تتاجر معه، وتحصل منه على الغاز، وتصدر إليه السلع عالية التقنية، لقد أفسحت القوة الناعمة الطريق أمام المرونة”.
بحسب “نيويورك تايمز”، فإن هذه مشكلة حقيقية بالنسبة إلى أوروبا، لأنه إذا كان نجاح بوتين ستحدده قدرة المجتمعات الأوروبية على تهيئة نفسها ومقاومة ضغوط أسعار الطاقة المرتفعة والتضليل الإعلامي، وعدم الاستقرار السياسي على مدى فترة طويلة، فإنه يملك سبباً وجيهاً ليكون متفائلاً للغاية. وعلى ما يبدو فإن أوروبا ليست مستعدة لمواجهة هذه التحديات، ما يستلزم الاستثمار في القدرات القدرات العسكرية، وتنويع مصادر الطاقة، وتعزيز التماسك الاجتماعي. يقول المثل الروسي “إذا قمت بدعوة الدب إلى الرقص، فلن تكون أنت من يقرر متى ينتهي الحفل، بل الدب”.
درج
————————-
سوريا يتناتشها الطغاة/ بسام مقداد
لم يكن ينقص سوريا إلا أن يضاف طاغية بيلوروسيا ألكسندر لوكاشنكو إلى الطغاة الوالغين بدمها ودمارها منذ عقد ونيف. فقد شاع منذ أيام نبأ قرار بوتين إرسال عسكريين بيلوروس إلى سوريا، متستراً بمشروع إتفاقية مع لوكاشنكو تحدد تفاصيل المهمة “الإنسانية” للقوة. وبالتأكيد ليس بوتبن بحاجة في سوريا إلى قوة عسكرية إضافية لا تغير بحجمها الضئيل شيئاً في ميزان القوى الراهن في سوريا، لكنه يوظف قراره هذا في إتجاهات متعددة. فهي رسالة واضحة للغرب الذي يخوض معه صراعاً دائماً، رفع سعيره على الحدود مع أوكرانيا في الفترة الأخيرة. كما أنه، وبإشراكه بيلوروسيا إلى جانب أرمينيا في التدخل بسوريا، يرفع من شرعية التدخل في سوريا في إطار معاهدة الدفاع الجماعي لبعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، وكذلك يؤكد تكبيل لوكاشنكو الذي يجري معه هذه الأيام مناورات عسكرية على حدود اوكرانيا ودول البلطيق المنضوية في حلف الناتو. ويأتي إشراك بوتين بيلوروسيا في الصراع السوري دون إستشارة الأسد في الوقت الذي يطالب فيه الولايات المتحدة من منبر مجلس الأمن الدولي بالإنسحاب من سوريا، وذلك بحجة عدم شرعية وجودها في سوريا لعدم حصولها على تصريح من الأسد.
الأكثر سخرية في الأمر هو إعلان لوكاشنكو خبراً كاذباً ما نشرته روسيا على موقع رسمي بشأن إتفاقية مع بيلوروسيا لإرسال قوات إلى سوريا. فقد نشر موقع babel الأوكراني في 8 من الشهر الجاري نصاً مقتضباً، قال فيه بأن ألكسندر لوكاشنكو الذي يسمي نفسه رئيس بيلوروسيا وصف التوافق على إرسال عسكريين بيلوروس إلى سوريا بأنه خبر مزيف. هذا مع العلم أن الوثيقة بهذا الشأن قد نُشرت على الموقع الرسمي للإتحاد الروسي.
وبعد أن يورد الموقع كلام لوكاشنكو في إجتماع مجلس الأمن القومي البيلوروسي، يذكّر بما كان صرح به في العام 2019 من أن دستور البلاد لا يسمح بإرسال عسكريين بيلوروس إلى بلدان أخرى( سيجري في 22 من الجاري إستفتاء على دستور جديد يلغي هذه المادة). وأضاف لوكاشنكو حينها قائلاً بأن لا رغبة لديه بحشر نفسه في سوريا بين الإيرانيين والأميركيين والأتراك والروس.
صحيفة NG الروسية نشرت نصاً بعنوان “لوكاشنكو يقدم الأعذار بشأن سوريا”، وأرفقته بآخر ثانوي “في بيلوروسيا يدحضون نبأ إرسال عسكريين بيلوروس إلى قاعدة حميميم”. تصف الصحيفة تصريح لوكاشنوكو بالغريب “بعض الشيئ، وتنقل عن خبير عسكري تفسيره لما ورد في مشروع الإتفاقية المذكور عن المهمة الإنسانية للعسكريين البيلوروس، حيث يقول بأنها تقوم على نزع الألغام وتقديم الخدمات الطبية للوحدات العسكرية وللسكان. ويؤكد أن المجندين الإلزاميين لن يرسلوا إلى سوريا، حيث لا فائدة ترجى منهم، والمنافسة لن تكون قليلة بين العسكريين المتعاقدين على مكان ما بين المئتي عسكري المنوي إرسالهم. فالرواتب الجيدة والتقديمات وتسهيل الترفيع في الرتبة تجعل المهمة في سوريا مغرية للإختصاصيين العسكريين.
ويرى الخبير أن لوكاشنكو “محق جزئياً” في أنه سيساعد سوريا بالأطباء. ويلفت الإنتباه إلى “بعض الغراية” في تحديد وضع الوحدة البيلوروسية في سوريا، حيث يقول مشروع الإتفاقية بأنه يتحدد بموجب الإتفاقيات الدولية بين سوربا وبيلوروسيا. لكن مثل هذه الإتفاقيات ليست موجودة في الوقت الراهن، ولا خطط لعقدها أو الإتفاق على معايير حقوقية تخول الجهة التي توقع عليها. كما يستغرب الخبير كون الوحدة البيلوروسية في سوريا لن تكون خاضعة للحكومة أو وزارة الدفاع السورية، بل لمركز القوات الروسية، أي “من يقدم العشاء للفتاة، هو من يرقص معها”. ويرى أن غرابة الوضع تصورها تجربة مشاركة أرمينيا في “المهمة الإنسانية” في سوريا، حيث يخضع العسكريون لوزارة الدفاع الأرمينية، بينما علاقتهم بالقوات الروسية تقتصر على التنسيق فقط.
الخدمة الروسية في موقع الراديو والتلفزة التركية TRT نشرت نصاً بعنوان “روسيا تصر: ما حاجة بيلوروسيا لإرسال عسكريين إلى سوريا”. ينقل الموقع عن محلل ومستشار بيلوروسي قوله بأنها ليست المرة الأولى التي يدحض فيها لوكاشنكو معلومات رسمية من السلطات الروسية في الحقل العسكري. ويشير المحلل إلى إعلان وزير الدفاع الروسي في العام 2013 عن قرب إقامة قاعدة عسكرية روسية في بيلوروسيا تجاهلته السلطات البيلوروسية في حينه، ومثل هذه القاعدة لا وجود لها حتى الآن في بيلوروسيا. وهذ وضع معروف، حين تبتز روسيا لوكاشنكو ببثها أخباراً في الإعلام تتناول المجال العسكري. لكن حين أصبح لوكاشنكو معزولاُ عن العالم الغربي في العام 2020، لم يعد بوسعه اللعب في الحياد والموازنة بين روسيا والغرب.
ويرى المحلل أن إعتماد لوكاشنكو على روسيا قد ازداد، ويعتبر أن الحلول الوسط في حقلي الأمن والدفاع هي أهون الشرور. ومن هنا خطاب التأييد من جانب مينسك للعدوان على أوكرانيا، ودعوة لوكاشنكو ل”إعادة أوكرانيا إلى الحضن السلافي”. ويدرج المحلل في هذا السياق المناورات العسكرية الحالية المشتركة بين روسيا وبيلوروسيا، والتي لم يكن مخططاً لها.
موقع dsnews الأوكراني نشر نصاً مدوياً بعنوان “شرائح لحم مدافع: ما حاجة الكرملين للبيلوروس في سوريا”. قدم الموقع للنص بالقول أن لوكاشنكو يورّد لموسكو لحم محارب مقابل إحتفاظه بالسلطة. وهذه ليست سوى البداية، فالكرملين يخطط لإيتلاع “الشعب الشقيق” وتحويله إلى شريحة روسية من الدرجة الثانية. ويشير إلى أن إعداد مسودة الإتفاقية مع بيلوروسيا تم في يوم عمل واحد، مع العلم أنه كان يمكن على الأرجح إعدادها بسرعة أكبر أيضاً.
يرى الموقع أن وجود بيلوروسيا كدولة مستقلة يمكن إعتباره قد إنتهى. أمامنا نتيجة منطقية “للمقاومة اللاعنفية” للديكتاتورية: لوكاشنكو الذي سَلِمَ في السلطة، لكن المرعوب إلى الحد الأقصى، سلّم البلد للكرملين بدل ضمانات لنفسه. مناقشة لوكاشنكو نفسه أصبحت بلا معنى، حيث أنه قد إنتهى كسياسي رغم كونه ديكتاتوراً. فهو لم يعد يمتلك حتى الحد الأدنى من الإستقلالية في قراراته، بل تحول إلى وسادة لبوتين. فإذا بقي هذا الفوهرر الريفي على قيد الحياة حتى المحكمة الدولية، فهو سيجلس على مقعد المتهمين نفسه ممن بقي من الإستبلشمنت الروسي الذي لم يتمكن من الفرار. لكن “باتكا” ( الأب كما يحب لوكاشنكو مناداته) ليس بسيطاً، فقد تدبر شهادة جنون منذ العهد السوفياتي.
ويقول الموقع أنه من وجهة النظر القانونية، وهذا ما يؤكده بالضرورة قضاة محاكمة نظامي بوتين والأسد، فإن مشاركة البيلوروس في المهمة التأديبية البوليسية الروسية في سوريا هي، بلا شك، جريمة حرب. فما يُرتكب ليس من قبل “نظام عام”، بل يرتكب من قبل كل فرد من المئتين المشاركين في “المهمة الإنسانية”.
يستطرد الموقع في الحديث عن عواقب مشاركة البيلوروس في “المهمة الإنسانية” مع روسيا في سوريا، وكيف يخطط لوكاشنكو للبقاء في السلطة على الحراب الروسية، كما الأسد، وتخطيطه لتوريث أبنائه الجلوس على هذه الحراب. ويقول بأن البيلوروس فوتوا فرصة التخلص من الديكتاتورية، وذلك ياستسلامهم لخداع “الإحتجاج السلمي”. وبيلوروسيا لن يعود أمر فيها إلى الوراء، ولن يكون تحريرها ممكنا إلا بعد هزيمة روسيا أو “الدولة الإتحادية” ( روسيا وبيلوروسيا). ويذكرنا هذا بالرايخ الثالث الذي كان أيضاً ثمرة ضم النمسا إلى ألمانيا، كما ضم بيلوروسيا الآن إلى أحضان موسكو.
————————-
أزمة أوكرانيا بين حرب المعلومات الأمريكية وكفاح بوتين الطويل لإعادة ترتيب نظام ما بعد الحرب الباردة
إبراهيم درويش
في المؤتمر الصحافي الذي عقده مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ليلة الجمعة كرر فيه الموقف الأمريكي من الأزمة الأوكرانية وهو أن الغزو الروسي بات محتوما وفي أي وقت، وان شرفة الحل تضيق وان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يغزو الجارة أوكرانيا في أي وقت. وجاءت تصريحات سوليفان بعد اجتماع الرئيس جو بايدن مع الحلفاء في أوروبا والناتو عبر الفيديو يوم الجمعة، وتم التأكيد على نفس الرسالة التي يتحدث بها فريقه منذ بداية الأزمة، وهي أن الأمور قد تصبح «مجنونة» وأن روسيا لديها الكثير لتخسره وعليها القبول بالعرض الغربي وسحب قواتها العسكرية.
والمستمع إلى التصريحات الأمريكية من بايدن إلى وزير الخارجية أنتوني بلينكن وسوليفان يطلع على رؤية واحدة وهي أن الحرب مقبلة، وربما قبل انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بيجين يوم 20 شباط/فبراير. ونفس اللهجة التهديدية والتخويفية واضحة في تصريحات الحكومة البريطانية ورئيس وزرائها بوريس جونسون الذي تلاحقه الفضائح. وتصور الصحافة الموالية للحكومة الموقف المتشدد وبخاصة تهديدات وزيرة الخارجية ليز تراس التي حملت الرسالة إلى موسكو يوم الخميس، بشكل دفع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوصف اللقاء بأنه «حوار الطرشان». وبين قرع طبول الحرب التي لا يعرف بايدن ولا فريقه متى سيعلنها بوتين، هناك رفض مستمر من الكرملين المصر على ضرورة تفهم مظاهر القلق الأمنية التي كانت وراء الحشود العسكرية. وتقديم ضمانات بعدم توسيع حلف الناتو إلى الحديقة الخلفية لمجال التأثير الروسي وإعادة النظر في ترتيبات الأمن التي تبعت سقوط الاتحاد السوفييتي والتوصل لنظام جديد غير نظام ما بعد 1997 يعترف بروسيا كقوة عظمى كما كانت أثناء الحقبة السوفييتية.
وفي أوكرانيا يعثر المراقب على رؤية مختلفة، حذر وقلق من التصعيد الغربي في الخطاب والحشود العسكرية على الأطراف الشرقية من حلف الناتو والتحضيرات الأمريكية لإرسال حوالي 1.700 جندي من الفرقة 82 المحمولة جوا إلى بولندا للمساعدة في إجلاء الأمريكيين الذين لم يخرجوا من أوكرانيا، وحسب تقارير صحافية فهناك حوالي 30.000 أمريكي في أوكرانيا، مع أن سوليفان رفض تقديم تفاصيل حول هذا العدد عندما سئل، لكنه كرر نداءات بايدن بضرورة مغادرة الأمريكيين من أوكرانيا وفي أقرب وقت.
ماكرون حلال المشاكل
وخلف الوحدة الأوروبية وقوة الناتو ووساطات الرئيس إيمانويل ماكرون يزداد التصعيد. فقد حل ماكرون ضيفا على بوتين في 7 شباط/فبراير واجتمع معه خمس ساعات بدون تحقيق أي تقدم. لم يكن لديه ما يعرضه للقادة في برلين بعد وصوله من كييف التي اجتمع فيها مع فولدومور زيلينسكي. وكل ما دعا إليه هي العودة لاتفاقية مينسك التي ترفضها روسيا وأوكرانيا ولا تفي بالمطالب الحقيقية للطرفين في ظل النزاع الدائر منذ ثمانية أعوام. وقالت مجلة «إيكونوميست» (8/2/2022) إن مهمة ماكرون التي جاءت قبل جولة الانتخابات الرئاسية لإعادة انتخابه، ليست إلا مجرد شراء للوقت ولا تحل المشكلة. وبالضرورة فمقترحات ماكرون عن الأمن الأوروبي وقدرة أوروبا على الدفاع عن نفسها تثير شكوك الحلفاء في أوروبا الذين يرون أنها غامضة وتستجيب للمطالب الروسية. وجاءت جولة ماكرون في ظل شكوك من نهجه القائم على العمل بطريقة ثنائية وليس جماعية، رغم زعمه أنه يحب التشارك مع الجميع. وظل منذ وصوله إلى السلطة قبل خمسة أعوام يحاول حل المشاكل بطريقة ثنائية والعمل مع بوتين ودونالد ترامب، من دون اعتبار لحلفائه في أوروبا. والنتيجة هو سجل مزيج من النجاح والفشل، واضح في لبنان الذي تدخل فيه وتركه لشأنه وكذا مالي التي تدهورت العلاقات مع الطغمة العسكرية الحاكمة هناك وعموم غرب أفريقيا كما ترى سيليا بيلن في «فورين أفيرز» (10/2/2022).
غموض وغرابة
وبالعودة للأزمة الأوكرانية فالصورة الظاهرة من التحذيرات الأمريكية والوساطة الفرنسية والحذر الأوكراني والنفي الروسي هي إما ان الوضع خطير جدا أو غريب وغامض. ويرى ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست» (10/2/2022) ان الفرق بين نبرة الفزع البادية من الغرب والهدوء الحذر القادم من كييف هي أن الأوكرانيين تعودوا على التهديد الروسي، منذ قرارهم الشعبي الخروج من فلك الكرملين في الثورة البرتقالية عام 2004 وثورة الكرامة عام 2014 التي أطاحت بحليف بوتين فيكور يانوكوفيتش وهو ما أدى لضم شبه جزيرة القرم. وعبر إغناطيوس عن خوفه من خلاف النخبة السياسية الأوكرانية ورفض زيلينسكي التعامل مع المعارضة أكثر من خوفه على وحدة الأوكرانيين ضد بوتين. وهو ما كان وراء الوفد الدبلوماسي الأمريكي الذي زار العاصمة الأوكرانية في الشهر الماضي ومناشدة الرئيس التعامل مع معارضيه، وكان رده هو الهجوم عليهم. لكن إغناطيوس لا يفسر الفزع الأمريكي بشكل كامل، ولا يعترف أن إدارة بايدن قررت منذ بداية الحشود العسكرية الروسية شن حرب تضليل إعلامي هدفها نزع المبادرة من بوتين ومحاولة فرض شروط المعركة عبر سلسلة من التسريبات الإستخباراتية لتصوير بوتين بالطرف المعتدي من جهة والغرب بالطرف الحريص على الدبلوماسية.
استراتيجية التخويف
وتساءلت صحيفة «نيويورك تايمز»(3/2/2022) إن كانت هذه الاستراتيجية ناجعة في وقت اتهمت فيها روسيا إدارة بايدن بأنها تصعد وتزيد من فرص الحرب. وشملت استراتيجية بايدن التي دافع عنها سوليفان ليلة الجمعة على تسريب معلومات سرية حول الحشود العسكرية التي ستصل إلى 175.000 جندي، وهي معلومات لا يتم التوصل إليها إلا عبر طرق استخباراتية ومصادر ثمينة. ثم شجعت الإدارة الأمريكية حكومة جونسون للكشف عن معلومات استخباراتية مفادها أن بوتين يخطط لإنقلاب في كييف وتنصيب حكومة عميلة له هناك. وقالت الصحيفة إن الهدف من حرب المعلومات هذه هو قطع الطريق على الروس وحرمانهم من التفكير باستراتيجيات بديلة. وضرب حملات التضليل بالمعلومات كما قال بلينكن، دونما اعتراف منه أن ما تقوم به بلاده هو حرب شائعات وتضليل.
ويغلف الأمريكيون والبريطانيون تحذيراتهم بأنها تقوم على سيل من المعلومات الموثوق بها وتدعمها الصور التي التقطتها الأقمار الإصطناعية ومنشورات على تويتر. ورغم اعتراض المسؤولين الأوكرانيين على استخدام كلمة «غزو محتوم» وتوقف المسؤولين الأمريكيين عن استخدامها إلا أنهم عادوا لنشر الفزع عندما طلبوا من الأمريكيين المغادرة وبأي طريقة وكأن الحرب باتت على الأبواب. واتهم بوتين إدارة بايدن بأنها تمارس سياسة الاحتواء في الحرب الباردة وتستخدم أوكرانيا لتحقيق هذا الهدف. والواضح في الموقف الأمريكي الداعي للدبلوماسية هو أن الثقة معدومة ببوتين، فالدعوة للحل الدبلوماسي مجرد تكتيك، وأنه لم يغز أوكرانيا احتراما لصديقه الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي حضر معه افتتاح دورة الألعاب الأولمبية ووقع معه لاحقا اتفاقية لا مجال فيها للممنوعات، ووصفها مسؤولون أمريكيون بما يشبه الحلف بين البلدين وهو أمر لم يحصل عليه أي زعيم روسي من قبل. وقالت روبن رايت في مجلة «نيويوركر» (7/2/2022) أن الاتفاقية تتحدى النظام العسكري والسياسي القائم وتتحدى الغرب. و«كشف أقوى مستبدين في العالم عن خطة واسعة لمواجهة الولايات المتحدة كقوة عظمى والناتو باعتباره حجر الأساس للأمن الدولي والليبرالية الديمقراطية كنموذج صالح للعالم». ووصفتها صحيفة «واشنطن بوست» (8/2/2022) بأنها محاولة لإنشاء نظام عالمي يحمي الديكتاتوريين. وأعاد الإصطفاف الصيني- الروسي الوضع إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة. ورغم الشكوك حول التزام الصين في الدفاع عن روسيا إلا أن البلدين أكدا حق كل منهما في تايوان التي يعتبرها شي أرضا صينية وأوكرانيا التي يعتبرها بوتين جزءا من روسيا. وكتب العام الماضي ناقدا الاتحاد السوفييتي منح أوكرانيا صفة الدولة لأن قدرها وبيلاروسيا هو مع روسيا. وفي الوقت الذي يرى فيه المحللون الأمريكيون أن استراتيجية بايدن القائمة على التحول من الردع السلمي إلى الردع النشط قد أتت أكلها وان بوتين قد «رمش» أولا. هناك من يرى غير ذلك، ويخشى من آثار استراتيجية الإدارة القائمة على التسريبات الاستخباراتية.
مخاوف
ونقل موقع «بوليتكو»(8/2/2022) عن مسؤولين أمنيين بأن الهدف من التسريبات هو تجنب شبح أفغانستان والتقديرات الأمنية التي اعتقدت أن الحكومة الأفغانية ستظل باقية لعدة أشهر بعد انسحاب القوات الأمريكية. ومن بين الداعمين لهذا النهج هو مدير «سي آي إيه» ومجلس الأمن القومي سابقا مايكل هايدن الذي قال إنه دعا ولسنوات عدة إلى اعتماد الرأي العام على المعلومات الأمنية. وقال «الوضع مختلف الآن، عصر المعلومات مهم جدا». ولكن التسريبات كانت كثيرة بدرجة تمنى فيها بعض مسؤولي الأمن القومي لو أوقفتها الإدارة. وتساءل البعض حتى من يدعمون التسريبات إن أصبح الرئيس وفريقه ناشرين للخوف وبشكل مفرط، وذلك نتيجة الفشل الأمني السابق في أماكن أخرى مثل أوكرانيا وقبل فترة في أفغانستان. وقال مسؤول سابق في «سي آي إيه» وبخبرة واسعة في الملف الروسي «أنا قلق مما سيطال مصداقية معلوماتنا الإستخباراتية على المدى البعيد ووسط كل هذه المعلومات المختارة التي يتم رفع السرية عنها». ووسط الجلبة يظل السؤال قائما حول من سيشعل الفتيل أولا، فبايدن أرسل معدات عسكرية لأوكرانيا وكذا حلفاؤه في أوروبا وحشد قوات على حدود الناتو الشرقية، لكنه أكد أنه لن يرسل قوات لمساعدة النظام الحاكم في أوكرانيا. وغير لغة التهديد والتخويف ليس لدى الرئيس الأمريكي سوى السلاح المعروف وهو العقوبات الاقتصادية التي ستكون قاسية جدا وستهز الاقتصاد الروسي. ونعرف من تجارب العقوبات في دول أخرى أنها لم تطح بأية أنظمة سوى أنها فاقمت معاناة الناس الذين يزعم الغرب أنه يسعى لحمايتهم.
مع السلامة أمريكا
ولأن الأزمة بدأت من موسكو، فقرار حلها هو بيدها، وقد وضع بوتين أمريكا في المكان الذي أراده كما قالت فيونا هيل في مقال لها بصحيفة «نيويورك تايمز»(24/1/2022) إن بوتين يهدف في الحشد الأخير أبعد من مجرد إغلاق «الباب المفتوح» لحلف الناتو أمام أوكرانيا والاستيلاء على المزيد من الأراضي – فهو يريد طرد أمريكا من أوروبا. على حد تعبيره: «وداعا أمريكا.. احذري الباب في طريق الخروج».
وترى هيل التي تراقب بوتين وتحلل تحركاته منذ أكثر من عقدين، أن «أفعاله كانت هادفة واختياره لهذه اللحظة للتغلب على التحدي في أوكرانيا وأوروبا متعمد للغاية. ولديه هوس شخصي بالتاريخ واحتفالات الذكرى السنوية. صادف كانون الأول/ ديسمبر 2021 الذكرى الثلاثين لتفكك الاتحاد السوفييتي، عندما فقدت روسيا موقعها المهيمن في أوروبا. ويريد بوتين أن يذيق أمريكا طعم الدواء المر الذي كان على روسيا أن تبتلعه في التسعينيات». وهو يعتقد أن أمريكا في نفس المأزق الذي كانت عليه روسيا بعد الانهيار السوفييتي: ضعفت بشكل خطير في الداخل وفي تراجع في الخارج، كما يعتقد أن الناتو ليس أكثر من امتداد لأمريكا.
الحرب الطويلة
وحتى لو قرر بوتين سحب قواته فلديه الوسائل الأخرى للضغط ويعمل وفق جدوله الزمني الخاص به كما يقول الصحافي أنطون ترويانوفسكي في صحيفة «نيويورك تايمز» (10/2/2022) وقال إن الرئيس بوتين يراهن بشكل متزايد على إرثه في عكس التحول المؤيد للغرب في أوكرانيا. حتى لو لم يأمر بغزو هذا الشتاء، فإنه جعل من الواضح أنه سيواصل الضغط، مدعوما بتهديد القوة، طالما أن الأمر سيستمر في طريقه مهما طال الوقت لتحقيق مراده. ويقول المحللون إن الحشد العسكري الروسي الحالي حول أوكرانيا واسع للغاية لدرجة أن بوتين يتعين عليه أن يقرر في الأسابيع المقبلة ما إذا كان سيأمر بغزو أو يسحب بعض القوات. ولكن حتى لو يسحبهم، فستكون لديه وسائل أخرى لإبقاء خصومه في حالة تأهب، مثل تدريبات قواته النووية أو الهجمات الإلكترونية أو الحشود المستقبلية. وإذا قام بالهجوم، فمن المرجح أن يشتد الحراك الدبلوماسي الغربي الحالي. وبحسب أندريه سوشينتسوف، عميد كلية العلاقات الدولية بجامعة موسكو النخبوية التي تديرها وزارة الخارجية الروسية: «أتوقع أن تكون هذه الأزمة معنا، بأشكال مختلفة، طوال عام 2022 على الأقل». ووصف المواجهة الحالية بأنها الخطوة الأولى فقط في جهد روسي طويل الأمد لإجبار الغرب على الموافقة على هيكل أمني جديد لأوروبا الشرقية. لقد كان توصيفا لبداية مرحلة تنطوي على مخاطر عالية في صراع روسيا مع الغرب المستمر منذ سنوات والتي تكتسب رواجا في دوائر السياسة الخارجية في موسكو. هدف روسيا، بحسب سوشينتسوف: إبقاء تهديد الحرب حاضرا دائما، وبالتالي فرض المفاوضات التي تجنبها المسؤولون الغربيون حتى الآن. وقد يعني هذا النهج الانجرار إلى نوع جديد من «الحرب الأبدية» – صراع يستهلك المزيد من الوقت والثروات، مع عدم وجود استراتيجية خروج واضحة. وربما كان الدرس المستفاد من الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في الصيف الماضي، لبوتين، هو أنه ليس لدى أمريكا استعداد لصراع بعيد – وأوكرانيا بعيدة عن أمريكا ولكن ليس عن روسيا. وقد جاء الرئيس بايدن إلى السلطة مصمما على تركيز أمريكا وحلفائها على التهديد طويل الأمد المتمثل في الصين الصاعدة – وهي منافسة تكنولوجية وعسكرية واقتصادية. لكن بوتين الآن هو من استحوذ على اهتمام الإدارة. وبالضرورة فسياسة بوتين تقوم على فرض الرأي الروسي بالقوة. وهو في هذه الحالة يستخدم مثل غيره أدوات العصر والحداثة بما فيه من مزاعم ديمقراطية وليبرالية وتشكيل روايته عن التاريخ والجغرافيا والعرق لردم الماضي الذي يرى أنه ظلم الروس وإعادة تشكيل الحاضر كما يرى توم ماكتاغو في مجلة «أتلانتك»(9/2/2022). وقال: «بوتين رجل ينتمي إلى عالمنا وهو ليس حديثا فقط مثل أي زعيم غربي، ولكن بالمقارنة مع أولئك الذين يبدو أنهم يعتقدون أن الحداثة هي مرحلة وصلنا إليها في حدود عام 2000 فهو أكثر حداثة إلى حد كبير».
القدس العربي
—————————
تحفّظ أميركي مقابل “التفاؤل” الفرنسي حيال الأزمة الأوكرانية: هل يغرّد ماكرون خارج سرب الحلفاء؟
انعكست زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى روسيا، تفاؤلاً حذراً بشأن تجنيب أوكرانيا غزواً، في حين آثرت الولايات المتحدة التحفّظ إزاء هذا المسعى الدبلوماسي.
ومنذ أن التقى سيّد الإليزيه، الإثنين، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سعياً لنزع فتيل الأزمة عند الحدود بين روسيا وأوكرانيا، آثر المسؤولون الأميركيون الصمت، وقد شكّك بعضهم في ما وصفته دول أوروبية بأنه تقدّم على مسار تجنّب اندلاع حرب. وقد شكّك مسؤولون أميركيون علناً بما أعلنه الرئيس الفرنسي حول تلقيه ضمانات من بوتين بشأن عدم لجوء روسيا إلى مزيد من التصعيد.
وتحشد روسيا حالياً أكثر من مئة ألف جندي، والكثير من الأسلحة والأعتدة العسكرية عند حدود جارتها الموالية للغرب، في خطوة تخشى الولايات المتحدة والدول الأوروبية من أن تشكل تمهيداً لغزو.
والثلاثاء، قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي “بالتأكيد إن كان هناك تقدم دبلوماسي سنرحّب به”، مضيفة “نصدّق حين نشهد ذلك بأعيننا عند الحدود”، فيما سلّطت كبرى وسائل الإعلام الأميركية الضوء على تصريحات للكرملين من شأنها أن تكبح التفاؤل الفرنسي. وغداة جولة ماكرون، وفي تصريحات أشبه بالتقليل من أهمية أي وعود قد تكون روسيا قد قطعتها لفرنسا، أعلن البنتاغون أنّ روسيا تواصل حشد قواتها عند الحدود.
والخميس، نشرت موسكو دباباتها في بيلاروسيا، في إطار مناورات بالذخيرة الحية استدعت تحذيراً شديد اللهجة من جانب حلف شمال الأطلسي. ونشرت روسيا أيضاً ست سفن حربية في البوسفور، في إطار مناورات بحرية مقررة في البحر الأسود وبحر آزوف، في ممارسات دانتها كييف.
والخميس، قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان في تصريح لشبكة “أم.أس.أن.بي.سي”، إنّ المناورات العسكرية الكبرى التي انطلقت في بيلاروسيا وتشارك فيها قوات بيلاروسية وروسية، ترقى “بنظرنا” إلى مصاف “التصعيد وليس احتواء التصعيد”.
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن-ويليام ويست/فرانس برس
رسائل منسّقة
وكانت واشنطن قد آثرت في بادئ الأمر عدم التعليق على زيارة ماكرون، وأشارت إلى أنها تريد التواصل مباشرة بهذا الشأن مع الرئيس الفرنسي. لكن هذا التوجّه تبدّل بشكل جزئي، عندما أجرى الرئيس الأميركي جو بايدن محادثات هاتفية مع ماكرون، أعقبتها محادثات بين وزيري خارجية البلدين، إلا أنّ البيانات الأميركية التي صدرت بعدها لم تكشف الكثير.
واكتفى بيان للبيت الأبيض بالإشارة إلى أنّ الرئيسين تباحثا في اللقاءات التي عقدها ماكرون في روسيا وأوكرانيا، فيما لم يتضمّن بيان وزارة الخارجية أي إشارة إلى جولة الرئيس الفرنسي.
وأشارت الخارجية بشكل عام إلى “جهود مشتركة يبذلها حلفاء منضوون في حلف شمال الأطلسي، وشركاء في الاتحاد الأوروبي وأعضاء في مجموعة السبع وغيرهم من الشركاء بشأن الحشد العسكري الروسي عند حدود أوكرانيا”. لكن الولايات المتحدة تصرّ على وجود تنسيق غير مسبوق مع حلفائها في هذه الأزمة، ما يؤكده دبلوماسيون فرنسيون وأوروبيون بالإشارة إلى ثلاث محادثات هاتفية أجراها بايدن وماكرون خلال ثمانية أيام.
وقال الباحث الفرنسي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن بيير موركوس، إنّ “الولايات المتحدة ترحّب بهذه المبادرات لأنها تتيح توجيه مزيد من الرسائل إلى موسكو طالما هي منسّقة مسبقاً ولا تباينات بين الحلفاء” بشأنها.
وعلى الرغم من أنّ الدول الغربية موحّدة في التهديد بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا في حال غزت أوكرانيا، قال موركوس إنّ “باريس تسعى إلى التشديد على أهمية المسار الدبلوماسي وهي تستثمر كل ما لديها فيها”.
وبحسب الباحثة الفرنسية في مؤسسة “بروكينغز” للدراسات سيليا بيلان “حالياً، تدعم الولايات المتحدة بحذر الجهود الدبلوماسية التي يبذلها ماكرون، لكن منسوب التشكيك مرتفع، إذ تعتقد واشنطن أنّ بوتين مصمم على الغزو بكل الأحوال”.
وجاء في مقالة لبيلان نشرتها صحيفة “فورن أفيرز” في موقعها الإلكتروني، أنّ “ماكرون أشار خلافاً لموقف الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى إلى “مشروعية” ما تطرحه روسيا بشأن ضرورة التباحث في احتياجاتها الأمنية”.
واعتبرت أنّ هذا الأمر يعكس رغبة فرنسية بتجديد الحوار مع روسيا، وبتعديل الهيكلية الأمنية لأوروبا عبر تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. لكن بيلان اعتبرت أنّه يتعيّن على ماكرون “توخي الحذر في خطواته لكي لا يبدو وكأنه يحدث شرخاً بين الحلفاء، في توقيت تشكّل فيه وحدة الصف أفضل سبيل لردع روسيا”.
(فرانس برس)
————————-
الأزمة الأوكرانية:الحرب خلال أيام..يسبقها إتصال بايدن وبوتين
أعلن الكرملين أن محادثة هاتفية ستجرى مساء السبت، بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي جو بايدن، لبحث الأزمة على الحدود الروسية الأوكرانية، بناء على طلب أميركي. فيما حذّرت واشنطن من أن الغزو الروسي لأوكرانيا أصبح على بعد أيام قليلة.
وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف في بيان مساء الحمعة، إن “الجانب الأميركي طلب إجراء محادثات مع الرئيس بوتين، ومن المقرر أن يتحدث الرئيسان مساء غد بتوقيت موسكو”. وأضاف “كان هناك طلب خطي من الجانب الأميركي بهذا الصدد”.
يأتي ذلك فيما نقلت وكالة “أسوشيتد برس” عن مسؤول دفاعي أميركي بارز الجمعة، أن وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) سترسل 3 آلاف جندي اضافي إلى بولندا للانضمام إلى 1700 يتواجدون هناك بالفعل، في إظهار للالتزام الأميركي تجاه حلفاء الناتو القلقين من احتمال غزو روسي لأوكرانيا.
وأضاف المسؤول أن الجنود الإضافيين سيغادرون موقعهم في فورت براغ في كارولاينا الشمالية خلال اليومين المقبلين، ومن المفترض أن يكونوا في بولندا مستهل الأسبوع المقبل، وستكون مهمتهم هي التدريب والردع، وليس الانخراط في قتال في أوكرانيا.
جاء ذلك بعد فترة وجيزة من إصدار مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان تحذيراً للمواطنين الأميركيين في أوكرانيا بضرورة مغادرة البلاد في أقرب وقت ممكن. وقال سوليفان إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يعطي الأمر بشن غزو لأوكرانيا في أي يوم الآن.
وأضاف أن الولايات المتحدة لا تملك معلومات مؤكدة بشأن غزو أمر به بوتين. لكنه قال إن جميع الآليات جاهزة لعملية عسكرية كبيرة يمكن أن تبدأ “بسرعة” وربما قبل نهاية دورة الالعاب الاولمبية الشتوية في بكين التي بدأت في الرابع من شباط/فبراير الحالي وتختتم في 20 الشهر نفسه.
ووفق تقديرات غربية، كان الرئيس الروسي يسعى لانتظار انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين لشن هجومه في محاولة لعدم إغضاب حليفته الصين، ولكن الجدول الزمني بدأ في التسارع في الأيام الأخيرة ما قد يعجل بالهجوم، وفق ما خلص إليه مسؤولو الاستخبارات الأميركية.
وتابع سوليفان: “لا يمكننا تحديد اليوم بدقة في هذه المرحلة، ولا يمكننا تحديد الساعة، لكن الاحتمال واضح للغاية. الإطار الزمني القريب نسبياً… مدعوم برأينا بما يحدث على الأرض”. وأضاف “ما زلنا نرى بوادر تصعيد روسي، بما في ذلك وصول قوات جديدة إلى الحدود الأوكرانية، ما يزيد من إلحاح التحذيرات الأمريكية السابقة. كما قلنا من قبل: نحن في نافذة (زمنية) يمكن عندها أن يبدأ الغزو في أي وقت إذا قرر فلاديمير بوتين إصدار أمر بذلك”.
وكان الرئيس جو بايدن قد تحدث الى عدد من القادة الأوروبيين الجمعة، للتأكيد على المخاوف التي أثارتها معلومات استخبارية أميركية بشأن احتمال غزو روسي وشيك. وقال سوليفان إن الزعماء الغربيين متفقون تماماً، وسيردون بقوة على الغزو الروسي -في حال وقع- بفرض عقوبات اقتصادية وتجارية صارمة.
وقالت وكالة “بلومبيرغ” الأميركية الجمعة، إن التقييمات الأميركية تشير إلى أنّ موعد الغزو الروسي لأوكرانيا سيكون الثلاثاء في 15 شباط/فبراير.
كما نقلت صحيفة “الغارديان” عن مصادر دبلوماسيّة أن بايدن أبلغ قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، أنّ تقديرات الولايات المتحدة تشير إلى أن بوتين، قرر غزو أوكرانيا في الأيام المقبلة، وذلك خلال محادثة هاتفية في ما بينهم.
وقال ستولتنبرغ بعد الاجتماع الافتراضي الذي ضمّ إلى بايدن، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ونظيره الكندي جاستن ترودو، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، إضافة إلى رئيس وزراء إيطاليا ماريو دراجي، والرئيس البولندي أندريه دودا، ورئيس رومانيا كلاوس يوهانيس، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
وأوضح المشاركون أن “أي هجوم روسي ضد أوكرانيا ستكون له كلفة عالية”، وأكدوا في الوقت ذاته استعدادهم لمواصلة الحوار مع روسيا. وحذر ستولتنبيرغ من أن “خطر نشوب صراع في أوروبا حقيقي”، ورحب “بالانتشار الدفاعي الإضافي الأخير لحلفاء الناتو في الجزء الشرقي من الحلف”.
وأشار ستولتنبرغ إلى أنه “دعا روسيا وأعضاء حلف الناتو لعقد مزيد من الاجتماعات لمناقشة الأمن الأوروبي، بما في ذلك الوضع في أوكرانيا وحولها، والعلاقات بين الناتو وروسيا، والشفافية وتقليل المخاطر، والسيطرة على التسلح”.
من جهتها، علقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على قرار الولايات المتحدة إرسال المزيد من الجنود إلى بولندا، والإدعاء بأن موسكو توشك على غزو الأراضي الأوكرانية، قائلة إن الآلة العسكرية السياسية الأميركية جاهزة لتمرّ عبر حياة الناس مرة أخرى، والعالم بأسره يراقب كيف تكشف الطموحات العسكرية والإمبريالية عن نفسها.
وأضافت أن هستيريا البيت الأبيض أكثر دلالة من أي وقت مضى، حيث “يحتاج الأنغلوسكسونيون إلى حرب بأي ثمن”، متابعة أن الاستفزازات والمعلومات الخاطئة والتهديدات هي الطريقة المفضلة لحل مشاكلهم.
———————————
الحساب مفتوح بين «الناتو» وروسيا سواء حصل الاجتياح لأوكرانيا أو لم يحصل/ رلى موفّق
خرج مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان ليُعلن أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا قد يحصل في أي لحظة، متوقعاً أن تكون ساعة الصفر أثناء الألعاب الأولمبية الشتوية في الصين وليس بعد انتهائها المفترض في العشرين من شباط/فبراير الجاري. كلام سوليفان مبني على معلومات استخباراتية. توقَّع بدء الغزو بهجوم جويّ يليه الاجتياح البريّ الذي قد يطال مدناً كبرى من بينها العاصمة كييف.
ارتفع منسوب القلق الغربي مع إرسال موسكو قوات روسية إلى بيلاروسيا الجارة الشمالية لأوكرانيا تحت ستار مناورات عسكرية ستستمر حتى العشرين من شباط/فبراير، وتجعلها في موقع الجهوزية لشن هجومها العسكري بعدما نشرتْ ما يزيد على مئة ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا- هذا البلد الذي كان من أبرز مؤسسي الاتحاد السوفييتي قبل تفكّك المعسكر الشرقي وذهابه إلى إعلان استقلاله عن الاتحاد في العام 1991. وزاد طلب واشنطن ولندن وعواصم أخرى من رعاياها مغادرة أوكرانيا الفورية من ترقّب العالم للحظة بدء الغزو، وسيبقى يخطف أنفاسه ما لم يلمس انفراجاتٍ ملموسة تُوصل إلى خطوات فعلية من خفض التصعيد.
لا رهانات على حلول نهائية. ما يطلبه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من ضمانات أمنية شاملة ومضمونة قانوناً مسألة لا يمكن للولايات المتحدة وحلف «الناتو» أن يقدماها لـ«القيصر». عقاربُ الساعة لا تسيرُ إلى الوراء، وفق رغبة بوتين، بعودة الحلف في أوروبا إلى مواقع عام 1997 قبل أن تلتحق به دول من أوروبا الشرقية، وآخر المنتظرين للضوء الأخضر هي أوكرانيا. يُريد بوتين وقف توسُّع «حلف شمال الأطلسي» شرقاً بعدم ضمّ أوكرانيا إلى الحلف ووقف نشر أنظمة صاروخية قرب الحدود الروسية. المأزق أن الخضوع لمطالب بوتين هو تكريس لمنطق القوّة على منطق سيادة الدول ورغبة شعوبها، وخذلان للدول والشعوب التي خرجت من كنف الاتحاد السوفييتي للالتحاق بركب العالم الغربي، فيما قلق «سيد الكرملين» مشروع وهو يبحث عن حماية أمن بلده بعدما بات «الناتو» في عقر داره.
أوحتْ محادثات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع بوتين لساعات ست في موسكو أن «اختراقاً ما» حصل في لعبة «العصا والجزرة». قال بوتين إن مقترحات ماكرون يمكن أن تُشكّل أساساً لإحراز تقدّم مشترك في حلحلة الأزمة، فيما أعلن الأخير أنه اقترح ضمانات أمنية ملموسة لكل الدول المعنية، والعودة إلى إحياء «اتفاقات مينسك» الخاصة بشرق أوكرانيا التي تشهد قتالاً بين الشرعية وانفصاليين مُوالين لموسكو، لكن اجتماع برلين الذي عُقد الخميس بين أطراف «صيغة نورماندي» التي تضم روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا خرج خالي الوفاض.
الحديث عن حلول دبلوماسية سبقته وتلته تعزيزات عسكرية للجانبين الروسي والأوكراني المدعوم من الغرب، والذي وصلته أسلحة دفاعية متطوّرة. ودفعت دول «الناتو» بتعزيزات إلى الجوار الأوكراني رغم تأكيدها أنها لن تشترك مباشرة في المواجهة مع روسيا. وأبدت واشنطن وبرلين بعضاً من الحزم حول عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا ستشمل إيقاف خط أنبوب «نورد ستريم 2» المباشر بين روسيا وألمانيا، والذي ينتظر تصاريح التشغيل، ويُضاعف من صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، ويلتفُّ على أوكرانيا التي يمرُّ فيها خط «نورد ستريم 1».
مسار الحلول، عبر دبلوماسية التفاوض و«الضمانات الأمنية»، في سباق مع مسار الحرب. يُعلن الغرب أن اللحظة الراهنة هي الأخطر التي تشهدها أوروبا منذ عقود. فالحرب على وشك أن تقع، لا بل يتمُّ التعامل معها على أنها في حكم الواقعة. هي ربع الساعة الأخير في اللعب على حافة الهاوية. يُدرك بوتين أن أحداً لن يخرج رابحاً. وأغلب الظن أن استخباراته تُخبره بأن اجتياحه لأوكرانيا لن يكون شبيهاً لغزوة القرم، ولا لحرب الشرق الأوكراني في منطقة «الدونباس» حين عَبَرَ الحدود لدعم الانفصالين الموالين لموسكو عام 2014. فمنذ ذلك الحين تغيّرت أمورٌ كثيرة في تلك الجمهورية التي يُريد «القيصر» أن يُنصِّب فيها على الدوام رئيساً يدور في فلكه.
الأوكرانيون اليوم يقولون، بثقة كبيرة، إن عقيدة الجيش الأوكراني وتجهيزاته العسكرية وتدريباته ومعنوياته مغايرة لما كانت عليه يوم بدأت موسكو بغزواتها على هذا البلد. وإذا كانت موسكو تحشد مئة ألف جندي، فإن الجيش الأوكراني يحشد 75 ألفاً من أبنائه الذين يُدافعون عن وطنهم في وجه الغزاة. وبالتالي، لن يكون الاجتياح عملية خاطفة، ولا نزهة قليلة الأكلاف، خصوصاً في ظل الدعم الغربي الذي تحصل عليه كييف، بل حرباً مُكلفة للروس وبؤرة استنزاف ومصيدة قد يعرف الروس كيف يدخلون فيها لكنهم لن يعرفوا كيف سيخرجون منها.
رغم كل «القرقعة»، لا يزال كثير من الأوكرانيين غير واثقين من أن موسكو ستُقدِم على هذه المغامرة المُكلفة، ويدرجونها في إطار ممارسة الضغوط القصوى. يرون أن المزاج الشعبي أولاً وأخيراً مُعادٍ للروس، ولو أن الحكمة ستقتضي – في مكان ما – من الساسة الأوكران تسويات ليست بالشكل الذي يطمحون إليه، ستُعيق أو تُؤخِّر أو تُطيح بحلم الانضمام الكليّ إلى المعسكر الغربي. إنها الجغرافيا الحاكمة التي تُصبح لعنة في حسابات الدول الكبرى ومصالحها. والأكيد أن حساب «الناتو» و«الدب الروسي» سيبقى مفتوحاً لفترة طويلة، خصوصاً إذا ما أنتجت التطورات الراهنة تراجعاً ملموساً في زمن القطب الواحد يشي بقرب انتهاء تلك الحقبة والتأسيس للعودة إلى بروز معالم القطبين من جديد. والمأمول أن تكون كلفة تلك العودة أو الحلم بها باهظة ومدمرة، بما يشبه حرباً عالمية ثالثة في آثارها ونتائجها وتداعياتها.
————————
بعد تأمين الاقتصاد والتفوق العسكري والتحالف السياسي مع الصين موسكو تجعل من ملف أوكرانيا منعطفا تاريخيا/ حسين مجدوبي
إذا اندلعت الحرب الروسية ضد أوكرانيا وبطريقة غير مباشرة ضد الغرب خلال الشهر الجاري أو المقبل ستكون الحدث الثالث الأكثر تأثيرا منذ بداية القرن الواحد والعشرين بعد التفجيرات الإرهابية 11 ايلول/سبتمبر والحرب الأمريكية-البريطانية ضد العراق. غير أن الحدث سيكتسب صفة المنعطف في أعمق معاني الجيوسياسية لأنه سيرسم المستقبل خلال العقود المقبلة وأساسا العلاقة بين الصين-روسيا في مواجهة الغرب.
وتتوفر كل المعطيات لوقوع الحرب المتمثلة في الهجوم الروسي لاسيما بعد قرار الكرملين حشد أكثر من مئة ألف جندي معلن عنه، بينما يعتقد الغرب وجود أكثر، ثم نشر مضادات للطيران في بيلاروسيا من نوع إس 4000 علاوة على نشر صواريخ شديدة التدمير موجهة ضد القوات الأوكرانية، ويضاف إلى هذا انتشار سفن حربية في البحر الأسود وجاهزية الطيران الحربي. ثم المناورات العسكرية الروسية-البيلاروسية التي تقلق ليس أوكرانيا بل بولونيا بسبب أنها تجري بالقرب من حدود بولونيا. وكذلك السوابق التاريخية العسكرية مثل غزو جورجيا والاستحواذ على شبه جزيرة القرم بالقوة العسكرية.
ويتابع الغرب بقلق «تاريخي» احتمال شن روسيا الحرب على أوكرانيا إدراكا منه بخطورة انعكاساتها التي تتجاوز ما حدث في شبه جزيرة القرم سنة 2014 إذ يتعلق الأمر هذه المرة بمستقبل العلاقة بين روسيا والغرب وخاصة مع أوروبا، ثم نوعية العلاقات الأمنية-العسكرية التي ستسود خلال العقود المقبلة.
ويمكن تلخيص ما يجري في الملف الأوكراني في المعادلة التالية: إذا مالت أوكرانيا للغرب وأصبحت عضوا في الحلف الأطلسي فستكون خطرا على الأمن الروسي، ويكفي تأمل الخريطة السياسية والعسكرية. وإذا نجحت موسكو في إعادة أوكرانيا إلى حظيرتها سواء بالمفاوضات أو الحرب فستكون قد جعلت كل باقي أوروبا الشرقية تخفض من علاقاتها مع الحلف الأطلسي تفاديا لغضب «الدب الروسي». وتعتبر سياسة «العنف الدبلوماسي» للكرملين الحالية تجاه أوكرانيا ثمرة لسنوات من الاستعداد في قطاعات شتى، بينما التصور السياسي المؤطر لهذا العمل فهو عقيدة تؤمن بها القيادة السياسية الحالية بزعامة فلاديمير بوتين منذ انهيار الاتحاد السوفييتي وتتجلى في إعادة هيبة روسيا وريثة الاتحاد ومنعها من مزيد من الانهيار. واستعدت روسيا لهذه اللحظة التاريخية عبر ثلاثة مستويات: تحالف استراتيجي، تأمين الاقتصاد من العقوبات الغربية ثم تطوير قدرة عسكرية فائقة قادرة على الحسم السريع.
تأمين الاقتصاد في وجه العقوبات
يلوح الغرب بفرض عقوبات قاسية ضد روسيا في حالة غزوها لأوكرانيا بسبب صعوبة الرد العسكري الغربي. ويوجد مستويان من التلويح بالعقوبات، الأوروبي وهو محتشم، والأمريكي وهو قوي. ولم تعد ورقة العقوبات ذات فعالية كبيرة، لأنها تخص الاتحاد الأوروبي أساسا الذي تجمعه علاقات اقتصادية قوية مع روسيا، في حين تبقى العلاقات التجارية الروسية-الأمريكية ضعيفة. ويستورد الاتحاد الأوروبي 40 في المئة من صادرات روسيا الخارجية، ويعد الميزان التجاري لصالح موسكو، وبالتالي كل عقوبات غربية يعني تقليص الواردات الغربية وأساسا الأوروبية. لكن في العمق الصورة مختلفة، إذ أن 70 في المئة من أصل 100 في المئة من واردات الاتحاد الأوروبي هي مواد الطاقة النفط والفحم الحجري والغاز. ولا تجد دول الاتحاد الأوروبي بديلا سهلا لمقاطعة الطاقة الروسية. وبلغت صادرات روسيا إلى الاتحاد الأوروبي سنة 2021 قرابة 150 مليار يورو، منها مئة مليار من الطاقة لوحدها. في المقابل، استوردت روسيا من الدول الأوروبية 87 مليار يورو، أغلبها من الصنع المصنعة.
ويؤكد الخبراء أن عقوبات اقتصادية غربية تعني إقدام روسيا على فرض عقوبات مضادة. وهنا يبقى التساؤل: هل تستطيع أوروبا التخلي عن الطاقة الروسية؟ الجواب لا، بل روسيا ستجد السوق الصينية لتصدير كل نفطها والغاز ولن تجد أوروبا بديلا لأنه لا يمكن تعويض أنابيب الغاز والنفط بشحنات السفن. من جهة أخرى، هل ستتحمل أوروبا عقوبات روسية بالتقليص من الصادرات؟ الجواب لا، لأنه سيعني ضربة قوية لاقتصاديات عدد من دول أوروبا الشرقية بل وحتى الغربية. ولهذا، يوجد اختلاف عميق في ملف العقوبات بين الاتحاد الأوروبي الذي سيتأثر والولايات الأقل تأثرا.
ومن جانب آخر، عملت موسكو ومنذ سنة 2014 على إعادة هيكلة اقتصادها لتفادي تأثير العقوبات. فقد قامت بتخزين العملة الصعبة إلى مستوى يقارب 650 مليار دولار. وهذا ثم وجهت اقتصادها نحو شركاء جدد مثل تركيا ودول شرق آسيا علاوة على الحليف الاستراتيجي الصين. وتبرز جريدة «نيويورك تايمز» في مقال لها يوم 4 شباط/فبراير الجاري أن روسيا بنت اقتصادها للتخفيف من تأثير العقوبات إلى الحد الأدنى، ولكنها ستواجه تحديا كبيرا إذا منعت واشنطن الدول التعامل مع روسيا بالدولار.
التحالف الروسي-الصيني
تدرك موسكو التحديات الهائلة التي تواجهها في علاقاتها مع الغرب، فهي تواجه تكتلا من الدول الغنية اقتصاديا وقوية عسكريا ومتينة سياسيا. وعملت طيلة السنوات الأخيرة على تطوير تحالفها السياسي مع العملاق الصيني المرشح لريادة العالم ابتداء من نهاية الثلاثينات. ووجدت الترحيب من طرف بكين طالما أن الهدف واحد وهو التقليل من سيطرة الغرب على العالم. العلاقات بين البلدين تجاوزت الشعارات السياسية، ولم تعد مبنية على الإيديولوجية الشيوعية بل على المصالح المشتركة. وهناك ثلاثة معطيات حاسمة لمعرفة هذا التحالف ومستقبله وهي:
في المقام الأول، ارتفع التنسيق السياسي في كل المنتديات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن الدولي التابع لمنظمة الأمم المتحدة، إذ لم تعد الصين تتحدث بلسان في بعض القضايا الدولية وروسيا بلسان آخر. في المقام الثاني، ارتفع التبادل التجاري بين الصين وروسيا إلى ما يقارب 150 مليار دولار خلال السنة الأخيرة، وهو مرشح للارتفاع أكثر، ولعل قوته تتجلى في التعامل بالمقايضة وبالعملات الوطنية بدل عملات غربية. وهذا يجعل العقوبات الغربية على روسيا ضعيفة المفعول. في المقام الثالث، تعزز التنسيق العسكري بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، لم يعد الأمر يتعلق بمناورات حربية في أراضي الصين وروسيا، أو الرفع من صادرات روسيا العسكرية إلى الصين بل بالمناورات العسكرية في عدد من مناطق العالم مثل البحر الأبيض المتوسط وبحر العرب وجنوب شرق آسيا. وتعني المناورات العسكرية المشتركة هو بداية حقيقية للدفاع المشترك.
ترسانة أسلحة مرعبة
التوازن في العلاقات الدولية والدفاع عن المصالح لا يتم بالنوايا الحسنة أو الاعتقاد في احترام الآخر المواثيق الدولية، بل يقوم بقدر كبير على مستوى القوة العسكرية التي تمتلكها الدولة أكثر من قوتها الاقتصادية. ولهذا يوجد سباق التسلح والاستثمار في البحث العلمي الخاص بالسلاح. وعملا بهذه النظرية، عملت روسيا على تطوير ترسانتها العسكرية بشكل مرعب للغاية، ترسانة ذات قوة تدميرية مخيفة، تجعل منظمة الحلف الأطلسي لا تجرأ على الدخول في حرب مع موسكو ليس فقط في حالة غزو أوكرانيا بل حتى في حالة شن حرب على دول مثل هنغاريا ورومانيا ودول البلطيق. ولن يدخل الحلف الأطلسي حربا ضد روسيا إلا إذا هاجمت الدول الأوروبية الغربية.
وكان بوتين قد وجه رسالة إلى الغرب يوم فاتح اذار/مارس 2018 عندما كشف عن تطوير روسيا لأكثر من 200 سلاح جديد على رأسها الصواريخ «العابرة للصوت» التي سرعة البعض منها 20 مرة أكثر من الصوت مثل صاروخ سارمات الذي لا يمكن نهائيا اعتراضه، والقادر على ضرب الولايات المتحدة في ظرف نصف ساعة ما بين الإطلاق والاستهداف، وبضع دقائق مجموع أوروبا. ثم صاروخ سيركون الذي جرى تجريبه السنة الماضية ولا يمكن نهائيا اعتراضه. في الوقت نفسه، توجد صواريخ أخرى مثل كالبير وإسكندر، علاوة على منظومة دفاع على رأسها إس 400 وإس 500 قادرة على تحييد كل الأسطول الحربي الغربي. ولن تحتاج روسيا إلى بدل مجهود بشري في الميدان بقدر ما ستعتمد على الحرب من بعد وخاصة الصواريخ لإلحاق أكبر ضرر بالبنيات العسكرية الأوكرانية سواء الجيش أو المعدات.
تعتبر موسكو الملف الأوكراني المفصل التاريخي لأمنها القومي، فهو محطة حاسمة، إما ستكون تحت رحمة الغرب إذا انضمت أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، أو ستعيد أوكرانيا إلى حظيرتها وتجبر باقي دول أوروبا الشرقية على تقليد فنلندا والنمسا، أي الانضمام إلى الغرب اقتصاديا وليس عسكريا.
————————-
أزمة أوكرانيا: وسط التجاذب الروسي-الأمريكي الأوروبيون يحاولون إسماع صوتهم/ آدم جابر
بعد أن أنزلهم الروس إلى مرتبة مراقب لما يحدث في قارتهم مفضلين الحوار المباشر مع الأمريكيين، يحاول الأوروبيون فرض أنفسهم كفاعل رئيسي في الملف الأوكراني، لا سيما بعد فشل الاجتماعات والمناقشات العديدة بين الروس والأمريكيين فيما يخص هذه الأزمة. في هذا الإطار، أتت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون – الرئيس الدوري الحالي للاتحاد الأوروبي – بداية هذا الأسبوع إلى موسكو ثم كييف.
فرغم أن المسعى الذي أطلقه الرئيس الفرنسي لم يسفر عن قرارات واضحة بشأن خفض التوتر، إلا أن قصر الإليزيه أكد أنّ جولة إيمانويل ماكرون على موسكو وكييف وبرلين «حقّقت هدفها» وأن جهود هذا الأخير «فتحت آفاقا» بإتاحة «المضيّ قدماً» نحو خفض حدّة التوتر بين روسيا وأوكرانيا، مشدداً في الوقت نفسه على وجوب عدم انتظار «مكاسب فورية» منها.
ويبدو أن أولى ثمار زيارة ماكرون سرعان ما ظهرت مع حديث الروس والأوكرانيين عن «مؤشرات إيجابية» إذ قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا إن هناك «فرصاً حقيقية» لخفض حدّة التوتر على حدود بلاده مع روسيا، حيث حشدت موسكو أكثر من مئة ألف عسكري في خطوة يخشى الغرب أن تكون تحضيراً لغزو عسكري للجارة الموالية للغرب. من ناحيته، أكد المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف أنه «برزت مؤشرات إيجابية على أنّ الحلّ لأوكرانيا يمكن أن يستند فقط الى الالتزام باتفاقيات مينسك» الموقّعة في 2015 بين كييف والانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
عودة أوروبا إلى اللعبة
وزير خارجية الاتّحاد الأوروبي جوزيب بوريل، قال إنّ زيارة ماكرون إلى روسيا واجتماعه ببوتين شكّلا «إشارة إيجابية» و«مبادرة جيدة» مضيفاً أنه «يعتقد أنّها تشكّل عنصر انفراج». وتعليقاً على زيارة ماكرون إلى موسكو وكييف، قالت صحيفة «لوموند» الفرنسية في افتتاحية لها نشرتها يوم الثلاثاء الماضي إن هذه الزيارة «تعيد أوروبا إلى لعبة استبعدها بوتين منها تلقائياً».
المستشار الألماني أولاف شولتس، من جانبه، وبعد الانتقادات التي وجّهت إليه في الأسابيع الأخيرة على أنه يساير بوتين وينأى بنفسه عن الأزمة، كثف هذا الأسبوع جهوده الدبلوماسية على خط الأزمة الأوكرانية. فبعد الزيارة التي قام بها إلى واشنطن بداية الأسبوع لطمأنه الأمريكيين بشأن موضوع خط أنابيب الغاز «نورد ستريم 2» الذي أنجز بناؤه لكنه لم يحز التراخيص النهائية ولم يدخل الخدمة بعد، استقبل شولتس الزعيمين الفرنسي إيمانويل ماكرون والبولندي أندريه دودا في برلين. وشدّد الإليزيه على أنّ «التفاهم متين للغاية» بين ماكرون وشولتس.
وفي اليوم الموالي، التقى أولاف شولتس في برلين برئيسة الحكومة الدنماركية ميتي فريدريكسن، حيث أشاد بـ «التقدّم» الذي تم تحقيقه باتجاه خفض التصعيد في أزمة أوكرانيا. قبل استقباله يوم الخميس قادة دول البلطيق القلقين بشدّة من تصرفات روسيا المجاورة لبلدانهم. فالخطاب الفرنسي حول القلق «المشروع» لروسيا من جهة والروابط الوثيقة في مجال الطاقة بين ألمانيا وروسيا من جهة أخرى هي أمور تجعل دولا مثل بولندا ودول البلطيق مرتابة حيال دبلوماسية القوى الكبرى.
تحذير ألماني وخيبة أمل روسية
لطمأنة هذه الدول زاد المستشار الألماني من حدة النبرة تجاه فلاديمير بوتين، محذرا روسيا من أنه يجب ألا تستخف بـ «وحدة» و «تصميم» الأوروبيين، قائلا؟ «في هذا الوضع الحرج بالنسبة لنا جميعًا، لا ينبغي لروسيا أن تقلل من شأن وحدتنا وتصميمنا كشركاء داخل الاتحاد الأوروبي وحلفاء داخل الناتو». وأضاف أنه يأخذ مخاوف زعماء دول البلطيق الثلاث «بجدية بالغة» مشددا على أن القناة الدبلوماسية تظل الأولوية بالنسبة له من أجل «تهدئة» التوترات حول أوكرانيا.
وكانت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس آخر المسؤولين الغربيين الذين توجهوا إلى موسكو يوم الخميس، حيث صرحت عقب لقاء نظيرها الروسي سيرغي لافروف في موسكو قائلة: «أبلغني الوزير لافروف اليوم بأن روسيا لا تخطط لغزو أوكرانيا. لكن هذه الأقوال يجب أن تقترن بأفعال». لا فروف، من جانبه، وصف المحادثات بـ«المخيبة». جاء ذلك تزامناً مع بدء الجيش الروسي ونظيره البيلاروسي مناورات عسكرية مشتركة تستمر عشرة أيام في بيلاروسيا، في خطوة قالت باريس إنها تعد مؤشر «عنف» بينما وصفتها كييف بانها وسيلة «ضغط نفسي».
ومن المقرر أن يسافر المستشار الألماني إلى موسكو يوم الثلاثاء المقبل (15 شباط/فبرايرالجاري) للقاء فلاديمير بوتين بعد زيارة كييف يوم الإثنين. واستبق ذلك بالتحذير من مغبة أن «أي عدوان عسكري روسي جديد ضد أوكرانيا ستكون له عواقب سياسية واقتصادية واستراتيجية خطيرة للغاية بالنسبة لروسيا». ويأتي ذلك، بعد أن أعلنت روسيا وأوكرانيا عن الإخفاق في تحقيق أي انفراجة بعد المحادثات مساء الخميس في برلين مع مسؤولين من ألمانيا وفرنسا.
تحديات تعيق الجهود الأوروبية
في خضم ذلك، أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن مساء الجمعة اتصالا شارك فيه كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل وآخرين. وقد اتفق الزعماء على بذل جهود منسقة لردع العدوان الروسي على أوكرانيا، تشمل الاستعداد لفرض «تبعات ضخمة وتكاليف اقتصادية باهظة» على روسيا إذا اختارت التصعيد العسكري، وفق ما أفاد البيت الأبيض.
أتى هذا الاتصال وسط تحذير البيت الأبيض من مغبة غزو روسي وشيك لأوكرانيا في الأيام المقبلة، ودعوة واشنطن ولندن الأمريكيين والبريطانيين إلى مغادرة أوكرانيا، والتي حذا الاتحاد الأوروبي حذوها، حيث أوصى موظفيه غير الأساسيين بمغادرة أوكرانيا، رغم المساعي الدبلوماسية المكثفة من الأوروبيين هذا الأسبوع، لاسيما الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى موسكو. هذا الأخير، بدا مصمماً على مواصلة جهوده، حيث أجرى اتصالا هذا السبت بنظيره الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبله الاثنين الماضي في الكرملين لأكثر من خمس ساعات.
وعلاوة على ذلك، فإن العديد من المراقبين يرون أن هذا الحراك الدبلوماسي الأوروبي لنزع فتيل الأزمة الأوكرانية يواجه عدة تحديات في معالجة الأزمة، لعل أبرزها عدم قدرة حلف شمال الأطلسي للاستجابة للمطالب الروسية القاضية بالتعهد بعدم ضم أوكرانيا إلى صفوفه عبر عملية التوسع شرقا. وفي هذا الصدد، يُشير المحلل السياسي مصطفى الطوسة إلى أنه «في كل اللقاءات الدبلوماسية التي جمعت الرئيس بوتين بنظرائه الأوروبيين والأمريكيين كان موضوع توسيع الحلف الأطلسي من العقبات الأساسية التي تعرقل التفاهم وتفتح الباب على مصراعيه على مختلف أنواع المواجهات.
ومنذ سنوات يصر فلاديمير بوتين على التأكيد على أن ضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي وحصولها على عضوية كاملة فيه يعتبر بمثابة خط أحمر وإعلان حرب. أولا، لأن قوات الحلف الأطلسي ستنتشر بكثافة على حدودها الغربية. وثانيا، لأنه إذا تم تفعيل البند الخامس الذي يوصي بالدفاع المشترك فإن الحلف الأطلسي سيرغم على الدخول في حرب مفتوحة مع روسيا لاستعادة جزيرة القرم التي احتلتها القوات الروسية عام ألفين وأربعة عشر» يضيف مصطفى الطوسة.
وتجد قيادة الحلف الأطلسي السياسة سواء تلك الموجودة في أوروبا أو أمريكا، تجد صعوبة في إدارة هذه الأزمة. فلا هي قادرة على ضم أوكرانيا إلى صفوفها ولا هي قادرة على تقديم وعد صلب لموسكو بعدم القيام بذلك. وهذه الوضعية هي التي تساهم في خلق هذا التشنج الإقليمي الذي نشرت روسيا بموجبه عشرات آلاف الجنود على حدودها مع أوكرانيا وتدفع بالحلف الأطلسي إلى التصعيد العسكري معها.
———————-
واشنطن متخوفة من موسكو رغم الاستعراضات العسكرية في أوروبا الخيارات الأمريكية لحل الأزمة الأوكرانية محدودة/ رائد صالحة
حذر مسؤولون أمريكيون لأسابيع من خطر غزو روسي لأوكرانيا بعد أن حشدت موسكو القوات والإمدادات العسكرية على الحدود، وقد أقر الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن لدى روسيا القدرة على غزو أوكرانيا، ولكنه قال إنه غير متأكد مما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينوي القيام بالغزو أم لا محذراً من أن بوتين يجب أن يدرك أنه يرتكب خطأ فادحاً إذا انتقل لأوكرانيا وأن التأثير على أوروبا والعالم سيكون مدمراً.
وهبطت القوات الأمريكية لأول مرة بالقرب من الحدود البولندية-الأوكرانية، الأسبوع الماضي، وتحدثت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» عن خطط لوصول قوات إضافية خلال أيام.
وتستعد الولايات المتحدة لفرض عقوبات اقتصادية قاسية إذا قامت روسيا بغزو أوكرانيا، وفي الأسبوع الماضي، أمر بايدن بنشر 3 الآف جندي في أوروبا الشرقية لتقديم دعم إضافي لحلفاء الناتو بما في ذلك ألمانيا.
وجاء الاجتماع بين بايدن والمستشار الألماني أولاف شولتز، في الوقت الذي تحاول فيه الولايات المتحدة إظهار جبهة موحدة مع الحلفاء في خطط لصد أي جهد من جانب روسيا لغزو أوكرانيا بشكل أكبر.
وحذر بايدن من أن التوترات بين روسيا وأوكرانيا قد تتصاعد بسرعة، وقال: «إننا نتعامل مع واحد من أكبر جيوش العالم وليس منظمة إرهابية، وقد تسوء الأمور سريعاً».
وأكد بايدن أنه أبلغ الكرملين بأنه قد تكون هناك تداعيات إذا أصيب أي أمريكي، وقال: «آمل أن لا تُرتكب هذه الحماقة».
بايدن والخلافات الأوروبية
بذل الرئيس الأمريكي جو بايدن جهداً كبيراً منذ شهور من أجل حل الخلافات في التحالف الغربي بشأن الأزمة الأوكرانية، التي تمثل الآن أصعب تحديات السياسة الخارجية التي ظهرت منذ توليه المنصب، ولكن التسريبات المتعلقة بالاجتماعات المغلقة بين بايدن وزعماء الغرب كشفت بأن الرجل لم يكن سعيداً بالرياح المعاكسة التي كانت تواجهه، على الرغم من تأكيد العديد من المحللين الأمريكيين بأن التحالف بين أمريكا والحلفاء أكثر قوة الآن مما كان عليه قبل بضعة أسابيع فقط.
وعلى سبيل المثال، قال بايدن إن المستشار الألماني أولاف شولتز ليس أنغيلا ميركل، كما وصف سلوك رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون بأنه «صاخب» وقال إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يريد أن يكون شارل ديغول.
وقد تعقدت جهود بايدن لتنسيق رد موحد ضد روسيا بسبب الانقسامات بين دول الناتو حول كيفية إدراكها للتهديد الذي تشكله روسيا، وعلى سبيل المثال، قاومت ألمانيا النداءات المتعلقة بوقف خط أنابيب نورد ستريم 2 ورفض شولتز مرة أخرى التعهد بذلك بعد اللقاء مع بايدن في البيت الأبيض.
وعلى أي حال، يتوقع المحللون الأمريكيون أن يجتمع معظم أعضاء التحالف الغربي معا برد منسق في حالة غزو روسيا لأوكرانيا، وقالوا إن الأمر يتجاوز مشاعر الإحباط لدى بايدن من ديناميكية زعماء أوروبا، وأكد مسؤولو إدارة بايدن أن العلاقات بين الولايات المتحدة والحلفاء في أوروبا قوية بشكل عام على الرغم من بعض الخلافات حول جوانب معينة من الرد على روسيا.
العقوبات والطريق المسدود
وقال كبار أعضاء مجلس الشيوخ، الذين شاركوا في مفاوضات بشأن العقوبات ضد روسيا، إنهم وصلوا إلى «طريق مسدود» وأكدوا أنهم يستكشفون خيارات احتياطية مع ضيق الوقت.
وكشف السيناتور جيم ريش والسيناتور بوب مينينديز أن المفاوضات عالقة بسبب خلافات ثانوية بشأن العقوبات على البنوك الروسية، والتي يمكن أن يكون لها تأثير أوسع في جميع أنحاء أوروبا وخلافات بشأن خط الأنابيب نورد ستريم- 2 الذي سينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا.
وأوضح المشرعون أن الخيارات المتاحة بشأن العقوبات ستظهر عبر مشاريع قوانين متنافسة، سيكون أحدهما أقرب إلى ما يريد الجمهوريون رؤيته والآخر أقرب إلى أولويات الديمقراطيين.
ومن الواضح أن الجمهوريين يرفضون بشدة «الاقتراح البديل» الذي يتعلق فقط ببرنامج نورد ستريم-2 ومن بين الخيارات المطروحة فرض عقوبات رداً على الهجمات الإلكترونية الروسية والمساعدات الفتاكة لأوكرانيا.
والمشكلة تكمن في أن أعضاء مجلس النواب، قد غادروا العاصمة واشنطن حتى يوم 28 شباط/فبراير، ومن المتوقع أن يغادر أعضاء مجلس الشيوخ في عطلة إلى نفس اليوم، مما يجعل الحاجة إلى التوصل لاتفاق ضرورة ملحة.
قوات أمريكية في الدنمارك
وقد تتراجع الدنمارك عن سياسة دامت عقوداً لتسمح قريباً للقوات الأمريكية والمعدات العسكرية بالتمركز على أراضيها من خلال اتفاقية تعاون دفاعي جديدة مع الولايات المتحدة، في وقت تتصاعد فيه التوترات بين الدول الغربية وروسيا، التي يبدو أنها مستعدة لغزو أوكرانيا.
وصرح رئيس الوزراء الدنماركي ميت فريدريسكن للصحافيين بأن البلدين سيبدآن مفاوضات بشأن اتفاقية جديدة، والتي ستكون «اختراقاً بعد عدة عقود» وقال إن هذا الالتزام الأمريكي المتزايد في الدنمارك سيحسن وصول الولايات المتحدة إلى القارة الأوروبية.
وبموجب السياسة الحالية، لا يسمح حليف الناتو بنشر قوات أجنبية على الأراضي الدنماركية، وعلى الرغم من إصرار الدنمارك على أن المحادثات مع الولايات المتحدة ليس لها علاقة بما يحدث في أوروبا الشرقية إلا أن العديد من المحللين أشاروا أن الاتفاقية قد تساهم في زيادة التواجد الأمريكي في أوروبا وبالتالي زيادة التوتر مع موسكو.
مناورات عسكرية ومحادثات دبلوماسية
وقد بدأت روسيا يوم الخميس الماضي 10 أيام من التدريبات العسكرية في بيلاروسيا بمشاركة عشرات الآلاف من القوات، ومع دخول السفن الحربية البحر الأسود لإجراء مناورات بحرية واسعة النطاق، قالت وزارة الخارجية الأوكرانية إنها ستجعل ممرات الشحن الدولية «شبه مستحيلة» للإبحار.
وجاء هذا النشاط مع تعثر موجة من الجهود الدبلوماسية، التي تهدف إلى منع الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي برلين، فشل المفاوضون في التوصل لاتفاق بعد تسع ساعات من المناقشات الساعية إلى حل للصراع في منطقة دونباس بشرق أوكرانيا، وفي الأمم المتحدة، اشتبكت واشنطن وبكين، واتهم دبلوماسي صيني الولايات المتحدة بتصعيد التوتر، ولكن الرئيس الروسي أدلى بتصريح إيجابي حيث قال إنه لم يستسلم بعد بالنسبة للمسار الدبلوماسي.
ويواصل المسؤولون الأمريكيون الضغط من أجل حل دبلوماسي للأزمة، على الرغم من أن الجهود الأوروبية لم تثمر حتى الآن عن أي تقدم، بما في ذلك رحلة الرئيس الفرنسي لموسكو.
الخيارات الأمريكية محدودة
وأشار العديد من المحللين الأمريكيين إلى أن إدارة بايدن متوجسة بالفعل من الحرب، وهناك مخاوف من الترسانة النووية الروسية، وقد استعرض بايدن القوة العسكرية الأمريكية على أمل ردع الغزو الروسي لأوكرانيا ولكنها في الواقع غير مستعدة للحرب مع روسيا، وأشاروا إلى أن القوات الأمريكية ستعمل على دعم دول الناتو، وليس الدفاع عن أوكرانيا نفسها، وحتى لا يكون هناك أي سوء تفاهم، أكد بايدن مراراً أنه لا ينوي إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا.
ولاحظ محللون أمريكيون أن رؤساء الولايات المتحدة تحدثوا عن أن «جميع الخيارات مطروحة على الطاولة» أثناء أزمات الأمن القومي ولكن بايدن قال بوضوح إن الخيار العسكري ليس مطروحاً على الطاولة.
وكان بايدن يعكس بذلك الواقع السياسي في واشنطن، التي تخشى الحرب، ولم تظهر حتى الآن دعوات بارزة من الحزبين لرؤية قوات أمريكية في أوكرانيا.
وهناك اعتقاد في واشنطن بأن روسيا قد تستخدم بسرعة ترسانتها النووية، على نطاق محدود، في أي قتال خاسر مع الغرب.
————————-
الأزمة الأوكرانية بين الدبلوماسية واحتمالات المواجهة الساخنة/ فالح الحمراني
فيما صعدت الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات، وأوكرانيا، مزاعم غزو روسي محتمل للأراضي الأوكرانية، وصفت القيادة الروسية هذه المعلومات بأنها تصعيد فارغ لا أساس له للتوتر، وأكدت أن موسكو لا تشكل أي تهديد لأحد. ومع ذلك لا تستبعد احتمال وقوع استفزازات لتبرير مثل هذه التصريحات وحذرت من أن محاولات حل الأزمة بالقوة في جنوب شرق أوكرانيا ستكون لها عواقب وخيمة.
وعلقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على تصريحات المسؤولين الأمريكيين بأن روسيا ستغزو أوكرانيا في المستقبل القريب بالقول: «إن الهستيريا في البيت الأبيض تظهر أكثر من أي وقت مضى حاجة الأنكلو ساكسون إلى حرب جديدة. وبأي ثمن». وأضافت أن: «الاستفزازات والمعلومات الخاطئة والتهديدات هي طريقة مفضلة لحل مشاكلهم الداخلية». ووفقاً لها، فإن الآلة العسكرية السياسية الأمريكية جاهزة لتدمير حياة الناس مرة أخرى، والعالم بأسره يراقب كيف تكشف الطموحات العسكرية والإمبريالية عن نفسها.
وكان رئيس الولايات المتحدة جو بايدن قد دعا مرة أخرى الأمريكيين إلى مغادرة أراضي أوكرانيا على الفور، حيث يمكن أن يتفاقم الوضع في البلاد في أي لحظة. في الوقت نفسه، أوضح سيد البيت الأبيض أنه لا ينوي إرسال قوات أمريكية إلى كييف لإجلاء المواطنين، لأن هذا قد يؤدي افتراضيًا إلى اشتباكات مع روسيا، والتي على حد قوله، ستثير حربًا عالمية.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مباحثات مع نظيرته البريطانية ليز تراس: إن الغرب بحاجة لرئيس أوكرانيا فلاديمير زيلينسكي كأداة لإخراج روسيا من التوازن. وأضاف: «الرئيس زيلينسكي نفسه يحث على عدم إثارة الذعر في (إشارة إلى تحضير روسيا لغزو أوكرانيا). في الوقت نفسه، وفقًا لوزير الخارجية الروسية، «لا أحد يهتم بالتداعيات السلبية لذلك على الاقتصاد الأوكراني، والميزانية الأوكرانية، كيف تهرب الاستثمارات من أوكرانيا بسبب كل هذا البكاء والنحيب».
وحسب تقديرات كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة وكندا في موسكو فلاديمير فاسيليف، فإن «كل المعلومات التي على أساسها اتخذ جو بايدن هذا القرار هي معلومات استخباراتية، تتعلق مباشرة بالتقارير الاستخباراتية للولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى، التي تراقب عن كثب الوضع حول أوكرانيا وبشكل مباشر في مناطق التماس على الحدود الأوكرانية /البيلاروسية والأوكرانية / الروسية. وبرأيه أن البيانات الواردة من أجهزة المخابرات الأمريكية متناقضة للغاية. وأن هذا التناقض في إشاراتهم يخلق شعوراً بعدم كفاءة أجهزة المخابرات. وقد تناولت الصحافة الأمريكية هذا الموضوع أكثر من مرة.
ويرى الخبير الذي كان يتحدث لصحيفة «موسكوفسكي كمسمولسك»: «أن آخر معلومات أجهزة المخابرات الأمريكية، تتوقع على ما يبدو بان الأيام المقبلة ستشهد حدوث تطور عنيف. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن مجلس الدوما سينظر في 14 شباط/فبراير في طلب عدد من الكتل النيابية من القيادة الروسية بالاعتراف رسميا بجهوريتي دونتسك ولوغانسك الانفصاليتين كدولتين أو كيانات مستقلة». وقال فلاديمير فاسيليف: «إن واشنطن تتفهم بأن الأطراف المعنية ستتخذ إجراءات ملموسة، حال اتخاذ أي قرارات بشأن هذه القضية، وستكون الإجراءات ليس فقط من الجانب الروسي، ولكن أيضا من الجانب الأوكراني، لأن كييف قادرة أيضا على الرد على هذا. وقد يكون رد الفعل دبلوماسيا. على سبيل المثال، قد تقطع أوكرانيا العلاقات الدبلوماسية مع روسيا. لكن يمكن أن تتخذ كييف أيضا خطوات أكثر حدة. وليس من قبيل المصادفة أن يقول العديد من المحللين الآن أن الدبلوماسية ستختفي تدريجياً، وستكون الأحداث قوية بشكل واضح.» والكلام لفاسيليف. ويتابع الخبير السياسي بالقول: «إن الإدارة الأمريكية، وهي إذ تتذكر الخروج العشوائي من أفغانستان، تتخوف من التعرض لاتهامات عندما يجد المواطنون الأمريكيون الذين يعيشون في أوكرانيا أنفسهم في بلد يعاني من أعمال الشغب والنهب والنهب، وقطع طرق الإجلاء العادية». موضحا بأن المكون السياسي الداخلي لا غير يعتبر في الوقت الحاضر هو الأهم بالنسبة للإدارة الأمريكية، لا سيما على خلفية التراجع المستمر لشعبية جو بايدن والضغط الذي يتعرض له، وهذا هو العامل الرئيسي لخلفية تحرك واشنطن. ولخص الخبير رؤيته بأن «هناك تصور عن أن الوضع في أوكرانيا سيتغير بحدة في المستقبل القريب، أي أنها لن تغدو أزمة دبلوماسية بقدر ما ستتحول إلى أزمة سياسة خارجية خطيرة وواسعة النطاق، تذكرنا جدا بالأحداث التي وقعت حول كوبا في تشرين الأول/أكتوبر 1962.»
مكاسب بوتين
وعلى الرغم من اشتداد التصعيد، والنتائج المنتظرة فقد حقق الرئيس الرئيس فلاديمير بوتين في التصعيد الذي أثاره الغرب مع روسيا بحجة وجود خطط لديها لغزو أوكرانيا، عدة مكاسب كان يطمح لها منذ خطابة المشهور أمام مؤتمر الأمن العالمي في عام 2007 في ميونيخ، الذي أشار فيه من بين قضايا أخرى إلى تجاهل الغرب بإصرار لمصالح روسيا الأمنية. وانتقد فيه بشدة السياسة الخارجية للولايات المتحدة وفكرة النظام العالمي أحادي القطب، وعارض بشدة خطط توسيع حلف شمال الأطلسي ونشر منشآت الدفاع الصاروخي الأمريكية في أوروبا الشرقية. وتساءل بوتين عن سبب اقتراب الناتو ببنيته التحتية العسكرية من تخوم روسيا. وهذه القضية كما نرى، هي على رأس أجندة السياسة الخارجية اليوم. ولم يرد أحد حتى الآن على هذا السؤال.
ومن بين تلك المكاسب، إن بوتين وضع المقدمات لكسر العزلة التي حاولت قوى غربية فرضها ليس عليه وحسب، بل وعلى روسيا ومحاصرتها سياسيا واقتصاديا، إلى ذلك أعاد الرئيس الروسي الحيوية الى اتفاقية مينسك، التي تعتبر خريطة طريق مأمونة لتسوية النزاع في شرق أوكرانيا، وتسعى كييف للتنصل منها، وجعل الغرب يصغي بجدية إلى هموم روسيا الأمنية وضرورة أخذها بنظر الاعتبار، وكشف الستار عن عمق الانقسام الذي ينخر بين دول وقوى الاتحاد الأوروبي، سواء في الموقف من روسيا، وتحقيق مصالحها الوطنية ورؤيتها لبناء النظام الدولي المستقبلي. إن اشتداد المواجهة مع الغرب خلق مناخا مناسبا لتعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين، رغم لم تكتسب بشكل سافر، طابعا عسكريا.
في غضون ذلك فتح الغرب نوافذه مشرعة على روسيا، وتقاطرت وفود زعماء الغرب ودول الناتو على موسكو للقاء الرئيس بوتين، لتخفيف التصعيد وإيجاد الوسائل لتسوية الخلافات حصرا بالسبل الدبلوماسية. وقد مهدت هذه الزيارات لكسر العزلة على النسق الأعلى للقيادة الروسية التي نادى بها بعض زعماء الغرب ودول شرق أوروبا. وضمن هذا السياق حظيت زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون لموسكو وكييف بالأهمية، وتسابق المحللون السياسيون في وضع التأويلات لخلفيات ودوافع الزيارة والنتائج التي خرجت فيها. البعض وصفها بالمنعطف وآخرون قللوا من أهميتها. وأعطى البعض للزيارة بعدا جيوسياسيا همش القضية الأوكرانية. وذهبوا إلى أن ماكرون هدف من زيارته التي وصفها البعض بالمفاجئة إلى أن يأخذ الاتحاد الأوروبي، الذي باشرت فرنسا في رئاسته خلال هذا الشهر، زمام أمن القارة بيده، والحيلولة دون استئثار الولايات المتحدة الأمريكية به، وعرض على نظيره الروسي بعض الأفكار بهذا الصدد. ويربط آخرون الزيارة باقتراب الانتخابات الفرنسية، التي يعد ماكرون أحد المرشحين الرئيسيين فيها، وهو بحاجة الى تحقيق نجاح على ميدان الساحة الخارجية.
———————-
الأزمة الأوكرانية: خطوة نحو الحرب وخطوتان نحو السلام/ صادق الطائي
لطالما مثلت أوكرانيا البوابة الغربية لروسيا في تاريخها الحديث والمعاصر، وربما لم تكن العلاقات بين موسكو وكييف سلسة على طول الخط، إذ تراوحت علاقة البلدين الجارين بالكثير من التوتر والنزاع من جهة، وبعلاقات تكامل وجيرة وانتقال سكاني كبير لاسيما في العهد السوفييتي. وقد باتت جمهورية أوكرانيا اليوم منقسمة إلى شرق خاضع للنفوذ الروسي بشكل كبير انعكس حتى على لغة السكان، وغرب أوكراني يرى في الجوار الروسي تهديدا مستمرا يجب الاحتماء منه بقوى الغرب. وقد تعامل الغرب وحلف شمال الأطلسي مع الأزمة الأوكرانية على أنها خاصرة رخوة يمكن أن يضغط عبرها على روسيا بوتين، إذ أن الموقع الجغرافي لأوكرانيا بات يلعب دورا كبيرا في عبور إمدادات الغاز الروسية إلى دول غرب أوروبا، وأن التهديد بضرب أو إغلاق خط «نورد ستريم 2» يمكن ان يمثل تهديدا استراتيجيا للاقتصاد الروسي.
خطوات التصعيد
منذ أن حشدت روسيا حوالي 100 ألف عسكري على الحدود الأوكرانية، وأعلنت لاحقا عن القيام بمناورات عسكرية في بيلاروسيا، والأوروبيون باتوا قلقين من أن يهاجم الدب الروسي جاره الأوكراني الضعيف. حكومة بوتين تنفي من جانبها وجود أي نوايا للغزو العسكري لأوكرانيا، وقد نفت مرارا اتهامات كييف والدول الغربية بتصرفات عدوانية ضد أوكرانيا، مؤكدة أنها لا تهدد أي دولة ولا تنوي الاعتداء على أحد، أما الإدعاءات حول تحضير موسكو لـ «غزو أوكرانيا» فليست سوى ذريعة لنشر مزيد من آليات الناتو العسكرية قرب حدود روسيا. لكنها تصر على أن تكون هناك اتفاقات واضحة وملزمة لجميع الأطراف تضمن عدم تمدد حلف الناتو إلى أوكرانيا.
وكانت وزارة الخارجية الروسية قد أشارت سابقا إلى أن التصريحات الغربية عن «العدوان الروسي الوشيك» ضد أوكرانيا واستعداد الغرب لمساعدة كييف على التصدي لهذا العدوان المزعوم «مضحكة وخطرة في آن واحد». لكن الواقع على الأرض يزداد توترا بالرغم من كل جولات المفاوضات التي تخوضها الحكومة الروسية مع نظيراتها من الحكومات الغربية.
يبدو أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون هو الأكثر حماسا لمواجهة «خطر الغزو» الروسي، والأعلى صوتا في التحشيد ضد التدخل الروسي في أوكرانيا، والأكثر إلحاحا في دق ناقوس الخطر والتحذير من الحرب المقبلة، إذ اتهم جونسون الرئيس بوتين بأنه «وضع مسدسا على رأس أوكرانيا» ودعا الكرملين إلى التراجع عن «كارثة عسكرية» وفي اتصال هاتفي بين جونسون وبوتين جرى يوم 2 شباط/فبراير الجاري أعرب رئيس الوزراء البريطاني عن قلقه العميق بشأن «النشاط العدائي» لروسيا على الحدود الأوكرانية، وأبلغ الرئيس الروسي أن أي توغل إضافي للقوات الروسية على الحدود سيكون «سوء تقدير مأساوي» من قبل موسكو.
وبعد محادثات أجراها مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في العاصمة كييف، قال جونسون في مؤتمر صحافي: إن الجيش الأوكراني «سيقاوم في حالة حدوث غزو» وأضاف:»هناك 200 ألف رجل وامرأة مسلحين في أوكرانيا سيقدمون مقاومة شرسة ودموية للغاية، وأعتقد أن الآباء والأمهات في روسيا يجب أن يفكروا في هذه الحقيقة. وآمل بشدة أن يتراجع الرئيس بوتين عن مسار الصراع وأن نبدأ الحوار». وحذر جونسون من أن بريطانيا سترد على العدوان الروسي بـ «حزمة من العقوبات وغيرها من الإجراءات التي سوف تتخذها في اللحظة التي يعبر فيها أول جندي روسي إلى داخل الأراضي الأوكرانية».
أما الرئيس الأمريكي جو بايدن فيبدو أن تصريحاته التصعيدية اتخذت طابع الجدية في التنفيذ من جهة، والتهديد المبطن لموسكو من جهة أخرى، إذ حذر من وجود «إمكانية واضحة» لأن تقوم روسيا بغزو أوكرانيا في شباط/فبراير، حسب بيان للبيت الأبيض. كما أعلن المتحدث باسم البنتاغون، جون كيربي، يوم 29 كانون الأول/يناير الماضي أنه تم وضع 8500 جندي أمريكي على أهبة الاستعداد لأوامر بالانتشار، حيث توجد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية. وذكرت شبكة CNN أن إدارة بايدن في المراحل الأخيرة من تحديد الوحدات العسكرية لإرسالها إلى دول البلطيق وأوروبا الشرقية لتعزيز وجود القوات الأمريكية في محاولة لردع روسيا.
وقدّرت الاستخبارات الأمريكية أن روسيا بات لديها فعليا 70 في المئة من القوة اللازمة لتنفيذ غزو واسع النطاق لأوكرانيا ويمكن أن تكون لديها القدرة الكافية لتنفيذ هجوم في غضون أسبوعين. لكن دوائر تحليل المعلومات في الاستخبارات الأمريكية لم تحدد ما إذا كان بوتين قد اتخذ قرار الانتقال إلى الهجوم أم لا، وأنه يريد أن تكون كل الخيارات الممكنة موجودة أمامه، من الغزو الجزئي لجيب دونباس الانفصالي، إلى الغزو الكامل. وحذر المسؤولون الأمريكيون من أنه إذا قرر بوتين غزو أوكرانيا، فبإمكان قواته تطويق العاصمة الأوكرانية كييف والإطاحة بالرئيس فولوديمير زيلينسكي في غضون 48 ساعة.
لكن من ناحية أخرى وبناء على المكالمة الهاتفية التي جرت يوم 28 كانون الثاني/يناير الماضي بين الرئيس الأمريكي ونظيره الأوكراني، قال بيان للبيت الأبيض إن الرئيس بايدن «أعاد التأكيد» خلال حديثه مع الرئيس زيلينسكي على «استعداد الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها على الرد بحزم إذا مضت روسيا في غزو أوكرانيا» لكن يبدو أن الأمور «لم تسر على ما يرام» بسبب الخلافات بين الرئيسين حول «مستويات الخطورة» فيما يتعلق بالهجوم الروسي المحتمل على أوكرانيا. إذ وصف مسؤول أوكراني المكالمة بأنها كانت «طويلة وصريحة» وقال خلالها بايدن إن هجوما روسيا قد يكون وشيكا، لكن الرئيس الأوكراني قال إن التهديد الروسي «لا يزال خطيرا ولكنه غامض وليس من المؤكد أن الهجوم سيحدث». وقال المسؤول الأوكراني إن بايدن رفض الدعوات الأوكرانية لفرض عقوبات على روسيا قبل أي غزو، قائلا إن العقوبات لن تُفرض على موسكو إلا بعد تقدم روسي إلى الأراضي الأوكرانية.
خطوات التهدئة
من جانب آخر هناك لاعبون أساسيون ما زالوا يراهنون وبقوة على خيار الحلول الدبلوماسية للأزمة، وأبرزهم فرنسا وألمانيا، وقد قام الرئيس ايمانويل ماكرون بزيارة إلى موسكو يوم الاثنين 7 شباط/فبراير الجاري في إطار محاولته نزع فتيل الأزمة، إذ صرح الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف بالقول: إن «الاجتماع بين الرئيسين الفرنسي والروسي مهمّ جدا» مذكراً بأن «ماكرون قال لبوتين إنه يأتي حاملا أفكارا من أجل خيارات محتملة لتحقيق انفراج في التوتر في أوروبا».
وخلال ساعات من المحادثات في موسكو، ناقش الرئيسان الفرنسي والروسي البحث عن مخرج من الأزمة. وقال الرئيس ماكرون إنه يسعى إلى تجنب الحرب وبناء الثقة، وأعرب عن أمله في «تخفيف حدة توتر الأزمة بين روسيا والغرب». من جانبه، أعلن الرئيس بوتين عقب محادثاته مع الرئيس ماكرون: «أن موسكو ستبذل ما بوسعها للتوصل إلى تسويات في الأزمة مع الغرب بشأن أوكرانيا». وأوضح «فيما يتعلق بنا، سوف نبذل أقصى جهودنا للتوصل إلى تسويات تلائم الجميع» مضيفا أنه «لن يكون هناك رابحون في حال اندلاع حرب في القارة الأوروبية».
بعد موسكو توجه الرئيس الفرنسي ماكرون إلى كييف يوم الثلاثاء 8 شباط/فبراير الجاري، وقد أعلن الرئيس زيلينسكي، أنه يتوقع عقد قمة في إطار صيغة النورماندي مع قادة روسيا، وفرنسا، وألمانيا «في أقرب وقت» وقال زيلينسكي، في مؤتمر صحافي مشترك مع ماكرون عقب لقائهما «اليوم تطور بلداننا التعاون في جميع المجالات تقريبا، لكن ثمة أهمية خاصة لشراكتنا في مجال الأمن، إذ تؤدي فرنسا دورا نشطا في إطار صيغة النورماندي، ونحن نثمن كثيرا الموقف الرسمي لباريس والجهود الشخصية للرئيس ماكرون الرامية لتحقيق السلام في أوكرانيا، إنه حقا يفعل الكثير من أجل ذلك».
المستشار الألماني أولاف شولتس بدوره يلعب دورا محوريا في جهود التهدئة، فبالرغم من كلمات الإطراء التي قالها الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أكّد في مؤتمر صحافي الاثنين 7 شباط/فبراير الجاري مع المستشار الألماني أن ألمانيا حليف «يعتمد عليه بشكل كامل» في ملف أوكرانيا، وأن الولايات المتحدة لديها «ملء الثقة» في برلين. وقال «نحن نعمل بشكل منسق من أجل تعزيز ردع أي عدوان روسي في أوروبا».
لكن المستشار الألماني شولتس وفي رده على سؤال حول ما إذا كانت هناك فرصة للدبلوماسية أم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حسم مسألة التدخل عسكريا في أوكرانيا، أكد: أن «الغزو العسكري ستكون كلفته باهظة» وأشار إلى «أن من المهم جدا أن تعرف القيادة الروسية هذا» وطالب «بفعل كل ما يمكن لكي تأخذ الدبلوماسية فرصة وحتى يمكن تحقيق التفاهم».
وقد أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس، يوم الأربعاء 2 شباط/فبراير الجاري، أنه سيزور موسكو «قريباً» لبحث الأزمة الأوكرانية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن المراقبين السياسيين يتوقعون أن المستشار شولتز، بناء على سلوكه السياسي السابق، سيلتزم الصمت في نزاع أوكرانيا لأطول فترة ممكنة، وإن ألمانيا لم تعد من الناحية الموضوعية قادرة على تقديم مساهمة قوية في خفض التصعيد في الوضع الحالي.
أما الموقف الرسمي الأوكراني فيبدو أنه تحول بشكل واضح نحو التقليل من حدة التوتر والتوقع بأن الأزمة يمكن أن تحل بطرق دبلوماسية ضمن ما عرف بصيغة النورماندي، وقال مسؤولون في أوكرانيا: إن «شروع الولايات المتحدة في إجلاء جزء من طاقمها الدبلوماسي من أوكرانيا كان قرارا سابقا لأوانه، وتسبب في زرع الخوف بين سكان البلاد واضطرابات في الأسواق المالية، ما زاد من تكاليف الاقتراض بالنسبة لكييف». كما أعلن الرئيس زيلينسكي في تصريحات صحافية أنه يعتبر بدء الولايات المتحدة وبريطانيا إجلاء دبلوماسيهما من كييف خطأ، داعيا الزعماء الأجانب إلى عدم زرع الرعب بين الناس وعدم الإضرار باقتصاد بلده. إذن نحن اليوم نعيش ساعات العد العسكي للأزمة الأوكرانية التي يأمل العالم أن لا تصل إلى التفجر الذي لن تعرف مدى نتائجه الكارثية.
——————–
إستراتيجية روسيا في أوكرانيا: ثلاثة دروس من الحرب السورية
قالت مجلة “ناشونال إنترست” الاميركية إن “الدروس المستفادة من تدخل روسيا في سوريا قد تكشف استراتيجيتها في أوكرانيا”، محذرةً من أن “الولايات المتحدة سبق أن افترضت أن روسيا ستكون خائفة من مخاطر التدخل في سوريا”، مشيرةً إلى أن “هذا خطأ لا ينبغي أن تقع به عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا”.
وقالت المجلة الاميركية في تقرير إن كبار المسؤولين الأميركيين يطلقون تحذيرات عديدة مثل “إذا تدخلت روسيا في أوكرانيا فستواجه معركة صعبة”، أو “على القوات الروسية التعامل مع التمرد الأوكراني”، أو “روسيا لن تكون قادرة على تحقيق أهدافها في أوكرانيا وسوف تغوص في مستنقع”.
وأوضحت أنه “قد تشير هذه التصريحات إلى محاولات تحذير الكرملين بشأن بدء مغامرة عسكرية في أوكرانيا، لكن في الحقيقة، إن هذه التصريحات تعكس ما أصدرته إدارة أوباما في سبتمبر/أيلول من العام 2015، قبل التدخل الروسي في سوريا”.
وأضافت أن “هناك بعض الدروس المهمة المستفادة من متابعة المؤسسة العسكرية والأمنية الروسية في سوريا، في حال قرر الكرملين اختيار القوة العسكرية ضد أوكرانيا”، متابعةً أن هذه الدروس “تشير إلى نوع مختلف من القتال عما تتوقعه الولايات المتحدة، والذي تدرب وتجهز القوات الأوكرانية على أساسه”.
وأردفت أن الدرس الاول هو أن “التدخل الروسي في سوريا ركّز بشكل أساسي على تدمير القدرات والتشكيلات القتالية المعارضة لنظام الأسد بدلاً من التركيز على المناطق التي خرجت عن سيطرته”، مضيفة أن “الكرملين اتخذ قراراً بالانخراط بشكل مباشر في الصراع السوري عندما اكتسبت قوات المعارضة أواخر صيف العام 2015، زخماً وقدرات كافية للضغط على النظام ومحاولة إزاحة بشار الأسد”.
وأشار التقرير إلى أن “إعادة سيطرة جيش الأسد على جزء كبير من الأراضي التي خرجت عن سيطرته كانت نتيجة ثانوية للقصف الهائل من القوة الجوية والضربات الصاروخية الروسية على المناطق المعارضة، مضيفاً أن “الهدف الأساسي لتدخل روسيا في سوريا هو منع انهيار الأسد”.
وعن الدرس الثاني، قال التقرير إن الروس “حافظوا على وجود قليل نسبياً على الأرض في سوريا، واختاروا عدم التركيز على السيطرة على الأرض أو تحمل مسؤوليات الحكم”.
وأوضح أن الروس “ركزوا على بضع مناطق ذات أهمية استراتيجية وتوسطوا في عدد من حالات وقف إطلاق النار”، فضلاً عن أنهم “تركوا القادة المحليين يسيطرون على أراضيهم المباشرة مقابل قبول سيطرة النظام الشاملة”.
أما الدرس الثالث، فيتمثل في أنه “كلما كانت هناك حاجة إلى قوات برية يلجأ الروس إلى الشركات العسكرية الخاصة أو غيرها من التشكيلات غير النظامية، الأمر الذي حدّ قدر الإمكان من انكشاف أفراد القوات المسلحة الروسية بالزي الرسمي”.
وأشار إلى أنه “كما هو الحال في الولايات المتحدة، فإن الرأي العام الروسي يميّز بشكل واضح جداً بين الجنود الذين يموتون من أجل الوطن مقابل المتعاقدين الذين يسجلون أنفسهم ويقومون بالمجازفة”.
وتابعت “ناشونال إنترست” أن “التدخل الروسي في سوريا يشير إلى أنه إذا قررت موسكو استخدام القوة العسكرية ضد أوكرانيا، فإنها ستركز على الضربات بعيدة المدى لتدمير المعدات الأوكرانية، لا سيما مخزونها من الطائرات من دون طيار ومحاولة تفكيك التشكيلات العسكرية المنظمة”.
كما تشير استراتيجية روسيا في سوريا إلى أنها “ستحاول تجنّب عبور الحدود كلما أمكن ذلك أو توجيه ضرباتها عبر الحدود، لأنه سيرفع كلفة أي رد من جهة الولايات المتحدة ودول حلف شمال الاطلسي، التي ستضرب المدفعية أو المطارات الروسية في مقابل عبور أي أسلحة للحدود”.
وذكرت المجلة الاميركية أن روسيا قد تعيد هجوم “كاليبر”، عندما قصفت غواصة حربية روسية في المتوسط أهدافاً في ريف مدينة إدلب بصواريخ “كاليبر” المجنحة، في مقابل عدم استعداد أحد للرد بإطلاق النار داخل روسيا.
وقالت إن “افتراض واشنطن في السابق بأن موسكو ستكون خائفة من مخاطر التدخل في سوريا خطأ لا ينبغي أن يُرتكب عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا”.
——————
اسرائيل: الغزو الروسي الثلاثاء.. وأوكرانيا تتوعّد بـ”الجحيم”
أفادت صحيفة “هآرتس” الاسرائيلية بأن الولايات المتحدة أبلغت إسرائيل أن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا قد يبدأ الثلاثاء أو الأربعاء، فيما أكدت أوكرانيا استعدادها عسكرياً لصد أي هجوم، وتوعدت بأن القوات الروسية ستواجه “جحيماً”.
وقالت “هآرتس” إن السلطات الإسرائيلية سرّعت جهودها لإجلاء مواطنيها من أوكرانيا، مشيرة إلى أن الإدارة الأميركية أبلغتها بأن الاجتياح الروسي قد يبدأ الثلاثاء على أقرب تقدير.
من جهتها، قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الاسرائيلية إن أمام إسرائيل فرصة حتى الأربعاء لإجلاء مواطنيها من أوكرانيا، بحسب الإشعارات التي تلقتها تل أبيب من واشنطن.
وكان رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت قد طالب المواطنين الإسرائيليين الموجودين في أوكرانيا بمغادرة البلاد على الفور، خلال جلسة مداولات استثنائية عقدها السبت مع وزير الخارجية الاسرائيلية يائير لبيد ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي إيال حولاتا.
وفي وقت سابق من السبت، قال البيت الأبيض في بيان إن الرئيس الأميركي جو بايدن أبلغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال اتصال هاتفي أن غزو أوكرانيا سيؤدي إلى “معاناة إنسانية واسعة النطاق”. كما أكد بايدن أن واشنطن وحلفاءها سيردون “بشكل حاسم” ويفرضون عقوبات “سريعة وشديدة” على موسكو إذا غزت أوكرانيا، حسب البيان.
بدوره قال مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية يوري أوشاكوف إن بوتين استنكر خلال الاتصال الهاتفي مع نظيره الاميركي “المعلومات المزيفة” حول غزو روسي لأوكرانيا.
وبعد ساعات على اتصال بايدن وبوتين، أكد وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن أن احتمال قيام روسيا بعمل عسكري ضد جارتها الغربية “بات وشيكاً” و”عالياً بما يكفي لسحب الكثير من موظفي السفارة الأميركية في العاصمة الأوكرانية كييف”، وهو ما أعلنته وزارته في وقت سابق.
وقال بلينكن في مؤتمر صحافي عقده في هاواي حيث التقى نظيريه الياباني والكوري الجنوبي إن المسار الدبلوماسي مع روسيا بشأن قضية أوكرانيا لا يزال مفتوحاً، وأضاف أن المطلوب هو أن تعمل موسكو على تهدئة الأوضاع.
وكان مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان قد صرّح الجمعة بأن التقديرات تشير إلى أن القوات الروسية قد تجتاح أوكرانيا قبل انتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 20 شباط/فبراير.
أهلا بكم الى الجحيم
بدورها، أكدت أوكرانيا أنها مستعدة للتصدي لأي هجوم محتمل، وقال رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال إن جيش بلاده مستعد لصد العدو في أي لحظة على عكس ما حدث في 2014، في إشارة إلى احتلال روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية.
وأضاف شميهال مساء السبت أن “على الشعب الأوكراني أن يثق في دولته وجيشه ويتجنب الذعر والخوف”، مؤكداً أن أوكرانيا متحدة مع شركائها في مواجهة التصعيد الروسي.
من جهته، قال رئيس الأركان الأوكراني فاليري زالوجني في بيان مشترك مع وزير الدفاع أوليكسي ريزنيكوف، مخاطباً القوات الروسية: “أهلا بكم إلى الجحيم”.
وذكر البيان المشترك الذي نشرته وزارة الدفاع الأوكرانية أن 420 ألف جندي أوكراني بمن فيهم القادة العسكريون مستعدون للموت، وتم تعزيز الدفاع عن العاصمة كييف.
وأعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية أن كييف تسلمت حتى الآن ألفي طن من الأسلحة الحديثة والذخيرة والدروع الواقية من الرصاص من مختلف البلدان.
ودعت 9 دول عربية هي لبنان والكويت وقطر والعراق والأردن وفلسطين والسعودية والإمارات والمغرب، رعاياها على تجنب السفر إلى أوكرانيا في الوقت الراهن. كما دعا بعضها الرعايا الموجودين هناك إلى المغادرة حفاظاً على سلامتهم.
تدريبات أوكرانية
ميدانياً، تواصل أوكرانيا الاستعدادات لسيناريو حرب محتملة، وقد بدأت تدريبات السبت في منطقة خيرسون شمال شبه جزيرة القرم، في حين صادق مجلس بلدية العاصمة كييف على خطة لإجلاء السكان، وذلك بمشاركة أكثر من 13 ألف فرد من الدفاع المدني.
———————————–
هل الغزو وشيك؟.. 5 نقاط مهمة في الأزمة الروسية الأوكرانية
تصاعدت التحذيرات الأميركية من غزو روسي وشيك لأوكرانيا، فقد حذرت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أول أمس الجمعة من أن الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا بات وشيكا، وقد يحدث قبل انتهاء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في 20 فبراير/شباط الجاري، في حين حذر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يبدأ في أي وقت.
وقد نشرت صحيفة “ذا هيل” (The Hill) الأميركية تقريرا يسلط الضوء على أهم المؤشرات التي تدل على قرب الغزو الروسي، نجملها في ما يأتي:
أميركا تطالب رعاياها بالمغادرة
في ظل الحديث عن حرب محتملة، حث الرئيس الأميركي جو بايدن الرعايا الأميركيين على مغادرة أوكرانيا فورا، محذرا من أن خطر اندلاع الحرب بات كبيرا إلى الحد الذي لا تنبغي معه المخاطرة بالبقاء.
وقد أكد مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، جيك سوليفان، تلك التحذيرات في تصريح لوسائل الإعلام، قال فيه إن الغزو قد يبدأ “في أي يوم منذ الآن”، مشيرا إلى أن الحكمة تقتضي مغادرة الرعايا الأميركيين أوكرانيا لأن خطر نشوب الحرب بات مرتفعا.
وقال سوليفان إن من يقررون البقاء في أوكرانيا قد لا تتوفر لهم فرصة أخرى للمغادرة، نافيا احتمال توفير إجلاء عسكري أميركي لهم عند اندلاع الحرب.
وكانت الخارجية الأميركية أمرت معظم الموظفين الأميركيين الأساسيين في سفارتها بكييف بالمغادرة، كما دعت لعدم السفر إلى أوكرانيا وجزيرة القرم ودونيتسك بسبب التهديدات الروسية المتزايدة.
وذكرت الخارجية الأميركية أنها ستعلق الخدمات القنصلية في سفارتها بدءا من 13 فبراير/شباط الجاري.
توقعات بغزو روسي قبل 20 فبراير
أشار تقرير “ذا هيل” إلى أن ظهور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في الثاني من فبراير/شباط الجاري وما أظهراه من وحدة بين البلدين يعدّ مؤشرا على أن الزعيم الروسي قد لا يغزو أوكرانيا خلال الألعاب الأولمبية التي ستستمر أسبوعين.
لكن بعض المسؤولين الأميركيين يرون أن هذه التحليلات لا تعتمد على أساس صلب، فقد قال مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان أول أمس الجمعة إن ثمة احتمالا كبيرا بأن تقدم روسيا على غزو أوكرانيا قبل نهاية الألعاب الأولمبية المقامة في الصين، والتي تختتم في 20 من الشهر الجاري، في حين طالبت المزيد من دول العالم رعاياها ودبلوماسييها بمغادرة أوكرانيا فورا تحسبا لاندلاع الحرب.
وأوضح مستشار الأمن القومي الأميركي سوليفان، في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض، أن هجومًا روسيًّا على أوكرانيا قد يحدث في أي يوم بدءا من الآن، وسيبدأ على الأرجح بهجوم جوي، وتحدث عن احتمالات كبيرة بأن يشمل الاجتياح الروسي مدنا كبرى في أوكرانيا، بما فيها العاصمة كييف.
وأضاف سوليفان أن أي أميركيين ما زالوا في أوكرانيا عليهم المغادرة في غضون 24 إلى 48 ساعة ما دامت هناك خيارات متاحة، لأن وقوع هجوم جوي روسي سيجعل المغادرة صعبة.
هل قرر بوتين غزو أوكرانيا؟
ونقل تقرير الصحيفة الأميركية عن سوليفان قوله إنه على الرغم من استعداد الولايات المتحدة لغزو روسي محتمل قد يحدث في أي وقت، فإن التقييمات التي أجرتها الإدارة الأميركية لا توضح إذا كان الرئيس الروسي قد اتخذ قرارا نهائيا بغزو أوكرانيا.
وقال سوليفان إن إدارته لا يمكنها الجزم بأن “الرئيس بوتين قد اتخذ قرار نهائيا (بالغزو)”، مضيفا “ما نقوله هو أن لدينا مستوى كافيا من القلق، بناء على ما نشاهده على الأرض وما توصل إليه محللو الاستخبارات لدينا”.
وأوضح تقرير “ذا هيل” أنه على الرغم من التحذيرات الأميركية المتلاحقة فإن بعض الخبراء يشككون في إقدام روسيا على غزو واسع النطاق لأوكرانيا، نظرا للتكاليف الاقتصادية والعسكرية الباهظة التي ستتكبدها موسكو جراء ذلك.
هل ستغزو روسيا كييف؟
في ما يتعلق بسيناريو الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، صرح سوليفان بأن المخابرات الأميركية لا يمكنها التنبؤ على وجه التحديد بسيناريو الغزو الروسي، لكنه حذر من أن استهدافها للعاصمة الأوكرانية كييف أمر محتمل.
وقال سوليفان للصحفيين “لقد أوضحنا أن الغزو قد يتخذ أشكالا مختلفة، لكنني أريد أن أوضح أن أحد هذه الأشكال قد يكون هجوما سريعا على العاصمة كييف”.
وبيّن تقرير “ذا هيل” أن الهجوم على كييف، التي يقدر عدد سكانها بـ3 ملايين نسمة و تعدّ أكثر مدن أوكرانيا اكتظاظا بالسكان ويوجد بها مقر الحكومة الأوكرانية، قد يكون مدمرًا لأوكرانيا.
بايدن يواصل التنسيق مع الحلفاء
وأشارت “ذا هيل” إلى أن الرئيس بايدن ومسؤولين بإدارته كثفوا جهودهم الدبلوماسية المتعلقة بالأزمة الروسية الأوكرانية على مدى الأسابيع الماضية، ومن المتوقع أن تستمر تلك الجهود والمحادثات حتى نهاية الأسبوع الجاري.
كما أشارت إلى أن بايدن أجرى مكالمات مع قادة بلدان عدة، من بينها كندا وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وبولندا وإيطاليا ورومانيا، يوم الجمعة الماضي، في هذا الشأن.
وجاء في بيان أصدره البيت الأبيض عن اتصالات بايدن وزعماء الدول المذكورة آنفا أن “القادة اتفقوا على أهمية تنسيق الجهود لمنع روسيا من القيام بمزيد من العدوان على أوكرانيا”، وأعربوا في هذا السياق عن استعدادهم لفرض عقوبات اقتصادية مشددة على روسيا إذا ما اختارت التصعيد العسكري، كما أكدوا مواصلة تعزيز الدفاعات في الجبهة الشرقية لحلف الناتو.
ونقلت الصحيفة عن سوليفان قوله إن من المرجح أن يجري الرئيس بايدن، الذي يقضي عطلة نهاية الأسبوع في كامب ديفيد، مكالمة هاتفية مع نظيره بوتين، لكن المسؤولين بالبيت الأبيض لم يكشفوا عن توقيت تلك المكالمة على وجه التحديد.
المصدر : هيل
———————–
==================================
تحديث 14 شباط 2022
——————————–
أزمة أوكرانيا من منظار سوري/ مهند الحاج علي
منذ أربعة شهور، تتوالى التحذيرات الغربية من تحضيرات روسية لغزو أوكرانيا، بعدما حشدت موسكو قواتٍ يتجاوز عديدها أكثر من مئة ألف جندي. وهذه القوة، كما قال مفوض الاتحاد الأوروبي لشؤون الأمن والسياسة الخارجية جوزيب بوريل، “لم تأت لاحتساء القهوة”. وإذا أضفنا للتحذيرات والتهديدات المتواصلة، دعوة واشنطن ولندن وعواصم غربية أخرى مواطنيها لمغادرة الأراضي الأوكرانية قبل فوات الأوان، يخال للمراقب وكأن روسيا فعلاً ستغزو بعد ساعات أو أيام. وحتى هناك من يضع سيناريوهات مُتخيلة بناء على هذه الفرضية، مثل توقع “خبير” اقتصادي لبناني أزمة خبز عالمية ولبنانية أيضاً بعد اندلاع حرب أوكرانيا وانقطاع انتاجها الوفير من القمح.
لكن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك على مستويين. أولاً، ليست روسيا وحدها في موقع المعتدي، بل هناك فعلاً توسع غربي باتجاه حدودها من خلال ثلاث سياسات هي عضوية الاتحاد الأوروبي واتساع الحلف الأطلسي (الناتو) ودعم الانتفاضات الديموقراطية لانتاج حكومات موالية أو قريبة من الغرب. وسبق أن نكثت واشطن وحلفاؤها وعوداً شفهية سابقة للاتحادين السوفييتي والروسي حيال عدم التوسع شرقاً. حصل ذلك خلال لحظات ضعف روسية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وولّد عدم ثقة بين الجانبين. لكن معالجة مخاوف روسيا وبعض مطالبها، بإمكانها أن تُشكل مدخلاً لحل دبلوماسي. ومن هذه المطالب على سبيل المثال، تعهد خطي بعدم انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي (الناتو).
المستوى الثاني هو أن التصعيد الروسي الحالي تجاه أوكرانيا هو حركة تفاوضية ولديه هدف سياسي. ومن الضروري هنا الإفادة من الدروس السورية في السلوك العسكري والسياسي الروسي، وهي على ارتباط بالحسابات الواقعية للرئيس فلاديمير بوتين وفريقه، وتفادي أي تهور في عملية اتخاذ القرارات. التدخل الروسي في الحرب السورية لمصلحة النظام، جاء في لحظة انسحاب وعدم اهتمام أميركية في سوريا. كما كان تقريباً خالياً من مشاركة على الأرض، ويعتمد على الميليشيات الموالية لإيران ومنها “حزب الله”، والمرتزقة في توفير المقاتلين لتجنب تكبيد قواته خسائر بشرية، لما لذلك من انعكاسات سياسية.
وحين تطورت عمليات القصف الإسرائيلية في سوريا، لعبت موسكو دور الوسيط والمنسق، بدلاً من المواجهة. كان التفاوض مع تركيا وإسرائيل حيال حدود كل طرف في اللعبة الأممية في سوريا، يجري على حافة التصعيد العسكري (بعد اسقاط تركيا الطائرتين الروسيتين على سبيل المثال، أو غداة ضرب إسرائيل طائرة عسكرية روسية). كان الخيار الروسي دوماً عدم الدخول في مواجهة عسكرية، والقبول بتسويات وآليات تواصل.
وفي ذروة التوتر مع الميليشيات الموالية لطهران، لم تقطع موسكو صلتها بها، وواصلت الاعتماد على مرتزقتها الأفغان واللبنانيين والعراقيين وحتى السوريين في مواجهات الشمال السوري. وهذه مقاربة لا تقتصر على الحرب في سوريا، بدليل الاعتماد على الميليشيات الرديفة في أوكرانيا وجورجيا لخوض مواجهات وتقويض سلطة الحكومات المعارضة في حروب محدودة وسريعة.
وفي أوكرانيا، ليس الأمر مختلفاً. عسكرياً، من الصعب تخيل غزو روسي كامل للأراضي الأوكرانية، كون ذلك ينطوي على مخاطر واحتمالات وقوع خسائر بشرية قد لا تقوى موسكو على تحملها سياسياً. لهذا فإن أي تصعيد عسكري سيكون محصوراً جغرافياً، وهدفه السياسي الحصول على تعهدات خطية أو ورقة تفاوض جديدة باتجاه تحقيق ذلك.
في المقابل، ليس الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي) ببعيد عن هذه الصورة. لا بل إن التصعيد السياسي والإعلامي الغربي جزء من عملية التفاوض، تماماً كالحشد العسكري الروسي على الحدود الروسية-الأوكرانية والبيلاروسية-الأوكرانية. رفع منسوب التهديدات ومحاولة التنصل من مطالب الجانب الروسي، هدف أساسي هنا.
ليست لروسيا اليوم مصلحة في الدخول في نزاع طويل الأمد وعالي الكلفة في أوكرانيا أكان عسكرياً أو لجهة العقوبات وتبعاتها الاقتصادية. ولهذا فإن هناك مسارين محتملين، الأول هو الحصول على ضمانات خطية أوروبية للخروج بحل سياسي، والثاني غزو محدود جغرافياً بأقل الخسائر بانتظار تنازل الطرف الآخر (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي).
وفي الوقت الضائع، ينفع التهويل والتهديد كثيراً في رص الصفوف وتحقيق بعض التنازل عند الجانب الآخر.
————————————
«سوء التفاهم» المتواصل منذ نهاية الحرب الباردة/ وسام سعادة
انتهت الحرب الباردة بنوع من «سوء تفاهم». فمن زاوية واشنطن كان يبدو منطقياً للغاية أنّ هذه الحرب انتهت إلى نتيجة يعاد بناء العالم عليها. اذ ثمة نموذج انهار وزال، وآخر ظهرت رياديته ونجاعته. وثمة ثنائية قطبية تبددت ولم يعد هناك سوى قوة عظمى وحيدة وهي أمريكا.
وحتى لو لم يبق العالم أحادي القطبية، وأصبح مع الوقت متعدد الأقطاب، الا أن الرقم اثنين في تسلسل القوى ليس متوفراً. أمريكا هي الأولى، ثم ينتقل النقاش الى تحديد القوة الثالثة فالرابعة. وإلا فما معنى لزوال الاتحاد السوفياتي إن لم يكن الأمر كذلك؟ بزواله زالت المرتبة الثانية.
لقد ظلّ الإتحاد السوفياتي يمنّي النفس باللحاق الى المرتبة الأولى، بمستويات التطور العلمي والتكنولوجي والانتاج الصناعي ومعدلات الدخل وأنماط العيش التي حققتها بلدان الغرب زائد نموذجه الأكثر عدلاً على ما كانت تشتهيه عقيدته، ليخسر السباق بعد هذا في كل ميدان، ولم يجد مضماراً ينافس فيه بجدية إلا في سباق التسلّح والرؤوس النووية وحرب النجوم، إلى أن تصدّع بنيانه وأصيب بالتلف السريع.
بل إن السوفيات ظلوا يجرجرون وراءهم الخيبة من مغامرة نيكيتا خروتشيف غير المحسوبة المتمثلة بنشر الصواريخ ذات الرؤوس النووية في كوبا 1962، ناهيك عن ارتداد أزمة برلين 1961 عليهم. أمريكا منتصرة في الحرب الباردة منذ كينيدي، وانطلاقاً من هاتين الأزمتين.
ومثلما أن النقلة الفجائية من عبادة شخص ستالين الى تحميله كل ذنوب القيادة المتذللة له بعد أن مات، فقد أتت إزاحة خروتشيف من منصبه القيادي عام 1964 لتفاقم عملية المكابرة. المكابرة على انعدام التوازن الاستراتيجي مع أمريكا وأكلاف مثل هذه المكابرة على السوفيات. مداخيل الريع النفطي والغازي ظلت تؤجل المشكلة في سنوات عهد بريجنيف الى أن صار التستر على الفشل في الصناعة والزراعة غير ممكن. ثم زاد الطين بلة مع تراجع سعر برميل النفط في الثمانينيات.
استراتيجياً، لم يكسب السوفيات شيئاً يذكر من هزيمة الأمريكيين في فييتنام، والحرب الباردة تحولت عملياً في آسيا، منذ مطلع السبعينيات، الى تواطؤ عابر للأيديولوجيات بين الولايات المتحدة والصين الشعبية في وجه السوفيات. بعد أربع سنوات على تحرير فييتنام لسايغون ورحيل الأمريكيين عنها اجتيح شمال هذا البلد من قبل الصين. بعد ذلك أخذ الشيوعيون الفيتناميون يفهمون أن أمريكا، عدوتهم السابقة، هي التي يعول عليها لحماية بلدهم ومصالحه من الجار الصيني الشيوعي.
أما من ناحية جنوب آسيا، فقد مثّلت باكستان وبشكل مزمن حالة تتلاقى فيها المصالح بين أمريكا والصين. وعلى هذه الخلفية، زائد دور السعودية وقد ازداد أهمية مع الجنرال ضياء الحق، أمكن توفير الخلفية اللوجستية الأساسية لدعم الجماعات المقاتلة ضد الحكم الشيوعي والتدخل السوفياتي في أفغانستان.
خروج السوفيات من أفغانستان لم يتم دون فوز ميداني كبير حققوه ضد أعدائهم في عملية ماجيسترال أواخر 1987 بقيادة بوريس غروموف، وهو آخر عسكري سوفياتي يغادر أفغانستان عام 1989. مثلما أن النظام المدعوم من قبلهم في أفغانستان، نظام نجيب الله، استمر في كابول الى ما بعد زوال الاتحاد السوفياتي، ولم يتبخر فور الانسحاب – كما حصل لفيتنام الجنوبية عندما أخلى الأمريكيون سايغون. ومع ذلك، أصيب السوفيات بنزيف حاد جراء تزامن حربهم في أفغانستان مع زيادة حجم انفاقهم العسكري في ثمانينيات حرب النجوم، مع موجة تراجع سعر برميل النفط بالنسبة الى دولة ريع نفطي وغازي الى حد كبير.
الخسارة النهائية كانت مع انهيار جدار برلين وسقوط الأنظمة التابعة لموسكو في أوروبا الشرقية. تدخلت موسكو لوأد تجربتين ديمقراطيتين صادرتين عن القيادة الشيوعية في كل من المجر 1956 وتشيكوسلوفيا 1968 لكنها وقفت مكتوفة الأيدي أمام طبقة عاملة بولونية تكفر بالشيوعية من أساسها في الثمانينيات ويسندها بابا روما البولوني. وفي النهاية، وجد الجيش الأحمر نفسه وهو يخلي في وقت متزامن كل من أفغانستان وأوروبا الشرقية، وليس قبل أن يمنع السوفيات اريك هونيكر من استخدام مفرط للعنف ضد المنتفضين في برلين الشرقية في خريف 1989، وكان هونيكر مقتنعاً خارج السياق، أنه يمكن بهذه الهراوة الأمنية والدامية أن ينقذ نظامه في ألمانيا الشرقية، بل المنظومة الاشتراكية كلها، أسوة بمجزرة تيان آن مين في بكين الحاصلة في يونيو من ذلك العام والتي ألهمته!
بالنسبة الى الولايات المتحدة، انتهت الحرب الباردة الى نتيجة: رابح وخاسر. حلف شمالي الأطلسي يتوسع ليضم أعضاء حلف فرصوفيا الواحد تلو الآخر اليه. هل هناك قابلية عندها للتشكيك في أن النتيجة كانت حاسمة؟ لقد أفرزت الحرب الباردة منتصراً ومهزوماً من المنظار الأمريكي والغربي. ولحظة حسمها النهائية كانت في مركز النظام العالمي وفي الطرف في آن. من جهة، سقوط جدار برلين وما تبعه، ومن جهة ثانية، فشل الإتحاد السوفياتي رغم المحاولة التي قام بها يفغيني بريماكوف في أن يجنّب العراق العملية الحربية الأمريكية عليه.
هناك رابح وخاسر، أن يكون الاتحاد السوفياتي قد كف عن الوجود فهذا لا يعني أمريكياً أنه لم يخسر كل شيء في آخر الصراع بين الجبابرة. ولا يعني أيضاً أنه ليس لهذه الهزيمة ورثة. لا يمكن أن يكون عقوبة خاسر في حرب باردة كالخاسر في حرب دموية كلية، كما في حالة ألمانيا واليابان، لكن لا يسعه أيضاً القول أني أريد أن أصنف نفسي من بين المنتصرين.
وهذا ما حصل من الجانب الروسي. فموسكو من بوريس يلتسن في التسعينيات إلى فلاديمير بوتين في آخر عقدين ونيف من الزمان ترفض بأشكال مختلفة حيثية أنه ثمة رابح وخاسر في الحرب الباردة. بمعنى هي تعتبر أن الإطاحة بالشيوعية، والاستغناء عن الماركسية اللينينية ونظام الحزب الواحد من بنات أفكار الروس أنفسهم، من صدى تاريخهم هم، وقناعاتهم هم. لم يفرض عليهم هذا التغيير فرضاً كما فرض الحلفاء على الألمان قهراً سياسة اجتثاث النازية. ولأجل ذلك قد يوافق الروس على أنهم أصيبوا بكبوة، بخسائر كبيرة بعد تراجع الهيمنة التي كان يمنحها لهم الاتحاد السوفياتي، لكن يصعب عليهم معادلة نتيجة حرب «باردة» بنتيجة حرب مدمرة شاملة لم تحصل. الظفر في حرب باردة لم تتحول الى ساخنة يظل ناقصا طالما أن هذه الحرب «الفعلية» لم تقع.
بدأ أسلوب يلتسن حيال ذلك، بالسعي لانضمام روسيا نفسها لحلف شمالي الأطلسي والاتحاد الأوروبي، ثم تركز اهتمامه على طلب النجدة من الغرب في مواجهة احيائية سوفياتية يمثلها مرة البرلمان الذي ضربه يلتسن بالمدافع، ومرة مرشح الحزب الشيوعي زيوغانوف (الذي أفلح بوتين في ترويضه دون جهد جهيد).
ثم انتهت مدة يلتسن بمرارة الأخير تجاه الغرب، وبخاصة بعد حرب الأطالسة ضد يوغوسلافيا صربيا 1999 ونشوب حرب الشيشان الثانية، وعلى خلفية التوسع الأطلسي في الشرق الأوروبي المصمم على عزل روسيا.
عندما نادى يلتسن بالالتحاق بالحلف الأطلسي التبس الأمر على يساره وعلى يمينه. بين من يعتبره ينادي بالتبعية للغرب ومن اعتبره يريد تفريغ حلف شمالي الأطلسي من مضمونه. ما مضمون هذا الحلف سأل في المقابل بوتين. جوابه لم يتأخر: الاستمرار في سياسة تطويق روسيا من بعد سياسة تطويق الاتحاد السوفياتي. التعامل معها كما لو انها خرجت من الحرب الباردة مهزومة. أنى لها أن تكون مهزومة والحرب لم تحصل من أساسه؟ جمع بوتين بين هذا الاستهجان وبين توكيده على أن زوال الاتحاد السوفياتي كان كارثة جيوبوليتيكية. ليس بمعنى ابتغاء بعثه. انما بمعنى اللفت الى أنه حين انهارت الإمبراطورية القيصرية كان الاتحاد السوفياتي بمثابة تعويض عنها. التخلي عن الشيوعية لم يستتبع بايجاد تعويض امبراطوري عن الاتحاد الذي مثل بدوره تعويضا تاريخيا عن الامبراطورية القيصرية. وأساسا لماذا تشكل الاتحاد السوفياتي كصيغة قبل مئة عام من عامنا هذا، وبعد أن تداول البلاشفة بأكثر من صيغة؟ نشأ قبل كل شيء لحل المسألة الأوكرانية. بمعنى؟ الموافقة على استقلال أوكرانيا وسلبها هذا الاستقلال في وقت واحد. عندما تأسس الاتحاد عام 1922 كان التفكير في هذه الصيغة تذهب الى أوكرانيا قبل سواها، وبعدها بيلاروسيا. للشقيقات السلافية الشرقية الثلاث. لكن، إذا كان مبرر ضم أوكرانيا هو الإمبراطورية المقدسة، زمن القياصرة، وهو الإمبراطورية الشيوعية، زمن البلاشفة، فان سبب الهيمنة عليها زمن بوتين هو خليط.
خليط من رفض توسع الأطلسي اليها، ومن التحزب الإثني للأوكران الروس بوجه الأوكران الغربيين. خلطة تحمل معها بذور تقسيم أوكرانيا… لكنها تحمل معها كذلك الأمر بذور انقسام روسي أعمق من كل ما رأيناه في روسيا الاتحادية منذ زوال الاتحاد السوفياتي.
في نهاية المطاف، تريد روسيا رد أوكرانيا إلى بيت الطاعة للقيام بماذا بالتحديد؟ تزكية الشعور بأن الحرب الباردة لم تنته بمنتصر ومهزوم أو العودة إلى حرب باردة إنما «على الناشف» هذه المرة، من دون أيديولوجيا، اللهم سوى الدم الروسي العابر للحدود بين البلدين، انما غير العابر، وفقا لهذا المعيار، لكافة أقاليم روسيا نفسها.
كاتب لبناني
القدس العربي
————————————-
الرقص مع بوتين..على أبواب الجحيم/ ساطع نور الدين
لم يبق سوى إعلان ساعة الصفر ، لكي يتغير شكل الحياة على كوكب الارض، وتؤدي البشرية رقصتها الاخيرة على إيقاعات ذلك الرجل المصاب بجنون العظمة والمدجج بالسلاح النووي، الذي قرر التوقف عن لعبة حافة الحرب المملّة، والتوجه فوراً نحو باب الجحيم.
العالم من أقصاه الى أقصاه يحبس أنفاسه الاخيرة الآن، بانتظار أن يخطو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطوته التالية، التي لم تعد تحتمل المناورة، ولا تندرج في سياق حرب الاعصاب والارادات: إجتياح أوكرانيا، والتسبب بمواجهة دولية كبرى، أو ربما حرب عالمية ثالثة، تستكمل ما فات من الحرب العالمية الثانية، من ضحايا وخسائر وأضرار، وخرائط جغرافية ممزقة.
الوقت ضيق، يومان أو ثلاثة لا أكثر، وإذا حالف الحظ سكان الكوكب، لن تزيد المهلة الزمنية عن يوم الاحد المقبل، موعد إنتهاء الالعاب الاولمبية الشتوية في العاصمة الصينية بكين، حسب التقديرات الاميركية والاوروبية التي تسيل بلا حسيب أو رقيب وكأنها تنجرف بإرادتها ووعيها الكامل الى حلبة رقص التانغو مع الراقص الروسي.
في ذلك الانجراف الاميركي والاوروبي مع بوتين ما يثير الريبة: تجاوز الامر حد التحذير لبوتين من مغبة إستخدام قواته العسكرية المحتشدة على حدود أوكرانيا. ويبدو أن الرئيس الروسي بات يستمتع بإثارة الغرب وإستفزازه، ويندفع أكثر فأكثر نحو إطلاق الرصاصة الاولى أو الصاروخ الاول، طالما أنه بات يعرف العواقب تماماً ، ويدرك الاثمان التي يمكن أن يدفعها لقاء هذه المغامرة. وهو لا يبالي، حتى الآن على الاقل.
حتى الآن هو منتصر في مغامرته، فائز على خصومه في رقصته المحببة:إستطاع أن يضع الغرب كله في حالة تأهب، وأن يفكك أو على الاقل أن يختبر وحدته العسكرية والسياسية، ومؤسسته الاطلسية، ولم يبق سوى أن يقيس قوة أدواته المالية والاقتصادية والتجارية، من خلال العقوبات الاميركية والغربية، التي خضعت لها دول وشعوب متعددة لعقود طويلة، من دون أن تخضع..
حتى الأمس القريب، كان الغرب متهماً حقاً بأنه يبالغ في إثارة الرعب العالمي من تحركات بوتين، ويفكر في إثارة القلق داخل روسيا نفسها. لكنه اليوم، بات متورطاً في التسبب بالحرب ، في إستدراج الكرملين إليها ، في الايحاء لبوتين بأن ثمن غزو أوكرانيا لن يكون باهظاً، وقتال الجيش الاوكراني لن يكون مؤثراً. ثمة ما يعيد الى الاذهان تجربة الاميركيين مع العراق قبيل غزوه الكويت في العام 1990، عندما تلقى صدام حسين التحذير والتشجيع في آن واحد.
من الآن فصاعداً، يفترض أن يحاسب الغرب على سوء إدارته للارث السوفياتي و سوء تدبيره للوريث الروسي، ومساهمته، بالتغافل او التواطؤ ، في صناعة ذلك العاصي المقيم في قصر الكرملين، مع ثلة من رجال الاستخبارات، تدير دولة ذات تسليح خطر، وذات تفكير أخطر من قيادة شعب تتناقص أعداده وطموحاته، وإسهاماته في الحضارة الانسانية.
الثمن سيكون باهظاً جداً، لأن بوتين أفلت من العقاب أكثر من مرة في الماضي، سواء في حرب الشيشان أو جورجيا أو القرم..أو ضحيته الأخيرة، سوريا التي جعلها أرضاً محروقة، وشعباً هائماً، ونظاماً دائماً . وهو لن يرتدع هذه المرة أيضاً، ولن يتردد في خوض الحرب حتى النهاية، أي حتى العاصمة الاوكرانية كييف التي تخلو الآن من سكانها، ومن حلفائها الغربيين الذين يلوحون بالعقوبات.
آه من تلك العقوبات، التي يلوح الغرب صراحة بأنها ستشل الحياة في قصر الكرملين، ثم في موسكو، ثم في بقية الانحاء الروسية المترامية.. من دون أن يأخذ في الاعتبار أن الحياة ستضطرب في جميع أرجاء الكوكب، جراء الإرتفاع الجنوني في أسعار النفط والغاز والمواد الغذائية والسلع الحيوية..هذا إذا لم تقرر بعض الرؤوس الحامية في الغرب أن تعلنها حرباً تجارية عالمية لن ينجو منها أحد من الجنس البشري.
—————————————
ناشونال إنترست: هل سيكون التدخل الروسي في سوريا استراتيجيتها في أوكرانيا؟/ إبراهيم درويش
يجيب نيكولاس غوسديف، الزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية والأستاذ في كلية الحرب البحرية الأمريكية بمقال في مجلة “ناشونال إنترست” بأن الولايات المتحدة افترضت خوف روسيا من التدخل في سوريا وهو خطأ يجب عدم تكراره في أوكرانيا.
وقال إن مسؤولي الأمن القومي الأمريكي البارزين والدبلوماسيين والضباط العسكريين أطلقوا التحذيرات “لو تدخلت روسيا فستواجه قتالا صعبا” و “يجب على القوات الروسية التعامل مع تمرد” و “مع بدء وصول أكياس الموتى إلى الوطن فسيواجه فلاديمير بوتين ضغطا من الرأي العام” و “لن تستطيع روسيا تحقيق أهدافها وستجد نفسها في المستنقع”.
وربما أخطأت وظنت أن هذه التصريحات هي من إدارة جو بايدن/ كاميلا هاريس، ولكنها تعود إلى إدارة باراك أوباما/جو بايدن في عام 2015 وقبل التدخل الروسي في الحرب الأهلية السورية. وهناك عدة دروس حول الكيفية التي أدار بها الجيش والمؤسسة العسكرية الروسية الحملة والمهمة حالة قرر الكرملين المضي في خياره من دبلوماسية الإكراه في أوكرانيا. وقد تقود هذه الدروس إلى نوع من القتال غير الذي تتوقعه الولايات المتحدة وتدريب وتسليح القوات الأوكرانية.
أولا، ركز التدخل الروسي وبشكل رئيسي على تدمير قدرات والتشكيلات القتالية للقوات المعادية للأسد، ولم يركز على احتلال الأراضي. وقرر الكرملين التدخل المباشر في سوريا نهاية صيف عام 2015 عندما تبين أن القوات المعارضة للأسد أصبح لديها قدرات عسكرية وزخم للتقدم إلى دمشق والدفع للإطاحة بنظام الأسد. وبالتركيز على القوات الجوية والهجمات الصاروخية والأنظمة بدون طيار كان هدف قوة المهام الروسية هو تحطيم وتدمير تشكيلات المعارضة السورية. وكانت سيطرة قوات النظام السوري على المناطق التي احتلتها المعارضة هو نتاج للقصف الجوي الذي دك معاقل المعارضة، ولم يكن الهدف الرئيسي من التدخل الذي كان حماية الأسد من الانهيار.
الأمر الثاني، لم يحتفظ الروس بقوات على الأرض في سوريا وقرروا عدم التركيز على احتلال أراض أو تحمل مسؤوليات الحكومة. وبالتأكيد، ففي الكثير من الحالات قام الروس بعقد سلسلة من اتفاقيات وقف إطلاق النار التي تركت قادة الجماعات المسلحة والأعيان يسيطرون على مناطقهم مقابل القبول بسلطة الحكومة العامة عليها. ولم يركز الروس إلا على عدد قليل من المناطق الحيوية المهمة.
الأمر الثالث، وفي كل مرة كانت تحتاج فيها روسيا إلى قوات على الأرض كانت تكلف الجيوش الخاصة والتشكيلات غير النظامية الأخرى مما حد من مسؤوليات القوات الرسمية الروسية وعرضتها للمخاطر. وكما في الولايات المتحدة فرق الرأي العام الروسي بين “الجندي” بالزي الرسمي و”المتعهد” الذي قرر المشاركة بالحرب ومواجهة المخاطر. وأخيرا، أظهر الجيش الروسي من خلال إطلاق صواريخ كروز كاليبر من الأسطول البحري في بحر قزوين قدراته على استخدام السلاح القاتل من داخل الأراضي الروسية. والدرس من هذا هو أن روسيا لم تكن بحاجة لنشر قدراتها الحيوية وتعريضها للخطر، ويمكن الاستفادة منها بدون الخوف من التعرض للعمليات الانتقامية أو الهجمات المضادة. وبالمقارنة مع تكهنات الأمريكيين حول تحول سوريا إلى “أفغانستان بوتين” حيث ستعلق القوات الروسية هناك وتواجه مقاومة من المعارضة ويتعرض بوتين لغضب شعبي مع تزايد وصول أكياس الموتى، ركز الروس على تحطيم وكسر قدرات المعارضة السورية. ويقول الكاتب إنه راقب العملية الروسية في سوريا وهي تتكشف، حيث تذكر ما قاله وزير الدفاع الروسي سيرغي إيفانوف عام 2016 حيث شرح بلغة إنكليزية واضحة وفهم “للرطانة” العسكرية الأمريكية، أن الجيش الروسي كان يدرس الحملات العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان. وكان تجنب إرسال قوات عسكرية برية واسعة واحدا من الدروس التي تعلمها الروس.
والكاتب ليس متأكدا من خطط روسيا في أوكرانيا، وفيما إن كانت ستدخل أوكرانيا وإن كان التقييم الأمريكي دقيق، من ناحية بحث الروس عن احتلال للمناطق وإرسال قوات وأنظمة إلى أوكرانيا للمشاركة في عمليات قتالية. ولكن الحملة السورية تقترح أن الروس لو قرروا استخدام القوة العسكرية في أوكرانيا، فسيركزون على تدمير المعدات الأوكرانية، وتحديدا مخزونها من الطائرات بدون طيار ومحاولة كسر التشكيلات العسكرية.
وتقترح الحالة السورية أن الروس سيحاولون تجنب اجتياز الحدود وتوجيه النيران عبر خطوط القتال. وسيمثل هذا النهج مشكلة للدول الأوروبية مثل ألمانيا التي ربطت العقوبات الاقتصادية على روسيا بغزوها للأراضي الأوكرانية. وسيرفع هذا المدخل من ثمن الحرب، وستتردد الولايات المتحدة والناتو من توجيه النيران عبر الحدود وضرب الدبابات الروسية. ويمكن أن يتم تكرار إطلاق الصواريخ من بحر قزوين بدون أن يكون هناك أي طرف مستعد للرد على الصواريخ الروسية بالمثل. وبتعهد رمضان قديرون، رئيس الشيشان إرسال تشكيلات إلى أوكرانيا، فالأشكال التي جربتها روسيا في سوريا وليبيا ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى ستكرر الأشكال. وفي هذه الحالة فلن تكون هناك حاجة لنشر قوات نظامية لتأمين مناطق حيوية أو مراكز اتصالات. وسيكون الرهان الروسي أن القوات الخاصة ليست مثل القوات النظامية. ويرى الكاتب أن تحضير القوات الأوكرانية لحرب تقليدية ضد روسيا وافتراض أن صواريخ جافلين ستحد من تقدم الدبابات والمصفحات الروسية ليس ناجعا أمام الطريقة التي اتبعتها روسيا في سوريا. وربما انتظرنا حملة عسكرية لاحتلال المناطق لكن قيادة الأركان العامة تبحث عن طرق لتدمير القدرات العسكرية الأوكرانية وقتل الروح المعنوية للقوات الأوكرانية وخلق مناخ للاضطرابات السياسية. ولو بدأت المعركة في أي وقت، فالدعم العسكري لأوكرانيا ربما كان متأخرا.
——————————
خيارات تركيا المعقدة في أوكرانيا/ محمود علوش
لطالما أتقن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، فن إدارة التناقضات في علاقات بلاده مع كلّ من روسيا والغرب. منذ إعادة تطبيع العلاقات بينهما عقب حادثة إسقاط المقاتلة الروسية في 2015، دخلت أنقرة وموسكو في شراكاتٍ مُتعدّدة الأوجه، بدءاً من مشاريع الطاقة والتعاون الدفاعي، إلى تقاسم النفوذ في شمال سورية وجنوب القوقاز ورعاية اتفاق لوقف إطلاق النار في ليبيا منتصف 2020. كانت هذه السياسة محفوفةً بالمخاطر بالنسبة لأنقرة على نحو كبير، فمن جانب، جعلتها أكثر اعتماداً على روسيا في تأمين مصالحها الحيوية في مناطق كسورية وجنوب القوقاز. ومن جانب آخر، تسبّبت في توتر كبير في علاقاتها مع الدول الغربية. على الرغم من التناقضات الكثيرة في المصالح التركية الروسية في ملفّات عديدة، فإنّ البلدين تمكّنا من إدارتها على نحو مربح لكليهما. في الصراع الروسي الغربي بشأن أوكرانيا، يلجأ أردوغان إلى النهج نفسه الذي اتبعه بين موسكو والغرب، فهو أقام شراكة سياسية وعسكرية واقتصادية مع كييف، ويسعى، في الوقت نفسه، إلى منع تأثير هذه الشراكة على علاقته بموسكو. خلال السنوات الماضية، تقبّل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على مضض طموحات تركيا الخارجية، كونها ساعدته في تعميق الشرخ بينها وبين الغرب، لكنّه، في الأزمة الراهنة، لا يبدو مستعدّاً للمضي في تقبّل دور تركيا في أوكرانيا.
عندما قرّر بوتين إرسال ما يزيد عن مائة ألف جندي إلى الحدود الأوكرانية، كان هدفه الرئيسي الضغط على الغرب لانتزاع تنازلاتٍ منهم على طاولة المفاوضات بخصوص الضمانات الأمنية التي يُطالب بها بخصوص أوكرانيا، وتمدّد حلف الناتو على الحدود الشرقية لروسيا. لكنّ الأبعاد العسكرية للأزمة سُرعان ما طغت بشكل أكبر مما كان متوقعاً بالنسبة لجميع الأطراف، بمن فيهم موسكو نفسها التي تواصل التأكيد على أنها لا تُخطّط لغزو أوكرانيا. على مدى الأسابيع الماضية، أرسلت واشنطن ودول غربية أخرى أسلحة متطوّرة إلى كييف، فيما أرسلت دول في “الناتو” قواتٍ إلى الدول الأعضاء في الحلف في أوروبا الشرقية. في المقابل، أطلقت روسيا مناوراتٍ عسكريةً في بيلاروسيا والبحر الأسود. هذا المنحى التصعيدي للصراع يجذب اهتمام أنقرة على نحو متزايد، ففي مطلع شهر فبراير/شباط الجاري، أجرى أردوغان زيارة إلى كييف، في مسعى لإطلاق وساطة بين روسيا وأوكرانيا. وعلى عكس الأجواء التي كانت سائدة قبيل الزيارة، تمثلت النتيجة الأهم لها في إبرام اتفاقيات جديدة بين أنقرة وكييف لتعزيز التعاون بينهما في مجالات عديدة، سيما الدفاعية منها. وكان للزيارة بُعدان مهمّان على صعيدي العلاقات التركية الأوكرانية والتركية الروسية، فقد سعى أردوغان إلى التأكيد على مضيّ تركيا في شراكتها مع أوكرانيا، على الرغم من اعتراض روسيا. في المقابل، يشير انتقاد أردوغان الدور الغربي في الأزمة إلى تمسّك أنقرة بسياسة عدم الانخراط إلى جانب الغرب ضد موسكو.
مع ذلك، تبدو الرسائل التركية إلى مختلف الأطراف متناقضة على نحو كبير، فقد سبق أن حذّر أردوغان موسكو من مغبة الإقدام على أي هجوم عسكري على أوكرانيا، ووصفه بأنه سيكون حماقة روسية. حتى أنّه لمّح صراحة إلى أن تركيا ستقوم بما يلزم باعتبارها عضواً في “الناتو” في حال غزت روسيا أوكرانيا. مع ذلك، تُفضل أنقرة الوصول إلى تسوية للصراع بما يحول دون تضرر مصالحها الكثيرة مع موسكو. تعتمد تركيا على الغاز الروسي والسياح والواردات الروسية ولديها وجود عسكري مشترك مع روسيا في سورية وقره باخ، على الرغم من المخاوف التاريخية القديمة بشأن نفوذ موسكو في أوروبا الشرقية والقوقاز ومنطقة البحر الأسود. علاوة على ذلك، تكتسب مساعي الوساطة التي ترغب أنقرة في القيام بها أهمية لها بقدر أكبر من أهميتها بالنسبة لموسكو وكييف، أو تأثيرها على مسار الصراع، فبالإضافة إلى أنّها ستُكرس دور تركيا الحيادي في الأزمة، فهي ستُشكل اختباراً حاسماً لمدى فاعلية استراتيجية التوازن التي تنتهجها بين موسكو والغرب، فضلاً عن أنّها ستُحدّد ما إذا كانت تركيا قادرةً على إبقاء البحر الأسود منطقة هادئة، ومنع تحوّلها إلى منطقة صراع عسكري بين روسيا والغرب. كلّ هذه الأسئلة تكشف، في الواقع، خيارات تركيا المعقّدة للغاية في هذا الصراع، وحجم التأثير لأي موقف ستتخذه في المستقبل على صعيد علاقاتها مع روسيا والغرب، وعلى صعيد منطقة البحر الأسود.
في الوقت الراهن، تنتظر أنقرة أن يُلبي بوتين دعوة أردوغان لزيارة تركيا في الأيام القليلة المقبلة. مع ذلك، فإنّ اتجاه تركيا إلى تعزيز علاقاتها الدفاعية مع أوكرانيا، والمؤشّرات المتزايدة لتصعيد عسكري محتمل، يُفقدان الزيارة أهميتها على صعيد الوساطة. هنالك أسباب كثيرة تدفع بوتين إلى أن يكون متشدّداً في حذره إزاء الدور التركي في الأزمة، فعلى الرغم من أنّ أنقرة تعرض نفسها وسيطاً محتملاً، فإنّها طرف رئيسي داعم لكييف. على عكس القضايا التي لتركيا وروسيا تعاون ثنائي فيها كسورية وجنوب القوقاز، فإنّ بوتين ينظر إلى أوكرانيا بوصفها جزءاً تاريخياً من روسيا، وبالتالي دور تركيا التي هي جزء من حلف شمال الأطلسي يُشكل تهديداً لتصوّر بوتين بشأن مستقبل أوكرانيا. كانت هذه المقاربة الروسية لتركيا حاضرة بعد حرب قره باخ بين أذربيجان وأرمينيا، عندما عارضت موسكو رغبة أنقرة في إنشاء قاعدة عسكرية لها في أذربيجان كونها عضواً في “الناتو”. ولطالما كانت تركيا في مقدّمة الدول التي دعمت استقلال الجمهوريات السوفييتية السابقة، لكنّ دعمها أوكرانيا بعد ضم روسيا للقرم ذهب إلى أبعد من ذلك، فقد أقامت علاقات دفاعية قوية مع كييف وزوّدتها بطائرات من دون طيار، يأمل الأوكرانيون أن تُساعدهم في قلب موازين القوى لصالحهم ضد الانفصاليين المدعومين من موسكو في إقليم دونباس.
على خلاف القضايا التي تتعاون فيها تركيا وروسيا، وتتضارب فيها مصالح أنقرة والغرب، فإن أوكرانيا تُمثّل نقطة التقاء بين تركيا والغرب، وهذا سبب آخر يدفع بوتين إلى معارضة الدعم التركي للسلطة فيها. إضافة إلى ذلك، فإنّ أحد الأهداف الرئيسية لأنقرة في علاقاتها مع كييف استعادة التوازن مع روسيا في البحر الأسود، وتقويض جهود موسكو لتحويل هذه المنطقة إلى بحيرة روسية. لتركيا ميزة استثنائية في الصراع الراهن، كونها تمتلك علاقات جيدة مع كلّ من موسكو وكييف، لكنّ هذه الميزة لا تكفيها للعب دور الوساطة، لأسباب عديدة، أهمّها أنّ الصراع ليس روسياً أوكرانياً، بل صراع روسي غربي على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية لأوروبا الشرقية. كما أنّ روسيا تعتبر المشكلات بينها وبين أوكرانيا جزءاً من مشكلتها مع الغرب بالدرجة الأولى، ما يعني استحالة حلّ هذه القضية من دون التفاوض مع الغربيين مباشرة. وبالنظر إلى أنّ موسكو تُجري محادثاتٍ منذ فترة مع الغرب بخصوص مطالب الضمانات الأمنية، فإنّ من المستبعد أن يرجع بوتين خطوة إلى الخلف، بقبول التفاوض مع كييف بوساطة تركية. مع ذلك، لم تعد الأزمة روسية غربية، بل يُمكن أن تتحول أيضاً إلى مشكلة كبيرة في العلاقات التركية الروسية. لا أحد الآن يستطيع أن يعرف، على وجه الدقة، كيف يُقيّم بوتين المكاسب والمخاطر المحتملة لشن حربٍ جديدةٍ على أوكرانيا، لكنّ العواقب تبدو واضحة للجميع، فالغربيون يُلوحون بخياراتٍ عديدة للرد، كفرض عقوبات اقتصادية مؤلمة على الاقتصاد الروسي، وتزويد كييف بمزيد من الأسلحة، لتحويل أي غزو روسي إلى حرب استنزافٍ شبيهةٍ بالتي خاضها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. في هذه الحالة، تزداد المخاطر على تركيا بشكل أكبر.
في أزمة 2014، عارضت أنقرة ضم القرم، لكنّها لم تنضم إلى العقوبات الغربية ضد روسيا. ومن المرجّح أن تواصل النهج نفسه في حال فرض الغرب عقوباتٍ جديدة على موسكو. مع ذلك، ستؤثر أي عقوبات بشدة على مشاريع الغاز المشتركة بين تركيا وروسيا، وهي مهمة لاستراتيجية أنقرة في لعب دور رائد بوصفها مركزاً للطاقة في العالم. لم تمنع معارضة أنقرة ضم القرم أردوغان وبوتين من تعزيز شراكتهما، فبالإضافة إلى أنّ روسيا هي أكبر مورد للطاقة إلى تركيا، بنت موسكو خط أنابيب للغاز الطبيعي، ترك ستريم، الذي ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى تركيا تحت البحر الأسود. يبني الروس أيضاً أول مفاعل نووي في تركيا. ويُمثل السياح الروس مورداً مالياً مهماً لتركيا من العملة الصعبة. على صعيد آخر، تدفع مصالح تركيا في سورية إلى أن تكون أكثر حذراً في خطواتها بشأن أوكرانيا. لدى أردوغان وبوتين تفاهمات بشأن وقف إطلاق النار في إدلب والمنطقة الآمنة التي تُديرها تركيا في الشمال السوري. كما أنّ الهيمنة الروسية على المجال الجوي السوري وتأثيرها على الوحدات الكردية يضغطان على أنقرة لمنع تأثير خطواتها في أوكرانيا على تفاهماتها مع روسيا. من المفارقات المثيرة للاهتمام في العلاقات التركية الروسية أنّ الخوف من الاتحاد السوفييتي هو الذي دفع تركيا إلى الانضمام إلى “الناتو” قبل عقود، لكنّها اليوم تبدو أكثر حذراً في الانجراف مع الغرب لمواجهة مساعي بوتين إلى إعادة إحياء النفوذ السوفييتي. ستتمسّك أنقرة بموقفها السياسي الداعم لكييف، لكن من غير الواضح كيف سيوازن أردوغان بين علاقة تركيا العضوية بالغرب ومصالحها الحيوية مع روسيا، في حال أصبحت الحرب حتمية.
العربي الجديد
———————————–
بوتين في «أم المعارك»/ غسان شربل
في الليل وقف وحيداً أمام الخريطة. التكليف الحاسم لا يصدر عن الناخبين. إنه تفويض من روح الأمة التي تنتظر رجلاً قوياً لتعلق عليه همومها وآمالها. كلّفه التاريخ العميق مهمة، ولن يتردد في تأديتها. هذه سنة حاسمة في مسيرته. نظر إلى الساعة المعلقة على الجدار. لو يستطيع اعتقال عقاربها. فقبل نهاية السنة ستهب عليه السبعينات.
يحدق في الخريطة. الحدود السابقة للاتحاد السوفياتي تقيم كالجروح في ذاكرته. ماتت البلاد الشاسعة، وتراكض الورثة لتوزيع الإرث. حظهم سيئ. استدعته روسيا وأمرته بإعداد الانقلاب الكبير. في التاريخ أقامت روسيا وسط الأخطار. حاربت وحوربت. قاتلت وقتلت وقتلت. وضعها أفضل الآن. الفرس الذين قاتلتهم روسيا في حروب عدة أرسلوا رئيسهم قبل أسابيع. جلس على الكرسي الذي جلس عليه سيد الإليزيه. جاء يطلب تعميق التعاون بعدما تأكد، أسوة بكثيرين، أن روسيا لم تعد الرجل المريض. يعرف رئيسي أن بلاده كانت مهددة بخسارة «الهلال» لو لم تسارع روسيا إلى إرسال جيشها لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد. العثمانيون الذين قاتلوا روسيا في 10 حروب أرسلوا رئيسهم مرات عدة بعدما صرنا جيرانهم عبر الأراضي السورية. لم يكتف رجب طيب إردوغان باسترضائنا، بل ذهب أبعد. اشترى صواريخ «إس 400» وأدخلها عملياً إلى حديقة الأطلسي.
ينظر مجدداً إلى الخريطة. دائماً كانت أوروبا مصدر الرياح المسمومة. أخضع نابوليون جيرانه وتوهم القدرة على تتويج انتصاراته بإخضاع روسيا. لم يتعظ هتلر من هزيمة نابليون، وجاء في مهمة انتهت انتحارية لحكمه وبلاده. أوروبا قارة عجوز، لكن الظل الأميركي يحرسها ويدفعها إلى أدوار مؤذية من قماشة تطويق روسيا بالثورات الملونة أو قواعد حلف «الناتو».
يبتسم. أوروبا ليست المشكلة. شاخت وترهلت. ومن دون الغاز الروسي يقتلها الصقيع. وحده الخيط الأميركي يحرس نموذجها ويوقظ إرادتها ويرمم عنادها. كتم مشاعره طويلاً وأخفى حساباته. لن يقبل أقل من طي صفحة عالم التفرد الأميركي الذي ولد من انهيار جدار برلين، ورقص فوق جثة الاتحاد السوفياتي. يرتدي ابتسامة ساخرة. شمس عالم القوة العظمى الوحيدة ستغرب على يديه، وليس على يد شي جينبينغ.
ثمة مشاهد لن يسمح بتكرارها. سحقت الآلة العسكرية الأميركية نظام «طالبان». نظام المقاتلين الذين ساعدتهم أميركا على إرغام «الجيش الأحمر» على الانسحاب مثخناً من تلك البلاد الوعرة. يذكر جيداً. كان في مكتبه في الكرملين حين أطل جورج بوش من البيت الأبيض ليوجه إلى صدام حسين وعائلته إنذاراً حاسماً بالمغادرة خلال 48 ساعة أو مواجهة الحرب. وتابع على الشاشات كيف سحقت القوات الأميركية السلاح السوفياتي الذي اتكأ عليه صدام. وكان رئيساً للحكومة حين انهال حلف الأطلسي بالغارات على أرتال القذافي وسلاحها السوفياتي. لن يسمح بتكرار تلك المشاهد، وبوقوف روسيا عاجزة كأنها قوة من الدرجة الثانية. لن يسمح على الإطلاق بتكرار ذلك المشهد المخزي في شارع أربات في موسكو. مشهد أكوام من بزات ضباط «الجيش الأحمر» تباع مع أوسمتها بحفنة من الدولارات للسياح والشامتين.
ينظر إلى الساعة. الغرب خائف. لكنه لا يملك إرادة الحرب. يكرر معزوفة «العواقب الوخيمة» و«الثمن الباهظ». يضحك. حين يغزو الخوف بلاداً قد يغنيك عن إرسال الجيش إليها. ها هو الغرب تحول أسيراً في الفخ الأوكراني. التخويف يساعدك على تحويل دولة جارة إلى رهينة وإملاء شروطك للإفراج عنها. إرغام حلف «الناتو» على التنازل عن حلم التوسع مقدمة لإرغامه على الانكفاء من المواقع التي كسبها حين كانت روسيا مدفونة تحت الركام السوفياتي. في احتجاز الرهائن يمكن اقتياد دول كبرى إلى أقفاص صغيرة بسبب خوفها على مواطنيها. الغرب محتجز اليوم داخل القفص الأوكراني.
زوّده المستشارون بالتعليقات الغربية. هذا يقول إنه يمارس لعبة الروليت الروسية. وذاك يقول إن التنازل له خطر، تماماً كما كان استرضاء هتلر. وثمة من يزعم أنه بات منفصلاً عن الواقع، وأن لعبته قد تدمي العالم وبلاده معاً. يحتقر القيصر خصومه، وأحياناً يحتقر حلفاءه. ليس صحيحاً أنه متهور. تجربة استعادة القرم كانت اختباراً ناجحاً. ومثلها تجربة التدخل العسكري في سوريا. يتذكر حديث باراك أوباما عن الخط الأحمر في سوريا، وكيف نجح سيرغي لافروف في خداع واشنطن. لن يستطيع بايدن الوافد من عباءة أوباما رسم خط أحمر على الحدود الروسية – الأوكرانية.
الثأر شعور ممتع حين تكون قوياً. إنهم يستقيلون من أوكرانيا. هذا يسحب دبلوماسيّيه، وذاك يسحب مستشاريه العسكريين. زمن الفرار من أوكرانيا. يفكر في الرئيس الجالس في كييف. مخرج وممثل، لكنه لم يتوقع أبداً مواجهة مسلسل روسي بمثل هذه القسوة والإتقان. يتذكر. حين ولد فلاديمير زيلينسكي، كان هو يقيم في عالم الـ«كي جي بي» الغامض والصارم.
معركة حاسمة. على الطاولة صورته وصورة بلاده. ما أصعب التراجع. يراهن على انشغال الأميركيين بـ«الخطر الصيني». يراهن على خوف الأوروبيين من الصواريخ وجنازير الدبابات. لن يتنازل على رغم الزيارات الغربية واتصالات سيد البيت الأبيض. هدف الانقلاب الكبير إقناع العالم أن أميركا فقدت أنيابها. لهذا حرص على تظهير المحور الصيني – الروسي قبل دفع الأزمة الأوكرانية إلى القمة.
فصل جديد في حياة العالم. إذا نجح بوتين في تحويل أوكرانيا فنلندا جديدة، فلماذا تقبل الصين ببقاء تايوان المستقلة شوكة في خاصرتها؟ وإذا نجح الانقلاب الكبير، فماذا سيستنتج الزعيم المحبوب في كوريا الشمالية؟ وإذا كان يحق للقوي أن يملي خياراته على جيرانه، فماذا ستستنتج إيران وتركيا وكل الدول التي تنظر إلى حدودها الحالية، وكأنها ثوب ضيق أرغمها الظلم على ارتدائه؟
————————————
خبير عسكري يجيب: ما هي سيناريوهات الهجوم الروسي على أوكرانيا؟
سفيان البالي
هي طبول الحرب تعود مجددًا للدَّق على الناحية الشرقية للقارة الأوروبية، حيث يحشد الروس منذ شهور قواتهم على حدود أوكرانيا مهددين باجتياحها، فيما يلوح الغرب ردًا على ذلك بعقوبات و “ردع مؤلم”، في أزمة هي الأحلك بين المعسكرين منذ “الصواريخ الكوبية” أيام الحرب الباردة.
وبحسب تقارير أمريكية وغربية، فالغزو الروسي لأوكرانيا بات وشيكًا. هذا ما أكده مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، يوم الجمعة، حين قال بأن “غزوًا روسيًا لأوكرانيا قد يحصل في أي وقت من الآن (…) وربما سيكون قبل انتهاء أولمبياد بكين الشتوي في 20 شباط/ فبراير الجاري”.
بالمقابل تستمر روسيا في تحركاتها العسكرية التصعيدية، آخرها إطلاق مناورات “عزيمة الاتحاد 2022” المشتركة مع الجيش البيلاروسي على أراضيه، والتي تجري باستعمال ذخيرة حية، ويشارك فيها الجيش الروسي بحشد كبير من جنوده، إضافة إلى منظومتي “إس 400″ و”بانتسير إس” للدفاع الجوي، ومقاتلات من طراز “سوخوي 35”.
مناورات تكمل تحت ذريعتها موسكو حلقة الحصار المضروب على الحدود الأوكرانية، حيث تنضاف إلى القوات الـ 100 ألف المرابطة منذ ما يقرب الشهور الثلاثة على الحدود الشرقية والشرقية الشمالية، وإلى الأخرى المتواجدة جنوبًا بشبه جزيرة القرم، كما الأساطيل البحرية الجرارة في كل من مياه البحر الأسود والبلطيق وبحر الشمال. وهو ما يكرس التفوق الروسي، عدة وعتادًا، على الدفاع الأوكراني.
من جهة أخرى، اكتفى الغرب إزاء هذا الواقع بإرسال مساعدة عسكرية لحليفتها كييف، متمثلة في صواريخ مضادة للدروع وخبرات عسكرية، مع تواجد قوات الناتو وحلفائه في بولندا ورومانيا على وجه التحديد. فيما تدفع هذه المعطيات على الأرض للتساؤل حول طبيعة الهجوم الذي تخطط له روسيا، وحول قدرة الدفاعات الأوكرانية على صده. كما إلى أي مدى ستكون المساعدات الغربية ناجعة في ذلك؟ وما ردة فعل الناتو العسكرية في حال وقوع الهجوم؟
كلها أسئلة نحاور بشأنها أكرم خريف، الخبير العسكري والاستراتيجي ومدير موقع “مينا ديفانس” المتخصص في الشؤون العسكرية والدفاعية”.
الجيش الروسي يحاصر اليوم أوكرانيا بما تعداده 150 ألف جندي. يحاصرها من الشمال، من الحدود الجنوبية لروسيا وبيلاروسيا، وأيضًا يحاصرها من منطقة الدونباس التي تعد منطقة نزاع بين روسيا وأوكرانيا، ويحاصرها أيضًا من شبه جزيرة القرم التي يحتلها الروس منذ 2015، ويوجد كذلك حشد روسي كبير في منطقة ترانسنيستريا (غير المعترف بها دوليًا) بين مولدوفا وأوكرانيا.
من ناحية التسليح، كما قلنا، هناك 150 ألف جندي روسي يحاصرون أوكرانيا، إضافة إلى مئات الطائرات الحربية، عشرات البوارج الحربية، وآلاف المدرعات والدبابات، وأيضًا مئات القطع المدفعية.
المناورات التي أجراها الجيش الروسي في العديد من المناطق حول العالم – آخرها التي تجري في جنوب روسيا وبيلاروسيا، والتي تم فيها حشد أزيد من 70 ألف جندي روسي للقيام بتمارين بالذخيرة الحية – دورها هو تثبيت القوى العسكرية بالمنطقة، وأيضا تمويه حشد القوى الروسية في تلك المناطق.
كذلك قامت القوات الروسية بمناورات بحرية في العديد من مناطق العالم، بما فيها مناورات أجريت في مياه بحر الشمال غرب إيرلندا، والتي تمت هي الأخرى بالذخيرة الحية وإطلاق صواريخ. وقامت بنفس الشيء في جسر كوريل على مقربة من المياه اليابانية، وتقوم بدوريات وتمارين مكثفة في المنطقة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط. واليوم نرى أيضًا أنها تقوم بمناورات بحرية بذخيرة حية وإطلاق صواريخ بمحاذاة الواجهة البحرية لأوكرانيا، في البحر الأسود وبحر أزوف.
كل هذه المناورات تعد وسيلة ضغط عسكرية، ووسيلة تمويه لانتشار القوات الروسية في كل مناطق العالم. وهو كذلك ضغط سيكولوجي يمنع تحركات حلفاء كييف، ويهدد ويخيف قوات الناتو أينما كانت في العالم، سواء بالقرب أو بعيدًا عن محيط النزاع.
إن كانت هناك عملية عسكرية روسية في أوكرانيا، وهو لحد الساعة أمر وارد لكنه غير مؤكد، ستكون هجومًا من الشرق نحو الغرب، مع استهداف نهر دنيبر الذي يشطر البلاد نصفين من الشمال إلى الجنوب عبر العاصمة كييف.
فالهدف الأول للقوات الروسية، إذا ما كانت هناك حرب، هو احتلال أو على الأقل اقتحام هذه المنطقة التي تمثل رئة البلاد العسكرية والاقتصادية، حيث إن مناطق غرب أوكرانيا تحتوي فقط أراضيًا فلاحية وجبلية، وبالتالي منفعتها الاستراتيجية مهملة بالنسبة للروس. وأتوقع أيضًا أن أحد الأهداف المسطرة لدى الجيش الروسي هو احتلال كل الشريط الساحلي الأوكراني، وصولاً إلى الحدود مع رومانيا.
الجدير بالذكر أنه داخل المعادلة العسكرية الجارية حاليًا، من الصحيح اعتبار أوكرانيا قوة مقاومة دفاعية وليست هجومية. من ناحية التسليح، فالعتاد العسكري الأوكراني في أغلبه قديم يعود إلى الحقبة السوفياتية، وأيضًا من مقتنياتها من صناعة السلاح الروسي بعد تفكك الاتحاد. فيما نقاط ضعف الدفاعات الأوكرانية أنها تفتقر لقوات جوية قوية يمكنها التصدي لهجمات روسية، كذلك هناك نقص من حيث عدد الجنود وعدد العتاد على الأرض.
ربما استلام الجيش الأوكراني الصواريخ المحمولة الأمريكية “جافلين” ومضادات المدرعات البريطانية قد يقلب موازين القوى لصالحهم في حال إقحام روسيا الدبابات والمشاة في مناطق التماس وحتى داخل أوكرانيا. لكن من الصعب أن نقول أن كييف تدخل الحرب بإمكانيات تسمح لها بربحها أو أن تقلل من الأضرار، كون الجيش الروسي في نظري متطور جدًا ويفوق الأوكران عددًا وعتادًا.
أظن أن الدول الغربية لعبت لعبة قذرة ومنافقة مع أوكرانيا، لأنه كان في مقدور الولايات المتحدة أن تساهم في الإعداد العسكري الأوكراني بإعطائهم أنظمة الدفاع الجوي وصواريخ مضادة للطائرات والرادارات. لكن كلاً من أمريكا وبريطانيا وبولندا اكتفوا بمنحهم أسلحة تستعمل في مجال قصير جدًا، في حالات التماس العسكري على وجه التحديد وفي دائرة لا يتعدى قطرها خمسة أو عشرة كيلومترات. هذا يعني أنه لم تكن هنا نية من الأساس أن تزود دول الغرب أوكرانيا بأسلحة تمكنها من الدفاع عن نفسها بشكل فعال.
صحيح، رأينا أن أحد استراتيجيات الدفاع الأوكراني هو تدريب أكبر عدد من المواطنين على حمل السلاح ونصب كمائن محكمة ضد القوات التي بإمكانها اجتياح أوكرانيا، ما يعني أن هناك نية من قبل الأوكران لخوض حرب عصابات. لكن أظن أن روسيا تدرك ذلك، وأنها لن تستقر في أوكرانيا الوقت الذي يمكنهم من تنفيذ هذه الخطة. ففي نظري أحد الأهداف الأساسية للجيش الروسي من هذه العملية هو تنفيذ ضربات خاطفة تستهدف المدن الكبرى، التي قد تمكنه من إسقاط الحكومة الأوكرانية وتنصيب أخرى موالية له، ثم الانسحاب إلى قواعده الخلفية.
أظن أن الحشد الأمريكي والبريطاني والفرنسي والبولندي في المناطق المحاذية لأوكرانيا وروسيا هو للتخويف، أكثر منه ذو بعد عسكري. والقوات التي نشرت ستساعد ربما في إجلاء رعايا تلك الدول الموجودة في أوكرانيا، كما مساعدة اللاجئين الأوكران الفارين من الحرب. من حيث العدد القليل أو العتاد الضعيف لتلك القوات، لا أرى أن وجودها هناك كافٍ لمساعدة أوكرانيا كي تصد أي هجوم روسي.
وبالتالي نجد أنفسنا مرة أخرى في مواجهة حركة رمزية للغرب، تظهر بأن لا نية حقيقية له في خوض صراع مسلح مع روسيا. وهذا في نظري نفاق من جهة الغرب، وأيضًا خطأ استراتيجي لأوكرانيا في اعتمادها تلك الدول كحليف عسكري وهي بحاجة لحلفاء قادرين على الحماية والمساعدة في أي طارئ.
الترا صوت
————————————————
بوتين أمام خيارين كلاهما صعب/ هشام ملحم
يواصل المسؤولون الأميركيون البارزون تحذيراتهم اليومية من اجتياح عسكري روسي وشيك لأوكرانيا وتجديد التزامهم بفرض عقوبات اقتصادية ومالية مؤلمة على الاقتصاد الروسي، بينما يواصل المسؤولون الروس احتجاجاتهم اليومية ورفض مضمون التحذيرات الأميركية واعتبارها جزءا من حملة إعلامية تضليلية، وهيستيرية، تهدف من جملة ما تهدف إليه استفزاز الاجتياح الروسي الذي تحذر منه.
المفارقة أن التحذيرات الأميركية أقلقت وأزعجت القيادة الأوكرانية التي سارعت عبر الرئيس، فلوديمير زيلينسكي، إلى انتقادها لأنها تخلق حالة “رعب” تؤثر سياسيا واقتصاديا على أوكرانيا وتحرمها من الاستثمارات الغربية.
التسريبات من المصادر السياسية والاستخباراتية في واشنطن تقول إن الرئيس جو بايدن وكبار مساعديه يعتمدون في تحذيراتهم على معلومات استخباراتية حول جهوزية القوات الروسية التي تحيط بأوكرانيا من ثلاث جبهات وخططها الميدانية وأنها تريد من تحذيراتها استباق الرئيس فلاديمير بوتين و “فضح” خططه قبل اللجوء إلى تطبيقها ووضعه في موقع دفاعي، ما يفسر استياءه واحتجاجاته العلنية.
أي مراجعة موضوعية للتحركات والإجراءات والمواقف الروسية وردود الفعل الإميركية والأطلسية عليها تبين التالي :
الرئيس بوتين نجح في إرغام حلف شمال الأطلسي (الناتو) على التفاوض معه عبر القمم الافتراضية والاتصالات الهاتفية مع الرئيس بايدن، أو زيارات قادة الدول الرئيسية في الناتو مثل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني، أولاف شولتز، إلى موسكو حول مطالبه وشروطه لحل الأزمة بغض النظر عن مضمون هذه المطالب وما إذا كانت تعجيزية أو نهائية أو مجرد مٌطالب أولية متشددة كمدخل للمفاوضات.
بوتين طالب بوقف رسمي لتوسع الناتو شرقا، وتجميد البنية التحتية العسكرية للحلف (عدم بناء قواعد عسكرية أو إدخال منظومات عسكرية جديدة) في الدول التي كانت سابقا جزءا من الاتحاد السوفيتي، وإنهاء الدعم العسكري المقدم من الناتو إلى أوكرانيا، والالتزام بعدم ضم أوكرانيا إلى الحلف، وعدم نشر صواريخ متوسطة المدى في أوروبا. رسالة بوتين من خلال حشوده العسكرية، هي إما القبول بهذه المطالب سياسيا، وإلا فإننا مستعدون للجوء إلى الخيار العسكري.
صحيح أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو لم يقبلوا بشروط بوتين، إلا أنهم ألمحوا إلى استعدادهم لاعتماد إجراءات لبناء الثقة من بينها اعتماد الشفافية في مجال المناورات العسكرية، وإبعاد هذه المناورات عن المناطق الحساسة، وضبط نشر الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا.
ولكن ربما ما حصل عليه بوتين بشكل ضمني هو إجماع الدول الرئيسية في الناتو بعدم التفكير بانضمام أوكرانيا إلى الحلف في أي وقت قريب، وربما عدم انضمامها في أي وقت في المستقبل. الرئيس الفرنسي ماكرون ألمح إلى أن أوكرانيا يمكن أن تعتمد مبدأ الحياد بين الشرق والغرب كما فعلت فنلندا منذ زمن.
نجح بوتين أيضا في تذكير الأوروبيين باعتمادهم الكبير على الغاز والنفط الروسيين وهو اعتماد يصل إلى حوالي 40 بالمئة من احتياجات بعض الدول من الغاز الطبيعي، ومن بينها ألمانيا، الدولة الأهم اقتصاديا في أوروبا الغربية.
وتزامنت الأزمة الأوكرانية مع ارتفاع أسعار النفط والغاز وقبل البدء بتشغيل أنبوب الغاز المعروف باسم “نورد ستريم-2” الذي سينقل الغاز الطبيعي الروسي لألمانيا تحت مياه الأطلسي متفاديا الأراضي اأاوكرانية.
صادرات روسيا من الغاز والنفط أعطتها احتياطا ضخما بقيمة 630 مليار دولار، ما يعني أن روسيا، تتمتع بمناعة، في المدى المنظور على الأقل، ضد أي ضربة لعائداتها المالية جراء مبيعات الطاقة إلى الأسواق الأوروبية.
أي غزو روسي لأوكرانيا سيؤدي إلى حظر مبيعات النفط والغاز، ما يعني أن روسيا، وأيضا الدول الأوروبية التي تعتمد على الطاقة الروسية، سوف تتضرر اقتصاديا في حال عبور الدبابات الروسية لحدود أوكرانيا.
هذا الاعتماد الاقتصادي المتبادل في مجال الطاقة بين روسيا ودول الاتحاد الأوروبي هو من الحقائق الاقتصادية والجيوسياسية التي برزت في القارة الأوروبية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.
أخيرا نجح بوتين، مؤقتا على الأقل، في حرمان الرئيس بايدن من تركيز اهتمامه وطاقات الولايات المتحدة في منطقة شرق آسيا للتصدي سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا للنفوذ الصيني المتنامي في تلك المنطقة الأكثر أهمية اقتصاديا لأميركا من أي منطقة أخرى في العالم.
وفي بداية سنته الثانية في البيت الأبيض وجد الرئيس بايدن نفسه مشغولا بمواجهة تحديات في وسط القارة الأوروبية القديمة ومن مخلفات انهيار الإمبراطورية السوفيتية في القرن العشرين، بدلا من مواجهة الصين التي تشكل التحدي الأبرز لأميركا في القرن الحادي والعشرين.
في المقابل، رد الرئيس بايدن والحلفاء في أوروبا، على إجراءات واستفزازات بوتين بجبهة موحدة إلى حد كبير على الرغم من التردد الأولي لألمانيا، كما فاجأ بايدن نظيره الروسي بتحذيرات واضحة بأن أي اجتياح لأوكرانيا سوف يعرض روسيا إلى عقوبات اقتصادية ومالية وتقنية غير معهودة من الولايات المتحدة وحلفائها.
وصاحب هذه الإنذارات بنشر قوات عسكرية أميركية في دول الحلف في شرق أوروبا مثل رومانيا وبولندا، وأيضا في دول بحر البلطيق، في سياق تنسيق سياسي وعسكري على مختلف المستويات، ليس فقط بين دول الحلف، ولكن أيضا بين واشنطن والحلفاء من جهة وبين أوكرانيا من جهة أخرى وفقا لشعار: لا شيء يتعلق بأوكرانيا يمكن أن يناقش دون أوكرانيا.
العقوبات المتوقعة سوف تشمل حرمان روسيا من المشاركة في النظام المالي الدولي، وحرمانها من الاستفادة من أي تقنيات تشارك الولايات المتحدة في تصنيعها أو تصميمها.
جهود إدارة بايدن في هذا المجال نجحت في إقناع ألمانيا بوقف العمل في أنبوب الغاز “نورد ستريم – 2” في حال غزت روسيا أوكرانيا، وهذا ما أوضحه المستشار شولتز خلال اجتماعه بقادة مجلس الشيوخ خلال زيارته الأخيرة لواشنطن. رسالة واشنطن لموسكو هي: أن مصادر الطاقة الروسية لأوروبا يجب أن تعتبر سيفاً ذو حدين.
بعد أكثر من ثلاثة أشهر من التوتر والتهديدات المتبادلة، يجد بوتين نفسه في مواجهة حلف موحد أكثر من أي وقت مضى، وبعد حقبة الرئيس السابق، دونالد ترامب، التي بدا فيها الناتو وكأنه وصل إلى طريق مسدود، بسبب تشكيك ترامب العلني بجدواه.
وبدلا من أن تؤدي تهديدات بوتين إلى تعميق الاستقطابات في أوكرانيا، فإنها ساهمت في توحيد البلاد ورفضها لمطالب بوتين، وهو رفض عبّر عنه أوكرانيون من أصل روسي.
في هذا السياق، ادعاءات بوتين أن سكان روسيا وأوكرانيا (وأيضا روسيا البيضاء) يشكلون شعبا واحدا له جذور ثقافية ولغوية ودينية واحدة، وإن كانوا يعيشون في دول مستقلة، أدت إلى ردود عكسية في أوكرانيا.
تهديدات واستفزازات بوتين جددت الجدل السياسي في الغرب، والذي لم يتوقف نهائيا، وإن بقي في الخلفية منذ غزوه لأوكرانيا وضمه لشبه جزيرة القرم في 2014: هل بوتين متهور وينتمي إلى عصر بائد، أم أنه يتمتع بعقل استراتيجي ويخطط بعقلانية قبل أي مبادرة هامة.
محللون كثر يقولون إن بوتين يريد إحياء الإمبراطورية السوفيتية (التي يراها بالعمق إمبراطورية روسيا السلافية) ولو بالقوة . هؤلاء يشيرون إلى تدخله العسكري وضمه لأراض تابعة لجيرانه في جورجيا وأوكرانيا، وأيضا تدخله العسكري المباشر في سوريا، وغير المباشر وعبر قوات المرتزقة في ليبيا وغيرها من المناطق في أفريقيا.
ولكن هناك أقلية من المحللين ترى أن بوتين يقامر، ولكن بعد حسابات دقيقة كما فعل في حالات جورجيا وأوكرانيا (2014) وسوريا، إلا أن هدفه الاستراتيجي الرئيسي في أوروبا الوسطى والشرقية هو وقف تمدد حلف الناتو شرقا باتجاه الحدود الروسية، وليس بالضرورة ضم أراض جديدة في أوكرانيا أو غيرها من الجمهوريات السوفيتية السابقة.
حتى الآن لا يزال بوتين في موقع الطرف الذي يبادر، والغرب في موقع الطرف الذي يرد على مبادراته. ولكن الوضع الراهن لا يمكن أن يبقى مفتوحا إلى ما لا نهاية.
خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة سوف يضطر بوتين إلى إصدار الأوامر لقواته إما بالتقدم إلى الأمام واجتياح أوكرانيا، أو التراجع إلى الوراء باتجاه ثكناتها.
اجتياح أوكرانيا هذه المرة سوف يكون مكلفا أكثر من الاجتياح الأول، في 2014، وقد يورط روسيا في حرب استنزاف طويلة. ويفترض أن يكون بوتين مدركا لهذه الحقيقة حتى ولو لم يفكر بها عندما بدأ بحشوده حول أوكرانيا وقبل أن يوحد الناتو ويوحد أوكرانيا. بعد أشهر من المناورات العسكرية والسياسية يجد فلاديمير بوتين نفسه أمام خيارين كلاهما صعب.
—————————————-
دليل تاريخي شامل لفهم الأزمة بين روسيا وأوكرانيا
تحشد روسيا أكثر من 100 ألف من قواتها على الحدود مع أوكرانيا حسب مصادر غربية، ويرتقب العالم أجمع لحظة الصفر، في ظل حراك دبلوماسي غير مسبوق بين قادة العالم، يسابقون فيه الزمن أملًا في التواصل إلى حلّ للأزمة وتجنيب أوكرانيا شبح الغزو الروسي.
هذا المشهد المحتدم اليوم يمثّل ذروة قد تكون الأخطر في تاريخ أوكرانيا منذ ثلاثة عقود، ظلّت فيها هذه الدولة على الدوام ممزّقة بين شرق وغرب، تناور وتراوغ بحسب السلطة القائمة فيها ما بين نفوذ موسكو وضغوط الأمريكيين وحلفائهم في أوروبا الغربية. ويبدو أن موسكو تستعد للتصعيد ضدها اليوم، لوضع حدّ لهذا التقلّب، وضمان أوكرانيا حليفة وموالية لروسيا على الدوام.
فمنذ أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية إليها عام 2014، تنامت النزعة الناقمة على النفوذ الروسي في أوكرانيا، الذي ترافق مع تعزز الدعم من القوى الغربية للنظام في أوكرانيا، وبالتحديد من طرف الناتو والاتحاد الأوروبي. نستعرض في المحطات الزمنية التالية الأحداث الأساسية التي قد تساعد في فهم الأزمة الأوكرانية القائمة اليوم، مستفادة بتصرف عن موقع شبكة الإذاعة الوطنية الأمريكية.
حقبة التسعينات والاستقلال عن الاتحاد السوفيتي
1989-1990
اجتاحت موجة من الاحتجاجات أوروبا الوسطى والشرقية، حيث اندلعت شرارتها الأولى في بولندا وتوسعت عبر دول تابعة للمعسكر السوفيتي، ووصلت ذروتها في أوكرانيا في كانون الثاني/يناير 1990، حيث شكّل قرابة 400 ألف أوكراني سلسلة بشرية تمتد على مسافة 600 كم، من مدينة إيفانو-فرانكيفسك الغربية وحتى كييف شمال وسط البلاد، حاملين العلم الأوكراني بلونيه الأزرق والأصفر، وهي راية كان محظورًا استخدامها تحت الحكم السوفيتي.
16 تموز/يوليو 1990
صوّت البرلمان الأوكراني (مجلس الرادا)، الذي تم تشكيله عقب حلّ المجلس التشريعي السوفيتي، على إعلان الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، وتبع ذلك دعوة السلطات الأوكرانية جنودها المنتشرين خارج البلاد تحت إمرة السوفييت العودة إلى أوكرانيا، كما تم التصويت على إغلاق مفاعل تشيرنوبل شمالي أوكرانيا.
1991
في أعقاب محاولة انقلاب فاشلة في موسكو، أعلن البرلمان الأوكراني الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي للمرّة الثانية، وذلك في 25 آب/أغسطس 1991، وهو اليوم الرسمي للاستقلال في أوكرانيا. ولم تنقض بضعة أشهر حتى انهار الاتحاد السوفيتي، وتم ذلك رسميًا في 26 كانون أول/ديسمبر 1991.
1992
شرع حلف الناتو في وضع تصوّر لضمّ أعضاء من أوروبا الوسطى والشرقية إليه لأول مرّة، وأبرمت أوكرانيا علاقات رسمية مع الحلف رغم عدم انضمامها إليه. وقد أجرى الأمين العام لحلف الناتو حينها زيارة للعاصمة الأوكرانية كييف، كما زار الرئيس الأوكراني ليونيد كرافتشوك المقر الرئيسي للحلف في بروكسل.
كانون أول/ديسمبر 1994
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، باتت في حوزة أوكرانيا ثالث أكبر ترسانة من الأسلحة النووية على أراضيها. إلا أنّه ووفق معاهدة عرفت باسم “مذكرة بودابست”، وافقت أوكرانيا على التنازل عمّا لديها من صواريخ بالستية عابرة للقارات، والرؤوس الحربية، والتجهيزات النووية الأخرى، مقابل الحصول على ضمانات من الأطراف الموقعة على المعاهدة (الولايات المتحدة، وروسيا، والمملكة المتحدة)، لاحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها ضمن حدودها القائمة.
1994 حتى 2004
أثناء فترة حكمه للبلاد التي امتدت 10 سنوات، ساعد ليونيد كوشما في عملية انتقال أوكرانيا من جمهورية سوفيتية ودخولها في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، إذ انتهج سياسة تركز على تطوير القطاع الخاص والأعمال التجارية، وتعزيز فرص النمو الاقتصادي. إلا أن العام 2000 حمل فضيحة خطيرة قوّضت سمعته ولطخت سيرته السياسية إلى الأبد، وذلك بعد تسريب مقطع صوتي يكشف أن كوشما قد أمر بتصفية أحد الصحفيين الأوكرانيين. ورغم تلك الفضيحة، فقد ظل كوشما متمسكًا بالحكم لأربع سنوات أخرى.
الألفية الجديدة ورحلة التقلبات بين الغرب والشرق
2004
في سباق محموم نحو الانتخابات الرئاسية، تصدّر فيكتور يانوكوفيتش، المقرّب من كوشما، والمدعوم من روسيا، وخاض السباق الانتخابي ضدّه زعيم المعارضة الديمقراطي ذو الشعبية الواسعة، فيكتور يوشينكو. إلا أنّه وفي الأشهر الأخيرة من الحملة الانتخابية، عانى يوشينكو فجأة من حالة مرضيّة مريبة، قبل أن يؤكّد الأطباء أنّه قد تعرّض لمحاولة اغتيال بالسمّ.
فاز يانوكوفيتش بالانتخابات التي شابتها الكثير من الاتهامات بالتزوير والتلاعب، وقد تبع الإعلان عن النتائج مظاهرات شعبية عارمة وانتقادات شديدة من العديد من مؤسسات المجتمع المدني، ونما حراك عرف وقتها باسم “الثورة البرتقالية”. وبعد تقرير جولة تصويت ثالثة، نجح يوشينكو، ذو التوجّه المناهض للنفوذ الروسي، وصار رئيسًا ثالثًا للبلاد منذ استقلالها.
كانون الثاني/يناير 2005
تولى يوشينكو منصبه رئيسًا جديدًا لأوكرانيا بعد الثورة البرتقالية، وتم اختيار يوليا تيموشينكو لتكون رئيسة للوزراء.
2008
بعد سلسلة من المساعي التي قادها الزعيمان الديمقراطيان، يوشينكو وتيموشينكو لانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، تم وبشكل رسمي التقدّم بطلب في مطلع العام 2008 بمنح أوكرانيا “خطة عضوية” للانضمام في الاتحاد، وهي الخطوة الأولى في عملية ضمّ حليف جديد للحلف.
حصل هذا الطلب على دعم من الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، إلا أن فرنسا وألمانيا عارضت ذلك بعد أن أعربت روسيا عن انزعاجها من المقترح. وفي نيسان/أبريل من ذلك العام، أعلن الناتو عن ردّه، والذي حمل تنازلًا مراوغًا، عبّرت فيه قيادة الحلف عن وعدها بأن يتمّ في يوم ما منح أوكرانيا عضوية في الحلف، دون وضعها على أي مسار محدّد وصولًا إلى تلك النقطة المبتغاة من قيادتها السياسية.
كانون الثاني/يناير 2009
في غرّة العام 2009، توقفت شركة “غازبروم” المملوكة للحكومة الروسية، عن ضخ الغاز إلى أوكرانيا، بعد أشهر من المفاوضات السياسية غير المجدية بشأن أسعار الغاز. وبما أن الغاز ينتقل عبر أوكرانيا إلى دول أخرى في شرق ووسط أوروبا، والتي تعتمد على واردات الغاز الروسية، فإن الأزمة سرعان ما تفاقمت وانتقل أثرها إلى خارج الحدود الأوكرانية.
وبعد تدخل دولي لحل الأزمة، عقدت تيموشينكو صفقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهو ما سمح في 20 كانون الثاني/يناير باستئناف توريد الغاز إلى أوكرانيا وعبرها. وما تزال أوروبا تعتمد حتى اليوم بشكل كبير على الغاز الروسي.
2010
أصبح يانوكوفيتش رئيسًا للبلاد في شباط/فبراير في انتخابات جديدة، وأعلن في خطاب فوزه أن على أوكرانيا أن تكون “دولة محايدة”، تتعاون مع روسيا والغرب وتكون على مسافة واحدة من المعسكرين.
2011
بدأ الادعاء العام الأوكراني تحقيقات جنائية ضدّ تيموشينكو، على خلفية اتهامات بالفساد وإساءة استخدام السلطة ومواردها. وفي تشرين الأول/أكتوبر، أدينت تيموشينكو بتهمة “إساءة استخدام السلطة”، وذلك في المفاوضات التي أجرتها عام 2009 مع روسيا إبان أزمة الغاز، وحكم عليها بالسجن سبع سنوات، وهو ما أثار مخاوف في الغرب من توجّه القيادة السياسية في أوكرانيا إلى اضطهاد المعارضة السياسية وملاحقتها والتضييق عليها.
2014: ثورة الميدان وضم القرم
تشرين الثاني/نوفمبر 2013 حتى شباط/فبراير 2014
تراجع الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش عن توقيع اتفاقية مبدئية مع الاتحاد الأوروبي تمهد لدخول أوكرانيا في اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي، ملمحًا إلى تعرضه لضغوط من روسيا رافضة لمثل هذه الخطوة.
وقد أثار ذلك الإعلان موجة احتجاجات عارمة عبر أوكرانيا، كانت الأضخم في حجمها منذ الثورة البرتقالية، دعا فيها المتظاهرون يانوكوفيتش إلى الاستقالة من منصبه، وبدأ المحتجون بالاعتصام والحشد في ميدان “ميدان”، واقتحام المباني الحكومية، بما فيها مبنى بلدية العاصمة ووزارة العدل.
بعد 8 سنوات على "ثورة الحرية والكرامة".. ما الذي جنته أوكرانيا؟ | أخبار سياسة | الجزيرة نت
في نهاية شباط/فبراير، تزايدت وتيرة العنف بين قوات الأمن والمحتجين، وخلفت 100 قتيل على الأقل في أسبوع واحد، وهو الأسبوع الأكثر دموية على الإطلاق في أوكرانيا ما بعد الاستقلال. وقبل موعد محدّد لتصويت البرلمان على عزله، غادر يانوكوفيتش البلاد، وكانت وجهته الأخيرة هي روسيا. وقد صوت البرلمان الأوكراني بالإجماع على عزل يانوكوفيتش وتعيين حكومة انتقالية، والتي أعلن أنها ستوقع على الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي. كما تم التصويت على إخلاء سراح تيموشينكو.
قررت الحكومة الجديدة اتهام يانوكوفيتش بالقتل الجماعي واستهداف المحتجين في الميدان، وأصدرت مذكرة اعتقال بحقه. من جهتها، أعلنت روسيا أن ما جرى من تغييرات على الوضع القائم في أوكرانيا يعدّ انقلابًا غير مشروع، وسرعان ما انتشر رجال مسلحون على نقاط تفتيش وحواجز ومنشآت في شبه جزيرة القرم. وبعد نفي رسمي روسي من كون المسلحين تابعين للجيش الروسي، تأكّد لاحقًا أنّهم بالفعل جنود روس، وباعتراف رسمي من روسيا.
آذار/مارس
وفي ظل سيطرة الجنود الروس على شبه جزيرة القرم، صوّت البرلمان هناك على الانفصال عن أوكرانيا والانضمام إلى روسيا، وتبع ذلك استفتاء شعبي، بنتيجة 97% لصالح الانضمام إلى روسيا، وهو استفتاء تدور حول نزاهة نتائجه الكثير من الشكوك.
في 18 آذار/مارس، أتمّ بوتين ضمّ القرم إلى روسيا، وذلك في كلمة أمام البرلمان الروسي. عندها، قررت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا فرض عقوبات على روسيا، وجرى رفض الاعتراف بالضم الروسي للقرم، وهي العملية الوحيدة منذ الحرب العالمية الثانية التي يحصل فيها تغيير على حدود دولة أوروبية بفعل تدخّل عسكري.
نيسان/أبريل
حشدت روسيا 40,000 جندي على الحدود الشرقية لأوكرانيا، واندلعت أعمال عنف في إقليم دونباس، ما تزال مستمرة لليوم، حيث تقوم قوات انفصالية مدعومة من روسيا بالهجوم على مبان حكومية أوكرانية في مدن الإقليم. وفي حين تنكر روسيا أي وجود لقواتها على التراب الأوكراني، إلا أن الأوكرانيين يؤكدون عكس ذلك.
أيار/مايو
تم انتخاب بيترو بوروشينكو رئيسًا جديدًا لأوكرانيا، وهو شخصية سياسية مرموقة ومخضرمة، ذو ارتباطات مع الحلفاء الغربيين، وتوجهات إصلاحية، ورؤية تميل إلى تقليص اعتماد أوكرانيا على روسيا في مجال الطاقة والتمويل.
5 أيلول/سبتمبر
التقى ممثلون عن روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا في بيلاروسيا، في محاولة لاحتواء العنف في دونباس، وتم توقيع اتفاق مينسك الأول، وهو اتفاق بين روسيا وأوكرانيا يتم بموجبه خفض عمليات التصعيد ووقف إطلاق النار، إلا أنّ الاتفاق كان هشًا، وسرعان ما تم خرق الاتفاق وتواصلت أعمال العنف والاشتباكات.
من 2015 حتى 2020.. سنوات الضياع الروسي
شباط/فبراير 2015
تم إحياء اتفاق مينسك مجددًا، وفق شروط جديدة، إلا أنه لم يكتب له النجاح، ولم تتوقف أعمال العنف، لتصل حصيلة القتلى في الإقليم منذ العام 2014 حتى اليوم إلى أكثر من 14,000 قتيل، وجرح عشرات الآلاف ونزوح أكثر من مليون شخص.
وقد أدى التدخل الروسي في شبه جزيرة القرم وإقليم مونباس شرق أوكرانيا إلى تنامي المشاعر العامة المناهضة لروسيا والمفضلة لانضمام أوكرانيا للناتو والاتحاد الأوروبي.
2016-2017
مع استمرار أعمال العنف في دونباس، كثفت روسيا من هجماتها السيبرانية على أوكرانيا، وكان من بين ذلك هجوم عام 2016 الذي استهدف شبكة الطاقة في البلاد وأدى إلى انقطاع الكهرباء عن العاصمة كييف. وتواصلت أعمال التخريب السيبرانية في العام 2017 على نطاق أوسع، مستهدفة البنى التحتية الأوكرانية والبنوك.
2019
في نيسان/أبريل 2019، جرى انتخاب الممثل والكوميديان فولوديمير زيلينسكي رئيسًا لأوكرانيا، في هزّة مفاجئة لحكم بوروشينكو والوضع القائم في البلاد. وقد توعد زيلينسكي في حملته الانتخابية بإنهاء حالة العداء مع روسيا ووضع حد للحرب في دونباس.
اصطدمت جهود الرئيس للتوصل إلى حل لإنهاء العنف في دونباس بصعود ترامب، وإعلانه حظر المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، والضغط على الحكومة الأوكرانية للتفاوض مع بوتين لوضع حد للأزمة.
2021: تصاعد الأزمة
نيسان/أبريل
حشدت روسيا 100,000 جندي على الحدود مع أوكرانيا، بدعوى التدريب العسكري. وعلى الرغم من أن الرأي السائد بين المحللين يستبعد إقدام روسيا على غزو أوكرانيا، إلا أن زيلينسكي عكف على حثّ قادة الناتو لوقع خط زمني لانضمام أوكرانيا للحلف. في نهاية الشهر، أعلنت روسيا أنها ستسحب قواتها، إلا أن عشرات الآلاف من الجنود ظلوا على الحدود مع أوكرانيا.
آب/أغسطس
التقى زيلينسكي في البيت الأبيض مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، حيث أكد الأخير في اللقاء على التزام الولايات المتحدة بالحفاظ على “سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها في وجه الاعتداء الروسي”، إلا أنّه أشار في الوقت ذاته إلى أن أوكرانيا لم تلبّ بعد الشروط الضرورية الكافية لانضمامها إلى حلف الناتو.
تشرين الثاني/نوفمبر
كثفت روسيا مجددًا من تواجد قواتها على الحدود مع أوكرانيا، وهو ما أثار قلق المسؤولين الأمريكيين، الذين توجهوا إلى بروكسل لإحاطة حلفائهم في الناتو بشأن الوضع الذي ينذر بالانفجار في أية لحظة. وقد قال وزير الدفاع الأمريكي ليود أوستن: “لا ندري بالضبط ما الذي يخطط له السيد بوتين، إلا أنه لا ريب في أن تلك التحركات [على الحدود الأوكرانية] تسترعي انتباهنا”.
كانون الأول/ديسمبر (مطالب بوتين الأمنية)
أعلن فلاديمير بوتين عن سلسلة من المطالب الأمنية المثيرة للجدل، والتي تشتمل على موافقة الناتو على تعهّد يقضي بمنع انضمام أوكرانيا إلى الحلف في المستقبل، وسحب قوات الحلف المتواجدة في الدول التي انضمت إليه بعد عام 1997، ولاسيما تلك التي في البلقان ورومانيا. كما أصر بوتين على تلقي ردّ كتابي من الولايات المتحدة والناتو بشأن تلك المطالب.
2022: تصاعد نذر الحرب
سلسلة من اللقاءات والاجتماعات على أعلى المستويات الدبلوماسية بين مسؤولين أمريكيين وروس وأوروبيين، لتفادي تصعيد الأزمة. في مطلع كانون الثاني/يناير من العام الجديد، أخبر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي ريابكوف، مسؤولين أمريكيين بأنه ليست لدى روسيا نية في غزو أوكرانيا.
رغم ذلك، أوعزت الخارجية الأمريكية إلى أسر موظفيها في السفارة الأوكرانية بمغادرة أوكرانيا، وكان ذلك في 23 كانون الثاني/يناير. وفي اليوم التالي، وضعت قيادة الناتو قواتها على أهبة الاستعداد.
في 26 كانون الثاني/يناير، قدّم مسؤولون من الولايات المتحدة والناتو ردهم على مطالب بوتين، حيث قالوا إنّه يتعذّر التعهّد بمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، معبرين في الوقت ذاته عن الاستعداد للتباحث بشأن قضايا أخرى عالقة، مثل مسألة التسلّح.
شباط/فبراير
تسارعت وتيرة الجهود الدبلوماسية الراغبة في احتواء الأزمة عبر أوروبا، فحاول الرئيس الفرنسي ماكرون، والمستشار الألماني شولتز التدخل والحديث مع الروس، وسافر ماكرون للقاء شخصيًا ببوتين في موسكو. إلا أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمر بنقل 1000 جندي أمريكي من ألمانيا إلى رومانيا، كما أمر بحشد 2,000 جندي أمريكي إضافي في بولندا وألمانيا.
في العاشر من شباط/فبراير، بدأت روسيا تدريبات عسكرية مشتركة مع بيلاروسيا، وبلغ عدد القوات الروسية في الدولة المحاذية للحدود الشمالية لأوكرانيا زهاء 30,000 عسكري.
في 11 شباط/فبراير، دعت الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان رعاياها إلى مغادرة أوكرانيا، وأعلن بايدن عن نقل 2,000 جندي إضافي من الولايات المتحدة إلى بولندا.
الترا صوت
————————–
لافروف في لقائه مع بوتين: توجد “فرص” للتوصل إلى اتفاق مع الغرب بشأن أوكرانيا
أعلنت روسيا، اليوم الاثنين، أن هناك “فرصاً” لحل الأزمة الأوكرانية من خلال القنوات الدبلوماسية، في وقت يخشى فيه الغرب أن تتحول التوترات إلى صراع مسلح.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، خلال لقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين بث عبر التلفزيون: “يجب أن أقول إن هناك دائماً فرصة لحلّ المشكلات التي تحتاج إلى حلّ”، مضيفاً أنّ فرص الحوار “لم تستنفد”.
الكرملين: تخلي أوكرانيا عن الانضمام للناتو يساعد بالتفاوض
من جهة أخرى، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف، اليوم الاثنين، إن تخلي أوكرانيا عن فكرة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو) من شأنه أن يساعد في التفاوض بشأن الضمانات الأمنية التي طالبت بها روسيا.
وأضاف بيسكوف أن رفض أوكرانيا، بشكل رسمي، موضوع الانضمام إلى الحلف سيساعد في صياغة رد ملموس على مخاوف روسيا الأمنية، بحسب ما أورد موقع “روسيا اليوم”.
وتابع ممثل الكرملين القول: “من دون شك، سيساعد الرفض المسجل بشكل رسمي من جانب أوكرانيا لفكرة الانضمام إلى الناتو في دفع المفاوضات قدماً. بالطبع، هذه خطوة من شأنها أن تسهم بشكل كبير في صياغة رد أكثر جدوى على المخاوف الروسية”.
غير أن الكرملين قال، في المقابل، إنه لا يرى تصريحات السفير الأوكراني لدى لندن مؤشراً على تغيير رسمي في موقف كييف بشأن رغبتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وفي وقت لاحق، نقلت وكالة الإعلام الروسية عن الكرملين قوله إن الرئيس بوتين وافق من حيث المبدأ على ردود وزارة الخارجية على الغرب بشأن الضمانات الأمنية التي تسعى إليها موسكو.
وقالت إن الدبلوماسيين الروس بصدد الانتهاء من نص الردود.
أوكرانيا مستعدة لإبداء “المرونة”
وجاء رد الكرملين سريعاً على تصريحات نقلتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) عن سفير أوكرانيا لدى بريطانيا فاديم بريستايكو، الذي قال إن بلاده قد تتخلى عن سعيها إلى الانضمام لحلف شمال الأطلسي لتجنب حرب مع روسيا، فيما سيكون تنازلاً كبيراً لموسكو رداً على حشد قوات على الحدود.
وقال السفير فاديم بريستايكو، لـ”بي.بي.سي”، إن أوكرانيا مستعدة لإبداء “المرونة” بشأن هدفها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وهي خطوة قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنها قد تشعل حرباً.
ونُقل عن بريستايكو قوله رداً عن سؤال عما إذا كانت كييف قد تغير موقفها من الانضمام للحلف: “ربما نفعل. خاصة بعد تهديدنا بهذه الطريقة وابتزازنا والضغط علينا من أجل ذلك”.
تقارير دولية
المستشار الألماني يزور أوكرانيا على وقع تنامي المخاوف بشأن غزو روسي
روسيا مستعدة لفتح النار
وارتفع مستوى التهديد بين روسيا والغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، إذ نقلت وكالة “إنترفاكس” الروسية للأنباء عن مسؤول عسكري روسي قوله، اليوم الاثنين، إن موسكو مستعدة لفتح النار على أي سفن أو غواصات أجنبية تدخل مياهها الإقليمية بصورة غير مشروعة.
غير أن المسؤول ذكر أن أي قرار من هذا القبيل لن يُتخذ إلا على “أعلى المستويات”.
ونفت الولايات المتحدة، يوم السبت، أنها نفذت عمليات عسكرية في المياه الإقليمية الروسية، بعد أن قالت موسكو إن سفينة حربية روسية طاردت غواصة أميركية في المياه الروسية في المحيط الهادي.
وتجري روسيا تدريبات عسكرية مشتركة مع بيلاروسيا، الجارة الشمالية لأوكرانيا. وقالت وزارة الدفاع الروسية إن مقاتلات من طراز سوخوي سو-30 نفذت دوريات مشتركة على الحدود بين روسيا وبيلاروسيا، اليوم الاثنين.
ونقلت صحيفة “إزفيستيا” عن مصادر عسكرية قولها إن روسيا سترسل أيضاً مجموعة من السفن المسلحة بصواريخ كروز وصواريخ أسرع من الصوت إلى البحر الأسود والبحر المتوسط.
وأعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أنّ جزءاً من المناورات العسكرية الضخمة شارف على الانتهاء.
وقال شويغو خلال لقاء مع الرئيس الروسي بُثّ عبر التلفزيون: “أُجريت تمارين، جزء منها انتهى وجزء آخر شارف على الانتهاء. وما زالت تمارين أخرى جارية، نظراً إلى حجم هذه التدريبات التي تمّ التخطيط لها وبدأت في كانون الأول/ديسمبر”.
وأخبر شويغو بوتين بأنّ مناورات “واسعة النطاق” أجريت عبر المناطق العسكرية الغربية لروسيا وفي كل أساطيلها تقريباً “في بحر بارنتس والبحر الأسود وبحر البلطيق ومع أسطول المحيط الهادئ”.
وقال الأسطول الروسي في البحر الأسود، يوم السبت، إن أكثر من 30 سفينة بدأت تدريبات بالقرب من شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو عام 2014، في إطار مجموعة واسعة من التدريبات من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي، بمشاركة جميع أساطيلها، في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط.
—————————
الأزمة الأوكرانية:الغرب مستعد لعقوبات “هائلة”..وكييف تفضل التراجع خطوة
أكد وزراء مالية دول مجموعة السبع الاثنين، استعداد بلادهم لفرض عقوبات اقتصادية ومالية ذات “عواقب هائلة وفورية على الاقتصاد الروسي” خلال “مهلة قصيرة جداً”، في حال شن هجوم عسكري على أوكرانيا.
وأعلن وزراء مالية الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وكندا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان في بيان، أن “أولويتنا الآنية هي دعم الجهود الرامية إلى نزع فتيل الأزمة”. لكنهم توعدوا بأن “أي عدوان عسكري روسي جديد ضد أوكرانيا، سيُقابل برد سريع وفعال”.
وأكد سفير روسيا لدى السويد فيكتور تاتارنتسيف، أن موسكو “لا تبالي” بخطر التعرض لعقوبات غربية في حال غزت أوكرانيا. وقال لصحيفة “أفتونبلاديت” السويدية: “لا نبالي إطلاقا بعقوباتهم”.
وأضاف الدبلوماسي الروسي “خضعنا في الأساس للعديد من العقوبات، وكان لذلك أثرٌ إيجابيٌ على اقتصادنا وزراعتنا”. وتابع: “بات اكتفاؤنا الذاتي أكبر وتمكنا من زيادة صادراتنا. لا أجبان إيطالية أو سويسرية لدينا، لكننا تعلمنا صناعة أجبان روسية بنفس الجودة باستخدام وصفات إيطالية وسويسرية”. وقال: “العقوبات الجديدة ليست بالأمر الإيجابي، لكنها ليست بالسوء الذي يتحدث عنه الغرب”.
يأتي ذلك فيما تتدفق شحنات من الأسلحة النوعية إلى أوكرانيا من دول حليفة، وآخرها شحنات وصلت من ليتوانيا، مع تصاعد المخاوف الغربية من احتمال قيام روسيا بعمل عسكري ضد جارتها الغربية، وتشير أقرب التقديرات إلى أنه قد يبدأ الثلاثاء.
وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) جون كيربي إنه لا يستطيع تأكيد تقارير قالت إن روسيا تعتزم غزو أوكرانيا الأربعاء. وقال ل”فوكس نيوز صنداي”: “لست في وضع يسمح لي بتأكيد هذه التقارير”. وأضاف أن الولايات المتحدة تعتقد أن “عملاً عسكرياً كبيراً يمكن أن يحدث في أي يوم الآن”.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قالت في تقرير، إن المسؤولين الأميركيين حصلوا على معلومات استخباراتية تفيد بأن روسيا تدرس بدء العمل العسكري المحتمل ضد أوكرانيا الأربعاء. لكن الصحيفة نقلت عن عدد من المسؤولين -الذين تم إطلاعهم على تلك المعلومات- احتمال أن تكون الإشارة إلى تاريخ محدد جزءاً من محاولة تضليل روسية.
من جهتها، تبدو أوكرانيا مستعدة لتقديم بعض التنازلات لتفادي الغزو الروسي. وقال السفير الأوكراني في لندن فاديم بريستايكو إن بلاده “تدرس إمكانية التخلي عن الانضمام لحلف شمال الأطلسي”، من أجل منع حرب مع روسيا، وفق ما نقلت عنه وكالة رويترز اليوم.
فيما اعتبر المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف إن تخلي أوكرانيا عن فكرة الانضمام إلى الناتو من شأنه أن يساعد في التفاوض بشأن الضمانات الأمنية التي طالبت روسيا بها. وقال: “من دون شك سيساعد الرفض المسجل بشكل رسمي من جانب أوكرانيا لفكرة الانضمام إلى الناتو، في دفع المفاوضات قدماً. بالطبع هذه خطوة من شأنها أن تسهم بشكل كبير في صياغة رد أكثر جدوى على المخاوف الروسية”.
من جانبه، قال وزير الخارجية الأوكرانية دميترو كوليبا إن بلاده طلبت عقد اجتماع مع مسؤولين روس وأعضاء في مجموعة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لبحث التوتر المتصاعد عند حدودها. وأضاف أن روسيا تتجاهل طلب أوكرانيا بتفسير زيادة قواتها عند الحدود بين الدولتين.
واعتبر كوليبا أن “الخطوة التالية” هي طلب عقد اجتماع خلال الساعات ال48 المقبلة من أجل “الشفافية” بشأن خطط روسيا. وأضاف أنه “إذا كانت روسيا جادة عندما تتحدث عن عدم قابلية الأمن للتجزئة في فضاء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، فعليها الوفاء بالتزامها بالشفافية العسكرية من أجل تهدئة التوترات وتعزيز الأمن للجميع”.
في السياق، نقلت وكالة “بلومبرغ” عن مصادر مطلعة أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يتمكن خلال اتصال هاتفي مع نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، من الرد بشكل واضح على طلب تقديم المزيد من المساعدة لأوكرانيا. كذلك لم يرد بايدن خلال الاتصال الذي جرى الأحد، على دعوة زيلينسكي له بزيارة كييف.
ووفقاً لمصدر آخر، ستدرس إدارة بايدن في غضون ذلك “بعمق”، إمكانية تقديم مساعدة اقتصادية إضافية لأوكرانيا. ورأت “بلومبرغ” أنه من غير المرجح أن يزور الرئيس الأميركي مدينة كييف، وسط دعوات إدارته الى الأميركيين لمغادرة أوكرانيا.
—————————–
==================
تحديث 15 شباط 2022
——————————-
استعدوا لتداعيات الحرب الأوكرانية/ روبرت فورد
لا أعرف على وجه اليقين ما إذا كانت روسيا ستغزو أوكرانيا في النهاية أم لا، لكنني أعلم جيداً أنه إذا حدث ذلك، ستبدأ فصول حرب باردة جديدة، الأمر الذي سيخلف تداعيات كبرى على الاقتصاد العالمي. وفيما يلي ثلاث عواقب كبرى تلوح في الأفق.
أولاً: سيطلق غزو أوكرانيا رسمياً حرباً باردة جديدة بين واشنطن وحلفائها الرئيسيين من جانب، وروسيا وربما الصين على الجانب الآخر. وتبدو لغة الخطاب ومستوى الانفعال داخل واشنطن متأججين بالفعل. والمؤكد أنه إذا رأينا الدماء والدمار جراء الغزو الروسي عبر وسائل الإعلام، ستزداد المشاعر قوة.
في خضم هذا الجو الغاضب، لن تقبل واشنطن بفكرة أن تسعى دول لموازنة علاقاتها بين الولايات المتحدة وروسيا (أو الصين). لقد رأينا بالفعل واشنطن تدفع للحد من النفوذ الصيني في بعض دول المنطقة. ومن المعتقد أن رقعة هذه الضغوط ستتزايد وستكتسب القدر الأكبر من الحساسية فيما يخص العلاقات العسكرية مع روسيا والصين.
ومن المهم هنا أن نتذكر أنه كانت هناك ضغوط سياسية شديدة لفرض عقوبات أميركية بعد شراء أنقرة نظام دفاع جوي روسياً متقدماً. وبالفعل، فرض دونالد ترمب، الذي كان صديقاً لإردوغان، عقوبات ضد تركيا في عام 2020، وهدد الأميركيون بفرض العقوبات ذاتها ضد مصر بسبب شراء المصريين طائرات مقاتلة روسية. والمؤكد أن هذه الضغوط لفرض العقوبات ستتزايد في الفترة المقبلة، وإذا اشترى العراقيون نظام دفاع جوي روسياً متقدماً، فإن واشنطن بالتأكيد ستهددهم بقوة بفرض عقوبات ضدهم.
والواضح أن أصعب قرار أمام واشنطن لن يكون فرض عقوبات ضد مصر أو العراق، وإنما اضطرار واشنطن للتفكير في فرض عقوبات ضد الهند لشرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية ذاتها (إس – 400) التي اشترتها أنقرة من قبل. في ديسمبر (كانون الأول)، ظهرت تقارير إعلامية حول أن واشنطن ستتجاهل شراء الهند لمنظومة «إس – 400»، وذلك لحاجتها للدعم الهندي في مواجهة الصين. إلا أنه حال وقوع خسائر بشرية فادحة في أوكرانيا، ستشتعل مشاعر الغضب داخل واشنطن إزاء العلاقات العسكرية الهندية مع روسيا.
ثانياً: ستأتي ثانية العواقب الكبرى لاندلاع حرب في أوكرانيا، من ردود الفعل الروسية على العقوبة الغربية ضد موسكو إذا غزت أوكرانيا. وتشير الاحتمالات إلى أن العقوبات الغربية ستكون غير مسبوقة في نطاقها.
من جهته، يواجه الرئيس بايدن حاجة سياسية ملحة للتعامل بصرامة مع روسيا إذا أقدمت على غزو جارتها، خصوصاً بعد الانسحاب الفوضوي من أفغانستان والقلق داخل دوائر واشنطن من أن الرد الضعيف في ملف أوكرانيا سيشجع العدوان الصيني في آسيا.
في الواقع، من الصعب تخيل أن روسيا ستظل ساكنة بعد أن تفرض واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون والآسيويون عقوبات ضدها. من الناحية الجيوسياسية، سيخفض الروس مستوى تعاونهم مع الأميركيين في شرق سوريا، وقد يبحثون عن طرق لتقديم المعلومات الاستخباراتية أو مساعدات مادية بهدوء لطهران، في الوقت الذي يهاجم حلفاؤها من الميليشيات القواعد الأميركية الصغيرة في شرق سوريا.
وبالمثل، ستجد روسيا سبلاً لجعل الحياة أكثر صعوبة أمام تركيا داخل سوريا وليبيا، إذا تسببت تركيا في المزيد من المشكلات لروسيا داخل أوكرانيا.
أما فيما يتعلق بالمسألة الأكبر المتعلقة بالاتفاق النووي الإيراني، يدرك بوتين بالتأكيد أن القنبلة النووية الإيرانية تمثل مشكلة ملحة أكبر أمام الأميركيين وحلفائهم مما هي عليه أمام روسيا. وستزداد صحة هذه المقولة إذا ما تسبب الضغط الأميركي في الحد من جهود توسيع نطاق العلاقات الروسية بمنطقة الخليج العربي. وبالمثل، إذا أقدمت إسرائيل، تحت وطأة ضغوط أميركية، على تقييد علاقاتها مع روسيا، فستنظر موسكو في كيفية تعاملها مع قضية الضربات الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني في سوريا. في كل الأحوال، تبشر ردود الأفعال الغربية تجاه غزو أوكرانيا بظهور فرص جديدة أمام إيران.
ثالثاً: سيكون التأثير الاقتصادي للرد الروسي على العقوبات مؤلماً هو الآخر، ذلك أن أوكرانيا مُصدر رئيسي للقمح، خصوصاً من مناطقها الشرقية المرشحة لأن يدور بها قتال عنيف واضطراب في الإنتاج. علاوة على ذلك، راكمت روسيا أكثر من 600 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، وربما تقرر وقف صادراتها من الحبوب هي الأخرى. ولن يؤثر ارتفاع أسعار المواد الغذائية على اقتصادات الشرق الأوسط فحسب، وإنما سيفاقم كذلك التضخم داخل الولايات المتحدة وأوروبا. والأسوأ من ذلك فيما يخص الاقتصادات الغربية، إمكانية حدوث اضطراب بأسواق الطاقة العالمية إذا انخفضت صادرات النفط الروسي بشكل كبير. وسيأتي ارتفاع أسعار الطاقة العالمية في توقيت سيئ للغاية للرئيس بايدن والحزب الديمقراطي اللذين يواجهان انتخابات تشريعية صعبة في نوفمبر (تشرين الثاني).
سيؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى زيادة أسعار كل شيء تقريباً على مستوى الاقتصاد الأميركي، وسيرغم البنك المركزي الأميركي على رفع أسعار الفائدة بسرعة أكبر. وبدأت أرى المحللين الاقتصاديين في وول ستريت في نيويورك يحذرون من ركود اقتصادي.
بمرور الوقت، ستدفع أسعار الطاقة العالمية المرتفعة باتجاه زيادة إنتاج النفط الأميركي، لكن ليس قبل انتخابات نوفمبر. حتى لو كانت إدارة بايدن لا تريد أي التزامات عسكرية كبيرة جديدة في الشرق الأوسط، فإنها ستحتاج إلى علاقات أفضل مع مصدري الطاقة العرب. وفي هذا الصدد، تعد زيارة أمير قطر المثال الأول في هذا الاتجاه. في الحقيقة هذه الأخبار السارة الوحيدة التي يمكنني معاينتها للدول العربية من وراء غزو أوكرانيا هذا.
الشرق الأوسط
———————————
بوتين… ومرحلة ما بعد أوكرانيا/ خيرالله خيرالله
بين أميركا الحائرة وأوروبا المفككة يمارس بوتين هوايته باللعب على نقاط الضعف لدى خصومه ويساعد في بناء نظام دولي جديد بالتعاون مع الصين التي خرقت كل الاتفاقات التي وقعتها مع بريطانيا.
كشفت الأزمة الأوكرانيّة إدارة جو بايدن. هناك إدارة أميركيّة تعتبر نفسها في مواجهة مع الصين، فيما تبدو مستعدّة للاستسلام أمام “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. في ظلّ مثل هذه المعادلة ليس مستغربا أن يذهب فلاديمير بوتين إلى النهاية في أوكرانيا بعدما اكتشف أنّه أمام إدارة أميركيّة لم تستطع أن تكون أكثر من امتداد لإدارة باراك أوباما.
تستطيع إدارة بايدن الصراخ والتهديد مقدار ما تشاء. في النهاية لا تستطيع إجبار روسيا على التراجع في أوكرانيا. أيّ نوع من العقوبات تستطيع فرضها على روسيا في وقت استطاع بوتين إعادة فتح كلّ القنوات مع الصين؟
أكثر من ذلك، يظلّ الكلام الأوروبي عن عقوبات على روسيا من النوع الذي لا معنى له في ضوء الحاجة الأوروبيّة إلى الغاز الروسي.
ليست ردود فعل إدارة بايدن وليدة اليوم بمقدار ما هي وليدة سلسلة إخفاقات أميركيّة منذ اليوم الأوّل الذي تخاذل فيه جيمي كارتر أمام إيران في تشرين الثاني – نوفمبر 1979 يوم احتجز “طلّاب” إيرانيون طاقم السفارة الأميركية في طهران. بقي هؤلاء رهائن لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” طوال 444 يوما. أطلق الرهائن الـ52 بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، أواخر العام 1980 وبعد التأكّد من سقوط كارتر أمام رونالد ريغان. كان مندوب لريغان (وليم كيسي) قد عقد صفقة سرّية مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” تقضي بعدم إطلاق الرهائن قبل يوم الانتخابات.
كان تخاذل كارتر كافيا كي تبدأ سلسلة من التنازلات الأميركيّة المستمرة إلى اليوم مع بعض الاستثناءات. من بين الاستثناءات إخراج العراق من الكويت في عهد جورج بوش الأب في مثل هذه الأيّام من العام 1991 واغتيال قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” في كانون الثاني – يناير 2020. في معظم ما تبقى من أحداث، لم تقدم الإدارات الأميركية المتلاحقة سوى على وضع نفسها في تصرّف “الجمهوريّة الإسلاميّة”، خصوصا بعد اجتياح العراق في العام 2003.
قبل انتهاء الحرب الباردة وبعد انتهائها، وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي وبعده، كان بوتين يراقب وذلك منذ أن كان ضابطا في الاستخبارات السوفياتية يعمل في ألمانيا الشرقية لدى انهيار جدار برلين. لا شكّ أن بوتين امتلك تلك القدرة على الربط بين الأحداث وصولا إلى عهد أوباما ونقاط التحوّل التي شهدها العالم طوال السنوات الثماني التي أمضاها في البيت الأبيض. استطاع التلاعب بالرئيس الأميركي صيف العام 2013 عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيمياوي في حربه على شعبه. أقنع بوتين أوباما، الذي كان مهتما باسترضاء إيران بعد دخوله في مفاوضات سرّية معها، بصرف النظر عن استخدام القوة في سوريا. كانت تلك نقطة التحوّل التي مهدت للتدخل الروسي المباشر من أجل إنقاذ بشّار من السقوط النهائي… على أن يسلّم ما لديه من سلاح كيمياوي ويستعيض عنه بالبراميل المتفجرة!
يظلّ الكلام الأوروبي عن عقوبات على روسيا من النوع الذي لا معنى له في ضوء الحاجة الأوروبيّة إلى الغاز الروسي
في كلّ مكان من هذا العالم، كشفت أميركا عجزها… حتّى مع فنزويلا التي ارتكب النظام فيها كلّ الجرائم الممكن ارتكابها في حقّ شعبه.
لعلّ أهمّ ما لاحظه بوتين أنّ حلفاء الولايات المتحدة لا يثقون بها. على سبيل المثال وليس الحصر، لا بدّ أن يكون الرئيس الروسي توقّف طويلا عند التصرفات الأميركية تجاه ما يجري في اليمن والعدوانية الإيرانية تجاه دول الخليج العربي. ثمّة إصرار أميركي في مفاوضات فيينا غير المباشرة مع الإيرانيين، على الرغم من الصواريخ التي تطلقها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في اتجاه أبوظبي، على تفادي أي ربط بين الملفّ النووي الإيراني وسلوك إيران خارج حدودها.
من يكتشف كل نقاط الضعف الأميركيّة هذه، لا يستطيع إلّا العمل على الاستفادة منها. في النهاية صارت لدى روسيا قاعدتان على الساحل السوري وذلك بعدما استقرت فيه نهائيا ابتداء من أيلول – سبتمبر 2015. قبل ذلك، استعادت روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ولم تحرّك أوروبا وأميركا ساكنا. كانت الذريعة أن شبه جزيرة القرم روسيّة أصلا وقد تخلّى عنها الزعيم السوفياتي خروشوف لأوكرانيا في العام 1954 من منطلق أن أوكرانيا كانت إحدى الجمهوريات السوفياتيّة.
بين أميركا الحائرة وأوروبا المفككة، يمارس فلاديمير هوايته المفضلة المتمثلة باللعب على نقاط الضعف لدى خصومه. إنّه يساعد في بناء نظام دولي جديد بالتعاون مع الصين التي استطاعت خرق كلّ الاتفاقات التي وقعتها قبل الانسحاب البريطاني من هونغ كونغ. ليس مستبعدا أن تكون عين الصين على تايوان في انتظار اللحظة التي ستنقض فيها عليها.
هناك عالم يتغيّر. مؤسف أنّه يتغيّر نحو الأسوأ في ظلّ وجود إدارة أميركيّة حائرة لا يعرف الكثيرون، خصوصا دول المنطقة، كيف التعاطي معها. الأكيد أنّ ما يثير مخاوف دول المنطقة، بما في ذلك تركيا حيث بدأ رجب طيّب أردوغان يعيد النظر بحساباته وطموحاته المبالغ فيها، ذلك الاستسلام أمام إيران. ذهب أردوغان أخيرا إلى أبوظبي ليؤكّد أنّه قادر على أن يتغيّر وأن يكون أكثر واقعيّة. عرف أخيرا معنى الفشل الاقتصادي والثمن الذي على دولة من دول العالم الثالث دفعه عندما تسعى للعب دور يفوق حجمها في المنطقة المحيطة بها وما يتجاوز هذه المنطقة.
لا شكّ أن فلاديمير رجل حاذق تلاعب بأوباما ويتلاعب حاليا ببايدن. سيسجّل نقاطا على الأميركيين، على الرغم من أن اللعبة التي يمارسها تنطوي على مخاطر كبيرة. هذا لا يمنع من طرح تساؤلات تتناول ما يمكن أن يحصل في المدى الطويل. تتعلّق هذه التساؤلات بالهدف الذي ينوي بوتين تحقيقه في مرحلة ما بعد أوكرانيا. هل يكتفي بتحييد أوكرانيا ومنع انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي… أم يريد الذهاب إلى أبعد من ذلك أوروبيا؟
ثمّة نقطة يفترض أن يتوقف عندها بوتين. تتعلّق هذه النقطة بالاقتصاد. ما أدّى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي هو الاقتصاد قبل أيّ شيء آخر. الاقتصاد أهمّ من الصواريخ والقنابل النوويّة والجيوش الجرارة. روسيا فشلت حيث نجحت الصين التي تعاني، على الرغم من نجاحها الاقتصادي، من نقاط ضعف كثيرة على الصعيد الداخلي. هل يدرك بوتين ذلك مع ما يعنيه من أنّ الانتصارات الآنية شيء والمحافظة عليها في المدى الطويل شيء آخر!
إعلامي لبناني
العرب
———————————
العالم عشيّة حرب قد تلِد حروباً/ عبد الوهاب بدرخان
روسيا جاهزة لغزو أوكرانيا. الحشود والخطط العسكرية وسيناريوات زعزعة التماسك في الغرب الأوكراني جاهزة أيضاً. لا تتردّد المصادر الأميركية في توقّع سقوط كييف “خلال ثمانٍ وأربعين ساعة”. لا معنى لقصر التقدم الروسي على الشرق الأوكراني الواقع اليوم تحت نفوذه، فموسكو تعرف هذه البلاد وكانت تحتلها سوفياتياً، ثم إنها أهدتها شبه جزيرة القرم عام 1945، لكن فلاديمير بوتين قرّر استعادتها وضمّها “سوفياتياً” في 2014.
لم يفعل ذلك بدافع الحاجة الى النشاط الاقتصادي لشبه الجزيرة وموانئها، أو لتوظيفها في الهيمنة الروسية على البحر الأسود فحسب، بل لإعادة أوكرانيا كلّها الى الفلك الروسي، مثلها مثل بيلاروسيا. وبعد أن “تحلّ” موسكو مشكلتها الأوكرانية، لن تتأخّر بكين في مباشرة “حلّ” مشكلتها التايوانية. أصبح هذا ضمن المتوقّع مع “العهد الجديد في النظام الدولي”، كما يبشّر به الاتفاق الروسي – الصيني.
بالنسبة الى بوتين، يمكن أن يكون التفاوض مجدياً لكن بعد الغزو، أما الآن ففشلت كل المساعي الدبلوماسية لسبب واضح: انتظر تنازلات ولم تأتِ. هي مطلوبة تحديداً من الغرب الأميركي – الأوروبي. منذ اللقاء الأميركي – الروسي الأول في جنيف (10/01/22)، وما أعقبه من لقاءات في بروكسل وفيينا، كان هامش المناورة الغربي ضيّقاً: يمكن التفاهم مع موسكو على قيود متبادلة لنشر الصواريخ الهجومية، وعلى آليات وتدابير شفافة للحدّ من أي احتكاك أو تصعيد في البحر والجو. أما غير الممكن فهو أن يتعهّد حلف عسكري مثل “الناتو” عدم ضمّ أوكرانيا الى عضويته، فهذا يخالف ميثاقه الأساسي، عدا أنه يبعث برسالة مقلقة الى أعضائه من الدول الاشتراكية سابقاً.
ما دام هذا التعهد “مستحيلاً”، فإن “الهواجس الأمنية” لموسكو لن تعالج. وبعد مراسلات عديدة فحص بوتين الأجوبة الأميركية والأطلسية ووجد أنها “تتجاهل” مطالبه. إذاً، فالخيار الآخر هو أن تحقق روسيا ما تريده بقدراتها، حتى لو “اضطرّت” لغزو أوكرانيا. لذا حشدت حتى الآن مئة وخمسين ألف عسكري مع آلياتهم ومعدّاتهم، ورفدتهم بقوات إضافية على الحدود البيلاروسية – الأوكرانية، وتعتبر أنها أعطت الدبلوماسية فرصة “كاملة” منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2021، وفي الأثناء قدّمت كل المؤشّرات (هجمات إلكترونية تجريبية على خوادم مؤسسات الدولة في كييف وقواها العسكرية، طلعات استطلاعية…) الى كونها في صدد الإعداد للتدخّل، لكنها تنفي نفياً بروباغندياً قاطعاً أنها ستغزو. كان هذا النفي ليكون مقنعاً لولا الحشود التي رفضت موسكو خفضها كإشارة الى رغبتها في عدم/ أو خفض التصعيد.
عندما تُطلع الاستخبارات الأميركية الأعضاء المعنيين في الكونغرس والحلفاء الأوروبيين على ما تعتبر أنها خطط لـ”غزو واسع النطاق”، فإن الأمر يتجاوز الشائعات أو “حملات بث الذعر”، كما يقول الروس. وعندما يُكشف جانب من المعلومات وتجد العواصم الغربية ضرورة لمغادرة رعاياها وتقليص عدد دبلوماسييها في كييف، يكون الواقع على الأرض قد تخطّى إمكان لجمه بالسياسة.
ربما لا تزال هناك رهانات بسيطة على الاتصالات الجارية، لكن أحداً لم يعد يتصوّر بوتين متراجعاً من دون مكسب أساسي جلي لا يمكن أن ينتزعه إلا من الولايات المتحدة. أما التحذيرات من “عقوبات قاسية وكلفة كبيرة” ومن ردٍّ غربي “سريع وشديد وموحّد” فقد استبقه بوتين باتفاق غير مسبوق مع الزعيم الصيني شي جين بينغ. وكما أن متظاهراً في كييف رفع لافتة تدعو أوكرانيا للانضمام “الى الناتو فوراً”، فإن الرئيس الروسي يرى الفرصة سانحة له الآن للتحرك فوراً، استباقاً لأي مفاجأة، علماً بأنها كانت ولا تزال مستبعدة.
أبدت الدول الغربية إدراكاً لصعوبة ضمّ أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي، وبالتالي تعقيدات ضمّها الى “الناتو”، فلم تتعجّل بتّهما تحسّباً لردّ الفعل الروسي، واستعاضت عن ذلك بالدعم السياسي واللوجستي وحتى العسكري. ولأنها لم تفعل، فإن بوتين سيقدم على رفع هذا الملف عن الطاولة، نهائياً. بالطبع لو كانت هناك قوات أطلسية في أوكرانيا لما كان دفع بالسيناريو الذي ينفّذه حالياً. فهو يستطيع أن يغزو بسهولة، أمّا إدارة الأزمة لاحقاً فلن تكون بالسهولة نفسها.
حين تحدّث جو بايدن عَرَضاً عن “توغّلٍ بسيط” بدا كأنه يعرض على بوتين “حلاً وسطاً”، بل قال بوضوح إنه لن يرسل قوات أميركية “لخوض حرب مع روسيا” في أوكرانيا. لكن فكرة “تقاسم النفوذ” في أوكرانيا لم تعد تغري بوتين كما كانت تخامره أيام “الوفاق المكتوم” مع دونالد ترامب.
وإذ تتوقع الاستخبارات الأميركية الآن خسائر بشرية ما بين 25 الى 50 ألف مدني وما بين 5 الى 25 ألف عسكري أوكراني، كذلك ما بين 3 الى 10 آلاف جندي روسي، فليس بوتين مَن يتوقف عند هذه التقديرات إذا كان تحقيق الهدف ممكناً، ولا يزعجه نزوح ملايين الأوكرانيين لاجئين الى دول الجوار. كانت روسيا قد طلبت خلال المفاوضات أن يقلّص الأطلسي حضوره في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، وألّا يشملها بشبكات الصواريخ الهجومية. لم تنجح الدبلوماسية في تكريس مبدأ “الحرب المحرّمة” في أوروبا، لذلك ترسل دول “الناتو” حالياً، بما فيها أميركا، تعزيزات عسكرية الى هذه الدول، تحسباً لحرب أوكرانيا و”ما بعدها”.
من شأن هذه الحرب أن تكسر حلقة صلبة في بنية نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا ليس وليد صدفة. هذه الحرب ليست ضد أوكرانيا، بل إنها ضد الأطلسي، ضد القوة العظمى الأميركية التي لم يبحث اتفاق بوتين – شي عن أي غموض في نيّة تحدّيها ومواجهتها. طوال عقدين عملت الصين وروسيا على تجسيد التعددية القطبية في الواقع الدولي، وقد يكون الوقت حان الآن لتغيير قواعد اللعبة عسكرياً وسياسياً: لا توسيع لـ”الناتو”، ولا تشكيل لتحالف أمني جديد، ولا تدخّلات أو “ثورات ملوّنة” تحت شعار الديموقراطية… بكين تدعو الى معالجة “القلق الروسي من الناتو”، وموسكو تدعم “الصين الموحّدة مع تايوان كجزء لا يتجزّأ منها”. هي عودة ساخنة الى الحرب التي لم تعد/ ولن تبقى “باردة”. كانت الصين تواكب التنمّر البوتيني على الغرب وتستفيد منه، وشاركت روسيا في حصد مصالح من الصراع الأميركي – الإيراني. وكما ينعكس التلاقي الاستراتيجي الصيني – الروسي على الغرب والشرق معاً، فإن إيران ارتضت أن تصبح إحدى أدوات هذا التلاقي لتحقّق أهدافها من خلاله.
——————————-
الصداع الأوكراني/ بسام مقداد
الأزمة الأوكرانية المتفجرة تصيب العالم بأسره بصداع تزيده ألماً مواعيد إندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا التي تضربها مواقع الإعلام الغربية. كما يرفع حدة الصداع إجلاء الولايات المتحدة وعدد من حلفائها سفاراتها من كييف ونقل خدماتها القنصلية إلى مدينة لفوف غربي أوكرانيا، في حين أن البلدان الأوروبية تبقي على سفاراتها في العاصمة الأوكرانية. وكالة الأنباء الأميركية Bloomberg نقلت عن مصادرها أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يبدأ في 15 الجاري، بينما تقول “دير شبيغل” الألمانية أن الهجوم ينبغي توقعه في 16 الشهر عينه. وكانت الوكالة الأميركية قد اعتذرت مطلع الشهر الجاري عن خطئها في تحديد موعد إندلاع الحرب، لكنها عادت لاحقاً ونقلت عن مسؤول أميركي قوله بأنها ستندلع قبل نهاية الألعاب الأولومبية في 20 الجاري. صحيفة Politico الأميركية نقلت عن الرئيس الأميركي قوله في إجتماع عن بعد مع الزعماء الأوروبين والناتو بأن الهجوم الروسي سيبدأ الأربعاء في 16 الجاري. مستشار الأمن القومي الأميركي جيك ساليفان دعا الأميركيين نهاية الآسبوع المنصرم إلى مغادرة أوكرانيا خلال 24-48 ساعة.
وحدها متابعة هذه التوقعات ومصادر بثها تكفي للإصابة بالصداع. لكن يبدو أن الأوكرانيين والروس هم وحدهم، من بين سائر العالم، لا يعانون من الصداع، أو يعانون من صداع أقل حدة. على الأقل هذا ما يؤكده التواصل مع الأصدقاء في كل من موسكو وكييف.
مراسلة صحيفة Novaya الروسية المعارضة في كييف أوليا مسافيروفا، وفي تواصل هاتفي معها صباح أمس الإثنين، قالت ل”المدن” بأنها جالت الأحد على ثلاثة سوبرماركت ورأت كيف يقبل الناس على شراء الثياب الربيعية ويتسوقون حاجاتهم اليومية من السلع، وليس بكميات تشير إلى النية في تخزينها. وحاولت مع أسرتها تناول طعام الغداء، إلا أنها فشلت في دخول مطعمين لعدم وجود طاولات فارغة. وتقول أن حديث الحرب لا يطغى على الكلام في الشارع والتجمعات، إلا أن هذا لا يعني أن الخشية من وقوع الحرب ليست موجودة لدى الأوكرانيين، لكنها خلف مشاغلهم اليومية الحياتية. وتقول بأن الصمت المطبق عن كلام الحرب يسود بين أولئك الذين عاشوا أهوالها في مناطق الدونباس ودانتسك وسواها، وهجروا من منازلهم التي نهبت محتويات ما سلم من الدمار.
في إجابتها عن الأسئلة التي طرحتها عليها “المدن”، غير السؤال عن حياة الشارع الأوكراني اليومية، قالت أوليا بأن دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الرئيس الأميركي جو بايدن لزيارة كييف، هي دعوة في وقتها تماماً. وترى أن زيلينسكي محق في قوله بأن الزيارة تساهم في التخفيض من حدة التوتر المتصاعدة مع كل ساعة تمر، إلا أن الرئيس يدرك أن هذه الزيارة لن تتم، في الوقت الذي تجلي فيه الولايات المتحدة سفارتها من كييف وتدعو رعاياها الى مغادرة أوكرانيا على وجه السرعة.
وعن التناقض في تصريح الرئيس الأوكراني بأن غاية الكرملين من تصعيد التوتر ليس الوصول به إلى الحرب، بل بث الذعر في نفوس الأوكرانيين وإثارة البلبلة والفوضى في الشارع الأوكراني. قالت بأن الأوكرانيين يعيشون الحرب منذ ثماني سنوات ويعرفون تماماً سلوك الكرملين، حيث يصعد في كل مرة يتفاقم فيها صراعه مع الغرب. أما بشأن كثافة الحشود الروسية هذه المرة من الشرق والشمال، ومناوراتها المفاجئة مع بيلوروسيا على الحدود مع أوكرانيا، والمستمرة بين 11 و20 من الشهر الجاري، وحشد أساطيلها البحرية في البحر الأسود وبحر آزوف والمتوسط، فتقول أن استبعاد المسؤولين الأوكران لسيناريو الحرب لا يعني عدم الإستعداد لها.
وبشأن موقف الأوكرانيين من تصريحات الأميركيين والأوروبيين وتأكيداتهم بأنهم لن يخوضوا الحرب إلى جانب أوكرانيا في حال حصولها، وسيكتفون بفرض عقوبات “مؤلمة” على روسيا، قالت أوليا بان دفعات الأسلحة التي أرسلها الغربيون إلى أوكرانيا، لو كانوا أرسلوا اقل منها بكثير العام 2014، لما كانت هُزمت أوكرانيا في المواجهة مع روسيا. لكنها تعترف بأن موقف الغربيين هذا يشجع الكرملين على المضي في التصعيد وتكثيف الحشود العسكرية، بل قد يساهم في اندفاعه حتى إشعال الحرب. وهي تفرق بين موقف الأميركيين وموقف الأوروبيين حيال روسيا والأزمة الأوكرانية، حيث أن الأوروبيين ليسوا شديدي الحماسة للقطع مع روسيا وخسارة التبادل التجاري معها.
من جانب آخر، أرسلت “المدن” السبت الماضي أسئلة إلى سكرتارية الرئاسة الأوكرانية، وحاولت الأحد التواصل هاتفياً مع كل من سكرتارية الرئاسة وسكرتارية وزارة الدفاع، وذلك لافتراض بأن الحالة الراهنة لا تسمح لمثل هاتين الإدارتين بترف التعطيل يوم الأحد. لكن سكرتارية الرئاسة لم تجب على الهاتف في أكثر من محاولة نهار الأحد، بينما أجابت على الفور نهار الإثنين، مما يوحي بعطلتها نهار الأحد. أما سكرتارية وزارة الدفاع فأجابت على الفور نهار الأحد، وأحالتنا، رداً على الأسئلة، إلى بيان مشترك لوزير الدفاع الأوكراني وقائد الأركان صدر السبت في 12 الشهر ونشرته الوزارة على موقعها الرسمي وأشارت إليه الصحف العالمية. كان من اللافت في الحالتين الإصرار على التحدث بالأوكرانية رغم التأكيد بعدم معرفتها، ولم تكن مستغربة لغتهما الروسية الصافية حين تحدثتا بها.
البيان الذي أحالت إليه سكرتارية وزارة الدفاع، أرسلته بالأوكرانية، ولم ترسله بالروسية إلا بعد الشكوى من عدم دقة ترجمة غوغل. كان بيان “شد عصب” موجه للأوكرانيين، تضمن القليل من الوقائع والكثير من الإدعاءات التي يصعب تصديقها، على غرار القول بأن أوكرانيا أصبحت تملك “أقوى جيش في أوروبا”. وفي حين يقول الإعلام الغربي أنه، في حال نشوب الحرب، لن تحتاج روسيا لأكثر من 72 ساعة للوصول إلى العاصمة كييف، يقول البيان بأن أوكرانيا على أتم الإستعداد لسيناريو الحرب، وأن جيشها لم يعد كما كان في العام 2014 ولن يلاقي الأعداء بالورود، بل “أهلاً بكم في الجحيم”.
المؤرخ الروسي الكبير المناهض بشدة لسلطة بوتين أندريه زوبوف نشر في موقع إذاعة “صدى موسكو” نصاً بعنوان “كم كنت أود أن أكون مخطئاً”. يقول المؤرخ أن جميع المفاوضات بشأن أوكرانيا مع الغرب فاشلة، وقال لافروف بعد لقائه وزيرة خارجية بريطانيا “الحديث حوار طرشان”، ويعتبر هذا القول نهاية الدبلوماسية. وعلى العكس كانت المفاوضات في بكين مع الرئيس الصيني إيجابية للغاية، وعلى الرغم من أن نتائجها لم تعلن، إلا أن بوتين بدا راضياً جداً. ويتساءل ما إن كان قد ظهر محور أم أن الطريق إليه لا زالت تُمهد. اليوم (11 الشهر) بدأت مناورات مع بيلوروسيا يشارك فيها 30-50 ألف عسكري من الجانبين وفي منطقة قريبة جداً من الحدود الأوكرانية البيلوروسية والكثير من الصواريخ والآليات الثقيلة، ويقودها قائد الأركان الروسية بنفسه.
ويعدد المؤرخ الحشود التي تأتي بها روسيا من أقاصي شرق سيبيريا والسفن تأتي بها من المحيط الهادىء، وكل هذا يكلف مبالغ هائلة. ويقول بأن البندقية إما تطلق النار قبل 19 الشهر الجاري، أو تعاد إلى مكانها في 20 منه. خاصة وأن الظروف المناخية بعد 20 الشهر تجعل من الصعب تنفيذ غزو أوكرانيا من بيلوروسيا. وهذا يعني إما الغزو بين 15 و19 من الشهر أو العودة إلى المواقع.
وينتهي إلى القول بأن إحتمال النهاية السلمية للأزمة الحالية ينخفض مع مرور كل ساعة. فالكرملين ينفذ منذ آخر تشرين الثاني/نوفمبر، وبدقة وعدم مرونة فائقة، سيناريو مختلف تماماً. وينهي بالقول بأن هذا السيناريو مؤذٍ لروسيا أكثر من سواها.
المدن
——————————-
الحدود الأوكرانية:بوتين وضع إصبعه على الزناد؟
نقلت شبكة “سي بي إس نيوز” عن مسؤول أميركي أن روسيا نقلت بعض قطع المدفعية بعيدة المدى وقاذفات الصواريخ القريبة من الحدود الأوكرانية إلى مواقع إطلاق النار.
وقال المسؤول إن بعض الوحدات الروسية غادرت مناطق تجمعها -التشكيلات الممتدة من الصدمات إلى المصدات التي شوهدت في صور الأقمار الصناعية- وبدأت في التحرك إلى “مواقع الهجوم”. وتمثل هذه الحركة تغييراً منذ الأحد، عندما غادرت بعض الوحدات مناطق التجمع لكنها لم تتخذ بعد ما يمكن اعتباره مواقع هجومية.
وبمجرد بدء الهجوم الروسي، ستقل معرفة الولايات المتحدة بما يحدث بشكل كبير، بحسب الشبكة، التي أشارت إلى أنه لن يكون للأميركيين أي قوات على الأرض ولا طائرات استطلاع في الجو، وستؤدي الهجمات الإلكترونية الروسية والحرب الإلكترونية إلى حجب الاتصالات.
ويقول المسؤولون الأميركيون إن لدى روسيا الآن 80 في المئة من القوات التي ستحتاجها لشن غزو واسع النطاق، والبقية في طريقها. يتم حشد أكثر من مئة ألف جندي روسي على طول الحدود الأوكرانية – إلى الشرق من روسيا، والشمال من بيلاروسيا.
ومع ازدياد حدة التوتر، أعلنت الولايات المتحدة إغلاق سفارتها في العاصمة كييف، و”مؤقتًا” نقل العدد القليل من الموظفين الدبلوماسيين المتبقين إلى لفيف، وهي مدينة تقع في غرب البلاد، “بسبب التسارع الدراماتيكي في حشد القوات الروسية”، حسبما أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
وقال بلينكين في بيان: “لقد أمرت بهذه الإجراءات لسبب واحد -سلامة موظفينا- ونحثّ بشدة أي مواطن أمريكي متبقٍ في أوكرانيا على مغادرة البلاد على الفور”. وأضاف أن “هذه الاحتياطات الحكيمة لا تقوض بأي حال من الأحوال دعمنا أو التزامنا تجاه أوكرانيا. إن التزامنا بسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها لا يتزعزع”.
وتابع: “كما نواصل جهودنا المخلصة للتوصل إلى حل دبلوماسي، ونبقى على اتصال مع الحكومة الروسية بعد مكالمة الرئيس بايدن مع الرئيس بوتين ومناقشاتي مع وزير الخارجية لافروف”. وقال بلينكن: “يظل مسار الدبلوماسية متاحاً إذا اختارت روسيا الانخراط بحسن نية. ونتطلع إلى إعادة موظفينا إلى السفارة بمجرد أن تسمح الظروف بذلك”.
البيت الأبيض أوضح من جهته، أن الرئيس جو بايدن أوضح لنظيره الروسي فلاديمير بوتين أن عواقب غزو أوكرانيا ستكون وخيمة وحاسمة وتشمل عقوبات اقتصادية. وقال البيت الأبيض إن “انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ليس أمراً تقرره كييف بنفسها ولا نحن بل مرتبط بقرار مشترك مع قيادة الحلف”.
يأتي ذلك فيما نقلت وكالة “رويترز” عن ثلاثة مصادر أمنية غربية كبيرة أن “المرتزقة الروس المرتبطين بأجهزة الأمن والاستخبارات الروسية عززوا وجودهم في أوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة”، ما أثار مخاوف بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي من أن روسيا قد تحاول إيجاد ذريعة للغزو.
وقالت المصادر الثلاثة إن “مخاوفهم زادت في الأسابيع الأخيرة من أن التوغل الروسي في أوكرانيا يمكن أن تسبقه حرب معلومات وهجمات إلكترونية على البنية التحتية الحيوية لأوكرانيا مثل شبكات الكهرباء والغاز”. وأضافت أن روسيا قد تستخدم المرتزقة لزرع الفتنة وشل أوكرانيا، من خلال الاغتيالات المستهدفة واستخدام أسلحة متخصصة.
وقال مصدر أمني غربي: “من المرجح أن يكون المرتزقة الروس، بتوجيه من الدولة الروسية، متورطين في أعمال عدائية في أوكرانيا بما في ذلك على الأرجح إيجاد ذريعة لغزو”.
وقالت المصادر الأمنية الغربية إن المرتزقة يتبعون شركات عسكرية روسية خاصة تربطها علاقات وثيقة بجهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، ووكالة المخابرات العسكرية الروسي (GRU).
من بين أولئك الذين تم إرسالهم في الأسابيع الأخيرة ضابط سابق عمل أيضاً في مجموعة مرتزقة “فاغنر”، قالت مصادر الوكالة إنه ذهب إلى دونيتسك، إحدى منطقتين بشرق أوكرانيا يسيطر عليهما الانفصاليون الموالون لروسيا منذ 2014. وقالت المصادر إن مجموعات المرتزقة الروسية زودوا الميليشيات الموالية لروسيا بالأسلحة ودربوا أفراد العمليات الخاصة في شرق أوكرانيا.
وأوضحت أن عدداً من عناصر “فاغنر” ذهبوا إلى الحدود الأوكرانية، بعد تدريبهم في قاعدة “جي آر يو” بالقرب من مدينة كراسنودار بجنوب روسيا، وأن مجموعات مرتزقة روسية أخرى مرتبطة بجهازي الأمن المذكورين زادا أنشطتهما في أوكرانيا منذ بداية العام.
—————————
روسيا تفتح باباً للحوار..وباباً لاستقلال اقليم دونتسك الاوكراني
وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمدد حلف شمال الأطلسي إلى الشرق بأنه عملية “لا نهاية لها وخطيرة جداً”، فيما أكد وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف أن هناك فرصاً لحل الأزمة الأوكرانية من خلال القنوات الدبلوماسية.
ويأتي هذا في ظل تصاعد مخاوف الغرب والولايات المتحدة من أن تقوم روسيا بغزو أوكرانيا الاربعاء، في الوقت الذي تتمسك فيه أوكرانيا بانضمامها إلى حلف شمال الاطلسي (الناتو)، إذ أكد الرئيس فولوديمير زيلينسكي الاثنين، أن انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي “سيضمن أمننا”، وهو مطلب متكرر من السلطات الأوكرانية خوفاً من غزو روسي محتمل.
وقال زيلينسكي خلال مؤتمر صحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتس: “نحن نعتبر أن انتماءنا إلى حلف شمال الأطلسي سيضمن أمننا وسيادتنا الإقليمية”، رغم أن دبلوماسياً أوكرانياً كان قد أكد في وقت سابق الاثنين، أن كييف مستعدة لوضع موضوع الانضمام إلى “ناتو” جانباً.
وقال بوتين خلال لقاء مع وزير الخارجية الروسية لافروف ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الاثنين، إن “الحديث يدور عن قضايا الأمن في أوروبا والرد على هواجس روسيا المتعلقة بتمدد الناتو شرقاً الذي نعتبر أنه لا نهاية له وخطير جداً، وهو يتم الآن على حساب الجمهوريات السوفيتية السابقة بما فيها أوكرانيا”.
بدوره، أخبر لافروف بوتين أن “الجزء الاول من الرد الأميركي على الضمانات الأمنية لا يرضي روسيا أما الجزء الثاني فهو أكثر إيجابية”.
وقال لافروف: “لقد أرسلوا إلينا ردين: رد من الولايات المتحدة وآخر من حلف شمال الأطلسي وتمت دراستهما بعناية… نحن مهتمون في المقام الأول برد الولايات المتحدة لأن الجميع يعرف من يلعب الدور الأساسي في حل هذه القضايا في المعسكر الغربي”.
وأضاف لافروف أنه “بالنسبة إلى القضايا الرئيسية التي طرحتها روسيا مثل عدم توسع الناتو وعدم نشر أسلحة ضاربة وعودة التشكيلات العسكرية السياسية في أوروبا إلى ما كانت عليه عام 1997، فإن الجواب هو لا”، وتابع: “بالطبع هذا لا يرضينا”.
وتابع أن روسيا صاغت رداً من 10 صفحات على الولايات المتحدة وحلفائها بشأن المقترحات، مشيراً إلى أن “هناك فرصاً للتوصل إلى اتفاق مع واشنطن والناتو حول محاور مقترحاتنا الأمنية.. هما مستعدان للدخول في حوار جدي مع روسيا حول بعض القضايا الأمنية”.
من جهته، أعلن وزير الدفاع الروسي أن جزءاً من المناورات العسكرية الضخمة الجارية حالياً في روسيا وبيلاروسيا شارفت على الانتهاء. وقال: “أُجريت تمارين جزء منها انتهى وجزء آخر شارف على الانتهاء.. وما زالت تمارين أخرى جارية نظراً إلى حجم هذه التدريبات التي تم التخطيط لها وبدأت في كانون الأول/ديسمبر”.
وأضاف خلال لقاء بثّه التلفزيون الروسي الرسمي، أن مناورات “واسعة النطاق” أجريت عبر المناطق العسكرية الغربية لروسيا وفي كل أساطيلها تقريباً “في بحر بارنتس والبحر الأسود وبحر البلطيق ومع أسطول المحيط الهادئ”.
وحشدت روسيا أكثر 100 ألف جندي قرب حدود أوكرانيا مع تحذير الولايات المتحدة وحلفائها من أن موسكو تخطط لغزو وشيك. وكان الغرب قلقاً خصوصاً بسبب التدريبات العسكرية الضخمة التي أجرتها موسكو في بيلاروس الواقعة شمال أوكرانيا.
مشروع قانون
وفي السياق، قدم حزب “روسيا الموحدة” إلى مجلس الدوما الروسي مشروع قرار بشأن الاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك المعلنتين من جانب واحد.
وتم تقديم مشروع القرار بشأن المشاورات مع وزارة الخارجية الروسية للاعتراف باستقلال جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك إلى مجلس الدوما.
وذكرت وكالة “سبوتنيك” الروسية أنه “سيتم إرسال مسودتين بشأن الاعتراف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك إلى مجلس دوما الدولة في 15 شباط/فبراير، الأولى إلى الرئيس والثانية إلى وزارة الخارجية لتسريع إجراءات الاعتراف”.
وتقول المسودة: “يقرر مجلس الدوما الروسي إجراء مشاورات مع وزارة الخارجية الروسية بشأن مشروع نداء من مجلس الدوما إلى الرئيس بوتين حول ضرورة الاعتراف بجمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية ومناقشة مسودة الاستئناف المذكورة”.
بدوره أعلن رئيس مجلس الدوما فلاديمير فولودين أن “المجلس سيبحث الثلاثاء مشروعي قرارين بشأن التوجه للرئيس بوتين بطلب الاعتراف باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك”.
والصراع في دونباس جنوب شرقي أوكرانيا بين الحكومة الأوكرانية وجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك (معلنتان من جانب واحد) مستمر منذ عام 2014، وجرت مفاوضات ضمن اتفاقيات مينسك المخصصة لإيجاد حل سياسي للصراع من قبل قادة مجموعة النورماندي (روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا) في شباط/ فبراير 2015.
لكن لم يتم الالتزام بالاتفاق حتى الآن وتستمر الاشتباكات في أوقات متفرقة، وتقول موسكو مراراً إن “كييف لا تلتزم باتفاقيات مينسك وتؤخر المفاوضات لحل النزاع”.
وكان الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قد قال إنه بحث مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل خلال اتصال هاتفي الأحد، تفعيل عملية السلام ضمن مجموعة النورماندي الخاصة بالتسوية في منطقة دونباس. وأكد زيلينسكي تمسك كييف بحل النزاع في دونباس دبلوماسياً.
وأضاف أن الجانب الأوكراني صرح خلال مفاوضات مجموعة النورماندي في برلين منذ أيام بأنه مستعد للتفاوض مع ممثلي جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين فقط من خلال منظمة الأمن والتعاون في أوروبا.
——————–
أزمة أوكرانيا من زواية أخرى!/ حسين شبكشي
بينما يحبس العالم أنفاسه في انتظار ما سيحدث في الأزمة الأوكرانية، وترقب الغزو الروسي لهذه الجمهورية، يحلل الكثيرون الأسباب المنطقية والموضوعية التي تستدعي دخول القوات الروسية إلى منطقة جغرافية من العالم تعتبرها إرثاً تاريخياً من روسيا الكبرى، وهي أوكرانيا، وتعتبر المساس بتهديد حدودها هو المساس بمنطقتها الأمنية الحساسة والتي من غير المسموح تهديدها أبداً. إلا أنه بالتمعن والتدقيق قد تكون هناك أسباب أكبر للقلق الغربي عموماً والأميركي تحديداً من الأزمة الأوكرانية الحالية، ولعل أبلغ ما جاء إزاء هذا القلق هو تصريح الخبير الاستراتيجي الشهير جورج فريدمان عندما قال: «إن الاهتمام الأساسي للولايات المتحدة لسنوات طويلة والذي من أجله دخلنا الحربين العالميتين الأولى والثانية كان العلاقة بين ألمانيا وروسيا، لأنهما في حالة توحدهما واتحادهما ستصبحان القوة الوحيدة التي من الممكن أن تهدد أميركا، وبالتالي يجب العمل بحرص شديد على ألا يحدث هذا الأمر مجدداً»، وبالتالي هناك قناعة متزايدة في بعض دوائر صناعة القرار في الولايات المتحدة أن أزمة أوكرانيا لا علاقة لها بأوكرانيا نفسها ولكنها تعني ألمانيا، وتحديداً علاقة ألمانيا بروسيا، فالعلاقة الآن مبنية بشكل أساسي على مصالح اقتصادية بين البلدين، والمتنامية بشكل أساسي في مشروع إمدادات الغاز المعرفة باسم «مشروع نورد ستريم الثاني»، وواشنطن ترى أن هذا المشروع هو تهديد مباشر وصريح للمصالح الغربية في القارة الأوروبية، وحاولت مراراً وضع حد لهذا المشروع، ومع ذلك بقيت ألمانيا تدافع عنه وتستمر في السير فيه قدماً، لأن ألمانيا لديها قناعة بأنه بتحقيق هذا المشروع وإيصاله لخطواته النهائية سيكون لديها مصدر معتمد للطاقة بشكل اقتصادي يساعد الشركات والمؤسسات الاقتصادية في ألمانيا على تحقيق أهدافها، بينما تحقق روسيا المنافع الاقتصادية المرجوة من هذه العلاقة. وبالتالي هذه مسألة ترضي الطرفين، ولكن الدوائر السياسية في صناعة القرار الخارجي في أميركا ليست على قدر كافٍ من الارتياح تجاه هذا التطور في العلاقة بين روسيا وألمانيا، إذ صناع القرار لا يريدون أن يزيد الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية، لأن التجارة تبني الثقة والثقة تبني التوسع في التجارة والاقتصاد والاستثمار، وكلما زاد الدفء في العلاقات بين البلدين تخفض القيود التجارية بينهما، وتتوطد العلاقة أكثر وتزال القيود والتشريعات المقيدة، فتزيد معدلات الاستثمار والسفر والسياحة، وبالتالي يتم بناء منظومة أمنية مشتركة بينهما، ومن ثم (وهذا الأخطر بالنسبة لأميركا) لن يكون هناك داعٍ لأسلحة أميركية ولا منظومة دفاع وصواريخ ولا الحاجة للحلف الأطلسي نفسه بأن يستمر في الوجود في ألمانيا أو حتى في القارة الأوروبية بعد ذلك. وأيضاً لن يكون هناك احتياج لممارسة العمليات التجارية بالعملة الأميركية الدولار ولا زيادة المخزون الاستراتيجي من سندات الخزينة الأميركية لتعويض الفارق التجاري بين البلاد، لأنه بالتالي سيكون بالإمكان إتمام العمليات التجارية بعملة البلدين سواء أكان الروبل الروسي أو اليورو الأوروبي في حالة ألمانيا.
إذا تمعنا في الخسائر المتوقعة لهذا النهج المنتظر بين روسيا وألمانيا وخطورة ذلك على أميركا، فمن الممكن فهم التحفظ والرفض الأميركي الشديدين لتطوير العلاقة بين روسيا وألمانيا. فالمسألة بالنسبة للولايات المتحدة تتخطى بكثير موضوع خطوط أنابيب يتم بها إمداد الغاز الروسي إلى ألمانيا ولكنه يمثل نافذة للمستقبل بما ستكون عليه الأمور إذا تطورت وزادت العلاقة بين ألمانيا وروسيا ما سيكون له تهديد مباشر على المنظومة الأمنية المستقبلية للمعسكر الغربي لأن التاريخ يكرر نفسه والعالم شهد ما حصل حينما تقترب ألمانيا من روسيا كما حصل في الحربين العالميتين السابقتين.
بمعنى أدق وأوضح سيعني دفء العلاقات الذي من الممكن أن يحدث بين ألمانيا وروسيا عملياً وتنفيذياً وواقعياً، نهاية مرحلة القطب الأوحد في العالم السياسي والعسكري، والتي حرصت الولايات المتحدة على أن تصل إليها في آخر خمس وسبعين سنة من الصراعات المختلفة، وهي مرحلة تخشى الولايات المتحدة والمعسكر الغربي من حدوثها لأنها ستغير قوانين وقواعد اللعبة، ولذلك يكون من المنتظر والمتوقع أن تقاوم أميركا بكل إمكاناتها من تطور نوعي لمشروع نورد ستريم الثاني وبالتالي الإبقاء على ألمانيا في مدارها، لأنها بالتالي تعتبر هذا الأمر مسألة حياة أو موت من الناحيتين السياسية والأمنية.
————————
من هم اللاعبون الرئيسيون في الأزمة الروسية – الأوكرانية؟
يُجري زعماء العالم محادثات مع روسيا هذا الأسبوع، في محاولة أخيرة لمنع فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا، بعد شهور من التوتر المتصاعد.
ومع تجمع أكثر من 100 ألف جندي روسي على الحدود الأوكرانية، يزعم مسؤولو المخابرات الأميركية أن الغزو يمكن أن يحدث في «أي لحظة».
وفي هذا السياق، تحدث تقرير نشرته شبكة «سكاي نيوز» البريطانية عن اللاعبين الرئيسيين في الأزمة الروسية الأوكرانية، وهم كما يلي:
*الجانب الروسي:
– الرئيس الروسي فلاديمير بوتين:
يقود بوتين، العميل السابق في المخابرات السوفياتية (KGB)، روسيا، منذ عام 2000، وقد عُرف منذ ذلك الحين بسياسته الخارجية العدائية.
وعلى مدى العقدين الماضيين، سعى بوتين إلى إعادة تأكيد الهيمنة الروسية في الشرق؛ حيث قام بغزو وضم منطقة القرم الأوكرانية بشكل غير قانوني، في عام 2014.
وبدأت القوات الروسية في الظهور على حدودها مع أوكرانيا في أواخر عام 2021، قبل أن يطلب الكرملين في ديسمبر (كانون الأول) من حلف شمال الأطلسي (الناتو) ألا يسمح لأوكرانياً أبدا بأن تصبح عضواً به، وأن يوقف جميع الأنشطة العسكرية في أوروبا الشرقية.
ورغم نفى الرئيس الروسي مراراً وتكراراً أنه يخطط لغزو أوكرانيا، فإنه لم يُظهر أي نية للتفاوض بشأن مطالبه حول أوكرانيا وحلف شمال الأطلسي.
– وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف:
كان لافروف مفاوضاً رئيسياً في الأزمة؛ حيث التقى بنظيره الأميركي، أنتوني بلينكن، وعدد من الزعماء الآخرين من جميع أنحاء الغرب.
وقد كان لافروف يشغل منصب وزير الخارجية عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم. وفي الفترة التي سبقت الغزو، أخبر جون كيري، وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، أن روسيا «ليست لديها أي نية أو مصلحة على الإطلاق في عبور حدود أوكرانيا».
وقد أخبر لافروف بلينكن مؤخراً أن فرص تحقيق انفراجة في المحادثات كانت «منخفضة»، وسخر من وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس، بعد أن زارت موسكو لكونها «غير مستعدة للمحادثات» وقال إن حديثه معها كان أشبه بـ«التحدث إلى شخص أصم».
– وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو:
يحمل شويغو أيضاً رتبة «جنرال» في الجيش الروسي، وقد وُصف بأنه خليفة محتمل لبوتين، نظراً للعلاقات الوثيقة بينهما.
وتولى شويغو المنصب في عام 2012، وقد أشرف على غزو شبه جزيرة القرم في عام 2014، واتهمته أوكرانيا لاحقاً بتشكيل جماعات متمردة غير شرعية قاتلت ضد الجيش الأوكراني.
وأجرى شويغو محادثات مع قوى غربية مختلفة خلال الأزمة الأخيرة، ووصف التعاون البريطاني الروسي بأنه «قريب من الصفر» بعد اجتماع في موسكو مع نظيره البريطاني بن والاس.
*الجانب الأوكراني:
– الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي:
وهو ممثل كوميدي سابق، فاز في انتخابات 2019 بأغلبية ساحقة.
وحاول زيلينسكي إبعاد أوكرانيا عن روسيا وصراعاتها، وبدلاً من ذلك وضع عينيه على عضوية كل من «الناتو» والاتحاد الأوروبي.
رداً على حشد القوات الروسية على حدود أوكرانياً في أواخر عام 2021، دعا زيلينسكي قادة «الناتو» إلى التعجيل بعضوية أوكرانيا، وادعى أن مجموعة من المتمردين الروس والأوكرانيين كانوا يخططون لانقلاب للإطاحة به.
ويحظى زيلينسكي بدعم الغرب، بما في ذلك الولايات المتحدة التي قالت مراراً إنها ستدافع عن أوكرانيا في حالة غزو روسيا لها.
– وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا:
يُعد وزير الخارجية الأوكراني وعضو مجلس الأمن والدفاع الوطني دميترو كوليبا، من أصغر الدبلوماسيين البارزين في تاريخ البلاد، فهو يبلغ من العمر 40 عاماً فقط.
وقد قلل كوليبا مراراً وتكراراً من التهديد الوشيك بغزو روسي لبلاده، متهماً الولايات المتحدة بالمبالغة في الخطر.
وخلال المحادثات التي جرت هذا الشهر، أكد كوليبا أن الوجود الروسي على الحدود الأوكرانية «غير كافٍ لعملية عسكرية واسعة النطاق».
وعلى الرغم من عدم وجود أي مؤشر على أي تنازلات روسية، أصر كوليبا على أن الوجود الغربي في المنطقة لإجراء محادثات «يزعج خطط الكرملين».
– دنيس بوشلين زعيم جمهورية دونيتسك الشعبية:
بعد الضم الروسي لشبه جزيرة القرم في عام 2014، أعلنت منطقتان أخريان، في منطقة دونباس الشرقية، الاستقلال عن أوكرانيا، وهما جمهوريتا دونيتسك ولوهانسك.
قال بوشلين الزعيم الانفصالي لجمهورية دونيتسك، إن زيادة الدعم الغربي لأوكرانيا قد تعني اندلاع حرب شاملة مع روسيا في أي وقت.
وأضاف: «لا أستبعد أن أوكرانيا يمكن أن تُهاجَم في أي لحظة».
*بيلاروسيا:
– الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو:
يُعتبر لوكاشينكو حليفاً قوياً لبوتين؛ حيث وقَّعت الدولتان على مرسوم يسمى «دولة الاتحاد» لدعم التكامل الاقتصادي والعسكري.
وتُجري روسيا تدريبات عسكرية يشارك فيها 30 ألف جندي داخل بيلاروسيا، وعلى مقربة من حدودها مع أوكرانيا.
وأثار الموقع الاستراتيجي للمناورات مخاوف من أنه إذا دخلت روسيا في حرب مع أوكرانيا، فسيتمكن الجنود بسهولة من الوصول إلى العاصمة كييف، وشن غزو من بيلاروسيا.
لكن -مثل بوتين- لا يزال لوكاشينكو ينكر وجود مخطط لغزو روسي لأوكرانيا.
وقال هذا الشهر: «أنا متأكد من أنه لن تكون هناك حرب».
*الولايات المتحدة:
– الرئيس الأميركي جو بايدن:
وُصفت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة مؤخراً بأنها «في أسوأ حالاتها منذ الحرب الباردة».
فبعد ظهور القوات الروسية على الحدود الأوكرانية العام الماضي، أعلن بايدن دعمه لأوكرانيا، وهدد الكرملين بـ«إجراءات اقتصادية وغيرها من الإجراءات القوية» في حال الغزو.
وفي يناير (كانون الثاني)، تعرَّض بايدن لانتقادات، لقوله إن «توغلاً طفيفاً» من جانب روسيا سيؤدي إلى استجابة أقل من الحلفاء الغربيين، قبل أن يوضح البيت الأبيض تعليقاته.
وقبل أيام، تعهد بايدن، خلال اتصال مع نظيره الأوكراني، بردٍّ أميركي سريع وشديد وحاسم على أي عدوان روسي على أوكرانيا.
*أوروبا:
– الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون:
يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استخدام بث الروح في اتفاقيات مينسك التي تم التوقيع عليها في عامي 2014 و2015، لمحاولة منع اندلاع حرب أكبر بكثير بين روسيا وأوكرانيا.
وتحدث ماكرون مباشرة إلى كل من بوتين وزيلينسكي في الأسابيع الأخيرة؛ لكنه تعرض لانتقادات بسبب بعض تدخلاته.
– المستشار الألماني أولاف شولتز:
قام شولتز بزيارة كييف وموسكو مؤخراً، للتوصل إلى حل بخصوص هذه الأزمة.
وأصبح شولتز في موقف صعب في الأيام الأخيرة، بعد أن طالبه حلفاؤه الغربيون بالتعهد بوقف تشغيل خط أنابيب الغاز الطبيعي «نورد ستريم 2» الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، في حال قيام روسيا بغزو أوكرانيا، ولكن المستشار الألماني لم يتم اتخاذ أي إجراء صارم في هذا الشأن بعد.
*حلف شمال الأطلسي (الناتو):
تتكون منظمة حلف شمال الأطلسي من عضوية 30 دولة في جميع أنحاء أوروبا وأميركا.
وروسيا وأوكرانيا ليستا عضوين في «الناتو»؛ لكن الأخيرة كانت تمضي في طريقها إلى العضوية، وهو ما أثار قلق بوتين الذي يخشى هيمنة «الناتو» في أوروبا الشرقية؛ حيث يحاول إعادة ترسيخ نفوذ روسيا في الحقبة السوفياتية.
ويطالب بوتين حلف شمال الأطلسي بعدم السماح لأوكرانيا بأن تصبح عضواً فيه.
وقال ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لـ«الناتو»، إن «هذا القرار بشأن انضمام أوكرانيا إلى الحلف ستتخذه أوكرانيا والدول الـ30 الأعضاء في (الناتو)… ولا يحق لأي دولة أخرى التدخل؛ لأن أوكرانيا دولة مستقلة وذات سيادة، ويحق لها اختيار مسار تطورها بنفسها».
وعلى الرغم من أن «الناتو» يريد التوصل لحل سلمي بخصوص الأزمة الروسية الأوكرانية، فإنه يمكن استخدام قوات الحلف لدعم أوكرانيا في حالة الغزو.
————————–
“واشنطن بوست”: “مسيرة الحماقة” الوشيكة لبوتين وسيناريو دموي للحرب المحتملة في أوكرانيا
يرى الصحافي والروائي الأميركي، ديفيد إغناتيوس، في “واشنطن بوست” الأميركية أن العالم سيراقب برعب اجتياح روسيا لأوكرانيا إذا ما حصل هذا الأسبوع. وسيفوز الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بسرعة في المرحلة التكتيكية الأولية من هذه الحرب المتوقعة. حيث يعتقد مسؤول أميركي أن الحشود الضخمة التي جمعتها روسيا على طول الحدود الأوكرانية قد تستولي على العاصمة كييف في عدة أيام، وقد يسيطر بوتين على البلاد خلال أسبوع أو أكثر بقليل.
وهنا يرى إغناتيوس أن معركة بوتين الحقيقية ستبدأ، حيث ستحاول روسيا ووكلاؤها من الأوكرانيين تحقيق الاستقرار في بلد يكرههم شعبه إلى حد كبير. وإذا قرر 10% فقط من سكان أوكرانيا البالغ عددهم 40 مليون نسمة مقاومة الاحتلال؛ فإنهم سيشكلون حركة تمرد قوية. وهنا يتذكر الكاتب كيف قامت “مجموعات صغيرة من المقاتلين المتحمسين” بتخريب انتصار القوة العسكرية الهائلة للولايات المتحدة في العراق وأفغانستان.
وبحسب الكاتب، فإن مشكلات روسيا لن تكون محصورة داخل حدود أوكرانيا فقط، فالاقتصاد الروسي سيتضرر بشدة بسبب العقوبات، وسيصبح قادة موسكو التجاريون والسياسيون منبوذين دولياً، وسيتم تجميد الكثير من الثروات التي جمعها بوتين وأصدقاؤه.
ويتابع إغناتيوس فيرى أن أوكرانيا قد تبدو انتصاراً ساحقاً لبوتين في البداية، لكن من غير المرجح أن تكون لها نهاية سعيدة. فعندما يخوض القادة “حروباً اختيارية” غير ضرورية بدون نهاية واضحة، فإنهم غالباً ما يواجهون عواقب وخيمة غير مقصودة. وهنا يستذكر الكاتب “كيف أقدم رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على غزو لبنان عام 1982، الأمر الذي ساعد على تشكيل حزب الله“، وكذلك “كيف غزا الرئيس جورج دبليو بوش العراق عام 2003، الأمر الذي زعزع استقرار الشرق الأوسط وجعل إيران قوة إقليمية عظمى”. وبالطريقة نفسها، يرى الكاتب أن بوتين سيكون آخر زعيم ينضم إلى ما وصفته المؤرخة الأميركية باربرا توكمان، بـ”مسيرة الحماقة”.
وبخصوص موقف الرئيس الأميركي من الأزمة، فإن الكاتب يرى أن بايدن ينطلق من ثلاث ركائز؛ الأولى أن النظام العالمي القائم سيكون مهدداً بغزو روسي غير مبرر، لذلك على بوتين دفع تكلفة باهظة إذا أقدم على ذلك. الثانية أن بايدن مصمم على تجنب أي اتصال عسكري مباشر بين القوات الروسية والأميركية، مما قد يؤدي إلى حرب نووية. والثالثة أن بايدن مقتنع بأن أمن الولايات المتحدة وأصدقائها الأوروبيين يعتمد على وحدة حلف شمال الأطلسي وقوته.
سيناريو دموي للحرب المحتملة
حشدت روسيا قواتها لشن هجوم ساحق، وبحسب مسؤولين أميركيين وأوروبيين فإن ترتيب المعركة سيكون على الشكل الآتي كما يرى الكاتب: ثمة قرابة 130.000 جندي يطوقون أوكرانيا من ثلاث جهات.
وتدعم القوات البرية عشرات القاذفات الروسية ذات التوجيه الدقيق، وعشرات بطاريات المدفعية جاهزة و12 مثلها من الصواريخ. كما تبحر 11 سفينة برمائية على سواحل البحر الأسود، وهي على استعداد لإنزال مشاة البحرية الروسية في منطقة الجنوب الأوكراني. في حين تستعد القوات المحمولة جواً للهبوط خلف الخطوط، بالقرب من كييف وأوديسا ولفيف ومواقع أخرى. إلى جانب كتائب الهندسة العسكرية التي تستعد لبناء الجسور على الأنهار في أوكرانيا. وفي غضون ذلك، ستكون القاذفات النووية الروسية وقوات الصواريخ والغواصات في حالة تأهب هذا الشهر، وقد تمت جدولة ذلك مسبقاً وعلى عجل، لتكون جاهزة في حال تدخّل حلف شمال الأطلسي.
يتوقع الكاتب أن تسبق الغزو بساعات عمليات خاصة لقوات “سبيتسناز” الخاصة، ومجموعات من المخابرات الروسية، حيث ستتولى السيطرة على أهداف رئيسة في كييف ومدن أخرى، مثل محطات الراديو والتلفزيون ومنشآت الطاقة والمنشآت الحكومية، كما قد تستهدف فرق الاغتيالات كبار المسؤولين الأوكرانيين، وما سيبدو أنه تحرك أوكراني داخلي؛ سيخلق حالاً من الإرباك والتشويش، مدعومة بالحرب الإلكترونية، حيث ستشوش روسيا على الاتصالات الحكومية والعسكرية. وإذا ما رغبت القوات الأوكرانية في القتال، فإنها لن تنجح في ذلك بسبب صعوبة التنسيق في ما بينها بسبب فقدان الاتصالات.
وبحسب المسؤولين الأميركيين، فإن عدة آلاف من القوات الروسية ستتحرك من الشمال لتعبر الحدود نحو كييف، حيث ستتمكن بسهولة من سحق القوات الأوكرانية القليلة المتواجدة هناك. وفي أقصى الغرب يوجد عدد مماثل من القوات الروسية في جنوبي بيلاروسيا، تستعد لشن الهجوم الثاني على كييف، ومن المتوقع أيضاً أن تواجه مرة أخرى قوة أوكرانية ضئيلة.
المواجهة الأكثر دموية ستكون في شرقي أوكرانيا، حيث يتمركز ما يقرب من نصف جيشها، البالغ قوامه حوالي 250 ألف جندي. ومن المتوقع أن تهاجم روسيا عبر منطقة دونباس التي يسيطر عليها الانفصاليون، ومن الشرق بالقرب من خاركيف. كما قد تحاول تطبيق حركة الكماشة وتطويق الجيش الأوكراني وتدميره على مدى عدة أسابيع. ويرى الكاتب أن وجود جيش محاصر، يواجه هزيمة مدمرة، من شأنه أن يخلق دعوات دولية يائسة لوقف إطلاق النار، الأمر الذي من المتوقع أن يوافق عليه بوتين بشروطه الخاصة!
وينقل الكاتب عن مسؤولين عسكريين أميركيين، أن بوتين أرسل أوامر إلى قادته بالاستعداد لمعركة محتملة بحلول منتصف هذا الأسبوع، عندما تكون الأرض في وسط أوكرانيا قد وصلت إلى مرحلة من التجمّد تسمح للدبابات الروسية بالتقدم السريع.
يحاول الكاتب تحليل نفسية بوتين، ويرى أن ما يفعله تجاه أوكرانيا هو نتاج قناعاته وتجربته الحياتية، فهو يشعر بأن روسيا مهددة من الغرب، وأنها بحاجة إلى مناطق عازلة للحماية من العدوان الأجنبي. وهنا يستذكر الكاتب معاناة عائلة بوتين في حصار لينينغراد من قبل النازيين في الحرب العالمية الثانية. حيث أصيب والده في معركة وبقي يعرج بقية حياته، كما تُركت والدته شبه ميتة وسط كومة من الجثث، ولم تنجُ إلا لأن أحدهم سمع أنينها. ويرى الكاتب أن بوتين عندما يتحدث عن “ثقل التاريخ الروسي”، فإنه يتحدث عن ثقل يشعر به شخصياً.
يرى إغناتيوس أن الأيام المقبلة ستكون حاسمة، حيث ستُبذل جهود محمومة للعثور على مخرج. ويبدو أن رفض الناتو تقديم التنازلات التي يطلبها بوتين قد يكون له دور إيجابي في الوصول إلى ذلك كما يعتقد.
قد يصاب العالم بالهلع إذا بدأت الدبابات والصواريخ بالهجوم على دولة ضعيفة تواجه حرباً خاطفة بمفردها، وستزداد الدعوات من أجل تسوية تفاوضية، يتم فيها تقديم تنازلات جديدة لإرضاء بوتين. ولكن مع انتهاء الصدمة العالمية، يرى الكاتب أن موجة من الغضب والمطالبة بجعل روسيا تدفع ثمن عدوانها سوف تنطلق . ثم ستدخل هذه الحرب مرحلة من الاستنزاف، حيث سيشعر بوتين بألم حقيقي.
———————–
أوكرانيا : تكتيكات الساعة وتكتيكات حافة الهوية/ كمال اللبواني
في القرن الماضي نتذكر أزمة كوبا وخليج الخنازير حيث وصل العالم لحافة الحرب بين الأسطول الروسي والأمريكي عند سواحل كوبا، يومها كان الروس يريدون نصب صواريخ في كوبا رداً على نصب صواريخ للناتو على حدوده، وحماية نظامهم الشيوعي الذي نصروه هناك بدعم كاسترو ومليشياته، والذي كانت أمريكا تخطط لإسقاطه، لكن قبل تصادم السفن في خليج الخنازير بلحظات رن الهاتف وبدأ التفاوض، وفك الاشتباك وبقي كاسترو وانسحبت الصواريخ.
في تلك الأزمة كانت الحرب المتوقعة ستحدث مباشرة بين الطرفين الأمريكي والروسي، هنا في أوكرانيا الحرب حتى الآن غير مباشرة، تحدث بين وكلاء وعملاء موسكو والحكومة الأوكرانية، وهذا فارق جوهري سيحكم السيناريوهات.
عام 2014، عندما حرّك الروس كلابهم في أوكرانيا وقسموها ليؤمنوا طريقاً برياً لجزيرة القرم، التي هي مقر الأسطول الروسي، باتفاقية خاصة مع أوكرانيا المستقلة، والتي قد تنهي تلك الاتفاقية إذا شاءت مستغلة أي ظرف أو مستفيدة من حصانة انضمامها للناتو، رد الغرب على تدخل روسيا بفرض عقوبات على روسيا بالذات، بعد عام احتلت روسيا سوريا محاولة استخدامها كورقة تفاوض، سوريا مقابل الاعتراف بتقسيم أوكرانيا وهيمنة روسيا على القرم نهائياً، رفض الغرب أيضاً التفاوض، وأصرّ على حل كل أزمة على حدة، وهكذا راوحت القضية السورية مكانها وحطت رحالها على سلة دستورية لم تجمع أي تينة منذ 8 سنوات.
بدأ الغرب يستعد لضم أوكرانيا للناتو كوسيلة ضغط على روسيا، فأعلنت روسيا ضمها لشبه جزيرة القرم مثبتة أطماعها في أراضي أوكرانيا، التي حظيت باستقلالها التام بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، لم يقبل الغرب التفاوض، وفشلت كل محاولات التوصل إلى حل، واستمرت سياسة التقارب وإرسال القوات والأسلحة حتى صار إعلان انضمام أوكرانيا مجرد وقت. ردّت روسيا بحشد قوات والتهديد بالحرب. الغرب قرر أيضاً إضعاف ورقة ومستوى التهديد، من حرب عالمية لحرب محدودة بواسطة وكلائه الأوكرانيين، عندما أعلن أنه لن يرد عسكرياً على الروس، مما أضعف ورقة التهديد الروسية، ففاقمت روسيا بحشد قواتها وأشركت بيلاروسيا وغيرها. تحركت كازاخستان لتهديد النفوذ الروسي هناك وفي عقر داره، فردت روسيا باحتلالها عسكرياً.
تحول الإعلام الغربي ودبلوماسيّي الغرب لقرع طبول الحرب الروسية كمتفرجين مصفقين ليحرجوا الروسي، ويدفعونه نحو الهاوية التي أراد تهديدهم بها، وهي الحرب العالمية، التي سيحولوها لحروب استنزاف في محيط وداخل روسيا، من أفغانستان وكازاخستان مروراً بالشيشان وصولاً للقرم وأوكرانيا، صرّحوا وبشكل واضح أن اقتحام روسيا لأوكرانيا لن يرد عليه عسكرياً بل بعقوبات قاسية، والتي ستكون مصدر ألم بوتين والشعب الروسي الذي ضاق ذرعاً بمغامراته وشهوته للمال والتسلّط ، وحولهم لمجرد عبيد في بلدهم.
على بوتين اليوم أن يقرر: إما السقوط في الحرب التي ستكون نهاية لنظامه، وغزو أوكرانيا من دون أمل في الحصول على اعتراف بسيادتها حتى على القسم المنشق وهو هدفها الحقيقي، أو التسمر في المكان، والاكتفاء بعدم انضمام أوكرانيا للناتو (وهو عنوان الصفقة المقترحة عليه)، بينما تراوح أزمة أوكرانيا وانقسامها لتترك للزمن، كما هو حال تقسيم كوريا، والحال في سوريا. من سيقرر هذا هو الدولة الروسية ذاتها التي لا بد أن تتعرض لأزمات سياسية كبرى بسبب تخلفها وتراجعها الاقتصادي المستمر. الغرب يراهن على الزمن، والروس يراهنون على القوة، والذي سيقع في الهاوية لو اندلعت الحرب هم الروس الذين سيضطرون لدفع تكاليف تقصم ظهر الاقتصاد مما سيودي بالاستقرار السياسي.
الحل الوحيد أمام روسيا عندها (لو شنّت الحرب) هو تلقي الدعم المالي الصيني الذي له مطالب كثيرة في أراضي روسيا ذاتها. في كل الحالات أوكرانيا كانت عبر التاريخ محتلة من قبل روسيا مثلها مثل جنوب روسيا كله، ولن يخسر الغرب سوى خسائر معنوية من احتلال روسيا لأوكرانيا، والتي ربما تشغله عن تهديدات لدول أخرى شمال أوربا.
——————————
غزوات بوتين.. من أوكرانيا إلى سوريا وبالعكس/ درويش خليفة
لم يجرؤ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزواته خلال العقد الأخير سوى بعهد الإدارات الديمقراطية في البيت الأبيض، حيث اجتاح جيشه شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014 في أكبر عملية قضم أراضٍ شهدها الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من توقيع بلاده اتفاقية بودابست للضمانات الأمنية التي تتعلق بالسلاح النووي الأوكراني عام 1994، الأمر نفسه ينطبق على تدخل القوات الروسية في سوريا، سبتمبر 2015، وكلا الغزوتين كانتا في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق بارك أوباما.
اليوم، وفي ظلّ إدارة الرئيس الديمقراطي “جو بايدن”، يحشد بوتين ما يزيد على 100 ألف جندي روسي على بعد كيلومترات من الحدود الأوكرانية، مسبباً بذلك أزمة أمنية جيوسياسية تنعكس آثارها على قطاع واسع من العالم؛ وبشكل واضح سيكون للحرب تأثيراً على الأمن الغذائي للعديد من الدول التي تستورد القمح الأوكراني، خصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا، إضافة إلى إندونيسيا وماليزيا وبنغلاديش جنوب شرق آسيا.
وتتركز المناطق الأكثر إنتاجاً للقمح في الجزء الشرقي من أوكرانيا، والتي من المحتمل أن تكون نقطة الانطلاقة لغزوة الجيش الروسي الجديدة، غير أن الآليات الروسية تتوزّع على طول الحدود الأوكرانية.
إذن، يمكن تفسير غزوات بوتين تلك، بناءً على سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وتراجع اهتمامها ببعض المناطق التي كانت ضمن النطاق الجيوسياسي لمصالحها، مثل الشرق الأوسط وأفغانستان، وتركيزها على تنامي دور الصين، بل أكثر من ذلك، يراقب بوتين بنظرة استخباراتية مجريات الملف النووي الإيراني، وعلى إثرها يحدّد مدى قوة الفريق الأمريكي، وإذا ما كانت الفرصة سانحة لإظهار المزيد من القوة والغطرسة العسكرية لجيشه وتجريبه لصواريخ جديدة فوق رؤوس السوريين أو الأوكرانيين، واكتفاء الإدارة الأمريكية الحالية بالتحذير وتزويد حلفائها ببعض الذخائر التي لا تردع القوة العسكرية للروسية.
وفي ظلّ تدهور الاقتصادات الدولية التي صاحبت وباء كورونا، لا يمكن أن نحسُب لواشنطن إيقاع روسيا في حروب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بالإضافة إلى محيطها الجغرافي، من مبدأ إرهاقها اقتصادياً، لأن الروس في كل من الحالتين السورية والأوكرانية لم يواجهوا مقاومة حقيقية، بل استخدموا أسلحتهم المتطورة كقوة تدميرية لقتل وإرهاب المناهضين لحلفائهم، وبالتالي قاموا بتسويقها وبيع كميات كبيرة منها.
يدرك الرئيس الروسي بالضبط ما يفعله، ولا يوفر أياً من الفرص الممكنة للعب على حبال التناقضات الإقليمية؛ فما أكثر المختلفين، وما أشد الحاجة لتبريد الجبهات، ولمن يرسم خطوط الفصل بينها.
وبالفعل نجحت موسكو نسبياً في لعب هذا الدور من خلال رسمّ خطوط الاشتباك على الجغرافيا السورية، لكنها بالمقابل أخفقت في جوانب كثيرة أيضاً، فمن ناحية لم تستطع منع إسرائيل من استهداف المليشيات الإيرانية والنظام السوري في معظم الأحيان، وكذلك لم تفلح بمنع تخطي الأتراك والفصائل الحليفة لها شرق الفرات والسيطرة على المناطق الحدودية، ولكن الفشل الأكبر بالنسبة لها يتمثل ببقاء مقعد سوريا معلقاً في مجلس الجامعة العربية، بعد محاولة حثيثة من مبعوث بوتين “لافرنتييف” لإقناع ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” من أجل عودة النظام للجامعة، إلا أن محاولته لم يكُن لها صدى في الرياض.
دعونا نسأل، هل يحتمل الاقتصاد الروسي مزيداً من العقوبات والخسائر المتلاحقة التي كلفت ملياري دولار في حربه بسوريا واجتياح القرم، واقتصادها ليس من بين العشرة الأوائل؟
من الواضح أنّ روسيا لم تتأثر بالعقوبات الغربية عقبَ قضمها لجزيرة القرم، حتى وإن تهالك الاقتصاد وساءت الظروف المعيشية للشعب الروسي، كل هذا لن يثني بوتين عن طموحه الأمني الذي واكبه والقادة القوميون منذ زوال الاتحاد السوفياتي، وهو مطمئن أن الداخل الروسي لن يتحرك ضده ولو أكل التراب، بعد إقصائه كل الفرص لظهور معارضة منظمة.
ولطالما عمِل بوتين على ترسيخ حاجة ألمانيا لغاز بلاده الطبيعي، عبر مدّ خط “نورد ستريم 2″، وما عزز ثقته بنفسه، أنَّ الجميع ينادي باستخدام الطاقة النظيفة بعد الاحتباس الحراري، والتلوث العابر للحدود، وشح المياه العذبة، وتلوث الأراضي.
ومع ذلك، هناك أبعد من المشكلات البيئية، التي تجعل من بوتين أكثر اطمئناناً، وقد يكون أهمها الوضع القانوني لتوريد الغاز النرويجي نحو الدول الأوروبية، والذي يُقدر بنسبة 20 بالمئة، وصعوبة وصول كميات كبيرة من الغاز الطبيعي الجزائري بسبب عدم وجود بنية للنقل السريع، مما أوقف توريدها عند حدود 8.5 بالمئة من إجمالي الاستهلاك الأوربي، وكذلك الأمر بالنسبة لبُعد الأنابيب القطرية من ضفاف المتوسط، وبقاء نسبتها على ما هي عليه 3.5 بالمئة باتجاه القارة العجوز، وبالتالي فإنَّ جميعها أسباب تعزز أوراق القوة البوتينية.
وفي هذا الخِضم، هل بوسع إسرائيل أن تحجز دوراً يُمكِّنها من تعزيز علاقاتها مع روسيا أو حتى مناكفتها؟ بعد أن طلبت أوكرانيا من أمريكا إمدادها بمنظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي (القبة الحديدية)، وهو ما قد يضع تل أبيب بمواجهة مع موسكو في سوريا، وهذا ليس في مصلحتها بالمنظور القريب، بالنظر لتمركز قوى موالية لإيران بالقرب من الحدود الشمالية لإسرائيل.
ربما يكون من الأفضل لنا أن نتفكر بشخصية بوتين، وأين ستقوده طموحاته التوسعية في جميع الاتجاهات، وإذا ما كانت القوة العسكرية والاختراقات السيبرانية كفيلة بإبراز روسيا البوتينية، أو ثمة من وزع أدواراً وحظي بوتين بدور إرهاب الخصوم، وبالتالي يصبح التنمر والتشبيح نموذجاً عابراً للقارات.
——————————–
الأزمة الأوكرانية.. هل تنهي نظام القطب الواحد ؟/ مجمد السكري
قُبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية بعامين حاولت دول الحلفاء استرضاء ألمانيا النازية بقيادة أدولف هتلر عبر توقيع اتفاقية ميونخ (1938) والتي ضمت بموجبها أجزاء من دولة تشيكوسلوفاكيا ولا سيما منطقة السوديت مقابل تراجع هتلر عن نواياه العسكرية تجنباً لاندلاع أي حرب عالمية جديدة، ولكن بعد بضعة أشهر نكث النازيون بوعودهم واحتلوا تشيكوسلوفاكيا ومن ثم بولندا مما أدى لاندلاع الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وهكذا أصبحت اتفاقيات الاحتواء والاسترضاء أداة جديدة لشن الحروب بدلاً من الحد منها.
لم يكن المشهد مختلفاً مع سقوط جدار برلين (1989) ومن ثم سقوط الاتحاد السوفيتي في العام (1991) بعد تقديم ضمانات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية لأول رئيس روسي “بوريس يلتسين” بعدم توسع النفوذ الغربي على الحدود الإقليمية لروسيا، ولكن هذا لم يحصل بعدما أعلنت دول البلطيق عام (2004) وبعض دول البلقان بين عامي (2004-2009) انضمامها لحلف شمالي الأطلسي وهذا ما مثل تهديداً استراتيجياً على روسيا.
بالرغم من الاعتراضات الروسية حينها إلّا أن واشنطن لم تكترث كثيراً حيث أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في أيار/ مايو، 2008دعمه ضم كل من جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف مضيفاً أنّ المشاورات مع الحلف مستمرة في هذا الشأن، مما أدى لاندلاع حروب في هذه الدول في جورجيا “أوسيتيا الجنوبية” العام (2008) وفي أوكرانيا (2014). وهذا ما أعاد هيبة روسيا من جديد وعزز من بروزها مرة أخرى كفاعل قطبي صاعد، ما يعني ارتفاع فرص النظر في الإجراءات التي ترافقت مع توسع غربي في المحيط الجيوسياسي لروسيا.
النمو الروسي والصعود من جديد:
الدولة كائن حي ينمو وتزداد احتياجاته باستمرار والحدود أشبه بجلد كائن عضوي يجب أن يتمدد باستمرار مع نموه هذا تعريف فريدريك راتزل مؤسس الجغرافيا السياسية الحديثة، ربما هذا التعريف الأمثل لدولة بجغرافية روسيا التاريخية والحاضرة من حيث الموقع والتجارب المختلفة، صعدت روسيا كدولة قطبية في عدة محطات تاريخية ربما كان آخرها خلال الحرب العالمية الثانية تحديداً بعد ردع القوات الألمانية المتقدمة في عمق الأراضي الروسية خلال معركة “ستالينغراد” الشهيرة التي كانت مفترق طرق خلال الحرب وما بعدها حيث صعدت كقوة ضاربة قطبية لمدة تزيد عن 6 عقود قبل انهيار الاتحاد السوفيتي (1991). وعادت روسيا للواجهة من جديد بعد الحرب الجورجية والأوكرانية مع تزايد دعوات انضمام كلا الدولتين إلى حلف شمال الأطلسي الأمر الذي يعتبر خطاً أحمراً لدى روسيا، ومع تدخلها في جورجيا لقطع الطريق على الناتو برزت كقوة صاعدة وربما كانت من أكثر دول العالم نمواً في محيطها الإقليمي وخارجه.
في الواقع، إنَّ عوامل التاريخ هي الأكثر تفسيراً لهذه القضية، فخلال العشر سنوات الماضية كان الربيع العربي له تداعيات واضحة المعالم في عودة إرث وسياسات المعسكر الشرقي إلى الواجهة ولا سيما في سوريا، مع الفراغ الدولي الأمريكي الذي ساهم بنمو النفوذ الروسي. لكن مع ذلك، لم تكن موسكو متشجعة للانخراط العسكري خارج محيطها، إلى أن برزت الأزمة الأوكرانية من جديد بعد دعوات من قبل محتجين أوكرانيين بانضمام بلادهم إلى الاتحاد الأوربي وتوقيع اتفاقية الشراكة، تعاملت حكومة “فيكتور يانوكوفيتش” بعنف مع المطالب إلى أن صوّت البرلمان على عزل الرئيس وذلك في 20 شباط/ فبراير، 2014، وقد مثلت هذه التغييرات تهديداً واضحاً على النفوذ الروسي في جنوب وشرق أوكرانيا ولا سيما مع إقرار قانون اعتبار اللغة الأوكرانية اللغة الرسمية -الوحيدة- في البلاد ما أعتبر تغيراً ثقافياً يهدد موسكو، وقد نتج عن ذلك تدخلاً عسكرياً روسياً في أوكرانيا ومن ثم أجراء استفتاءً شعبياً في جزيرة القرم للانفصال عن الدولة وقد شجع ذلك مجموعات انفصالية في دونباس التي تلقت دعماً روسياً للانفصال عن كييف.
ومع توقيع اتفاقية مينسك للسلام (2015) شكلت روسيا لنفسها شخصية سياسية في المجتمع الدولي تقوم على عودة تموضعها كقوة شرقية جديدة مع سيطرتها على أجزاء من جورجيا ومن ثم أوكرانيا وهذا أعطاها دافعاً للتمدد جيواستراتيجياً في سوريا فكان من الملاحظ عقب نهاية الحرب الأوكرانية نقل قوات النخبة الروسية التي شاركت في الحرب الأوكرانية ومجموعة فاغنر الروسية المملوكة لصاحبها ““Yevgeny Prigozhin إلى سوريا لدعم النظام السوري في 30 سبتمبر/ يوليو، 2015، ولحقه تدخل روسيا بشكل رسمي في ليبيا لصالح قوات حفتر في مواجهة حكومة الوفاق وذلك في 26 أيار/ مايو، 2020، ومن ثم الوقوف في مواجهة تركيا في إقليم ناغورني قره باغ (2020) ومنع سقوط حكومات موالية لها في بيلاروسيا (2021) ومن ثم كازاخستان (2022) وبهذه الصورة أصبحت موسكو جزءاً أساسياً في المعادلة الدولية في ملفات مختلفة ما زاد قدرتها على المساهمة بشكل أكبر في توازن أو خلل النظام الدولي.
صراع الأقطاب و توازن دولي على المحك:
مع وصول حكومة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الديمقراطية إلى السلطة، المعروفة بعدائها للتوجهات والسياسيات الروسية الراغبة بالتوسع، عادت الخلافات إلى الواجهة إذ كانت أولى القرارات الأمريكية فرض عقوبات وسحب السفير في رسالة تعبر عن خط سياسي مختلف كلياً عن ذاك الذي انتهجه الرئيس السابق “دونالد ترامب”، وكانت القضية الأوكرانية جزءاً من المعادلة إذ عاد الحديث عن الانضمام للناتو وتقديم الدعم لكييف من أجل الحد من التهديدات الروسية للمصالح الغربية عن بوابة أوروبا الغربية بالرغم من أنّ اوكرانيا لم تستوفِ لحد هذه اللحظة المعايير الأساسية للانضمام التي أهمها استقلالية المؤسسة العسكرية، والدولة الديموقراطية، والحريات السياسية في ما يبدو تغاضياً عن الأمر لأسباب أكثر موضوعية تتعلق بتوازن النظام الدولي فمنطق القوة والمصالح هو الذي يفرض نفسه.
في الحقيقة، الحسابات المنطقية للمعادلة يقول إنَّ الغزو الروسي لهذه المنطقة يعتبر شبه نزهة من حيث القوة والترسانة العسكرية ولا سيما مع تنازل أوكرانيا عن سلاحها النووي بغية أن تحظى باعترافٍ روسي ودولي باستقلالها وذلك ضمن معاهدة “بودابست للضمانات الأمنية” بين أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة عام (1994)التي تنص على نزع السلاح النووي الأوكراني مقابل تقديم ضمانات أمنية لاستقلال أوكرانيا، وعدم وجود قراراً واضحاً أمريكياً أوروبياً لسياسة الردع.
لكن في المقابل، ثمّة اعتقاد بأنّ واشنطن من الصعب أن تسمح لموسكو بغزو روسي لأوكرانيا على الطريقة الجورجية أو السورية لأنَّ ذلك يعني وفق لمفهوم نمو الدولة، توجه/ تركيز أنظار روسيا إلى دولٍ تقع في محيطها مثل؛ دول البلطيق ودول والبلقان، حيث لم تتردد موسكو في الحديث في مناسبات عديدة عن التهديد الأمني التي تمثله رومانيا وبولندا ومن ثم طالب الرئيس الروسي ” فلاديمير بوتين” بانسحاب قوات الناتو من رومانيا وبلغاريا.
في قراءة للتصريحات الأمريكية يُرصد بأنَّ الإجراءات التي قد تترتب على الغزو الروسي مجرد عقوبات اقتصادية وربما قد تكون أوسع من تلك بعد أحداث جزيرة القرم وهذا ما يضع سياسات الردع والاحتواء موضع شك كبير ويضعف الهيبة الأمريكية، الأخيرة متخوفة في حال استخدام العنف حيال القضية من تكرار نماذج تاريخية مشابهة كتلك التي جرت مطلع ستينات القرن الماضي “أزمة الصواريخ” والتي هددت بها روسيا محيط ومصالح واشنطن وعقيدة “مونرو” التي تنص على تبعية الأمريكيتين لواشنطن بالتالي أي تهديد قد يقع هنا يمثل خطراً أمنياً، روسيا استطاعت حينها التضييق على وصول واشنطن لقناة “بنما الإستراتيجية” من خلال التمدد الشيوعي في كوبا ومن ثم السلفادور ونيكاراغوا قبل التوصل إلى حوار وحل سلمي للأزمة. ما يعني إمكانية عودة تهديد مماثل في حال خرجت الأمور عن السيطرة.
وقد لا تقف الأمور عند هذا الحد، فهناك ترقب صيني واضح مما ستؤول له الأحداث في الأزمة الأوكرانية ففي حال تنفيذ روسيا لعملية عسكرية بلا شك هذا سيدفعها لتهديد المصالح الأمريكية في المحيط والجغرافية التاريخية لها عبر غزو تايون ومن ثم تهديد نفوذها في كل من كوريا الجنوبية واليابان.
كما أنَّ الغزو الروسي قد يضع الجانب الإيراني في موقفٍ أكثر قوة حول مفاوضات “فيينا” الخاصة بترسانتها النووية وهذا يشي ببروز فاعل جديد على الخارطة الدولية مستفيداً من الأزمات البينية بين قطبين بارزين.
يدفع هذا للاعتقاد بأنَّ الأزمة الأوكرانية غير مرتبطة فقط بالتدافع الروسي الأمريكي والمكاسب الأوربية بقدر الحفاظ على التوازن في الميزان الدولي والهيبة الأمريكية التي باتت ربما على المحك فاختبار أوكرانيا يعتبر حساس للغاية ونتائجه قد ترتبط بظهور عالم قطبي جديد يقوم على التعددية ما بعد ثنائية، بين أمريكيا وروسيا والصين.
اتحاد أوربا وتباين الاستراتيجيات:
برزت في العقد الأخير تباينات واضحة في سياسات الدول الأوربية حيال العديد من القضايا ربما أكثرها وضوحاً الأزمة الليبية ففي حين دعمت إيطاليا حكومة الوفاق وقفت فرنسا بجانب حكومة حفتر بينما ألمانيا اتخذت موقفاً محايداً معتبرةً بأنَّ العملية السياسية هي المخرج. وكذلك، هناك تباين حول تجارة بعض الدول الأوربية مع الصين حيث لم تخفِ الحكومة الألمانية بوجود نية للتعامل مع الصين بمقاربة جديدة تقوم على التعاون الثنائي على غرار دول أخرى أوربية عززت العلاقة مع بكين.
ثمّة انقسامٌ واضح المعالم في دعم القضية الأوكرانية بين محور -هو الأكبر- مؤيد لدعم كييف بالأسلحة والمواجهة العسكرية في حال حدوثها وأخرى مثل؛ ألمانيا تفضل سياسة الانحياز لدعم مكاسبها الاقتصادية، فهناك تخوف لدى برلين من قطع خطوط إمدادات الغاز الروسي إلى عمق القارّة حيث يُقدر حجم الغاز الروسي من حيث تأمين الاحتياجات الغربية بين 50-70 بالمئة، كما هناك توجس لدى الحكومة الاشتراكية الديمقراطية من مصير مشروع “نورد ستريم” بين روسيا وألمانيا.
على الضفة الأخرى تشارك كل من كندا والمملكة المتحدة وإيطاليا وفرنسا الدول الاسكندينافية والبلطيق المخاوف إزاء التهديدات الروسية وهذا يمثل انقسام بين محورين في الاتحاد الأوربي، فرنسا وألمانيا مؤسستا الاتحاد (1951).
تركيا: سياسة وحسابات معقدة بين سوريا وأوكرانيا
تتعقد الحسابات التركية اتجاه الأزمة في أوكرانيا بين موازنة تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية وأهدافها بالانضمام إلى الاتحاد الأوربي بالتالي التأكيد على حرصها على أمنه، وبين علاقتها المتقدمة مع روسيا التي نمت في الربع الأخير من العام (2015) وتوقيع اتفاقية سوتشي (2018) وملاحقها.
مع ذلك، شهدت العلاقات الأوكرانية-التركية تقدماً ملحوظاً خلال الأعوام القليلة الماضية في موقفٍ يعكس السياسة التركية حول إدارتها لمنافعها عبر عدم حسم موقفها السياسي والاصطفاف الكامل مع محور ما على حساب الآخر، حيث زودت أنقرة وفق صفقة مع كييف طائراتها المسيرة” Bayraktar TB2″ التي اشتهرت في معركة إدلب الأخيرة “درع الربيع” في إطار تأكيدها المستمر على موقفها من الأزمة الأوكرانية ودعمها لوحدة الأراضي الأوكرانية وتبعية جزيرة القرم لكييف.
كما يجدر القول بأنَّ العلاقات الروسية التركية في أحسن أحوالها على كافة المستويات، فمن حيث العلاقات التجارية بين الدولتين بلغَ التبادل بنحو 30 مليار دولار خلال العام (2021) وتهدف لرفعها لـ 100 مليار خلال العام الجاري، كما استطاعت تركيا تنويع مصادر طاقتها من خلال التعاون الثنائي عبر بناء محطة الطاقة النووية “أكويو” والاعتماد على موسكو في توريد الغاز لها عبر مشروع أنابيب (ترك ستريم) وهو خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى كل من تركيا وأوروبا عبر البحر الأسود، كذلك الأمر عسكرياً حيت تطورت العلاقات بعد حصول تركيا على منظومة الصواريخ الروسية “إس- 400” ما أدى لتعكير صفو العلاقات الأمريكية- التركية بعد الخروج من صفقة تصنيع الطائرات “إف-35” الأميركية القتالية، كما شهد تطور العلاقات الثنائية انعكاساً ملحوظاً على ملفات في سوريا بعد ما يقارب من عامين على إجراءات بناء الثقة في منطقة خفض التصعيد الأخير والولوج في العملية السياسية، وفي أذربيجان بعد توقيع اتفاقية السلام نهاية العام (2020) والتوصل لحكومة وحدة وطنية في ليبيا (2021) لكن مع ذلك ما زالت موسكو تفرض واقعاً مختلفاً عن رؤية أنقرة وتشكل تهديداً أمنياً مستمراً لها.
لذلك، تعوّل تركيا على التقليل من فوارق القوّة في إطار النزاعات الإقليمية المتداخلة مع روسيا في كل من سوريا وأذربيجان وليبيا عبر الضغط على روسيا في محيطها الإقليمي من خلال الموقف السياسي والدعم العسكري لأوكرانيا على أمل أن يؤدي ذلك إلى تغيير في السياسات الروسية ولا سيما في سوريا ما يتيح فرصة عقد صفقة مربحة على اعتبار أن دعم روسيا لمجموعات إرهابية والنظام السوري يهدد المصالح الأمنية لأنقرة لذلك تحاول كسب ورقة تفاوضية في أوكرانيا تنطلق من ذات المحدد الروسي في سوريا وربما قد يفضي ذلك إلى تفاهمات جديدة.
وبالفعل كانت سوريا من أكثر المستفيدين من الحرب العالمية الثانية وتداعياتها الدولية واختلاف الأطراف ولا سيما الألمانية والفرنسية من جهة ومن ثم الفرنسية البريطانية وبروز الولايات المتحدة، وربما كانت هذه الحرب من الأسباب الرئيسية التي ساعدت سوريا على خطف الاستقلال (1946).بالتالي، من الوارد أن تكون الأزمة الأوكرانية التي تعتبر الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة (1991) من أفضل الفرص والتي قد تصب في صالح المعارضة السورية، مع تشتيت التركيز الروسي والدولي على أوكرانيا ووجود الرغبات التركية بالاستفادة من الحالة الراهنة شديدة التعقيد.
ما يعني إمكانية وجود ملامح لتشكيل مواقف جديدة من قبل الفاعلين الدوليين والإقليميين حيال الملف ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية في إطار الضغط على موسكو وقد يكون ذلك بصورٍ مختلفة منها تطوير استراتيجيات الوجود الأمريكي في سوريا من محددات أمنية إلى أخرى عسكرية تهدف للضغط على القوات الروسية، وبالتالي توحيد المعارضة للضغط على النظام، ما يهدد التفاهمات الثنائية بين موسكو وأنقرة. وانطلاقاً من هذه المعطيات تبرز أهمية الأزمة الأوكرانية بسبب تداخلها مع ملفات دولية متشابكة.
الخاتمة:
بصرف النظر عن نتائج الأزمة الأوكرانية يبرز للواجهة مشهد دولي جديد في الميزان العالمي يؤكد صعود روسيا كقوة قطبية ضاربة والذي بدأ مع الأزمة الجورجية وعدم اكتراث الولايات المتحدة لتداعياتها ومن ثم الضبابية الإستراتيجية في التعامل مع تمدد وفعالية روسيا خلال العقد الأخير من قبل الإدارة الأمريكية المتعاقبة بين الديمقراطيين والجمهوريين.
يبدو أنَّ المعطيات المتوفرة تُشير إلى أنّ الأطراف بغنىٍ عن أي صدامٍ عسكري وشيك قد يقع في كييف، بالتالي من الوارد جداً أن تصل الأطراف إلى تفاهمٍ مشترك يقوم على تحييد محيط روسيا من أي نشاطٍ للناتو وتقديم إجراءات بناء الثقة عبر ضمانات لروسيا في هذا الشأن مقابل الإحجام عن أي عملية عسكرية ما يعني نزع فتيل الأزمة بأقل الخسائر الممكنة مع ذلك هذا لن يغير في شخصية روسيا الدولية الجديدة ما يمنحها مزيداً من الثقة لمنافسة شكل نظام القطب الواحد المحدد الذي تنطلق منه مع الصين في مواجهة واشنطن، وهذا قد يدفع الأخيرة لإعادة النظر بالسياسات التي قام بطرحها “جورج كينين” مهندس الحرب الباردة منتصف التسعينات من القرن المنصرم محذراً من تداعيات توسع الناتو في محيط روسيا الإقليمي.
——————————
أردوغان يلعب على حافة الهاوية… مع أوكرانيا لتلافي سطوة بوتين/ أحمد ياسر
أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن روسيا ستبدأ خلال هذا الأسبوع بغزو أوكرانيا التي زارها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في محاولة للتأكيد على عمق العلاقة الإستراتيجية بين البلدين.
أثبت الوقت الذي أمضاه أردوغان في العاصمة الأوكرانية، أنها دولة مهمة بالنسبة إليه، إذ وقّع المسؤولون في البلدين على مجموعة من الاتفاقيات الثنائية، بما في ذلك اتفاقية التجارة الحرة التي طال انتظارها، مهدت الطريق للإنتاج المشترك لطائرات من دون طيار في أوكرانيا.
وبرزت تركيا خلال العقد الماضي كواحدة من الشركاء الرئيسيين لأوكرانيا، إذ نمت التجارة الثنائية بينهما بنسبة 50% تقريباً خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2021، لتصل إلى خمسة مليارات دولار.
وأعرب كل من الرئيسين التركي والأوكراني فلاديمير زيلينسكي، عن أمله بأن المزايا الإضافية لاتفاقية التجارة الحرة الجديدة، ستزيد حجم التجارة الثنائية السنوية إلى أكثر من عشرة مليارات دولار أمريكي في غضون السنوات القليلة المقبلة.
ولا شك أن الغزو الروسي سيطيح بهذه المكاسب الاقتصادية لأنقرة، بل سيزيد نفوذ موسكو في البحر الأسود ويُحجّم تركيا، لذلك حاولت الأخيرة تجنيب كييف الغزو بالوساطة مع روسيا، وزيادة قدرات أوكرانيا الدفاعية.
العلاقات الدفاعية
في محاولة لمنع تحجيم نفوذها، لم تقبل تركيا أبداً بضم روسيا لشبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود عام 2014، وتعاطف الأتراك مع مجتمع التتار المحتل من الروس في منطقة القرم المسلمة الناطقة باللغة التركية. وسيطرت موسكو أيضاً على الكثير من سفن البحرية الأوكرانية والبنية التحتية للموانئ، عندما استولت على القرم، ما أدى إلى تغييرٍ كبيرٍ في ميزان القوى في البحر الأسود، وقلب الميزة السابقة للبحرية التركية.
رداً على ذلك، قدّمت تركيا الدعم السياسي والدبلوماسي لجماعات تتار القرم، مؤكدةً أنها لن تعترف بالضم الروسي لشبه الجزيرة الأوكرانية. وعززت التعاون العسكري التقني مع كييف، لا سيما من خلال بيع طائرات من دون طيار مسلحة ومتطورة استخدمها الأوكرانيون ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في دونباس.
في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية شريط فيديو يُظهر طائرةً مسيّرةً من طراز TB2 تركية الصنع، تضرب مدفع هاوتزر لانفصاليين موالين لروسيا في منطقة دونباس. وقال أردوغان في 17 كانون الثاني/ يناير الماضي، إن روسيا “اغتصبت القرم ولا يمكن أن تستمر الأمور بعقلية الاحتلال”، كذلك أعلنت الرئاسة التركية في 3 شباط/ فبراير 2022، أنها لن تتراجع عن بيع المسيّرات لكييف.
بات المسؤولون الروس ينظرون إلى علاقة أنقرة العسكرية الفنية مع أوكرانيا، وعلاقتها مع مجتمع تتار القرم، على أنها إشارات استفزازية، عادّين أن دعم أنقرة لتتار القرم تهديد لوحدة الأراضي الروسية.
وعلى الرغم من أن الطائرات من دون طيار تمنح أوكرانيا قدراتٍ إضافيةً، إلا أن تأثيرها على التوازن بين موسكو وكييف محدود، لا سيما في حالة نشوب صراع شديد القوة يشمل القوة الجوية الروسية، فلن يصمد الجيش الأوكراني.
في هذا الشأن، قال المحلل السياسي الروسي أندريه أونتيكوف، إن “تركيا تحاول أن تقوّي نفوذها ودورها في الأزمة الأوكرانية، وتقدم مقترحات حول انعقاد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني، ولكن من الواضح تماماً أن أنقرة، وبغض النظر عن العلاقة الطبية مع كلّ من روسيا وأوكرانيا، هي دولة منحازة أكثر إلى الجانب الأوكراني”.
وأضاف المحلل الروسي لرصيف22: “نحن نعلم الموقف التركي من شبه جزيرة القرم الروسية، وعدم اعترافها بسيادة روسيا عليها، وبأنها زوّدت الجانب الأوكراني بمختلف أنواع الأسلحة، وأنهم يحاولون فرض سياسة معيّنة علينا”.
من جانبه، قال المحلل السياسي التركي، فراس رضوان أوغلو، لرصيف22، إن “تركيا تحاول الحفاظ على مصالحها، وهي منع محاولة تحجيمها إذا تم احتلال أوكرانيا”، مضيفاً أن “زيارة أردوغان لكييف في 3 شباط/ فبراير الحالي، رسالة بأن أنقرة تدعم أوكرانيا، وستحافظ على مصالحها”.
في رأي أونتيكوف، فإن تركيا تعتمد على تكتيك غير مقبول، وهو الدعوة للتوسط بين روسيا وأوكرانيا، مضيفاً أن “موسكو لا يمكن أن توافق على ذلك، لأن روسيا ليست طرفاً في النزاع، والوساطة تكون بين الحكومة الأوكرانية والقوات المسيطرة على دونباس”. وتابع المحلل الروسي: “إذا أرادت تركيا أن تشارك في حل هذه الأزمة، فعليها أن تتوجه إلى الأطراف المتنازعة داخل أوكرانيا، وليس إلى روسيا”.
من جانبه، استبعد رضوان أوغلو أن تلعب تركيا دور الوسيط في الأزمة، مضيفاً أن الصراع يدور بين روسيا والولايات المتحدة، ولا تلعب أنقرة دوراً فيه.
الخسائر والمكاسب
تخاطر أنقرة بالعزلة الدبلوماسية والتوسع الإستراتيجي المفرط لروسيا، إذ يمكن للأخيرة تصعيد الضغط ضد المصالح التركية في إدلب السورية، للتأكد من بقاء أنقرة على الهامش في أوكرانيا، وفقاً لمجلة فورين بوليسي الأمريكية.
ومن المرجح أن تكون عواقب الهجوم الروسي ضد أوكرانيا سلبيةً ووخيمةً على المدى البعيد، مثل زيادة توطيد التفوق العسكري والبحري الروسي في البحر الأسود، وإضعاف شراكة تركيا وأوكرانيا، والمزيد من الضرر للاقتصاد التركي، وتدفق اللاجئين والهجمات ضد المصالح التركية في سوريا، وأماكن أخرى.
ويمكن أن يؤدي ذلك إلى نهاية عملية التوازن طويلة الأمد بين الناتو وروسيا، إلى جانب إنهاء طموح النفوذ الإقليمي الذي حدث خلال فترة حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، وفقاً للصحيفة.
في المقابل، يمكن أن تتراجع إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بيلاروسيا وأوكرانيا، وإلغاء خط أنابيب نورد ستريم 2 من قبل ألمانيا، أو تعليقه، إذا حدث غزو لكييف، وتحوّل عبور الغاز من موسكو إلى القارة العجوز عبر أوروبا من خلال خطوط أنابيب Blue Stream وTurkStream التركية.
ومع ذلك، رجّح تقرير لمركز كارنيغي، احتمال عمل روسيا ضد المعدات العسكرية تركية الصنع التي تستخدمها أوكرانيا، وفرض عقوبات اقتصادية على تركيا تشمل وقف السياحة والواردات الزراعية بسبب استمرار أنقرة في دعمها لكييف عسكرياً. لكن التقرير أشار في الوقت ذاته إلى أن موقف أنقرة من الأزمة قد يُصلح العلاقات مع واشنطن.
السيناريو المتوقع
من المرجّح أن يكون موقف تركيا في الأزمة الأوكرانية مماثلاً لموقفها من الحرب الجورجية الروسية في عام 2008، عندما حاولت جورجيا المدعومة من الغرب استعادة منطقة أوسيتيا الجنوبية الانفصالية.
كانت أنقرة آنذاك داعماً رئيسياً لبرنامج تدريب الجيش الجورجي وتجهيزه، في الفترة التي سبقت الحرب، إلا أنها رفضت السماح للسفن الحربية الأمريكية بالدخول إلى البحر الأسود، كجزء من التحركات الأمريكية لردع روسيا، مراعاةً لاتفاقية مونترو.
وفقاً لصحيفة المونيتور الأمريكية، فإن حكومة أردوغان لديها قائمة طويلة من المصالح التي يجب مراعاتها، بما في ذلك استقرار المضائق التركية والبحر الأسود، ومحطة أكويو للطاقة النووية التي يبنيها الروس في جنوب تركيا، وتأمين إمدادات الغاز من خطوط الأنابيب مع روسيا، والعديد من مشاريع شركات البناء التركية في روسيا، وتأمل بتوسيع نفوذها في القوقاز بعد مساعدة أذربيجان في حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، وعملياتها المستمرة في سوريا وليبيا. حتى واردات القمح من روسيا أصبح وضعها حساساً للغاية بعد أن تضاعفت أسعار الخبز.
ومع ذلك، قال رضوان أوغلو إن “تركيا ستقف مع الولايات المتحدة ضد روسيا، لأن فكرة التحجيم لن تكون مقبولةً لها”، مضيفاً أن روسيا وتركيا تتعاملان وفق مبدأ ألا يتم ربط كل ملف بملفٍ آخر، فالأزمة السورية من المستبعد تأثّرها بالوضع في أوكرانيا، والتبادل الاقتصادي والتجاري منفصل إلى حد ما.
———————————
====================
تحديث 16 شباط 2022
———————-
أوكرانيا… وقصة الذيل الذي «يهزّ الكلب»/ جلبير الأشقر
صدرت في عام 1993 رواية أمريكية عنوانها «يهزّ الكلب» (Wag the Dog) صوّرت «عاصفة الصحراء» أي الحرب الأولى التي خاضتها الولايات المتحدة برفقة حلفائها العرب والعالميين ضد العراق في عام 1991، وكأنها حرب كان القصد منها خلق مناخ ملائم لإعادة انتخاب الرئيس جورج بوش الأب لولاية رئاسية ثانية، وقد جرت في الرواية الاستعانة بمخرج سينمائي من هوليوود ليشرف على تنظيم الحرب من أجل هذه الغاية. والحقيقة أن بوش الأب خسر الانتخابات في عام 1992، بالرغم من ابتهاره في الانتصار الذي حقّقه في «عاصفة الصحراء» وفاز بيل كلنتون بالرئاسة.
هذا وقد تبع الرواية في عام 1997 فيلمٌ عرف إقبالاً كبيراً، وقد استند إلى الرواية وحمل عنوانها ذاته. أما قصة الفيلم فهي مختلفة عن قصة الرواية، إذ تدور حول رئيس أمريكي يسعى وراء إعادة انتخابه لولاية ثانية بينما تدنّى حظّه في النجاح بسبب فضيحة جنسية، فيلجأ إلى افتعال حرب في ألبانيا من أجل صرف الأنظار عن مشاكله وإحياء شعبيته. وقد بدا الفيلم وكأنه تنبأ بما حصل بالفعل، إذ انفجرت في وجه كلنتون، بعد صدور الفيلم بأسابيع قليلة، فضيحة لوينسكي الجنسية الشهيرة، فبدا أمره بقصف مصنع الشفاء للأدوية في السودان في ذروة تلك الفضيحة وكأنه محاولة بائسة لصرف الأنظار عنها. وبعد ذلك بسنتين أشرف كلنتون على حرب ليس في ألبانيا ذاتها، بل في مقاطعة كوسوفو الألبانية في صربيا.
ومنذ صدور الفيلم، أصبحت عبارة «يهزّ الكلب» تشير باللغة الإنكليزية إلى نزعة المسؤولين السياسيين إلى افتعال أزمات لصرف أنظار الناس عن قضايا محرجة لهم. ولا يسعنا سوى أن نفكر بتلك العبارة وما ترمز إليه عندما نرى أن الزعيمين الغربيين الأكثر حماساً لتصعيد لهجة المواجهة مع روسيا إزاء أوكرانيا هما جو بايدن وبوريس جونسون، وكلاهما يواجه أقصى الإحراج السياسي. ذلك أن بايدن يتخبّط إزاء فشله في الإيفاء بوعوده الانتخابية في المجال الاقتصادي، بما فاقم انحطاط صورته المتسارع الذي نجم عن خسارته لماء الوجه في تنظيم خروج القوات الأمريكية من أفغانستان في الصيف الماضي. أما جونسون فيواجه منذ أسابيع موجة سخط لا سابق لها بلغت صميم حزبه، حزب المحافظين، تتعلّق بخروقات متكرّرة، جرت في مقرّ رئاسة الوزراء، للموانع التي أملتها حكومته على الجمهور في صدد التجمعات بغية محاصرة انتشار وباء الكوفيد.
ويتصرّف الرجلان، بايدن وجونسون، وكأنهما يتمنيان أن تجتاح القوات الروسية أراضي أوكرانيا كي يلهيا شعبيهما بحالة حربية خطيرة تتيح لهما لعب دور الزعيم التاريخي. ويبدو أن بايدن يحلم بلعب دور الرئيس الأمريكي روزفلت في إدارة الحرب ضد النازية، أما جونسون فمن المشهور عنه أنه طامح بتقليد ونستون تشرشل. وتصل الكوميديا إلى ذروتها مع وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، التي تطمح إلى الحلول محلّ جونسون، وتحلم بتقليد مارغريت تاتشر في خوضها لحرب «جزر فوكلاند» ضد الأرجنتين، إلى حد اغتنامها فرصة سفراتها المتعلقة بالمواجهة الدائرة حالياً من أجل تنظيم التقاط صورة لها على متن دبابة شبيهة بصورة شهيرة لتاتشر، وأخرى وهي مرتدية قبعة فَرو في الساحة الحمراء في الكرملين، على غرار صورة أخرى شهيرة لتاتشر، بالرغم من أن حرارة الجو لم تكن تبرّر ارتداء تروس لمثل هذه القبعة!
طبعاً، نقول كل ذلك ونحن ندرك تماماً أن تهديد فلاديمير بوتين لأوكرانيا ليس من نسج الخيال، بيد أن سلوك الحكمين الأمريكي والبريطاني يختلف اختلافاً ملحوظاً عن سلوك الحكمين الفرنسي والألماني. فبينما يهوّل الحكمان الأولان بالحرب القادمة، بل يؤكدان كل يوم على وشوكها، وكأنهما يحثّان على وقوعها، يسعى الآخران وراء فهم الرسالة التي أراد بوتين توجيهها من خلال إجراءاته العسكرية ويبديان تفهّماً لمطالب روسيا الأمنية التي لا تختلف البتة في الحقيقة عن مطالب أي قوة عظمى بمثل حالتها.
وثمة نفاق كبير في الادّعاء الغربي بأن روسيا في هذه الحالة تتعدّى على سيادة أوكرانيا وحقّها بالانضمام إلى الحلف الأطلسي، في حين أن المطلب الروسي ليس موجّهاً لأوكرانيا، بل للحلف ذاته، تطالبه موسكو بإقرار التوقف عن الامتداد شرقاً وهو ليس بمطلب خارق على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، عند أزمة الصواريخ في كوبا في عام 1962، لم تطلب واشنطن من كوبا الكفّ عن استقبال الصواريخ الروسية، بل طالبت موسكو بسحب صواريخها من الجزيرة، والفارق جليّ بين الصراع الدائر بين قوتين عظميين من جهة، وإرادة قوة عظمى فرض مشيئتها على دولة ضعيفة من الجهة الأخرى. وإذا صحّ أن روسيا ارتكبت ضغوطات من هذا النوع الأخير مراراً على مرّ الزمن، يبقى أن الأمر نفسه ينطبق على أمريكا وسائر القوى العظمى.
توخّى لاعب الشطرنج فلاديمير بوتين تحريك وزيره وقلعتيه في هذا الوقت بالذات، مدركاً أن بايدن في موقع ضعف أولاً، وأن حالة سوق المحروقات العالمية تزيد من قدرته على الضغط على الدول الغربية، ثانياً، فضلاً عن وصول العلاقات بين أمريكا والصين إلى الدرك الأسفل بما يضمن تضامن بكين مع موسكو (لاسيما أن مطامع روسيا إزاء أوكرانيا تذكّر الصين بمطامعها إزاء تايوان). ومن المرجّح أن يكون ردّ الفعل الأمريكي قد فاجأ بوتين، إذ تعدّى ما كان يصبو إلى إحداثه ليبلغ حالة وصفتها دوائر الخارجية في موسكو بالهستيرية. أما مصيبة سائر البلدان على رقعة الشطرنج تلك، فهي أن أهميتها لا تعدو أهمية الجنود الذين يسهل على اللاعب التضحية بهم سعياً وراء مبغاه.
القدس العربي
——————————
قراءة هادئة في الأزمة الأوكرانية/ علي أنوزلا
منذ ثلاثة أشهر ونصف الشهر، يعيش العالم على إيقاع الأزمة الأوكرانية المتصاعدة بين روسيا والغرب، مهدّدة بعودة أجواء الحرب الباردة التي استمرّت زهاء أربعة عقود نهاية القرن الماضي. ثمّة من يرى في الأزمة الحالية تهديداً للسلم العالمي، إذ قد تؤدّي إلى حرب مدمرة لم يشهدها العالم من قبل، بالنظر إلى الأسلحة الفتاكة التي قد تستعمل فيها. وفي المقابل، يقلل كثيرون من مخاوف تطور هذه الأزمة إلى حرب شاملة، بسبب أسلحة الدمار الشامل التي تشكّل رادعاً، بسبب خطورتها، أمام القوى الكبرى للمشاركة فيها.
تتلخص الأزمة الأوكرانية في مطالبة روسيا بمنع أوكرانيا من الانضمام إلى الحلف العسكري الغربي، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتقليص قواته في الدول التي كانت سابقاً محسوبة على حلف وارسو في عهد الاتحاد السوفييتي، وبأن يتغاضى الغرب مستقبلاً عن التدخل العسكري لروسيا في هذه الدول لحماية أنظمتها الدكتاتورية، كما حدث أخيراً في كازاخستان وبيلاروسيا وقبلهما في جورجيا وأوكرانيا عام 2014. فما يخشاه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس فقط تمدّد نفوذ “الناتو” شرقاً، وإنّما موجة الديمقراطية الغربية التي تزحف تدريجياً على حدود إمبراطوريته، وتقدّم نموذجاً لحكمه الاستبدادي القائم على خليط بين الدكتاتورية والأوليغارشية. وفي المقابل، يعتبر الغرب، ممثلاً في حلف الناتو، أنّ من حق كلّ دولة ذات سيادة أن تنضم إلى الحلف الذي تريده، وليس من حق روسيا أن تهدّد كل الدول المجاورة لها كلما أرادت شعوبها أن تقرّر مصيرها بنفسها، وأي تنازل عن هذا المبدأ سيُظهر ضعف الغرب في مواجهة التمدّد الروسي المتصاعد. فما نشهده اليوم نوع من استعراض القوة من روسيا، ولعبة شدّ الحبل من الغرب لتضييق الخناق على الرئيس بوتين، لإحراجه داخل بلاده وأمام حلفائه، وهو وضعٌ يثير الخوف من مدى حدود هذين التصعيدين، العسكري والإعلامي، اللذين قد لا ينتهيان حتماً إلى استعمال روسيا القوة، لأنّها تدرك أنّ التهديد باستعمال القوة ورقة للضغط أكثر فعالية من اللجوء إليها، لأنّه في هذه الحالة لا يمكنها التحكّم في عواقبها ونتائجها التي قد تأتي عكسيةً ضد ما تستطيع أن تحققه بكلفة أقل في معركة كسر العظم القائمة حالياً بينها وبين الغرب. ولعلّ هذا ما يجعل الجانب الروسي، على الرغم من استعراضه قوته، يترك الباب مفتوحاً أمام الحوار مع القادة الغربيين الذين يسعون إلى تجنّب وقوع الحرب داخل القارّة الأوروبية، ويلوحون بورقة العقوبات الاقتصادية للحدّ من ابتزاز الدبّ الروسي لهم.
وداخل أوكرانيا، البلد المهدّد بالغزو الروسي في أيّ لحظة بناء على الحشد العسكري الروسي الهائل على حدودها، واستناداً إلى التهويل الغربي من قرب حدوث هذا الغزو، حاول الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، التقليل من خطورة الوضع الذي توجد أمامه بلاده، معوّلاً على انتصار الحلّ الدبلوماسي الذي تكاثفت جهوده في الأيام الأخيرة في انتظار حدوث معجزةٍ توقف منسوب التوتر في هذا الأزمة التي تضع من جديد السلم العالمي على المحكّ.
وبعيداً عن مظاهر استعراض القوة التي تقوم بها روسيا، والتهديد بالعقوبات الاقتصادية والحرب الإعلامية التي يشنّها ضدها الغرب، فإن احتمال وقوع الحرب يبدو مستبعداً، لكنّه سيظل قائماً، لأنّ ما تخفيه هذه الأزمة أكبر بكثير من مجرّد “ترسيم” حدود بين الحلف العسكري الغربي والإمبراطورية الروسية التي يسعى بوتين إلى إحيائها على أنقاض الاتحاد السوفييتي البائد، فهذه الأزمة تخفي ما هو أعظم، أي إعادة تقسيم العالم، كما فعلت اتفاقات يالطا، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى معسكرين وقطبين، غربي وشرقي. وما لا يجب أن ننساه أنّ بوتين، الحامل عقيدة الحرب الباردة، كان شاهداً على تفكّك حلف بلاده العسكري وانهيارها الحضاري منذ نحو ثلاثة عقود، ويسعى اليوم إلى إعادة رسم حدود نفوذها العسكري، واستعادة كبريائها في العالم. ويجد بوتين في الظرف العالمي الحالي كلّ الشروط الموضوعية لتحقيق حلمه، مستغلاً خروج العالم منهكاً من أزمة جائحة كورونا، ووجود رئيس أميركي، هو جو بايدن، ضعيف ومتردّد وواقع تحت ضغط أزمات سياسية واقتصادية تكبل تحرّكاته الداخلية والخارجية، وحوله حلف غربي منقسم على نفسه أكثر من أي وقت مضى.
عندما انهار الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثة عقود كان حاملاً أيديولوجيةً لها رؤيتها الاقتصادية واستراتيجيتها العسكرية وقيمها الفكرية التي كانت تجعلها جاذبة لحلفائها عبر العالم. أما استراتيجية بوتين اليوم فتقوم على محاولته إعادة بناء النفوذ العسكري السابق لبلاده، وتشكيل حزام عازل بينها وبين الغرب على شكل الستار الحديدي الذي انهار مع انهيار جدار برلين عام 1989، بدعوى حماية أمنها من التهديد الغربي، وكلّ ما يقدّمه هو حماية الدكتاتوريين والانقلابيين الذين يضعون أيديهم في يده، وبثّ الفرقة بين صفوف الدول الغربية والتدخل في انتخاباتها لإضعاف ديمقراطياتها من الداخل، والتشكيك في نجاعة أنظمتها السياسية. وفي المقابل، على الرغم من كلّ التناقضات الذي تعتري سياساته الخارجية والأمراض والأزمات التي تعتور مجتمعاته، ما زال الغرب يشكّل نموذجاً جذّاباً لشعوب كثيرة توّاقة إلى الحرية والديمقراطية والسوق الحرّة، وإلى تقرير مصائرها بنفسها.
وكيفما كانت نهاية هذه الأزمة التي لن تطوى قريباً، سيكون المستفيد الأول منها الصين، القوة الهادئة الصاعدة التي تعرف دائماً كيف تقتنص الفرص في ظلّ الأزمات الدولية الكبيرة لتقوية نفوذها الاقتصادي والمالي في العالم. وليس خافياً أنّ بايدن وفريقه يرون في الصين خطراً أكبر مما تمثله التهديدات الروسية التي تبدو مثل البعبع الذي يخفي الخطر الحقيقي القادم المتمثل في الهيمنة الصينية على الاقتصاد العالمي. لذلك ليس من مصلحة أميركا والغرب عموماً دفع بوتين، تحت ضغط العقوبات الاقتصادية، إلى الارتماء في حضن الصين التي قد ترهن بلاده في المستقبل، مالياً واقتصادياً، وتحوّلها إلى سوق كبيرة لاقتصادها المتنامي. لذلك، قد تبدو الأزمة الأوكرانية، اليوم، لبعض الاستراتيجيين الغربيين، مجرّد ذرّ للرماد في العيون، أمام الحرب الاقتصادية الحقيقية التي تدور رحاها من دون جعجعة كبيرة، وتهدّد اقتصاديات دول غربية كبيرة في مقدمتها الولايات المتحدة.
العربي الجديد
———————–
لعبة حافّة الهاوية في أوكرانيا/ مروان قبلان
فيما يستمرّ التوتر والحشد على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، وتتقلب الاحتمالات بين الحرب والدبلوماسية بشأن الأزمة هناك، يراقب العالم باهتمام بالغ لعبة “حافّة هاوية” بين موسكو وواشنطن، تكاد تكون غير مسبوقة منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. والواقع أنّ هناك نقاط تماثل بين أزمتي أوكرانيا وتلك الصواريخ أكثر مما توجد مشتركات بينها وبين أزمة إقليم السوديت الذي انتزعته ألمانيا من تشيكوسلوفاكيا بموجب اتفاق ميونخ (1938)، ويتزايد الحديث عنه راهناً في أوروبا، باعتباره رمزاً لرضوخ الديمقراطيات الغربية لابتزاز هتلر عشية الحرب العالمية الثانية.
نتجت أزمة الصواريخ الكوبية من محاولة الاتحاد السوفييتي اختراق منطقة نفوذ أميركية، ونصب صواريخ نووية قصيرة المدى قبالة سواحلها. ردّت الولايات المتحدة بفرض حصار على كوبا لمنع وصول السفن السوفييتية التي تحمل صواريخ إليها. وبعد أزمةٍ حبست أنفاس العالم 13 يوماً توصل الطرفان إلى اتفاق عادت بموجبه السفن السوفييتية أدراجها، في مقابل سحب واشنطن صواريخ “جوبيتر” من تركيا.
تحمل أزمة أوكرانيا بعضاً من سمات أزمة كوبا، مع فرق أنّها تنشب، هذه المرّة، على أبواب موسكو، في حين أنّها تبعد عن واشنطن آلاف الأميال، ولا تحظى من ثمّ بأهميةٍ فعليةٍ لها. والواقع أنّ أوروبا، وليست أوكرانيا فقط، لم تعد تمثل أهمية حقيقية بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي بات تركيزها منذ مطلع الألفية منصبّاً على شرق آسيا (الصين)، وعلى منطقة الخليج التي تحصل الصين منها على إمدادات الطاقة. في المقابل، تدرك واشنطن أهمية أوكرانيا لروسيا التي لن تتراجع، على ما يبدو، قبل إبعاد شبح حلف الناتو عن حدودها. وكانت موسكو تراقب، منذ انتهاء الحرب الباردة، موجات توسع الحلف تجاهها. ضمّت موجة التوسع الأولى عام 1999 بولندا والمجر وجمهورية التشيك، وضمت الثانية عام 2004 دول البلطيق الثلاث إضافة الى رومانيا وبلغاريا، لكنّ موسكو رفضت السماح بالتوسع الثالث الذي أقرّه “الناتو” في قمة بوخارست في إبريل/ نيسان عام 2008، ورحب فيه بطلب جورجيا وأوكرانيا الانضمام إليه. إذ غزت موسكو، بعد أربعة أشهر فقط، جورجيا، ودبّرت عودة حلفائها إلى السلطة في أوكرانيا في انتخابات عام 2010، بعدما خسرتها في “الثورة البرتقالية” عام 2004. لكنّ الغرب أعاد حلفاءه إلى السلطة عام 2014، فردّت روسيا بضم القرم، وسلخ إقليم دونباس عن أوكرانيا في الشرق.
تشير الأزمة الحالية إلى أنّ روسيا تستخدم دبلوماسية المدافع (gunboat diplomacy) للحصول على تعهدات بعدم ضمّ أوكرانيا إلى “الناتو”، لكنّ الولايات المتحدة ترفض تقديم أيّ تعهداتٍ بهذا الشأن، وتشجّع أوكرانيا على فعل ذلك أيضاً، على الرغم من أنّ الأخيرة لا تمثل أي أهمية بالنسبة إليها، بدليل إعلان واشنطن أنّها لن تتدخل عسكرياً للدفاع عنها. وتتمحور استراتيجية واشنطن حالياً حول “ردع” موسكو عن مهاجمة أوكرانيا، عبر التهديد بفرض عقوباتٍ قاسيةٍ بحقها، وتزويد أوكرانيا بأسلحةٍ متنوعةٍ لمواجهة أيّ هجوم روسي محتمل. لكنّ محاولات واشنطن إثارة حالة من الهلع في أوكرانيا وعموم أوروبا بشأن هجوم روسي وشيك تثير أسئلة عديدة عن حقيقة نيّات إدارة بايدن وأهدافها في الأزمة. وتذهب قراءاتٌ إلى أنّ هناك محاولة أميركية واضحة لدفع روسيا إلى غزو أوكرانيا. لكن لماذا تفعل ذلك؟ عندها، يمكن واشنطن أن تحقق عدة أهداف بضربة واحدة؛ أولاً يمكنها تحويل أوكرانيا إلى مستنقع لاستنزاف روسيا، وربما دفعها إلى الانهيار، كما فعلت في أفغانستان التي كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفييتي قبل 30 عاماً. هذا يعني، ثانياً، إخراج روسيا من مثلث الأقطاب العالمي، وحرمان الصين حليفاً محتملاً في أيّ مواجهة مقبلة مع الولايات المتحدة. وثالثاً، توجيه ضربة قاصمة إلى قطاع الطاقة الروسي وإخراجه، أو على الأقل تقليص حصته، في سوق الطاقة الأوروبي، وتعزيز حضور الغاز الأميركي محله، مع تحول أميركا هذا العام إلى أكبر منتج للغاز المسال في العالم.
يبدو الرئيس الروسي بوتين واعياً لهذه المخاطر، وهو الذي شهد انهيار الاتحاد السوفييتي بسبب أفغانستان وانهيار أسعار النفط في ثمانينيات القرن الماضي. لهذا يبدو متردّداً، على الرغم من أنّه حشد ما يكفي من القوة، لغزو أوكرانيا. لكن، إلى متى يستطيع مقاومة إغراء الغزو إذا فشل في الحصول على ما يكفي لتبرير التراجع، وحفظ ماء وجهه؟
العربي الجديد
———————–
تطويق الحرب الأوكرانية…هكذا أحبطت واشنطن مخطط الغزو الروسي/ نور الهاشم
تراجعت التوقعات باندلاع حرب روسية على أوكرانيا الى مستويات كبيرة، بعد أسبوع صاخب، حبس العالم فيه أنفاسه، وذهبت التقديرات الى أبعد مدى بالحديث عن تداعياتها أولاً على “تجمّد أوروبا جراء توقف أنبوب الغاز الروسي”، و”اندلاع حرب عالمية ثالثة”.
في “تويتر”، نُظمت غرف لحوارات متكررة استضاف فيها الناشطون خبراء كثيرين، لم يشككوا لحظة في التسريبات الأميركية حول استعداد روسيا للحرب. وفي “كلوب هاوس”، تهويل بانعكاس الأزمة على الاستقرار العالمي. عاش الناس رعب الحرب، وانتظروا الاعلان عن اندلاعها.. وذلك بسيناريوهات متخيلة.
والحال إن التقديرات الأميركية، المستندة الى معلومات استخبارية، لم تضلل العالم حول نية روسيا غزو أجزاء من أوكرانيا، لكنها أجادت استثمار الحدث لردع الحرب ومنعها، وهي واحدة من التوظيفات الكثيرة للضخ الاعلامي للتغيير في مسار وقائع. فما كان تراجع روسيا ليحدث لولا حشد الرأي العام، وإطلاق صفارة التحذير من حرب “لن تبقي ولن تذر”، تكفل المحللون غير المطلعين على معلومات الكرملين أو الكونغرس، بالترويج لها ورسم سيناريوهاتها المتخيلة.
كانت هناك مؤشرات دبلوماسية على انغلاق سياسي، سيدفع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى القيام بعمل عسكري محدود جغرافياً وزمنياً في الأراضي الأوكرانية. فأوكرانيا، تعد الحديقة الخلفية والمدى الآمن لروسيا الاتحادية من ناحية الغرب، والعمق الجغرافي الذي يدافع عن العاصمة الروسية موسكو، تلك الواقعة جغرافياً في سهوب لا تحميها سلسلة جبال في مواجهة “الناتو” على حدودها، والممر الحيوي للغاز الروسي باتجاه أوروبا. على مدى سنوات، لم تتمكن موسكو من إحداث خرق في البنية السياسية في كييف، الموالية للغرب، والطامحة للعضوية في حلف “الناتو”.
أثبتت التجارب العالمية أن ستاتيكو الانغلاق السياسي، لن يخرقه إلا حدث أمني أو عسكري. قد يكون بوتين ساعياً لإحداثه، على نطاق ضيق ومحدود، كما حصل في العام 2014 حين ضم شبه جزيرة القرم ولم يستدرج رد فعل قاسياً من الغرب. الآن واجهه الناتو، وفرض على بوتين معادلة جديدة: إما الحرب الشاملة التي ستدفع روسيا ثمنها بعقوبات قاسية، وإما إبقاء الأمر على ما هو عليه.
وظفت واشنطن كل الأدوات الإعلامية لافتضاح الحرب وإحباطها. أطلقت الإشارة الأولى بتحديد موعدها، وهو ما واظب بوتين على نفيه. تكفلت التسريبات الاسرائيلية بتأكيد موعدها، الثلاثاء أو الاربعاء على أبعد تقدير، وهو ما أفشل انطلاقتها. فلا الحرب تُخاض بمعرفة مسبقة، ولا المواعيد الثابتة ستكون وصفة جديرة بنجاح أي تصعيد عسكري، خصوصاً أن بوتين يريده محدوداً، لتجنب خسارات مدوية نتيجة العقوبات، وأبرزها نجاح مشروع السيل الشمالي 2 الذي يربط الغاز الروسي بألمانيا مباشرة، وهو لا يُنظر اليه على أنه اتفاق اقتصادي فحسب، بقدر ما يرتبط بأمن الطاقة في أوروبا، وبتوسعة التحالفات السياسية لموسكو التي تنافس الولايات المتحدة على تحقيق اختراقات في العلاقات مع دول أوروبية، بدءاً من ألمانيا، أكبر القوى الاقتصادية في أوروبا، بعد نجاح الولايات المتحدة في سحب أكبر قوة عسكرية وسياسية ودبلوماسية في القارة الأوروبية اليها، وهي بريطانيا بعد “البريكسيت”.
كان التوظيف الإعلامي الأميركي يحمل رسالة واضحة: إما حرب تخسر روسيا فيها كل طموحاتها السياسية والاقتصادية، وبينها الحفاظ على مكتسابها من ضخ الغاز القادم الى أوروبا، وإما الحفاظ على الستاتيكو القائم ريثما يجد الناتو بديلاً عن الغاز الروسي في أوروبا، من أنبوب الدول السبعة في المتوسط، أو من زيادة المساهمة الجزائرية بتزويد أوروبا بالغاز.. وريثما يجد بدائل تعوض النقص في امدادات النفط الروسي في الاسواق العالمية، منعاً لارتفاع سعر البرميل الى مستويات عالية لا يتحملها الاقتصاد العالمي.
تأجلت المواجهة الآن، غير أن الحراك الدبلوماسي، وآخره زيارة المستشار الالماني الى موسكو، لم يوقفها بعد. سحبت موسكو مدرعاتها من بيلاروسيا والقرم، وأطلقت معركة موازية باستقطاب دول نفطية في حديقة واشنطن الخلفية في أميركا اللاتينية، ظهرت في الاتصالات السياسية وزيارة الرئيس البرازيلي الى موسكو اليوم. يبدو أن المواجهة اتخذت طابعاً مختلفاً، بانتظار كيف ستُوظّف تداعياته في التسريبات الاعلامية.
المدن
—————————
أوكرانيا: هجوم الكتروني على وزارة الدفاع ومصرفَين.. بداية الحرب؟
أعلن مركز أمن المعلومات الأوكراني إن وزارة الدفاع، ومصرفَين مملوكَين للدولة في أوكرانيا، تعرضا لهجوم إلكتروني، الثلاثاء، أدى إلى إغلاق الوصول إلى موقع الوزارة على الإنترنت. ولم يذكر المركز الأوكراني للاتصالات الاستراتيجية وأمن المعلومات، وهو جزء من وزارة الثقافة، الجهة المسؤولة عن الهجوم، لكن بيانًا أشار إلى أنه وجه أصابع الاتهام إلى روسيا. وقال: “ليس من المستبعد أن المعتدي استخدم تكتيكات من الحيل القذرة الصغيرة لأن خططه العدوانية لا تعمل على نطاق واسع”.
وألقت كييف باللوم على موسكو في هجمات مماثلة، في الماضي، منذ أن بدأت روسيا حشد أكثر من 100 ألف جندي بالقرب من الحدود. وجاء في رسالة في الصفحة الرئيسية لموقع وزارة الدفاع الأوكرانية، أن الموقع قيد الصيانة. وغردت الوزارة بأن موقعها الالكتروني تعرض لهجوم إلكتروني على ما يبدو، وأنها تعمل على استعادة الوصول إليه.
في البيت الأبيض، قال متحدث باسم مجلس الأمن القومي إن الولايات المتحدة “على علم بتقارير حوادث الحرمان من الخدمة”، وأنها اتصلت بنظرائها الأوكرانيين “لتقديم الدعم في التحقيق والرد”، مضيفاً إنه لا يملك “أي معلومات أخرى لمشاركتها في الوقت الحالي”، ولم يقدم أي تعليق على المصدر المحتمل للهجوم.
وقد استهدف هجوم إلكتروني مماثل، الشهر الماضي، مواقع حكومية. وحذر المسؤولون الأوكرانيون من أن أي غزو عسكري روسي يمكن أن تسبقه هجمات إلكترونية وحملات تضليل واستفزازات أخرى تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد وإضعافها.
وأكد Oshadbank من جهته، الهجوم السيبراني، قائلاً إنه أدى إلى إبطاء بعض أنظمته. وأورد مركز الاتصالات الإستراتيجية إن مستخدمي Privatbank واجهوا أيضًا مشاكل في المدفوعات وفي تطبيق مصرفي، فيما لم يعلق Privatbank على الفور.
وكتب كيث ألكسندر، وهو المدير السابق لوكالة الأمن القومي الأميركية ومؤسس القيادة الإلكترونية الأميركية، ويشغل حاليًا منصب الرئيس والمدير التنفيذي المشارك لشركة IronNet، مقالاً نشرته صحيفة “فاينانشال تايمز” جاء فيه:
“يجلس العالم حالياً في مقعد في الصف الأول لمشاهدة ما يمكن أن يكون أول حرب إلكترونية واسعة النطاق. مع وجود حوالى 130 ألف جندي روسي منتشرين على حدود أوكرانيا، فإن خطر الغزو يتصاعد، ولا شك أن مثل هذه الحملة العسكرية الحديثة ستشمل بشكل شبه مؤكد عنصر هجوم إلكتروني واسع النطاق. وحتى لو لم تكن هناك محاولة في نهاية المطاف لغزو أوكرانيا بالقوات التقليدية، فهناك إجماع واسع النطاق على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وضع نفسه في موقف يتعين عليه فيه القيام بشيء ما. من المرجح أن يتصدر الهجوم الإلكتروني اللائحة – وهو سهل ورخيص نسبيًا. وكما برهنت روسيا، خلال صراع جورجيا العام 2008، فإن اختراق الأنظمة الحكومية وكذلك القطاعات المالية والطاقة يمكن أن يتسبب في حدوث فوضى”. أضاف: “ورغم أن البعض في الغرب يعتقد أن هذه ليست مشكلته، إلا أن هذا الموقف يعكس تجاهلًا للتاريخ. فقبل أقل من خمس سنوات، نفذت روسيا NotPetya، وهو هجوم إلكتروني استهدف القوة والنقل والأنظمة المالية الأوكرانية، في محاولة لزيادة زعزعة استقرار البلاد… وتسبب الهجوم في معاناة الشركات حول العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا والهند، من اضطرابات تشغيلية هائلة. ومع وجود تأثيرات مضاعفة تضرب كل ركن من أركان الاقتصاد العالمي تقريبًا، قدّر البيت الأبيض الكلفة الإجمالية للهجوم حول العالم بما يتجاوز 10 مليارات دولار”.
واعتبر ألكسندر أن خطر الهجوم السيبراني أعلى اليوم في أوكرانيا، كما أن الضرر المتوقع أكبر بكثير، لافتاً إلى تحذير شركة “مايكروسوفت” من أنها اكتشفت برامج ضارة مدمرة تم وضعها مؤخرًا داخل شبكات الكمبيوتر الأوكرانية، والتي تشمل العديد من المنظمات الحكومية وغير الهادفة للربح وتكنولوجيا المعلومات، وأن الدرس المستفاد من NotPetya هو أنه بمجرد تنشيطه، يمكن أن ينتشر هذا البرنامج الضار إلى ما هو أبعد من أهدافه المقصودة، “وحذرت وزارة الأمن الداخلي الأميركية من أنه، حتى لو لم ينتشر هجوم إلكتروني موجه ضد أوكرانيا خارج حدودها، فمن الممكن شن هجمات إلكترونية تخريبية أو مدمرة ضد الولايات المتحدة مباشرة. هذه خطورة حقيقية على أعضاء الناتو كافة”.
إن إيجاد مخرج من هذه الأزمة بالذات، هو أمر خارج عن سلطة أي منظمة فردية أو شركة أو مسؤول تنفيذي. لكن ما هو في نطاق سيطرتنا، هو الدفاعات الإلكترونية غير الملائمة التي ننشرها في كثير من الأحيان. رغم عدم وجود حل سحري، فمن الواضح أن العنصر الأساس لتأمين أنظمتنا هو مفهوم دفاع جماعي يربط هذا الشركات والمؤسسات الأخرى – خصوصاً في البنية التحتية الحيوية – مع بعضها البعض ومع الحكومة، من أجل مشاركة البيانات مجهولة المصدر حول محاولات الاقتحام والهجمات السيبرانية بسرعة الشبكات الحديثة. في الآونة الأخيرة، ساعد الدفاع الجماعي في الكشف عن الخصوم الذين يحاولون استغلال ثغرة Log4j، التي تسللت إلى وزارة الدفاع البلجيكية، من بين أهداف أخرى”.
وفي رأي ألكسندر أن “نهج الدفاع الجماعي يفترض أن يشبه الرادار للفضاء السيبراني، ما يمكّن فرقًا متعددة من مواجهة الأعداء على الفور. تخيل مجموعة من 100 شركة متوسطة الحجم مع 10 من مشغلي أمن الشبكات لكل منها. يغير الدفاع الجماعي دينامياتهم بالكامل: فبدلاً من أن يقاتل 10 أشخاص بمفردهم ضد مجموعات مجرمي الإنترنت المدعومة من روسيا، هناك 1000 متخصص في مجال الأمن يجتمعون معًا فور تعرض أي منهم للتهديد. أنا أحب تلك الاحتمالات أفضل بكثير”. واستشهد بما كتبه الجنرال بول ناكاسوني، القائد الحالي للقيادة الإلكترونية الأميركية، مؤخرًا أن “الأمن السيبراني هو رياضة جماعية: نطاق المشكلة وحجمها أكبر من أن تعالجها أي منظمة بمفردها”، كما بتصريح مكتب المدير السيبراني الوطني في البيت الأبيض بأن “الدفاع المشترك هو أمر حتمي وليس خيارًا”.
وختم ألكسندر بأن “الأمن السيبراني ما زال الأساس المكشوف للديموقراطيات في أنحاء العالم. أوكرانيا تواجه بالفعل مكافئًا إلكترونيًا لمدافع هاوتزر. سنواجه جميعًا تهديدًا على نطاق 11/9 في الفضاء الإلكتروني – والسؤال هو ببساطة متى. إن التكاتف معًا أمر لا بد منه إذا أردنا حماية أنفسنا من أكبر المخاطر التي تهدد مستقبل مزدهر وسلمي”.
——————————-
====================
تحديث 18 شباط 2022
———————
الحرب الوشيكة في أوكرانيا وشويغو في سوريا!/ بكر صدقي
أو كما يقول المثل السوري السائر «الطبل في دوما والعرس في حرستا». هذا هو التعليق الذي تستحقه زيارة وزير الدفاع الروسي إلى دمشق، بصرف النظر عن أهمية العمل الذي جاء من أجله أو ملحاحيته. فحين يكون بلدك على وشك القيام بغزو عسكري لبلد مجاور، لا يعقل أن تسافر إلى منطقة أخرى تبعد آلاف الكيلومترات عن الجبهة الحربية المفترضة وأنت وزير الدفاع. ولعل هذا ما أراده الرئيس الروسي بوتين من مهمة شويغو، أي إعلان عدم استعداد بلاده لغزو الجارة أوكرانيا. وهو ما يكرره المسؤولون الروس على أي حال في مواجهة الاتهامات الأمريكية ـ البريطانية (والأطلسية).
الواقع أن أهداف روسيا من الضغط على أوكرانيا من خلال حشد قوات عسكرية بلغ عديدها بين 100 و150 ألف عسكري (الرقم الثاني تهويل أطلسي) على حدودها من جهتي روسيا وبيلاروسيا، بذريعة القيام بمناورات عسكرية، هي أهداف واضحة ومعلنة وتم تسليمها بنص مكتوب إلى الأمريكيين الذين رفضوا التجاوب معها، وهي باختصار الحصول على تعهد خطي بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي تعتبره موسكو تهديداً لأمنها القومي. بكلمات أخرى: هدف بوتين من حشد القوات هو التفاوض وليس الحرب.
السلوك الأمريكي تجاه المشكلة الأوكرانية هو ما يحتاج تفسيراً، فقد بلغ قرعها لطبول الحرب درجة الطلب من رعاياها مغادرة الأراضي الأوكرانية، وهو إجراء لا تلجأ إليه الدول عادةً إلا عند اندلاع الحرب فعلاً أو التأكد من أن اندلاعها بات مسألة ساعات. ويقول الأمريكيون إنهم أعطوا حلفاءهم الأوروبيين معلومات استخبارية تؤكد أن الروس سيبدؤون بغزو أوكرانيا في 15 أو 16 شباط، في حين أن الرئيس الأوكراني زيلنسكي تحدث إلى وسائل الإعلام مطالباً بالحصول على المعلومات الاستخبارية المشار إليها إن وجدت فعلاً!
ما يحدث أمام أعيننا هو تحشيد سياسي وإعلامي غربي غير مسبوق إلا قبيل الغزو الأطلسي للعراق في عام 2003 حين تم تضخيم قدرات مزعومة للجيش العراقي تبريراً للغزو. واليوم لا يكتفي الأمريكيون بذلك بل يعلنون موعداً لبداية الغزو الروسي ويتصرفون على هذا الأساس، بما في ذلك نقل طاقم السفارة الأمريكية من العاصمة كييف إلى مدينة لافييف غرباً، تعزيزاً لتقديرات إعلامية عن سقوط العاصمة الأوكرانية في يد الروس بسرعة إذا حدث الاجتياح!
ترى ما هي دوافع الأمريكيين والبريطانيين وراء كل هذا التهويل الذي يفتقد لمبررات معقولة؟ هل يريدون حقاً أن تقوم روسيا بغزو أوكرانيا؟ ما الذي يمكن أن يجنوه من ذلك؟ إظهار بوتين كهتلر جديد أو صدام حسين جديد لحشد تحالف دولي كبير لمواجهة روسيا؟ مواجهتها بعقوبات اقتصادية! فهذا ما يملكه الأمريكيون في جعبتهم من أدوات مواجهة! في حين أن روسيا تملك في هذا المضمار أدوات أقوى وأكثر فعالية أبسطها قطع امدادات الغاز عن أوروبا في عز الشتاء.
يقال إن الرئيس الفرنسي ماكرون قد تعهد لبوتين، في زيارته الأخيرة لموسكو، برفض انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، وهذا هو المطلب الرئيسي للرئيس الروسي. ولا يستبعد أن يقدم المستشار الألماني تعهداً مشابهاً أثناء لقائه بالرئيس الروسي. إذا صحت هذه التسريبات يكون بوتين قد حقق إلى الآن مكسبين من حملته، الأول هو حصوله على ضمانات من دولتين مهمتين في الناتو بشأن رفض عضوية أوكرانيا، والثاني هو خلق شرخ في الحلف ذاته بين «جناح الصقور» واشنطن ولندن، و«جناح الحمائم» باريس وبرلين.
وأضاف الرئيس الروسي إلى أدوات ضغطه العسكرية على أوكرانيا (ومن ورائها حلف الأطلسي) أداة تشريعية هي قرار الدوما بشأن الاعتراف بمقاطعتي لوهانسك ودوناتسك ذاتي الغالبية الديموغرافية الروسية كـ»جمهوريتين مستقلتين» قرار ينتظر موافقة الرئيس الروسي ليتحول إلى قرار رسمي للدولة الروسية، إضافة إلى ورقة الغاز والنفط. أما القمح الأوكراني الذي تستورده دول كثيرة في أوروبا وخارجها، ومن شأن انقطاع توريداته أن يؤدي إلى أزمة غذاء عالمية فهي ورقة احتياطية يمكن لبوتين أن يهدد بها من جيب جارته التي أصبحت موضوعاً للنزاع الدولي.
هل يؤدي التهويل الأمريكي إلى توريط بوتين في غزو أوكرانيا فعلاً؟ ربما يراهن الرئيس بايدن على العكس، أي على أن يتصرف بوتين بعقلانية فلا ينجر إلى الحرب، وفي هذه الحالة ستهتز صورته أمام جمهوره الروسي في الداخل بوصفه قائداً مهزوزاً رضخ للابتزاز الأمريكي فتراجع عن الغزو. وهذا ما يمكن استثماره أمريكياً لنزع صفة الدولة العظمى الند عن روسيا. ولكن يبقى أن الرئيس الروسي القادم من جهاز المخابرات السوفييتي أذكى من أن يستجيب للابتزاز والتهويل الأمريكيين، فهدفه الأساس هو جر الأمريكيين إلى التفاوض معه على تقاسم خرائط القوة على الصعيد العالمي. ومن هذا المنظور يمكن فهم حشد المزيد من الطائرات الحربية الروسية في قاعدة حميميم، والمزيد من القطع البحرية الحربية في ميناء طرطوس على الشاطئ السوري للمشاركة في مناورات عسكرية كبيرة في شرق البحر المتوسط، كان الإشراف عليها هو عنوان زيارة شويغو لدمشق، وستشكل استعراض قوة كبيراً في مواجهة الأمريكيين والأوروبيين، في خدمة الهدف البوتيني نفسه: فرض التعامل بندية مع روسيا على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
كاتب سوري
القدس العربي
————————–
رسائل المناورات الروسية:حان وقت استخدام الورقة السورية/ العقيد عبد الجبار العكيدي
أجرت روسيا الخميس مناورات عسكرية في المتوسط غرب سوريا، وذلك بحضور واشراف مباشر من وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، الذي وصل إلى سوريا الأربعاء والتقى رئيس النظام بشار الأسد في مطار حميميم، في خرق لكل البروتوكولات الدبلوماسية، وتحقير لم يكن الأول من نوعه لمقام الرئاسة، وإظهار للعالم مدى سيطرتهم على القرار السوري، واعتبار الأسد ليس أكثر من بيدق بيد الروس.
تجري هذه المناورات بمشاركة مقاتلات “ميغ 31-K” المحملة بصواريخ كينجال فرط صوتية، وقاذفات “TU 22M3″، المحملة بصواريخ مضادة للسفن من نوع “KH22″، الفرط صوتية، بالإضافة الى ما يقارب المئة وخمسين قطعة بحرية وستين طائرة حربية ومروحيات حديثة وخمس عشرة سفينة حربية وعشرة آلاف جندي.
تأتي هذه المناورات التي تُعدّ الاضخم للقوات الروسية في البحر الأبيض المتوسط رداً على مناورات واسعة النطاق “نبتون سترايك 2022” أجراها قبل أيام حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بمشاركة حاملة الطائرات “USS Harry Truman”، والتي كانت ترمي إلى إظهار قدرة حلف شمال الأطلسي على إدماج قوة الضربة البحرية المتطورة لمجموعة جوية لمؤازرة جهود الحلف في الردع والدفاع، وذلك بحسب المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، وهناك أنباء غير مؤكدة تفيد بأنه جرت ضمنها محاكاة لضرب قاعدة حميميم، والإبقاء على حاملة الطائرات مع المجموعة الجوية التابعة لها في المتوسط لطمأنة الأوربيين وتقديم ضمانات أمنية لهم في خضم التوترات القائمة مع روسيا بسبب الازمة الأوكرانية.
لعل قيام وزير الدفاع الروسي بزيارة مفاجئة إلى سوريا، بينما تتجه أنظار العالم نحو البقعة الملتهبة في أوكرانيا، حيث طبول الحرب تُقرع على الحدود مع روسيا، واحتمالات اندلاع المواجهة هناك بين الناتو وروسيا في أي لحظة، ما هي إلّا تسخين روسي واستنهاض كل طرف لما لديه من أوراق، فضلاً عن أن الأسباب المباشرة للزيارة هي تداعيات المسألة الأوكرانية ولا علاقة لها بأي شيء يخص الشأن السوري، إذ إن العمليات العسكرية في ركود، وقد رُسمت خطوط التماس منذ آذار/مارس 2020، ولا شيء في الوقت الراهن يوجب هذه الزيارة ولقاء الأسد، ولكن يمكن الوقوف عند عدّة رسائل أراد بوتين توجيهها لخصومه من وراء تلك الزيارة، وفي مقدمتها:
1- أن سوريا جزء من جبهة أوكرانيا ونحن من نتحكم في تسخينها وأن حميميم وطرطوس، وبالتالي منطقة المتوسط التي نجري فيها مناورات بالأسلحة الاستراتيجية، قد تتحول إلى أحد اهم ساحات الصراع التي تهدد المصالح الغربية، في حال أقدم الناتو على أي مواجهة عسكرية في أوكرانيا او تقديم دعم وأسلحة نوعية لها.
2- أن المناورات الروسية في المتوسط ما هي إلّا تمرين عسكري لما سيكون عليه الصراع في حال فشل التوافق الروسي الغربي حول الازمة الأوكرانية.
3- إرسال بوتين لوزيره الى قاعدة حميميم وسوريا التي أصبح يعدّها جزءًا مهماً من أمنه القومي في هذا التوقيت الحرج مع الغرب، ما هو إلا جزء من المعركة وتكتيك يريد به إرسال رسالة الى الغرب تؤكّد أن الجغرافية السورية ما هي إلّا قاعدة متقدمة لروسيا، وأن استمرار المواجهة في المستقبل لن يكون محصوراً ضمن محيط أوكرانيا، بل سيمتد إلى مساحات عديدة ومتنوعة من حيث الجغرافيا.
ما يمكن تأكيده أن زيارة الوزير الروسي وحضوره للمناورات العسكرية على الأرض السورية إنما تأتي في سياق استثمار الأوراق السياسية من خلال التسخين الكامل للجبهات، وخاصة الورقة السورية التي تمسك بها موسكو لتؤكد لواشنطن بأنها قادرة على إدارة المعركة من أكثر من مكان في العالم، ولعل الاحتكاك الذي حصل شرق الفرات، بين الطائرات الأميركية والروسية، وهذا التزاحم في الأجواء السورية، بالإضافة لإعلان البنتاغون الأربعاء، أن ثلاث طائرات تابعة للبحرية الأميركية من طراز P-BA تعرضت لاعتراضات غير مهنية من قبل الطائرات الروسية نهاية الأسبوع الماضي في المجال الجوي الدولي فوق البحر المتوسط، ورغم أنه لم يصل إلى حد الصدام، لهو دليل واضح على أن سخونة المواجهة السياسية أصبحت تمتد إلى الجوانب العسكرية.
لا شك أن روسيا الممتعضة من تمدد الغرب إلى حدودها، تشعر بأن مسالة أوكرانيا هي مفتاح لصراع استراتيجي مع الغرب لا تنحصر حدوده في أوكرانيا فحسب بل ربما يكون الشرق الأوسط هو المجال الرحب لتجليات هذا الصراع، وبالتالي فإنها تريد أن تؤكد لخصومها من خلال هذه المناورات أن لديها القدرة على أن تحاصرهم في أماكن أخرى، وأن دور قاعدة حميميم التي وسعتها خلال السنوات الماضية لتصبح قاعدة كبيرة يمكنها استقبال طائرات استراتيجية وصواريخ فرط صوتية، قد تتجاوز حدود الجغرافية السورية لتكون رأس حربة في حوض المتوسط والاشتباك الدولي الغربي الروسي.
بوتين الذي يشعر بفائض قوة كبير ويحلم بأن يكون قيصر روسيا الجديد عن طريق توسيع النفوذ الروسي والعودة إلى الساحة الدولية كقوة عظمى من البوابة السورية، يبني أحلامه على ضعف الإدارة الأميركية وفكرة انهيار سياسة القطب الواحد، متوهماً أنه قادر على توجيه ضربات في عمق الناتو بصواريخه الاستراتيجية التي جلبها الى قاعدة حميميم، متجاهلاً ان القوة العسكرية الروسية لم تخضع لأي اختبار أو مواجهة عسكرية حقيقية سوى معارك محدودة في جورجيا والقرم وسوريا ودونباس. وهذه لا تعتبر حرباً بمعنى الحرب، فالأسلحة الروسية ضُربت بكوارث كثيرة، من وقوع طائرات واحتراق بوارج وسقوط صواريخ بعيدة المدى في أراضي الحلفاء، يمكن لنا أن نتذكر سقوط صواريخ كروز الروسية في الأراضي الإيرانية بدل السورية، في شهر تشرين الأول/اكتوبر 2015.
لعل مساعي بوتين لاستثمار توغّله في الجغرافيا السورية ومحاولته تحويل نفوذه العسكري إلى جبهات ذات وظيفة أخرى، أي تتجاوز الشأن السوري، قد تدفع الكثيرين، ولعل في طليعتهم الإدارة الأميركية، إلى مراجعة سياساتها السابقة حيال سوريا، إذ هل كان متاحاً لبوتين منذ أيلول/سبتمبر 2015 أن يتفرّد بالهيمنة على سوريا لولا موافقة واشنطن وحلفائها الغربيين؟ ثم هل سيكتفي بوتين بمؤازرة نظام الأسد فحسب، أم سيجاري الأميركيين في إيجاد قواعد عسكرية ثابتة يمكن الانطلاق منها في أية مواجهة مع خصومه؟ وبالتالي هل يمكن النظر إلى النأي الأميركي عن المشكلة السورية باعتبارها ليست ذات أولوية، خطوة صائبة ضمن الاستراتيجيات التي رسمتها واشنطن.
ربما كانت هذه التساؤلات وأشباهها حافزاً حقيقياً يدفع القوى الغربية إلى النظر في تداعيات وفداحة أخطائها السابقة حين أتاحت الفرصة لبوتين بأن يتفرد بالجغرافية السورية، ظناً منها أن سوريا ستكون مستنقعا يستنزف روسيا اقتصادياً وعسكرياً، بعد أن استطاع أن يستثمر أوهامها ويحولها إلى ورقة قد حان وقت الاستفادة منها، وأصبحت له أهداف كبيرة في شرق المتوسط، وبات حجم قاعدة حميميم أكبر بكثير من الدور المناط بها في سوريا، وتعدى ذلك لتصبح نقطة متقدمة لروسيا في صراعها مع الغرب نحو التوسع في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأماكن أخرى.
المدن
—————————–
رابط «حميميم» بين «الجبهتين» السورية والأوكرانية
إبراهيم حميدي
أصبحت قاعدة «حميميم» الروسية، غرب سوريا، «رأس حربة» في الاشتباك بين موسكو و«حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، خصوصاً بعد استقبالها أخطر الطائرات وصواريخ «فرط صوتية» ووزير الدفاع سيرغي شويغو، للإشراف على أضخم مناورات روسية في البحر المتوسط غرب سوريا، بالتزامن مع تدريبات بحرية «الناتو» في المتوسط.
هذا هو تقدير «مصادر سورية رفيعة المستوى» إلى صحيفة «الوطن» في دمشق، بعد لقاء شويغو مع الرئيس بشار الأسد، مساء أول من أمس. أما «التسريب» الآخر، فجاء عبر صحيفة «البعث» الناطقة باسم الحزب الحاكم، بأن زيارة شويغو إلى حميميم جاءت بعد رفض موسكو عرضاً من واشنطن بـ«مقايضة سوريا مقابل أوكرانيا».
قاعدة حميميم أصبحت روسية منذ التدخل العسكري نهاية 2015 والتوقيع على اتفاق عسكري بين دمشق وموسكو للإقامة المفتوحة، بعد سنة من أزمة أوكرانيا، وهروب الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، وقيام موسكو بضم شبه جزيرة القرم في 2014، مذاك، كان التشابك بين ملفي أوكرانيا وسوريا. صحيح أن روسيا أبعدت إيران قبل أسابيع عن ميناءي طرطوس واللاذقية وسيطرت عليهما بشكل كامل، وربطتهما بميناء القرم، وباتت سيدة المياه الدافئة كما كان يحلم قياصرتها، لكنها المرة الأولى التي يبرز بالفعل دور حميميم في اللعبة الجيوسياسية الأوسع من سوريا، إذ إنه في موازاة حديث موسكو عن سحب بعض القوات من شرقي أوكرانيا، جاء الاستعراض العسكري الروسي «المبهر» غرب سوريا وبإشراف وزير الدفاع بعد لقاء الأسد. العرض شمل: مقاتلة «ميغ 31 – كي» وصواريخ «كينجال» فرط صوتية، وقاذفة «تي يو 22 أم 3» وصواريخها «كي إتش 22» الأسرع من الصوت والمضادة للسفن، و140 قطعة بحرية و60 طائرة و15 سفينة، ضمن ألف آلية وعشرة آلاف جندي في مناورات البحر المتوسط، حسب قول بيانات رسمية روسية.
اللافت أن دمشق «ترحّب» بهذا الربط، ذلك أن مصادرها قالت إن لقاء الأسد – شويغو «ركّز على الوضع في أوكرانيا وربط هذه الجبهة بالجبهة السورية»، وإن توقيت المناورات «مرتبط بالتسخين الحاصل على الجبهة الأوكرانية». وذهبت صحيفة «البعث» أبعد للقول إن سوريا باتت في «عمق الجبهة الأوكرانية»، بعد رفض موسكو مقايضة «الجبهتين»، وأبلغت واشنطن أنها «متمسكة بأوكرانيا ومتمسكة بالتحالف مع سوريا والنظام السياسي الذي يقوده الرئيس الأسد، بل إن الرئيس فلاديمير بوتين ذهب إلى أبعد من ذلك، وأرسل أحدث المنظومات القتالية في مجال الصواريخ العابرة للقارات والطائرات القاذفة إلى قاعدة حميميم، وبدأ التحضير لمناورات روسية انطلاقاً من هذه القاعدة».
أي بالنسبة لموقف موسكو الذي تباركه دمشق عبر صحافتها، لم تعد قاعدة حميميم مرتبطة فقط بـ«الحرب على الإرهاب» أي بالحرب السورية، بل إن دورها «تجاوز بكثير حدود الجغرافيا السورية لتكون رأس حربة عسكرياً في حوض المتوسط والاشتباك الدولي» بين موسكو و«الناتو». ومن هنا أيضاً، يمكن فهم «التعاون العدائي» بين موسكو وأنقرة في سوريا وأوكرانيا. الرئيس بوتين يسعى بعلاقته مع تركيا وتنازلاته لها شمال غربي سوريا لـ«هز» تماسك «الناتو» الذي كان يعتبر قاعدة إنجرليك، جنوب تركيا، مقدمة رئيسية في «الجبهة» مع الاتحاد السوفياتي السابق صاحب النفوذ في سوريا. الرئيس رجب إردوغان، يوسع خياراته بشراء منظومة «إس 400» من موسكو وبيع كييف مسيرات «بيرقدار» ويقيم معها علاقات استراتيجية ويرفض الاعتراف بضم القرم.
أيضاً، بات الآن الوجود العسكري الأميركي شرق سوريا مرتبطاً أكثر بـ«الجبهة الأوكرانية» وليس فقط الحرب ضد «داعش». وينسحب هذا أيضاً على الغارات الإسرائيلية ضد مواقع إيرانية في سوريا، التي كانت تجري بموافقة روسية. وأحد المؤشرات، أن تل أبيب رفضت بيع كييف منظومة «القبة الحديدية» كي لا تغضب موسكو وتقيد أيديها في ملاحقة مصالح طهران في سوريا.
دمشق ليست وحيدة في ملاحظتها أن حميميم باتت «رأس حربة» في اشتباك دولي، وأن هناك ترابطاً بين «الجبهتين» السورية والأوكرانية، وأن ذلك يفتح الباب بالفعل أمام «المقايضات» بين روسيا وأميركا. قد يكون هذا مريحاً حالياً لكنه قد يكون مقلقاً لاحقاً. ولا شك أن هذا ما سيحاول وزير الخارجية فيصل المقداد تلمسه خلال زيارته إلى موسكو الاثنين المقبل.
—————————-
هل سيشنّ بوتين الحرب؟
مستندا إلى خبرة طويلة من عمليات الاجتياح والضم وإعلان جمهوريات «جديدة» موالية له، يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الآن، في نقطة فاصلة من تاريخه ستقرّر إذا كان سيمضي فعلا في عملية غزو باقي أوكرانيا، أم سيكتفي بجعل الحرب خطرا جاثما على رؤوس الأوكرانيين فحسب.
بدأت عناصر أسلوب بوتين في التدخّلات العسكرية بالتكشّف من قبل أن يتولّى الرئاسة عمليا، فخلال رئاسته للوزراء عام 1999 (خلال فترة رئاسة بوريس يلتسين) حصل تدخلان عسكريان، الأول في إقليم كوسوفو لمساندة الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفيتش في مواجهة قوات تابعة للحلف الأطلسي، والثاني في الشيشان حيث تم إلغاء اتفاقية السلام مع الشيشانيين والسيطرة على البلد وضمه للاتحاد الروسي مجددا.
تدخلت القوات الروسية عام 2008 مجددا في جورجيا حيث سيطرت على منطقة أوسيتيا الجنوبية (وكان بوتين حينها رئيس وزراء نظريا وحاكما فعليا للبلاد) ثم في أوكرانيا نفسها عام 2014، فسيطرت على شبه جزيرة القرم وقامت بضمّها، كما تمّ عام 2015 تدخلها العسكري الشهير في سوريا، والمستمر حتى اليوم.
تظهر هذه التدخّلات العسكرية إيمان بوتين الحاسم بمنطق فرض الإرادة بالقوة واعتبارها أسلوبا لمراكمة النفوذ السياسي الداخلي والدوليّ لإدارته في روسيا نفسها والعالم. كان ضروريا بالنسبة لبوتين، منذ البداية، «وقف الانقسامات الداخلية» وبناء «روسيا قوية» في عالم تحكمه «المنافسة القاسية».
إحدى الخبرات المهمة التي قام بوتين بتطويرها، عبر تاريخه الممتد من كونه ضابط استخبارات إلى وصوله لرئاسة الدولة، هي عمليات التشويش على الخصوم، والتلاعب بالحقائق، وتقديم معلومات متناقضة، وتوظيف طاقات الدولة الإعلامية والاستخبارية والسيبرانية للتأثير على جمهور واسع يحبّذ العنف والشخصيات «القوية» ويشك بفاعلية النظم الديمقراطية ويحتقر السياسة والتسويات التي يضطر السياسيون للجوء إليها.
التدخّل في جورجيا، ضمن هذا السياق، حصل بسبب «السياسة الإجرامية» التي تنتهجها، والتدخل في أوكرانيا جاء لـ«حماية المواطنين الروس في شبه جزيرة القرم» والتدخّل في سوريا جاء «لدعم الجيش السوري ضد المنظمات الإرهابية».
أحد العناصر المثيرة في سياسات بوتين، هو عدم اكتراث الكرملين بإبداء رأي وعكسه، فالمهم هو إبقاء الخصم في حالة تشوّش دائم.
أعلنت موسكو، على سبيل المثال، عام 2015، سحب قواتها من جورجيا من دون أن تسحب تلك القوات، واستبعدت موسكو عند بدء تدخّلها في سوريا إرسال قوات برّية، لكنّ دوريّاتها تجوب البلاد حاليا، وأعلنت قبل أيام عودة قوات عسكرية إلى مواقعها بعد إنهاء مناوراتها على حدود أوكرانيا، ثم تحدّث مسؤولون عسكريون عن أن الانسحاب «سيستغرق وقتا» وفي اليوم نفسه الذي يتحدّث فيه مسؤولوها عن اللجوء إلى الدبلوماسية يصرّح مسؤولون آخرون أن موسكو «ستضطر للتحرك» إذا لم تقدم لها «ضمانات أمنية».
يشير تاريخ بوتين الآنف إلى أن خيار الحرب لاجتياح أوكرانيا موضوع على الطاولة فعلا، لكن تداعيات هذا الاجتياح (رغم مظاهر الضعف الغربي الواضحة) تبدو أكبر بكثير من قدرة إدارته، وبلاده، على احتوائها.
قرار الحرب مغامرة كبرى قد تغيّر التاريخ الحديث للعالم لكنّ مصير بوتين، وروسيا معه، سيرتهنان لنتائج تلك المغامرة الكبرى.
القدس العربي
————————-
من العراق إلى أوكرانيا: سكوت ريتر وذاكرة الأباطيل الأمريكية/ صبحي حديدي
مَن يتذكّر سكوت ريتر، المفتش الأشهر عن أسلحة الدمار الشامل في العراق؛ والفاضح الأكبر لأكاذيب الإدارة الأمريكية حول الملفّ، وكيف صارت مهاداً لاجتياح العراق وصناعة «عاصفة الصحراء» وعواقبها الكارثية؛ والمُراجِع الأبرز للذات أوّلاً، ثمّ لسنوات وسنوات من صناعة الأباطيل والأضاليل بصدد العراق وإيران فالشرق الأوسط طولاً وعرضاً، مقابل السكوت عن كلّ هذه الملفات حين تتصل بدولة الاحتلال الإسرائيلي؟ أو، في صياغات أخرى لفحوى الأسئلة إياها: لماذا يصحّ استذكار ريتر في هذه الأيام بالذات: مفاوضات فيينا المتعثرة، حول البرنامج النووي الإيراني؛ والاستعصاءات المتعاقبة بصدد استحقاقات دستورية، مركزية وهيكلية، في العراق؛ والتسخين على جبهة أوكرانيا بين أمريكا والحلف الأطلسي من جهة، وروسيا (بانخراط غير تامّ، حتى الساعة، مع الصين) من جهة ثانية؟
سبب أوّل يسوّغ هذه العودة إلى ريتر، هو سلسلة شهادات بليغة بقدر ما هي إشكالية، حول هذه الملفات وسواها؛ دوّنها الرجل في مناسبات عديدة، لعلّ أشدّها وضوحاً من حيث التوثيق تلك الفصول الشاهدة في عدد من مؤلفاته ذات الصلة: «نهاية اللعبة: حلّ مشكلة العراق ـ مرّة وإلى الأبد» 1999؛ «سرّي عراق: القصّة المكتومة عن مؤامرة الاستخبارات الأمريكية» 2005؛ و«هدف إيران: الحقيقة عن خطط الحكومة الأمريكية لتغيير النظام» 2006؛ وكذلك الكتاب الأحدث والأوسع نطاقاً «الملك العقرب: اعتناق أمريكا الانتحاري للأسلحة النووية من روزفلت إلى ترامب» 2020. سبب ثانٍ هو أنّ ريتر اتخذ، بعد إنهاء مهامه في تفتيش العراق واضمحلال الشخصية التي قُدّم بها في الإعلام الأمريكي وتمزج بين رامبو المارينز وشرلوك هولمز التحقيق، مال عموماً إلى معارضة غالبية سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه الشرق الأوسط. وبالطبع، لم تتجرّد معارضاته من نزوع التغريد خارج السرب على مبدأ خالفْ تُعرف، وكذلك محاولة الاقتداء بنجوم التحقيق الصحافي (سيمور هيرش في المثال الأبرز، والموقف من الهجمات الكيميائية التي استهدفت الغوطة وخان شيخون في سوريا).
حزمة ثالثة من الأسباب هي أنّ ما يقوله ريتر اليوم عن أجواء الحرب المتصاعدة على الجبهة الأوكرانية تحمل الكثير من المغزى، وتقترح العديد من التأويلات، حول طبائع التسخين من جانب الإدارة الأمريكية تحديداً؛ وما إذا كان النسق العام يعيد إنتاج مناخات مماثلة لجأ إلى تصنيعها الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب سنة 1990، والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن سنة 2003، قبيل غزو العراق في الحالتين. المرء هنا، في أخذ مقترحات ريتر على محمل التصديق أو التشكيك، يتوجب أن يتجاوز شخصية المفتش الرامبوي/ الهولمزوي، إلى الموظف (رفيع المسؤوليات أحياناً) الذي عمل ضابطاً في المارينز خلال 7 سنوات، ومفتشاً في الاتحاد السوفييتي خلال تطبيق معاهدة القوات النووية متوسطة المدى INFK سنوات 1991-1998، وعضواً في أركان الجنرال نورمان شوارزكوف أثناء حرب الخليج. وبهذا المعنى يجوز فيه اعتماد النصح العتيق الصائب: إسألْ مَن كان بها خبيراً، في تفاصيل عديدة ليس أقلها أهمية حكاية تلفيق المخاطر وتصنيع الأوهام وتضخيم المخاوف في التهيئة للحرب.
وهكذا، بادر جون راشيل، مدير «مشروع عوائد السلام» الأمريكي، إلى إجراء حوار مسهب مع ريتر، مؤخراً، وطرح عليه عدداً من الأسئلة التي تغطي الراهن في العلاقات الدولية وموقع الولايات المتحدة وأمراض الديمقراطية الأمريكية؛ ولكنها الأسئلة التي تذهب أبعد من هذه المحاور إلى العديد من الجوانب الجوهرية التي طبعت، وما تزال، النظام السياسي العالمي الراهن والموروث معاً، ومعادلات القوى العظمى على أصعدة شاملة. الهاجس الأول كان «ساعة القيامة» النووية، وهل يتوجب أن تدقّ قبل 100 ثانية كما يقول العلماء؛ حيث أجاب ريتر بأنّ العقيدة العسكرية الأمريكية لا تفترض خيار استخدام الأسلحة النووية بقدر ما تعتبره فعلاً منفصلاً أعلى، أو أبعد، من المهمة العسكرية الموضوعة قيد التنفيذ؛ وهذا لا يعني أنّ خطر نزاع نووي ليس فعلياً، أو أنّ على العالم ألا يقلق.
بذلك فإنّ الحديث عن ضبط «ساعة القيامة» ليس مهماً، لأنه إذا اتُخذ قرار استخدام الأسلحة النووية فهذا يعني أننا فشلنا، وأننا في الساعة صفر، وبالتالي لن تكون المهلة أكثر من ثانية واحدة قبيل اندثار البشرية. والأرجح أنّ نبرة التهويل الدرامي في تشخيص ريتر لا تنطلق من فراغ، قياساً على ذهنية الرجل ومحاكمته لموازين القوى العظمى وعتادها النووي تحديداً؛ لأنه في إجابة تالية حول علاقات الشدّ والجذب بين أمريكا وروسيا والصين، مثلاً، يرى أنّ الثلاثة انخرطوا مراراً في تنويعات على «اللعبة الكبرى» ذاتها، التي تعتمد الجبروت العسكري وسيلة لاكتساب السيطرة على، وتأمين، الأهداف التي تدخل تحت تصنيف المصالح القومية العليا.
ويسأل راشيل عن عنصر الإفساد الذي طرأ على فترة علاقات الوفاق بين واشنطن وموسكو في أعقاب بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف، فيساجل ريتر بأنّ الولايات المتحدة لم تساند غورباتشوف عملياً، بل قد تكون أسهمت في تقويض مشروعه، لأنه أرادت أن تتحوّل السلطة هناك على غرار بوريس يلتسين الضعيف، أو دمتري مدفيديف (الذي كان المفضّل عند الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، مثلاً). فكان أن جوبهت بطموحات فلاديمير بوتين إلى روسيا قوّة عظمى متجددة، وإمبراطورية محاصِصة صانعة للقطبية، وهيمنة تمزج بين مافيا المال والأعمال والغاز والنفط وبين ضمّ جزيرة القرم وغزو سوريا ونشر ميليشيات «فاغنر» حيثما اقتضت شروط «اللعبة الكبرى» ذاتها. وخلاصة القول، في أعمال الشدّ والجذب، هي التالية حسب ريتر: «الجشع يحبّ الفراغ، والبشر باتوا جشعين أكثر فأكثر، وهذا أحد وجوه القول إنك إذا لم تنشر قوّة كافية للدفاع عن نفسك، فإنّ سواك سوف يستفيد من هذه الفرصة»؛ ولا جديد، بالطبع، في ما يستذكره من أنّ أمريكا وروسيا والصين، بعد فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا واليابان، استخدمت الجبروت العسكري لحيازة مكاسب جيو ـ سياسية على حساب الآخرين.
والحال أنّ الوقفة الراهنة عند استنتاجات ريتر تبيح استذكار نظائرها لدى الرجل نفسه، ساعة استقال من المهامّ الرامبوية/ الهولمزوية، وأعلن جملة أباطيل كانت من تصنيع إدارات أمريكية متعاقبة بعد قبل «عاصفة الصحراء» وبعدها، في التمهيد لغزو البلد: 1) لا توجد رابطة بين صدام حسين و«القاعدة»؛ 2) إمكانيات العراق الكيميائية والبيولوجية والنووية دُمّرت في السنوات التي أعقبت حرب الخليج؛ 3) المراقبة عن طريق الأقمار الصناعية كانت، وتبقى، قادرة على كشف أيّ مراكز جديدة لإنتاج الأسلحة في العراق؛ 4) الحصار منع العراق من الحصول على المواد المكوّنة لصنع الأسلحة؛ 5) فرض مبدأ «تغيير النظام» بالقوّة لن يجلب الديمقراطية للعراق؛ و6) عواقب حرب أمريكا على العراق خطيرة للغاية على الشرق الأوسط بأسره.
وفي كلّ حال، وكما اتضح لاحقاً بأقصى جلاء، كانت إدارة بوش الابن عازمة على غزو العراق، عاد المفتشون أم لم يعودوا، وجرى تجريد البلد من السلاح أم لا. كان سيد البيت الأبيض في حاجة إلى تلك المغامرة العسكرية لأسباب ذاتية تخصّ إنقاذ رئاسته الأولى ومنحها المضمون الذي شرعت تبحث عنه بعد مهزلة إعادة عدّ الأصوات في فلوريدا، وبالتالي صناعة ـ وليس فقط تقوية ـ حظوظه للفوز بولاية ثانية. فما الذي اتضح من خطأ في تقديرات ريتر تلك؟ وأياً كانت مغامرات بوتين وسياساته الإمبراطورية وعربدته الراهنة في سوريا والقرم وليبيا ومالي ومدغشقر وفنزويلا والموزامبيق، أو المقبلة في تخوم أوكرانيا… كم من سكوت ريتر تحتاج الإنسانية في سبيل افتضاح الأباطيل الأمريكية؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
—————————-
بلينكن يعرض سيناريو كارثيا: روسيا ستلفق ذريعة لبدء حرب شاملة على أوكرانيا
حضّ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الخميس، خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، روسيا على “التخلّي عن مسار الحرب”، عارضاً سيناريو كارثياً لهجوم روسي على أوكرانيا تؤكّد واشنطن أنّه وشيك.
وقال بلينكن أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك “أنا هنا اليوم ليس لبدء حرب بل لتجنّب” اندلاعها، مضيفاً أنّه اقترح الخميس على نظيره الروسي سيرغي لافروف أن يلتقيا “الأسبوع المقبل في أوروبا” .
وأضاف “لا أشك في أنّ الردّ على تصريحاتي اليوم هنا سيكون مزيداً من الإنكار من جانب الحكومة الروسية”.
وتابع الوزير الأمريكي “تستطيع الحكومة الروسية أن تعلن اليوم أنّ روسيا لن تجتاح أوكرانيا، أن تقول ذلك بوضوح أمام العالم أجمع، ثمّ تعمد إلى إثبات ذلك عبر إعادة جنودها ودباباتها وطائراتها إلى ثكناتهم ومخازن (السلاح)، وعبر إرسال دبلوماسييها إلى طاولة المفاوضات”.
وحذّر بلينكن من أنّه “في الأيام التالية، سيتذكّر العالم هذا الالتزام أو رفض القيام بذلك”.
وأوضح بلينكن أنّ “معلوماتنا تُظهر بوضوح” أنّ القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، “بما فيها قوات برية وطائرات، تستعدّ لشنّ هجوم على أوكرانيا في الأيام المقبلة”.
وفصّل دقائق سيناريو الغزو الذي تتوقّعه الاستخبارات الأمريكية، ويتضمّن إطلاق “صواريخ وقنابل” على أوكرانيا، إضافة إلى “هجمات إلكترونية” على “مؤسسات أوكرانية حيوية”، ثم عملية توغّل “لدبّابات وجنود تستهدف أهدافاً رئيسية” بما فيها العاصمة كييف.
وقال بلينكن إنّ هذا السيناريو “يُطبّق منذ الآن، مع تحرّك روسيا نحو الحرب وتجديدها التهديد بعمل عسكري”.
وإذ أكّد أنّه يتفهّم شكوك أولئك الذين يتذكّرون الأخطاء التي ارتكبتها الاستخبارات الأمريكية في الماضي، قال بلينكن إنّه يريد أن يكشف عن أكبر قدر من “التفاصيل على أمل أنّه من خلال مشاركتها مع العالم” فإنّ ذلك “سيدفع روسيا للتخلّي عن طريق الحرب”.
وحسب السيناريو الذي تتوقّعه واشنطن، فإنّ موسكو ستعمد أولاً إلى “تلفيق ذريعة لهجومها”، سواء أكان ذلك من خلال “حدث عنيف ستنسبه روسيا إلى أوكرانيا”، أو “هجوم تقول إنّه إرهابي في روسيا” أو “اكتشاف مفبرك لمقبرة جماعية أو هجوم بطائرة من دون طيار على مدنيين، أو هجوم مزيف، أو حتى حقيقي، بسلاح كيميائي “.
وحذّر الوزير الأمريكي من أنّ “روسيا يمكن أن تعتبر هذا الأمر تطهيراً عرقياً أو إبادة جماعية”، مشيراً إلى أنّ هذه “الإنذارات الكاذبة” كثرت في الأيام الأخيرة، وآخرها يوم الخميس، في وسائل الإعلام الحكومية الروسية.
وأضاف أنّه بعد ذلك، ستعلن الحكومة الروسية “أنّه يجب على موسكو أن تردّ للدفاع عن المواطنين الروس أو السكّان الناطقين بالروسية في أوكرانيا”.
وتابع “بعدها سيبدأ الهجوم” .
وعن سير الهجوم المتوقع قال بلينكن، من دون أن يقدّم دليلاً يدعم هذا السيناريو الكارثي، إنّ “صواريخ وقنابل روسية ستسقط على أوكرانيا، وسيتمّ قطع الاتصالات، وستشلّ هجمات إلكترونية المؤسسات الأوكرانية الرئيسية”.
وتابع “بعد ذلك ستتقدّم دبّابات وجنود ضدّ أهداف رئيسية تمّ تحديدها مسبقاً”، بما في ذلك العاصمة كييف.
وردّاً على تصريح بلينكن، ندّد نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرتشينين بسيناريوهات أمريكية “مخيّبة للآمال للغاية”.
واستنكر الدبلوماسي الروسي التصريحات الأمريكية، معتبراً أنّها “لا تؤدّي سوى إلى زيادة منسوب التوتر”.
كما أعرب فيرتشينين عن أسفه “العميق لأن تصريحات موسكو لم تؤخذ في الحسبان”، مؤكّداً “نحن مستعدّون لإجراء حوار جادّ جداً، وليس لحوار صوري” .
من جهة أخرى أثارت مزاعم إطلاق نار بين أوكرانيا والانفصاليين في أوكرانيا، أمس الخميس، المخاوف من أن روسيا تمهد بخلق ذريعة لغزو جارتها.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن للصحافيين لدى مغادرته البيت الأبيض: “لدينا سبب لنعتقد أنهم منخرطون في عملية خداع ليتوفر لهم مبرر للغزو. كل المؤشرات التي لدينا تفيد بأنهم يستعدون لاجتياح أوكرانيا”.
وقدمت أوكرانيا والانفصاليون روايتين تدحض كل منهما الأخرى عن القصف على خط التماس في منطقة دونباس الانفصالية.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن موسكو “قلقة للغاية” إزاء التقارير المتعلقة بالتصعيد.
ودأبت روسيا على اتهام كييف بالتخطيط لإثارة التصعيد كذريعة للاستيلاء على أراضي المتمردين بالقوة، وهو ما تنفيه أوكرانيا.
ووصفت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس التقارير بأنها “محاولة مكشوفة” من قبل الحكومة الروسية لاختلاق ذرائع للغزو.
وطردت موسكو المسؤول الثاني في السفارة الأمريكية وأرسلت للسفير جون سوليفان، خطابا شديد اللهجة تتهم فيه واشنطن بتجاهل مطالبها الأمنية.
وذكرت الخارجية الروسية في ردها على واشنطن المنشور على موقعها الالكتروني، أن الجانب الأمريكي لم يقدم ردا بناء على العناصر الأساسية لمسودة الاتفاقية.
وأعرب البيان الروسي عن رفضه للمطالب النهائية بانسحاب القوات الروسية من مناطق معينة من أراضيها والتهديد بفرض عقوبات عليها، مشيرا أن هذه التهديدات تقوض آمال التوصل إلى صفقات حقيقية.
وشدد أنه “إذا لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للاتفاق على ضمانات مشروعة لأمننا، فإنه سيتعين على موسكو تنفيذ تدابير عسكرية تقنية”. وأكد أنه “لا يوجد غزو روسي، ولا خطة لذلك”، مشددا أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو يعني الدخول في عمل مسلح مع روسيا بشكل مباشر. وقال: “نحن منفتحون على الحوار وندعو إلى النظر في الظروف المستقرة للأمن للجميع، والمتساوية لجميع المشاركين في الحياة الدولية”.
القدس العربي
—————————-
عن الإعلام الذي يغني للموت… في «الأزمة الأوكرانيّة» لا أحد يريد أن يعرف الحقيقة/ ندى حطيط
تزداد الأزمة حول أوكرانيا خطورة وسخافة في آن معا.
أمّا الخطورة، فقد حشدت روسيا أكثر من 100 ألف عسكريّ قبالة الحدود الأوكرانية مطالبة الناتو بعدم قبول أوكرانيا في صفوفه، ووقف سياسته للتوسع في شرقي أوروبا.
وعلى الرّغم من أن الموقف الروسيّ بدا متصلباً بشأن تلك المطالب، فإن موسكو لم تهدد في أيّ وقت بشن حرب، فيما تُقرّع آذان العالم يومياً أصوات إدارة الرئيس الأمريكي بايدن للتحذير من «غزو روسيّ» وشيك.
أما في أوكرانيا نفسها، فإن رئيسها فولوديمير زيلينسكي – الموالي للغرب – فيدعو الأمريكيين إلى الهدوء، لأن مناخ التّوتر العالي الحالي يضرّ باقتصاد بلاد تعاني من التضخّم الحاد والبطالة الواسعة وتفشي الفساد.
وبينما يتولى رئيس الوزراء البريطانيّ بوريس جونسون دور قارع طبول الحرب، فإن الألمان – وإلى حد ما الفرنسيين – لا يريدون التورّط في نزاع مسلّح حول أوكرانيا ستكون له حال حدوثه انعكاسات مروعة أقلّها – من وجهة نظر الأوروبيين – تأثر إمدادات الطاقة الروسية، التي تضمن استمرار دوران عجلة الحياة في معظم القارة الأوروبيّة، ناهيك عن ركود اقتصادي عميق فيما إذا تم تطبيق العقوبات (القاسيّة) التي تهدد الولايات المتحدة وحلفاؤها بفرضها على روسيا.
وأمّا السخافة، ففي دور وسائل الإعلام المرئي والصحافة الغربيّة التي، بدلاً من أن تقدّم للجمهور حقائق تساعده في فهم طبيعة النزاع بين روسيا وأوكرانيا وخلفيّات السياسات الأمريكيّة كما سلوك باقي الأطراف المعنيّة، فإنها تنخرط بشكل فجّ ومباشر في حرب بروباغاندا موازية للأزمة الجيوسياسيّة، وتبدو في أحيان كثيرة وكأنّها تدفع تجاه تصعيد الأمور وتغني للموت.
وغنيّ عن القول، فإن حرباً ولو محدودة وبالأسلحة التقليديّة في المناطق الشرقيّة من أوكرانيا ستكون لها نتائج كارثيّة على جميع المعنيين، وتداعيات سلبيّة تنسحب على نطاق عالميّ، وقد تؤدي في النهاية إلى حرب أوسع بين أطراف كثير منها مدجج بأسلحة نووية.
والمذهل أنّ ذات تلك الشاشات التلفزيونيّة والصحف (العريقة) ووكالات الأنباء العالميّة التي تقود هذه الجوقة من الجنون، لعبت دوراً مماثلاً قبل ثلاثة عقود عندما كانت تنشر أكواماً من الأكاذيب اليوميّة المعدّة في مطابخ دعائيّة عن امتلاك العراق لأسلحة نوويّة وكيميائيّة، وعن قدرة النظام العراقيّ على توجيه ضربات بأسلحة دمار شامل للمصالح الغربيّة خلال دقائق. وقتها كان لتلك الأكاذيب أن غيّبت العقلانيّة وأفشلت الحلول الدبلوماسيّة لمصلحة مذبحة معلنة ذهب ضحيتها ملايين الأبرياء، وتسببت في التأسيس لمناخات التصدّع التي أصابت العراق تالياً وتستمر إلى اليوم. ولم يكن العراق المنكوب وحده الذي دفع ثمن هذا الانخراط المخزي لوسائل الإعلام الغربيّة في المجهود الحربيّ لعدد من الدّول العظمى ضدّ دولة عالمثالثيّة صغيرة، بل دفعت تلك الوسائل والبيوتات الكبرى للإعلام ثمناً باهظاً من ثقة جمهورها، وفقدت مصداقيتها والعديد من متابعيها، حتى أنّها لم تتعاف من ذلك قط، بل وأصبح بعضها مضرب المثل ومثاراً للسخريّة في القدرة على الكذب البواح والمبالغات الحادة. وفي دول (عظمى) ذات موارد هائلة مثل الولايات المتحدّة، تجد أن الغالبيّة الساحقة من المحطات التلفزيونيّة والصحف الجماهيريّة تقف صفاً واحداً وراء حكوماتها وتغرّد معاً على المِنوال نفسه في التّحريض على تأديب روسيا، ومنع «القيصر» من إعادة بناء جبروت الاتحاد السوفييتيّ (المندثر) وحماية أوروبا من «هتلر» جديد، وتستضيف لذلك إما خبراء من مراكز أبحاث وأكاديميين مصابين ب «الرّوسي-فوبيا» أو إعلاميّين أغراراً – أغلبهم دون الثلاثين من العمر ولم يلحقوا بحرب العراق – يعتقدون بأن الحرب نزهة، فيما تغلق الأبواب بحزم حماسيّ في وجه كل صوت مخالف!
لا أحد يريد أن يفهم «القيصر» الجديد
تعمد أوركسترا الإعلام الغربيّ إلى شخصنة روسيا ووصمها الضمني كعدوّ متوحش لا يكلّ في سعيه لتقويض الديمقراطيّات الغربيّة وحرف الانتخابات (الرئاسيّة الأمريكيّة) والاستفتاءات (بريكست البريطاني حول العلاقة بالاتحاد الأوروبي) لمصلحته، وتلك بالطبع ليست صوراً دقيقة للواقع وأقرب إلى كاريكاتير (استشراقيّ) في فهم العالم. فلنتذكر جميعاً أن فلاديمير بوتين ليس فلاديمير لينين، بل شخصية محافظة، معادية للشيوعيّة، وأنّه كان اختيار الرئيس الروسيّ السابق بوريس يلتسين – حليف الغرب – لقيادة الدّولة التي ورثت الديناصور السوفييتيّ، وأنّ الولايات المتحدة وقتها لم تعارض ذلك، وهي التي كان يلتسين لا يرفض لها طلباً. وفي النهاية لا يمكن اختصار الدّولة الروسيّة الهائلة والمعقّدة في شخص رجل واحد – مهما عظم شأنه، وبوتين يتعرّض لضغوط شديدة من مراكز قوى متعددة داخل نظامه وهناك عدم رضى ملموس من تلكؤه بالتدخّل في دونباس والأقاليم الشرقيّة من أوكرانيا، التي تقطنها أغلبيّة ذات أصول روسيّة وتتعرض لاعتداءات دوريّة من قبل الجيش الأوكراني ومتطرفين.
ولعل شُروع الولايات المتحدة في إجراءات إضافيّة تستهدف استيعاب أوكرانيا في الناتو مثّلت تجاوزاً لخط أحمر في استهداف المصالح الروسية، لم يعد ممكناً بعده السكوت، وإذا لم تتحرك القيادة فلا بدّ أنها ستزاح وتستبدل بأخرى قادرة على اتخاذ مواقف أكثر صرامة. وهذا كلّه لا يصل عبر الجوقة إيّاها للجمهور العاديّ مقابل سيل من الشخصنة والشيطنة والمبالغات وأنصاف الحقائق المتلاحقة.
روح الاستعلاء الأمريكيّة القاتلة
على الجانب الآخر، وعبر الأطلسي، تتم مهاجمة الرئيس بايدن على منابر الإعلام الجمهوري الهوى، بوصفه لا يتصرّف بحزم كاف مع روسيا، وتمارس القوى السياسيّة المهيمنة على دولة العالم العظمى ضغوطاً لتأديب بوتين، ودفع أوكرانيا إلى حافة الهاوية لأجل عيون الناتو. روح الاستعلاء والتعالي على روسيا تحديداً اعتماداً على ذكريات الانتصار الحاسم في الحرب الباردة لم تعد واقعيّة في أحسن الأحوال. فروسيا اليوم ليست تلك الدولة الصاعدة من ركام الانهيار، ولا تزال قوّة نووية كبرى وتمتلك موارد هائلة من النفط والغاز تحتاجها أوروبا بشدّة وتكنولوجيّات قتال متطورة. وهناك أيضاً المارد الصيني الصاعد (1400 مليون نسمة) الذي لم يعد يمكن تجاهل وزنه الاقتصادي والعسكريّ في ميزان القوى العالميّ. ولذلك فإن الولايات المتحدة بمراهنتها على التصرف بعقليّة جيل التسعينيات المنتشي بتقويض الإمبراطوريّة الشيوعيّة، تخطئ التقييم وتخاطر في جرّ العالم إلى مساحات لا يأتي من ورائها إلا الدّمار والخراب.
لكّن ذلك لا يبدو أمراً يستحق النقد أو المعالجة في قنوات الإعلام الغربيّ، التي استمرأت التضليل والتجهيل.
الهاربون إلى أوكرانيا من «الدّاخل»: جونسون وماكرون
إلى جانب اللّاعبين الأساسين، روسّيا والولايات المتحدة، والملعب – أوكرانيا، فإن هنالك أطرافاً ثانويّة معنيّة بالنزاع، لا سيّما في أوروبا التي ستدفع أكثر من غيرها حال تطورت الأزمة على جانبها الشرقيّ إلى حرب شاملة.
وباستثناء ألمانيا التي اتخذت موقفاً أقرب لمصلحتها عبر التزام جانب الحياد، ورفضت دعم أوكرانيا بالسلاح أو المعدات سعياً لتجنّب إغضاب الروس، فإن دولا أقلّ أهميّة مثل بريطانيا وفرنسا تبدو أكثر حماسة حتى من الأمريكيين المهووسين أنفسهم في الترويج للحرب والقيام بالعنتريّات ضدّ «الدبّ الروسيّ» أو «القيصر الجديد». لكن الحقيقة أن زعماء تلك الدول يهربون بالفعل من مشاكلهم الدّاخليّة الفظيعة إلى فضاء الأزمة الأوكرانيّة سعياً لاستعادة شيء من احترام مفقود (فضائح بالجملة لحكومة جونسون) أو شعبيّة مترديّة لحظة الاقتراب من الاستحقاقات الانتخابيّة (رئاسيّات فرنسا في إبريل/نيسان المقبل). ومجدداً، فإن إعلام الدّولتين، يصطف إلى يمين قياداتها، ويشغل وقته في التّهويل من الغزو الروسي، الذي حتماً سيصل إلى باريس ولندن في نهاية المطاف، ويتناسى كم قيادات بلاده فاسدة وفاشلة وتابعة!
وهم السلطة الرابعة
الإعلام الغربيّ – والعربيّ الذي ينقل عنه دون تروٍ – أصبح بشكل أو آخر عبئاً على الشعوب وخادماً ذليلاً للسلطات التنفيذيّة مستقيلاً بالكليّة من دوره كسلطة رابعة تمارس النّقد لمصلحة المجتمع العليا، بل وتحوّل شريكاً ومساهماً في مشاريع الحروب والدّمار، مستغرقاً في دونيته، فيكرر أخطاء الماضي دون التعلّم منها. هكذا إعلام، يستحق كل الازدراء وغياب الثقة الذي انتهى إليه. لقد حان الوقت لبناء سلطة خامسة للضغط على صانعي القرار ومنعهم من ارتكاب الحماقات، لكن ذلك حديث آخر.
٭ إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن
————————–
توابع الأزمة.. أوروبا تتراجع عن “الحوار” مع روسيا لصالح المواجهة
الحرة / ترجمات – دبي
بات الغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا يهدد استقرار القارة الأوروبية بأكملها التي عاشت الأمان والاستقرار طوال الثلاثين عاما الماضية بعد انتهاء الحرب الباردة.
وتقول أولريك فرانك، الزميلة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهي مؤسسة فكرية تأسست عام 2007 وتتخذ من العاصمة الألمانية برلين مقرا لها، إن جيلها يشعر بحساسية تجاه الجيش، لا سيما عندما ينتقل إلى مناصب السلطة.
كتبت فرانك في مقال نشر العام الماضي: “بعد 30 عاما من السلام، يواجه جيل الألفية الألمان صعوبة في التكيف مع العالم الذي نعيش فيه الآن. نحن نكافح من أجل التفكير من حيث المصالح، ونكافح مع مفهوم القوة الجيوسياسية، ونكافح مع القوة العسكرية باعتبارها عنصرا من عناصر القوة الجيوسياسية”.
تقول فرانك وآخرون إن التهديد العسكري الروسي “الهائل” لأوكرانيا يهز الشعور بالرضا بين الأوروبيين الصغار والكبار على حد سواء الذين لم يعرفوا الحرب طوال حياتهم، وفقا لما نقلته صحيفة “نيويورك تايمز”.
وبحسب الصحيفة الأميركية، فإن هذا النقاش بدأ في التحول خلال السنوات الأخيرة، حتى قبل تهديد روسيا لأوكرانيا، مع الحديث عن موقف استراتيجي ودفاعي أوروبي أكثر قوة واستقلالية. لكن الأزمة الحالية والتهديد الوشيك لأوكرانيا، أدت لكشف الضعف الأوروبي فيما يتعلق بالقضايا الأمنية، طبقا للصحيفة.
“النظام الحالي لا يوفر الأمن”
وقالت فرانك في مقابلة: “نواجه في أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص مشكلة الوضع الراهن. نحن مرتاحون جدا للأمن الأوروبي، ومعظم الناس لا يدركون أنه في سبيل الدفاع عن هذا الوضع الراهن، نحن بحاجة إلى التحرك”.
وأضافت أن النخبة تشعر بالرياح الباردة القادمة من روسيا، لكن “على مستوى الرأي العام، يريد الناس أن يتركوا بمفردهم وألا يلمسهم شيء”.
من جهتها، ترى المديرة التنفيذية لشؤون أوروبا وأوراسيا بمؤسسات المجتمع المفتوح، دانييلا شوارزر، التي سبق أن عملت بالمجلس الألماني للعلاقات الخارجية، أن “صورة روسيا قد تغيرت كثيرا”.
وقالت: “حتى في ألمانيا، هناك واقعية مفادها أن علاقاتنا مع روسيا وسياسة الطاقة لدينا يجب التعامل معها بطريقة استراتيجية أكثر بكثير مما كان معترفا به بشكل عام في الماضي”.
وحتى بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، لم تفعل ألمانيا وأوروبا الكثير لتقليل اعتمادهما في مجال الطاقة على روسيا.
وتعتبر ألمانيا أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي في القارة الأوروبية حتى قبل تشغيل خط الأنابيب الجديد المعروف باسم “نورد ستريم 2”.
لطالما حذرت الدولة الأوروبية الجارة لروسيا من خطر موسكو، لكن الأوروبيين الآخرين البعيدين لم يروا هذا الشيء إلا الآن. وقالت شوارزر: “يوجد الآن تصور بأن الصراع في قارتنا أمر ممكن”.
في عام 2008، عندما دخلت القوات الروسية جورجيا، و لاحقا عندما ضمت شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، ومؤخرا بعد تدخلها في الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، لم يكن هناك تغيير دائم في النظرة الأوروبية تجاه روسيا.
تعلق شوارزر قائلة: “هذا الصراع سيكون له بُعد مختلف، لأنه يتعارض بشكل مباشر بين الغرب وروسيا، ويُنظر إليه على أنه دليل على أن النظام الأوروبي الحالي لم يعد يوفر الأمن”.
“الأمن الأوروبي لا يزال مع القيادة الأميركية”
في الأسبوع الماضي، وجد استطلاع للرأي شمل سبع دول أوروبية، أدلة قوية على تحول في مواقف الأوروبيين تجاه روسيا.
وفقا للاستطلاع الذي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تعتقد الأغلبية في أوروبا الآن أن روسيا ستغزو أوكرانيا هذا العام وأنه من المهم للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) دعم أوكرانيا ضد التهديد الروسي.
وأبدى الأوروبيون استعداداهم لتحمل ما يسفر عنه الصراع من تكاليف، بما في ذلك ضغوط اللاجئين، وارتفاع أسعار الطاقة والهجمات الإلكترونية، ويرون أن اعتمادهم على روسيا في مجال الطاقة هو التحدي الأكبر الذي يواجههم.
من جانبه، قال السفير البريطاني السابق لدى فرنسا، بيتر ريكيتس، إن أزمة أوكرانيا أعادت “التركيز على الحرب مرة أخرى في العالم عبر حلف شمال الأطلسي”.
وأضاف ريكيتس أن الصراع يذكر الأوروبيين بأهمية الناتو والقيادة الأميركية في الحلف، مردفا أن الرأي السائد بأهمية الحوار مع روسيا بدلا من ردعها سيتراجع بشدة.
وقد يؤدي العمل العسكري الروسي الكبير إلى مزيد من الإنفاق العسكري في أوروبا، ودفع الناتو لزيادة انتشار القوات في أوروبا الشرقية، و”تعميق الهوة بين روسيا والغرب ودفع موسكو أكثر إلى أيدي الصين”، كما يقول ريكيتس.
إلى ذلك، يرى مدير معهد ” تشاتام هاوس”، روبن نيبليت، أن الأزمة تبرر أن الأمان لا يزال يحظى بأولوية في القارة، مضيفا: “يعني ذلك معاملة الناتو بجدية أكبر باعتباره دعامة الأمن الأوروبي وعدم المبالغة في تقدير مسألة الاستقلال الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي”.
وقال نيبليت إن الأمن الأوروبي لا يزال مع القيادة الأميركية، مشيرا إلى أنه “ربما تخبر هذه الأزمة بذلك للأوروبيين حتى وإن كان البعض لا يحب ذلك”
—————————–
سيرغي شويغو في سورية مجدداً..“تلميذ بوتين” الذي يملي الرسائل
وصل وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أمس الثلاثاء، إلى قاعدة بلاده العسكرية “حميميم” في الساحل السوري، حيث قالت وسائل إعلامٍ تابعة للكرملين، أن شويغو جاء لتفقد سير المناورات التي يجريها جيش بلاده شرق البحر المتوسط.
لاحقاً التقى شويغو برئيس النظام بشار الأسد، إذ قالت وكالة “سانا”، إنه جرى النقاش حول “التعاون القائم بين الجيشين الروسي والسوري”، دون أن تحدد مكان اللقاء إن كان في دمشق أو اللاذقية.
وبينما تحدثت وسائل إعلام في موسكو، عن أن اللقاء جرى في دمشق، فقد نقلت عن وزارة الدفاع الروسية، أنه “تم بحث مختلف قضايا التعاون العسكري التقني بين البلدين في إطار القتال المشترك ضد فلول الإرهابيين الدوليين، والمساعدات الإنسانية الروسية للشعب السوري”.
حامل رسائل أو “إملاءات”؟
في الثامن عشر من يونيو/حزيران عام 2016، وبعد أقل من عام على التدخل الروسي العسكري المباشر في سورية لدعم نظام الأسد، حطّت طائرة عسكرية روسية في قاعدة “حميميم” بريف اللاذقية تقل وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو. التقى حينها بشار الأسد بصورة مفاجئة بعد استدعائه إلى القاعدة، في زيارة غير معلنة كانت الأولى، لأرفع مسؤول عسكري روسي لسورية، عقب الثورة السورية في عام 2011.
نشرت وزارة الدفاع الروسية بياناً، حينها، قالت فيه إن “لقاء شويغو مع الأسد تناول القضايا الملحة للتعاون العسكري التقني بين وزارتي دفاع البلدين، وكذلك بعض جوانب التعاون بين البلدين في محاربة التنظيمات الإرهابية العاملة في الأراضي السورية”.
وأكدت الوزارة إن شويغو زار سورية بتوجيه من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لتفقد القوات الروسية في سورية.
الزيارة كان لها ظرفٌ خاص، خاصة أنها جاءت بعد مطالبة نواب أمريكيين، الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، بتوجيه ضربة جوية عسكرية لنظام الأسد، وعقب تهديد موسكو، في 17 يونيو/حزيران 2016، على لسان الناطق باسم الرئيس الروسي، ديمتري بيسكوف، أن الشرق الأوسط ستصيبه “فوضى عارمة”، في حال إسقاط بشار الأسد.
رسائل.. “سياسية وعسكرية”
الزيارة الأولى لشويغو إلى سورية كانت الفاتحة بالنسبة له، إذ تلتها عدة زيارات مماثلة، ترافقت مع ازدياد حدة التصعيد العسكري للقوات الروسية على الأرض، من الجنوب السوري، وصولاً إلى المنطقة الشرقية، وإلى إدلب في الشمال الغربي لسورية.
ببزة عسكرية تارة وباللباس الدبلوماسي الرسمي تارة أخرى، التقى شويغو بالأسد في زياراته المتكررة، على مدار الأعوام الماضية، وبينما كانت “الدفاع الروسية” تعلن أن اللقاءات تندرج ضمن “زيارات العمل”، أشارت وسائل الإعلام الرسمية لنظام الأسد على أن مهمة شويغو الرئيسية فيها هي إيصال رسائل بوتين للأسد، والمتعلقة بما يجري في سورية، سواء على المستوى العسكري أو السياسي.
فعلى سبيل المثال، وبعد عام تقريباً من الزيارة الأولى، وفي سبتمبر/أيلول 2017، أعلنت “الدفاع الروسية” أن شويغو زار سورية، وأجرى مباحثات مع الأسد، مشيرةً إلى أن الزيارة “جاءت بإيعاز من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبحث الجانبان موضوع استقرار الوضع في سورية، وعمل مناطق تخفيف التوتر وتقديم المساعدات للسكان، والتعاون العسكري”.
لم تكن زيارات شويغو إلى سورية، وعلى مدار ست سنوات مضت، في ظروف مستقرة، بل تزامنت مع تغيرات جذرية وحساسة سياسياً وعسكرياً، ولعل أبرزها في مارس/اذار عام 2019 أثناء الحملة العسكرية على محافظة إدلب، وما رافقها من تحركات سياسية لإطلاق اللجنة الدستورية السورية، وصولاً إلى الزيارة الأخيرة له، منذ يومين، 23 مارس/آذار 2020، والتي التقى فيها الأسد، وناقشا “التعاون العسكري ومكافحة التنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى إنعاش القدرات الاقتصادية لسورية”، بحسب بيان لـ”الدفاع الروسية”.
دون علم الأسد
منذ تدخلها عسكرياً في سورية، كسرت روسيا قواعد البروتوكول لدى نظام الأسد بشكل كامل. وعلى خلاف المعمول به عالمياً بالنسبة للدول والحكومات، كان المسؤولون الروس يحطون في سورية بصورة مفاجئة، بين الحين والآخر، وهو ما اتبعه شويغو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أثناء زياراتهم، سواء للقاعدة في حميميم أو العاصمة دمشق.
ولم يخف نظام الأسد طبيعة الزيارات الروسية وماهيتها، وهو أمر كان يشير له بشار الأسد بتعابيره وحديثه، في أثناء لقاءه مع بوتين وشويغو، ففي الزيارة الأولى للأخير بعد التدخل الروسي نشرت وسائل إعلام روسية تسجيلاً مصوراً أظهر لحظة استقبال الأسد لوزير الدفاع الروسي، معبراً عن “سعادته” باللقاء، ومضيفاً أنه “مفاجأة سارة”.
كما عرض التسجيل المصور، حينها، جزءاً من الاجتماع بين الطرفين، والذي قال فيه الأسد “لم أكن أعلم أنكم ستأتون شخصياً (مخاطباً شويغو)”.
من هو شويغو؟
ولد في 21 مايو/ أيار عام 1955 في مدينة تشادان في جمهورية تيفا السوفياتية (في الوقت الحالي جمهورية تيفا).
يوصف من قبل وسائل الإعلام الروسية، بأنه وزير لا يرتدي ربطة العنق ولا يحمل حقيبة العمل، لكنه “يحمل عدة هائلة من الخبرة في الحياة، ويقود العمليات من مكان الحدث، حيث الخطر الكبير وليس من مكتبه في موسكو”.
حصل شويغو على لقب بطل روسيا في عام 1999، ووصل إلى رتبة جنرال في الجيش الروسي عام 2003، كما تولى منصب وزير روسيا لشؤون الدفاع المدني وحالات الطوارئ والتخلص من عواقب الكوارث الطبيعية (وزارة حالات الطوارئ).
بعد تسع سنوات، وفي مايو/أيار من عام 2012، شغل شويغو منصب محافظ منطقة ضواحي موسكو، ليعينه بوتين بعد عدة أشهر وزيراً للدفاع في روسيا.
مدير عمليات بوتين في سورية
في أكتوبر/ تشرين الثاني من عام 2015 نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريراً حول شويغو، قالت فيه إنه يقود العمليات الروسية في سورية، وإنه يعدّ الذراع الأيمن للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين وأبرز المرشحين لخلافته، “لما يمتلكه من براعة في اللعب على المشاعر الدينية والوطنية، ونجاحه في خوض حرب المعلومات لتبرير التدخل الروسي في سورية”.
أشارت الصحيفة إلى أن سيرغي شويغو يقود أول تدخل عسكري لروسيا خارج المربع السوفييتي منذ دخولها لأفغانستان سنة 1979، كما أنه يمثل العقل المدبر لعملية ضم شبه جزيرة القرم، وهو يضطلع بتنفيذ كل مخططات فلاديمير بوتين على جميع الجبهات، بما في ذلك تعميق العلاقات والتعاون العسكري مع النظام الإيراني.
وذكرت “لوموند” أن بوتين عينه في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012 وزيراً للدفاع، “لرغبته بالاستفادة من خبرته ودهائه السياسي والعسكري، في إطار العمل على استعادة مكانة روسيا وهيبتها، في مواجهة الولايات المتحدة”.
وبحسب الصحيفة كان شويغو العقل المدبر لعملية ضم شبه جزيرة القرم، وقد أشرف بنفسه على العمليات العسكرية وعلى الحملة الإعلامية أيضاً، ونجح في كسب تأييد الشعب الروسي لهذه العملية.
وفور انتهائه من هذه المهمة، وجه شويغو أنظاره نحو سورية، و”قام بتوجيه راداراته وإطلاق طائرات سوخوي نحوها، لخوض مواجهة جديدة غير مباشرة مع الولايات المتحدة، ذريعتها محاربة الإرهاب، وهدفها إنقاذ نظام الأسد”، بحسب “لوموند”.
تعلم في سورية “كيف يحارب”
في السنوات الماضية من التدخل العسكري الروسي في سورية خرجت عدة تصريحات لشويغو، نشرتها وكالات روسية، تضمنت حديثه عن آخر التطورات العسكرية ضد فصائل المعارضة، والتجهيزات العسكرية الروسية في القاعدة الأبرز (حميميم).
وإلى جانب ما سبق كان له تصريحات لافتة، روج من خلالها للأسلحة الروسية، والتي تم تجريبها في أثناء العمليات العسكرية، المساندة لنظام الأسد على كامل الخريطة السورية.
وفي سبتمبر/ أيلول عام 2019 كان شويغو قد كشف عن تفاصيل “حققتها الصناعة العسكرية الروسية” من خلال الخبرة المكتسبة في العمليات العسكرية على الأراضي السورية.
وتحدث عن تطوير مئات النماذج من الأسلحة والتقنيات الحربية، مشيراً إلى أن كثيراً من التقنيات “لم يكن سبق وجربت في ظروف الحرب الحقيقية، لا في الاتحاد السوفياتي السابق ولا في روسيا بعد ذلك”.
وقال الوزير الروسي، لوسائل إعلام روسية، حينها: “في سورية، كان علينا أن نتعلم كيف نحارب بطريقة جديدة. وقد فعلنا ذلك”.
وأضاف: “إذا تحدثنا عن الطائرات المقاتلة والهجومية والمقاتلات بعيدة المدى، وطائرات النقل والإمداد، فنحو 90 في المائة من مجمل وحدات هذه القطاعات خاضت عمليات عسكرية مباشرة في سورية”.
——————————
رقصة بوتين الدولية على حبال بايدن الأوروبية/ منير الربيع
يتقن الرئيس الروسي فلادمير بوتين فنّ الاستعراض بمعانيه السياسية والأمنية والإعلامية. وهو ما مارسه في الاتصال الهاتفي مع الرئيس الأميركي جو بايدن، من خلال اللعب على لغة الجسد، وإظهار حالة الاسترخاء والارتياح لديه خلال المكالمة، تعبيراً عن ثقة مفرطة في النفس، وقدرة على فرض الوقائع التي يريدها. واستكملت موسكو اللعب في الإشارات الاستعراضية خلال اللقاء بين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، ووزير الدفاع البريطاني بن والاس، من خلال استعراض صور تعود إلى الحرب العالمية الثانية، وظهور صورة لوزير دفاع الاتحاد السوفييتي أيام تلك الحرب جورجي جوكوف، في محاولة لتذكير البريطانيين بذلك التاريخ الذي يصر بوتين على استعادة أمجاده.
طوال الفترة السابقة كان بوتين يخوض حرب أعصاب، في سبيل تحقيق أهداف سياسية واستراتيجية متعددة. أهداف معركته الأوكرانية هي الإمساك بسوق الغاز في أوروبا، استخدم مجموعة من الأسلحة، التحشيد العسكري، الرهان على تحرك في الداخل الأوكراني لفرض أمر واقع جديد، وصولاً إلى التحضير للدخول إلى شرق أوكرانيا، والهدف هو منعها من الدخول في حلف الناتو، فيما الهدف الأبعد هو تقويض الحلف والمبازرة على الدرع الصاروخي.
هي معركة روسية لحسابات عالمية، من شأنها أن توقف العالم كله، وتشعل أسعار النفط، وتحدث تغييراً جيوستراتيجياً على صعيد النظام العالمي. أحد أكبر المستهدفين فيها الاتحاد الأوروبي كاتحاد، خصوصاً أن الهدف التاريخي لموسكو إلى جانب تقديم صورة استعادة الأمجاد منذ الملكة كاترين وأزمنة القياصرة، وحتى امتداد وقوة واتساع الاتحاد السوفييتي، هو ضرب الاتحاد الأوروبي والسعي إلى تفكيكه. وهي لعبة شطرنج خطرة، تضاف إلى المخاطر التي تعصف بالاتحاد من خلال تنامي جماعات اليمين المتطرف، أصحاب نظرية الانغلاق وعودة الدول إلى حدودها السياسية بدلاً من حالة الانفتاح، وهي عناصر ساهمت في تكريسها أزمة كورونا التي عندما انطلقت أدخلت دول الاتحاد في تنافس فيما بينها على تحصيل المساعدات الطبية، وحاولت دول عديدة السيطرة على شحنات من المساعدات الطبية عائدة لدول أخرى، كان ذلك عنصراً من عناصر التفكك في اللاوعي الأوروبي، أو بحكم الأمر الواقع، وهي معاناة تجلّت بالتحديد في إيطاليا وإسبانيا اللتين اعتبرتا أن تعاطي الدول الأوروبية الأخرى معهما عند انتشار الوباء وتفشيه، لا يرقى إلى مستوى العلاقات الاتحادية، ما غذّى نزعات الانفصال عن الاتحاد.
تنتهج روسيا استراتيجية واضحة تتجاوز مرحلة ما بعد الثنائية القطبية والأحادية القطبية أيضاً، وسط قناعة بأن تركيبة النظام العالمي ككل ستتغير. تُبرز روسيا اهتماماتها من البحر الأبيض المتوسط إلى آسيا وأوروبا، مستندة إلى تراجع أميركي أو انكفاء تنتهجه واشنطن منذ سنوات. في مرحلة مشابهة للمواقف الأميركية التي رافقت اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية قبل أن تقرر في كل حرب من الحربين موعد انخراطها فيها. فلم تنخرط في الحرب الأولى إلا بعد انتصار الثورة البلشفية، ولم تنخرط في الحرب الثانية إلا بعد هزيمة إصرار هتلر على اجتياح روسيا وخسارته في ستالينغراد، وكانت المواقف الأميركية واضحة في الاستثمار بكل تلك الصراعات لإرساء قواعدها في النظام العالمي الذي أسس للثنائية القطبية وصراعاتها.
تعرف واشنطن أن بوتين الذي خاض حرب أعصاب، ويخوض حرباً عسكرية واستراتيجية، ينجح في تحصيل المزيد من المكتسبات والفوز في النقاط، وهو أمر سيكون له أثر سلبي على الإدارة الأميركية في الداخل، هذه الوقائع كلها ستفرض نفسها على مجريات الاتفاق النووي بين أميركا وإيران. فواشنطن التي تسعى إلى إبرام الاتفاق ستجد نفسها مضطرة لتأخيره لعدم قدرتها على تحمّل واقعتين سلبيتين بالنسبة إلى الرأي العام الأميركي على مسافة أشهر من الانتخابات النصفية والتي تشير إلى أن إدارة بايدن ستكون خاسرة فيها.
تلفزيون سوريا
——————————–
نحن مع من: روسيا أم الأطلسي؟/ أسامة عثمان
لا يمكن أن نعزل أنفسنا، نحن العرب، عن الأحداث العالمية، وخصوصًا الأحداث المهمة، وهي القادرة على صنع منعطفاتٍ في الخريطة الدولية، وفي تشكيل النظام العالمي، كالتوتُّرات التي تحيط بأوكرانيا؛ نتيجة التهديدات الروسية، واحتشاد الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لمنع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من التأثير عليها، بردعها عن الانضمام إلى حلف الناتو، أو تقديم ضماناتٍ أطلسيةٍ لصالح أمن روسيا، وفق مفهومه، وذلك بالضغط، والتلويح بالقوة العسكرية، فقد أضاءت هذه البقعة على حالة الخلخلة في موازين القوى الدولية، سيما بعد تتابُع العلامات على تراجُع القوة الأميركية، بعد تعاقب الإدارات الأميركية، منذ جورج بوش الابن، وحتى الرئيس الحالي، جو بايدن، ومرورًا بالرئيس دونالد ترامب، على تخفيف وجودها العسكري في مناطق عدَّة، منها في الشرق الأوسط، كما العراق، والقرن الأفريقي، كما الصومال، ومنها في آسيا، حيث أهمية الوجود الأميركي لمواجهة الصعود الصيني. وعلى الرغم من هالات القوة لديه، وخطاباته الهجومية، لم يختلف ترامب على تخفيف التورُّطات الأميركية العسكرية في الحروب التي لا تنتهي، كما إبرامه اتفاق الدوحة، فبراير/ شباط 2020، مع حركة طالبان، ووافق بموجبه على الانسحاب من أفغانستان، مقابل تعهُّد “طالبان” بمنع أيّ هجمات معادية تنطلق من أراضيها ضدّ أميركا، أو غيرها، فالسياسية الأميركية، استراتيجيًّا، ظلَّت تتصف بالاستمرارية، حتى في العلاقة مع أوروبا لم يختلف بايدن عن ترامب في محاولات الحدّ من الاختراقات الروسية، كما أظهرت مواقف ترامب من اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي، وتعييرها بأن ذلك سيجعلها رهينةً بيد روسيا. وموقف بايدن الراهن من أزمة أوكرانيا يصبّ، أيضًا، في تعويق تدشين خط الغاز “نورد ستريم 2”. وفعلًا، كان ترامب وقَّع قانونًا يفرض عقوبات على أيِّ شركة تساعد شركة غاز بروم المملوكة للحكومة الروسية، في استكمال مدِّ خط أنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا. وكان لافتًا أن تكون معارضة هذا المشروع الذي يقلِّل من حصة الولايات المتحدة، في سوق الغاز الطبيعي المسيل، في المنطقة الأوروبية، من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
كان الانسحاب من أفغانستان من تلك العلامات المؤدِّية إلى تناقص الهيبة الأميركية، نفَّذه بايدن بطريقة هُروبية، جرَّت عليه انتقاداتٍ داخلية واسعة وحادّة، وأسهم، كما رأى ترامب، في تشجيع بوتين على التهديد بغزو أوكرانيا. وبالطبع، لم يكن هذا هو السبب الوحيد الذي جرَّأ بوتين على التحرُّك العدائي، والدفاعي، في آن، تُجاه أوكرانيا، ولكن ضعف الموقف الأوروبي وانقسامه؛ تبعًا، لمصالح دولها مع روسيا، وخشية قادتها من تداعيات اشتراك بلدانهم المباشر في الحرب المحتملة، على حظوظهم الانتخابية.
نعم، لا يمكن أن نكون بمعزل، عن هذه الأحداث، وهي تدور بين دول كبرى فاعلة، وفي إعادة اصطفافها تأثيرٌ مؤكَّد على بلادنا، والنزاعات الجارية فيها، كما في سورية، مثلًا، حيث تركت الولايات المتحدة روسيا/ بوتين تصول وتجول. ولهذا الصراع تأثير، أيضًا، على دور دولة الاحتلال في سورية، حيث تسمح لها موسكو بتنفيذ هجماتها ضد إيران، وهي لذلك تحاول أن لا تُغضِب روسيا، بتأييد أوكرانيا، وَفْق صحيفة يديعوت أحرونوت التي كتبت أنَّ إسرائيل أوقفت تزويد أوكرانيا بمنظومة القبَّة الحديدية المضادّة للصواريخ؛ تفاديًا للمواجهة مع روسيا. وأوضحت أنَّ إدارة بايدن، وقادة الكونغرس، تفهَّموا الحذر الإسرائيلي، بالنظر إلى الأوضاع في سورية، والوجود الروسي هناك، وبالتالي تصرَّفوا “بحساسيةٍ ومسؤولية” تُجاه الملف.
يبقى السؤال يساور، مع مَن نقف؟ وأين مصلحتنا؟ مع أن الإجابة تفترِض وجود وَحْدةِ مصالح عربية، وهو الأمر غير المتحقِّق، على الصعيد الرسمي، ثم إنه يفترِض وجود فاعليةٍ عربية سياسية، وهي المفتقَدة، أصلًا. وعلى الصعيد الشعبي، قد يدفعنا ما شهدناه من غطرسة روسية تدميرية في سورية، وفي دعم بوتين الجنرال المنشقّ، خليفة حفتر، إلى دعم الموقف الغربي في هذا الصراع، وخصوصًا، حين نتذكَّر مقادير الهمجية في الأداء الروسي، كما تظهر في استخدام مرتزقة فاغنر، (وقد شاركت في سورية)، إذ كشف تحقيق لـ “بي بي سي”، في أغسطس/ آب الفائت، عن حجم العمليات التي تقوم بها مجموعة فاغنر، من المرتزقة الروس، في الحرب الأهلية في ليبيا. ويظهر “قائمة مشتريات” لمعدَّات عسكرية متطورة، من أحدث طراز، قال شهود خبراء إنها لا يمكن أن تأتي إلا من إمدادات الجيش الروسي، وعُرِف عنهم افتقارُهم أيّ مدوَّنة سلوك، فهي أشبه بعصابات إجرامية، لم تتورّع عن قتل الأسرى، وتعمّد قتل المدنيين، وزرع الألغام في المناطق المدنية، من دون وضع علاماتٍ عليها. وتلك الأفعال ترتقي إلى وصف جرائم الحرب.
ومع استحضار بشاعة التغلُّب الروسي، إلا أنه ليس في وسعنا أن نتمنَّى الانفراد الغربي الأميركي، ونحن نرى برود واشنطن، بل دعمها المطلق جرائم دولة الاحتلال في فلسطين، وقد شهدنا ما فعلته في العراق، وفي سورية، وفي أفغانستان، وجديد علامات الصَّلَف الأميركية توجُّه بايدن نحو التصرُّف بسبعة مليارات دولار، من أصول البنك المركزي الأفغاني، كما ذكر تقرير لصحيفة نيويورك أنَّ بايدن يعمل على تقسيم هذه الأصول، ليحصل أهالي ضحايا هجمات 11 سبتمبر على 3.5 مليارات دولار، فيما يذهب نصف المبلغ الآخر للمساعدات الإنسانية لأفغانستان. وفي غضون ذلك، ينهار الاقتصاد الأفغاني، ويعاني ملايين الأفغان ظروفًا إنسانية بالغة الخطورة. وبايدن بهذا التوجُّه يقرِّر وضْعَ يده على أموالٍ هي ملكٌ للشعب الأفغاني، ويعاقب الشعب الأفغاني، فيما بلادُه هي التي فشلت في منع حركة طالبان من الوصول إلى الحكم. وبالتوازي مع ذلك، لا تتوقف إدارة بايدن، عمليًّا، عن دعم نظُمٍ عربية متورِّطة في قمع شعوبها، وفي تضييع مقدَّرات بلادها.
ليس الصراع الدائر حول أوكرانيا بين الخير والشر، كما هو معروف، وإذا كانت السياسة الراهنة لا تحتكم إلا إلى المصالح، فقد ننتظر اختلالاتٍ تُفضي إلى قبضةٍ روسيَّةٍ أقلَّ إحكامًا، في نهجها الإجرامي، وانشغالاتٍ أميركية أقلّ اقتدارًا، على مساندة العدوان، احتلاليًّا إسرائيليًّا أم دكتاتوريًّا عربيًّا.
العربي الجديد
————————
رسائل بوتين إلى ماكرون/ محمد طيفوري
أعقب زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، روسيا، في الأسبوع الماضي، من أجل الوساطة، بغية نزع فتيل الأزمة الأوكرانية، كمٌ من السجال في أوساط المراقبين والخبراء، وكثير من السخرية والتهكم في مواقع التواصل، فما تخلّل أطوار اللقاء، تصريحاً أو تلميحاً، من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يكفي لإحاطة المتابعين علماً بمجريات خمس ساعات من النقاش بين الطرفين، وبثّ رسائل مشفرة إلى أكثر من جهة؛ داخلياً وإقليمياً ودولياً.
يتعمد بوتين، متى تعلق الأمر بالمناكفة والتنافس، التمرّد على البروتوكول، بالتفريط في الأدبيات والأعراف الدبلوماسية، وفق حساباتٍ غالباً ما ترتبط بالضيف والزيارة والسياق.. لكنّ ما لقيه ماكرون، في الزيارة، تعدّى الهفوات المألوفة داخل الكرملين، نحو الإمعان في الإهانة، بشكل لم يسبق أن تعرّض له قائد أو زعيم أجنبي في روسيا، فلم يفوت الرئيس بوتين أي فرصة، على مدار اللقاء، من دون الاستخفاف بالضيف الذي بات شبه مصدوم من تصرّفات مُضيفه.
كانت البداية مع طريقة الاستقبال التي فُسِرت بأنّها مجرّد التزام بالتدابير الصحية للوقاية من فيروس كورونا، ما أثار تساؤلاً عن غياب هذه الإجراءات، وما رافقها من صرامة، خلال زيارة رئيس الأرجنتين، ألبرتو فرنانديز، قبل أيام من قدوم ماكرون إلى موسكو. ثم طول طاولة المحادثات بين بوتين وماكرون، في مقر الرئاسة الروسية، وكذا طريقة جلوس الرئيسين على طرفيها. تضمّنت تلك التفاصيل أكثر من رسالة؛ ففي كيفية الجلوس إشارة إلى حجم الفجوة بين روسيا والغرب، بشأن الملف الأوكراني. وكان طول الطاولة بمثابة طلب روسي إلى فرنسا الوقوف على مسافة آمنة من الجميع، وكأنّ موسكو تُذكّر باريس بالخيانة التي تعرّضت لها، أخيرا، (بسبب تحالف أوكس) ممن تتوسط لهم اليوم. وجاءت إشارة بوتين بيده، أمام عدسات الكاميرات، بعد نهاية المؤتمر الصحافي، إلى المكان الذي سيتوجه إليه، من دون انتظار ماكرون الذي سار وراءه، في مشهد مُخّلٍّ بالتقاليد الدبلوماسية، لتبعد فرضية الخطأ أو السهو، وتثبت وجود نية مبيّتة وسبق إصرار.
ما كان لقيصر روسيا أن يُمعن في الاستخفاف برئيس الجمهورية الفرنسية، لو كان أمام رؤساء كبار، أمثال ديغول وميتران وشيراك. أما وقد أيقن أنّ المتعاقبين (ساركوزي، هولاند، ماكرون) على قصر الإليزيه، منذ بداية الألفية الثالثة، غير قادرين على فرض صورة رجل الدولة داخل فرنسا، فأنّى تكون لهم كاريزما القائد أو الزعيم على الصعيد الدولي. كما أنّ اهتزاز صورة فرنسا، في السنوات الأخيرة، شكّل معطىً إضافياً، ساهم في تعزيز جرأة الروس عليها، ففرنسا هي الدولة الوحيدة، في قائمة أعضاء مجلس الأمن المتمتعين بحق النقض، التي عجِزت عن التوصل إلى لقاح مضادّ لفيروس كورونا. وفشلت في حلحلة الأزمة اللبنانية، على الرغم من حرص الرئيس ماكرون شخصياً على تحقيق نجاح فيها، يعبّد الطريق أمامه للعودة إلى المشهد العالمي بعدما خفت بريقه.
تبقى مزاحمة روسيا لفرنسا، حد الإقصاء أحياناً، في حديقتها الخلفية، ببلدان القارّة السمراء أفريقيا، القشّة التي قصمت “ظهر” فرنسا، فحضرت معتمدة أسلوب القوة الناعمة، الممزوج بحسّ اندفاعي أحياناً، في القارّة الأفريقية، سيما في المناطق التي تناصب المستعمر العداء، وتجهر بمناهضة الوجود الفرنسي داخلها، مع الحرص الشديد على تلافي تكرار الأخطاء الفرنسية، وحتى الصينية أيضاً (دبلوماسية القروض). نتج عن ذلك تنوّع في آليات الوجود والاختراق، فجاءت في شكل تعاون عسكري وأمني، إذ تشارك روسيا في التعاون الأمني مع 19 دولة أفريقية. كما اتخذت صيغة دعم للقوى المعارضة للوجود الفرنسي؛ مدنية كانت أو سياسية أو حتى عسكرية. واعتمد، في أحيان قليلة، على الجماعات الأمنية الخاصة (مجموعة فاغنر).
تتجنّب موسكو النظر بعين استعمارية إلى الدول الأفريقية، ما يجعل الأطماع الروسية ذات طبيعة جيو سياسية، مختلفة عن الأطماع الفرنسية بأبعاد تاريخية استعمارية ثقافية. كما أنّ وفاء روسيا لمبدأ عدم التدخل؛ أي النأي بذاتها عن المشكلات الداخلية لبلدان هذه القارّة، واحترام سيادتها عند تعاطي الدول مع الأزمات المحلية، ناهيك عن تسويق روسيا نفسها دولة قوية مؤثرة، بفعل مواقفها النوعية على مسرح الأحداث العالمي، ضد أيّ قرارٍ يستهدف مصالح حلفائها داخل مجلس الأمن.
جعل ما سبق روسيا في مرحلة متقدّمة على الطرف الفرنسي، في ما يتعلق بتطوير علاقاتها مع بلدان القارّة، ففي الوقت الذي تعجز فيه فرنسا، على مدار سنتين (2020/ 2021)، عن تنظيم القمة الفرنكوفونية في تونس، استطاعت روسيا إنجاح القمة الروسية الأفريقية، أواخر عام 2019، بحضور 75% من الرؤساء الأفارقة (43 رئيساً من أصل 54)، في إشارة إلى ميلاد روسيا الجديد بأفريقيا. رقم يكفي الرئيس بوتين جواباً عن تصريحاتٍ فرنسيةٍ مفادها بأنّ “أفريقيا محجوزة ومشغولة مسبقاً ولا مجال لأحد آخر في الميدان”.
على أرض الميدان، فرضت روسيا سياسة أمر الواقع بأكثر من دولة أفريقية، فاستغلت لحظة انسحاب فرنسا من أفريقيا الوسطى، لتضع موطئ قدم في مركز القارة الأفريقية. تحوّل سريعاً إلى صراع بالوكالة، بين أنصار موسكو وباريس، داخل مؤسسات الدولة، أدّى إلى إطاحة رئيس البرلمان، المحسوب على فرنسا؛ بتهمة استغلال السلطة وإساءة استخدام المال العام، في إشارة واضحة إلى النفوذ الذي تتمتع به روسيا داخل البلد. وتمكّنت، عن طريق مجموعة “فاغنر” من دخول تراب دولة مالي أواخر السنة الماضية، مستغلّة الانسحاب الفرنسي هناك، بعد الفشل الذريع لكلّ العمليات العسكرية التي تولت باريس تنفيذها، على مدار ثماني سنوات، بهذه الدولة تحديداً، علاوة على وجود سايدو كيتا المحسوب على موسكو في وزارة الدفاع المالية. ويرجّح أن تدخل إلى بوركينا فاسو قريباً، بعد الانقلاب العسكري هناك في 23 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني).
استناداً إلى ما سبق، يمكن فهم وحتى تفسير سلوكيات بوتين الغريبة وتصرّفاته في حضرة الرئيس الفرنسي ماكرون الذي كان يُمنِي بأيّ شيء من هذه الزيارة؛ بمقدوره توظيفه في المعركة الانتخابية الرئاسية على بعد أسابيع فقط، ما عدا هذا الهوان الذي جعل الأخير في مرمى نيران الأصدقاء قبل الأعداء.
العربي الجديد
——————–
نصف حل في أوكرانيا/ خلدون الشريف
على الرغم من إعلان موسكو انسحابًا جزئيًا لقواتها عن حدود أوكرانيا بالتزامن مع وجود المستشار الألماني أولاف شولتس، في الكرملين، عكست توصية مجلس النواب الروسي الدوما (النواب) غير الملزمة للرئيس الروسي بالاعتراف باستقلال إقليمي “لوغانسك ودونيتسك” الانفصاليين في أوكرانيا تلويحاً من جانب موسكو باستعدادها للتصعيد إذا ما لزم الأمر، من خلال تأمين تغطية شعبية وبرلمانية إذا ما وقع تصعيد عسكري على أي جانب من الحدود.
وبدا واضحًا أنّ مشكلة روسيا مع أوكرانيا هي رأس جبل الجليد من مشاكلها مع واشنطن وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأنّ الروس يطلبون التفاوض حول أصول المشكلة وجذورها وليس فقط ظاهرها، أي أزمة أوكرانيا عينها. وقد أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنّ بين هذه المشكلات “عدم توسع الناتو، وإزاحة البنية التحتية العسكرية للكتلة إلى مواقعها في عام 1997، وعدم نشر أنظمة الضربات القتالية بالقرب من الحدود الروسية”، وأضاف “كل شيء، في رأيي، واضح ومفهوم. نحن مستعدون للحديث عن قضايا أخرى وردت في الردّ الذي تلقيناه، ولكن بالاقتران مع ما هو ذو قيمة قصوى وأهمية قصوى”.
إذن، يبدو جليًا أنّ موسكو تستهدف ما هو أبعد من أوكرانيا وتستعد كما فعلت عبر تاريخها السوفيتي إلى أشكال التصعيد كافة، على الرغم من ان كل تصعيد مع الغرب كان يؤدي إلى أنصاف حلول ترضي الطرفيْن.
الحرب الباردة
في العام 1958، طلبت موسكو من كل من واشنطن ولندن وباريس سحب قواتها من برلين خلال ستة أشهر. رفضت واشنطن، واستضاف الرئيس الأميركي آنذاك، دوايت أيزنهاور، الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف في كامب ديفيد عام 1959 بهدف التوصل إلى اتفاق.
ظلّ منسوب التوتر بين البلديْن يرتفع وسرعان ما ازداد الوضع سوءاً عندما أسقطت القوات السوفييتية طائرة تجسس أميركية من طراز U2 واعتقلت قبطانها فرانسيس باورز في أيار/مايو من العام 1960 في حدث فاقم المواجهة بين القوتيْن العظمتيْن خلال الحرب الباردة.
وعلى الأثر، انهارت قمة باريس الاميركية السوفيااتية في الخامس عشر من الشهر نفسه بعد لحظات على انعقادها، حيث رفض خروتشوف الاعتذار لأيزنهاور واتجه إلى برلين لعقد معاهدة مع ألمانيا الشرقية ما دفع الرئيس الأميركي إلى إعلان حالة الطوارئ في القوات الأميركية في العالم ولكن سرعان ما تجمدّ الملف الألماني إلى أن تسلّم الرئيس جون كينيدي الحكم في كانون الثاني من العام 1961.
وفي مطلع العام 1961، حاصرت موسكو برلين الغربية وعقد كينيدي وخروتشوف قمة في فيينا في حزيران/يونيو. وفي أوّل مواجهة بين الرجليْن في أوج الحرب الباردة، طالب خروتشوف بسحب القوات الغربية من برلين بخشونة واضحة ما دفع بكيندي إلى إرسال آلاف الجنود إلى أوروبا. آنذاك، كانت دول عدم الانحياز قادرة على لعب دور الوسيط من الرئيس المصري جمال عبدالناصر والرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو ورئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو. وعندها استعاض خروتشوف عن التصعيد العسكري بأن أمر بتشييد جدار برلين في آب/أغسطس الذي تطلّب إسقاطه 30 عاماً.
واصل خروتشوف تصعيده وفي العام التالي، أي في سنة 1962، رصدت وزارة الدفاع الأميركية موقعاً لبناء ورشة صواريخ باليستية في كوبا، ما استدعى تلويحاً أميركياً بقصفها واجتياح الجزيرة. وآنذاك، أعلن كنيدي في إطلالة تلفزيونية أنّ أيّ صاروخ يطلق من كوبا باتجاه أي دولة في العالم الغربي سيستدعي انتقاماً أميركياً من الاتحاد السوفيتي نفسه. بالتوازي، كانت القنوات الأميركية تقوم بعملها، فأدّت الاتصالات إلى سحب الروس صواريخهم مقابل وعد أميركي بعدم اجتياح الجزيرة، وبعد سنة أُتبع الوعد بقيام واشنطن بسحب صواريخها الباليستية من تركيا.
الناتو يتوسع ويخرق الاتفاق
منذ سقوط جدار برلين وتوحيدها، وافق الاتحاد السوفيتي بقيادة ميخائيل غورباتشوف على ضم الجزء الشرقي منها إلى ألمانيا تحت لواء الناتو، غير أنّ اتفاقًا شفهيًا تم بين كل من الرئيس الأميركي جورج بوش الأب والفرنسي فرنسوا ميتران ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر والمستشار الألماني هلموت كول بألاّ يتوسع الناتو إنشاً واحداً باتجاه أوروبا الشرقية ودول البلطيق، وبعدها تعهّد الغرب للرئيس الروسي بوريس يلتسين بعدم تمدد الناتو صوب جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق.
على أرض الواقع، بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي في العام 1991، كان الأمر مغايراً. فبعدما خرج عدد من دول حلف وارسو من تحت العباءة السوفيتية، انضمت هذه الدول إلى الناتو، كانت البداية مع هنغاريا وبولندا وجمهورية التشيك في العام 1999. وبعد 5 سنوات، وتحديداً في العام 2004، تبعتها بلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. واصل الناتو توسعه شرقاً واقترابه من مناطق نفوذ الاتحاد السوفيتي السابق، وفي العام 2009 وافق على انضمام ألبانيا وكرواتيا. ومع انضمام الجبل الأسود عام 2017 ومقدونيا الشمالية في العام 2020، بلغ عدد أعضائه 30 دولة. ومؤخراً، أُدرجت البوسنة والهرسك وجورجيا وأوكرانيا ضمن فئة الدول الطامحة للانضمام.
واجه الناتو منذ تأسيسه في العام 1949 تحديات كثيرة فرضتها الحرب الباردة. وفي السنوات الخمس عشرة الأخيرة، شكّل النزاع المسلح بين روسيا وجورجيا في صيف العام 2008 اختباراً خطيراً، حيث تدخل الجيش الروسي في جورجيا دعماً لأوسيتيا الجنوبية، المنطقة الانفصالية الموالية لروسيا، بعدما أطلقت تبيليسي عملية عسكرية. وفي غضون خمسة أيام فقط، هزمت القوات الروسية الجيش الجورجي وهددت بالسيطرة على عاصمة البلاد. وآنذاك، وضع انسحاب القوات الروسية واعتراف موسكو باستقلال “أوسيتيا الجنوبية” و”أبخازيا” حداً للتوترات العسكرية. وما زالت موسكو تحتفظ حتى اليوم بوجود عسكري فيهما. في أوائل العام 2014، خاض الحلف تحدياً جديداً بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وآنذاك، سيطرت قوات موالية لموسكو على شبه جزيرة القرم وضمّتها إلى روسيا بموجب استفتاء اعتبرته أوكرانيا والدول الغربية غير شرعي. ومطلع العام الجاري، أنهت قوات عسكرية بقيادة روسية انسحابها من كازاخستان، الجمهورية السوفيتية السابقة، بعد انتشارها دعماً للنظام القائم على خلفية احتجاجات عنيفة لم تشهدها البلاد منذ استقلالها في العام 1991.
أوكرانيا خزان من الموارد الطبيعية
يكرر الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ الموقف نفسه، فدائماً ما يردد أن الحلف وافق مبدئياً على انضمام أوكرانيا وجورجيا إليه، من دون تحديد موعد زمني لذلك، إذ يدرك الغرب أنّه من شأن خطوة من هذا النوع أن تتسبب باضطرابات لا تُحمد عقباها في تلك المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية. وتُعتبر أوكرانيا بلداً زراعياً من الدرجة الأولى، فهي الأولى أوروبياً لجهة المساحات الصالحة للزراعة، وهي تساهم بتأمين احتياجات العالم من البطاطا ودوار الشمس والبيض والجبن. وتُعد أوكرانيا واحدة من أكبر مصدري الحبوب في العالم (تحتل المرتبة الثامنة)، بل تمثّل صادراتها إلى جانب الصادرات الروسية نحو ربع الإمداد العالمي من القمح. على مستوى الطاقة، تحتل أوكرانيا المرتبة الأولى في أوروبا لجهة الاحتياطيات المؤكدة القابلة للاسترداد من خامات اليورانيوم، كما تحتل المرتبة الثانية عالمياً من حيث الاحتياطيات المكتشفة من خامات المنغنيز (12%). كذلك، تمتلك أوكرانيا ثاني أكبر احتياطي لخام الحديد في العالم (30 مليار طن)، وذلك بحسب لجنة الكونغرس الأوكراني الأميركية. وإضافة إلى ما سبق، لا بد من الإشارة إلى أنّ ثلث كميات الغاز الروسي إلى أوروبا الغربية تمّر في خطوط أنابيب عبر أوكرانيا.
شتاء بارد
في قمة فيينا، توجه خروتشوف لكينيدي بالقول إنّ الأمر متروك لبلاده “لتقرير ما إذا كانت هناك حرب أم سلام”، وهدّده بالرد في حال استفزازه: “ستكون هناك حرب، وسيكون أمامنا شتاء بارد”. اليوم، يهدّد بوتين الغرب بشتاء بارد أيضاً، ولعل تسجيل أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء الأوروبية ارتفاعاً بأكثر من 10% يوم الاثنين، يمثّل لمحة عن مستقبل الأسعار في حال تُرجمت التهديدات الروسية عملياً.
قبل ثلاثين عاماً، حصل غورباتشوف على اتفاق شفهي بعدم توسع الناتو، اتفاق خرقه الغرب باستمرار وواجه نتيجته تحديات خطيرة في الأعوام 2008 و2014 ومطلع 2022 قبل أن تُقرع طبول الحرب في أوكرانيا. أفضت الاختبارات السابقة إلى أنصاف حلول، فدائماً ما كان أصلها مرتبطاً بتطويق وحصار روسيا للحصول على تنازلات. وهذه المرة أيضاً تسلك التطورات هذا المسار، ولعل إعلان روسيا الأربعاء الانتهاء من مناورات عسكرية وسحب جزء من قواتها من شبه جزيرة القرم أولى المؤشرات إلى التهدئة. ويُتوقع أن يتبع هذه التهدئة تراجع غربي عن تطويق روسيا وتجريدها من حزام الأمان حولها، بالأدوات العسكرية، إلاّ أنّ هذا السيناريو المرجح مرهون بتنازلات يقدّمها الطرفان بما يضمن مصالحهما ويربط النزاع بينهما الى حين اندلاع توتر جديد.
المدن
——————
«مرونة» بوتين قد تؤجل قرار الحرب… لكنه يواجه خيارات صعبة
الروس قلقون من التصعيد وموسكو تخسر في فضائها الإقليمي
روستوف: رائد جبر
قد تكون مشاهد سحب جزء من الحشود العسكرية الروسية من المناطق الحدودية الغربية من الأخبار السارّة القليلة للروس هذه الأيام. إذ لم تَبدُ تحضيرات الحرب المحتملة مع الجارة أوكرانيا أمراً جيداً بالنسبة لقطاعات واسعة منهم. هذا لا يعني أن الجزء الأعظم من مواطني روسيا يميلون للرواية الغربية للحدث. وتأثير الماكينة الإعلامية الضخمة لعب دوراً مهماً في تأجيج المشاعر ضد محاولات «الهيمنة» الغربية. لكنّ السؤال الذي يطرحه كثيرون: لماذا علينا أن نحارب أشقاءنا الأقرب في أوكرانيا من أجل تحقيق نصرٍ ما على الخصوم فيما وراء المحيط؟
مع انشغال العالم بتحضيرات الحرب ترددت كل السيناريوهات الممكنة، وبرزت مواقف الأطراف في بلدان مختلفة، لكنّ السؤال عن مزاج الروس تجاه الاستحقاق الصعب ظل متوارياً، ولم يشغل بال كثيرين.
بعض المظاهر التي برزت خلال الأيام القليلة الماضية، نبّهت إلى هذا السؤال. إذ جاء توجيه رسالة مفتوحة إلى الرئيس فلاديمير بوتين أعدّها حزب «يابلوكا» الليبرالي اليميني الصغير، ولم تلبث أن تحولت إلى «عريضة» شعبية بدأت تتسع دائرة الموقِّعين عليها، ليعكس جانباً من المزاج العام. «العريضة» حذّرت من عواقب الحرب الكارثية وَدَعَت إلى وقف الاستعدادات لها واتخاذ مسار الحوار فقط لتسوية المشكلات الناشئة. في الوقت ذاته تقريباً، برز بيان لافت أصدرته «جمعية ضباط عموم روسيا»، وهي جمعية يقودها الجنرال السابق ليونيد إيفاشوف الذي شغل منصب مساعد أول وزير الدفاع في الاتحاد السوفياتي، ويعد من الخبراء العسكريين البارزين في البلاد، كما أنه يرأس حالياً «أكاديمية القضايا الجيوسياسية» وهي مؤسسة بحثية تُعنى بالشؤون العسكرية والاستراتيجية. إيفاشوف دعا مع ثلة من الجنرالات السابقين إلى وقف استعدادات الحرب فوراً، وفي حال تم اتخاذ القرار فـ«تتوجب مراجعته». التحذير الأساسي في بيانهم، كان من أن روسيا ستواجه كارثة مصيرية في حال أقدمت على مغامرة عسكرية في أوكرانيا. ورأى الموقّعون مع إيفاشوف أن بوتين أدخل البلاد في مأزق كبير بسبب طموحاته السياسية والعسكرية. وفي إشارة لافتة إلى تناقض مواقف «الحرس القديم» الذي وضع هندسة «قواعد اللعبة» في الحرب الباردة، مع النخب العسكرية الحالية، قال إيفاشوف في مقابلة صحافية إنه «لا يريد أن يموت عشرات الآلاف من الشباب في حرب بين الأشقاء محتملة للغاية بين روسيا وأوكرانيا، بينما أبناء النخبة الروسية، هؤلاء (المصرفيون اللامعون) و(موظفو الشركات الاحتكارية الكبرى ذوو البزّات الأنيقة) و(خبراء الماس المهمون)، من المحتمل أن يجلسوا في منازلهم وفيلاتهم الأجنبية». ورأى أن تحذير روسيا من «صراع انتحاري وإنقاذها من أجل المستقبل» هو هدف تحركه مع رفاقه. الأمر الثاني اللافت في «تحذير» إيفاشوف هي إشارته إلى أن رسائل الضمانات التي تطالب بها موسكو تعجيزية وغير قابلة للتنفيذ، فضلاً عن أن استخدام روسيا لغة «الإنذارات» في مخاطبة الطرف الآخر، تعكس «سوء تقدير للموقف» خصوصاً لجهة حسابات الحلفاء والخصوم. وقال إن موسكو كان عليها أن تتحدث بلغة أقوى في 1997 عندما تم توقيع تفاهم التعاون مع الأطلسي وليس حالياً. بالمناسبة هذه العبارات التي توحي بمواقف «متخاذلة»، كما وصفها بعض وسائل الإعلام الروسية، صدرت عن جنرال سابق يعدّ من «الصقور» في مواقفه، ولديه روابط وثيقة مع أنصار التيار القومي المحافظ في البلاد.
عموماً، هذه التحركات وإن ظلت محدودة في تأثيرها فإنها تعكس جانباً مهماً من المزاج الشعبي العام، الذي يتعامل بقلق بالغ مع احتمال اندلاع حرب تُسفر عن «طلاق نهائي مع أوكرانيا». وحتى أولئك الذين يدعمون بقوة مواقف الكرملين ضد الضغوط الغربية فهم لا يُبدون ارتياحاً لاحتمال اندلاع حرب مع الجار الأقرب لروسيا.
لكن في مقابل هذه المواقف، يدافع كثيرون عن مسار الرئيس الروسي، ويرى بعضهم أنه يواجه «خيارات صعبة». وتبدو تفضيلات بوتين واضحة، فالسيناريو الأمثل هو أن يطرح الغرب حلاً وسطاً يقوم على رفض انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي لا حالياً ولا في المستقبل، مع إعلان كييف التزامها مبدأ الحياد، وفقاً لنموذج فنلندا في الحرب الباردة. ويفتح هذا المدخل لتنشيط حوار روسي – أطلسي لتحديد ترتيبات الأمن في القارة الأوروبية. أي تسوية المشكلات الكبيرة الأخرى. إذا فشل هذا الخيار فإن الخيار الثاني المناسب لموسكو هو الإبقاء على سياسة الضغط الأقصى، أي الإبقاء على وضع «حافة الهاوية» إلى حين تحسين الظروف التفاوضية، لكنّ هذا الخيار محفوف بالمخاطر، لأنه يحمل تهديداً دائماً بخروج الوضع عن السيطرة عند أول استفزاز مقصود أو عَرَضيّ.
في الحالتين، تواجه تفضيلات موسكو، صعوبات جدّية، لأن تقديم الغرب حلاً وسطاً يُفضي بحياد أوكرانيا، سوف يفسر عن أنه تراجع للحلف ولواشنطن أمام ضغوط موسكو، وسوف يعني ذلك، وهذا هو الأهم، أن حلف الأطلسي يجب أن يغيِّر استراتيجية «الأبواب المفتوحة»، وهو أمر لا يمكن تحقيقه على المدى المنظور. لأن الوضع ليس مرتبطاً بأوكرانيا وحدها، وسيشكل استثناءً أوكرانيا نظرياً على الأقل من هذه الاستراتيجية ضربة مهمة لوحدة الحلف ورؤيته المشتركة. فضلاً عن أن خطوة من هذا النوع قد تكون لها تداعيات بعيدة وفقاً للخبراء، لأن تغيير سياسة الأبواب المفتوحة أو تقليصها سيعني انسحاب هذا الأمر على بلدان أخرى ترفض موسكو انضمامها إلى الحلف الغربي أو توسيع شراكتها معه، مثل جورجيا ومولدافيا وجمهوريات آسيا الوسطى، وسيعني ذلك تقويض واحد من أهم مبادئ الحلف وانتصار موسكو في معركتها الحالية لفرض وجهة نظرها حول تثبيت نظام عالمي جديد تكون فيه محاطة بدول إما حليفة وإما محايدة.
النقطة الثانية المهمة، هي أن الخلاف الروسي – الغربي لا ينحصر في الملف الأوكراني، إذ إن ساحة المواجهة الحالية فرضها تطور الظروف منذ إلحاق القرم بروسيا وحتى الآن، لكنّ تسوية التوتر العسكري الحالي حول أوكرانيا تشكّل واحدة فقط من النقاط الخلافية الكثيرة المرتبطة بمبدأ تمدد الحلف شرقاً عبر نشر بناه التحتية في أوروبا الشرقية ومناطق أخرى، وآليات ترتيب وضمانات الأمن الجماعي في أوروبا. واحترام المتطلبات الأمنية لروسيا في محيطها. وهنا يمكن ملاحظة درجة صعوبة الخيارات التي يقف أمامها بوتين، وتجعله ليس قادراً على التراجع عن مطالبه الأمنية، فعلى الرغم من أنه ظهر خلال السنوات الماضية بصفته الزعيم القوي الذي أعاد هيبة بلاده ومكانتها على الساحة الدولية، فإنّ محصلته النهائية في السياسة الخارجية خاسرة خصوصاً على الصعيد الإقليمي في محيط روسيا. لجهة أنه خلال عهد بوتين ضم حلف الأطلسي 11 بلداً جديداً في مقابل أربعة بلدان فقط في عهد سلفه بوريس يلتسن. أيضاً يبدو النفوذ الروسي في الفضاء الحيوي (الاتحاد السوفياتي السابق) في تراجع غير مسبوق، فقد خسرت موسكو أوكرانيا ومولدافيا وجورجيا وتحولت هذه البلدان عملياً إلى خصوم، وهي لا تُخفي سعيها إلى إنهاء كل احتمالات استعادة النفوذ الروسي فيها، ومواصلة تقدمها في سياسة الاندماج مع الغرب. كما أن أذربيجان وأوزبكستان أصلاً لم تسمحا بنفوذ روسي قوي فيهما. وبالنسبة إلى بقية «حلفاء» موسكو فقد خسرت روسيا حضورها وتأثيرها الشعبي؛ في بيلاروسيا بسبب دعم سياسات الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الداخلية، والأمر ذاته انسحب على كازاخستان بسبب دعم موسكو السلطة القوية في مواجهة التحركات الشعبية، فضلاً عن حاجة الرئيس الكازاخي قاسم توكاييف إلى مواصلة سياسة سلفه في المحافظة على توازن العلاقات مع كل من موسكو وبكين وواشنطن، وهو أمر ظهر من خلال طلب نور سلطان سحب قوات الأمن الجماعي التي تدخلت في بداية العام لحماية نظامه خلال الاحتجاجات الشعبية. كان لافتاً أن مطلب سحبها جاء بعد مرور يومين فقط من انتشارها، وتحدثت معطيات عن أن الطلب جاء بتشجيع من واشنطن وبكين، بشكل منفصل من كل منهما بطبيعة الحال. لأن الطرفين راقبا بحذر محاولات موسكو استغلال الوضع الداخلي الكازاخي لتعزيز حضورها العسكري في آسيا الوسطى. وخسرت موسكو أرمينيا أيضاً بسبب خيبة الأمل الواسعة من الموقف الروسي خلال الحرب الأرمينية – الآذرية.
هذه البلدان كانت تتميز بوجود دعم شعبي قوي لتعزيز العلاقات مع روسيا سابقاً، الأمر الذي تغيَّر تدريجياً خلال السنوات الماضية.
أمام هذه الظروف قد لا يجد بوتين بديلاً عن تصعيد مطالبه الأمنية الاستراتيجية أمام الغرب لضمان عدم تلقي ضربات جديدة، يمكن كما يقول خبراء أن تقوّض نهائياً مكانة روسيا في محيطها الإقليمي.
————————–
روسيا تلمح لأول مرة لاحتمالية اندلاع حرب! موسكو تحذر من “انفجار” على الحدود مع أوكرانيا في “أي لحظة”
عربي بوست
اتهمت موسكو “كييف” بممارسة التصعيد قرب الحدود الأوكرانية، قائلاً إن الوضع “قد يشتعل في أي لحظة”، وذلك بعد أن اتهمت وسائل إعلام روسية القوات الأوكرانية بفتح النار على أراضي لوغانسك الانفصالية المؤيدة لروسيا مستخدمة قذائف الهاون، فيما نفت أوكرانيا ذلك.
في تصريح للكرملين، الخميس 17 فبراير/شباط 2022، جاء فيه إن “استفزازات أوكرانيا في دونباس تصاعدت خلال آخر 24 ساعة”، مشيراً إلى أنه قلق بشدة بشأن تصاعد العنف في شرق أوكرانيا، ومعبراً عن أمله في أن يستخدم الغرب تأثيره على كييف لمنع المزيد من التصعيد.
اتهامات متبادلة
وسائل إعلام روسية قالت، صباح الخميس، إن قوات الأمن الأوكرانية فتحت النار على أراضي لوغانسك شرق أوكرانيا أربع مرات، مستخدمة أيضاً قذائف الهاون المحظورة بموجب اتفاقيات مينسك، فيما نفت القوات الحكومية الأوكرانية استهداف مواقع شرق البلاد، مشيرة إلى أن مواقعها هي من اُستُهدفت بأسلحة محظورة.
وقال ضابط في تمثيلية لوغانسك للصحفيين: “إن التشكيلات المسلحة لأوكرانيا انتهكت بشكل صارخ نظام وقف إطلاق النار، مستخدمة أسلحة، وفقاً لاتفاقيات مينسك، يجب سحبها”.
بحسب قوله، فإن قوات الأمن الأوكرانية قصفت مستوطنات سوكولنيكي وزولوتي وفسيلينكو ونيزني لوزوفو الخاضعة لسيطرة لوغانسك، مستخدمة قذائف “هاون 120” وقاذفات قنابل يدوية ومدافع رشاشة ثقيلة، وفق ما نقلت عنه وكالة سبوتنيك الروسية.
كما قال ممثلون عن منطقة لوغانسك في مجموعة مراقبة وقف إطلاق النار الأوكرانية الروسية إن “القوات المسلحة الأوكرانية انتهكت بصورة فجة نظام وقف إطلاق النار، مستخدمة أسلحة ثقيلة تنص اتفاقيات مينسك على ضرورة سحبها”، وفق ما نقلت وكالة إنترفاكس للأنباء.
من جهتها نفت القوات الحكومية الأوكرانية الاتهامات باستهداف مواقع “انفصاليين” في شرق البلاد.
وقال الضابط المسؤول عن التواصل مع وسائل الإعلام في القوات الأوكرانية لرويترز: “على الرغم من حقيقة أن مواقعنا تعرضت لإطلاق نار بأسلحة محظورة، منها مدفعية عيار 122 ملليمتراً، فإن القوات الأوكرانية لم تفتح النار رداً على ذلك”.
يأتي هذا في وقت يترقب فيه العالم شكل نهاية التصعيد بين روسيا وأوكرانيا، لا سيما مع تحذيرات الولايات المتحدة من احتمال أن تشن موسكو غزواً ضد الأراضي الأوكرانية في أي وقت، بقوة يزيد حجمها على 100 ألف جندي، حشدتهم بالقرب من الحدود.
ورغم أن روسيا أعلنت مؤخراً سحبها لبعض قواتها من الحدود الأوكرانيا، فإن مسؤولين أمريكيين كشفوا، الأربعاء 16 فبراير/شباط 2022، أن موسكو أرسلت 7 آلاف جندي إضافي إلى حدودها مع أوكرانيا.
طبيعة المناطق الانفصالية
وتهدف اتفاقية مينسك التي وقّعت عليها أوكرانيا وروسيا إلى التنفيذ الصارم للوقف الفوري والشامل لإطلاق النار في مناطق معينة من منطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا، إضافة إلى سحب الأسلحة الثقيلة، لكنها تعترف بسلطة أوكرانيا على الدولتين مع منحهما وضعاً قانونياً خاصاً يحمي مصالحهما الأمنية والسياسية الأساسية.
ورغم ذلك، قررت روسيا مؤخراً الاعتراف باستقلال دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا بشكل أحادي.
وشهدت السنوات الأخيرة عمليات إطلاق نار متقطعة من كلا الطرفين في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، لكن أي تصعيد للصراع المستمر منذ سنوات مع انفصاليي دونباس يمكن أن يُذكي نيران التوتر بين روسيا والغرب.
كان إقليم دونباس قد شهد أحداثاً دامية، تعود بدايتها إلى عام 2014، عندما تصاعدت مظاهرات الجماعات الموالية لروسيا في منطقة دونباس بأقصى شرق أوكرانيا، وتطورت إلى حرب بين الحكومة الأوكرانية والقوات الانفصالية المدعومة من روسيا، التابعة لجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك المعلنتين من جانب واحد.
في أغسطس/آب 2014، عبرت المركبات العسكرية الروسية الحدود في عدة مواقع في إقليم دونيتسك، واعتبر توغل الجيش الروسي مسؤولاً عن هزيمة القوات الأوكرانية.
منذ ذلك الوقت، ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم وحوّلتها لقلعة عسكرية، وقالت إن من حقها نشر أسلحة نووية فيها، فيما لم تعترف بانفصال إقليم دونباس، ولكنها تدعمه عسكرياً واقتصادياً، ويسود الإقليم الانفصالي منذ ذلك الوقت حالة من اللاسلم واللاحرب، وعاد التوتر مؤخراً عندما استخدمت كييف طائرات بيرقدار التركية لضرب أهداف للانفصاليين.
———————-
====================
تحديث 21 شباط 2022
——————-
بوتين.. كل هذه المناورات!/ بشير البكر
مناورات روسية، تجري على قدم وساق منذ بداية هذا العام على عدة جبهات. في داخل روسيا وخارجها. على حدود أوكرانيا، في البحر الأبيض المتوسط، في بحر عمان، في أوزبكستان، في بيلاروسيا، في المحيطين الأطلسي والهادئ، والمحيط المتجمد الشمالي. وفي كل مناورة شارك عشرات آلاف الجنود ومختلف أنواع الأسلحة الحربية من طيران وبحرية ومشاة وحتى الأسلحة النووية.
أم المناورات هي التي بدأت نهاية العام الماضي بحشد أكثر من 100 ألف جندي على حدود الجارة أوكرانيا من عدة جهات. ومنذ بداية العام الحالي صار التهديد باجتياح هذا البلد جديا، خاصة وأن روسيا اقتطعت جزءا من أراضيه، شبه جزيرة القرم، وضمتها في عام 2014. وفي خطوة لاحقة حركت تمردا في إقليم دونباس جنوب شرق أوكرانيا، الواقع على مساحة تفوق مساحة لبنان خمس مرات، وتقدر بنحو 52.3 ألف كلم مربع، ويضم منطقتي دونيتسك ولوهانسك المتاخمتين للحدود مع روسيا. وحتى 2014، كان دونباس يوصف بـ “سلة الصناعة والغذاء” في أوكرانيا، لما فيه من ثروات طبيعية وصناعات ثقيلة ومساحات زراعية، إضافة إلى غناه بمناجم الحديد والفحم المستخدم في المصانع ومحطات توليد الطاقة والتدفئة، وفي نيسان 2014 سيطر عليه الانفصاليون الموالون لروسيا، والمناوئون لسلطات كييف، وأعلنوا عن قيام “جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتين”، وباتتا تتبعان لروسيا كليا.
وسبق لبوتين أن قام بما يشبه ذلك في عام 2008، عندما حرك الوضع في أوسيتيا الجنوبية، وكان هدفه إقامة جيب يتبع لروسيا، وتقويض سلطة الرئيس الجورجي الاستقلالي ميخائيل ساكاشفيلي ونجح في ذلك، ولم يتحرك حلف الأطلسي والولايات المتحدة وأوروبا، وهذا ما سمح له أن يمارس عمليات التدخل بلا حدود من أجل البحث عن مصالح خارجية، على غرار ما جرى في سوريا وليبيا، واستخدم في ذلك كل الأساليب، بما في ذلك إرسال المرتزقة من “فرقة فاغنر”، الذين ارتكبوا مجازر في سوريا.
المناورات التي جرت في سوريا بدءا من يوم الثلاثاء الماضي، بحضور وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو، لا تنفصل عن الاستراتيجية الروسية لبسط النفوذ على مناطق حيوية سواء في المحيط الجغرافي المباشر، أو في مدى المصالح كما هو في البحر المتوسط، وتبرز أهميتها من خلال حجم القوات والأسلحة التي شاركت فيها في ميناء طرطوس، وهي أكثر من 15 سفينة حربية من أساطيل المحيط الهادئ والشمال والبحر الأسود، ومقاتلات وقاذفات روسية من طراز “ميغ 31 كا” الحاملة لصواريخ “كينجال” و”تو -22 إم3″، وصلت إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا. وقال بيان وزارة الدفاع الروسية إنه تم نقل هذه الطائرات الحربية على خلفية وجود مجموعات جوية تابعة لحلف شمال الاطلسي (الناتو) في منطقة البحر الأبيض المتوسط”.
المسألة المركزية في هذه المناورات هي أمن روسيا، ويفهم من الاستنفار على حدود أوكرانيا الخوف من تمدد حلف الأطلسي، لتصبح موسكو في مدى صواريخه، إلا أنه من غير المفهوم إجراء مناورات في بحري عمان والصين وأوزبكستان وسوريا، إلا في نطاق إحياء الثنائية القطبية وعودة إلى منطق الحرب الباردة، وفق استراتيجية طموحة تهدف إلى إنشاء نظام دولي جديد، يستفيد من انكفاء الولايات المتحدة وانسحابها من الشرق الأوسط، ومناطق حيوية أخرى للأمن الدولي مثل أفغانستان. وهناك شكوك في أن تستطيع روسيا تحمل عبء ذلك وإلى جانبها حلفاء مثل إيران والصين وبيلاروسيا، تتفاوت درجات قربهم منها إلى حد كبير، عدا مصاعب تحمل الكلفة الاقتصادية الكبيرة، التي كانت العامل الحاسم في خسارتها حرب النجوم، التي أطلقها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، وجر الاتحاد السوفياتي إليها وكانت بداية النهاية.
——————————
أزمة أوكرانيا : روسيا ضعيفة لكنها ترعب العالم بقوتها النووية/ ماجد كيالي
اختلط الحابل بالنابل في الصحافة العربية وفي وسائط التواصل الاجتماعي في تحليل الأزمة الأوكرانية، التي تمخّضت عن صراع ساخن، بكل الأدوات، بين دول الغرب بزعامة الولايات المتحدة من جهة وروسيا ومن معها من جهة أخرى.
البعض تعامل وكأن روسيا هي الاتحاد السوفييتي زعيم المنظومة الاشتراكية (لمن يتذكر)، وأنها في مواجهة مصيرية مع الرأسمالية والإمبريالية، أو كأن فلاديمير بوتين هو خليفة فلاديمير ايليتش لينين!
في كثير من تلك التحليلات طغت الرغبوية على الواقعية، وتغلبت التحيزات المسبقة، السياسية والأيدلوجية والعاطفية، على التحليل الموضوعي والعقلاني، في أغلب الأحوال. وصل الأمر حد أن البعض رأى فيما يجري صراعا بين الشرق (المظلوم والخيّر) والغرب (الظالم والشرير)، في حين وجد بعض آخر ضالته في مقولة: “عدوّ عدوي صديقي”، أو المقولة التي تفيد بـ “ضرب الظالمين بالظالمين”، وكلا المقولتين لا تقولا، أو لا تفيدا شيئا، مهما في الحالة المتعينة.
من دون جدال، أو اختلاف، حول أسباب الصراع المعلنة أو المضمرة، الأساسية أو الثانوية، وأيضا بمنأى عن الانحيازات المسبقة، مهما كان نوعها، في متابعتنا لهذه اللحظة التاريخية الخطيرة من الصراع الدولي، ربما يفيد تذكر بعض الحقائق الموضوعية:
النظام السائد في روسيا اليوم هو نظام رأسمالي، وفق الرأسمالية المتوحشة، أي أن روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ذهبت إلى خيار الدول الغربية، مع فارق مهم أن ثمة تقديمات اجتماعية في الدول الغربية، سيما في أوروبا وكندا (الولايات المتحدة بدرجة أقل) في حين إن ذلك مفتقد في روسيا.
تتصرف الولايات المتحدة كدولة إمبريالية، وروسيا بوتين كذلك، أيضا، هكذا تعاملت بقسوة مع الشيشان (1999)، ثم في جورجيا (2008)، ثم أوكرانيا (2012 والآن)، وفي سوريا (منذ 2015). فوق ذلك فإن روسيا تصرح علنا بدعمها للأنظمة الاستبدادية، وهي تعادي أي تغيير سياسي (وضمنه الربيع العربي) والثورات الملونة بدعوى أن لكل بلد ظروفه وخصوصيته بشأن نظامه، وبدعوى الحفاظ على وحدة وسيادة الدول، أي إنها تماهي بين النظام (وليس الشعب) والسيادة، في حين إنها لا تطبق ذلك على أوكرانيا.
روسيا بوتين تقول إنها أتت إلى سوريا بدعوة من الرئيس دفاعا عن سيادة سوريا ووحدة أراضيها، في حين أنها لا ترضى على غيرها استخدام ذات المبدأ في أوكرانيا، إذ هي عملت على تقويض سيادة جورجيا وأوكرانيا وتجزئة أراضيهما.
تدعي روسيا بوتين بأن حقها في التدخل في أوكرانيا، وفي الدول المحيطة بها، ناجم عن اعتبارها لذلك من متطلبات أمنها القومي، وهذا مبدأ خطير في العلاقات الدولية، لأن تطبيقه من الدول القوية على الدول الضعيفة سيؤدي إلى تقويض الاستقرار في أكثر من منطقة من العالم؛ هذا بغض النظر عن رأينا بقصة دخول أوكرانيا أو غيرها لحلف ناتو.
لنلاحظ أن كل الدول والشعوب التي تحررت من ربقة الإمبراطورية الروسية، ثم من الاتحاد السوفييتي، اختارت الغرب والنمط الليبرالي الديمقراطي، وذهبت للحماية نحو حلف ناتو، وهذا يفترض أن يجعلنا نتساءل لماذا لم تفضل روسيا على الغرب؟
يحكم بوتين روسيا كشخص فرد، في دولة ليست ديمقراطية، ولا يوجد فيها مؤسسات، أو مجتمع مدني بمعنى الكلمة، وهذه ميزة للولايات المتحدة، حيث الرئيس يخضع في قراراته للكونغرس ولمؤسسات صنع قرار ولمجتمع مدني ولوبيات متنوعة، علما أنها في الخارج تتصرف كدولة إمبريالية، وعلما أنها ليست الجمهورية الفاضلة، وكل ذلك مع ملاحظاتنا على سياساتها وانتهاكها لحقوقنا في بلادنا.
في الواقع فإن روسيا ليست دولة قوية، ولا عظمى، في شيء، مع الأسف، سوى بواقع أنها قوة نووية، بل إن ذلك يعتبر مصدرا للخطر عليها وعلى غيرها، وليس مصدر قوة لها. فروسيا رغم تاريخها العريق، وثقافتها الغنية، ورغم إنها أكبر وأغنى بلد في العالم، بمساحتها وبثرواتها المعدنية، إلا أنها ضعيفة، بسبب من طبيعة نظامها، فهي لا تصدر شيئا سوى الغاز والسلاح، وناتجها القومي السنوي أقل من إيطاليا وكوريا الجنوبية. بالمقابل الصين دولة صاعدة، ولديه صادرات من كل الأنواع، أما الولايات المتحدة فحصتها لوحدها (أي دون الدول الغربية) من إجمالي الناتج القومي العالمي تبلغ 22 ترليون دولار، في حين في روسيا 1.7 ترليون دولار، أي أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة البالغ حوالي 700 مليار دولار سنويا يبلغ حوالي 40 بالمئة من الناتج القومي لروسيا، و40 بالمئة من الإنفاق العسكري العالمي (الإنفاق العسكري لروسيا 66 مليار دولار سنويا).
يفترض تذكر أن الاتحاد السوفييتي (ومعه المنظومة الاشتراكية) قد انهار من الداخل من تلقاء نفسه، وليس من الخارج، أي بنتيجة عوامل الضعف الداخلية، رغم جبروته العسكري، وقد انهار لكونه نظاما شموليا، نخره الفساد والبيروقراطية والتبلد، وافتقاد المواطنين للحرية، وبسبب التخلف التكنولوجي، وقوة النموذج في البلدان الغربية.
وبينما تحاول روسيا بوتين التجبر بواسطة حيازتها على السلاح النووي، لفرض إرادتها ولفرض مكانة دولية لها، كدولة عظمى تشكل ندا للولايات المتحدة، فإن هذه الأخيرة نادرا ما تستخدم القوة العسكرية، إذ هي تفرض ذاتها كقطب يتحكم بالعالم بواسطة القوة الناعمة، بفضل قوة اقتصادها، وإدارتها، وبفضل تفوقها في المجالين العلمي والتكنولوجي. والنقطة الثانية، أيضا، بينما تدعي الولايات المتحدة (عن حق او باطل) أن قيمها تستند إلى قيم الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن روسيا لا تدعي أية رسالة، سوى سلطنة القوة.
ربما الأجدر لروسيا لحيازة دور دولي أو إقليمي، أو مكانة دولة عظمى، الالتفات للداخل، واكتساب مقومات القوة والمناعة الداخلية، بدل الانشغال بالخارج، لأن الداخل، أي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، هي التي تمنح الدول ديمومة مقومات القوة، أو مقومات استثمار القوة، أو فائض القوة لديها، وتلك هي حال اليابان وألمانيا مثلا، في حين العكس من ذلك قد يمنح إحساسا مزيفا بالتفوق ولكن لا يمكن استثماره، وهذه حال الاتحاد السوفييتي سابقا، وحال روسيا بوتين، كما هي حال النظام الإيراني اليوم، والسوري سابقا.
أخيرا، لنأمل أن تنتهي هذه الأزمة على خير، بالتوصل إلى اتفاقات بوسائل الحوار والدبلوماسية، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الاستقرار العالمي، ومصالح الشعوب التي تدفع أثمان سياسات غاشمة لا شأن ولا مصلحة لها فيها.
درج
———————————–
——————————
جذر الصراع على أوكرانيا/ علي العبدالله
لم يكن الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا الحشد الأول؛ فقد سبق لروسيا حشد قواتها على الحدود الأوكرانية خلال العام الماضي، في عملية ضغط لتحقيق مطلب روسي بعدم قبول انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإبعاد قوات الأخير عن الحدود الروسية الغربية. وقد وقفت خلف التحرك الروسي اعتبارات جيوسياسية، حماية الأمن القومي الروسي، وجيواستراتيجية، كسر الهيمنة الغربية عبر تغيير النظام الدولي.
موقع أوكرانيا وأهميتها لروسيا
ظهرت أوكرانيا دولة مستقلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 وقد كانت، بسبب موقعها وعدد سكانها (46 مليون نسمة)، تحتل موقعاً هاماً في حلف وارسو، بما في ذلك المشاركة في تقسيم عمل في مجال الصواريخ النووية، ونشر شبكة صواريخ بالستية تحمل رؤوساً نووية على أراضيها، ناهيك عن علاقات تاريخية عميقة مع روسيا: ولادة الأمة الروسية والكنيسة الأرثوذوكسية التي غدت الكنيسة القومية الروسية بعد اعتناق الأخيرة المسيحية، في أوكرانيا، فقرب ميناء سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم، تقول الأسطورة الروسية، تم تعميد الأمير فلاديمير في عام 988، في أولى خطوات دخول المسيحية لهذه البلاد. وقد مثّل استيلاء الروس على جزيرة القرم عام 1773 تطوراً كبيراً في مصائر روسيا، التي أصبح لها للمرة الأولى ميناء في المياه الدافئة وأسطول قرب المتوسط.
تغيرت معادلة القوة بين روسيا وأوكرانيا بفعل التحول والتغير الذي طرأ على روسيا وتوسعها على حساب شعوب الجوار، ولكن العلاقة بينهما ظلت متينة، فقد غدا لروسيا نفوذ كبير فيها، سواء على مستوى الأشخاص النافذين أو على مستوى المؤسسات. ولكن قاعدتها الأكثر وثوقاً وقوة تمثلت في الأقلية الروسية التي تصل نسبتها إلى 17.3% من السكان، وتتمركز في شبه جزيرة القرم والأقاليم الشرقية المحاذية لروسيا، ففي هذه الأخيرة، على وجه الخصوص، لا تتحدّث أغلبية السكان اللغة الروسية وحسب، بل تمتد صلات السكان التجارية، الصناعية، العائلية بروسيا عبر الحدود، إلى عقود طويلة، وربما إلى قرون.
كانت روسيا وما زالت حريصة على تعزيز هذا النفوذ، وبناء علاقة سياسية مستقرّة ودائمة مع أوكرانيا، سواء على مستوى العلاقات الثنائية، أو ضمن إطار الاتحاد الأوراسي الذي تصور الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن أوكرانيا ستكون حجر زاويته. بدون أوكرانيا، في الحقيقة، يفقد الاتحاد الأوراسي معناه كلية، بسبب الأهمية الجيوستراتيجية الكبرى لأوكرانيا، باعتبارها الممر السهلي لروسيا باتجاه أوروبا الغربية، وقد قال زبيغينيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي في إدارة الرئيس جيمي كارتر 1977- 1981، “من دون أوكرانيا لن تكون روسيا دولة عظمى”، فأوكرانيا، بالنسبة للرئيس الروسي، تقع في نطاق دبلوماسية “الجوار القريب” التي اعتمدتها روسيا منذ عهد القياصرة. وقد اتخذت، الدبلوماسية، بعد الحرب العالمية الثانية، شكلين ظاهرين؛ إما بسط هيمنة موسكو بـ”الواسطة” على دول “الجوار القريب”، كما كان الحال مع أوكرانيا؛ وكما هو حالياً مع طاجيكستان وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في منطقة القوقاز، أو تحييدها قسراً ومنع انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما هو الحال مع فنلندا وبيلاروسيا.
لا يمكن حصر العلاقات الروسية – الأوكرانية، كما ذهب بعضهم، بالعامل الاقتصادي، والمكاسب والخسائر المتوقعة تبعاً لطبيعة التقارب أو التباعد بين البلدين، لأن الترابط العضوي الذي ترسّخ على مدى قرون يضع أوكرانيا في رأس قائمة أولويات روسيا، فقد ظلت العلاقات بين البلدين أشبه بعلاقات بلد واحد تفصل أطرافَه حدود وحواجز وقوانين محلية، فقرابة نصف سكان الأقاليم الشرقية يتكلمون اللغة الروسية، ويتطلعون إلى تعزيز التقارب مع موسكو، وهذا لعب دوراً رئيساً في تحويل أوكرانيا إلى ساحة نفوذ أساسية للروس، ونافذة حيوية على أوروبا لا يمكن فصلها من دون إلحاق أضرار كارثية بروسيا نفسها، لأن التحاق أوكرانيا بالاتحاد الأوروبي سيعني التزامها بمواثيق مشتركة، منها اتخاذ سياسات دولية وإقليمية تعارض مصالح موسكو، كما يرجّح كثيرون أن الخطوة التالية ستكون الانضمام إلى حلف الناتو، ما يعني إحكام تطويق روسيا عسكرياً، ونشر الصواريخ الغربية تحت نوافذ الكرملين مباشرة.
الاقتصاد والصناعة
وعلى الصعيد الاقتصادي – الصناعي، ثمّة خسائر لا تعوّض أيضاً، إذ تميز النموذج السوفياتي بإقامة مجمّعات صناعية ضخمة موزّعة في فضائه، وبعد انهيار الدولة السوفياتية تلاشت غالبية هذه المجمعات العملاقة، إذ لم يعد ممكناً استمرار مجمع صاروخي في العمل مثلاً عندما تنتج أجزاء منه في ضواحي موسكو وأجزاء أخرى في كازاخستان أو في أوكرانيا أو بيلاروسيا. أما المجمّعات الأخرى التي ورثتها أوكرانيا، وما زالت تشكل قاعدة صناعية كبرى، فظلت مرتبطةً بصناعات مختلفة في بلدان أخرى، في مقدمتها روسيا. مثلاً تقدم مصانع أوكرانية تقنيات لازمة لصناعة المحطّات الكهروذرية الروسية، ولمجمعات الصواريخ وغيرها من الصناعات الحيوية لاقتصاد البلدين. ما يعني أن تداعيات انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي ستكون كبيرة وخطيرة. في الوقت ذاته، السوق الأوكرانية من أضخم الأسواق بالنسبة إلى الصناعات الروسية التي لن تكون في الغالب قادرةً على منافسة الصناعات الأوروبية، إذا سارت الأمور وفق السيناريو السيئ للروس، ما يعني خسائر كبيرة لقطاعات مهمة وحيوية، سيكون عليها البحث عن أسواق جديدة لتعويض خسائرها الفادحة.
وما زاد في تعقيد الحالة حجم التداخل الاقتصادي الروسي الأوكراني الأوروبي، فالتجارة الأوكرانية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بروسيا وأوروبا على حد سواء، فنحو 60% من حجم التجارة الأوكرانية يجري مع بلدان الاتحاد السوفياتي السابق، كما أن أغلب منتجاتها الصناعية تأتي من المناطق الشرقية للبلاد ذات الكثافة الصناعية الكبيرة، هذا بالإضافة إلى الروابط الشخصية التي تجمع مواطنين أوكرانيين كثيرين في الأقاليم الشرقية بروسيا المجاورة، فيما تظل أوروبا بالنسبة لهؤلاء بعيدة جداً. أوروبا ما زالت تعتمد اعتماداً كبيراً على الغاز والنفط الروسيين، فالاتحاد الأوروبي من الشركاء الاقتصاديين والتجاريين الكبار لروسيا، حيث تبلغ حصته في التجارة الخارجية الروسية نحو 50%. وتمثل موارد الطاقة أساس هذه العلاقات عموماً، فنحو 36% من الغاز، و31% من النفط، و30% من الفحم من واردات دول الاتحاد الأوروبي مصدرها روسيا. وهذا يمثل 80% من إجمالي صادراتها من النفط، و70% من إجمالي صادراتها من الغاز، و50% من إجمالي صادراتها من الفحم، بينما تؤلف حصة الآلات والمعدات الروسية (السلع الاستثمارية) أقل من 1%. فروسيا تحتل المركز الثالث بعد الولايات المتحدة والصين في التجارة الخارجية مع الاتحاد الأوروبي بحصة تعادل 7% من صادراته و11% من وارداته. وبهذا الشكل، يوفر التعاون مع الاتحاد الأوروبي إيرادات مهمة للغاية لخزينة الدولة الروسية.
في الوقت نفسه، تصل من بلدان الاتحاد الأوروبي إلى روسيا منتجات البتروكيماويات 18% والمواد الغذائية 10% والسلع الاستثمارية والتكنولوجية من معدّات وآلات نحو 45%. وفي ما يتعلق بالتعاون الاستثماري، فإن 70% من الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الروسي تعود إلى دول الاتحاد الأوروبي. وهذا يعكس الترابط العضوي بين الاقتصاد الروسي واقتصاد هذه الدول. وقد ظهر عمق التأثير المتبادل بين الاقتصادين، الروسي والأوروبي، في ضوء الإجراءات العقابية الأولى التي اتخذها الاتحاد الأوروبي ضد شخصيات روسية وأوكرانية موالية لروسيا، حيث اهتز الاقتصاد الروسي بقوة، فقد تراجعت السوق المالية الروسية “مايسكس”، وفقدت 66 مليار دولار من أصولها بعد اندلاع الأزمة عام 2014، كما فقد الروبل 11% من قيمته، ما اضطرّ البنك المركزي الروسي للتدخّل وضخّ 16 مليار دولار لاستقرار العملة. كما انسحبت استثمارات تُقدّر بـ 50 مليار دولار من الأسواق الروسية، علاوة على ذلك، يزيد التبادل التجاري بين روسيا وأميركا يزيد عن 40 مليار دولار.
خلفية الصراع الغربي الروسي
مع نهاية الحرب الباردة (قمة مالطا بين الرئيسين بوش الأب وغورباتشوف 1989) وانهيار الاتحاد السوفياتي (1991) شهد العالم توجّهاً سياسياً دعا إلى تصفية بؤر التوتر والحروب وإقرار السلم العالمي، فقد سادت، لفترة وجيزة، أدبيات البيروسترويكا التي بشّر بها آخر رئيس سوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، والتي تدعو إلى إقامة نظام دولي يعتمد “توازن المصالح” قاعدةً له، وتعطي الأولوية للتعاون الدولي، ما يعني تراجع العامل العسكري وإعطاء الصدارة في العلاقات الدولية للعاملين، السياسي والاقتصادي. قاد هذا المناخ إلى بروز دعوات أوروبية إلى حل حلف الناتو بعد أن غدا، بفعل نهاية الحرب الباردة وحل حلف وارسو وانهيار الاتحاد السوفياتي، بلا معنى أو هدف، وإلى قبول دعوة غورباتشوف إلى إقامة أوروبا واحدة من الأورال إلى الأطلسي، وإلى حل النزاعات الإقليمية بالطرق السلمية، وتقديم يد المساعدة للدول الفقيرة لإخراجها من حالة الانهيار الاقتصادي والصراعات العرقية والسياسية.
رفضت الولايات المتحدة هذا التوجه وقاومته بقوة، فالمحافظة على “توازن القوى” قاعدةً للعلاقات الدولية، وعلى حلف الناتو وتوسيعه وتعديل استراتيجيته وساحة عمله، مصلحة أميركية. لذا تبنّت سياسات مراوغة، ودفعت باتجاه تأزيم النزاعات، ودفع أطرافها إلى اعتماد الخيار العسكري، ولعل ما حدث في يوغسلافيا آنذاك خير مثال على هذا السلوك، حيث كشفت الهيرالد تريبيون (15- 16/5/1992) ما قاله جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركية، عام 1990 للرئيس اليوغسلافي ميلوسيفيتش: “إن واشنطن مع يوغسلافيا موحدة أرضاً وشعباً”، وهذا شجع الأخير على الاندفاع في حرب مجنونة دمرت بلاده وشعبه وقادته إلى محكمة جرائم الحرب (يذكّرنا هذا بلقاء السفيرة الأميركية، أبريل غلاسبي، مع الرئيس العراقي، صدّام حسين، قبل اجتياح الكويت، وإعلان ريتشارد أرميتاج، مساعد وزير الخارجية الأميركية، في دمشق عام 2004 أن قضية التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود قضية تحل بالتفاهم بين سورية ولبنان).
وقد عملت الولايات المتحدة في القمة الخمسينية للحلف في واشنطن عام 1999 على إلزام الحلفاء بتنفيذ مقرّراته، والتي تبنّت تحويل الحلف إلى مرجعية لقرار الحرب والسلم في العالم. انطلقت الولايات المتحدة من تصوّر مبني على ضرورة الوجود العسكري المباشر في عدد من الأقاليم حول العالم، سيما الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومحيط البحر الأسود، بهدف السيطرة على التفاعلات الإقليمية السياسية والاقتصادية، والتحكم بالخريطة الجيوستراتيجية في هذه الأقاليم، ما جعل هدف توسيع حلف الناتو يحتل موقعاً مركزياً في هذه الخطة.
جندي أوكراني على خط المواجهة مع الانفصاليين المدعومين من روسيا قرب نوفوغناتيفكا في دونيتسك (19/2/2022/ فرانس برس)
لم يستمر حلف الناتو ويوسّع ساحة عمله فقط، بل واندفع بتوسيع عضويته بضم دول أوروبا الشرقية، حيث ضم 11 بلداً من بلدان أوروبا الشرقية، بما فيها بولندا وبلدان البلطيق الثلاثة: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا، وطرح انضمام أوكرانيا إليه، بالإضافة إلى دول أخرى محاذية لروسيا مثل أرمينيا، والاقتراب من الحدود الروسية أكثر فأكثر، مستغلاً ضعف روسيا وارتباكها ودخولها في حالة انعدام وزن خلال فترة حكم الرئيس الروسي، بوريس يلتسين. وقد جاء نشر أجزاء من الدرع الصاروخي في تشيكيا ورومانيا وتركيا، وأجزاء أخرى متحرّكة على ظهر ناقلات في دول البلطيق ليثير مخاوف روسيا، لأنه يمنح الولايات المتحدة فرصة توجيه الضربة الأولى، ويشل قدرة روسيا على الرد، ففي ذهن الروس مقولة وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، روسيا ما زالت كبيرة لذا فهي خطيرة.
تحفّظت روسيا على عمليات التوسع لجهة تعارضها مع التفاهم الذي جرى بين الغرب والاتحاد السوفياتي خلال مفاوضات توحيد ألمانيا، لكن موسكو، مع التصريحات الرسمية الروسية الحادّة التي ترفض توسع الحلف، رضخت ووقّعت مع الحلف عام 1997، في عهد الرئيس يلتسين، “ميثاق باريس” الذي فتح الباب أمام انضمام بولندا وتشيكيا والمجر إلى صفوف الحلف دفعة أولى. وفي عهد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تم التوقيع على “إعلان روما” عام 2002، الذي جرى بموجبه تأسيس مجلس “روسيا ـ الناتو”، ومواصلة الحلف ضم مزيد من دول شرق أوروبا. كان مهندس الحرب الباردة جورج كينان وصاحب نظرية الاحتواء قد أعلن عام 1999 أنه يعارض فكرة توسّع حلف الناتو نحو الشرق، وأخبر زميله توماس فريدمان حينئذ “أن التوسع باتجاه الشرق سيكون “خطأً مأساوياً”، لأن العدو في ذلك الوقت لم يكن روسيا، بل الحزب الشيوعي السوفياتي. ولم يكن من الضروري توسيع حلف الناتو، لأن ذلك سوف يجبر روسيا على العودة إلى لعب دورها باعتبارها الطرف المعادي للغرب، وقد تسعى إلى إشعال أوار حرب باردة جديدة. وبالإضافة إلى هذا كله، ليست لدينا نيّة للذهاب إلى الحرب بسبب تلك البلدان النائية”.
لقد استسلم القادة الروس لعمليات التوسّع، حتى أن بوتين عندما وصل إلى السلطة تحدّث عن احتمال انضمام روسيا ذاتها إلى الحلف. .. تبنّت روسيا خلال رئاسة بوتين الثالثة، مدفوعة بنزوع قومي روسي لإعادة الاعتبار لروسيا، والثأر من مرحلة الضعف والاحتقار الغربي، رؤية قائمة على قوة الدولة وضمان ولاء الكنيسة الأرثوذكسية، والتمسّك بالقيم الثقافية العريقة، تبنّت استراتيجية هجومية بهدف فرض هيبتها ودوريها، الإقليمي والدولي، وعملت على تعزيز الوجود العسكري الروسي في الساحة السوفياتية السابقة من خلال قواعد عسكرية في طاجيكستان وقرغيزيا بيلاروسيا وأوكرانيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وأرمينيا، ومن خلال تقوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم حالياً روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزيا وطاجيكستان وأرمينيا، ودعت إلى تشكيل اتحاد جمركي يضم دول الاتحاد السوفياتي السابق تحت اسم الاتحاد الأوراسي، إطارا موازيا ومنافسا للاتحاد الأوروبي، يمثل برأيها عالماً بديلاً قائما على رفض القيم الغربية، ومبنيا على تصوّر لا يسمح لأية دولة فيه أن تصوغ سياساتها وتحدّد أطر مستقبلها منفردة، ويقع تحت السيطرة الروسية الكاملة. وأطلقت، مستفيدة من تحسّن سعر النفط والغاز الذي مكّنها من تجاوز حالة العجز التجاري والمالي، وحولها إلى وضع إيجابي مع احتياطي نقدي كبير سمح برفع الموازنة العسكرية، برامج اقتصادية وعسكرية لإعادة التوازن لوضعها الداخلي وزيادة قدرتها على التحرك الإقليمي والدولي. وهذا أجّج الخلافات مع الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة، وقد جاءت تحولات الربيع العربي والتصرّف الغربي في ليبيا، وانفجار الثورة السورية، على الضد من هوى الكرملين لتزيد في سخونة المواجهة، في ضوء خشية موسكو فقدان آخر معاقلها في المتوسط، فتبنّى الكرملين موقفاً منحازاً للنظام السوري، في محاولة لتحقيق هدفين: حماية مصالحه ووجوده في المتوسط (قاعدة طرطوس)، والانتقام من حرمان روسيا من الكعكة الليبية.
تزامن هذا التحرّك مع إدارة أميركية تبنّت لاعتبارات داخلية (الرفض الشعبي للحروب الخارجية بسبب الضحايا والتكلفة المالية العالية، حيث قدّر إجمالي خسائر الحرب في أفغانستان والعراق بثمانية تريليونات، خلل مالي، مشكلات اقتصادية: بطالة تضخّم، تآكل البنى التحتية) خيارات الحدّ من التدخل الخارجي، والتعاون والعمل المشترك لمواجهة المشكلات، والعمل على تحقيق المصالح بطرق أقل تكلفة بشرياً ومادياً، ما منح التحرّك الروسي فرصة تسجيل نقاط تفوق ظاهرية، عزّزت اندفاعة بوتين، ورفعت من أسهمه الداخلية والدولية، ودفعته إلى الرفع من نبرة التحدّي والتوسّع في عرض العضلات واستخدام القوة ضد خصومه، الداخليين والخارجيين، وقد أغراه غياب الرد المباشر بالعمل على تحقيق نصرٍ على الغرب في سورية، عبر دعم النظام السوري بأسباب البقاء وتغطيته إعلامياً ودبلوماسيا وحمايته سياسياً.
ردّت واشنطن على التشدّد الروسي في سورية وإفشاله “جنيف2″، عبر عدم قيامه بالدور المطلوب والضغط على النظام لدفعه إلى الانخراط في مفاوضات جادّة، بتشجيع المعارضة الأوكرانية، وإشعال حريق في الحديقة الخلفية لروسيا.
تحرّكت موسكو ضد التظاهرات الأوكرانية والبرلمانية، وهروب حليفها الرئيس الأوكراني، فيكتور يانوكوفيتش، بالتدخل غير المعلن في جزيرة القرم، وتشجيع الروس هناك للمطالبة بإجراء استفتاء لتقرير المصير، وتنفيذ الخطوة وضم الجزيرة إلى روسيا تحت ذريعة نتائج الاستفتاء. جاء رد الفعل الروسي في جزيرة القرم، مع توجه إلى اللعب بورقة حماية الروس والناطقين بالروسية في أوكرانيا، للضغط على كييف للعودة إلى الاتفاق الذي تم بين يانوكوفيتش والمعارضة برعاية دول غربية وإلغاء كل الخطوات التي أخذها قادة الانقلاب عليه، وعلى الغرب، للتخلّي عن مساعيه لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فموسكو لم تكن بعيدة عن الصواب، عندما قدّرت، منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، أن مشكلتها الكبرى هي في الخارج القريب، ومحاولتها تأمينه إلا أنها ووجهت بتقدّم استراتيجي غربي حثيث، حُمل، في أغلب الحالات، على موجة تحوّل ديمقراطي وأحلام الانضواء في الوحدة الأوروبية، فلم تجد سوى تصعيد الروح القومية الروسية مرتكزاً لمقاومة هذا التقدّم الغربي.
أوكرانيون يرفعون الأعلام خلال مسيرة الوحدة على الحدود الأوكرانية الروسية في لفيف (19/2/2022/Getty)
اعتبر الغرب ما تم في جزيرة القرم خرقا للقانون الدولي، ورأى فيه فرصة لضم أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، ورسم الحدود الشرقية للاتحاد، وإبعاد روسيا عن دول البلطيق وبلغاريا ورومانيا. لم يثر ضم جزيرة القرم إلى روسيا حفيظة الدول الغربية فقط، بل ودول على علاقة جيدة بروسيا: الصين، بيلاروسيا، كازاخستان، ودول أخرى من دول الاتحاد السوفياتي، كلّ لاعتباراته الخاصة، فقد تبنّت الصين موقفاً “محايداً”، فهي لا ترغب في خوض معارك الآخرين لاعتباراتٍ كثيرة، منها الأوضاع في التبت وتايوان. وفي الوقت نفسه، لا ترغب الصين في خسارة روسيا نتيجة احتياجها المتزايد لموارد الطاقة من أجل مواصلة نموّها الاقتصادي، وقد تخوّفت بيلاروسيا وكازاخستان من قيام روسيا بذلك معها مستقبلا.
اتفقت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على الرد الذي ستأخذانه ضد التحرّك الروسي في أوكرانيا: دعم أوكرانيا اقتصاديا ومعاقبة روسيا، وهذا ما عكسته المباحثات الأوروبية الاوكرانية، والاتفاق على تقديم قروض مالية عاجلة وتفعيل المباحثات حول الشراكة التجارية بين الطرفين، والتصريحات الغربية والإنذار الذي وُجه إلى موسكو بمعاقبتها اقتصادياً وعزلها دبلوماسياً. وقد رجّح خبراء اقتصاديون روس أن تكون أوروبا أنجزت مع الولايات المتحدة وضع تصوّر للوضع في أوكرانيا خلال المرحلة المقبلة، وبدأ العمل على تطبيقه عملياً على الأرض بصدور رزمة العقوبات التي اتخذت ضد شخصيات روسية وأوكرانية موالية، وضد بعض المصارف والشركات الروسية.
غير أن مراهنة روسيا بضم جزيرة القرم كانت أن يشكل خطوة في لعبة دومينو وتحرك سكان الأقاليم الشرقية للمطالبة بالانضمام إلى روسيا، اعتماداً على أن نحو 3.17% من سكانها هم من الروس، وأن 43 ـ 46% من السكان يتحدّثون الروسية، يتركزون في شرقها، بجوار الحدود الروسية، حيث يسهل دعمهم الذي تتركز فيه الموارد والثروات والطاقات الإنتاجية ويساهم بأكثر من 70% في الناتج القومي الأوكراني، وحرمان أوكرانيا من هذه الموارد. رأى خبراء روس أن انضمام جزيرة القرم قد يفتح شهية أقاليم ومناطق أخرى في الساحة السوفياتية السابقة لطلب الانضمام إلى الاتحاد الروسي. وأبرزت وسائل إعلام روسية أن إقليم بريدنيستروفييه بجمهورية مولدافيا السوفياتية السابقة، حيث يشكل الروس نحو 30% من سكانه، يطالب هو الآخر بالانضمام إلى روسيا. مع عدم استبعاد احتمال تزايد مثل هذه الطلبات في الفترة المقبلة، خصوصا إذا علمنا أن عدد الروس الذين وجدوا أنفسهم خارج روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 ليس قليلا، فعلى سبيل المثال، يعيش في كازاخستان بين 23 و30% من الروس، وفي لاتفيا نحو 29%، وفي إستونيا نحو 25.5%، يدور الحديث هنا عن السكان من أصول روسية فقط، وإذا أضفنا إليهم عدد السكان الناطقين بالروسية تصبح الصورة أكثر تعقيداً.
لم يقف الوضع عند هذا الحد، حيث صعّدت روسيا الموقف في أوكرانيا عبر تشجيع ودعم الروس والناطقين بالروسية في منطقة دونباس على إعلان التمرّد على السلطة المركزية، والمطالبة بحكم ذاتي يسمح لروسيا عبره بالتأثير على قرارات كييف. وقد ترتب على هذه الخطوة إعلان قيام جمهوريتين شعبيتين مستقلتين، لوغانسك ودونيتسك، يوم 12/5/2014 بعد استفتاء شعبي.
ناقش قادة “الناتو” هذه التغيرات بروحية هجومية، ووُضعت تصوّرات لمواجهتها عبر تشكيل قوة تدخل سريع، وصفها أمين عام حلف الناتو السابق، أندرس فوغ راسموسن، برأس الحربة، تكون جاهزة للتحرّك، وفق مقتضى المادة الخامسة من معاهدة الدفاع المشترك للحلف، لنجدة أية دولة من دول الحلف تتعرّض لاعتداء خارجي خلال أيام، وإقامة قواعد شبه ثابتة في دول شرق أوروبا (خمس قواعد عسكرية في لاتفيا وليتوانيا وإستونيا ورومانيا وبولندا) ونشر نحو 4000 عسكري فيها، إضافة إلى إنشاء صندوق لدعم أوكرانيا عسكرياً ورفع كفاءة جيشها، ومواصلة الضغط الاقتصادي على روسيا وفرض عقوبات اقتصادية جديدة.
أدرك الكرملين مدى خطورة خطة الحلف تكبير قوة التدخل السريع على الأمن القومي الروسي، ومحاولات محاصرة روسيا وتطويقها بقواعد عسكرية للحلف لتغيير الوضع الجيوسياسي لها وحولها، ومواصلة واشنطن العمل على نشر الدرع الصاروخية في دول شرق أوروبا، ما دفعه إلى الإعلان عن تعديل في العقيدة العسكرية، أساسه إعادة تأكيد رفض توسع الحلف في اتجاه الحدود الروسية وزيادة وجوده العسكري في أوروبا الشرقية، ورفض نشر الدرع الصاروخية، وحق روسيا في استخدام درعها النووية، والتلويح بالانسحاب من معاهدة عام 1987 حول الصواريخ النووية المتوسطة، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الحلف، واعتماد سياسة إحلال الواردات في المجالين، العسكري والمدني، ما يعني زيادة النفقات العسكرية بأكثر مما هو مخطّط له، لموازنة النفقات العسكرية لحلف الناتو والولايات المتحدة.
ظلت المعطيات والمواقف المعلنة، على الرغم من تحرّك الغرب المدروس بين الدبلوماسية والعسكرية، تنذر بتوتراتٍ ومواجهاتٍ عنيفة قد تستمر سنوات تتوقف نتيجتها على مدى انخراط الجناح الأوروبي في الصراع، وعلى مدى تمسّك الكرملين بما يسميه روسيا الجديدة، والتي تضم أراضي من دول الاتحاد السوفياتي السابق يقطنها روس أو ناطقون بالروسية.
العربي الجديد
————————
معادلة الصراع في أوكرانيا .. الحرب والسلام/ إبراهيم فريحات
معادلة الصراع التي تحكم أزمة أوكرانيا هي: روسيا وأميركا لا تريدان الحرب، لكنّهما لا تخشيانها. روسيا لأنّها تريد تحقيق مطالبها الأمنية، بوقف تمدد حلف الناتو، وضم دول مثل أوكرانيا وجورجيا المجاورتين إليه، وعدم نشر صواريخ استراتيجية على حدودها. إذا كان بإمكانها تحقيق ذلك بدون حرب، فلماذا المغامرة إذاً. والأهم أن موافقة الغرب على هذه المطالب ستشكل بداية اعترافه بنظام متعدّد الأقطاب الذي أعلنه صراحة وزير خارجية روسيا، لافروف، قبل أسابيع، لمّا قال إنّ النظام أحادي القطبية قد انتهى، وقد بدأ عصر تعدّد الأقطاب، فقبول الغرب أن يفرض عليه الرئيس الروسي، بوتين، من يدخل إلى “الناتو” ومن لا يدخل اعتراف صريح بشراكة معه، حتى في أمور سيادية للدول التي يحقّ لها دخول أي تحالفات دولية، أمنية كانت أم غيرها.
لكنّ موسكو لا تخشى الحرب، لأنّ لها اليد الطولى في أوكرانيا، كون هذا البلد يمثل أمناً قومياً لها، وهي مستعدّة للذهاب في أيّ مواجهة إلى خط النهاية، حتى لو وصلت إلى حرب نووية. وقد قامت موسكو بمناورات استراتيجية نووية في اليومين الماضيين، لتوصل رسالة واضحة إلى الغرب أنها على استعداد لهذا إذا تطلب الأمر. صحيحٌ أنّ الغرب أقوى عسكرياً من روسيا، لكنّ كسب الحرب لا يُقاس بمن يمتلك القوة العسكرية الأقوى، لكن بمن لديه الاستعداد لاستخدامها، والاستثمار في حربٍ معينةٍ ومدى أهمية ذلك لأمنه القومي. بالنسبة لروسيا، أمن أوكرانيا من أمن موسكو، لكنّ الولايات المتحدة ليس لديها الاستعداد لخسارة حتى جندي واحد في أوكرانيا، لأنّ هذا البلد ليس ضمن معادلتها للأمن القومي الأميركي.
الولايات المتحدة هي الأخرى لا تريد الحرب، لأنّ أولويتها بترتيب أوضاع النظام الدولي هي الصين، ولا تريد أن تنشغل بروسيا عوضاً عن ذلك. يولي الرئيس الأميركي، بايدن، اهتماماً كبيراً بإعادة بناء النظام الدولي الذي تخلّى عنه سلفه ترامب، الذي كان يُؤثر مصالح وطنية أميركية على حساب الشراكات الدولية. همّ بايدن الأكبر هو الصعود الاقتصادي للصين، وليس روسيا صاحبة الاقتصاد الهزيل ضعيف الإنتاج، المعتمد بشكل أساسي على بيع الغاز والسلاح. تريد أميركا أن تستمر بإعادة بناء النظام الدولي من دون هذه المناوشات من بوتين. من جهة أخرى، لا تريد الإدارة الأميركية الحرب في أوكرانيا، لأنّها لا تستطيع تقديم الكثير لها، لمنع بطش الدب الروسي. أقصى ما تستطيع تقديمه فرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وكذلك تقديم أسلحة ودعم لأوكرانيا. ما لا يدركه الغرب (أو يدركه ولا يستطيع عمل غيره) أنّ آخر همّ بوتين العقوبات الاقتصادية، فهذه لم تمنع يوماً ما مخطّطات استراتيجية ذات علاقة بالأمن القومي، خصوصاً للأنظمة الديكتاتورية، فمهما فرضت أميركا من عقوبات على روسيا، لن تصل إلى مستوى العقوبات التي فرضتها على إيران، فهل أوقفت الأخيرة برنامجها النووي بسبب العقوبات الاقتصادية؟! بالإضافة إلى ذلك، لا تريد الولايات المتحدة الحرب خوفاً من أن تنكشف على الساحة الدولية، عندما تقف عاجزة أمام مشهد الدبابات الروسية تجوب كييف، وأثر ذلك على مصداقيتها مع حلفائها.
لكنّ أميركا أيضاً لا تخشى الحرب، لأنّ ذلك ربما يعني تورّط روسيا في حربٍ قد تستنزفها، وقد تعيدها إلى سيناريو الغزو السوفييتي لأفغانستان والاستنزاف الروسي هناك. لقد زوّدت واشنطن أوكرانيا بالصواريخ المضادّة للطائرات (ستينغر)، وهي الأسلحة الفتاكة التي قلبت معادلة الحرب في أفغانستان في الثمانينيات، وكانت هذه الصواريخ المسؤولة عن إسقاط ما يقارب 270 طائرة سوفييتية. مثل حربٍ كهذه تخوضها أوكرانيا بالنيابة عن أميركا، ولا تتطلب أيّ قوات عسكرية أميركية هي بالتأكيد لا تخيف واشنطن التي أعلنت سلفاً أنّها لن ترسل قوات عسكرية إلى أوكرانيا.
لا تمنع معادلةُ كهذه نشوب حربٍ في أوكرانيا، على الرغم من أنّها لا تشجعها. أي أنّ الصراع إذا تُرك يتطوّر بفعل دينامياته الداخلية التي تدفع عادة باتجاه التصعيد، بفعل عوامل، مثل غياب الثقة والأمن، وغير ذلك، فإن النتيجة ستُفضي، بالضرورة، إلى حرب قادمة في أوكرانيا. الشق الثاني من المعادلة يفضي إلى أنّ كلا الطرفين لا يخشيانها، وبالتالي، لن يعملا على تجنّبها، وهذا بخلاف المعادلة التي حكمت الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين التي بُنيت على الردع المتبادل.
ومع ذلك، الشقّ الأول من المعادلة هو ما يُبقي الباب مفتوحاً من أجل تجنّب حربٍ شرسة في أوكرانيا، وهي عدم رغبة الطرفين بخوض الحرب تطوّعاً. تمنح هذه النافذة الضيقة أهمية خاصة لطرفٍ ثالث للتدخل، وتقديم حلول خلاقة، تكون بمثابة طوق النجاة للطرفين. بشكل خاص، تزيد هذه المعادلة من أهمية “منصّة النورماندي”، وبشكل خاص دور ألمانيا وفرنسا فيها، لتقديم طوق النجاة، ولو في الوقت الضائع، لمنع نشوب حرب لا أحد يمكنه التكهن بنتائجها. تنشط باريس وبرلين في الأزمة منذ بدايتها، وسيصبح دورهما أكثر أهمية للوساطة إن نشبت الحرب بين الدولتين الجارتين. قد تربح روسيا الحرب، وهذا ممكن بالنسبة لأميركا أيضاً، لكنّ الخاسر الوحيد بالضرورة من الحرب إذا نشبت ستكون أوكرانيا، وسيكون للقطاعات الاقتصادية العالمية المرتبطة بالنفط والغاز والقمح والذرَة (أهم صادرات روسيا وأوكرانيا) نصيبٌ من آثارها السلبية.
العربي الجديد
————————–
عن الحرب التي إشتعلت بالفعل/ ساطع نور الدين
.. وفي الموعد المحدد بدقة ، ووفق الخطة المقررة بالتفصيل، بدأت الحرب التي طال ترقبها، وإشتعلت الجبهة بالقصف الصاروخي والمدفعي، وبدأ تساقط الضحايا، ولو بأعداد لا تثير الإنتباه، وسجلت خسائر مادية لا تستحق الذكر.. حتى الآن.
الحرب التي إندلعت بالفعل منذ خمسة أيام، لم تحظ حتى الآن بالكثير من الاهتمام، ربما لأنها ما زالت تخالف التكهنات الجنونية المتداولة منذ نحو شهرين أو أكثر، والتي تدور حول يوم الآخرة، وما تحفظه ذاكرة الحرب الباردة، عن صواريخ نووية عابرة للقارات، تصيب واشنطن ونيويورك، من جهة، وموسكو وسان بطرسبورغ من جهة أخرى، وتكون إيذاناً بزوال الدولتين العظميين وفناء شعبيهما.. ومعهما بعض الدول والشعوب القريبة.
هذا السيناريو المرعب، لم يحصل في الحرب الباردة القرن الماضي، ولن يحصل في القرن الحالي، لأن أميركا وروسيا ليستا دولتين إنتحاريتين، ولأن الاميركيين والروس ليسوا مستعدين للشهادة.. وهم لا يشعرون هذه الايام بالحد الادنى من الخوف الذي شعر به أسلافهم في القرن الماضي، عندما كان “اليوم التالي للمواجهة النووية”، مكوناً أساسياً في الخطاب السياسي والنتاج الثقافي والفني في البلدين. حتى الاوكرانيين لا يعيشون اليوم هواجس مثل هذه الحرب، مع أنهم هدفها وعنوانها الرئيسي.
ما زال الاميركيون والروس في حالة تعبئة، من الدرجة المتدنية جدا. هم يدركون جيداً أن الحرب التي بدأت بالفعل منذ أيام في اقليم دونباس في الشرق الاوكراني، يمكن ان تبقى هناك، بل ربما لن يسمح لها بأن تتخطى تلك المنطقة الحدودية الى عمق أوكرانيا. موسكو ليست في وارد الغزو، وهي لا تحتاجه، بل يمكن أن تكتفي بالعراضات والمناورات العسكرية الضخمة التي تجريها حالياً ، لكي تحقق أهدافها وتنال مكاسبها. وواشنطن ليست في وارد إرسال قواتها للدفاع عن العاصمة الاوكرانية كييف، التي أسقطها الرئيس جو بايدن في يد الروس من دون أن يرف له جفن !
لكن الحرب التي إشتعلت فعلاً، هي ككل حرب، تحتمل الكثير من المفاجآت: المعارك الدائرة في اقليم دونباس، هي المرحلة الاولى من الخطة المقررة من قبل الكرملين، والتي تتضمن اللجوء الى الكثير من التكتيكات والادوات، المؤدية الى فتح مفاوضات ثنائية مباشرة بين الجانبين الاميركي والروسي، تضمن تفادي التفكير في مواجهة مباشرة بين جيشي البلدين. ولدى البلدين الكثير من الحلفاء والشركاء والمرتزقة المستعدين لخوض تلك الحرب الهادفة في نهاية المطاف الى تعديل موازين القوى الاوروبية، والعالمية، وتحديد مواقع ومصالح الاميركيين والروس بشكل أكثر دقة وأبعد مدى من تلك التي رسمت في أعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي.
كما أن هذه الحرب التي تتصاعد أخبارها يومياً، هي ككل حرب، تحتمل الكثير من الاخطاء، في التنفيذ والتقدير والمهل الزمنية.. ما يمكن أن يؤدي الى توسيع رقعة القتال، بحيث يشمل المزيد من الاراضي الاوكرانية، ويمتد الى جميع بقع الانتشار العسكري الروسي، والتمركز العسكري الاميركي والاطلسي، سواء في أوروبا أو في بقية أنحاء العالم، حيث يمكن أن تتعرض القوات والقواعد العسكرية للجانبين الى ضربات متبادلة تنفذها قوى وشبكات جاهزة للقيام بدور البدلاء للجنود الروس والاميركيين.
أصداء هذه الضربات، ستكون مسموعة في كل مكان، لا سيما في المشرق العربي، حيث تكاد تنعدم المسافات بين القوات الاميركية والروسية، وتكاد تزول المنافسات بينهما، منذ أن تلقى الروس أكثر من هدية من الاميركيين.. أهمها سوريا، التي تبدو هذه الايام بمثابة جبهة خلفية هادئة، لتلك الحرب التي تدور معاركها الآن على الاراضي الاوكرانية.
هي حرب باردة ثانية، تلك التي بدأت للتو، ويمكن أن تستمر لنصف قرن أيضاً. العودة الى سجلات وذكريات الحرب الاولى، سيكون مفيداً، لكنه قد لا يكون كافياً.
—————————
الإقليم والأزمة الأوكرانية: حين يلتزم حلفاء واشنطن “الصمت” و”الهدوء”؟ / عريب الرنتاوي
لم يكن بوسع عواصم الشرق الأوسط تجاهل الأزمة الأوكرانية، وما انفتحت عليه من احتمالات وسيناريوهات، بعد أن بلغت الأطراف “حافة الهاوية”، وكادت أوروبا أن تتحول إلى مسرح لحرب عالمية ثالثة… لكن هذه العواصم، معظمها على الأقل، آثرت الإبقاء على “مسافة أمان” تفصلها عن الأفرقاء المتورطين في لعبة “المكاسرة” وعرض العضلات، وحرصت أشد الحرص على إبقاء أوراقها قريبة من صدور قادتها، ولاذت بالصمت – رسمياً – تاركةً للإعلام وحده، مهمة الذهاب في كل الاتجاهات، بالمواقف والتحليلات.
لا يعني ذلك أن ليس ثمة من رابحين وخاسرين بنتيجة هذه الأزمة، من بين دول المنطقة ومحاورها… بيد أن الظاهرة تعكس أكثر ما تعكس، حجم التراجع في المكانة الشرق أوسطية للولايات المتحدة، حتى في أوساط حلفائها التقليديين، وتُظهر في المقابل، حجم “الاختراق” الذي سجلته علاقات موسكو بدول المنطقة، خلال السنوات العشر أو العشرين الفائتة.
إسرائيل، أقرب حليف وشريك استراتيجي للولايات المتحدة، نأت بنفسها عن الاستجابة لطلبات كييف بتزويدها بقبتها الحديدية، وفي تفسير هذا النأي، ذهب خبراء ومحللون إسرائيليون للقول، بأن حكومة بينت – لبيد، لا ترغب في استثارة غضب روسيا، “جارتها” على حدودها الشمالية، حتى لا يُسقط الكرملين، “التفاهمات” المبرمة معها، ويمنع على سلاح الجو الإسرائيلي، حُريته في استباحة الأجواء السورية.
علاقات إسرائيل النامية مع روسيا، منعت الأولى من الاصطفاف بقوة في مواجهة الثانية… لكن إسرائيل المسكونة بهاجس الأمن والبقاء، لا تترك حدثاً إقليمياً أو دولياً، يمر من دون استخلاص الدروس والعبر الأمنية… وهذه المرة، كانت الخلاصة، أن إسرائيل لا يمكنها الاعتماد على غيرها لتأمين أمنها، في إشارة إلى اعتمادية أوكرانيا على الولايات المتحدة و”الناتو” لاستحداث التوازن مع الجارة الكبيرة والمتفوقة.
وإسرائيل ترقب كذلك، أثر الأزمة الأوكرانية على مكانة واشنطن وصورتها في الإقليم من حولها، وفي هذا السياق، لا يبدو أن الخلاصات التي انتهت إليها كانت مريحة، بل ووضع مراقبون ومحللون كثر في المنطقة، تل أبيب في خانة الخاسرين جراء الأزمة الأوكرانية، لأن واشنطن لم تظهر الصلابة والقدرة الردعية الكافية، في حين حبس العالم أنفاسه، بانتظار ما سيخرج من “مدخنة الكرملين”، من دخان أبيض أم أسود.
في المقابل، تصدرت السعودية قائمة “الرابحين” بنتيجة هذه الأزمة، وتحديداً “شخص” ولي عهدها… فواشنطن تحت ضغط الخشية من أزمة طاقة قد تجتاح أوروبا إن اشتملت عقوبتها على موسكو، إمدادات الغاز الروسي للقارة، استنفرت حلفاءها طلباً للعون، وبدا أن شعار “عزل” السعودية تحت قيادة ولي العهد، لم يصمد طويلاً أمام الارتفاعات الصاروخية لأسعار النفط، وهو أمر يلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد والمستهلك الأميركي، ويضعف إدارة بايدن، الضعيفة أصلاً، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام الأميركي.
وفضلاً عن إيرادات إضافية بعشرات مليارات الدولارات التي يحتاجها ابن سلمان، لتمويل مشاريعه العملاقة والطموحة في الداخل، والإنفاق على “حرب الاستنزاف” في الخارج (اليمن)، إلا أن الأزمة الأوكرانية، لم تضعف توجه المملكة لتنويع علاقاتها و”تحالفاتها” الدولية، فالرياض احجمت عن تحميل الكرملين مسؤولية الأزمة، ولم تنجرف كعادتها طيلة أكثر من سبعين عاماً، خلف الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي… يبدو أن ابن سلمان جاد جداً في توجهه شرقاً، من دون التفريط بعلاقاته الراسخة مع الغرب.
ما ينطبق على الموقف السعودي، انطبق على مواقف دول خليجية عدّة، إن لجهة ارتياحها لارتفاع أسعار النفط، على أمل التعويض عن عجز متكرر في ميزانياتها خلال السنوات الفائتة، أو لجهة التزام “الحياد” في الأزمة، بالنظر لحجم التقارب والمصالح المشتركة مع روسيا… وحتى الدول “المستهلكة” للنفط، آثرت الصمت و”الحياد” على الرغم من فداحة الأضرار التي نجمت عن ارتفاع فواتيرها النفطية، فالأردن على سبيل المثال، لا يستطيع أن يقامر بعلاقته مع روسيا بالنظر للملف السوري بتشعباته المختلفة، وحاجة عمان لدور بناء تلعبه موسكو على حدودها الشمالية، والأمر كذلك بالنسبة للقاهرة، التي تقيم علاقات وثيقة مع روسيا، وبينهما ملفات وساحات عمل مشترك، ليست ليبيا، أقلها شأناً.
أنقرة التي بدت أقرب إلى كييف منها إلى موسكو، بدلالة موقفها “المُندد” بضم روسيا للقرم، وبيعها أكثر من 500 طائرة مسيّرة من طراز “بيرقدار” لأوكرانيا، ظلت تحسب ألف حساب لموسكو، واقترحت لنفسها دور “الوسيط” في النزاع، بدل الطرف المصطف في مواجهة روسيا، فهي بلا شك، ستتضرر من نظام العقوبات الذي كان الغرب يلوح بفرضه على روسيا، وتحديداً خطوط الغاز الروسي إلى ألمانيا، وموسكو لديها الكثير من الأوراق في سوريا، التي يمكن تفعيلها ضد تركيا، ومن بينها، وليس أهمها، الورقة الكردية، فضلاً عن ملف العلاقات التجارية والسياحية وملفات الطاقة بين البلدين التي تُعد حيوية واستراتيجية لكليهما.
وحدها إيران، جلست متربعة على رأس لائحة الدول “الرابحة” في هذه الأزمة… فهي أدركت مبكراً أن انخراط واشنطن و”الناتو” في جبهة روسيا – أوكرانيا، سيخفف الضغط عنها لا محالة، وربما يسرع في مفاوضات فيينا بما تشتهيه سفنها، لتمكين الغرب من التفرغ لمقارعة “الدب الروسي” الذي نجح في تمتين أواصر تحالفه مع “التنين الصيني”… ثم أن إيران، باتت أكثر قناعة بعد أوكرانيا، بأن أجنحة “النسر الأميركي” لم تعد بالقوة الكافية التي تمكنه من البقاء منفرداً بقيادة النظام العالمي، وأن ثمة أقطاب جديدة، باتت مستعدة للمغامرة من أجل صياغة نظام عالمي جديد، قائم على التعددية القطبية.
وإذ أظهر البيت الأبيض إصراراً شديداً على تفادي الانزلاق للحرب والمواجهة، واستنكافاً عن القتال إلى جانب أوكرانيا، وتغليب الدبلوماسية المقرونة بنظام صارم للعقوبات على روسيا جال اجتيازها خط الحدود مع جارتها، فإن إيران التي خبرت كل وسائل الضغط الأميركية هذه، لما يزيد عن أربعة عقود، تكون قد أيقنت أن خيار القوة ضدها، ليس من ضمن التفكير الاستراتيجي الأميركي، وأن أسوأ السيناريوهات، لن يزيد عمّا خبرته إيران مطولاً، وتحديداً في سنوات ترامب الأربع، الأكثر صعوبة على طهران.
خلاصة القول، أن “الهدوء” الذي ميز مواقف عواصم المنطقة وردود أفعالها حيال الأزمة الأوكرانية، إنما يتكشف عن متغيرين اثنين: الأول؛ نجاح روسيا في نسج علاقات وشبكات مصالح مع الإقليم، حتى مع أقرب حلفاء واشنطن… والثاني؛ تراجع ثقل واشنطن ومكانتها في المنطقة، وأن الزمن الذي كانت فيه معظم الدول الحليفة، تصطف تلقائياً خلف واشنطن في حروبها ومعاركها الحربية والدبلوماسية، قد ولّى، وأنها جميعها – باستثناء إسرائيل ربما – تنتظر بفارغ الصبر، ولادة نظام عالمي جديد، قائم على التعددية القطبية في المرحلة المقبلة
—————————-
بهلوانية بوتين بين أوكرانيا وسوريا/ يحيى العريضي
“النيويورك تايمز” صحيفة أميركية عالمية لا تنطق عن عبث؛ تقتبسها ملايين المصادر؛ هي ترجمة تكاد تكون حرفية لموقف وجوهر السياسة الأميركية؛ تقول بالأمس إن “بوتين إما زعيم ماكر، أو قائد متهور”. ذلك يأتي في سياق ما يحدث على جبهة أوكرانيا. يأتي قولها ترجمة لرفع أميركا عقيرتها حول غزو روسي محتَّم لأوكرانيا، مُحَدِّدةً حتى توقيته؛ واضعة بوتين ضمن ممرين إجباريين أحلاهما مرُّ: حرب تنهي طموحاته، أو انكفاء ينهي مصداقيته.
بوتين من جانبه، يستشعر الممرين الأمرّين، فيبدأ البحث عن ثالث عبر تنشيط “سياسة البهلوانية” التي بَرَعَ بنهجها. فبعد استعدادات وحشود حربية معلنة ومرصودة بالأقمار الصناعية في أوكرانيا، تعلن روسيا فجأة أن الأوامر صدرت لمئة وخمسين ألف جندي وآلياتهم بالعودة إلى ثكناتهم.
وهنا خرجت أبواق الإعلام “الغوبلزية” الأسدية- الإيرانية- الروسية، مدعّمةً ببعض الإعلام “الرصين” لتقول إن أميركا /عرضت على بوتين الخروج من سوريا، مقابل التصرف بأوكرانيا، ولكنه رفض؛ وما زيارة وزير دفاعه “شويجو” إلى قاعدة حميميم، والمناورات “الروسية – السورية” المشتركة إلا دليل على خياره الثالث.
كان إعلان “انسحاب القوات الروسية” مصحوباً بفيديوهات أنتجها إعلام بوتين زاعماً أنها لدبابات ومعدات ثقيلة تغادر المناطق الحدودية؛ ليتبيّن أن تلك الصور قديمة؛ والدليل على ذلك صور أقمار صناعية حديثة تظهر استمرار تحشيد القوات على الحدود؛ وتصاعد القصف شرق أوكرانيا؛ وتواصل التدريبات في بيلاروسيا. ومن هنا أتت تصريحات “بايدن” للصحافة بالأمس لتقول: “خطر الغزو لا يزال مرتفعاً للغاية، والروس منخرطون بعملية مخادعة، ليكون عندهم عذر للدخول؛ وهذا سيحدث في الأيام القليلة القادمة”.
لن يكون أمام بوتين إلا أحد الممرين الإجباريين الذين تم تحديدهما؛ ولكن بوتين ظهر أنه يقفز إلى الممر السوري كورقة احتياط غافلاً أنه حتى في سوريا ليس بإرادته المحضة؛ فهو هناك يخدم مصالح الأقوياء المتأصلين تأثيراً في تلك المنطقة، فأساساً، تمَّ تعهيده الملف السوري لإرضاء طموحاته المرضية من جانب، واحتوائه، وتسجيل نقاط عليه من جانب آخر.
وهكذا، كسب بوتين بجدارة عداء كل من احتكَّ معهم بشأن القضية السورية: زاد توتر العلاقات بينه وبين أميركا والغرب الأوروبي؛ أصبح رهينة للخبث والاستغلال الإيراني والأسدي؛ تحول إلى خادم لطموحات المشروع الصهيوني في المنطقة؛ والأهم من كل هذا، كسب عداءً أزلياً تجاه شعب سوري ينشد الحرية والخلاص من ربق الاستبداد الأسدي، حيث حالَ دون ذلك بإصرار ومكابرة.
من جانبه، لم يكن بوتين غافلاً عن المستنقع الذي أُريد إدخاله في أتونه؛ فسارع إلى استثمار الفخ الغربي ذاته، مستنداً إلى دعوة “الشرعية الأسدية” له؛ وبدأ عملية وضع اليد على سوريا عبر عقود طويلة الأجل مع “الشرعية الأسدية”؛ إلا أن التحالف الدولي، وعلى رأسه أميركا، حَرَمَه مما أُطلِق عليه اسم “سوريا المفيدة” فعلاً، حيث النفط والماء والقمح؛ ليجد نفسه محاصراً بين شمال سوري بغربه وشرقه بيد التحالف وتركيا، من جانب؛ وباقي سوريا تحت نفوذ إيران، من جانب آخر. وللمفارقة مِن قبل إسرائيل، التي تستبيح ذلك النفوذ بالتنسيق معه ومع طموحاته بكسب ودّها، من جانب ثالث.
من هنا، سارعت تلك الأبواق، وبعد أزمة أوكرانيا، والخيارين المريرين، إلى تصوير القفز إلى الملف السوري معتبرةً حميميم “رأس حربة” في الاشتباك الدولي بين روسيا والناتو، ومسوّقة لـ “الوفاء البوتيني-الاسدي”. وهذا سيثبت عاجلاً أنه أكثر مراراً من الخيارين إياهما؛ فالحال في القضية السورية كما ذُكِر أعلاه. هناك مَن خطط لتكون سوريا هي المستنقع القاتل لبوتين، لا مخرج نجاة من أعبائه الاقتصادية والسياسية. فبوتين سيجد نفسه يضع قدماً على حدود أوكرانيا، والثانية في حميميم، والثالثة في إسرائيل، والرابعة تحت رحمة العقوبات، والخامسة في التعامل المتعجرف مع رئيس فرنسا ورئيس وزراء اليابان؛ وجسده ينضح دكتاتوريةً تخنق الروس من طموحاته وبهلوانياته حتى تنضج نتائج احتواء مرضه.
ومن هنا، يبقى مخرجه المضمون، والأكثر براعة بإعكاسه كل ما ينتج عن الاعتماد على بهلوانية وغد اسمه “لافروف”، ووحشية مخلوق اسمه “شويغو”؛ والتمسك بذيل كلب، لن يوصله إلا للهاوية المحتمة. وأول خطوتها لا يمكن أن تكون إلا من سوريا عبر إدارة الظهر لكل القوى التي أرادته أن يغوص في هذا المستنقع، وبالعودة إلى جوهر القضية السورية. فإن كانت الملايين السورية خرجت أساساً للخلاص من هذه المنظومة الاستبدادية، فالقانون الدولي سيكون بجانبه، بفعل حقوق الإنسان، لا بفعل الفيتو. وإعادة الإعمار في سوريا، والتي ينتظر جناها الاقتصادي، لينقذ اقتصاده الهش، ستكون ممكنة، بفعل تطبيق القرارات الدولية الخاصة بسوريا، لا بابتزاز العالم. وعودة اللاجئين ستكون محققة، بفعل الإرادة والضمانات الدولية، لا بفعل الابتزاز والمساومات.
قد يكون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو متعذراً الآن، إلا أن الغرب يدعم هذه الدولة وشعبها، رغم الانتقاد الحاد الذي وجهه الرئيس الأوكراني للغرب لرخاوته، تجاه نوايا بوتين، في كلمته في ميونخ بالأمس. مأساة بوتين تكمن بأنه إذا غزاها، ستكون نهايته؛ وإن أحجم، ستكون النهاية الأبشع. ومن هنا عليه القبول بجائزة ترضية مقابل دخوله بالمصيدة السورية؛ ولكن ليس كما يطمح، ولا كما يناسب أمراض منظومة الاستبداد الأسدية؛ بل بخروج سوريا والسوريين من مأساتهم. ولا يحدث ذلك عبر الاستمرار ببهلوانيات الدببة. فلا مخرج إلا بقلب الطاولة على كل السياسات البائسة التي نهجها في سوريا حتى الآن؛ وأولها الإقرار الصريح والفعلي بالتنفيذ الكامل والحرفي للقرار الدولي 2254، وخاصة الإقرار بتشكيل هيئة حكم انتقالي لا مكان فيها للمنظومة الاستبدادية، التي أوقفت حياة سوريا وأهلها. قد يكون هذا رهاناً على مجرمين؛ ولكن إذا كانت مصلحتهم تكمن بهكذا فعل، فربما يفعلونها. لننتظر ونعتبر؛ ونستعد لانتفاضة شعبية عامة وعارمة.
——————————-
الكرملين يجري استعدادات الحرب كلها… فهل ستنشب فعلاً؟/ حسن إسميك
في مشهد يبدو أنه مقتطع بالكامل من الحرب الباردة، تحشد روسيا ما يصل إلى نحو 130 ألف جندي على طول أرضها مع الحدود الأوكرانية، يواصل من خلالهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التهديد بغزو أوكرانيا، من دون أن يصرح بذلك رسمياً، عمل عسكري إذا ما تم يمكن أن يتحول إلى أكبر صراع على الأراضي الأوروبية منذ عقود.
تضمنت الإجراءات الروسية أيضاً نقل بعض القوات إلى بيلاروسيا المجاورة لإجراء تدريبات عسكرية، وإرسال المزيد من المعدات إلى الانفصاليين في شرق أوكرانيا، وذلك وفقاً لمخابرات الدفاع الأوكرانية التي قالت إنّ “روسيا أرسلت سبعة آلاف طن من الوقود ودبابات وأنظمة مدفعية ذاتية الدفع وأسلحة وذخيرة أخرى، بما في ذلك أنظمة مدفعية وقذائف مورتر” إلى المناطق الانفصالية. وأشار صمويل شاراب، كبير المحللين السياسيين في مؤسسة RAND والمسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية: “إنها عملية مختلفة اختلافاً جوهرياً عن أي شيء رأيناه من قبل”.
كيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى من التصعيد؟
لقرون عدة مضت، كانت أوكرانيا جزءاً من الإمبراطورية الروسية، قبل أن تصبح في ما بعد أيضاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وقد خاضت روسيا في السابق حرباً ضروساً ضد الدولة العثمانية على شبه جزيرة القرم (الناطقة بالروسية والتي اعتُبرت أوكرانية عام 1954 بقرار الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف).
في مسيرة البيروسترويكا، وأثناء المفاوضات بين غورباتشوف والقادة في أوروبا، وافق الزعيم السوفياتي على هدم جدار برلين، وكل ما يرمز له هذا الهدم، في مقابل تعهد شفوي من أوروبا بعدم تمدد حلف الناتو باتجاه الشرق نحو حدود الاتحاد السوفياتي. ثم بعد انهيار الاتحاد، أصبحت أوكرانيا دولة مستقلة، ولكن ظلّت عيون بوتين ترنو إليها منذ أن تسلم رئاسة روسيا.
نهاية عام 2013، ألغى الزعيم الأوكراني – صديق موسكو – فيكتور يانوكوفيتش خططاً لتوقيع اتفاقية من شأنها تقريب البلاد من الاتحاد الأوروبي، بعدما اقترح بوتين اتحاداً جمركياً مع روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان بدلاً من ذلك. أثارت تلك الخطوة احتجاجات واضطرابات مدنية في كييف، العاصمة الأوكرانية، انتهت بهروب الرئيس، الأمر الذي أغضب روسيا كثيراً.
استخدم بوتين فراغ السلطة أولاً لضم شبه جزيرة القرم، في إجراء زعم الكرملين أنه تم بناءً على استفتاء جرى في شبه الجزيرة لمصلحة العودة إلى روسيا، استفتاء وصفه الغربيون بـ”غير القانوني وغير الشرعي”، وضمٌّ نددت به الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدته بقرار لها غير قانوني أيضاً.
وثانياً قام بوتين بدعم الانفصاليين في المقاطعات الجنوبية الشرقية من أوكرانيا، دونيتسك ولوهانسك، المعروفتين باسم دونباس، لإعلانهما جمهوريات ذاتية الحكم. ثم وقعت روسيا وأوكرانيا اتفاقيات في مينسك (عاصمة بيلاروسيا) عامي 2014 و2015 بهدف وقف إطلاق النار في دونباس، حيث أدى الصراع هناك إلى مقتل أكثر من 14 ألف شخص وشرد الملايين. ورغم ذلك استمر انتهاك وقف إطلاق النار مع تحول الصراع إلى ما يشبه حرب خنادق.
عام 2019، تجدد الأمل في إحراز تقدم ما، حيث تبادلت روسيا وأوكرانيا الأسرى، وصرح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عام 2020 بأن هناك “فرصة كبيرة لإنهاء الحرب”، لكن الاشتباكات بقيت مستمرة. وفي ربيع عام 2021، بدأت روسيا حشد عشرات الآلاف من قواتها بالقرب من أوكرانيا رداً على ما وصفته بتهديدات من حلف شمال الأطلسي.
واليوم، وفي ظلّ تراجع أرقامه على المستوى الداخلي، حيث يقاوم الروس التطعيم وينددون بالصعوبات الاقتصادية التي تفاقمت في ظل وباء كوفيد-19، يتذكر بوتين التأييد الذي حصده داخلياً عندما ضم شبه جزيرة القرم، فهل ستؤدي حرب جديدة أو تصعيد جديد إلى تشتيت انتباه الروس عن المشكلات الداخلية وتعزيز شعبية بوتين من جديد؟ بالإضافة إلى ذلك.. يريد الرئيس الروسي استعادة الحوار مع الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة، ولو بالإكراه، وأظنه قد نجح في ذلك من بوابة أوكرانيا.
ماذا يريد بوتين أيضاً؟
يفكر بوتين بإرثه المستقبلي، إذ يعتقد أنه لا يزال قادراً على إعادة روسيا قوة عظمى عالميةً لها عمقها الاستراتيجي الخاص، ولهذا لا يبدو أنه مستعد للسماح لأوكرانيا أو لكازاخستان بالخروج من المدار الروسي.
في 17 كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي، نشرت روسيا مسودات اتفاقيات أمنية، أو ما يمكن تسميته بـ”المطالب”، تضمنت هذه المسودات بالعموم ما لا يريده بوتين – إذا جاز التعبير – فقد طالبت الناتو برفض عضوية أوكرانيا وغيرها من دول الاتحاد السوفياتي السابق، والتراجع عن نشر القوات والأسلحة في وسط أوروبا وشرقها.
كما طالبت بحظر إرسال السفن والطائرات الحربية، الأميركية والروسية، إلى مناطق يمكن أن تهاجم منها أراضي بعضها بعضاً، وكذلك وقف التدريبات العسكرية للناتو بالقرب من حدود روسيا.
لا تريد الدول الغربية استفزاز روسيا، مثلما فعلت الأخيرة بعلاقاتها مع كوبا فيديل كاسترو منتصف القرن الماضي، وإلا لكانت أوكرانيا منذ سنوات قد انضمت إلى حلف شمال الأطلسي، وباتت محمية بمعاهدات الدفاع المشترك الخاصة به، والتي تلزم الدول الأطلسية بالدفاع عنها في وجه أي اعتداء خارجي. لكن هذا لا يعني أن الغرب سينصاع لرغبات بوتين رسمياً، ومن هذا المنطلق وصفت الولايات المتحدة مطالب موسكو بأنها غير مقبولة، ورفض الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ إلغاء التزام عام 2008 تجاه أوكرانيا، وأكد أنه “عندما يحين الوقت.. لن تتمكن روسيا من الاعتراض على انضمام أوكرانيا للحلف”.
جاءت هذه الردود مخيبة للآمال الروسية، ولا تلبي الحد الأدنى من متطلباتها، فكان ردّ موسكو حشد المزيد من القوات العسكرية على الحدود الأوكرانية، سواء في بيلاروسيا أم في روسيا.
وفي الأسبوع الماضي، أشارت مصادر إلى أن الرئيس بايدن كان يفكر في نشر آلاف الجنود من القوات الأميركية، بالإضافة إلى السفن الحربية والطائرات، لدى حلفاء الناتو في دول البلطيق وأوروبا الشرقية. وهذه خطوة تشير بوضوح إلى تحول إدارة بايدن عن الجهود التي بذلتها سابقاً لتجنب استفزاز روسيا. ولكن مع تكثيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تهديداته، وفشل المحادثات بين المسؤولين الأميركيين والروس في نزع فتيل الأزمة، بدا أن إدارة الرئيس الأميركي غيّرت مسارها، مكتفية بالتهديدات “الفضفاضة” من قبيل أنه إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا فسوف “تدفع ثمناً باهظاً، وسوف تكون في عزلة كبيرة، أو قد تفرض واشنطن عقوبات كبيرة يمكن أن تطال بوتين شخصياً ورفاقه في القيادة الروسية”.
هل تخشى روسيا العقوبات؟
أعتقد أن الحديث عن العقوبات ما زال مبكراً الآن، وهي من باب التهديد والضغط لمعرفة رد فعل موسكو. ولكن هل تؤثر هذه العقوبات في روسيا وإلى أي مدى؟
لقد وقعت روسيا مع الصين في اللقاء الأخير بين الرئيسين الروسي والصيني ما سُمي بالاتفاقية “اللامحدودة” أو “لا مجالات ممنوعة للتعاون”، وقد جاء هذا التفاهم بين الدولتين ضد أميركا وأوروبا، كما وقّعا اتفاقية خط غاز الشرق والغرب، في إشارة واضحة إلى تشكل نظام عالمي جديد ضد أميركا التي تدّعي تزعّم العالم. أكاد أجزم بأن ربطات العنق “الحمراء” المتماثلة، والتي ارتداها الرئيسان بوتين وشي جين بينغ خلال التوقيع، لم تكن من باب المصادفة أبداً، بل تحمل رمزية من ناحية اللون والمواقف أيضاً، فالدعم المتبادل سيتضح كثيراً في المرحلة المقبلة، الصين تدعم روسيا في أوكرانيا مقابل الدعم الروسي للصين في استعادة تايوان. إذاً، عقوبات بايدن لا تخيف بوتين كثيراً بعد التحالف مع الصين.
أضف إلى ذلك علاقات روسيا مع دول شرقية عدة، في مقدمتها إيران، والتي سواء وقّعت الاتفاق النووي مع الغرب أم لم توقع، فسوف تظل من حلفاء روسيا. بالإضافة إلى الاتفاقيات الموقعة بين روسيا والجمهوريات السوفياتية الآسيوية…
هذا لا يعني أن العقوبات لا تؤثر في روسيا، ولكن يمكن القول إنّ روسيا تخاف من منطق العقوبات لكنها لا تفكر به، حتى لو ألحق بها الأذى إلى درجة ما في ما لو حصل!!
لكن هذا لا يعني أيضاً أن روسيا ستعمد إلى اتخاذ قرار الحرب.
في مقالة نشرتها “فورين بوليسي” تحت عنوان «لماذا يعدّ تشبيه سياسة بوتين بـ”لعبة الشطرنج” خاطئاً» يذهب دانيال ب. باير إلى أنه “ليس أمام بوتين سوى خيار اللجوء الى الحرب، ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يستمروا في توخي الحذر والوقوف بحزم على عواقب أفعاله”. لا أتفق إطلاقاً مع السيد باير في رأيه هذا. ولا أتفق كذلك مع من يرون أن بوتين وضع نفسه في مأزق وحصر نفسه في الزاوية، أي: إما أن يغزو أوكرانيا فيقع تحت مقصلة العقوبات ويضاعف من الأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا اليوم، وإما أنه سيخسر شخصية القيصر الذي لا يتراجع في قراراته.
الاحتمال الأول مستبعد، لأن روسيا لن تعمد إلى حرب غير مضمونة النتائج. وما دامت تستطيع أن تحقق بالابتزاز جملة من أهدافها، بخاصة أن خيار الحرب لا يحمل خسائر لروسيا، فأميركا من جانبها لا تريد الحرب مع روسيا أيضاً، فهي بداية غير ملزمة باتفاقية مع أوكرانيا للدفاع عنها، بالإضافة إلى أن الغرب يدرك أن الحرب مع روسيا “مقامرة هائلة”، إذ تمتلك الأخيرة كامل القدرة على التوسع في أوروبا الشرقية، وبالتالي زعزعة الاستقرار في المنطقة الأوروبية بكاملها، ما قد يعرّض العالم للدخول في حرب عالمية ثالثة في الجزء الشرقي الذي انطلقت منه الحربان العالميتان الأولى والثانية. وفي الوقت ذاته أرى أن الاحتمال الثاني مستبعد أيضاً، لأن بوتين حريص ألا يعرّض شخصه لمثل هذه الهزة القوية التي ستنتج من تخليه أو تراجعه عن قرارات حازمة وحاسمة، فهو يرى نفسه حراً وليس في عنق الزجاجة!
إذاً، إن لم يكن أحد هذين الاحتمالين قائماً، فما هو بالتالي السيناريو المتوقع للأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة؟ وكيف يمكن أن يكون الحل؟
تدرك روسيا حجم الأعباء الاقتصادية الناتجة من التصعيد الذي تنتهجه، وحجم التكاليف الباهظة التي يفرضها الحشد العسكري الذي تقوم به. لكن، وفي ميزان الربح والخسارة، قد تكون تكلفة روسيا أقل بكثير في مقابل التهديدات المتوقعة على الأمن الأوروبي الشرقي، وكلما طالت فترة الأزمة تكبدت أوروبا وأميركا أعباءً أكبر، بعضها اقتصادي من ناحية نقل الجنود والمعدات العسكرية إلى أوكرانيا، وبعضها إنساني نتيجة حالة الهلع والقلق والضغط النفسي التي يعيشها الأوروبيون عموماً، والشعب الأوكراني على وجه التحديد، في ظلّ استمرار وسائل الإعلام ببث الأخبار عن أن الحرب باتت وشيكة، هذه الأخبار التي تجعل الاقتصاد الأوكراني موشكاً على الانهيار، والرئيس الأوكراني زيلينسكي يدرك تماماً مخاطر هذا التفاقم للأزمة، أو مجرد استمرارها.
كذلك، يجب أن نتذكر مستوى الضغط الذي تستطيع روسيا ممارسته على أوروبا بواسطة الغاز، فخط “ستريم 2” يمكن أن يلعب الدور الأكبر في معاقبة أوروبا إذا قررت روسيا توقيفه، لأن أوروبا حينها ستذوق طعم البرد الذي لا يمكن مواجهته..
في الوقت ذاته، يستفيد بوتين كثيراً في تعاطيه مع هذه الأزمة من ضعف بايدن وارتباكه في إدارتها، فالاتفاقية التي وقعها الأخير مع أمير قطر لتزويد أوروبا بالغاز، فيما إذا أوقفت روسيا صادراتها، لا تفي بسد الحاجة أولاً، كما يحتاج الغاز للكثير من الوقت ليصل إلى أوروبا عبر الناقلات.
وعلى صعيد مواز، تستفيد روسيا من وجود الديموقراطيين في الحكم اليوم، لقد قضم بوتين جزيرة القرم في عهد أوباما ويتحين الفرصة لحلحلة مشكلة دنباس أو إبعاد الناتو عن حدود روسيا في عهد بايدن عبر الضغوط والابتزاز. يدرك الروس أن أغلب أعضاء الحزب الديموقراطي هم من الكتاب ورجال القانون والأدب والصحافة، وحتى رجال أعمال منهم هم بالمجمل أصحاب شركات خدمية أو مختصة بتكنولوجيا الذكاء الصنعي وأجهزة الموبايل والبرامج وما شابه ذلك… وهم دائماً ضد الحروب، همهم الأساسي الدفاع عن حقوق الإنسان وقيم الحرية.. بعكس الحزب الجمهوري الذي يمتلك رجاله المصانع الضخمة من التكنولوجيا العسكرية أو التسليح والطائرات وغيرها.. لذلك لا يأبه الجمهوريون بخلق المشكلات لشن الحرب واستجرار الأموال.
إنّ فكرة ضعف الحزب الديموقراطي ورغبته في الحلول السياسية ورفضه لاستخدام الحرب في حل النزاعات يدركها العقل الروسي والصيني جيداً. ومن هنا سوف يستغل بوتين ضعف بايدن، والتضخم الذي تعانيه أميركا وأزمة كورونا التي عصفت بالمجتمع الأميركي بقوة، لتنفيذ مآرب روسيا في أوكرانيا.
وعليه ستتطور، حوادث الأزمة الحالية إلى سيناريوين اثنين، هما:
السيناريو الأول (المتفائل ربما!): الجلوس إلى طاولة الحوار لتوقيع اتفاقيات تهدف إلى إنهاء الأزمة في أوكرانيا، وربما غيرها في مناطق أخرى من العالم، والتي تتنافس فيها روسيا وأميركا، وأستبعد أن تكون المسألة السورية من ضمنها، وسيتحدد موقف روسيا من الصين وإيران بوصفها على قائمة الأعداء لأميركا.
وربما سيتم في هذه المفاوضات الاتفاق على أن يتعهد الناتو عدم الاقتراب من الحدود الروسية لمسافة جغرافية معينة لها ترتيباتها الخاصة (خطوط الطول والعرض..)، بحيث تتمكن روسيا من حماية أمنها القومي، في مقابل ترتيبات أمنية في منطقة دنباس وكل الأراضي الأوكرانية، وانسحاب القوات الروسية من الحدود الأوكرانية لمسافة يتم الاتفاق عليها أيضاً، وخفض التوتر والتصعيد من الجانبين الروسي والأوكراني. ولا أستبعد أن تقدم روسيا بعض الحوافز الاقتصادية لأوكرانيا في هذه الحالة.
السيناريو الثاني: يتمثل في الإبقاء على حالة التوتر في أوكرانيا وأوروبا مع المزيد من الضغوط الروسية والحشود العسكرية في الخارج، وقد تدفع روسيا نحو المزيد من التصعيد عبر نشر قواتها رسمياً في دونباس، وربما الاستيلاء على أجزاء من منطقتي دونيتسك ولوهانسك، في خطوة أولى تقيس من خلالها موسكو رد الفعل الغربي قبل المضي قدماً.
كذلك قد ترفع روسيا حدة التصعيد باستخدام ضربات عسكرية محدودة، لكن حاسمة أيضاً، كما فعلت مع جورجيا عام 2008. وبالطبع قد تلجأ موسكو إلى تحريك عملاء يشتغلون في الداخل الأوكراني، ربما لقلب نظام الحكم هناك. وليس هذا بالخيار المستبعد، فلروسيا – مثل ما لأميركا – تاريخ يشهد لها في المؤامرات الداخلية وقلب أنظمة الحكم في العالم.
هذه المقاربة الأخيرة والمتعلقة بجورجيا ستعيدنا إلى التاريخ غير البعيد الذي يمكن اعتباره نقطة عودة الصعود العالمي لروسيا، ليس في عهد بوتين الذي كان يحكم من وراء ستار، بل في عهد ميدفيدف حين ارتكبت أميركا ومعها الغرب “الخطيئة الكبرى” التي سيستفيد منها الروس كثيراً في المستقبل، وذلك حين كان شهر العسل بين الطرفين مستمراً من دون أي منغصات، بخاصة بعدما تغاضت روسيا عن احتلال أميركا للعراق (لعلها لم تكن قادرة حينها سوى على التغاضي وادخار ذلك للمستقبل)، وهذا ربما ما دفع الجمهوريين لاحقاً إلى عدم إدانة روسيا في غزو جورجيا عام 2008، وفي الحقيقة لو تنبهت الإدارة الأميركية بحزبيها الجمهوري والديموقراطي واتفقت مع أوروبا لاتخاذ قرارات ومواقف رادعة وحاسمة وعقوبات ضد روسيا التي كان اقتصادها آخذاً في النمو والازدهار آنذاك، لكان بوتين قد خشي هذه العقوبات بشدة وتفاداها مهما كلف الأمر من التراجع عن الكثير من مواقفه، وبذلك فلن يتجرأ لاحقاً على ضم القرم والتهديد باحتلال الدنباس، ثم التدخل لاحقاً في سوريا، ما سيسمح له بفرض نفسه، عسكرياً وسياسياً، في مواقع دولية أخرى. وبالاعتماد على النفس الطويل جداً في الترقب، والتفاوض، وحتى التحرك العسكري حين يقتضي الأمر.
إذاً، بوتين مطمئن لقوته وثبات خياراته، هو ليس مستعجلاً على إيجاد حل، ولديه كل الصبر حتى لو طال الانتظار، وإذا كان يوصف بـ”الدب الروسي” تقليدياً الذي يطول انتظاره لاصطياد طريدته، إلا أنه يشبه أكثر الثعلب القطبي الماكر الذي يتحين لحظة خروج الفأر من تحت الثلج ويجيد اقتناصه!! وعليه ستتمحور استراتيجية بوتين حول قدرته على المناورة على عامل الزمن، فهو عجوز سياسي محنك، ونفسه في الصراع طويل، ولا يخشى تعقد الأزمات، وله أيضاً باع طويل في اللعب على حافة الهاوية، من هنا لا أتفق مع إليوت أ. كوهين في مقالة نشرتها “ذي أتلانتك” أن “بوتين ليس بارعاً في الشطرنج”. فهو سيستمر بممارسة الضغط على أوكرانيا والغرب معاً، سيصعد تارة ويهدئ أخرى، وسيمارس دائماً سياسة الإكراه حتى تتم دعوته الى التفاوض وإيجاد حل يرضيه للأزمة.
النهار العربي
——————————-
تسليم غربي بخسارة أوكرانيا وخشية ممّا بعدها/ عبدالوهاب بدرخان
حشود عسكرية ضخمة. استدعاء للاحتياط ومناورات وتدريبات استراتيجية ونووية يأمر الرئيس الروسي بإجرائها، لكنه لا يزال يستنكر تصريحات الرئيس الأميركي وقادة الدول الغربية عن “حرب مزعومة”. في المقابل، حالٌ من الاستنفار في حلف الأطلسي، ومساعدات عسكرية ولوجستية لأوكرانيا، ومزيد من الجنود من دول عدة الى بولندا ورومانيا ودول البلطيق الثلاث.
روسيا تواصل التظاهر بأنها لم تتخلَّ عن “الحلول الدبلوماسية”، ولم تنقطع الرسائل بينها وبين الإدارة الأميركية بحثاً عن “ضمانات أمنية” أصبح الاتفاق عليها أكثر صعوبة تحت الضغط الميداني، ثم إن الأمين العام لـ”الناتو” أكّد المؤكّد، أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، وهو أن مطالب موسكو “لا يمكن أن تتحقّق”.
الحرب بدأت عملياً، بدأت على الأرض، وخطوط التماس بين انفصاليي دونباس والقوات الحكومية في أقصى التوتّر والتسخين مع مناوشات واستفزازات وأعمال قصف. كان يمكن اعتبار ذلك في سياق الوضع المألوف منذ 2014، إلا أن عمليات إجلاء السكان من “الجمهوريتين الشعبيتين”، دونيتسك ولوغانسك، الى الأراضي الروسية هي الاستعدادات الأخيرة. قبل ذلك، استطاع فلاديمير بوتين إشغال عواصم الغرب بأنباء البدء بسحب قواته من الحدود الأوكرانية، لكن “الخدعة” لم تدم أكثر من ساعات، وأنهاها جو بايدن شخصياً بإعلان أن الحرب “خلال أيام”. أما وزير الدفاع الأميركي فهاتف نظيره الروسي ثم أعلن أن القوات الروسية تتقدّم الى مواقع تسمح لها بشنّ هجوم على أوكرانيا. وما لبثت واشنطن أن أوضحت أنه سيكون “هجوماً شاملاً”.
حقّقت معركة العبث بالإعلام نقطة: الغموض. فبين طرف أميركي يؤكّد أن ثمة حرباً في الأفق، وطرف روسي يقول إنه لا يريد حرباً، كان لا بد من اختلاط المواقف، خصوصاً مع الارتباك الذي أبدته فرنسا وألمانيا، ومع تمترس البلدان الأخرى وراء الصمت والترقّب أو الحثّ على حل الأزمة بالتفاوض. غير أن الوقائع أظهرت أن الرواية الأميركية لم تكن وهمية، وللمرّة الأولى تكشف واشنطن جانباً من معلوماتها السرّية لتصنع رأياً عاماً دولياً مناوئاً للحرب ولروسيا. صحيح أن آراء أوروبية وداخل أميركا اتّهمت الإدارة بأنها تمهّد للحرب أكثر مما تعمل على منعها أو تجنّبها، وأنها ربما تسعى الى “توريط” بوتين، لكن الصحيح أيضاً أنها لم تتمكّن من استباق الحدث، وبالتالي فإنها لم تستطع التحكّم به، على رغم أن الأزمة الأوكرانية مشتعلة منذ ثمانية أعوام.
أما موسكو فلم يعد سراً أنها اتخذت قرارها لحسم مسألة أوكرانيا بطريقتها ووفقاً لرؤيتها، أي أنها في صدد الحرب، بلا أي غموض، وبحسب المواعيد التي حدّدتها واشنطن. لكن هناك ما بقي مجهولاً، ويشير إليه سؤال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي: ماذا يريد بوتين؟ هل ينوي احتلال كل أوكرانيا، أم يفرض تقسيمها رسمياً بضم “الجمهوريتين” الانفصاليتين، وهل يطمئنه الاستئثار بشرقها الروسي وبقاء غربها غربياً؟ في الحدّ الأقصى يريد بوتين أن تكون أوكرانيا كاملة في الفلك الروسي، أو تكون في الأدنى دولة فاصلة مع الأطلسي. ما أبلغه بايدن الى القادة الغربيين ولمّح إليه رئيس الوزراء البريطاني، يفيد بأن بعض جوانب “الخطة” (الحرب) بدأت فعلاً، وأن روسيا “تعتزم شن غزو يطوّق العاصمة كييف” أي بهدف إسقاطها.
لا شك بأن مسارعة “الناتو” الى إرسال تعزيزات عسكرية الى الدول المتاخمة تبقى مصدر إزعاج شديد لبوتين، بمقدار ما أن شكوى زيلينسكي في ميونيخ من ضعف الدعم الغربي تطمئنه، مثلها مثل أصوات كثيرة قالت في الآونة الأخيرة إن دول الغرب لن ترسل أبناءها الى القتال من أجل أوكرانيا. فما دام الغرب لن يقاتل، بل إنه يحدّد الخطوط التي سيتخذها الغزو الروسي ويُقصر “تمنياته” على عدم اجتياح غرب أوكرانيا، فهذا يعني بالنسبة الى بوتين أن الطريق الى أهدافه سالكة.
لم تفصح واشنطن بشيء في ما يتعلّق بما بعد الغزو، وكأنها تسلّم مسبقاً بخسارة أوكرانيا، وباعتبارها موقعاً متأرجحاً وليس “خطاً أحمرَ”. أما الأوروبيون فيفكرون أولاً بتداعيات الغزو مباشرةً على اقتصاداتهم وحاجتهم الى الغاز الروسي، وثانياً بالواقع الأمني والسياسي الذي سيفرض نفسه لاحقاً على “الناتو” والاتحاد الأوروبي. لا شك بأن “النظام الغربي” وأن “الناتو” كـ”أعظم تحالف عسكري في التاريخ”، يتعرضان لـ”اختبار”، كما قالت نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس في ميونيخ، إلا أنها لم تَعِد بأكثر من “عقوبات اقتصادية سريعة ومؤثرة بقوّة” لمواجهته.
عندما يقول بوريس جونسون إن “الخطّة التي رأيناها تتعلق بما يمكن أن تكون أكبر حرب في أوروبا منذ عام 1945″، فهذا يفترض أمرين: أولاً، أن النظام الغربي ما بعد الحرب العالمية الثانية بلغ نهايته. وثانياً، أن الاستعداد للردّ بالعقوبات فحسب لا يبدو متناسباً مهما كانت شديدة. في بعض التوصيفات قيل إن العقوبات ستحيل روسيا الى دولة “منبوذة”، لكن تحليلات مسبقة لمؤسسات مالية أميركية وأوروبية أشارت الى أن التلويح بالعقوبات لم يبدُ رادعاً، أما فرضها لاحقاً فسيكون موجعاً لكل الأطراف، وبالتأكيد سيربك روسيا إلا أنه لن يكون فاعلاً على المدى الطويل، سواء لأنها ستتكيّف مع الواقع أم لأن استراتيجيتها المشتركة مع الصين تعمل أو ستعمل سريعاً على تطوير بدائل التفافية، إذ إن الدولتين تهدفان الى تغيير النظام الدولي، ومن الطبيعي أن تطمحا، برغم الصعوبات، الى تغيير النظام المالي والمصرفي الذي تمسك أميركا بمقاليده.
في الأثناء، تحاول الدول كافة التعرّف الى تداعيات الحرب عليها، وسط بروز حذر للاستقطابات، لكن بعيداً من “محاربة الشيوعية” ومناصرة “العالم الحرّ”، كما كانت خلال الحرب الباردة. فالدول تدقّق حالياً في مصالحها الآنية والبعيدة المدى، وفي انعكاس الحرب على أوضاعها مباشرة أو غير مباشرة (العالم العربي وأفريقيا). وبطبيعة الحال تُطرح التساؤلات المستقبلية: كيف يمكن الاستمرار في الاعتماد على أميركا وبماذا، وهل يمكن الرهان على روسيا والصين، بل هل الحياد وعدم الانحياز ممكنان؟ كثير من الدول تطمح الى الاعتماد على النفس وإبقاء علاقاتها مفتوحة مع كل الأطراف. في المقابل، ربما ترى الشعوب عموماً أن أميركا والغرب قدّما نموذجاً انفتاحياً، برغم سوء السياسات وانتهازيتها، أما روسيا فجرّبت سوفياتيتها ولا جدوى من تكرارها، وأما الصين فتقتصر أهدافها على التجارة في حين أن تجربة هونغ كونغ أظهرت أنها لا تزال في عصر غابر.
النهار العربي
———————————-
العالم يقترب من حرب باردة جديدة/ هشام ملحم
وقف الرئيس الصيني شي جينغ بينغ إلى جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين خلال افتتاح الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في الثالث من الشهر الجاري في وقفة تحد للغرب عموما وللولايات المتحدة تحديدا.
وقفا بصفتهما قطبي الكتلة الأوتوقراطية المتنامية في العالم والتي تطرح نفسها كبديل لتلك الديمقراطيات التي يقول الرئيس، جوزيف بايدن، إن الولايات المتحدة تقودها لبناء نظام عالمي جديد لمواجهة الأنظمة الأوتوقراطية والمتسلطة ولتوسيع جغرافيا الدول القائمة على أنظمة الحوكمة الصالحة.
ومنذ تلك اللحظة تركزت الأضواء الإعلامية والسياسية على قرارات واستفزازات موسكو تجاه أوكرانيا وتطورات الألعاب الأولمبية في بكين ومحاولات الحزب الشيوعي الصيني استخدامها سياسيا لإقناع العالم بأن الصين تمثل نظاما ديمقراطيا جديدا يتسم بقوته وقدرته على خلق الإنجازات وضمان الاستقرار.
على الرغم من سجل الصين الرديء والدموي في قمع الحركة الديمقراطية في هونغ كونغ، وممارساتها القمعية ضد أقلية الأويغور المسلمة، والتي تقول الولايات المتحدة إنها ترقى إلى حرب الإبادة.
افتتاح الألعاب الأولمبية كان الاجتماع الثامن والثلاثين بين الرئيسين الصيني والروسي في مؤشر آخر حول نمو العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية بين البلدين في السنوات الأخيرة.
قبل زيارة بوتين إلى الصين وقع البلدان عقدا تجاريا لثلاثين سنة لتوفير إمدادات الغاز الطبيعي الروسي للصين عبر خط أنابيب جديد يربط البلدين.
المحللون العسكريون في الغرب لاحظوا أن بعض الوحدات العسكرية الروسية التي انضمت إلى الحشود على حدود أوكرانيا كانت منتشرة على الحدود الروسية-الصينية الطويلة، في مؤشر آخر حول ثقة بوتين بأن زميله الصيني لن يطعنه في ظهره.
ولكن “الإنجاز” الهام لآخر اجتماع بين بوتين وشي جينغ بينغ، كان البيان المشترك الطويل والمفصّل (5000 كلمة) والذي ادعى أن الشراكة بينهما ” لا حدود لها”، والذي مثّل نقلة نوعية في العلاقات بين موسكو وبكين وخاصة لجهة التنسيق بينهما للتصدي للغرب.
البيان المشترك تضمن تأييد الصين لموقف روسيا المعارض لتوسيع حلف شمال الاطلسي (الناتو) في إشارة ضمنية إلى احتمال انضمام أوكرانيا للحلف، كما أكد أن تايوان هي جزء لا يتجزأ من الصين.
وكما دعمت الصين روسيا في أوروبا، دعمت روسيا الصين في شرق آسيا، حين ندد البيان المشترك بالتحالف الأمني المتزايد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، في أعقاب صفقة الغواصات الأميركية المسيرة بالوقود النووي لأستراليا والتي ادانتها بكين.
الأمر اللافت، والسافر في البيان المشترك هو أنه ادعى أن الدولتين الأوتوقراطيتين سوف تنسقان مع دول أخرى لبناء أنظمة “ديمقراطية حقيقية” لتكون بديلا للأنظمة التي تقودها وترعاها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين فيما يمكن وصفه بنظام أوتوقراطي عالمي جديد.
وخلال افتتاح الألعاب الأولمبية، شارك في الحفل قادة أكثر من 20 دولة معظمها أوتوقراطية، من بينها مصر والسعودية ودولة الإمارات وقطر.
خلال أحلك اللحظات في الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حقق الرئيس، ريتشارد نيكسون، بزيارته التاريخية للصين قبل خمسين سنة بالضبط (بدأت في 21 فبراير 1972 وانتهت في 28 فبراير) إنجازا استراتيجيا وسياسيا، حين بدأ عملية تطبيع العلاقات مع الصين، وما نتج عنها من خلق هوة واسعة بين أكبر وأهم دولتين شيوعيتين آنذاك في العالم، ما أدى إلى تعزيز وضع واشنطن في تعاملها الثنائي مع كلا الدولتين.
ما يحدث الآن هو بمثابة رفع مستوى العلاقة الثنائية الوثيقة بين البلدين إلى ما يمكن وصفه بتحالف، غير أيديولوجي، ولكن منفعي وعملي ومبني على تنسيق متطور بين البلدين للتصدي لواشنطن وحلفائها وخاصة في المناطق التي تعتبرها كلتا الدولتين أنها تشكل تهديدا لمصالحها الحيوية.
حتى قبل اندلاع الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوكرانيا، كان الرئيس بايدن يصف التوازنات الدولية الراهنة بأنها مواجهة بين تحالف الديمقراطيات في العالم الذي تقوده، أو يفترض أن تقوده، الولايات المتحدة، في وجه كتلة الأوتوقراطيات الصاعدة في العالم بقيادة الثنائي الروسي والصيني.
وخلال الأزمة الراهنة، نجحت إدارة الرئيس بايدن إلى حد كبير في تعزيز التنسيق والعلاقات بين واشنطن وبقية دول الناتو، بعد السنوات الأربع العجاف للرئيس السابق ترامب، الذي كان يشكك دوما بجدوى الناتو، كما عبأ بايدن وكبار مساعديه الرأي العام الأميركي والغربي للوقوف وراء فرض عقوبات اقتصادية شاملة ومؤلمة ضد روسيا في حال غزوها لأوكرانيا، وحقق بايدن ذلك على خلفية تعزيز الدعم العسكري للناتو وتسليح أوكرانيا مباشرة، وتشجيع دول الحلف على أن تحذو حذو واشنطن في هذا السياق.
ولكن هذا الأداء الجيد لإدارة بايدن، لا يخفي حقيقة أن الأنظمة والمؤسسات الديمقراطية في العالم إما في موقع دفاعي أو في حالة تراجع في وجه المّد الأوتوقراطي الذي وصل إلى أوروبا كما يتبين من النهج المناوئ للديمقراطية الذي اعتمدته دول مثل هنغاريا وبولندا ، وجنوح دول مثل الهند والبرازيل إلى تبني ممارسات أوتوقراطية، وسياسات طائفية وتمييزية ضد المواطنين المسلمين في حالة الهند.
وهذا الجنوح الأوتوقراطي في الغرب وصل إلى الولايات المتحدة خلال ولاية الرئيس ترامب، ولا يزال السمة الأساسية التي تميز قاعدة الحزب الجمهوري، التي لا تزال تقف بأكثريتها وراء رئيس حوكم مرتين في الكونغرس.
التحالف الديمقراطي الذي يريد بايدن أن يقوده مؤلف بمعظمه من دول أوروبية تواجه تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية هامة تهدد جبهاتها الداخلية بسبب الخلافات العميقة حول قضايا خلافية وجوهرية مثل الهجرة وتحديات اللاجئين الذين يواصلون قرع أبواب القارة هاربين من دول فاشلة أو تشرف على الفشل والنزاعات الأهلية في آسيا وأفريقيا.
عندما أرسل بوتين قواته لغزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2014، تعرضت روسيا إلى عقوبات غربية، ولكنها لم تكن مؤلمة كثيرا لروسيا ولم ترغم بوتين أو أركان قيادته على دفع ثمن باهظ لانتهاكاتهم لأوكرانيا وللقانون الدولي.
وبدلا من أن تتحرك دول أوروبا الغربية، وتحديدا ألمانيا، لتقليص اعتمادها على إمدادات الغاز الطبيعي والنفط من روسيا، زادت من اعتمادها على الصادرات الروسية، وخاصة بعد أن قررت برلين وقف العمل في مفاعلاتها النووية في أعقاب الكارثة النووية في مفاعل فوكوشيما في اليابان عام 2011.
ألمانيا استثمرت أكثر من 11 مليار دولار لإقامة خط أنابيب الغاز الطبيعي المعروف باسم “نورد ستريم-2” لزيادة مستورداتها من الغاز الروسي.
الآن تسعى إدارة الرئيس بايدن لزيادة صادراتها من الغاز إلى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية في الوقت الذي تحاول فيه إقناع الدول الأخرى المصدّرة للغاز، مثل قطر، تصدير هذه الطاقة إلى أوروبا لتحرير دول القارة من الاعتماد الخطير على روسيا.
العدوانية الروسية ضد أوكرانيا، والعدوانية الصينية ضد تايوان هي جزء من هذا الجنوح الأوتوقراطي العالمي الذي تمارسه دول أوتوقراطية وعدوانية أخرى مثل إيران، وهو ما نراه حتى في دول كانت تعتبر ديمقراطيات ناقصة أو شعبوية مثل الهند، كما يتبين من إجراءاتها القمعية ضد المسلمين وتحديدا سكان ولاية كشمير، وعدوانية النظام التركي تجاه سوريا واحتلاله لشمال سوريا، وانتهاكاته الداخلية لحقوق الإنسان وقمع حريات التعبير.
هذه العدوانية الأوتوقراطية تعكس تقويما شائعا وهو أن الدول ذات الأنظمة الديمقراطية المفتوحة ضعيفة وغير فعالة وعاجزة عن اتخاذ إجراءات الحسم السريعة كما يفعل القادة المتسلطين سواء كانوا في موسكو، أم بكين، في الرياض أم في القاهرة.
سلوك هذه الدول، وخاصة روسيا والصين، يبين أنها تتصرف وكأنها سوف ترث العالم بعد وصول الأنظمة الديمقراطية إلى مرحلة العجز في حكم مجتمعاتها التي تعصف بها الانقسامات الداخلية، أو حالة العجز في إدارة النظام الدولي بدرجة متقدمة من الفعالية والانتظام.
الانقسامات السياسية والاجتماعية والثقافية العميقة في الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة أبرزت إلى السطح وبشكل صارخ هشاشة النظام الديمقراطي إذا لم يتحرك بسرعة لتخطي تناقضاته الداخلية بالطرق السلمية.
انتهاكات الصين القاسية ضد أقلية الأويغور، وعدوانيتها السافرة ضد تايوان، وأطماعها في أراضي جيرانها وتهديداتها لحرية الملاحة في شرق آسيا، والاعتداءات الروسية المستمرة في أوكرانيا وسوريا المباشرة أو تلك التي تتم عبر مرتزقتها المعروفة باسم تنظيم “فاغنر” التي يديرها أحد الأوليغارشيين الروس المقربين من بوتين والمعروف بعشقه لأعمال الموسيقار الألماني الكبير فيلهلم ريتشارد فاغنر، ومن هنا الاسم، تبين إلى أي مدى هذه الدول وغيرها من الدول المتسلطة الصاعدة مستعدة لتقويض الأعراف والتقاليد الدولية لخدمة أهدافها الضيقة كما تحددها هي، بغض النظر عن الإعتبارات القانونية والأخلاقية.
وبغض النظر عن كيفية تطور الأزمة الروسية-الأوكرانية والدور الأميركي فيها خلال الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، إلا أن المناورات والتحركات والائتلافات الدولية الجديدة تبين أن العالم يسير باتجاه حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.
هذه الحرب الجديدة مرشحة لأن تكون أكثر خطورة من الحرب الباردة التي برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لأنها سوف تحتدم على جبهة عالمية أوسع وسوف تشارك فيها قوى عديدة ما يعني صعوبة التنبؤ بتطورها وبكيفية احتوائها.
—————————
قمة بايدن وبوتين بوساطة ماكرون.. لماذا وافق الرئيس الأمريكي “الواثق” في غزو روسيا لأوكرانيا؟
عربي بوست
إذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن “واثقاً” بأن نظيره الروسي فلاديمير بوتين “اتخذ قرار” غزو أوكرانيا، فما الداعي لعقد قمة بين الرئيسَين بوساطة الفرنسي إيمانويل ماكرون؟
هذا السؤال يمثل الآن أحد فصول التجاذبات العلنية بين موسكو وواشنطن بشأن الأزمة الأوكرانية، التي يبدو أنها دخلت مرحلة حرجة مع استمرار القصف في الأقاليم الشرقية المجاورة للحدود الروسية.
وازداد التوتر بشأن الأزمة التي تحبس أنفاس العالم بعد أن أعلنت وزارة الدفاع في روسيا البيضاء أن روسيا ستُمدد التدريبات العسكرية في روسيا البيضاء، والتي كان من المقرر أن تنتهي الأحد 20 فبراير/شباط. وأظهرت على ما يبدو صور الأقمار الصناعية عمليات نشر جديدة للمدرعات والقوات الروسية بالقرب من أوكرانيا.
وعلى الرغم من الاختلاف الكبير حد التناقض بين وجهة النظر الروسية بشأن أزمة أوكرانيا ووجهة النظر الغربية بشأن نفس الأزمة، فإن الرئيس الأمريكي بايدن قد وضع تلك الأزمة على قمة أجندته السياسية خلال الأسابيع القليلة الماضية بصورة جعلته طرفاً أصيلاً في الأزمة العالمية الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية.
ماكرون يقترح قمة بايدن وبوتين
في الوقت الذي اشتعلت فيه الأمور في شرق أوكرانيا وبدا أن الحرب بدأت وأغلقت نافذة الدبلوماسية، جاء الإعلان عن عقد قمة بين بوتين وبايدن بوساطة فرنسية، إذ أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بايدن وبوتين وافقا من حيث المبدأ على عقد قمة بشأن أوكرانيا.
وقال مكتب ماكرون، الإثنين 21 فبراير/شباط، إن الرئيسَين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين اتفقا من حيث المبدأ على عقد قمة بشأن الأزمة الأوكرانية. وقال قصر الإليزيه: “سيتعين إعداد ما ستناقشه القمة من قِبَل وزير الخارجية (الأمريكي) بلينكن ووزير (الخارجية الروسي) لافروف خلال اجتماعهما يوم الخميس 24 فبراير. لا يمكن عقده إلا بشرط ألا تغزو روسيا أوكرانيا”.
وأضاف البيان أن ماكرون سيساعد في إعداد ما ستتناوله المحادثات، بحسب رويترز، بينما قال البيت الأبيض إن بايدن وافق على الاجتماع “من حيث المبدأ”، ولكن فقط “إذا لم يحدث غزو”.
وقالت جين ساكي، المتحدثة باسم البيت الأبيض: “إننا مستعدون دائماً للدبلوماسية”، وأضافت: “نحن مستعدون أيضاً لفرض عقوبات وخيمة وسريعة إذا اختارت روسيا الحرب بدلاً من ذلك”.
القمة المفترضة إذاً مشروطة من الجانب الأمريكي، بألا يحدث “الغزو الروسي” لأوكرانيا، علماً بأن حديث الغزو نفسه حديث أمريكي استخباراتي وسياسي تنفيه موسكو بشكل علني طوال الوقت.
رئيس أوكرانيا زيلينسكي مع ماكرون وبوتين في باريس، أرشيفية 2019/ TASS
وتطرح موافقة بايدن، حتى وإن كانت من حيث المبدأ، على عقد تلك القمة مع بوتين تساؤلات عديدة، لأن ساكن البيت الأبيض كان قد قال للصحفيين قبل يومين فقط إنه يعتقد أن “بوتين اتخذ قرار الغزو”، على الرغم من أن بايدن كان قد حدد يوم 16 فبراير/شباط موعداً لغزو أوكرانيا من جانب روسيا وهو ما لم يحدث.
وقد صدر هذا الإعلان عن القمة بين الرجلين بعد سلسلة من الاتصالات الهاتفية أجراها ماكرون مع بايدن وبوتين ورئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون. ولم يعلق الكرملين ولا مكتب الرئيس الأوكراني زيلينسكي على تلك الأنباء حتى ظُهر الإثنين 21 فبراير/شباط.
لكن وسائل الإعلام الأمريكية انقسمت بشكل واضح حول قرار بايدن الموافقة على لقاء بوتين في هذا التوقيت؛ بين فريق يرى ذلك خطأ؛ لأنه يمثل مكافأة للرئيس الروسي، وفريق آخر يراها خطوة ذكية من بايدن قد تفتح الباب مرة أخرى أمام الحلول الدبلوماسية وإسكات أصوات المدافع التي انطلقت بالفعل.
مخاطرة من جانب بايدن
“لماذا تعتبر القمة مع بوتين مخاطرة ضخمة من جانب بايدن؟”، تحت هذا العنوان جاءت تغطية شبكة CNN الأمريكية لتلك القمة المقترحة، على الرغم من عدم توفر تفاصيل كثيرة بشأنها بعد، وكان السؤال الرئيسي المطروح هو: إذا كان بايدن واثقاً من أن بوتين قرر غزو أوكرانيا، فلماذا إعلان الموافقة على عقد قمة معه؟
وأجاب وزير الخارجية أنتوني بلينكن بالقول إن كل شيء يتوقف على ما إذا كانت روسيا ستغزو أوكرانيا أم لا، وهذا الكلام ينطبق أيضاً على اجتماع مقرر بينه وبين نظيره الروسي سيرغي لافروف في جنيف الخميس 24 فبراير/شباط.
لكن خلال ذلك التفسير الذي قدمه الوزير الأمريكي، كان هناك إصرار على أن روسيا قد قررت بالفعل غزو أوكرانيا وأن الأمر أصبح مسألة وقت فقط، مضيفاً أن الموافقة من جانب الرئيس الأمريكي على لقاء نظيره الروسي تعني أن واشنطن ستواصل السعي نحو حلول دبلوماسية طالما أن “الدبابات والطائرات الروسية لم تبدأ عملها بعد داخل الأراضي الأوكرانية”.
وقبل ساعات فقط من الإعلان عن موافقة بايدن على القمة، أعلنت تقارير استخباراتية أمريكية أن بوتين أعطى بالفعل أوامره للقادة الميدانيين بالبدء “في تنفيذ الغزو”، وهو ما طرح تساؤلات من جانب أطراف أمريكية بشأن إذا ما كان بايدن يريد تقديم “تنازلات” للرئيس الروسي لثنيه عن تنفيذ الغزو، بحسب تحليل الشبكة الأمريكية.
قوات روسية بالقرب من الحدود مع أوكرانيا – رويترز
لكنَّ مسؤولين أمريكيين يرون أنه لو نجح الإعلان عن تلك القمة بين بايدن وبوتين، والتي لن تنعقد بطبيعة الحال قبل اجتماع بلينكن ولافروف الخميس المقبل، فإن ذلك يعتبر نجاحاً للاستراتيجية التي تتبعها إدارة بايدن وهي “تسريب المعلومات الاستخباراتية” بصورة غير مسبوقة ومن ثم ردع روسيا عن غزو أوكرانيا.
وربما يكون أكثر ما يميز تلك الأزمة، التي يعتبرها بايدن الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، هو ذلك التدفق الكبير للمعلومات بشأن روسيا وتفاصيل حشودها العسكرية ومؤامراتها الهادفة إلى زعزعة استقرار أوكرانيا، بحسب وصف تلك التقارير الاستخباراتية الأمريكية.
وعلى الرغم من أن روسيا تصر، منذ اللحظة الأولى لانتشار تلك التقارير، على أنها لا تنوي مهاجمة أوكرانيا، فإن التقارير الاستخباراتية الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، لا تتوقف ولا يكاد يمر يوم دون “تسريب” تقارير استخباراتية جديدة عن تلك الأزمة. والتسريب يتم بشتى الطرق، وبصورة مكثفة أصابت خبراء الجاسوسية ومتخصصي الاستخبارات بالقلق الشديد، لأن إدارة بايدن ربما تخاطر بفقدان أجهزة الاستخبارات الأمريكية مصداقيتها، بحسب تقرير لمجلة Politico عنوانه “مجتمع الجواسيس قلق من تسريب فريق بايدن معلومات حول روسيا”.
هل عقد قمة بوتين وبايدن أصبح محسوماً؟
لكن على الرغم مما أثاره الإعلان عن نجاح وساطة ماكرون في اتفاق بايدن وبوتين على عقد قمة بينهما، هناك مؤشرات عديدة على أن تلك القمة قد لا تنعقد من الأساس؛ إذ قال مسؤول بإدارة بايدن في رسالة بالبريد الإلكتروني لرويترز إن تلك القمة “افتراضية تماماً” لأنه لم يتم تحديد التوقيت والشكل بعد.
مايكل ماكفول، السفير الأمريكي السابق لدى روسيا، قال إنه يشكك في أن هذه القمة سوف تعقد، وأضاف في رسالة على تويتر: “لكن إذا التقى بايدن وبوتين فعليهما دعوة (زيلينسكي) للانضمام”.
ويضيف تعالي طبول الحرب خلال الأيام القليلة الماضية في شرق أوكرانيا مزيداً من الشكوك حول احتمال إقامة تلك القمة، حيث زادت حدة القصف المتقطع عبر الخط الفاصل بين القوات الحكومية الأوكرانية والانفصاليين منذ الخميس 17 فبراير/شباط، واستمرت أصوات القتال حتى الإثنين عندما سُمع دوي انفجار في وسط مدينة دونيتسك التي يسيطر عليها الانفصاليون. وكان سببه غير معروف.
أوكرانيا
أوكرانيا تستعد لحرب روسية مُحتملة – رويترز
وذكرت وكالة الإعلام الروسية أن انفصاليين مدعومين من روسيا في شرق أوكرانيا أعلنوا، الإثنين، مقتل مدنيين اثنين في قصف للقوات الحكومية في كييف، ونقلت الوكالة عن ممثلي جمهورية لوهانسك الشعبية المعلنة من جانب واحد قولهم إن الحادث وقع في ساعة متأخرة من مساء الأحد.
واتهمت كييف القوات الموالية لروسيا بقصف مواطنيها في شرق أوكرانيا لإلقاء اللوم في الهجمات على القوات الحكومية الأوكرانية. وأدى القتال والتدريبات العسكرية الروسية المستمرة إلى توتر أوروبا. وقال رئيس الوزراء التشيكي بيتر فيالا في مقابلة تلفزيونية إن القارة على شفا كارثة. وأضاف: “ليس من قبيل المبالغة القول إن أوروبا تبتعد خطوة عن الحرب وهو أمر لم يكن متصوراً قبل وقت ليس بطويل”.
وقال البيت الأبيض إن بايدن ألغى زيارة لولاية ديلاوير وسيبقى في واشنطن عقب اجتماع استمر ساعتين لمجلس الأمن القومي الأمريكي، كما تحدثت شركة ماكسار الأمريكية لصور الأقمار الصناعية عن عمليات نشر جديدة متعددة لوحدات عسكرية روسية في الغابات والمزارع والمناطق الصناعية على بُعد 15 كيلومتراً من الحدود مع أوكرانيا وهو أمر قالت ماكسار إنه يمثل تغييراً عما شوهد في الأسابيع الأخيرة.
وقالت الشركة: “حتى وقت قريب، شوهدت معظم عمليات الانتشار متمركزة بشكل أساسي في أو بالقرب من حاميات عسكرية ومناطق تدريب موجودة”. وقال بلينكن لمحطة “سي إن إن” إن جميع الدلائل تشير إلى أن روسيا على وشك الغزو، لكن روسيا نفت مراراً وجود مثل تلك الخطط.
—————————-
التوتر الروسي-الأميركي يتسلل إلى سورية: ساحة مفتوحة للمناورات العسكرية/ أمين العاصي
ينعكس التوتر والتصعيد بين روسيا والغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية، حول أوكرانيا، على سورية التي تحوّل قسم كبير من جغرافيتها إلى منطقة نفوذ روسي بلا منافس، تتخذ منها موسكو ميداناً لإيصال الرسائل المختلفة وفي كل الاتجاهات.
وقد اقتربت الطائرات الروسية، أمس الأحد، من منطقة التنف في المثلث الحدودي بين سورية والعراق والأردن، والتي تضم أكبر قواعد التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي تقوده واشنطن، وفق فصيل “مغاوير الثورة” المعارض والعامل في نطاق القاعدة.
اقتربت طائرات روسية أمس الأحد من منطقة التنف التي تضم أكبر قواعد التحالف الدولي
مناورات عسكرية روسية شمال نهر الفرات
ويأتي ذلك بعدما بدأت القوات الروسية، أول من أمس السبت، مناورات عسكرية بمشاركة طائرات حربية في عدة قرى تقع إلى الشمال من نهر الفرات في ريف دير الزور، شرقي سورية، وفق مصادر محلية، أشارت إلى أن المناورات أجريت بالذخيرة الحية بمشاركة سلاح المدفعية.
ولا تبعد هذه القرى التي تسيطر عليها المليشيات الإيرانية سوى عدة كيلومترات عن أكبر القواعد الأميركية في شرق الفرات، وهي قاعدة “العمر” ضمن حقل نفطي شهير يحمل الاسم ذاته. وتتخذ المليشيات الإيرانية من هذه القرى منصات إطلاق صواريخ وقذائف هاون ضد القاعدة بين وقت وآخر.
وتتزامن هذه المناورات مع تدريبات تجريها القوات الروسية في قاعدة حميميم بريف اللاذقية، غربي سورية، وقد تخللها أخيراً استخدام صواريخ “كينجال” الأسرع من الصوت للمرة الأولى في سورية.
وقد أكدت صحيفة “إزفيستيا” الروسية، أول من أمس السبت، أن طيارين روساً اختبروا في الأيام الأخيرة صواريخ “كينجال” في سورية، حيث حلقت طائرات من طراز “ميغ -31 كا” مزودة بتلك الصواريخ فوق البحر الأبيض المتوسط للمرة الأولى.
وأضافت أن طائرات متوسطة المدى مضادة للغواصات من طراز “IL-38” ومجموعة تغطية من مقاتلات “سو-35” و”سو-30 أس أم”، حلقت أيضاً في أجواء البحر الأبيض المتوسط.
وكان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو حضر، الثلاثاء الماضي، تدريبات واسعة النطاق أجراها الجيش الروسي على الساحل السوري، الذي بات منطقة نفوذ روسي بلا منافس.
وذكرت وزارة الدفاع الروسية، في بيان، أن مقاتلات “ميغ -31 كا” تحمل صواريخ “كينجال” المضادة لحاملات الطائرات، وقاذفات “تو-22 أم”، وصلت إلى قاعدة حميميم في سورية في إطار التدريبات البحرية.
وأضافت أنه “تم نشر هذه القاذفات في حميميم على خلفية وجود مجموعات جوية تابعة لحلف شمال الأطلسي في منطقة البحر المتوسط، وستشارك في التدريبات البحرية الروسية في الجزء الشرقي من المتوسط”.
وللجانب الروسي أكثر من قاعدة في الساحل، أبرزها قاعدة حميميم التي تضم مقر قيادة القوات الروسية في سورية، ويوجد فيها ما يسمّى بـ”مركز المصالحة الروسي”، وغرفة العمليات الرئيسية التي تُدار منها الأعمال القتالية الروسية في سورية.
تحركات عسكرية للتحالف الدولي في شمال شرق سورية
وفي مقابل التحركات العسكرية الروسية، يتحرك التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة هو الآخر في شمال شرق سورية، والذي يعد جانب منه في ريفي دير الزور والحسكة منطقة نفوذ غربي.
وأجرى التحالف، يوم الجمعة الماضي، مناورات مشتركة مع “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) في ريف دير الزور الشمالي الشرقي، الخاضع لهذه القوات ويقع ضمن ما يسمى بـ”منطقة شرقي الفرات”.
وذكرت تقارير إعلامية أنه شاركت في المناورات عربات مدرعة وعشرات الجنود الأميركيين الذين يدربون عناصر “قسد” على استخدام المدفعية وقذائف الهاون والصواريخ الموجهة المضادة للدبابات. إلى ذلك، نشر الجيش الأميركي، خلال اليومين الأخيرين، مزيداً من مركبات “برادلي” القتالية في شمال شرق سورية.
ومن المتوقع أن يشهد ريف دير الزور الشرقي تصعيداً عسكرياً في حال اندلاع حرب واسعة النطاق في أوكرانيا، في سياق الضغط الروسي على الجانب الغربي.
وقد يدفع الجانب الروسي مليشيات إيرانية، تسيطر فعلياً على مجمل محافظة دير الزور، لقصف القوات الأميركية الموجودة شمال نهر الفرات حول العديد من حقول وآبار النفط في شرق وشمال شرق سورية.
تأثير التوتر الروسي الأميركي حول أوكرانيا على سورية
وفي السياق، قال العميد فاتح حسون، وهو قيادي في فصائل المعارضة السورية، في حديث مع “العربي الجديد”، إن “الملف الأوكراني من أخطر الملفات المؤثرة بتداعياتها الدولية على الملف السوري”.
وأضاف “ربطت روسيا بين الملفين (السوري والأوكراني) عندما أرسلت، الثلاثاء، وزير دفاعها إلى قاعدة حميميم لتكريم طياريها المشاركين بحرب إبادة الشعب السوري، في الوقت الذي تقرع فيه طبول الحرب على حدود أوكرانيا”.
وأعرب عن اعتقاده بأن ذلك “رسالة تعني أنه سيكون مصير الشعب الأوكراني كمصير الشعب السوري إن لم تتحقق مصالح روسيا في أوكرانيا”.
وأشار حسون إلى أنه “تواصلنا مع جهات غربية طالبين منهم الضغط على روسيا بالملف السوري، وتقديم الدعم اللازم للثوار لمواجهة روسيا على الأراضي السورية”.
وأوضح أن “أكثر ما يقلق السوريين هو أن ترضخ روسيا للدول الغربية، وتكون جائزتها زيادة نفوذ سياسي واقتصادي في حوض البحر المتوسط، وتسليمها الملف السوري برمته”.
من جانبه، رأى مدير مركز “الشرق نيوز” (موقع إخباري ومركز دراسات سوري) فراس علاوي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن سورية “لن تكون ساحة مواجهة بين الغرب والروس، إلا إذا نشبت حرب عالمية”.
وأضاف أن “هناك عدة قوى فاعلة في الملف السوري غير الروس والأميركيين، مثل تركيا وإيران”. واعتبر أن القوات الروسية الموجودة في سورية “غير قادرة على خوض معركة ضد الغرب”، مشيراً إلى أن “قاعدة إنجرليك التابعة لحلف شمال الأطلسي تقع في جنوب تركيا غير بعيد عن قاعدة حميميم”.
ولفت علاوي إلى أن “سورية ملف عالق بين موسكو والغرب، وفي حال وُضعت كل الملفات على الطاولة، فسيكون هذا الملف حاضراً بالتأكيد”.
————————–
الأزمة الأوكرانية:التحرشات الحدودية تتصاعد..وموسكو تعدّ”لوائح الاغتيالات“
أعلن الجيش الروسي الاثنين، أنه قتل خمسة “مخرّبين” جاءوا من أوكرانيا إلى الأراضي الروسية، وأن مركبتين عسكريتين أوكرانيتين حاولتا عبور الحدود أيضاً، وفق ما أفادت الوكالات الروسية.
وقال الجيش الروسي: “خلال المعارك، تمّ القضاء على خمسة أشخاص ينتمون إلى مجموعة مخربين وإلى الاستخبارات بعدما انتهكوا الحدود الروسية”، مؤكدا أن الحادث وقع في منطقة روستوف في وقت مبكر من صباح الاثنين، قرب منطقة ميتياكينسكايا.
ودخلت مركبتان قتاليتان تابعتان للقوات المسلحة الأوكرانية إلى روسيا من أوكرانيا “لإجلاء مجموعة المخربين إلى أوكرانيا عبر الحدود”، وفق الجيش. ولفت إلى أنه لم يصب أي جندي أو عنصر من حرس الحدود الروسي في تلك العملية.
لكن أوكرانيا نفت رسمياً إرسال “مخرّبين” إلى روسيا. وقال أنتون غيراشتشينكو وهو مسؤول كبير في وزارة الداخلية الاوكرانية للصحافيين: “لم يعبر أحد من جنودنا الحدود مع روسيا ولم يقتل أي منهم اليوم”.
وصباح الاثنين، أكدت روسيا أن قذيفة أطلقت من الأراضي الأوكرانية دمرت مركزاً حدودياً روسياً في منطقة روستوف. وقال جهاز الأمن الروسي إن قذيفة أوكرانية استهدفت نقطة تفتيش روسية في روستوف على الحدود بين البلدين، في حين نفت وزارة الدفاع الأوكرانية أن تكون استهدفت المركز الحدودي الروسي.
ونقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن وزارة الداخلية الروسية قولها إن “قذيفة أطلقت من أوكرانيا أصابت نقطة تفتيش حدودية تابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي في منطقة روستوف”.
وأشارت الوزارة إلى أن القذيفة لم تتسبب بأية إصابات، وقال موقع روسيا اليوم أن النقطة التي دُمرت تقع على بعد 150 متراً عن الحدود مع أوكرانيا.
وفي السياق، أفاد مراسل وكالة “سبوتنيك” في جمهورية دونيتسك الاثنين، عن سماع دوي انفجارات عنيفة في منطقة مطار دونيتسك، الجمهوية الانفصالية الواقعة في إقليم دونباس الأوكراني.
وقالت الوكالة إنها أجرت عمليات رصد لإطلاق قذائف أوكرانية من أربعة اتجاهات استهدفت جمهورية دونيتسك، من ضمنها قذائف محظورة في اتفاقيات مينسك، بحسب لجنة التنسيق المشتركة.
انتشار روسي
بالتوازي مع ذلك، أظهرت صور ملتقطة بالأقمار الصناعية عمليات انتشار جديدة لقوات روسية ومعدات عسكرية على الحدود الأوكرانية، حسبما أكدت شركة “ماكسار” الأميركية للصور.
وتظهر الصور “عمليات انتشار ميدانية متعددة جديدة لمعدات مدرعة وقوات” تخرج من مواقع عسكرية موجودة في غابات وحقول على بعد نحو 14 إلى 30 كيلومتراً من الحدود الروسية-الأوكرانية.
وتبيّن هذه الصور الجديدة التي التقطت الأحد على ما يبدو، مسار مركبات تعبر حقولاً مغطاة بالثلوج وتحيطها غابات وطرق، ويمكن أيضاً رؤية مبانٍ عدة، بحسب وكالة “فرانس برس”، فيما يشير تحليل صور الأحد وصور أخرى التقطت في 13 شباط/فبراير، إلى تحركات لقوات ومعدات قرب ثلاثة مواقع في جنوب غرب روسيا.
قوائم اغتيالات
وفي السياق، قالت صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية إن تقارير استخباراتية لدى مسؤولين في الإدارة الأميركية تشير إلى أن روسيا لديها “قائمة اغتيالات” لشخصيات أوكرانية ومعارضين لموسكو “سيتم قتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات” في حال قيام موسكو بغزو أوكرانيا.
وقالت الصحيفة إن الولايات المتحدة أبلغت الأمم المتحدة أن لديها معلومات موثوقة تظهر أن روسيا أعدت قائمة بأسماء الأوكرانيين الذين تنوي “قتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات”. وجاء هذا التحذير في رسالة إلى مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان ميشيل باشليه.
وتقول الرسالة إن خطط موسكو لما بعد غزو أوكرانيا تشمل التعذيب والإخفاء القسري و”التسبب في معاناة إنسانية على نطاق واسع”. غير أن الرسالة لا توضح طبيعة المعلومات التي استندت إليها واشنطن في تقييمها، حسبما أوردت “واشنطن بوست” في تقريرها.
وقالت سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة في جنيف باثشيبا كروكر في الرسالة التي بعثت بها إلى باشليه: “أود أن ألفت انتباهكم إلى معلومات مثيرة للقلق حصلت عليها الولايات المتحدة مؤخرا تشير إلى أن هناك انتهاكات لحقوق الإنسان وتجاوزات تعقب غزواً آخر يجري التخطيط لها”.
وأضافت أن “مثل هذه الأفعال، التي ادرجت في عمليات غزو روسي سابقة على اغتيالات مستهدفة وحوادث اختطاف/اختفاءات قسرية واعتقالات جائرة واللجوء إلى التعذيب، تستهدف على الأرجح أولئك الذين يعارضون التصرفات الروسية”.
وقالت كروكر إن الأهداف العسكرية الروسية تشمل معارضين روساً وبيلاروسيين يقيمون في المنفى بأوكرانيا، وصحافيين ونشطاء لمكافحة الفساد، و”المستضعفين من السكان مثل الأقليات الدينية والعرقية والشواذ جنسيا”.
وتابعت السفيرة الأميركية في رسالتها قائلة: “لدينا على وجه التحديد معلومات موثوقة تفيد بأن القوات الروسية أعدت قوائم بأسماء أوكرانيين محددين لقتلهم أو إرسالهم إلى معسكرات بعد احتلال عسكري”، مضيفة أن إدارة الرئيس جو بايدن تملك أيضا معلومات تشي بأن القوات الروسية ستستخدم على الأرجح “تدابير فتاكة” لقمع احتجاجات سلمية أو “ممارسات سلمية ذات مقاومة ملموسة من قبل سكان مدنيين”.
—————————-
أهداف الغرب من “شفافية” الحديث عن خطط روسيا العسكرية.. “حرب أعصاب تفاوضية”/ ناصر السهلي
تزايد مؤخرا الجدل حول أهداف واشنطن وأوروبا من تكثيف الكشف العلني عن حجم وأهداف الحشود العسكرية الروسية حول أوكرانيا، الأمر الذي دفع خبراء في الشأن الروسي والدفاعي إلى اعتبار ذلك أنه يأتي في سياق “حرب الأعصاب” في التفاوض مع روسيا.
تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، ليلة الجمعة/ السبت، عن هجوم وشيك واستهداف العاصمة الأوكرانية كييف، بعيد ساعات من نشر وزارة الدفاع البريطانية فيديو يوضح بلغة إخبارية حجم الحشود الروسية والسيناريوهات المتوقعة، مع ملاحظة اختتام التقرير بالحديث عن الخيار الدبلوماسي، ليست وغيرها بمعزل عما يُطلق عليه “حرب أعصاب على طاولة التفاوض”.
وتسليط الضوء على كل التفاصيل دفع الروس، يوم 14 فبراير/شباط الجاري، للخروج متهكمين من مواعيد “بدء اجتياح أوكرانيا”، مطالبين بتذكيرهم بالموعد الدقيق في المرة القادمة، فيما يبدو أن الغرب غير مكترث للتهكم الروسي ومحاولته تكذيب المعلومات.
ويذهب بعض الخبراء والمحللين في الشأن الروسي والدفاعي إلى تقديم أجوبة عن أهداف الغرب الحقيقة من الحديث عن حجم الانتشار العسكري الروسي، أو حتى حول مواعيد اجتياح أوكرانيا، حيث لا يرى هؤلاء أنها مجرد “أخطاء غربية” في التحليل والمواقيت، بل تندرج في خانة “حرب أعصاب” بين الطرفين.
ويرى خبراء أن روسيا تبث خطابًا عن أوروبا بـ”دافع من واشنطن”، التي تعيش حالة “خوف زائف من روسيا، يمكن قراءتها كتهديد للقارة العجوز”.
“شفافية” متعمّدة تغضب موسكو
الرسائل الموجهة من الغرب إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقول له “نعرف ما تخطط له ونراقبك”، وفقا لملحق الدنمارك العسكري السابق لدى أوكرانيا كلاوس ماتيسين في تصريحات للتلفزة الدنماركية السبت.
واعتبر هذا الخبير في الشأن الروسي، وهو اليوم أستاذ مشارك في “أكاديمية الدفاع” في كوبنهاغن، أن تصريحات الغرب “ليست اعتباطية”. كما يقرأ الخبير بيانات واشنطن وحلف شمال الأطلسي عن “نوايا وتحركات موسكو” أنها تأتي “في إطار استراتيجية حرب أعصاب مقصودة في التفاوض”، كما ينظر إلى مناورات موسكو الأخيرة باعتبارها تأتي بهدف “نشر أجواء عدم اليقين، وسط اعتقاد بأن ذلك يمنحها قوة في التفاوض”.
أكثر من ذلك، فإن عددا من الخبراء يرى أن الاصطفافات الغربية الأخيرة، مثل موافقة كوبنهاغن على نشر قواعد أميركية في خطوة غير مسبوقة باعتبارها زيادة في جرعة العسكرة وتحالفاً أقوى بين ضفتي الأطلسي، أحد نتائج التوتر الأخير.
ومن وجهة نظر الخبير في الشأن الدفاعي ماتيسين، فإن حرب الأعصاب الحالية “تكتيك أميركي متعمد. هم يطرحون جميع المعلومات على الطاولة، مستفيدين من تجربة الارتباك بعد احتلال جزيرة القرم في 2014”.
ويرى أن سياسة طرح المعلومات الاستباقية للرأي العام هي في إطار القول إن “الغرب يعرف ما تخفيه روسيا، وذلك يساهم في تبديد المبادرات العسكرية الفجائية”.
غير بعيد عن ذلك، فإن ما يجري من تطورات على مدار الأيام الماضية في شرق أوكرانيا يعده مراقبون أحد الأمثلة التي يقدمها الغرب لتأكيد صحة الإشارة السابقة إلى أن موسكو “تخطط لافتعال ذريعة للغزو”، وهذه المرة بفيديو قصف مدفعي أمس السبت أثناء وجود طواقم صحافية مع مسؤولين أوكرانيين عند نقاط التماس.
من جهته، يذهب الكرملين، على لسان المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، إلى اتهام الغرب وتصريحاته عن “هجوم وشيك” بـ”المساهمة في تصعيد التوترات”، واصفا التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي بأنها “هستيريا إعلامية”.
ويرى خبير آخر في الشؤون الدفاعية في الدنمارك يدعى فيغو ياكوبسن أن التقارير الاستخبارية الغربية عن زيادة الحشود الروسية “عكس ما تدعيه موسكو، يضعها في موقف صعب ومتناقض”. ويعتبر أن الروس الآن “في حالة غضب شديد بسبب الشفافية الغربية. فهم أرادوا الغموض ورقةَ تفاوض لانتزاع تنازلات مكتوبة، لأن معظم المؤشرات تضع اللوم على الروس في حال نشوب مواجهة عسكرية، فلا أوكرانيا ولا (الناتو) سيبدوان في موقف المبادر”.
وفي ألمانيا، التي قاطعت موسكو فيها مؤتمر ميونخ، يذهب ستيفان مايستر، أحد أبرز خبرائها في الشؤون الروسية، إلى اعتبار “الشفافية القصوى” عدوا رئيسا لبوتين.
ويقرأ مايستر ردود أفعال موسكو على الشفافية والكشف عن تحركاتها العسكرية بتسريب مطالبها من الغرب، وهو يشير بذلك إلى نشر الصحافة الغربية تسريبا روسيا متعمدا لمطالب تتمثل بشكل رئيس في “سحب الغرب جميع الأسلحة التي سلمت إلى أوكرانيا، إضافة إلى سحب واشنطن جميع قواتها من وسط وشرق أوروبا، ومن دول البلطيق”، مع الإشارة إلى أن اتخاذ عكس ذلك “سيضطر روسيا لاتخاذ إجراءات عسكرية”.
ويعتبر ستيفان مايستر أن نشر الغرب معلومات صريحة عن التحركات الروسية “جزء واعٍ من الاستراتيجية الذكية. فهم يظهرون للروس باستمرار: نحن نرى ما تفعلونه، ولا يمكنكم الخداع للحصول على أعذار لبدء الهجوم”.
وشدد مايستر، في سياق قراءات غربية كثيرة، على أن زيادة الحديث عن اقتراب الهجوم تساهم بكشف تكتيكات موسكو لفرض تنازلات، معتبراً أن “ممارسة أقصى قدر من الشفافية، والدعوة إلى الحوار، لا يأتيان في مصلحة موسكو”.
وتزايد كشف تحركات روسيا وتوجيه الاتهامات لها بالوقوف وراء القرصنة السيبرانية وخوض حرب هجينة يجعلان الأوروبيين والأميركيين يتعاملون مع السياسة الأمنية الأوروبية بالدفع نحو تعزيز حلف شمال الأطلسي، وفقا لما يتفق فيه مايستر مع عدد واسع من الخبراء الأوروبيين والأميركيين.
——————————
هل هناك تأثير ما بين الأزمتين الأوكرانية والسورية؟ كارثة كيف يفكر أعضاء مجلس الشعب السوري/ رامي الشاعر
لا زالت بعض الأصوات من هنا وهناك تربط ما بين الأزمتين الأوكرانية والسورية، بل وتقترح أن أزمة منهم يمكن أن تؤثر على حل الأخرى.
بدوري أقول وأؤكد بكل اطمئنان أنه لا يوجد أي تأثير مباشر بين الأزمتين
حتى ولو كان هناك قدر من التشابه. فكلاهما قد نشأ بسبب تدخلات خارجية، حيث نشأت الأزمة السورية في خضم ما سمي بـ “الربيع العربي”
والثورة السورية التي وإن قامت لأسباب موضوعية تتمثل في تفاوت مستوى المعيشة وتدهور الوضع الاقتصادي وغلاء الأسعار وتكلس الوضع السياسي، وقامت على أكتاف معارضة مدنية مطعّمة بنكهة إسلامية
لكنها لم تلبث أن تحوّلت إلى تمويلات خارجية لتنظيمات متطرفة وإرهابية عابرة للدول، تاهت وسطها ألوان المعارضة الأخرى، ثم انتقلت إلى احتلال صريح للأراضي السورية، وأوهام قيام ما سمي بـ “الخلافة الإسلامية” ممثلة في داعش وأخواتها، إلى جانب أوهام انفصالية أخرى بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع.
أما الأزمة الأوكرانية فقد نشأت استناداً إلى انقسام سياسي أوكراني داخلي ما بين تيارات ترغب في الإبقاء على العلاقات التاريخية مع روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق
وتسعى للإبقاء على ربط مصيرها واقتصادها بها، وتيارات أخرى ترغب في التوجه غرباً نحو الاتحاد الأوروبي و”الناتو”، ما يثير حفيظة روسيا لما في ذلك من تهديد على الأمن القومي الروسي.
ولم تلبث الأزمة في 2014 أيضاً أن تحوّلت إلى بؤرة تمويلات غربية سخية لدعم الانقلاب، ثم دعم بالأسلحة والعتاد وصل ذروته في الأشهر الماضية، رغبة من الولايات المتحدة الأمريكية في دق إسفين ما بين روسيا وأوروبا.
كذلك فإن حل هاتين الأزمتين يكمن في تنفيذ القرارات المعتمدة من جانب مجلس الأمن، وهي قرار مجلس الأمن رقم 2254 بشأن سوريا، واتفاقيات مينسك التي صدق عليها مجلس الأمن بشأن أوكرانيا.
تلك أوجه التشابه بين الأزمتين، ولا يوجد أي سبيل للخروج منها سوى بتنفيذ تلك الاتفاقيات بدقة وصرامة، إلا أن ذلك يتطلب شفافية ومصداقية من الأطراف التي تشرف على ذلك التنفيذ، وما هو ما نفتقده في كلا الأزمتين. لكنني لا أجد أي تأثير مباشر أو غير مباشر في حل أي من الأزمتين على حل الأخرى.
أنتهز هذه الفرصة كي أوجه رسالة إلى السوريين:
أما آن الأوان للقيادات في دمشق والمعارضة أينما كانت أن يتخلوا عن المساهمة المباشرة في تفاقم الأوضاع المعيشية لعامة الشعب السوري. أما آن الأوان للتخلي عن النهج المدمّر الذي يطيح بالأخضر واليابس في سوريا.
إن أحداً لن يمد يد المساعدة لسوريا والسوريين، قبل أن يساعدها أهلها وقياداتها، ويبادروا بإنهاء الخلافات والانتقال السياسي الفوري حسبما ينص القرار 2254
الطريق الوحيد لاستعادة وحدة الأراضي السورية، والأهم من ذلك رفع العقوبات والحصار الاقتصادي عن سوريا وإنقاذ الشعب السوري، وبدون ذلك لن يتعافى الاقتصاد السوري ولن يتوقف انهياره اليومي.
ألم تستوعب القيادة في دمشق هذه الحقيقة حتى اللحظة؟ ألم تستوعبها قيادات المعارضة في كل مكان؟
زار موسكو الأسبوع الماضي لجنة متابعة الحوار الوطني السوري، والتي تضم ثلاثة من أعضاء مجلس الشعب.
ما يدهش المرء حقاً أنهم جاءوا ليصرخوا في وجه موسكو بأن الشعب السوري يعاني الجوع والبرد والفقر وأزمة إنسانية طاحنة تتحمل مسؤوليتها روسيا، التي يجب أن تضطلع بمسؤوليتها عن انهيار الوضع الاقتصادي في سوريا.
لم تتوقف الوقاحة عند هذا الحد، بل رأى الأصدقاء أن روسيا مجبرة على تقديم تعويضات كبيرة عن الدور الكبير والتضحيات الغالية التي قدّمها الشعب السوري من أجل “استعادة مكانة روسيا ووزنها في السياسة الدولية”، حيث دفع الشعب من أجل ذلك ثمناً غالياً من أرواح خيرة شبابه.
كان هذا ما سمعناه الأسبوع الماضي في موسكو من وفد دمشق. ولهذا أود الإشارة أن روسيا تواجدت وتتواجد اليوم على الأراضي السورية بدعوة رسمية من الحكومة الشرعية في البلاد لمهمة محددة هي مساعدة الشعب السوري في القضاء على التنظيمات والعصابات الإرهابية والحفاظ على نظام التهدئة ووقف إطلاق النار
الذي نجح في التوصل إليه مسار أستانا (روسيا وتركيا وإيران). أما قضايا الحفاظ على السيادة ووحدة الأراضي السورية والتوافق السوري السوري، وعودة تعافي الاقتصاد وغيرها من القضايا محلية الطابع، فهي من مهام السوريين.
فعلى الرغم من جميع المبادرات الشعبية والحكومية الروسية لمساعدة الشعب السوري الصديق، إلا أن روسيا
في نهاية المطاف، لديها أسقف للحركة في مجال التبرعات والهبات الخيرية، ولا تستطيع الشركات الروسية، مهما كانت قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية مساعدة الاقتصاد السوري، طالما عجزت سوريا عن الانتقال إلى أجواء سياسية أخرى، ونظام آخر وفقاً لما ورد في قرار مجلس الأمن رقم 2254.
على الجانب الآخر، تابعنا الندوة التي بادرت بها بعض شخصيات المعارضة، واستضافتها العاصمة القطرية الدوحة، وكنا نتشوق أن تخرج تلك الندوة بتوصيات ونتائج وطروحات واقعية، وأن يستغل الأخوة في المعارضة الفرصة التي منحتها إياهم دولة قطر مشكورة، إلا أنهم خذلوها وخذلوا قبها الشعب السوري والوطن السوري.
عاد هؤلاء لإنشاد الأسطوانة المشروخة مجدداً، التأكيد على فقدان “النظام” لشرعيته وأهليته لحكم البلاد، رفض عودة سوريا بشكلها الحالي إلى الجامعة العربية، “استعادة سائر الأراضي السورية وتحريرها من الاستبداد”
“التحذير من محاولات النظام وحلفائه توظيف معاناة السوريين لجلب الأموال الخارجية تحت شعار إعادة الإعمار والتعافي المبكر”. وكأن حرباً أهلية لم تندلع، وكأن مسار أستانا لم يكن، وكأننا نبدأ من المربع صفر.
وكأنهم بـ “حصارهم للنظام” يحاصرون الأسد فيدفعونه للرحيل مثلاً، بينما ما يفعلونه على وجه التحديد هو حصار للشعب السوري قولاً وعملاً.
فما تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية على الشعب السوري هو عقاب جماعي على شعب أعزل لا ذنب له سوى أنه ضحى ويضحي من أجل استعادة السيادة على أرضه، حتى وإن اختلف مع حكومته الشرعية. تختلف القيادات ويبقى الشعب، تختلف الأنظمة ويبقى الشعب، تختلف التوجهات السياسية ويبقى الشعب. فهم يعاقبون الشعب على وجود الأسد.
لقد استمعت إلى تلك الندوة وصراخ المعارضين بشأن مزيد من التحمّل والجلد والصبر من أجل المواقف الثورية، التي ينسبونها لطموحات وآمال الجماهير، والشعب السوري أبعد ما يكون عنها. فالشعب السوري أنهكته الحرب والثورة والمجاعة واللجوء والنزوح
آن للشعب السوري أن ينعم بالأمن والاستقرار والحصول على أبسط مقومات الحياة الكريمة، وهو يستحق ذلك بكل جدارة.
لهذا فإن رسالتي للبعض ممن “يمتهنون” السياسة من الموالاة أو المعارضة، بوصفها سبيلاً مضموناً للتربح والإثراء على حساب الأزمة السورية، كفاكم متاجرة ومزايدة بالشعارات الوطنية والثورية
وكفاكم تظاهراً بأن غاية اهتمامكم وحرصكم على وضع الشعب السوري المؤلم والمريع. فشمال شرق البلاد، حيث يتواجد 4-5 ملايين من أهاليكم السوريين يعانون اليوم من عدم وجود الطحين.
وعلى الرغم من التوصل إلى اتفاق بين شركة سورية في تلك المنطقة وشركة روسية لتأمين القمح، إلا أن العائق الوحيد أمام إتمام ذلك هو عدم الاتفاق بين مجلس سوريا الديمقراطية “مسد” والسلطات في دمشق.
أي أن خمسة ملايين نسمة من الشعب السوري معرّضين لاختفاء الخبز والجوع نتيجة خلافات سياسية حول المركزية واللامركزية. فهل هذا يعقل يا أولي الألباب؟
ما قيمة الاعتزاز بشعارات السيادة أو المركزية أو الفيدرالية إذا كان الشعب الذي سيتمتع بهذه “السيادة” و”الفيدرالية” و”المركزية”
سيموت جوعاً بسبب تعنت هذا الطرف أو ذاك. وبهذه المناسبة فقد حاولت روسيا وبذلت الكثير من الجهود للتوصل إلى اتفاق بين دمشق والأكراد، إلا أنها لم تنجح حتى الآن في التوصل إلى ذلك.
فهل تفهم تلك الحقائق قيادة دمشق؟ وهل يعيها قيادة المعارضة أينما كانت؟
تلك هي كارثة الشعب السوري وسوريا.
——————————–
الرئيسان جو بايدن وفلاديمير بوتين غاضبان جداً وخائفان قليلاً / راغدة درغام
ليس مهمّاً فوز أيٍّ من الرئيسين الأميركي جو بايدن أو الروسي فلاديمير بوتين بالمبارزة، فكلاهما يدرك أن الآخر يعرف نقاط ضعفه، وأن أياديه مُكبّلة في مكانٍ ما. هذه الجولة من المبارزة أبرزت السيّد بايدن رئيساً حازماً رفض إملاءات الرئيس الروسي على ملف شمال الأطلسي (الناتو) ومزّق ورقة الضمانات الأمنية المستحيلة التي أرفقها بوتين بالتهديد بإجراءات عسكرية إذا رفض الغرب تلبيتها. وهكذا ارتفعت أسهم بايدن كقائد للغرب تحدّى الاستفزازات الروسية، ووحّد مواقف الدول الأوروبية نحو الكرملين، وحشد سلاح العقوبات المدمِّرة لروسيا إذا قامت بغزو أوكرانيا. السيّد بوتين ظهر أمام العالم في هذه الجولة من المبارزة رجلاً فولاذيّاً عندما أبلغ قيادات دول حلف شمال الأطلسي، وبالذات الولايات المتحدة، أن ضم الدول المجاورة لروسيا الى حلف الناتو يهدّد الأمن الروسي لدرجة يستحيل الانحناء أمامها لأنها مسألة وجوديّة لروسيا ولبوتين – وهما في رأيه وجهان لعملة واحدة.
ما يراهن عليه بوتين هو أن بايدن وقيادات الدول الأخرى في “الناتو” لن تتدخّل عسكريّاً في حربٍ مباشرة مع روسيا لإنقاذ دونباس من الانفصال القسري عن أوكرانيا بموجب الاستراتيجية العسكرية الروسية – وهو على حق في رهانه. ذلك أن الرئيس الأميركي لن يحارب برجاله من أجل أوكرانيا ووحدة أراضيها، ولا الدول الأوروبية ستتدخل عسكرياً لتحرير دونباس من روسيا. فلقد سبق وضمّت روسيا شبه جزيرة القرم، ولا تزال هناك، وإذا ضمّت موسكو منطقة دونباس بأهلها ذات الجذور الروسية، كما طالب الدوما الروسي الرئيس بوتين، ستكون النتيجة انتصاراً لمنطق العسكرة لحل الاختلافات بين روسيا والغرب.
إنما ماذا ستكون تكلفة ذلك النصر العسكري وهل هي ما يريده الشعب الروسي؟ هنا يتحوّل رهان بوتين الى مغامرة خطيرة لأن العقوبات التي تتربّص به وبروسيا قد تكون قاضية، بل الأرجح أن تكرسح روسيا. فمن ورّط مَن، ومَن ورّط نفسه؟ وماذا سيكون عليه اصطفاف دول العالم في حرب باردة اليوم بين روسيا والغرب في زمنٍ يختلف جداً عن اصطفافات الحرب الباردة عندما انقسم العالم بين المعسكرين الأميركي والسوفياتي واحتدّ سباق التسلّح وكذلك الحروب بالنيابة؟ أين ستقف الدول العربية في هذه الاصطفافات؟ وهل هناك من وسيلة للعودة عن حافة الهاوية لإتاحة الفرصة للدبلوماسية والتفاوض بدلاً من الانطلاق الى المواجهة؟
لا يبدو التوتّر القائم في طريقه الى الزوال بل إن المؤشرات تفيد بازدياد الضغوط وازدياد الغضب وما يترتّب عليه من اجراءات غير هادئة. موسكو مستاءة جداً من استهتار قيادات حلف “الناتو” بما وضعه بوتين على الطاولة عندما تقدّم بطلب الضمانات الأمنية أثناء ذلك الخطاب التصعيدي الشهير أمام وزارة الدفاع وكوادر كبار العسكريين في 21 كانون الأول (ديسمبر) الماضي. كتبتُ حينذاك بتاريخ 26 كانون الأول (ديسمبر) مقالاً تحت عنوان “فلاديمير بوتين لا يتقِن التراجع ولا يرغب به- وهنا المشكلة”، وقد يكون مفيداً إعادة قراءة ذلك المقال لقراءة المشهد الحالي. فقد كان ذلك الإنذار الأخير Ultimatum المرفق بالتوعّد “عسكرياً تقنياً” بمثابة زج بوتين لنفسه في الزاوية واعتلائه في قفص على سلّمٍ عالٍ يصعب جداً النزول عنه. وهو بنفسه قال حينذاك إن على الولايات المتحدة أن “تفهم أنه ليس أمامنا من مكان نتراجع اليه”. منذ ذلك الخطاب وإلى الآن، يحبس سيد الكرملين أنفاس العالم، وأنفاسه، وقد وقع شهر شباط (فبراير) الجاري بين الدبلوماسية وأعاصير المواجهة. (راجع مقالات راغدة درغام).
حاول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الانخراط دبلوماسياً مع قادة حلف “الناتو” ومع الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي للاستفهام عن المبادئ الأمنية في أوروبا التي أراد الغرب التحدّث عنها عندما ردَّ على إملاءات بوتين المستحيلة برفضٍ مهذّبٍ لها. إلاّ أن الغرب كان قد عَبَر تلك المحطّة بعدما استنتج أن روسيا تُفبرك الذرائع لتبرير غزوها أوكرانيا، فتجاهل طلب لافروف الذي كان ظنّ أن بوسعه اللعب مع الغرب لعبته الدبلوماسية. ولعلّ تلك كانت المرة الأولى التي يتلقى فيها الوزير المخضرم تجاهل زملائه، فكانت تلك رسالة قاسية.
فحوى رسالة التجاهل هو أن الدول الأعضاء في حلف “الناتو” تقف في صفٍّ واحد إزاء التصعيد الروسي في مسألة أوكرانيا ونحو “الناتو” وصلاحياته واستقلالية قراراته بما في ذلك قرار إدخال دولٍ كعضوٍ في الحلف أو نشر سلاحه في دول حلف شمال الأطلسي. فحوى رسالة التجاهل هو أن المساومات الروسية ليس مرحّباً بها في إطار إملاءات بوتين. فحواها أن الرد المتفق عليه كسياسة حازمة وحاسمة نحو روسيا فلاديمير بوتين هو العقوبات التي قد تثير الشعب الروسي ضد قيادته والتي قد تحوّل روسيا الى إيران، إذا ثابر الرئيس الروسي في مساره.
فالرئيس الروسي حشر نفسه في زاوية عسكرة الدبلوماسية، ولم يعد قادراً على اتخاذ خطوة الى الوراء. يعرف أن هناك داخل روسيا من يقف معه في وجه الغرب لأسبابٍ استراتيجية لأن الخضوع أمام إدخال أوكرانيا عضواً في حلف “الناتو” يفتح الباب لتوسيع عضوية الحلف وإدماج آخرين فيه- وهذا يطوّق روسيا ويهدّد وجودها.
لكن الرئيس بوتين يعرف تماماً أيضاً أن هناك داخل روسيا من لا يرى مبرِّراً لإعادة روسيا اقتصادياً الى الوراء ووضعها مجدّداً وراء الستار الحديدي ودفعها الى حرب باردة مُكلِفة بذريعة خطر انتماء أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي. هؤلاء يشيرون الى أن ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا دخلت الى حلف “الناتو” ولم يحدث شيء لروسيا وأمنها بالرغم من أن سان بطرسبورغ على بُعد مجرد كيلومترات عن ليتوانيا.
فلاديمير بوتين وضع نفسه في موقف دفاعي defensive فسقط في الفخ الذي نصبه له جو بايدن عندما تعمَّد أن يضع روسيا ورئيسها في موقفٍ دفاعي. في الوقت ذاته، يدعو الرئيس الأميركي نظيره الروسي الى تناسي شروطه التعجيزية والجلوس الى طاولة المفاوضات الأمنية، وهو يتصرّف بثقة من نفسه ومن قيادته لحلف “الناتو” وإحياء تعاضد صفوفه بالذات في حشد برنامج عقوبات تكرسح روسيا وبوتين معها.
ما يستفيد منه الرئيس الأميركي هو ظهور الرئيس الروسي في حال التردد بالرغم من شد عضلاته بحشوده العسكرية الضخمة على الحدود مع أوكرانيا ومناوراته العسكرية مع بيلاروسيا. حشود عسكرية يرافقها الإعلان السياسي أن روسيا لا تعتزم الغزو وأن الكلام عن الغزو ليس سوى هستيريا أميركية وغربية.
هكذا بدا فلاديمير بوتين خائفاً من الحرب إنما من دون أن يتمكّن من اتخاذ خطوات التراجع عن الحرب. وجد نفسه أمام اندفاع “الناتو” لتمكين أوكرانيا بتسليحها كما لم يسبق. وجد أن دول حلف شمال الأطلسي- بما فيها ألمانيا وفرنسا وهما طرفان في رباعية النورماندي مع روسيا وأوكرانيا لرعاية عملية مينسك- غير مستعدّة للضغط على كييف لتقبل بتغيير دستورها لتكون دولة فيدرالية أو لتقبل بتنفيذ اتفاقية مينسك التي تتمسك بها روسيا. فالغرب وأوكرانيا يدعمان استمرار “عملية” Process مينسك، لكن موسكو لا تريد مجرد “العملية”. وهكذا إن الباب الدبلوماسي عبر مينسك بات مسدوداً.
فقط الولايات المتحدة وحدها قادرة على مبادرة جديدة تحلّ مكان عملية مينسك إن كان في سياق حل مشكلة دونباس، أو في سباق ترميم العلاقة بين روسيا ودول حلف “الناتو” أو في إطار الحديث الجدّي عن الأمن الأوروبي ووسائل تجنّب المواجهة والعد العكسي الى الحرب الباردة.
المشكلة أن الرئيس بايدن غاضب وغاضب جداً من نظيره الروسي، وتصعيده، بما في ذلك توقيت طرد نائب السفير الأميركي لدى موسكو. المشكلة أنه من الصعب على جو بايدن ألاّ يستغلّ الفرصة – الهديّة التي قدّمها اليه فلاديمير بوتين ليبدو ويتصرّف كزعيمٍ للعالم الحر الذي رفض أن ينصاع الرئيس الأميركي ويرضخ لتنمّر الرئيس الروسي.
فهذه مادة دسمة ومهمّة لبايدن لا سيّما أنه يستعد للتوقيع على الصفقة النووية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الأيام المقبلة. هكذا تكون مواقفه الصارمة مع فلاديمير بوتين في شأن أوكرانيا موضع احتفاء الغرب به وبقيمه ودرعاً يحميه من الانتقادات الداخلية والعالمية لتوقيعه على اتفاقية تعطي إيران- وأدواتها الإقليمية من الميليشيات- القدرة على تهديد مصالح وأمن شركاء أميركا في المنطقة.
جو بايدن لا يبالي إن كانت الصفقة مع حكّام طهران موضع رضا أو موضع استياء الدول الخليجية العربية، فهو يريد إتمام الصفقة كيفما كان وبأي تكلفة كانت، ولا يبالي. جو بايدن لا يهمّه إن دعمت الدول العربية – بالذات الخليجية – المواقف الأميركية في الأزمة مع روسيا أو تبنّت الحياد غير المسبوق ما يشكّل قفزة غير اعتيادية في العلاقات بين حليفين تقليديّين وسط أجواء الحرب الباردة. فهو لا يبالي.
فما أبلغته الدول الخليجية الى الولايات المتحدة منذ زمن هو أنها لن تكون حجراً في لعبة شطرنج حرب باردة لا بين الولايات المتحدة والصين ولا بين روسيا والولايات المتحدة. وهذا من نتائج الانصراف الأميركي عن العلاقات التقليدية التحالفية مع الدول الخليجية في أكثر من مجال. إنه نتيجة انحسار الاستثمار الأميركي في دول المنطقة العربية واختيار إدارة بايدن وقبلها إدارة باراك أوباما، الجمهورية الإسلامية الإيرانية شريكاً مفضّلاً بالرغم من انها حليف استراتيجي لروسيا والصين.
ما يهمّ الرئيس جو بايدن اليوم هو كيفية تعاطيه مع ما يعتبره استفزاز الرئيس فلاديمير بوتين له. كلاهما غاضب وغاضب جداً. كلاهما في هشاشة ما، في مكانٍ ما، من نوعٍ ما. في استطاعة بوتين أن يستمر في رهانه على بدء التشقّق في صفوف دول “الناتو” لأن العقوبات التي ستفرضها على روسيا سترتد على اقتصاد هذه الدول. في إمكانه المضي في الاعتقاد بأن دول الغرب خائفة من الأزمة العسكرية المنطلقة من أوكرانيا، وبالتالي ستعيد النظر وتلبّي مطالبه.
صحيح أن الحرب الباردة ستكون مُكلِفة لأطرافها جميعاً، لكن الحرب الساخنة قد تفيد شركات تصنيع الأسلحة الكبرى ومشاريعها الآنية والبعيدة المدى في زمن الحروب بالنيابة. فسباق التسلّح أساسي في معادلة الدبلوماسية المعسكرة بهدف استنفار المواجهة. وهذا ما يقلق العالم الذي يقف على قراءة ماذا في ذهن الرئاستين الروسية والأميركية.
الرئيسان جو بايدن وفلاديمير بوتين غاضبان جداً وخائفان قليلاً، وهذا ما يضع العالم أجمع معهما على حافة الهاوية.
النهار العربي
———————————
في مآلات الأزمة الأوكرانية/ تقادم الخطيب
وصلت الأزمة الأوكرانية إلى مفترق طرق، فالجميع أصبح مأزوما. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي حشد قواته على الحدود الأوكرانية لم يعد في مقدروه سحب تلك القوات حتى تتم الاستجابة لمطالبه، وإلا فإن معنى ذلك أنه هزم وسحب قواته من دون أن يحقق ما سعى إليه من خلال هذه الحشود العسكرية، وهي هزيمةُ لن يستطيع تحملها أمام شعبه وأمام الدولة الروسية ومؤسساتها. إنه يسعى إلى جعل أوكرانيا أشبه بالحالة الفنلندية في أثناء الحرب الباردة، حالة الحياد منزوعة السلاح، إلى جانب وجود ضمانات مكتوبة وتعهدات بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وهي الدولة الأكبر داخل الاتحاد السوفييتي السابق التي لها حدود مشتركة مع روسيا تصل إلى 1,576 كيلومترا. انضمام أوكرانيا إلى “الناتو” معناه قدرة الحلف على نشر صواريخ على الحدود الروسية وتطويق روسيا، وهو ما لن يسمح به بوتين والدولة الروسية العميقة، وهذا هو سبب تلك الحشود العسكرية في الأساس. في المقابل، كان يمكن أن تتعامل الولايات المتحدة مع الأزمة من خلال خيارين: الاستجابة لمطالب بوتين والتعهد بعدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، ووقف تمدّده شرقا، وتجميد المسألة كما فعلت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حينما نوقش هذا الأمر عام 2014. ولكن يبدو أن الولايات المتحدة كانت ترى في هذا الحل إضعافا لحلفائها الأوروبيين، وهزيمة لها في مواجهة غريمها الروسي. لذا فضلت الولايات المتحدة الخيار الثاني، إطلاق عملية دعائية كبرى حدّدت من خلالها ميعاد الغزو الروسي لأوكرانيا، وحشدت حلفاءها الغربيين، وسارعت بإمداد الجيش الأوكراني بالمعدّات العسكرية، لجعل أوكرانيا المصيدة التي سيقع فيها بوتين لتصطاده، أو هذا ما يعمل عليه لوبي الحرب داخل الولايات المتحدة، وبالتالي، فرض عقوبات اقتصادية كثيرة لن يتحمّلها الاقتصاد الروسي الهش أو الدولة الروسية. ولعل هذا ما أدركه بوتين، فبادر بعمل اتفاقية مع الصين، لتحمّل هذه العقوبات حال وقوعها، على أن الرهان على الصين في مثل هذه الأزمة لن يكون صحيحا بشكل كامل، فلن يكون بلا ثمن، بل سيكون ثمنه ما تريده الصين، ولن تكون مدته مفتوحة، لكنه أعطى بوتين نوعا من الميل في موازين القوى لصالحه إلى فترة معينة، يستطيع من خلالها أن يبقي على حالة التوتر مدة أطول، وبالتالي، الوصول إلى مطالبه التي يريدها، والسعي إلى فرض معادلة ردع جديدة داخل أوروبا.
في المقابل، تدرك أوروبا أن معنى وقوع حرب تضرّر أوروبا بأكملها، لأن المعارك ستكون على أراضيها، والولايات المتحدة لن تدفع ثمنا فادحا في الأزمة، لأن المعارك، ككل المعارك التي دخلتها، لن تكون على أراضيها. لذا، لا يريد الأوروبيون الحرب، ويفضلون حل الأزمة عبر الوسائل السلمية، وهذا ما يفسّر ذهاب قادة أوروبيين عديدين إلى موسكو (خصوصا الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني)، للوصول إلى حل سلمي للأزمة. وهنا بالتحديد، تظهر نقاط الخلاف الأوروبية الأميركية، خصوصا الألمانية، التي ترى أن عواقب الدفع باتجاه المواجهة ستكون كثيرة، ووحدها أوروبا ستدفع الثمن. وفي الوقت ذاته، ربط مصير القارّة كلها بالوحدة في مواجهة التغول الروسي، والتعاطي بشكل موحد، كما أشار المستشار الألماني أولاف شولتز، هو الحل الوحيد، وإبقاء الأبواب الدبلوماسية مفتوحة، وهو ما يذكّر بالموقف الألماني في أثناء الغزو الأميركي للعراق، حينما عارض المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر (الحزب الاجتماعي الديمقراطي) الدخول في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لغزو العراق، وهو الموقف نفسه، الذي يسعى إلى توضيحه المستشار الحالي (ينتمي للحزب نفسه) مع الأخذ في الاعتبار التغيرات الكبرى الحالية، أن المعركة بأبعادها المختلفة تدور على الأراضي الأوروبية.
الآن، كل الأطراف أصبحت مأزومة، فالرئيس الروسي بوتين لا يستطيع سحب قواته قبل الاستجابة له، وإلا فسيظهر بمظهر المهزوم، والولايات المتحدة والغربيون لا يستطيعون الرضوخ للمطالب الروسية، لأنها تعني فتح شهية روسيا أكثر فأكثر، وهزيمة لهم أمام روسيا. لذا، ستفضل كل الأطراف استخدام أدوات أخرى عوضا عن المواجهة المباشرة، وهو الدخول في الحرب بالوكالة، فقد يقوم بوتين بعدة خطوات، أولها أن يستصدر الكرملين قرارا بالاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين في شرق أوكرانيا، وهو ما يعني التبرير ليغزو أوكرانيا للدفاع عن الدولتين حال توغلت أوكرانيا فيهما. كما أنه سيقوم بإمداد الانفصاليين ومساندتهم عسكريا لفتح خط مواجهة مع الجيش الأوكراني، لاستنزافه في حرب استنزاف مفتوحة مع الأميركيين والغرب، الذين سيدعمون هذا الجيش كما يحدُث الآن. ولكن لهذه المسألة خطورتها، فستكلف حرب الاستنزاف تلك الخزانة الروسية الكثير، وهي محمّلة بأعباء أخرى في أماكن أخرى، مثل سورية. كما أن هذا يعني وجود حلف الناتو بالفعل على الحدود الروسية، وهو ما يرفضه الرئيس الروسي منذ البداية، لكنه قد تحقق بالفعل. ولكن يمكن اعتبار أن دعم الانفصاليين في حرب استنزاف مفتوحة هو سعي الرئيس الروسي بوتين إلى تفكيك أوكرانيا، خصوصا أن فيها أعراقا عديدة تتحدّث الروسية وتوالي روسيا، فهل سينجح في ذلك؟ وهل سيسمح الغرب بهذا؟
قد يلجأ الرئيس الروسي، في الوقت نفسه، إلى تفجير خط الغاز “نورد ستريم 1” الذي يحمل الغاز إلى أوروبا، وبالتالي الضغط على أوروبا بصورة أكبر. وهنا قد تلجأ أميركا وأوروبا إلى حلفائها الخليجيين، خصوصا القطريين، لإمدادهم بالغاز، فيكون السؤال إلى أي مدى تستطيع قطر مثلا توفير الغاز لأوروبا؟ وهل سيؤثر ذلك على عقودها الآسيوية المبرمة؟ وماذا عن مصير خط الغاز “نورد ستريم 2″، وهل سيتخذ المستشار الألماني قرارا بوقفه؟ وهذا سيكون له تداعياته الكبيرة على الاقتصاد الروسي وعلى الأوروبيين في الوقت نفسه.
الخيارات الأميركية الأوروبية للرد على هذه التصرّفات الروسية قد تعني القبول بالدخول في حرب استنزاف طويلة الأمد، تدور رحاها هذه المرّة على الأراضي الأوروبية، وهو ما سيكلف الأوروبيين الكثير. ثانيا، وهو الخيار المرجّح حدوثه وبقوة خلال الأيام المقبلة، وهو فرض عقوبات اقتصادية على النظام الروسي. وهنا يبدو أن بوتين قد قام بتأمين نفسه بالاتفاق الموقع مع الصينيين، لكن السؤال إلى أي مدى يمكن صمود هذا الاتفاق؟. قد يلجأ الأميركيون والأوروبيون إلى فتح جبهات قتال أخرى على الحدود الروسية في أماكن مختلفة، مثل أفغانستان، وسيتوقف هذا على الحكّام الجدد لأفغانستان، حركة طالبان.
يشهد العالم الآن حربا باردة جديدة، لكن مركز ثقلها، هذه المرة، انتقل من برلين إلى أوكرانيا، فهل ستنجح روسيا في تفكيك أوكرانيا كما فكّكت ألمانيا من قبل، أم أن الأميركان والغربيين سينجحون في توحيد أوكرانيا وهزيمة روسيا مرة أخرى داخل أوروبا؟ هذا ما ستجيب عنه الأشهر أو السنوات المقبلة. يبدو أن الأزمة الأوكرانية تقود العالم إلى تغيرات كبرى على مستوى موازين القوى ونقطة تحول في النظام الدولي، وإعادة رسم خرائط يصعب التنبؤ بها.
العربي الجديد
———————-
ترّهات القيصر العائد/ أسعد قطّان
حين اصطدمت طائرات القيصر العائد بالمقاتلات العثمانيّة فوق شرق المتوسّط، خيّل لكثيرين أنّ الجيوش الروسيّة لن تلبث أن تزحف نحو اسطنبول كي تستردّ القسطنطينيّة من أيدي «المسلمين»، وتستعيد معها أمجاد الإمبراطوريّة القديمة النائمة على حيّز يتوسّط قارّتين. استرجع هؤلاء النبوءات المحفورة في الكتب عن الروم الجدد الذين سينتزعون روما الجديدة من براثن الأتراك «المغتصبين»، ونسجوا الأساطير عن المعركة الكونيّة التي ستغيّر وجه الشرق.
لكنّ القيصر العائد سرعان ما تصالح مع السلطان الجديد. وهو اليوم يمنّي النفس بأفضل العلاقات الاقتصاديّة معه بعدما يمّم السلطان وجهه شطر الشرق، وتخلّى عن حلمه القديم بأن ينضمّ إلى أوروبا الموحّدة. نسي القيصر المعارك التي خاضها أسلافه ضدّ العثمانيّين في سيباستوبول، وراح يغازل السلطان ويدعوه إلى تدشين المساجد العظيمة في بلاد الروس على نغمات الأناشيد الإسلاميّة ذات الوقع الموسيقيّ السلافيّ، فيما السيّد محمود عبّاس يتفرّج كغريب، ولا أحد يعرف ماذا يفعل في هذه المعمعة المعتوهة بين القيصر والسلطان.
لم ينسَ القيصر العائد المعارك التي خاضها بنو جنسه ضدّ السلطنة القديمة في شبه جزيرة القرم فحسب، بل تناسى أيضاً كلّ التراث الحضاريّ والدينيّ الذي يجمعه بجيرانه القدامى. فاقتصّ من جورجيا الصغيرة في أبخازيا. وأسلم الأرمن ببرودة أعصاب إلى سيف الآذريّين في كاراباخ. وقضم شبه جزيرة القرم التي كان أسلافه السوفيات قد «أهدوها» إلى أوكرانيا. وها هو اليوم يرغي ويزبد لأنّ كييف تريد التوجّه غرباً، فيما هو لا تزال تراوده أحلام الإيديولوجيا القديمة التي تجعل الروسيا في مواجهة الغرب. فاته أنّ هذه ما زالت حتّى اليوم تستمدّ حضارتها من هذا التوتّر الخلاّق بين بيزنطية والحداثة الأوروبيّة، التي سحرت فلاسفتها وشعراءها وموسيقيّيها. فانبروا يصنعون، في القرن التاسع عشر، حداثةً من نوع آخر تمتزج فيها عبقريّة الشعب الروسيّ بهذا التراث العظيم الممتدّ من أفلاطون إلى بيتهوفن. لم يغفر القيصر لجيرانه تخلّيهم عن الوحدة التي فُرضت عليهم قسراً بعد الحرب العالميّة الثانية. لم يغفر لهم توقهم إلى الاستقلال والحرّيّة والازدهار. أراد أن يلقّن جيرانه وبني «ملّته» درساً لن ينسوه عقاباً على تخلّيهم عن الإمبراطوريّة السوفياتيّة التي امتهنتهم وأذلّتهم. وها هو اليوم يقف على أبواب أوكرانيا بدبّاباته وجيوشه وكأنّ التاريخ توقّف حين كان الأمراء الروس يتسامرون في كييف العظيمة فيما موسكو أشبه بقرية صغيرة على ضفاف الفولغا.
يعود القيصر اليوم كي ينبش العظام التي صارت رميماً ويصحّح «أخطاء» التاريخ. وهو في سبيل ذلك، مستعدّ لأن يتحالف مع الجميع وضدّ الجميع: مع الملاحدة ضدّ المؤمنين، ومع المؤمنين ضدّ الملاحدة، مع المسيحيّين ضدّ المسلمين، ومع المسلمين ضدّ المسيحيّين. أمّا تحالفه الأعظم، فهو مع ساكني القبور ضدّ مسارات التاريخ التي لا بدّ من أن تفضي ذات يوم إلى مزيد من تهافت الحواجز… ومزيد من الحرّيّة.
ينظر القيصر العائد إلى جيشه المترامي ويحلم. في الأفق البعيد صليل سيوف عطشى ورائحة
دم تزكم الأنوف…
———————
أوكرانيا بين التوغل أو الغزو/ مصطفى فحص
يحبس العالم أنفاسه بانتظار القرار الاستراتيجي الذي ستتخذه موسكو تجاه أوكرانيا، وبما أن قرار التراجع غير مطروح، تنحصر خيارات موسكو غير الدبلوماسية بأمرين لا ثالث لهما، إما التوغل وإما الغزو، ولكل منهما شكله السياسي والعسكري، وتداعياته على أوكرانيا ومستقبلها وعلى الخريطة الجيوسياسية الأوروبية، و كيفية إدارة الصراع الجديد بين روسيا والغرب في مرحلة نهاية ما بعد نهاية الحرب الباردة.
التوغل يعني سيطرة روسيا غير الكاملة على الأراضي الأوكرانية، ومن الصعب معرفة حجمه، والذي يتطلب بعض الوقت من أجل تحديده ميدانيا وهل ستكون العاصمة كييف ضمن المناطق المسيطر عليها، أم انها ستُقسم كما قُسمت برلين بعد هزيمة النازية، فالسؤال الذي يملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الإجابة عليه فقط هو: ما هي حدود التوغل وهل سيكون مثلا مجرى نهر دنبير الحد الفاصل ما بين الأوكرانيتين واحدة شرقية وأخرى غربية.
فِعل التقسيم في الظاهر العام قد يبدو انتصارا لموسكو، لكنه في العمق خسارة استراتيجية ولا يمكن مقارنته بتقسيم ألمانيا لأن الأخيرة كان تقسيمها متصلا بانقسام كافة القارة الأوروبية إلى معسكرين شرقي وغربي، ولكن حاليا الجزء الغربي المتوقع من أوكرانيا المقسمة سيكون تحت سيطرة الناتو، ما يسمح للولايات المتحدة التواجد داخل الأراضي الأوكرانية وأن تنشر قوة استراتيجية على تخوم روسيا، إضافة إلى نقل العاصمة إلى مدينة آمنة على الأرجح هي لفيف القريبة جدا من الحدود البولندية، ما يعني أن المسافة الاستراتيجية ما بين موسكو وحدود الناتو أصبحت تبدأ من داخل أوكرانيا، وهذا يطيح بكافة الذرائع الأمنية التي قدمتها موسكو لتبرير الحرب على أوكرانيا، والنتيجة أن موسكو التي خاضت الحرب لمنع تواجد الناتو داخل الأراضي الاوكرانية أصبح الناتو موجودا كرد فعل على توغلها.
أما الخيار الآخر وهو غزو كامل الأراضي الأوكرانية، و تحول أوكرانيا إلى دولة محتلة مباشرة تخضع لحكم عسكري روسي، وحتى لو نجحت موسكو في تسيلم السلطة لحكومة تابعة لها على غرار حكومة فيشي في فرنسا إبان الاحتلال الألماني، فإن لهذا القرار تداعيات كبيرة، فلا أحد يضمن استسلام الشعب الأوكراني، وفكرة المقاومة المدعومة من الغرب ستكون مرهقة على غرار الحرب الأفغانية، كما أن الأعباء الاقتصادية الإضافية ستزداد على الخزينة الروسية المرهقة أصلا والتي سترزح تحت وطأة العقوبات القاسية والمجهود العسكري وأعباء أوكرانيا المالية.
الغزو الروسي الكامل للأراضي الأوكرانية سيعيد إحياء ذاكرة أوروبا النازية، ويثير هواجس الأوروبيين من تكرار تجربة الرايخ الرابع وغزو الدول الضعيفة تحت ذرائع عديدة منها حماية الناطقين بالروسية، أو أنها مناطق تقع ضمن المجال الحيوي السوفياتي، لذلك يأتي تحذير الرئيس الأميركي جو بايدن مما يخطط له الكرملين ليضع قادة الغرب أمام مسؤولياتهم التاريخية والأخلاقية في حماية قارتهم من النزعة التوسعية الروسية حيث قال “إذا لم نواجه التهديدات اليوم سندفع الثمن في المستقبل”، وكأن واشنطن وضعت نفسها مكان لندن عشية الحرب العالمية الثانية.
تسمح القوة العسكرية الهائلة لروسيا في الغزو أو التوغل، وتكبيد أوكرانيا خسائر كبيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاحتلال لن يكون سهلا وسريعا كما جرى في الساعات الأولى من غزو أفغانستان، إذ يمتلك الأوكران أسلحة فتاكة أيضا قد تتسبب بخسائر فادحة للروس، لذلك في كلا الحالين الغزو أو التوغل ورطة استراتيجية لروسيا التي وضعت نفسها في موقف حرج لم تعد قادرة على الانسحاب منه، لأن التراجع له تداعيات داخلية، فالانسحاب الحقيقي من الحدود سيؤدي إلى انسحاب بعض صناع القرار من السلطة، لذلك لم يبق أمام الكرملين إلا الاحتلال، حيث لا فرق لديه ما بين الغزو أو التوغل إلا بالعديد والعتاد.
———————————
الحرب على أوكرانيا/ فاطمة ياسين
بدأت الحرب العالمية الثانية بهجوم ألماني وسوفييتي على بولندا، وكان المهاجمان قد وقّعا معاهدة سرّية، اتفقا فيها على إزالة بولندا من الوجود بتقاسم أراضيها بينهما. أرادا العودة إلى تراث الإمبراطوريتين الروسية والبروسية عندما كانت أراضي بولونيا موزّعة بينهما، ولكن نتائج الحرب العالمية الأولى أدّت إلى ظهور الجمهورية الثانية في بولونيا التي أدركت حكوماتها أنها ستتعرّض للغزو الألماني يوماً ما، فبنت سياستها واقتصادها على عقيدةٍ دفاعيةٍ في وجه الألمان، ولكن هذه العقيدة التي استمر بناؤها عشرين عاماً تقوضت خلال 35 يوماً، هي فترة الغزو، فقد باشر هتلر بتحريك قواته نحو بولونيا في الأول من سبتمبر/ أيلول عام 1939، بعد أسبوع من توقيع الاتفاق مع ستالين. وبعد يوم من تصديق مجلس السوفييت الأعلى على الاتفاقية، بدأ الهجوم السوفييتي من الشرق، لتقع بولندا فريسة عدوين، وتتوزّع جغرافيتها بينهما.
كان في أوروبا حينها ثلاث قوى رئيسية، أُولاها قوة هتلر الناشئة ذات الطموح العسكري القائم على التعصّب القومي. وثانيتها قوة الشيوعية التي سادت في روسيا، وتمدّدت لتضم بعض ممتلكات القيصر السابقة، مؤمنةً بتصدير أفكارها لتشمل العالم كله. أما القوة الثالثة، فهي قوى الانتداب، وفي مقدمتها فرنسا وبريطانيا التي ترفع شعار الديمقراطية، وتتبنّى سياسة ضبط الأعصاب تجاه كل من القوتين الجارتين. اعتبر كل من ستالين وهتلر بولندا أرضاً ضروريةً ورأس جسر للتمدّد، وكان تحالفهما مرحلياً وضرورياً لعبور لحظة بولندا، فيما كان “العالم الديمقراطي” غارقاً في لعبة السياسة، وحريصاً على إبقاء هتلر راضياً، وهادئاً، فمنحته كل من بريطانيا وفرنسا مناطق النمسا والتشيك، وسكتتا عن إقامة حكومةٍ عميلةٍ له في سلوفاكيا. وقد كانتا مستعدّتين لأن تغضّا البصر عن احتلاله بولندا نفسها، ولكن طموحات هتلر التي لم تعرف حدوداً أجبرت كلاً من بريطانيا وفرنسا على خلع قشرة التحفظ، فنشبت بعد ذلك أكبر حربٍ مدمّرة عرفتها البشرية في التاريخ الإنساني كله، بعد أن عقدتا تحالفاً مرحلياً وضرورياً مع ستالين نفسه.
تستحضر أزمة أوكرانيا الحالية ذلك التراث بتفاصيله، وتستدعي إعادة قراءة الأحداث التي أعقبت الحرب، وصولاً إلى هذه اللحظة، حيث يشكّل التاريخ والجغرافيا والطموح عواملها الرئيسية، وهي العوامل نفسها التي حرّكت احتلال بولندا، وقد تكون جزئية توسيع المدى الاستراتيجي لكل من روسيا وحلف الناتو حاسمة.
لدى الرئيس الروسي بوتين بديل لأنابيب الغاز التي تصل إلى أوروبا عبر أوكرانيا في بحر البلطيق، فقد انتهى للتو من بناء خط أنابيب جاهز، وقادر على صبّ الغاز الروسي في الجانب الألماني من بحر البلطيق. وأهمية أوكرانيا جغرافية، فهي مكان خالٍ من أسلحة “الناتو”، ما يعطيها مجالاً دفاعياً وهجومياً في الوقت ذاته. أما “الناتو”، فهو على مقربة من موسكو عبر بوابة جمهوريات البلطيق، ولكن أوكرانيا يمكن أن تؤمن لدوله إنذاراً مبكراً وزمناً ضرورياً للتأهب ضد أي هجوم روسي محتمل. والحلم بأوكرانيا استراتيجي لطرفي الصراع، لكن الجانب الغربي ما زال يعتمد أسلوبه الذي اتبعه قبل الحرب العالمية الثانية، وهو سياسة ضبط الأعصاب والتلويح بالعقوبات وتقديم التواريخ لموعد الغزو.
على الرغم من أن الرئيس الأميركي بايدن يؤكد، المرّة تلو المرّة، أن الغزو وشيك، إلا أن احتمالاته تضعُف مع الوقت، خصوصاً أن بوتين يعلن أنه بدأ بتقليص قواته المرابطة على الحدود، وإذا كان إعلاناً كاذباً، فهي إشارة إلى أنه يريد الاحتفاظ بأوكرانيا أو الاحتفاظ بوضعية التوتر الحالية، بإبقاء حالة التهديد فعّالة إلى أقصى مدة ممكنة. وفي هذا التفصيل يتجاوب معه الغرب بالمراوحة في المكان، وتكرار المواقف، والترقّب لاحتمال أن يرتكب الدب خطأه القاتل، من دون أن يعرف أحدٌ ماذا يمكن أن يفعل أكثر من عملية الغزو ذاتها، لكن بوتين، في الواقع، يفضّل أن يُبقي على حالة التوتر هذه، وعدم السقوط في خطيئة هتلر.
————————————–
كيف يمكن تفسير البطء الخادع والتوتر والتحولات في المشهد الدولي؟ / محمد بدر الدين زايد
من لا يريد أن يرى سياقاً تاريخياً في كثير مما يحدث دولياً، عليه فقط أن يتأمل أغلب الأزمات أو المشكلات الدولية والإقليمية الجارية ليلحظ أمرين معاً، وهما: بطء خادع وفي الوقت ذاته، توتر وتحولات لا تتوقف في مسار هذه الأزمات، فمنذ أسابيع على سبيل المثال، بدأ العالم حبس أنفاسه في ظل حديث عن قرب اجتياح روسيا لأوكرانيا، ولكن ذلك لم يحدث، حتى الآن على الأقل، ولم تنفرج الأزمة، ولم تحدث تسويات، ولم يتراجع أي طرف، وتتواصل التفاعلات بشكل معقد، ولكن في الواقع، إن هذه الأزمة بالغة الدلالة لا تتوقف عن فرز تطورات جديدة طوال الوقت، وربما منذ فترة ليست بقصيرة. وفي جميع تفاصيل المشهد الدولي، وكذلك في أزمات المنطقة العربية، أو غيرها من بؤر الأزمات، يتضح كثير مما ذكرناه، من عدم حسم مصحوب بتحولات لا تتوقف، بما يستحق إلقاء الضوء على سمات هذه الظواهر وانعكسات ذلك على تفسير الأوضاع الدولية عموماً من ناحية، ومن ناحية أخرى فرص وصعوبات عملية اتخاذ القرار لدى دول العالم كله.
أزمة أوكرانيا
يتفق مفكرون وكتاب كثر على أن هذه الأزمة تشكل علامة على التحولات العميقة في عالمنا المعاصر، وأن موسكو رمت بكل ثقلها لتؤكد لواشنطن أنها لن تسمح لها بمواصلة الهيمنة على النظام الدولي وتقليص الآخرين، وبشكل خاص عدم السماح لها بتهديد المفهوم الروسي للأمن القومى عبر ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو. وواصلت روسيا خلال الأسابيع الأخيرة، حشودها العسكرية دون أن تهدد علناً بالاجتياح العسكري، بينما تابعت الولايات المتحدة حملتها السياسية وسط استعراض محدود للقوة، ونشرت بضعة آلاف من قواتها في بولندا ودول وسط أوروبا، وحذت بريطانيا حذوها بعدد أقل وجعجعة صوتية شارك فيها أيضاً بعض الجهات الغربية التي أرسلت بعض القوات الرمزية إلى دول ملاصقة لأوكرانيا. من ناحية أخرى، تحركت فرنسا في مسعى وساطة فزار رئيسها إيمانويل ماكرون، موسكو، ولكن الزيارة غالباً أثارت ردود فعل تثير التساؤلات حول معاملة ماكرون خلال تلك الزيارة، ثم دخلت ألمانيا على خط الجهود الدبلوماسية، وإضافة إلى كل ذلك تم ترتيب عدد من الاتصالات السياسية والدبلوماسية بين واشنطن وموسكو، لم تسفر عن شيء.
ويعكس المشهد برمته كل الدلالات التي بدأ بها، فهناك الحشد الروسي الهائل، مقابل تحركات عسكرية غربية لا يمكن وصفها الأ بأنها رمزية، وأنه من الواضح أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن يتراجع.
في الواقع، ليس من الممكن تصور هذا في أي حسابات رشيدة تأخذ تركيبة المشهد في الحسبان، وكذلك شخصية الرئيس الروسي، ومنذ البداية أيضاً لم يتصور إلا قلة أن واشنطن يمكن أن ترد عسكرياً، بل تشير تصريحاتها بوضوح أن المتوقع هو فرض عقوبات اقتصادية، وأن بورصة النقاش تدور حول حدود هذه العقوبات ومداها. وبالغت بعض التصريحات بالقول إن تلك العقوبات قد تصل إلى بوتين نفسه، وهو أمر ليس من السهل توقعه، وقد يسبب مزيداً من التعقيدات، ولا يمكن تصور تداعياته.
والأهم من كل ذلك هو لقاء القمة الروسي – الصيني الذي تم على هامش دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، التي حضرها بوتين وقاطعتها الولايات المتحدة، وما خرج عن ذلك اللقاء هو بالضبط ما كان متوقعاً، ألا وهو اصطفاف روسي – صيني، وتفاهم فكري أيديولوجي ضد ما سماه البيان الصادر “رفض إصرار دولة على الهيمنة على النظام الدولي ورفض محاولة فرض نظام سياسي على العالم وأن الديمقراطية مفهوم متسع يصل إليه العالم، كل بطريقته الخاصة، إذا المشهد يتصاعد باتجاه نهاياته الدرامية المقدرة له ويرسخ التحالف الروسي – الصيني وتتعدد السيناريوهات والاحتمالات التي ستؤول إليها الأمور، فالأزمة تصنع سياقاً تاريخياً أياً كان ما ستسفر عنه.
أزمة الملف النووي الإيراني
خطفت أزمة أوكرانيا الأضواء عن مشهد آخر بطيء، بل ربما يكون بالغ البطء، وهو مشهد المفاوضات حول الملف النووى الإيراني، وتدور مفرداته حول ضمانات عدم تحول هذا البرنامج إلى الشق العسكري وعدم رفع معدلات تخصيب اليورانيوم. وتم تجاهل، منذ الاتفاق النووي الأول الذي تم التوصل إليه في عام 2015، مسائل تغلغل إيران وسياساتها في المنطقة، ولكن سؤال المفاوضات الأكبر يدور حول مساحة الدور الإيراني في الشؤون الدولية وما إذا كان يمكن تقليم أظافرها، وإمكانية قبولها كطرف نووي ولاعب دولي. ويتفرع من ذلك أسئلة كثيرة، أبرزها أن الاستراتيجية الغربية والأميركية التي تم تطبيقها فشلت، وعندما حاولت واشنطن إصلاح أخطاء التعامل مع طهران، زادت الأخيرة من مكاسبها وطورت برنامجها النووي، والأهم من ذلك، عمقت تغلغلها الإقليمى، ولم تؤتِ العقوبات ضدها نتائج رادعة، بل واصلت حركتها في كسب مواقع النفوذ الإقليمي لتقدم نموذجاً جديداً من نجاح دولة متوسطة القوى في تعظيم نفوذها الخارجي، على الرغم من أنها تكاد تكون معزولة عن نصف العالم. وبعد كل ذلك، استؤنفت المفاوضات لتسير ببطء وتعثر، ليطرح سؤال واضح حول مدى قدرة الولايات المتحدة على ردع قوة إقليمية متوسطة وحول أي أدوات يمكن تطبيقها للتعامل مع هذا النموذج أو غيره في المستقبل.
الأزمة الليبية
لا تتوقف الأزمة الليبية عن تأكيد ما ذكرناه سابقاً، بأنها تسير في مسارات دائرية. وتفجرت أخيراً التداعيات التي توقعها كثيرون من جراء تأجيل الانتخابات الليبية. وبدا المشهد في البداية تعبيراً واضحاً عن البطء، خصوصاً عندما عبر رئيس البرلمان عقيلة صالح عن انتقاده لحكومة عبد الحميد الدبيبة التي تستند أساساً إلى شرعية أممية منذ نشأتها، ولم تكن تعتبر في حالة خصومة واضحة مع قوى مجلس النواب و”الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده المشير خليفة حفتر، بل على العكس، كانت هناك بعض التفاهمات. ولم تحدث إلا أزمة واحدة، عندما رفض الدبيبة استدعاء البرلمان له، ما أدى إلى سحب الثقة منه، ومع ذلك واصل عمله. ولم يُثر مجلس النواب حملةً كبيرة ضد بقائه بعد سحب الثقة ومواصلته العمل حتى الانتخابات، وما حدث بعد ذلك بات معروفاً، فبعد عودة عقيلة صالح إلى المجلس، تمت عملية تعبئة بطيئة ضد الدبيبة، لم توقفها التصريحات المعارضة لمبعوثة الأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا ستيفاني ويليامز، ثم قام البرلمان بعزل الدبيبة منتصف الأسبوع الماضي، وعين فتحي باشاغا رئيساً للوزراء متحدياً قوى الإسلام السياسي وويليامز معاً، والمفارقة طبعاً أن باشاغا نفسه كان وما زال متحالفاً مع فصائل عدة في الغرب الليبي، وكان مقبولا من “الأخوان” وتركيا، بمعنى آخر، إن هذه الخطوة التي جاءت بعد فترة قليلة من الفشل في إجراء الانتخابات، أدخلت الصراع في منحى جديد وقد تشكل اختراقاً للتوازنات والتحالفات القائمة. ولأننا في بداية هذا التحول وليس واضحاً بعد ما إذا كان الرجل سيتولى مهامه فعلياً أم لا، وما هي ردود الفعل الدولية والداخلية المتوقعة، فإن النتيجة الرئيسة هي أن تحولات المشهد الليبي التي لا تحسم الصراع لصالح تسوية أو أي من الطرفين تزداد تعقداً وقطعاً تحتاج إلى معالجة منفصلة.
المشهد الأشمل وصعوبات صنع القرارات
ليست هذه النماذج الثلاثة مختلفة كثيراً عن جميع المشاهد الدولية الأخرى تقريباً، فمثلاً تدور تفاعلات معقدة حالياً في بعض مناطق غرب أفريقيا وتدور حول النفوذ الفرنسي وظهور اللاعب الروسي، فضلاً عن تهديدات التطرف. وعلى الساحة اليمنية، طور اللاعب الإيراني هجومه في الفترات الأخيرة باستهداف مواقع حيوية في السعودية والإمارات. وفى كل هذا المشهد، تتأكد حالة السيولة والتحول التي نتحدث عنها والمخاض الصعب لعالم جديد يتشكل، وفي ظل هذا الوضع يأتي هذا البطء النسبي، ولكن دون جمود، وهذه السمة الدائرية. وتتمترس الأطراف الدولية والإقليمية لبناء مراكز نفوذ ومقايضات جديدة في ظل مشهد أكبر يدور حول التنافس الأميركي – الصيني والاعتماد المتبادل بين هذين الطرفين في الوقت ذاته، والذي يتركز حالياً حول المواجهة الروسية – الغربية.
وهذا المشهد الدولي الأشمل مرشح بالتالي لمزيد من التعقيد، وليس الانفراج، والأهم أن هذا المشهد الأكبر يوحي بأن السياق التاريخي يسير باتجاه عالم جديد يتشكل، لكنه غير واضح المعالم بعد.
أما الأمر بالغ الصعوبة فهو عملية الفعل ورد الفعل التي نسميها القرار السياسي للدول أطراف هذه الأزمات والساحات المتصارعة، وحتى تلك الدول التي تتأثر بهذه الصراعات وتتفاعل معها دون أن تكون قادرة على التأثير فيها، والبعض يكتفى أحياناً بعدم الحاجة إلى رد فعل، ذلك أن التحولات المتواصلة تجعلهم يشعرون في كثير من الأحوال أنهم معفيون من ردود الفعل.
اندبندنت عربية
——————————–
جبهات شرق أوكرانيا تشتعل..وزيلينسكي يعرض لقاء بوتين
عرض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي السبت، لقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين بهدف منع أي غزو روسي لبلاده. فيما أعلنت روسيا أنها اختبرت صواريخ بقدرات نووية خلال مناورات عسكرية.
وقال زيلينسكي في كلمة خلال مؤتمر ميونيخ للأمن: “لا أعرف ما الذي يريده الرئيس الروسي. لهذا السبب، أقترح بأن نلتقي”.
وطالب الرئيس الأوكراني بإطار زمني “واضح” لانضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي. وأكد أنه على القوى الغربية التخلّي عن سياسة “مهادنة” موسكو.
مناورات روسية
يأتي ذلك فيما اختبرت روسيا صواريخ بقدرات نووية السبت، خلال مناورات عسكرية واسعة النطاق أشرف عليها الرئيس فلاديمير بوتين. وبث التلفزيون الروسي صوراً لبوتين ونظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو أثناء جلوسهما على طاولة مستديرة في غرفة العمليات في الكرملين أمام شاشات تظهر القادة العسكريين وهم يختبرون أحدث صواريخهم الفرط صوتية والمجنحة والبالستية ذات القدرات النووية.
وقال الكرملين: “ضربت جميع الصواريخ أهدافها، ما يؤكد على أهدافها المرتبطة بالأداء”، مضيفا أن قاذفات من طراز “تو-95” وغواصات شاركت في التدريبات.
وفي وقت سابق، أشار الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إلى شيفرات إطلاق الصواريخ النووية، قائلاً: “يستحيل القيام بهذا النوع من الاختبارات من دون رئيس الدولة. تعرفون الحقيبة السوداء الشهيرة والزرّ الأحمر”.
وذكرت وزارة الدفاع الروسية أن جميع فروع القوات المسلّحة شاركت في التدريبات، بما في ذلك قوات الصواريخ الاستراتيجية وأساطيل بحر الشمال والبحر الأسود، والتي تملك غواصات نووية.
وأكد وزير الدفاع الروسية سيرغي شويغو أن التدريبات شملت محاكاة استخدام أسلحة نووية. وخاطب شويغو بوتين بالقول: “يجري اليوم، وفقاً لقراركم تدريب لقوات الردع الاستراتيجي، سيتم خلاله اختبار عمليات التحكم بالأسلحة النووية والأسلحة ذات الخطورة المحتملة المتزايدة، ضمن إطار إدارة موحدة”.
وتصر الولايات المتحدة على أن موسكو اتّخذت قرار غزو جارتها، إذ حشدت حوالى 150 ألف جندي عند حدود أوكرانيا، وهو عدد يرتفع إلى 190 ألفاً إذا احتُسبت القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في شرق البلاد.
وتتواجد بعض القوات الروسية (حوالى 30 ألف جندي) في بيلاروسيا للمشاركة في تدريبات من المقرر أن تختتم الأحد. ولفتت موسكو إلى أن هذه القوات ستعود إلى ثكناتها، لكنّ أجهزة الاستخبارات الأميركية أعربت عن قلقها من أنها قد تشارك في غزو أوكرانيا.
والسبت، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أسوتن الذي يزور ليتوانيا المنضوية في حلف شمال الأطلسي إن القوات الروسية “مستعدة للهجوم” و”تتوجّه نحو مواقع مناسبة تمكنها من تنفيذ هجوم”.
لكن وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك دعت إلى عدم “التكهّن” بنوايا روسيا في ما يتعلّق بأزمة أوكرانيا. وقالت في ردها على سؤال عما إذا كانت تتفق مع تقييم بايدن: “في الأزمات، أسوأ ما يمكن القيام به هو التكهّن أو افتراض” قرارات الطرف الآخر، وذلك في ختام اجتماع لوزراء خارجية دول مجموعة السبع.
لكنها أضافت “لا نعرف إن كان اتُّخذ قرار بشن هجوم، لكنّ التهديد لأوكرانيا حقيقي”، بينما دعت ألمانيا رعاياها لمغادرة أوكرانيا “بصورة عاجلة”. وصدرت دعوة مشابهة من الجانب الفرنسي.
بدوره، دعا وزير الخارجية الصينية الغربيين إلى احترام مخاوف روسيا وتساءل عما إذا كان توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً سيضمن السلام. وقال وانغ يي في مؤتمر ميونيخ للأمن: “يحب أن تكون أوكرانيا جسراً بين الشرق والغرب وليس خط مواجهة”. وأضاف “جميع الأطراف تملك الحق في إبداء مخاوفها، ويجب ايضا احترام مخاوف روسيا المعقولة وأخذها في الاعتبار”.
ارتفاع حدة المواجهات
وعصر السبت، أعلن الجيش الأوكراني أنّ اثنين من عناصره قتلا في هجمات وقعت في شرق البلاد عند خطّ الجبهة بينه وبين المتمرّدين المدعومين من موسكو. وقالت قيادة الجيش المسؤولة عن النزاع ضدّ الانفصاليين في الشرق: “أصيب جنديان أوكرانيان بجروح مميتة جرّاء الشظايا الناجمة عن قصف” في المنطقة.
وذكر مراقبون من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا السبت، بأن الجبهة بين الجيش الأوكراني والانفصاليين المدعومين من موسكو في منطقتي دونيتسك ولوغانسك شهدت “زيادة كبيرة” في الانتهاكات لوقف إطلاق النار بين الطرفين. وسجّلت عشرات الهجمات بالمدفعية والهاون في الأيام الأخيرة.
واتّهمت القوات المسلحة الأوكرانية المتمرّدين بشن سلسلة هجمات جديدة السبت، مشيرة إلى عشرات عمليات تبادل إطلاق النار. فيما أعلن المتمرّدون الذين اتّهموا القوات الأوكرانية بشن هجمات جديدة السبت، التعبئة العامة في المنطقتين، داعين الرجال إلى القتال بينما أعلنوا عن عمليات إجلاء واسعة للنساء والأطفال إلى روسيا.
وأعلن محافظ منطقة روستوف الروسية المجاورة حالة الطوارئ فيما عبرت حافلات على متنها آلاف الأشخاص الحدود.
————————-
مناورات «الردع الاستراتيجي» الروسية تفاقم التوتر… وكييف تلوّح بالعودة إلى «النادي النووي»
تواصل عمليات الإجلاء في شرق أوكرانيا وتبادل اتهامات بالتصعيد
روستوف: رائد جبر
فاقمت مناورات «الردع الاستراتيجي» التي أجرتها موسكو أمس، بإشراف الرئيس فلاديمير بوتين من تعقيد الوضع حول أوكرانيا بعدما قال مسؤولون في كييف إن موسكو هدفت إلى توجيه رسائل إلى الغرب والتلويح بقدراتها النووية. ومع اتجاه الأنظار إلى الوضع الميداني وتواصل عمليات إجلاء المدنيين، من مناطق في إقليمي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا، تبادلت كييف اتهامات مع الانفصاليين في الإقليميين بتصعيد الوضع عسكرياً مع بروز معطيات عن تزايد عمليات القصف على طرفي خطوط التماس.
وأطلقت روسيا المناورات التي تعد الأوسع أمس، بإشراف بوتين الذي تابع مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو سير التدريبات من غرفة مراقبة خاصة في الكرملين. وأكد وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، أن التدريبات شملت محاكاة استخدام أسلحة نووية.
وخاطب شويغو الرئيس الروسي بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، خلال التدريبات مشيراً إلى أنه «يجري اختبار عمليات التحكم بالأسلحة النووية والأسلحة ذات الخطورة المحتملة المتزايدة، ضمن إطار غرفة عمليات موحدة».
وأصدر الكرملين في وقت لاحق بياناً أفاد فيه بأن التدريبات شملت إطلاق صواريخ باليستية ومجنحة من طرازات «كينجال» و«كاليبر» و«إسكندر» و«يارس» و«سينيفا».
ولفت الديوان الرئاسي إلى أن التدريبات جرت وفقاً لخطط معدة مسبقاً بهدف اختبار جاهزية آليات التحكم والتوجيه والإدارة العسكرية وطواقم الإطلاق والسفن والغواصات، بالإضافة إلى التأكد من موثوقية الأسلحة بحوزة القوات الاستراتيجية النووية والتقليدية في الجيش الروسي. وشاركت في المناورات وحدات القوات الجوفضائية وقوات المنطقة العسكرية الجنوبية والقوات الاستراتيجية الروسية وأسطولي البحرين الشمالي والأسود في الجيش الروسي. وتم خلالها إطلاق صواريخ عابرة للقارات ومجنحة نحو أهداف في أقصى الشرق الروسي وفي جنوب البلاد، وإطلاق سفن وغواصات تابعة لأسطولي البحرين الشمالي والأسود صواريخ مجنحة من طراز «كاليبر» وصاروخ فرط الصوتي من طراز «تسيركون» على أهداف بحرية وبرية. إضافة إلى إطلاق صاروخ مجنح من طراز «إسكندر» في معسكر كابوستين يار في مقاطعة أستراخان جنوب روسيا.
وأعلن الكرملين تحقيق «كل الأهداف» الموضوعة للتدريبات، لافتاً إلى أن جميع الصواريخ ضربت أهدافها بدقة.
وأثارت المناورات قلقاً أوكرانياً بسبب تزامنها مع تفاقم التوتر في المناطق الحدودية، ورأت كييف أن موسكو هدفت من خلال توقيت إجراء المناورات إلى توجيه رسالة إلى الغرب بحجم قدراتها النووية الرادعة، وأنها لن تتورع عن استخدام الوسائل العسكرية لتسوية الأزمات السياسية.
في الوقت ذاته لوحت كييف بفكرة العودة إلى «النادي النووي» وقال الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي إنه سيبدأ مفاوضات بين المشاركين في مذكرة بودابست حول ضمانات الأمن. في إشارة إلى المذكرة التي تخلت بموجبها أوكرانيا في العام 2004 عن ترسانتها النووية وأعلنت اعتمادها عسكرياً بشكل كامل على القدرات التقليدية. ولفت زيلينسكي إلى أنه سوف يبدأ «مشاورات في إطار مذكرة بودابست. وقد أصدرت تعليمات لوزير الخارجية بدعوة الأطراف إلى الانعقاد»، مشيراً إلى أن كييف حصلت بموجب المذكرة على ضمانات دولية بحماية أمنها ووحدة أراضيها وأن روسيا طرف في هذه الضمانات. وزاد: «حالياً لا توجد ضمانات أمنية لبلدنا، لذلك فإن أوكرانيا لديها كل الحق في الاعتقاد بأن مذكرة بودابست لا تعمل، وسيتم التشكيك في جميع قرارات المجموعة لعام 1994».
في غضون ذلك، تواصلت عمليات إجلاء المدنيين من إقليمي لوغانسك ودونيتسك وسط تزايد المعطيات عن تصاعد حدة تبادل القصف بين القوات الحكومية الأوكرانية والانفصاليين في المنطقتين. وبرغم أن كييف نفت صحة أنباء قدمها الانفصاليون حول قيامها بقصف أهداف داخل لوغانسك ودونيتسك، لكنها في الوقت ذاته اتهمت القوات في الإقليمين بتنفيذ «هجمات استفزازية باستخدام قذائف وصواريخ» وأعلنت في وقت لاحق أمس، عن مقتل جندي أوكراني قرب خطوط التماس بسبب عمليات القصف.
في المقابل، قال مسؤولون عسكريون في دونيتسك: «قوات الأمن الأوكرانية قصفت قرى على خطوط التماس للمرة الخامسة خلال الليل، وأطلقت 20 قذيفة من عيار 82 ملم». ووفقاً لمعطياتهم فقد تعرضت محطة لضخ المياه في دونيتسك لأضرار نتيجة القصف.
وحذرت سلطات دونيتسك من خطر انقطاع إمدادات المياه عن 40 نقطة سكانية.
في الأثناء، تواصل إجلاء المدنيين نحو الأراضي الروسية، وأبلغت «الشرق الأوسط» مصادر على النقطة الحدودية مع دونيتسك أن نحو 80 أتوبيساً عبرت الحدود خلال ليلة السبت، وزادت أن العدد الإجمالي لمن تم إجلاؤهم بلغ نحو 7 آلاف نسمة نصفهم من الأطفال. وبات معلوماً أن السلطات الانفصالية تقوم بإجلاء عائلات العسكريين ودور الأيتام ومراكز رعاية الأطفال.
وأعلنت وزارة الطوارئ الروسية أنه سيتم توزيع اللاجئين من دونباس في سبع مناطق في روسيا منوهة بأن 26 منطقة في روسيا مستعدة لاستقبال اللاجئين من دونباس بسبب التصعيد في شرق أوكرانيا. وأعلنت السلطات الروسية عن فرض حالة الطوارئ في منطقة روستوف بسبب توقعات بزيادة معدلات تدفق اللاجئين. في حين أعلنت وزارة الطوارئ في دونيتسك، أنها تخطط لإجلاء نحو 700 ألف من السكان إلى روسيا، علماً بأن عدد سكان دونيتسك يناهز مليون نسمة في حين أن عدد سكان لوغانسك يصل إلى 400 ألف نسمة. لكن اللافت أنه برغم تأكيد قيادتي الإقليمين على توسيع عمليات الإجلاء لكن الوضع في المنطقة الحدودية أمس، كان هادئاً نسبياً، ولم تظهر طوابير طويلة من اللاجئين أو ارتباك في عمليات دخول نحو 80 أتوبيساً من المنطقة الحدودية.
وكانت موسكو قد أعلنت عن تخصيص مبلغ 10 آلاف روبل (150 دولاراً) لكل شخص يعبر الحدود من شرق أوكرانيا، وتعهدت وزارة الطوارئ بتأمين الرعاية والسكن للقادمين.
في الأثناء، أعلن مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، أنهم لاحظوا «زيادة كبيرة في انتهاكات وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا، حيث يتواجه انفصاليون موالون لروسيا مع القوات الأوكرانية منذ 2014».
وأشارت المنظمة في بيان إلى أن مراقبيها «لاحظوا زيادة كبيرة» في الأعمال المسلحة على طول خط الجبهة، مضيفة أن «هناك حالياً عدداً من الحوادث يعادل عدد تلك التي وقعت قبل الاتفاقية التي تم توقيعها في يوليو (تموز) 2020 لتعزيز وقف إطلاق النار».
وقال المراقبون إنهم أبلغوا منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عن «222 انتهاكاً لوقف إطلاق النار يوم الخميس على خط الجبهة في منطقة دونيتسك التي يسيطر عليها انفصاليون موالون لروسيا، بما فيها 135 انفجاراً، مقابل 189 الأربعاء و24 الثلاثاء». أعلنت وزارة الطوارئ الروسية أنه سيتم توزيع اللاجئين من دونباس في 7 مناطق في روسيا على ضوء التصعيد في شرق أوكرانيا وتدفق المزيد من اللاجئين.
————————–
=====================
تحديث 22 شباط 2022
————————————–
السوريون إذ يتمنون أن يفعلها بوتين/ عمر قدور
بدأت القوات الروسية مناورات جديدة في سوريا يوم السبت، ومن ضمنها تعمّدت الطائرات الروسية الاقتراب الاستفزازي من مواقع نظيرتها الأمريكية شرق الفرات، واختبرت لأول مرة في سوريا صواريخ كينجال الأسرع من الصوت. قبل بدء المناورات الأخيرة بخمسة الأيام كان وزير الدفاع الروسي قد قام بزيارة مفاجئة إلى قاعدة حميميم، وإليها استدعى بشار الأسد للقائه، بما يوحي وكأنه يطلعه على توجهات روسية متصلة بالميدان السوري في موازاة التصعيد على الجبهة الأوكرانية.
إذاً، بادرت موسكو على نحو يُراد له أن يكون فاضحاً إلى الربط بين أوكرانيا وسوريا، فلم يعد ذلك استنتاجاً نصادفه هنا أو هناك. هذا الربط راح يتعزز أيضاً في الخشية التي يفصح عنها سوريون من دفع ثمن جديد لحساب الجبهة الأوكرانية، خاصة إذا حدثت تهدئة فيها وأُعطي بوتين ثمناً سورياً كافياً ليظهر كمنتصر. بعبارة أخرى، الحرب في أوكرانيا ليست السيناريو الذي يخشاه السوريون.
إننا فقط نترجم الخشية السورية الشائعة من اتفاق غربي-روسي، ليكون فحواها تفضيل الحرب في أوكرانيا على التسوية. أبعد من ذلك، لا يُستبعد أن يكون خيار الحرب هو المفضّل لدى بعض السوريين ظناً بأن المواجهة الغربية-الروسية ستدفع الطرف الأول إلى التصلب تجاه الوجود العسكري، بعدما أذِنت العلاقة الطيبة بينهما باحتلال روسي تم بسلاسة، وصولاً إلى البعض اليائس الذي يريد الحرب “وربما أية حرب كبرى” على مبدأ “من بعد ما حصل لسوريا فليأتِ النيزك”.
هناك سوريون يتمنون أن يفعلها بوتين، فيرتكب “حماقة” غزو أوكرانيا، ويدفع ثمن توسعه من القرم إلى سوريا. يدعم سيناريو محاسبة بوتين أن أوكرانيا ليست سوريا، والمفاضلة بين البلدين مصدر غصّة نصادفها هنا وهناك، مصدرها الاستنفار الديبلوماسي والمخابراتي الغربي الحالي بالمقارنة مع عدم الاكتراث عندما حصل التدخل العسكري في سوريا. بالطبع، ثمة شريحة واسعة أيضاً غير مكترثة إطلاقاً بما يحدث في أوكرانيا، والهمّ الملحّ لأفرادها لا يتعدى الحصول على الغذاء والقليل من التدفئة.
ربما إلى الشريحة الأخيرة تنضم نسبة ساحقة من شعوب العالم غير المكترثة بتطورات الأزمة الأوكرانية، والمنشغلة بقضاياها وهمومها الداخلية على اختلاف مستويات معيشتها. إلا أن المهتمين بالشؤون الخارجية في مختلف البلدان الغربية هم أميَل إلى خيار السلم، ولا يريدون حرباً باردة عالمية أخرى على خلفية الاحتلال الروسي المرتقب لأوكرانيا. لا نستبعد من بين المهتمين شرائح مضادة للحرب عموماً، من منطلق التحذير من ويلاتها على المدنيين والفئات الأضعف.
عن الويلات المنتظَرة، كان طيران بوتين قد قدّم شرحاً وافياً بقصفه المدنيين السوريين، بل قصفه المستشفيات والمدارس ومخيمات اللاجئين، وسبق له تقديم توضيح كافٍ في مواجهة ثورة الشيشان. ذلك كله على الأرجح ليس ما يتوارد إلى أذهان الذين يتمنون أن يفعلها بوتين في أوكرانيا، فالحرب وفق ما يتمنون هي أقرب لأن تكون فكرة مجرّدة ربما يستفيد من اندلاعها السوريون، وفي الحد الأدنى لا يخسرون ما قد يخسرونه في التسوية.
سيبدو لوهلة منافياً للحس الإنساني ألا يفكّر متأذّون راهنون من الحرب بشعب آخر سيلاقي مصيرهم فيما لو اندلعت الحرب في بلاده، وقد يفترض المنطق أن الجرح السوري الطازج سيجعل السوريين أكثر حساسية إزاء معاناة الآخرين. لكن ما يعيق الاعتبارات الإنسانية الوجيهة أن السوريين عانوا ويعانون من قلة حساسية الآخرين إزاء مأساتهم، ومن شعور فادح بلامبالاة عالمية إزاء مصيرهم، ومن المرجح أن حساسيتهم تجاه الأوكرانيين كانت ستختلف لو أبدى العالم تضامناً أعمق معهم.
ثم إن العالم الذي يُظهر تضامناً مع أوكرانيا لا يقدّم نموذجاً حقيقياً محترماً، وكان خطاب الرئيس الأوكراني مؤخراً في قمة ميونيخ أفضل رد ممكن ديبلوماسياً على قادة الغرب الذين يهددون بوتين بعقوبات غير مسبوقة عندما يحتل أوكرانيا. بمعنى أن هؤلاء القادة، الواثقين جداً من معلوماتهم الاستخباراتية، غير مستعدين لأي فعل استباقي يدفع ويلات الحرب والاحتلال عن الشعب الأوكراني. العالم نفسه الذي صمت عن المجازر في سوريا مستعد لتقبّل فكرة تكرارها في مكان آخر، وإنْ بثمن اقتصادي لاحق تدفعه موسكو.
الربط بين أوكرانيا وسوريا هو الوجه الآخر “المؤذي” لفكرة العالمية، فالقيَم العالمية المنشودة مبنية على التضامن الإنساني، وعلى التكامل بديلاً عن صراعات استنزفت وتستنزف طاقات وثروات الشعوب. في حين أن الربط السياسي أو العسكري كان مؤداه في أغلب الأحيان قبض ثمن هنا لقاء ثمن هناك، وأسلوب المقايضة هذا على حساب الضعفاء يجعلهم بمثابة أعداء بحكم تضارب المصالح التي يقرر الكبار قسمتها. في الربط السوري-الأوكراني الراهن، يُفترض نظرياً أن يتوفر عنصر التضامن حتى من منطلق وجود عدو واحد، إلا أن الخوف من المقايضات القذرة يجعل من بعض السوريين في موقع مشجعي بوتين على الحرب، ولا يُستبعد وجود أوكرانيين يتمنون الخلاص من شبح الحرب ولو نجوا منها بتسوية على حساب السوريين.
تقدّم لنا اللحظة الحالية والتكهنات حول آفاقها صورة عن الكيفية التي يُراكَم من خلالها العنف، وكيف يصبح تمني العنف أو التشجيع عليه مصلحة للضحايا، ولو أودى بضعفاء مثلهم. لقد صُنعت للتو، من المقتلة السورية، لامبالاة شديدة القسوة تجاه المصائب المحدقة بشعوب أخرى، بل هناك لا مبالاة فظيعة متبادلة بين السوريين أنفسهم. هذا الفائض من مخزون العنف ليس حكراً على السوريين، ومن المرجح وجوده لدى كافة الشعوب التي أصابها ما أصابهم، ولو بنسب متفاوتة لها علاقة بجِدّة المأساة وحجمها.
سيكون خارج السياق القول أن الربط بين أوكرانيا وسوريا ليس حتمياً، وفي الاحتمالات متسع لتسويات من نوع آخر، لأن فكرة المقايضة بين البلدين ستخلّف آثارها السلبية طالما بقيت متداوَلة. وإذا وقعت الحرب فمن آثارها تحويل الأوكرانيين إلى سوريين جدد، إلى ضحايا يفقدون حساسيتهم إزاء العنف الواقع على آخرين، ولا يندر بين الأشد نقمة منهم على العالم أن يتطوع البعض ليفعل بنفسه ما كان ينتظره من النيزك الذي لا يأتي.
المدن
————————
الصراع الدولي حول أوكرانيا وعلاقته بسورية؟/ محمود الحمزة
مقدمة:
منذ أشهر، تجذب أوكرانيا اهتمام العالم، وأصبحنا نسمع كل ساعة أسماء رؤساء، مثل بوتين و زيلينسكي وبايدن مع أسماء وزراء خارجيتهم. وبلغ التصعيد الإعلامي حدًّا غير مسبوق إلا في فترة الحرب الباردة أو حتى الساخنة؛ وقد صرّح الغرب، على لسان رئيس أكبر دولة وهو بايدن، بأن الغزو الروسي لأوكرانيا سيبدأ في 16 شباط/ فبراير، وقد صدق البعض بايدن، واعتقدوا أن لديه معلومات استخباراتية دقيقة، خاصة أن هناك تقريرًا اقتصاديًا دوليًا قال، في 9 شباط/ فبراير، إن كمية الغاز المخزنة في أوروبا لا تكفي لأكثر من أسبوع واحد فقط، وإن روسيا تمتنع عن تزويد تلك المخازن الأوروبية بكميات جديدة من الغاز الطبيعي (تصل نسبته إلى 40 % من احتياجات أوروبا). وتم التصريح عن مواعيد جديدة للحرب، وبعدها أصبح الموعد مفتوحًا، لكنه مؤكد حسب المصادر الاستخباراتية والرسمية الغربية.
ومن جهة أخرى، ينفي الروس بشكل قطعي أن لديهم أي نية لغزو أوكرانيا. ولكن التصريحات شيء، والعمل على الأرض شيء مختلف. فلو اقتصرت روسيا على مناوراتها على الحدود الأوكرانية الشرقية، لقلنا إنها لا تنوي غزو أوكرانيا، ولكن ما معنى المناورات المشتركة مع بيلاروسيا على الحدود الشمالية لأوكرانيا، والمناورات الاستراتيجية والمناورات البحرية في كل مكان؟! إن ذلك كله يخلق أجواء للحرب.
لمحة تاريخية عن أوكرانيا وعلاقتها مع روسيا:
كلمة أوكرانيا تعني “على الأطراف”، أي إن أوكرانيا كانت أراضي واقعة على أطراف الإمبراطورية الروسية، وخضعت في فترات مختلفة لإمبراطوريات أخرى مثل البولوندية والليتوانية وغيرها. ولم تظهر أوكرانيا كدولة بحدودها الحالية إلا ضمن الاتحاد السوفيتي بعد 1922.
ويجدر الذكر أن عاصمة أوكرانيا -مدينة كييف الخضراء- كانت أول عاصمة للدولة الروسية القديمة، وفيها اعتنقت المسيحية عام 988 م، على يد الأمير فلاديمير الذي تحالف مع البيزنطيين، وجاء إليه قسيسان من سورية البيزنطية، وهما ميفوديوس وكيريليوس، وأسسا الأبجدية السلافية التي تُعرف حاليًّا بالكيريلية، بهدف إيجاد لغة لنشر الإنجيل بها. والذي علّم الروس المسيحية في كييف هو قسيس سوري اسمه ميخائيل.
وفي 1954، أعطى الزعيم السوفيتي نيكيتا خروشوف، وهو أوكراني، شبه جزيرة القرم لجمهورية أوكرانيا السوفيتية. وكتب الرئيس بوتين مقالة حول أوكرانيا، أكد فيها أن أوكرانيا أصلًا “ليست دولة، ولا يمكن لها أن تبقى بدون العلاقة مع روسيا”، واعتبر أن قيادتها أصبحت ألعوبة بيد الغرب. وأكد أيضًا أن انضمام أوكرانيا إلى الناتو يعني إعلان الحرب من قبل الغرب على روسيا. وكذلك كتب دميتري ميدفيدف مقالة، منذ فترة قريبة، رأى فيها أن لا فائدة من الحوار مع قادة أوكرانيا ورئيسها، واتهم الرئيس الأوكراني فزلزديمير زيلينسكي بأنه يريد أن يكسب شعبية، ويخشى من التصريح عن قوميته (اليهودية)، وينسى اضطهاد النازية (لليهود).
بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ظلت القيادة الروسية الحالية ترى أن الجمهوريات السوفيتية السابقة هي الفضاء الحيوي والجيوسياسي لروسيا، وخاصة أوكرانيا وبيلاروسيا السلافيتين والمسيحيتين الأرثوذكسيتين (علمًا أن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية انفصلت بموافقة البطريركية في إسطنبول، وكان ذلك موقفًا مؤلمًا للبطريركية الروسية التي تعتبر نفسها روما الثالثة ووريثة بيزنطة والمسؤولة عن الأرثوذكس بالعالم).
ولكي نفهم حقيقة العلاقة بين موسكو والدول السوفيتية السابقة، علينا أن نعلم أن بوصلة السياسة الروسية المعاصرة هي المصالح الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية، وأن ليس لديها أيديولوجيا واضحة، كالأيديولوجيا الشيوعية في العهد السوفيتي، وأن المهيمن في روسيا هي طبقة الأوليغاركية وأجهزة الأمن والجيش، وليس المؤسسات. أما القرارات الأساسية في الدولة، فهي مرتبطة بالرئيس، لأنه هو صاحب القرار في البلد، ولا أحد غيره.
وهذه النخبة المالية ورجال الأعمال يسعون للهيمنة على الدول المجاورة، من خلال شراء شركات النفط والمصارف والسيطرة على الحياة الاقتصادية وبعدها السياسية. وهذا ما شهدناه في العلاقة بين روسيا وبيلاروسيا، حيث بقي الرئيس لوكاشينكو لسنوات طويلة يعاند روسيا، وينظر إلى الغرب بعينٍ، وإلى الشرق (أي روسيا) بعين أخرى، حتى جرت احتجاجات شعبية عارمة في عام 2021، ضد تزوير نتائج الانتخابات الرئاسية، التي لم تكن لصالحه، ولكن تدخل الاخ الأكبر – بوتين، بإرسال دعم مالي وعسكري، ساعد لوكاشينكو في استعادة أنفاسه، وفي المقابل، يبدو أنه سلّم بيلاروسيا إلى الكريملين. حيث تنفذ روسيا اليوم مناورات عسكرية على الحدود البيلاروسية الأوكرانية، وتؤكد تصريحات الرئيسين أنهما يشتركان في الدفاع عن أمنهما ضد الضغوطات الغربية.
بدأ الصراع بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2004، عندما قامت الثورة البرتقالية التي سماها الروس “الثورات الملونة”، واعتبروها من صنع الغرب، وتعدها موسكو خطرًا على روسيا نفسها، لأن القيادة الروسية تقف ضد الثورات بشكل مبدئي.
وفي عام 2013، وقف الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش، وهو رجل أعمال موالٍ جزئيًا لروسيا، ضد الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، فخرج آلاف المعارضين لموقفه، واستمرت الاحتجاجات حتى شهدنا سيطرة تلك القوى على السلطة في 2014، حيث هرب يانوكوفيتش من أوكرانيا إلى روسيا، وأصبحت أوكرانيا رسميًا موالية لأوروبا الغربية ومعادية لروسيا. والمشكلة أن المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا فيها نسبة من الروس. فسارعت موسكو، وسيطرت على القرم، وسلّحت الانفصاليين في إقليمي لوهانسك ودونيتسك شرقي أوكرانيا، ونسبة الروس فيهما تزيد على 40%، علمًا أن منطقة الدونباس غنية بالفحم (منطقة الدونباس والمناطق الغربية من روسيا كانت تسمى قبل قرون “روسيا الصغرى”، ولكن الاسم لم يعد يستخدم بعد تشكل الدولة الأوكرانية في القرن العشرين).
من المشكلات الكبرى التي برزت بعد أحداث 2014 في أوكرانيا، موضوع خطوط الغاز التي تمر من أوكرانيا، وتنقل الغاز الطبيعي الروسي إلى أوروبا وخاصة ألمانيا. وقد عملت موسكو للتخلص من المشكلات مع أوكرانيا، التي تختلف معها سياسيًا، على إنشاء خط جديد سمي بـ (التيار الشمالي-2)، يمرّ ببحر البلطيق إلى ألمانيا مباشرة، وأنجز المشروع في نهاية 2021، بالرغم من الضغوطات الأميركية لمنع إنجازه، ولكن ألمانيا لم تسمح بتشغيله حتى اليوم، بسبب الخلافات التي نشهدها حول أوكرانيا.
جوهر الخلاف الروسي الغربي:
عندما وافق الرئيس ميخائيل غورباتشوف، في نهاية الثمانينيات، على سحب الجيش السوفيتي من ألمانيا الشرقية وحلّ حلف وارسو، وعَدَه الأميركان شفهيًا -كما يقول الروس- بأن حلف الناتو لن يتقدم إلى الحدود الغربية لروسيا. ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي 1991، انضمت جمهوريات البلطيق (ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا) إلى الناتو.
وبعد 2014، أصبحت أوكرانيا مرشحة بقوة للانضمام إلى الناتو، فاعتبر الروس ذلك خطًا أحمر وخطرًا على أمنها القومي، لا يمكن قبوله. ولا شك أن أوكرانيا تعني الكثير لروسيا؛ فهي ليست مجرد موقع جغرافي جيوسياسي مهم، وإنما هي دولة شقيقة لروسيا، من ناحية التاريخ واللغة والقومية والدين، وأوكرانيا هي الرئة التي تتنفس منه روسيا باتجاه أوروبا، وبحسب رأي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق بريجينسكي، فإن “روسيا بدون أوكرانيا ليست دولة عظمى”.
ونشير أيضًا إلى اتفاقية مينسك عام 2015 التي وقعتها روسيا وأوكرانيا (الرئيس بوروشينكو) وفرنسا وألمانيا، والتي نصت على اعتبار خصوصية لإقليمي لوهانسك ودونيتسك في الدستور، وضرورة وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات، ثم تسليم الحدود الأوكرانية الروسية إلى السلطات الأوكرانية. ولكن الرئيس زيلينسكي اعتبر هذه الاتفاقية إهانة لأوكرانيا، ولذلك حاولت السلطات الأوكرانية أكثر من مرة استعادة السيطرة عسكريًا على إقليم دونباس.
والذي أثار حفيظة الكريملين هو الحديث عن توسع عسكري للناتو في أوكرانيا، والنقاش حول انضمام أوكرانيا للناتو؛ حيث طلبت روسيا من الناتو وأميركا أن يقدّموا لها ضمانات أمنية، منها عدم التوسع بالقرب من حدود روسيا، وعدم ضم أعضاء جدد للناتو من الدول المجاورة لروسيا، مثل أوكرانيا وجورجيا (علمًا أن النظام الداخلي للناتو ينصّ على عدم قبول أي دولة في عضويته، إذا كان لديها مشاكل انفصالية أو حدودية)، وكذلك العودة إلى ما قبل 1997، وإلغاء انضمام كل الدول الأوروبية الشرقية التي انتسبت إلى الحلف منذ ذلك التاريخ. ولكن الغرب عمومًا ردّ بالرفض على المقترحات الروسية. وترك الطرفان الباب مفتوحًا لمفاوضات دبلوماسية، وهي تجري بشكل مستمر دون جدوى، لأن كلا الطرفين الروسي والغربي (الأوكراني) لا يتنازل قيد أنملة عن مواقفه وثوابته.
وعبّر الرئيس الأوكراني زيلينسكي عن قلقه وتذمره من الموقف الغربي، لأنه برأي القيادة الأوكرانية أولًا يخلق الهلع بين الأوكرانيين، بالحديث عن قرب غزو روسيا لأوكرانيا، ويؤدي إلى هروب الاستثمارات من أوكرانيا، بسبب التخوف من اندلاع الحرب، وأخيرًا لأن الناتو وأميركا يقولون إنهم لن يتدخلوا عسكريًا للدفاع عن أوكرانيا، وإنما سيقتصر دعمهم على تقديم المساعدات العسكرية والمالية، وكذلك يهددون باتخاذ عقوبات قوية غير مسبوقة ضد روسيا.
تطورات الأزمة الأخيرة:
منذ أشهر، نشهد حملة إعلامية غير مسبوقة، وخاصة من الدول الغربية، بأن روسيا تنوي غزو أوكرانيا لمنع انضمامها للناتو، وتطالب بسحب القوات الروسية الموجودة على الحدود الأوكرانية، وقد بلغ عددها نحو 190 ألف عسكري، إضافة إلى المناورات العسكرية البحرية والجوية والبرية بمحاذاة أوكرانيا من الشرق في روسيا، ومن الشمال في بيلاروسيا، ومن الجنوب في القرم، إضافة إلى المناورات البحرية في البحر الأبيض المتوسط وفي بحر قزوين ومناطق مختلفة من العالم، اختتمت منذ يومين بتدريبات على أسلحة استراتيجية، استخدمت فيها صواريخ “فرط صوتية” تستخدم لحمل الرؤوس النووية.
وأعتقد أن الهدف من كل هذا الاستعراض العسكري الروسي عالي المستوى هو إبراز القدرات العسكرية الروسية، وإبلاغ الغرب بأن روسيا قادرة على الرد ومجابهة أي ضغط خارجي. ولكن تلك المناورات العسكرية تركت انطباعًا واسعًا في العالم بأن روسيا بالفعل تريد غزو أوكرانيا، التي لا يمكن أن تهدد روسيا لعدم وجود تكافؤ بالقدرات العسكرية، إضافة إلى أن الناتو لا ينوي التدخل إلى جانب أوكرانيا، وسيكتفي بتقديم المساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا. ويهدد الغرب روسيا باتخاذ عقوبات اقتصادية غير مسبوقة مدمرة وخطيرة جدًا، مثل قطع النظام المالي العالمي “سويفت” عن روسيا، وكذلك اتخاذ عقوبات بحق شركات مالية وأشخاص مقربين من بوتين. وقد شهدنا تضامنًا سياسيًا غربيًا غير مسبوق، أعرب عنه كبار المسؤولين الغربيين في مؤتمر ميونيخ للأمن، في تهديد روسيا بالعقوبات القاسية، وأن الغرب سيتخذ موقفًا موحدًا ضدها، علمًا أن الأوروبيين هم متضررون إلى جانب أوكرانيا وروسيا، وأن المستفيد الوحيد هو الولايات المتحدة.
وبالرغم من الاتصالات والزيارات لكبار القادة الغربيين، ومنهم وزراء خارجية عدد من الدول الأوروبية، فإن موسكو لم تتلق ما يرضيها وهو التعامل بجدية -كما يقول الكرملين- مع طلباتها بالضمانات الأمنية.
ويستمر التصعيد السياسي والإعلامي والميداني، ويبدو أن الهوة كبيرة بين أطراف النزاع، وخاصة بعد انطلاق القتال في إقليم الدونباس، وترحيل المدنيين من هناك إلى روسيا، واستمرار المناورات العسكرية الاستراتيجية في بيلاروسيا ومناطق أخرى، وكل ذلك يخلق شعورًا بقرب نشوب حرب على الجبهة الأوكرانية لن يخسر منها إلا الشعب الأوكراني والروسي، مقابل إرضاء العنجهية السياسية والاقتصادية والعسكرية لقادة الدول الكبرى، وفي مقدمتهم روسيا وأميركا.
وفي ما يخص الغاز الطبيعي الروسي المصدّر إلى أوروبا، فإنه مهدد بالانقطاع في حال نشوب حرب، وقد صرّح قادة غربيون، ومنهم رئيسة المفوضية الأوروبية، بأنهم جاهزون لاستبدال الغاز الروسي باستيراد غاز من دول أخرى في آسيا والشرق الأوسط ودول أخرى.
والحقيقة أن الامتناع عن استيراد الغاز الروسي سيشكل كارثة حقيقية لروسيا ولأوروبا، وخاصة لألمانيا التي تستورد 30% من صادرات الغاز الروسي. وقد صرّح مسؤول ألماني كبير بأن الصناعة في ألمانيا ستصاب بالشلل إذا توقف الغاز الروسي. وهنا تكون نتائج المفاوضات حول النووي الإيراني مهمة جدًا، لأنها قد تنعكس على الصراعات القائمة، فإذا اتفقت إيران والغرب على إحياء الاتفاق، فستدخل إيران إلى سوق الغاز، وستشكل خطرًا على روسيا.
التصعيد في أوكرانيا والعلاقة مع سورية:
أحد أهم الأهداف الروسية بالتدخل العسكري في سورية عام 2015 جاء بعد فشل روسيا في فرض موقفها على الغرب في أوكرانيا (2014)، ولذلك سعت موسكو لاستخدام تدخلها العسكري للحفاظ على نظام الأسد أولًا، ولكي تنتزع اعترافًا غربيًا بأنها شريك وندّ في القضايا الدولية. وهذا استمرار لموقف الرئيس بوتين في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، عندما أعلن أنه لن يقبل بسياسة القطب الواحد، وأن روسيا ستدافع عن مصالحها.
وقد جاءت زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو منذ أيام إلى سورية، في خضم التوتر حول أوكرانيا، مفاجأة لكثيرين، وذلك بهدف الإشراف على المناورات البحرية الكبيرة التي شاركت فيها عشرات السفن الحربية والصواريخ فرط صوتية والطائرات الحديثة وآلاف الجنود. وكان ذلك دليلًا واضحًا على أن موسكو ترسل رسالة إلى الغرب بأنها تسيطر على البحر المتوسط، منطلقة من قواعدها العسكرية في سورية في حميميم وطرطوس، وأن صواريخها تطال أوروبا الجنوبية، وأرادَت موسكو أن تبيّن للعالم أنها تستطيع أن تصل إلى أماكن بعيدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، انطلاقًا من قاعدة حميميم في سورية.
وكان لقاء الوزير الروسي مع الأسد في قاعدة حميميم، بعد أن انتظره الأسد ساعات عدة، إشارة إلى أن هناك توجيهات من بوتين إلى الأسد في موضوع محاربة (داعش) والتي نشهد تجهيزات كبيرة من قوات النظام وحلفائه تدعي أنها لمجابهة (داعش). ولنتذكر أن بيان مفاوضات آستانة الأخير ركّز في جزئه الأكبر على محاربة الإرهاب في سورية.
وبالطبع، لو نشبت الحرب في أوكرانيا، لانشغلت روسيا قليلًا عن الملفّ السوري، ولكنها لن تتراجع عن موقفها السياسي، لا في أوكرانيا ولا في سورية، فأجواء الصراع ستدفع موسكو إلى التمسك أكثر بموقعها في سورية وببقاء بشار الأسد في السلطة، علمًا أنّ الوضع في سورية مختلفٌ في التعامل بين الروس والأميركان؛ ففي حين تنسق موسكو وواشنطن، ومعها تل أبيب، بشكل قويّ في سورية، فإنهم يتصارعون في أوكرانيا لدرجة تكسير العظام.
مركز حرمون
————————–
ما المسائل المطروحة للنقاش؟
مايكل يونغ
يناقش ديميتري ترينين، في مقابلة معه، القضايا التي تحظى باهتمام منطقة الشرق الأوسط في ملف الأزمة الأوكرانية.
ديميتري ترينين مدير مركز كارنيغي في موسكو. صدر له كتاب بعنوان “ما الذي تخطط له روسيا في الشرق الأوسط؟ (What is Russia Up To In the Middle East?) عن منشورات “بوليتي” في كانون الأول/ديسمبر 2017. قبل انضمامه إلى كارنيغي في العام 1994، خدم في الجيش الروسي وتخرّج في العام 1997 من المعهد العسكري التابع لوزارة الدفاع في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. وفي العام 1984، نال ترينين دكتوراه في التاريخ من معهد الدراسات الأميركية والكندية التابع لأكاديمية العلوم السوفياتية. أجرت “ديوان” مقابلة معه في شباط/فبراير الجاري للنقاش حول الأزمة في أوكرانيا من منظور دول الشرق الأوسط.
مايكل يونغ: يراقب العالم العربي عن كثب فصول الأزمة الأوكرانية. ما هي برأيك أبرز المسائل التي تركّز عليها الأنظمة العربية في هذا الصدد؟
ديميتري ترينين: أعتقد أن الدول العربية مهتمّة بالخطوات التي ستتّخذها واشنطن وموسكو في هذا النزاع، والتفاعل بين الجانبَين بشأن أوكرانيا. وقد تصل دول المنطقة إلى خلاصة مفادها أن الولايات المتحدة غير مستعدّة لخوض حرب للدفاع عن دولة حليفة لها هي أوكرانيا. وهذا يعني أن الضمانات الأمنية الأميركية، على سبيل المثال من خلال انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، لا يمكن إعطاؤها في ظل وجود تهديد حقيقي بحدوث مواجهة عسكرية مع دولة عظمى نووية أخرى. والخلاصة الثانية هي أن الصين تتّخذ للمرة الأولى موقفًا حول القضايا الأمنية الأوروبية، يؤيّد المخاوف الأمنية الروسية (لكن لا يدعم بالضرورة خطوات محدّدة لموسكو). وهذا الدعم الروسي الصيني المتبادل على الساحة الدولية في وجه الولايات المتحدة أصبح مشهدًا مألوفًا جديدًا.
يونغ: ما الجانب الذي سيُهمّ إيران تحديدًا في الأزمة الأوكرانية؟ وكيف ينعكس ذلك على المفاوضات الجارية في فيينا حول إعادة إحياء الاتفاق النووي مع طهران؟
ترينين: سعت روسيا جاهدةً، خلال الأزمة الأمنية الأوروبية، للتوصل إلى اتفاق حيال البرنامج النووي الإيراني. وكان الموقف الروسي بشأن حظر الانتشار النووي متّسقًا منذ بدء المواجهة الأميركية الروسية في العام 2014.
يونغ: غالب الظن أن يدفع الموقف الروسي الحازم أوروبا إلى إعادة تقييم عملية حصولها على إمدادات الطاقة. ما التغييرات التي تتوقع أن تشهدها السياسات المعنية بخطوط الأنابيب، ولا سيما حيال الشرق الأوسط؟ وعلى ضوء الأزمة الأوكرانية، هل من الواقعي افتراض أن الدول الأوروبية يمكن أن تعود إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل بدء مشروع خط أنابيب نورد ستريم؟
ترينين: إن إلغاء مشروع خط أنابيب نورد ستريم 2 (الذي لم يبدأ تشغيله بعد)، وعلى نطاق أوسع تقويض العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في مجال الطاقة، لخفض اعتماد أوروبا على الغاز الروسي أو الحدّ منه، هو هدفٌ أساسي يصبو إليه كثيرون في الولايات المتحدة وأوروبا. يُشار إلى أن موقف إدارة بايدن الحالي المتحفّظ نسبيًا حيال خط نورد ستريم 2 يندرج في سياق الاتفاق بين واشنطن وبرلين، بيد أن هذا الموقف قد يتشدّد أكثر على وقع تطوّر الأزمة مع روسيا. في غضون ذلك، تحاول الولايات المتحدة البحث في أماكن أخرى مثل قطر عن سبل تعويض أي خسارة قد تقع نتيجة التعليق المُحتمل لشحنات الغاز الروسي. وحتى الآن، لا تزال ألمانيا تضبط موقفها، ولا سيما أن أي خطة ترمي إلى إيجاد بديل عن الغاز الروسي ستكبّدها تكاليف أكبر بكثير، ما يُضعف قدرة المنتجات الصناعية الألمانية على المنافسة. لكن الزيارة التي قام بها مؤخرًا المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز إلى موسكو لا تبشّر بالخير لمستقبل العلاقات الروسية الألمانية.
يونغ: يبدو أن ما يحصل حاليًا في أوكرانيا هو رد فعل روسي على ميل الولايات المتحدة، وربما الغرب عمومًا، إلى الاستخفاف بروسيا بعد الحرب الباردة، سواء في يوغوسلافيا السابقة، وتحديدًا كوسوفو، أو في العراق وليبيا. وأعتقد أن أولى الخطوات الجادّة التي اتّخذتها روسيا للرد على ذلك خارج حدود الاتحاد السوفياتي السابق كانت في الشرق الأوسط، وخصوصًا في سورية. لكن، ما المساعي التي ستبذلها روسيا في المنطقة لإعادة فرض موقعها كقوة عظمى لا تستطيع واشنطن تجنّبها؟
ترينين: لا أعتقد أن روسيا ستعمد إلى توسيع وجودها العسكري في الشرق الأوسط لمجرّد إعادة إثبات نفسها كقوة عالمية. ببساطة، تسعى موسكو إلى إقامة علاقات مع معظم دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي مستعدة للقيام بما يلزم، ضمن حدود المنطق، للحفاظ على مصالحها. علاوةً على ذلك، روسيا منهمكة في التواصل مع عدد من الدول غير الغربية، بدءًا من أفريقيا ومرورًا بآسيا ووصولًا إلى أميركا اللاتينية، من أجل توسيع نطاق نفوذها، واكتساب شركاء جدد، والتعويض عن تدهور علاقتها مع الولايات المتحدة وحلفائها.
يونغ: كثُرت التعليقات والانتقادات بعد الزيارة التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرًا إلى موسكو، حول احتمال تطبيق السيناريو الفنلندي (Finlandization) في أوكرانيا. وفي الشرق الأوسط أمثلة عدّة ضمنيًا عن هذا السيناريو، في الدول الصغيرة التي تحرص على تجنّب الوقوف في وجه مصالح جيرانها الأقوى. هل تعتقد أن هذا السيناريو سيكون جزءًا من أي حل للأزمة الأوكرانية؟
ترينين: أُفضّل تجنّب مصطلح Finlandization لأنه يخدش مشاعر أصدقائي الفنلنديين. بدلًا من ذلك، يمكننا ببساطة معاينة الوضع الجيوسياسي والاستراتيجي الفعلي لأوكرانيا. فقد أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة لن تدافع عن أوكرانيا، حتى في حال تعرّضت إلى الغزو واحتُلَّت أراضيها، ما يعني أن واشنطن لن تسمح بضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي طالما أن روسيا تعتبر ذلك سببًا يبرّر شنّ حرب. لذلك، سيتعيّن على الأوكرانيين التفكير مليًا في خطواتهم المقبلة إذا تعذّر عليهم الاعتماد على الضمانات الأمنية الأميركية.
—————————-
ما علاقة سوريا بالأزمة الأوكرانية – الروسية؟/ مصطفى رستم
وسط التطورات المتسارعة ميدانياً وسياسياً في أوكرانيا يمسك الكرملين بورقتين عسكرية واقتصادية، فهو يعلم حجم الخسائر في حال توقف خط الغاز الطبيعي الروسي “نورد ستريم 2” عن إمداد أوروبا، ومعلوم أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد الروسي يعتمد على صادرات النفط والغاز، فهي تشكل حوالى 40 في المئة من الموازنة الفيدرالية الروسية، مع التنويه إلى زيادة عائدات تصدير الغاز بنسبة 120 في المئة مقارنة بعام 2020 لتصل إلى 55.5 مليار دولار، وفق معطيات دائرة الجمارك الفيدرالية الروسية.
في الأثناء، تشكل القواعد الروسية في طرطوس واللاذقية على الساحل السوري أماكن استراتيجية، الأمر الذي دفع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى قطع انشغاله بغرفة العمليات العسكرية في موسكو، والقيام بزيارة إلى قاعدة حميميم في سوريا وتفقد المناورات الروسية في البحر المتوسط.
إشارات روسية لأوروبا
ويرى مراقبون أن علاقة سوريا بالأزمة الأوكرانية تبرز أهميتها بالبعد الجغرافي القريب من أوروبا، وإلى أن المناورات هي رسائل وإشارات للدور الروسي الممتد من البحر الأسود إلى المياه الدافئة في المتوسط، ولفت الأكاديمي في الاقتصاد السياسي بجامعة دمشق محمد حاج عثمان النظر إلى أن سوريا لم تعد ملعباً لتصفية الحسابات بين دول فاعلة خلال عشرية النزاع المسلح على أرضها، بل باتت بعد كل الضجيج توصف بـ “رأس الحربة” في أي حرب روسية من باب موقعها الاستراتيجي المطل على أوروبا، وإذ لفت إلى اقتراب ساعة الصفر للحرب، توقع أن تكون خاطفة وعلى أغلب الظن يفصلها أسبوع آخر من المفاوضات، على الرغم من التوتر الحاصل على الجبهة الأوكرانية والدعم المتواصل للانفصاليين عن كييف.
ورأى عثمان أن ما تمثله قاعدة حميميم، فضلاً عن المناورات الروسية على ساحل المتوسط، هي رسالة للدول الأوروبية حول هيمنة ونفوذ متناميين تمتلكهما روسيا إبان انخراطها بالصراع الدائر في الداخل السوري والوقوف إلى جانب دمشق، ومن جهة ثانية لإبراز عضلات موسكو قبل بدء ساعة الصفر في معركة لا تحمد عواقبها، وقال، “عدا عن استغلال موسكو قاعدة حميميم التي وصلتها أخيراً أكثر أنواع الأسلحة تطوراً والصواريخ الموجهة التي لا يمكن اعتراضها، ستقوم بدور فاعل في تهديد مواقع نفوذ الولايات المتحدة في الشمال الشرقي من سوريا إضافة لمواجهة الأهداف الأوروبية، بخاصة أن القوات الروسية وجدت موطئ قدم لها في منطقة شديدة التعقيد، ولن تكون القوات الأميركية عن منأى الاستهداف في حال أسهمت واشنطن بالوقوف إلى جانب كييف”.
شرق المتوسط
واشتركت أكثر من 140 قطعة بحرية في مناورات داخل الجزء الشرقي من البحر المتوسط، وفق ما أعلن القائد العام للقوات البحرية الروسية الأميرال نيكولاي إيفمينوف، ونحو 60 طائرة و1000 آلية عسكرية وحوالى 10 آلاف جندي.
كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية مشاركة 15 سفينة حربية من أساطيل المحيط الهادي والشمال والبحر الأسود في تدريبات تمحورت حول رصد الغواصات المعادية وفرض السيطرة على الملاحة في البحر وتنظيم عبور الطائرات، مع مشاركة مقاتلات “ميغ -31” وحاملة صواريخ “كينجال” فرط الصوتية المضادة لحاملات الطائرات مع قاذفات “تو-22 إم”، وهذه المقاتلات قطعت مسافة 1500 ألف كيلومتر من قواعدها إلى قاعدة حميميم.
ونشرت وزارة الدفاع الروسية بياناً أشارت فيه إلى أن نشر القاذفات جاء على خلفية وجود مجموعة جوية تابعة لـ “الناتو” في منطقة البحر المتوسط، في وقت كانت قيادة حلف شمال الأطلسي أعلنت في الـ 24 من يناير (كانون الثاني) الماضي إجراء تدريبات “نبتون سترايك 22” في البحر المتوسط بمشاركة حاملة الطائرات الأميركية “هاري ترومان”، بالتزامن مع إعلان إرسال الجيش الفرنسي حاملة الطائرات “شارل ديغول”.
دبلوماسية الحلول في تراجع
وفي وقت يبدو أن الطريق الدبلوماسي في الأزمة الأوكرانية الروسية قد شارف على الانتهاء، تناقلت في العاصمة السورية أنباء عن مقايضة طرحتها الولايات المتحدة وعرضت فيها على روسيا إنهاء التزاماتها من سوريا في مقابل تعهد الأميركيين بأن تكون أوكرانيا تابعة لها سياسياً بالمطلق، إلا أن الرئيس فلاديمير بوتين رفضها، وفق ما نشرت شبكة “البعث ميديا” التابعة للحزب الحاكم في دمشق. واستبعد عضو مجلس الشعب، النائب خالد عبود ما يتداول، ووصفه بأنه “مقولات وخلاصات مبنية على قرارات خاطئة ومواقف مستندة إلى تهيؤات”.
عودة الحروب الساخنة
وإن حدثت الحرب فإن قطبي العالم الروسي والأميركي سيخرجان من دائرة الحرب الباردة التي سادت على مدى عقود بعدما أعاد الكرملين مكانته وتزايدت سطوته، ومن الممكن أن يصطدما وجهاً لوجه إذ لم تفلح الجهود الدبلوماسية في كبحها، ويمكن أن تتسع رقعتها إلى مطارح أوسع انتشاراً لتنذر بحرب عالمية بنسختها الثالثة، بحسب ما يتنبأ متابعون.
وتستجمع موسكو كامل قواها في المياه الدافئة، وبلا شك ستكون قاعدتها في حميميم بريف اللاذقية غرب سوريا منطلقاً لأية ضربات عسكرية خاطفة، لا سيما ضد أهداف أميركية أو تابعة لحلف الناتو”.
اندبندنت عربية
—————————-
شطرنج بوتين الأوكراني/ بسام مقداد
تداولت وسائل التواصل الإحتماعي الأسبوع الماضي شريط فيديو يتحدث فيه بوتين إلى طفل روسي، ويسأله عن حدود روسيا. رد الطفل بأن روسيا يحدها من الشرق مضيق بيرينغ، فسارع بوتين إلى مقاطعة الطفل وقال له”غلط، ليس لروسيا حدود”. قد يكون شريط الفيديو مفبركاً، هدف منه ناشروه الى إلقاء الضوء على طموحات بوتين الإمبراطورية، إلا أنه يقول الكثير في خضم الغزو الروسي الراهن لأوكرانيا. فمنذ أن وصل بوتين إلى السلطة، ممثلاً الKGB، ومحاولاته متواصلة لإحياء الإتحاد السوفياتي كصيغة للإمبراطورية الروسية.
ليست أوكرانيا وحدها التي تعاني من نزعة الكرملين الإمبراطورية، بل كل الجمهوريات السوفياتية السابقة وأوروبا الشرقية التي رزحت طويلاً تحت الإحتلال الروسي. الغرب يدرك جيداً هذه النزعة ويتعامل معها بهذا القدر أو ذاك من النجاح. فقد صرحت وزيرة الخارجية البريطانية الأحد المنصرم بأن طموحات بوتين لن تؤدي فقط إلى سيطرته على أوكرانيا، بل يريد إعادة الزمن إلى أواسط التسعينات وما قبلها. دول البلطيق في خطر، وكذلك دول غرب البلقان. وبوتين صرح علناً أنه يريد إقامة روسيا العظمى، وبأنه يريد إعادة الوضع إلى ما كان عليه سابقاً، حين كانت روسيا تسيطر على أراضٍ شاسعة في أوروبا الشرقية. ولهذا من المهم جداً “ان نواجه بوتين مع حلفائنا”، فقد تكون أوكرانيا الأسبوع المقبل، لكن أي بلد سيكون الأسبوع الذي يليه.
وفي تأكيد صريح لهذه النزعة الإمبراطورية وإعادة الزمن إلى الوراء، نشرت نوفوستي أمس الإثنين نصاً لأحد كتابها السياسيين بعنوان “بدأت المعركة الأخيرة من أجل الغاز الروسي”. يتحدث الكاتب عن الصراع بين الدول الأوروبية حول خط الغاز الروسي “الشمال 2″، وعن معركة الدول الأوروبية ذات المصلحة بهذا الخط مع الولايات المتحدة.
ينهي الكاتب نصه بالحديث عن الصراع المشتعل الآن حول أوكرانيا، فيقول بانه يجب أن نفهم “حقيقة بسيطة”، وهي أن الحرب تدور الآن ليس من أجل الدونباس، بل هي معركة تاريخية من أجل إعادة تقسيم النفوذ على الكوكب. وبنتيجة هذا القسيم قد يتشكل، ولأول مرة منذ عدة قرون، محور راسخ روسيا ـــــــ أوروبا سوف يكون للأخيرة فيه حرية أكثر بكثير مما في تحالفها مع الولايات المتحدة. والأميركيون يدركون ذلك جيداً، ولذلك فمن خلال الدفع بأوكرانيا مع المدافع وبولونيا مع قنبلة تحت الأساس الأوروبي، يتضح أن “شركاءنا” الأميركيين يقدرون الوضع بأنه ميؤس منه.
تجدر الإشارة إلى أن الكاتب نفسه كان قد نشر قيل يومين نصاً آخر ينضح عنوانه بالنزعة الإمبراطورية التوسعية عينها، “روسيا تنفق 100 مليار لاكتساب السيطرة على العالم”. المليارات التي يذكرها الكاتب هي مليارات الروبلات، ويقول هو نفسه بأنها تساوي اكثر بقليل من مليار دولار! يتحدث النص عن إفتتاح الحكومة الروسية ورشة تطوير الصناعات المرتكزة على احدث العلوم، وخاصة في الحقل النووي الذي ينوي الكاتب إحراز السيطرة بواسطته على العالم بكلفة تزيد قليلاً عن مليار دولار.
في العودة إلى الحرب المشتعلة الآن في الدونباس بين روسيا وأوكرانيا، والتي تقف وراءها النزعة الإمبراطورية الروسية عينها، إستضاف موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية في 19 من الجاري كاتباً سياسياً أوكرانياً في الموقع نفسه يتهم بوتين أن بوسعه إرتكاب أكبر كارثة في القرن الحادي والعشرين. طرح الموقع على الكاتب الأوكراني أسئلة تركزت حول القصف المدفعي في الدونباس والإتهامات المتبادلة بين روسيا وأوكرانيا حول خروق وقف إطلاق النار في المنطقة. في الرد على السؤال حول إعلان أوكرانيا عن قصف مناطق سكنية في الدونباس، وإتهام روسيا لأوكرانيا بتصعيد النزاع، يقول الكاتب بأن أوكرانيا تقدم إثباتات حقيقية، فترد عليها روسيا بإتهامها بقصف مواقعها السكنية من أجل عرضها على شبكات التلفزة الغربية.
وعن رد وزارة الخارجية الروسية على الأميركيين بأنها سوف تضطر للرد بإتخاذ ” تدابير ذات طابع عسكري تقني” وما المقصود بهذا التعبير، يقول الكاتب بأنها ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها روسيا هذا التعبير، من دون أن توضح ما إذا كانت تعني به الحرب أم سباق التسلح. ويرى أن في عدم التوضيح هذا تكمن فكرة الحفاظ على التوتر في الوضع الراهن.
موقع Znak الروسي قال في نص نشره الأحد المنصرم بعنوان “بوتين فوت فرصة تفكيك أوكرانيا، والإنتحار لن يحدث”. يقول الموقع بأن الشتاء مضى في إنتظار عملية عسكرية روسية ضد أوكرانيا، ودخل تاريخ أوروبا. وما يمكن أن نستنتجه من كل ما يدور حالياً أنه، من أجل الحفاظ على الإنتظار المتوتر للعمليات العسكرية القادر على تغطية أقصى عدد من البلدان، لا حاجة للعمليات العسكرية المباشرة نفسها.
يقول الموقع أن سمعة السلطة الروسية هي دائماً سمعة سيئة، وتعلم الناس ألا ينتظروا منهاً أمراً جيداً. وسلطة بوتين لم تقدم خلال عشرين سنة ونيف دليلاً واحداً على إستعدادها للإنتحار، وهي لن تقدم عليه الآن (غزو أوكرانيا). والممسكون بالسلطة لم يقدموا طيلة هذه الفترة سبباً واحداً للإعتقاد بأن لديهم ما هو أهم من الإحتفاظ بها.
ويختتم الموقع بالقول أن بوتين فوت العام 2014 فرصة تاريخية لإعادة توحيد أكبر شعب مقسم في العالم (الروسي والأوكراني) وتفكيك أوكرانيا، وقد تذكر هذه الحقيقة بنفسها لاحقاً، لكن ليس الآن.
موقع kasparov الروسي المعارض نشر في 20 من الجاري نصاً بعنوان “كش ملك، مات الملك”. يرى الموقع أن بوتين قد ألحق الأذى ببلده، وذلك لتركيز الحرب في الإعلام، وهي هزيمة على المدى الإستراتيجي الطويل. فقد وحد بوتين أعداءه، وما أعلنه الرئيس الفرنسي العام 2019 من أن الناتو قد مات، إستطاع بوتين أن يوحده بالكراهية لنفسه. حتى فنلندا والسويد اللتان سبق أن أعلنتا وقوفهما على الحياد، عادتا للنظر في إحتمال إنضمامهما إلى الناتو. حتى حليفة بوتين الأهم في الناتو ألمانيا اعترفت أن خط الغاز “الشمال 2” تبين أنه خطأ، وقد تترتب عليه آثار سيئة. أوكرانيا أصبحت أصلب وحدة وتوجهاً نحو الغرب، وتلقت الشهر الماضي فقط كمية هائلة من الأسلحة الغربية الحديثة.
لكن هزيمة بوتين الأكبر هي في روسيا. عشر سنوات وهو يبني إقتصاد القلعة المحاصرة، وذلك بزيادة حجم الإحتياطي من العملات الأجنبية وتخفيض نسبة الدولار فيها. خفض إعتماد روسيا على الرأسمال الأجنبي، وحاول تطوير التكنولوجيا. غازل الصين على أمل العثور على زبون بديل للنفط والغاز اللذين ما زالا حتى اليوم المصدر الرئيسي للعملات الأجنبية. هذه النشاطات خفضت إمكانيات العقوبات الغربية، لكنها لم تلغ مخاطر فرضها. سوف يكون لهذه العواقب ثمنٌ باهظٌ داخل المجتمع الروسي، مما يجعل بوتين أكثر اعتماداً على القوى الأمنية التى ترى في الغرب والديموقراطية تهديداً لقدرتها في السيطرة على المجتمع. الرأسماليون الليبراليون والتكنوقراط سيغادرون روسيا نهائياً. سوف ترتفع في المجتمع الميول المعارضة التي ستقمع بقسوة من القوى الأمنية.
وانتهى الموقع إلى التأكيد بأن القسم الأعظم من روسيا لا يرى أي مصلحة له في ما يجري الآن، وكثيرون من الروس لا يريدون الحرب ولا الدولة التي تفترض الحرب. وبوتين الذي توهم نفسه لاعب شطرنج إستراتيجي عظيم، حشر نفسه في وضعية كش ملك.
المدن
————————-
=========================