أربع مقالات لمحمد سامي الكيال
ما بعد سيد القمني: هل تجاوزنا فعلاً فقر «التنوير» العربي؟/ محمد سامي الكيال
أثارت وفاة الكاتب المصري سيد القمني كثيراً من ردود الفعل، التي اتفق معظمهما على ضعف المحتوى الفكري والمنهجي لكتاباته، في مواجهة صعود الإسلام السياسي في العالم العربي. وباستثناء فئة محدودة من قرّائه القدماء المخلصين، التي اعتبرت أنه كان «فارس التنوير العربي»، أجمع ما يمكن اعتبارهما التيارين الأيديولوجيين الأساسيين حالياً في العالم العربي: الإسلام السياسي بعد كل «المراجعات» التي أجراها؛ والتيار «المدني»، الأقرب لطروحات اليسار الغربي المعاصر، على أن القمني ظل متمسكاً بشكل متشنّج بثنائية تجاوزها الزمن، أي الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، فضلاً عن اعتماده على مفاهيم فقيرة حول الحداثة والتنوير والإسلام.
قد يبدو هذا النمط من النقد متجنّياً بعض الشيء بحق الكاتب الراحل، فهو لم يقدّم كتاباته يوماً بوصفها بحثاً أكاديمياً، أو تجديداً في دراسات الحداثة والإسلام، بل كتب للعموم، في عصر صعود الإسلام السياسي، محاولاً مواجهة موجة الأسلمة العارمة التي شهدها، فضلاً عن أن الحديث عن فقر مفاهيمه يغفل الأسئلة الأساسية التي حرّكته، والتي لم تكن أكثر من انعكاس لطروحات «الصحوة الإسلامية» نفسها: هل الإسلام فعلاً هو الحل؟ هل العصور الإسلامية الأولى كانت عصوراً ذهبية؟ وهل الحداثة والعلمانية مؤامرة على الأمة وهويتها؟ وبالتالي فإن فقر مفاهيم القمني، لا يعبّر إلا عن الحالة السياسية والأيديولوجية العامة في العالم العربي في الربع الأخير من القرن العشرين.
إلا ان النقد الشديد لكتابات القمني، قد لا يكون بسبب عجزه عن طرح أسئلة وإشكاليات جديدة، بقدر عاملين أيديولوجيين مركزيين في عصرنا: أولهما بروز حالة من التصالح، أو تأجيل الخلافات، بين الإسلاميين والعلمانيين قبيل الربيع العربي، وتركيز الطرفين على مواجهة الأنظمة الاستبدادية. وهو ائتلاف مؤقت سرعان ما انهار بعد فشل الثورات، والممارسات السياسية المتخبّطة للقوى الإسلامية والمدنية. ليأتي عامل ثانٍ، منع تصاعد الخلاف الأيديولوجي بين الطرفين من جديد، وهو اكتشاف منجم من الكتابات، الصادرة عن أكاديميات غربية، تحاول نقد النظرة التقليدية للإسلام، خاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. وتركّز على نقد الحداثة والتنوير والعلمانية.
النهم في ترجمة وقراءة هذه الإعمال دون غيرها، سواء من قبل الإسلاميين ودور النشر المقرّبة إليهم، أو من قبل كثير من «المدنيين»، المتأثرين باليسار بعد الكولونيالي في الغرب، أو حتى سياسات الهوية الأقرب لليسار الليبرالي، جعل سيد القمني يبدو شديد التخلّف. هو لم يقرأ حتى «الغرب» الذي طالما اعتبره مثالاً.
رغم هذا ربما لا تكون إشكاليات وثنائيات القمني مُتجاوزة لهذه الدرجة. فالبحث في طروحات نقّاده من الطرفين قد تبيّن أن كل «المفاهيم والمناهج الجديدة» التي يتبنونها، ما زالت تدور في الحلقات المفرغة نفسها، التي أفنى بها حياته، وبأسلوب لا يقل تشنّجاً. فما أهم تلك الحلقات المفرغة؟ ولماذا يصعب تجاوز الفقر المفاهيمي لمعارك التحديث العربية؟
مشكلة الدولة
بات من المألوف الحديث عن مشكلة بنيوية في «الدولة الحديثة»، التي طالما حلم بها القمني ومجايلوه من المفكرين «التنويريين». فهي قائمة على أنماط متشابكة من الإقصاء، وأحيانا الإبادة والتطهير؛ الهندسة الاجتماعية؛ تعالي السيادة وأولوية الهيمنة على حساب العوامل الاجتماعية والأخلاقية؛ إضافةً لقيامها بدورها على أساطير مؤسسة، ما يزيل الفارق المُدّعى بين عقلانية علمانية ونزعة خرافية تنسب عادة إلى الأديان. فضلاً عن أن الدول الحديثة ارتكبت ممارسات عنيفة ودموية تجعل الحديث عن «عنف ديني» متجذّر لا معنى له.
إلا أن هذا الطرح يدفع للتساؤل عن المغزى السياسي لتفكيك أساطير الدولة الحديثة، هل المطلوب إجراء انقلاب في علاقات القوة والهيمنة، لمصلحة من همّشتهم العقلانية والمركزية الغربية البيضاء، نحو مزيد من «التمييز الإيجابي»، الضامن للعدالة أكثر من المساواة داخل المنظومة القائمة، على طريقة جانب من اليسار الغربي؟ أم استعادة منظومات سابقة للحداثة، وإعادة تشغيلها كأن شيئا لم يحدث منذ القرن الثامن عشر، مثل «التقليد الإسلامي»، أو حتى «خلافة إسلامية» تتيح إعادة بناء الكينونة والذوات الإسلامية، التي شتتها الاستعمار والحداثة، ومنعاها من التعبير عن نفسها، بحسب سلمان سيد أستاذ النظرية بعد الكولونيالية في جامعة ليدز البريطانية؟
في الواقع يصعب فصل مثل هذه الأفكار، رغم كل انتقادها للحداثة، عن الطروحات الكلاسيكية للتنوير والتنوير المضاد، فنقد الدولة والتهميش والهيمنة، وكذلك العقلانية والاستعمار والتصنيع، كان دوماً طرحاً مرتبطاً بالتيارات المتعارضة والمتشابكة للتنوير منذ نشأته. أنصار التنوير المضاد مثلاً، ومنهم الرومانتيكيون الأوروبيون، وجّهوا منذ القرن التاسع عشر نقداً أخلاقياً شديداً للحداثة، وبحثوا عن عصور سابقة لها، بريئة من كل التأطير القمعي العقلاني الحديث للحيوية الإنسانية؛ فيما دافع أنصار التنوير المحافظ عن التقليد، وانتقدوا جموح الدول القومية في إعادة صياغة التقاليد والانتماءات الاجتماعية؛ أما بعض التنويريين الراديكاليين فحلموا بيوم تضمحلّ به الدولة نفسها.
الأهم أن أياً من هذه الانتقادات، رغم كل سخريتها من الكونية والإنسانية، لا تستطيع التنازل عن خطاب ومُثل عالمية في طرحها: عندما يكتب أستاذ جامعي غربي باللغة الإنكليزية إدانةً ما للحداثة، فهو يفترض نوعاً من قيم عمومية مشتركة، عقلانية وعابرة للثقافات، وإلا كيف يتوقّع أن ممارسات ما، مثل القمع أو التهميش أو القتل، ستصبح قرينة لإثبات سوء منظومة ما بنظر كل قرّائه؛ فيما قد يكون تبيان تناقضات التحديث توسيعاً له، وصيانة له من أزماته الأساسية. يبدو ألا خلاص من «سجن» التنوير وإشكالياته.
كان سيد القمني، على «بدائية» أدواته ومناهجه، عالقاً في إشكاليات مماثلة، معتبراً أن المشكلة «غزو وهابي» متخلّف قضى على تنوّر بلاده. فيما يبتكر نقّاده اليوم عدواً جديداً، ربما لا يقل خرافية، رجلا أبيض؛ استعمارا، تحديثا وعقلانية قمعية؛ قطع مسيرة البشرية السابقة للحداثة، التي بات يُنظر إليها برومانسية شديدة. الأهم أن كثيراً من نقّاد القمني يقومون مثله باختزال تعقيد الظواهر التاريخية إلى صيغ بسيطة. وهو مآل مؤسف لتلقي مشاريع نقدية مهمة، مثل بعد الكولونيالية وبعد البنيوية، عملت أساساً في بداياتها على أشكلة الظواهر التاريخية وبيان تعقيدها وتعدد أصواتها.
مشكلة «الغرب»
يبدو أن «الغرب» ما يزال يشكل عقدة أساسية للتفكير العربي والإسلامي حول أي قضية. اعتقد سيد القمني أن «الصحوة الإسلامية» تعيق العالم العربي والإسلامي عن الأخذ بأسباب التحديث، المتجسّدة في الدول الغربية. اليوم ينتقده خصومه لأسباب مشابهة، في تناقض مثير للدهشة فعلاً: «الغرب» الآن يفكك المركزية الغربية، وبالتالي فإن انتقاد الغرب هو اتباع لآخر صرعة فكرية سائدة في الغرب نفسه. وكأن الخلاص من «المركزية الغربية» هو إثبات للتقدمية والتنوّر، ووعي المثقف العالمثالثي، بأنه مستوعب لآخر ما يدور في أروقة المؤسسات الثقافية الغربية. نرى اليوم إسلاميين عقائديين، أو يساريين مناهضين للكولونيالية، يسخرون من التنويريين العرب التقليديين، فقط لأنهم لم يكرروا آخر الأفكار التي توصّلت إليها الأكاديميات الغربية في المراكز الكولونيالية السابقة!
تماماً مثل سيد القمني، يبدو أن الغرب ما زال صنماً واجب الاتباع بالنسبة للفكر العربي المعاصر، وبالتالي فإن السائد هو الفهم المبتذل للتنوير، بوصفه استلاباً بآخر مظاهر المركزية الغربية، التي فرضت نفسها على العالم بأكمله. يمكن القول، دون كثير من التجنّي، إن الإسلاميين واليساريين العرب، المتابعين بشغف لآخر منتجات «نقد الحداثة» في الجامعات الناطقة بالإنكليزية، ليسوا أكثر من تنويريين من الدرجة الثانية. يروّجون لأفكار معينة، فقط لأنها «غربية» و»جديدة»، وليس بسبب اشتباكهم المحلي مع مفاهيم معقدة حول حركة مجتمعاتهم وأسئلتها وصراعاتها.
مشكلة الحيز العام
ورغم كل التشابه المذكور أعلاه بين سيد القمني ونقّاده العرب المعاصرين يمكن تحديد ميزة له عنهم: نشر قمني أفكاره في الحيز العام المتوفّر في بلاده، على أمل أن يستقطب بحججه أفراداً من مختلف المشارب والانتماءات. متمنّياً أن يستطيع تغيير قناعاتهم، وإبعادهم عمّا يراها أفكاراً رجعية وظلامية، عن طريق ما توفّر له من إمكانيات البحث والنشر.
اليوم يبدو نقّاد القمني أقلّ إيماناً بالتغيير في الحيز العام. يتحوّل الإسلاميون تدريجياً إلى ما يشبه طائفة هوياتية مغلقة، تجتر دوماً مظلمتها من إجراءات الحكومات القمعية، ونكران المجتمعات لآلامها وتضحياتها. فيما يبدو أنصار سياسات الهوية «اليساريين» أقرب لمدافعين عن حساسيات فئات معيّنة، ضد أشكال العدوان الكبير والمصغّر المنتشرة في الحيز العام، محاولين فرض نمط من «ثقافة الإلغاء»، أينما وصل نفوذهم الثقافي المحدود.
ربما كان أسلوب سيد القمني، المستعد لخوض المناظرات أينما سنحت له الفرصة، والذي يعتبر أن كل القضايا قابلة للجدل والنقاش، أكثر ديمقراطية وتطوّراً من كل من يعتبرون أنهم قد تجاوزا بدائية معارك التنوير العربي.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
في صناعة «الترند»: الفنون في عصر «اقتصاد الانتباه»/ محمد سامي الكيال
أصبح من المعتاد أن تثير أعمال فنية وأدبية كثيراً من الاستياء والاعتراضات، ليس فقط في الفضاء العربي، الذي يقدّم عادة بوصفه محافظاً أو متديناً، بل أيضاً في أكثر المجتمعات الغربية ليبرالية. كثير من المفكرين والمحللين تحدثوا عن «ثقافة الاستياء» أي تصاعد الحساسيات الفردية والهوياتية، سهلة الاستثارة من أي شكل من أشكال التعبير في الحيز العام، والمطالبة دوماً بحمايتها من كل اعتداء على إحساسها الذاتي شديد الهشاشة، مهما كان مُصغّراً أو حتى مجهرياً.
إلا أن هذا التحليل، على أهميته، ربما يهمل شرطاً بنيوياً من شروط الإنتاج الثقافي في زمننا، وهو عدم اكتفائه بذاته، بوصفه منتجاً مكتمل القول والشكل والبنية. يُقدّم لمشاهد أو مستمع أو قارئ، يسعى لتلقيه وتأويله بالاستعداد والانتباه الكافيين. قد يكون المنتج الثقافي في عصرنا، الذي يميل لـ»التفاعلية» ناقصاً بالضرورة، وتشكّل التعليقات، مرات الاستماع والمشاهدة والتحميل؛ «الترند» أي الموجة التي يثيرها على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، جزءاً أساسياً من بنيته.
لم يعد العمل الثقافي إنجازاً يُترك للزمن، كي يعيد البشر دوماً اكتشاف جمالياته ومضامينه، بل طريقة للفت الانتباه، وتحصيل أكبر قدر ممكن من «المرور» traffic في نقطة زمنية معينة. ثم يزول ويترك للنسيان، هو وكل الضجة التي أثارها، ليملأ مكانه «ترند» جديد، يحصّل «مروراً» أكثر.
يمكن للغة العربية أن تعطي مفردة مناسبة جداً لوصف هذا الحال، وهي «اللغط» أي الأصوات المبهمة، غير واضحة المعنى، التي تصدر عن جموع غير متعيّنة: لا تثير الأعمال الثقافية المتنازع عليها حالياً جدلاً في الحيز العام، يقوم على معانٍ وأفكار وتيارات فكرية أو سياسية معيّنة، بل لغطاً، أي سيلاً من الصراخ والشتائم؛ الاستياء؛ التعبير البدائي عن الخوف والتهديد وانعدام الأمان؛ الانفعالات غير المصاغة في تعبيرات واضحة. وهذا يشبه تماماً طريقة التلقي المعاصرة للعمل الثقافي: النقر والتعليق والتحميل والزيارة، وليس «القراءة» بمعناها الأوسع. وبالتالي فإن لكل عمل لغطه، الذي لا فائدة له دونه. تماماً كبرامج «التوك شو» وتلفزيون الواقع، التي سادت مطلع الألفية، والتي كانت مداخلات المشاهدين وتصويتهم جزءاً عضوياً منها.
سبق للناقد الثقافي البريطاني آلان كيربي التنظير لكل هذا تحت عنوان «الحداثة الزائفة» أو «الحداثة الرقمية» إلا أن الموضوع يتعلّق ربما بما هو أكثر من النقد الثقافي الاعتيادي، المنزعج من «التفاهة المطلقة» للمنتجات الثقافية المعاصرة، حسب تعبير كيربي نفسه، لأن «التريندات» الحالية، في كل استيائها وضجيجها وسرعة زوالها، تقول كثيراً أيضاً عن السياسة والاقتصاد والحيز العام في عصرنا. فما أهم دلالاتها في هذه المجالات؟ ولماذا يصبح «اللغط» شرطاً أساسياً للمنتج الثقافي المعاصر؟
العلامات اللافتة للانتباه
يثير حديث كثير من المفكرين والاقتصاديين عن «اقتصاد لفت الانتباه» أفكاراً غير سارة للغاية عما يمكن تسميته «الطبيعة البشرية» فبعد أن كانت الخطابات السياسية والأيديولوجية، بل حتى الدعاية والإعلان للسلع، تتوجه إلى مستوى الوعي واللاوعي لدى البشر، أي الجوانب الأكثر التصاقاً بالذاتية المكتملة، محاولةً تحفيز الأفكار، أو إثارة الخيال، يقوم اقتصاد الانتباه على العلامات غير الدالة أو «اللافتة للانتباه» على مستوى قبل ذاتي. بما يذكّر بتجارب عالم النفس الروسي الشهير إيفان بافلوف مع الكلاب، وتحفيزها بمحفزات مادية/عصبية مباشرة جداً، خالقاً لديها منعكساً شرطياً: يسيل لعاب الكلاب عندما تسمع الجرس، الذي ينبئها بموعد الطعام. على الأعمال الثقافية الناجحة في عصرنا أن تجد «جرسها» الخاص، أي محفّزاً يلفت انتباه المتابعين، ويدفعهم للنقر والزيارة والتحميل، والمحفز الجيد ينتج «ترينداً». ما يعني كثيراً من «الترافيك» وسيلاً من البيانات عن «المستخدمين» يمكن بيعها وتسويقها، وإنتاج إعلانات تحوي بدورها مزيداً من المحفزات، وهكذا تُنتج قيمة، منعكسات البشر الشرطية فيها، وما يلفت انتباههم، هو السلعة.
لهذا آثار شديدة الأهمية على الذاتية: لم تعد توجد ذوات مستقرة، تعرف موقعها الاجتماعي، نتيجة ارتباطها بخطابات مكتملة عن الفرد والمجموعة والعالم، تقوم على علامات دالة، تتوجه لمستوى الفكر أو الخيال، بل ذوات منتزعة التوطين دوماً من أي سياق، لا يحُفّز فكرها أو خيالها، بل يُلفت انتباهها. عبر إشعار أحمر اللون على موقع فيسبوك أو أنستغرام؛ رمز يثير الكراهية والسخط والخوف، مثل المثلية الجنسية، والعنف و«التنمّر» ضدها؛ «البورن» Porn بكل أشكاله، سواء بورن الجنس أو الطعام، أو القصص المتداولة عن الاغتصاب والتعذيب. بالتأكيد يثير كل هذا خيالات عدة في اللاوعي، لكنه في حالتنا لا يسعى إلى إنشاء تصورات معينة ومتكاملة في المستوى الخيالي للبشر، بقدر ما يريد استيقافهم أثناء «إبحارهم» في الإنترنت، إثارة انتباههم ولو لثانية واحدة، كي يقوموا بـ«النقر». الذوات المبنية على العلامات اللافتة للانتباه هذه لا يمكنها الاستقرار عند أي خطاب عن الذات أو المجموعة أو الكون، بل هي ماكينات لتلقي العلامات وإصدارها.
يبدو الوضع أشد كابوسية لو نظرنا إليه من زاوية سياسية بحتة: كل هؤلاء المستائين، الخائفين، الضحايا، غير قادرين على الاجتماع في إطار سياسي معين، لتقديم مطالب واضحة تتصدى لما يضايقهم، لأنه ليس بإمكانهم أن يتوطّنوا في موقع ما، بل يتنقّلون من علامة غير دالة إلى أخرى، ويظنون هذا فرادة أو خصوصية.
ترند الهوية
بهذا المعنى فإن «سياسات الهوية» في عصرنا تعني، أن الذات لم تعد مالكاً للأغراض والسلع والأدوات والقوى البدنية وحسب، بل باتت هي نفسها ملكية، يمكن بيعها وتسويقها، بناءً على قدرتها على إصدار وتلقي العلامات اللافتة للانتباه. يدرّب ملايين البشر، منذ مراحل تعليمهم الأساسي، على كتابة «السير الذاتية» واستعراض مهاراتهم، ليس فقط في المجالات المباشرة للعمل، بل أيضاً قدرتهم على «المرونة» كفاءتهم في «التفاعل بين الثقافات» تسامحهم وأخلاقياتهم، أي باختصار كامل إمكانياتهم النفسية والعاطفية على التفاعل في عالم يضج بعلامات لافتة للانتباه. بالعودة للإنتاج الثقافي فهذا قد يعني أن ميل كثير من عاملي الثقافة للخوض في قضايا الهوية لا ينبع فقط من تبنيّهم لأيديولوجيا ليبرالية أو مناهضة للتمييز، أو حتى يمينية معادية للهويات الأضعف، بل من ضرورة أن تكون أعمالهم حافلة بما هو مثير للانتباه. انتج فيلماً جنسياً مثلاً وسيضيع وسط آلاف الأفلام المماثلة، التي لم يعد وجودها تحدياً لسلطة أحد. لكن إن جعلت أبطال الفيلم من ثقافة معينة، ويستعرضون رموزاً ما، ويتعرّضون لنوع من «التمييز» فستلفت نظر جمهورك المستهدف، وتركب «الترند».
ليس حيزاً عاماً
ليست المشكلة هنا بلفت الانتباه بحد ذاته، فكل عمل ثقافي سعى دوماً لجذب متلقيه، لكن في طريقة التعاطي مع القضايا المطروحة، التي من المفترض أنها جريئة: في ما مضى كانت مسائل مثل حقوق النساء والمثليين ومكافحة العنصرية، جانباً من «الحقوق المدنية» أي من سرد شامل عن حقوق كونية واجبة التعميم. أما العنف والجنس فربطا بتحليل الدوافع والحيوية الإنسانية، وطرق ضبطها وتأطيرها في الحضارة الحديثة. فيما اعتبرت الألوان الصارخة والأشكال غير المتعينة تمرداً على المفاهيم السائدة للجمال.
كل هذه كانت قضايا مصاغة لطرحها للجدل في الحيز العام. لتغيير وضع سياسي معيّن، أو نشر أيديولوجيا وتفضيلات فكرية وجمالية. وبالتالي مواجهة سلطة ما. وهذا تطلّب بالتأكيد طرحاً شاملاً، يستعمل لغة عامة ومشتركة، يمكن فهم رموزها ودلالاتها من قبل كل الفاعلين الاجتماعيين. اليوم يصعب أن نجد هدفاً للقضايا «الجريئة» أكثر من المحافظة على وضع قائم: عالم يتغذّى على كم هائل من العلامات الخاوية، ويجب أن تبقى الذوات المتصلة به قادرة على أن «تكون نفسها» أي مصدرة ومتلقية لتلك العلامات، دون التعرّض لأي «عدوان».
لا يمكن أن نسمي الفضاء الذي يتم فيه طرح هذه العلامات بـ»الحيز العام» فهو لا يحوي لغات مشتركة أو فاعلين اجتماعيين، أو خطابات موجّهة، ولذلك قد لا يكون أكثر من مجال للتداول، أو حيز لامتيازات خاصة، مملوك لهذه الشركة العملاقة أو تلك، بما يميزها من أساليب لجذب المستخدمين، وتسليع منعكساتهم وهوياتهم غير المستقرة. يبدو الفضاء الافتراضي إذن، رغم كل تطوره، أشبه بالإقطاعيات القروسطية، التي اضمحل فيه الحيز العام أو انعدم، أي مجالاً حيوياً لسادة معينين، تنبع قوتهم من حيازتهم للمجال، وامتياز استثماره، بالأنفس الموجودة عليه، الأمر الذي قد يتيح لنا فهم مدى أزمة إنتاج ثقافي، لم يعد يمكنه الوجود والانتشار دون ذلك العالم الافتراضي، وقد يكون هذا أحد أسباب استنساخ الحبكات والأجواء والشخصيات نفسها في أعمال كثيرة، أو مدها لأجزاء لا تنتهي: ليس المهم أن تبدع جديداً، بل أن تطعّم ما هو معروف ومألوف بمزيد مما يثير اللغط.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
مآلات المرونة أو المبدأ الكلي لعقود الإذعان/ محمد سامي الكيال
تتصاعد مؤخراً حالة من الاستياء الشامل، غير المعبُر عنه بصيغ واضحة، أو منطقية، خاصة في الدول الغربية. فالاحتجاجات على التلقيح الإجباري تحوّلت مثلاً إلى سعي عديدين لالتقاط عدوى كورونا بشكل متعمّد. في ظاهرة قد يصفها أنصارها أنفسهم بـ«الغبية» أو «غير المنطقية». فيما بات من السهل أن يتحوّل أي تجمّع احتجاجي إلى اشتباكات عنيفة مع الشرطة. ويتزايد الحديث عن إعادة توزيع شامل للثروة نحو الأعلى، في ظل ما يسميه البعض «الديكتاتورية الصحية». يبدو أن هنالك شيئا ما خاطئاً من منظور كل هؤلاء المحتجين، يزداد الإحساس به إيلاماً لدى تذكّر عهود الازدهار والنمو الدائم، التي كانت عنوان السياسات العامة طيلة العقود الماضية.
وعد الازدهار ارتبط دوماً بمفهومين أيديولوجيين، ساهما دائماً في إعادة تعريف البشر لذواتهم وعلاقتهم بالزمان والمكان، وهما «الانفتاح» و«المرونة». بمعنى أن التدفق الدائم للأموال والاستثمارات والتعاملات الاقتصادية والمالية؛ وكذلك العلامات والرموز الثقافية، يتطلّب من الأفراد انفتاحاً ومرونة شديدة. سواء في ما يتعلّق بشروط عملهم وتأهيلهم المهني، أو بتقاليدهم الثقافية والاجتماعية، أو حتى بارتباطهم بمكان معيّن، بما يضمن مزيداً من الثروة المجتمعية، وكثيراً من التسامح والحريات الفردية والفرص للجميع. وقد تحقق «الازدهار» بالفعل بعد قبول البشر بكل هذا، وشهد العالم فترات غير مسبوقة من النمو.
كان أكثر ما يعرقل التدفقات غير المحدودة للسلع والأموال والرموز، مؤسسات اعتبرت نفسها دائماً تقدمية، أو على الأقل «ديمقراطية اجتماعية» مثل النقابات، التي جمّدت سوق العمل وحرية الشركات، بإصرارها على حقوق عمل معقدة وكثيرة، وحماية عمالها من كل منافسة. ما أدى لفترات طويلة من الركود، ولضعفٍ في التوظيف والاستثمار، وصل ذروته في سبعينيات القرن الماضي، إلا أن مقاومة «الديمقراطية الاجتماعية» حُطمت تماماً، بفضل سياسيين استثنائيين مثل مارغريت ثاتشر، في واحدة من أهم المعارك الطبقية في التاريخ المعاصر. هكذا يمكن القول إن ثاتشر، السيدة المحافظة، كانت «تقدمية» من منظور ما، في وجه تقاليد اجتماعية – طبقية مترسّخة أعاقت التطوّر والنمو. وبالفعل يرى كثير من «التقدميين» اليوم أن عصر الديمقراطية الاجتماعية كان بالغ الذكورية والبياض والانغلاق.
وبعد سنوات من النمو اللامحدود، دخل العالم عصر أزمات اقتصادية واجتماعية كبرى، ما جعل كثيرين يعتبرون أن كل الازدهار السابق لم يكن سوى فقاعات مهيئة لانفجارات مؤلمة، تدفع ثمنها الفئات الأفقر، التي فقد أفرادها معظم الأطر الاجتماعية والثقافية الصلبة، التي كانت تحميهم. ولم يبق لبعضهم من «الازدهار» إلا الاصطفاف لنيل مساعدات «بنوك الطعام» بعد أن فقدوا قدرتهم الشرائية ومدخراتهم، مع التضخّم والبطالة وارتفاع أسعار الطاقة، كما يحدث حالياً في بريطانيا ودول أوروبية عديدة. يطرح هذا أسئلة مهمة عن «المرونة» وما أدت إليه: كيف غيّرت الأداء الاجتماعي والسياسي للبشر؟ وهل سيستطيع الناس الحفاظ على مرونتهم إلى ما لانهاية؟
انهيار المبدأ الجمعي
كان للهزيمة التي منيت بها الطبقة العاملة المنظّمة في بريطانيا بالتحديد، في ثمانينيات القرن الماضي، تأثير أيديولوجي كبير في عالمنا المعاصر. وربما لا تقل أهمية عن أحداث مزلزلة أخرى مثل، انهيار الاتحاد السوفييتي، لأنها أظهرت عجز الطبقة العاملة، ذات التقاليد الأعرق في العالم، عن ابتكار بدائل وحلول للركود القائم. وكذلك لأن خصومها، من أيديولوجيي النيوليبرالية، لم يتحدثوا فقط باسم الشركات الكبرى، بل باسم كثير من العمال، الذين حرمتهم النقابات من القدرة على الدخول في تعاقدات حرة، قد تكون أنسب لمصالحهم. وهكذا فإن أيديولوجيا الديمقراطية الاجتماعية، بدت عاجزة حتى من منظور الطبقات الأدنى، التي ادعت دائماً الدفاع عنها.
أدى هذا لنشوء «حس سليم» جديد لدى فئات واسعة جداً: معظم الأطر الكلية، التي ادعت تمثيلنا في ما مضى، مثل القومية، النقابات، الكنائس، الأحزاب السياسية، كانت تضطهدنا، وتعرقل فرصنا في النمو واكتشاف فرادتنا. يمكن هنا ملاحظة اختلاف أساسي في الأداء السياسي والاجتماعي للبشر، خاصة في الطبقات الأدنى، ناتج عن اضمحلال أي مبدأ جمعي كان قادراً على تحريكهم، بل حتى بناء تصوّرهم عن الذات والعالم. حلّ البحث الفردي عن المنفعة والمتعة والهوية والخلاص محل مفهوم الانتماء للجماعة، حتى المعارضة الأعنف والأكثر راديكالية للنظام اختلفت طبيعتها، فبعد أن كان مقاتلو الجماعات المسلّحة من أبناء المزارعين والعمال في أيرلندا الشمالية، أو إقليم الباسك مثلاً، المرتبطين بمفهوم ما عن جماعة قومية أو إثنية، صارت الأصولية الدينية، المنبتة الصلة عن أي سياق اجتماعي أو ثقافي صلب، هي الشكل الأنسب للعصر. وبات من المألوف أن يخرج أصوليون من أي طبقة أو عرق أو وسط اجتماعي، يغيّرون دينهم أو يعيدون اكتشافه بطريقتهم، ليقاتلوا في أي مكان حول العالم. بعد أن خاضوا تجربتهم الذاتية الفريدة.
إلا أن غياب المبدأ الجمعي يثير تساؤلات عن المفاهيم الكلّية عموماً: هل تفتقر النيوليبرالية، أيديولوجيا الرأسمالية المعاصرة، لمبدأ كلي فعلاً؟ كيف إذن استطاعت صياغة «حس سليم» لدى البشر عموماً؟ قدّم كثير من المفكرين مقترحات للإجابة، ومن أكثرها كلاسيكية حديث فالتر بنيامين عن الرأسمالية بوصفها ديناً. والمحاولات المعاصرة للمفكر الإيطالي موريتسيو لاتسراتو لاستعادة «جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه، التي تعتبر الديون، وضرورة الوفاء بها، أساساً لكل المنظومات الأخلاقية الكلّية السائدة. يبدو أن الأيديولوجيا المعاصرة قد برعت في نزع توطين البشر من كل ما هو جمعي، لإعادة أقلمتهم ضمن كليات فردانية: صنم المال، والسعي الفردي المشوب بالذنب، لاكتسابه وتكثيره؛ شعور الهم الناتج عن الغرق في الديون، وضرورة الوفاء بها؛ الانسحاق تحت عبء النجاح والفشل، وتحميل الذات الفردية مسؤوليته؛ نهاية الملاحم الكونية الكبرى، لمصلحة أقصوصة بالغة الدنيوية، لكن شديدة الشمولية: الفرد الذي يعيد ابتكار نفسه، الذي يختلف عن الكسإلى ومحدودي الأفق، بقدرته على المرونة والتأقلم لتحصيل المكاسب، الذي كان لا بد من تحطيم كل الأصنام الجمعية، كي يبرز للوجود.
صوفية الإذعان
تبدو المكاسب الفردية، وفق هذا التصور، أشبه بحالة من الفناء الصوفي، في ما وراء شرط اجتماعي شديد التعقيد: الفرد المرن، بمصالحة ومشاعره وهوياته، قادر على تجاوز كل الظروف، نحو حالة من التجسّد الكلي، الذي يعيد صياغة العالم على صورته ومثاله، ويكفيه انتزاع الاعتراف في المؤسسات القائمة، كي يحقق ما يشاء. كل ما يهواه، ما يريد امتلاكه واكتنازه، ما يعتقده عن ذاته، قابلٌ للتحقيق، بمجرد أن «يكون أفضل نسخة عن نفسه».
في العالم الواقعي يبدو أن قراءة الأرقام والبيانات تقود إلى نظرة أكثر تشاؤماً وسوداوية: البشر غدوا أفقر وأضعف، يبرمون عقود إذعان مع مؤسسات وكيانات ضخمة، لم تفقد جمعيتها، واستفادتها من الامتيازات والتسهيلات التي تقدمها السلطة، دون أن تكون لديهم القدرة على التوحّد في أي كيان منظّم، يدافع عن حقوقهم في وجه تلك الكيانات الفائقة. صار الفرد المعزول شخصية اعتبارية، عليها أن تخوض مفاوضات عسيرة مع شركات وحكومات ومؤسسات فائقة التنظيم والقوة، تُعتبر بدورها، من منظور قانوني بحت، شخصيات اعتبارية متساوية مع الأفراد.
هذا الفرق الهائل في القوة والتنظيم، الذي تغفله المساواة القانونية الشكلية، يختفي بشكل سحري بفضل الأيديولوجيا السائدة. هكذا يمكن للبشر مثلاً أن يبرموا عقوداً، تجعل حالهم أقرب للعبودية، مع شركات ضخمة مثل «أمازون» و«وول مارت» مثلاً، ليعملوا عملاً شاقاً دون حقوق أو ضمانات، دون أن ينتبهوا إلى أن كل «التسامح» و«المرونة» اللذين يملآن العالم، لا يمنعان من استعبادهم بوقاحة مخاتلة. ودون أن يكون لهم ظهير يحميهم.
احتجاج أخرس
يبدو البشر وسط هذا الظرف، وبغض النظر عن تصوراتهم عن ذاتهم، أقرب للمخبولين: يريدون كل المكاسب، بإمكانيات شديدة التشتت والضعف. وعندما يفشلون يغرقون في الاستياء والنقمة والتظلّم، ويستمرون في الحياة من خلال التشبث بكل المسكّنات الممكنة: سواء نظريات المؤامرة، ومنها أيضاً الحديث عن كيانات خرافية شريرة جعلت العالم أسوأ، مثل «الرجل الأبيض»؛ أو اللجوء إلى نمط من العزاء الكيميائي: المخدرات وأدوية الاكتئاب والمسكرات. ربما كان أسلوب الشموليين القدماء أكثر واقعية، رغم كل أيديولوجياتهم «الخشبية»: إنشاء مؤسسات ذات قيم جمعية، تعفي الذات الفردية المعزولة من مسؤولية مواجهة عالم متفاوت القوة بشكل هائل، وتمكّن البشر من التوصّل لمعنى معيّن حول معاناتهم وآلامهم، ما يحقق لهم حداً أدنى من المكاسب والأمان.
قد لا يتمكن البشر من الحفاظ على «مرونتهم» إلى ما لانهاية، وعندها يصعب تخيّل شكل الانفجارات وردود الفعل الناتجة عن كل الضغط الذي يعيشونه. وهنا قد لا يكون مجدياً لوم الشعبويين والمتطرفين على نجاحهم في استقطاب البشر فاقدي الأمل. والأجدى التفكير بفشل «تقدمية» تأقلمت تماماً مع «الحس السليم» لعقود الإذعان.
كاتب سوري
القدس العربي
———————————-
فنون نظيفة: هل من الممكن تجاوز «قيم الأسرة»؟/ محمد سامي الكيال
صارت «قيم الأسرة» في الآونة الأخيرة تكثيفاً لمعظم السلطات الرقابية في العالم العربي، ففيها على ما يبدو تتقاطع كل المحظورات الدينية والأخلاقية والسياسية. وبعد عقود من شكوى المثقفين العرب، بسبب الرقابة السياسة على أعمالهم، يبدو أن المشكلة لم يعد يمكن اختزالها اليوم بالمحظورات التي تفرضها السلطات الأمنية بشكل مباشر حول النظام السياسي القائم، بقدر ما تكمن في ما يمكن تسميته «مجتمع الأغلبية» ومتطلباته. وهو بناء سياسي- أيديولوجي، مدعوم بالسلطة السياسية والأنظمة القانونية وأجهزة الدولة المختلفة، أكثر من كونه «ثقافة موروثة»، أو تعبيراً عن مجتمع «محافظ»، أو «شعب متديّن بطبعه».
وحسب دراسات عديدة، تتناول الموضوع من منظور علاقات القوة والهيمنة، فإن «مجتمع الأغلبية» يقوم دائماً على سلسلة متشابكة ومعقدة من الإقصاءات: كي تنشأ أغلبية ما، لا بد من تهميش فئات عديدة، وتحويلها إلى أقليات، غالباً ما يكون أسلوب حياتها مداناً، وكذلك طرق تعبيرها وخياراتها. هنا يصبح تفكيك «الأغلبية» مقدمة لمواجهة الهيمنة الأيديولوجية، وتغيير علاقات القوة في المجتمع والمؤسسات القائمة.
وبغض النظر عن مدى تبني كثير من نقّاد «قيم الأسرة» لهذا المنظور، فإن الدارج بينهم هو السخرية من تلك القيم، واعتبارها نوعاً من النفاق والتدليس. فالمجتمعات العربية، رغم كل ادعاءاتها عن الفضيلة، مليئة بكل أشكال الانحرافات عما تعتبره صواباً، حتى داخل الأسر الأكثر استقراراً، وبالتالي فلا معنى لفرض الرقابة على التعبير، وعلى تصوير الحالات والميول الإنسانية المختلفة في الأعمال الفنية، بحجة أخلاق وقيم ليست موجودة، إلا أن هذا النقد قد يغفل الطرح الأساسي لأنصار «قيم الأسرة»، فهؤلاء لا ينكرون حضور مختلف أنواع المفاسد في مجتمعهم، ولكنهم يرون أن الفن، والخطاب الموجه للعموم، يجب أن لا يشرعنها أو يطبّع مع وجودها، بل عليه أن يلعب دوراً إيجابياً في ترسيخ القيم المقبولة، ومواجهة ما يعتبر شذوذاً.
قد يبدو هذا التصوّر لوظيفة الفن، للوهلة الأولى، متجاوزاً تماماً، إلا أن نقّاد «قيم الأسرة» أنفسهم، خصوصاً الأكثر ليبرالية منهم، يحملون نظيراً له، إذ من الصعب مثلاً أن يقبلوا بأعمال فنية يرون أنها تطبّع مع التحرّش أو العنصرية، أو حتى لا تدينهما بشكل واضح. وبالتالي يبقى من وظيفة الفن والخطاب العام، بالنسبة لهم، أن يؤسس لقيم وينفي أخرى. ما يعني أن المسألة تبدو أقرب لصراع بين منظومتين قيميتين تسعيان لفرض هيمنتهما، أكثر من كونها محاولة مجرّدة للدفاع عن حرية التعبير. وهنا تبرز عدة أسئلة: هل قدر الفنون والأعمال الثقافية، خاصة الموجهة للجمهور العام، أن تبقى أسيرة هذا النمط من صراعات الهيمنة؟ وهل هنالك معنى أصلاً لنقد مبدأ الرقابة على الأعمال الفنية؟ وإذا كان الجواب، النفي، فعلى أي أساس يتم تفضيل رقابة على أخرى؟
تأسيس «النظافة»
من الصعب فصل تاريخ نشأة وتطور الفنون الجماهيرية، أي الأعمال الثقافية المعدة للنشر، وإعادة الاستنساخ الواسع بين أكبر قدر ممكن من البشر، عن نشأة الدول والسياسة الحديثة نفسها، فهي تفترض أساساً وجود «جماهير» متلقية، أي جماعة سياسية، ذات لغة أو لغات مشتركة، تعيش في إقليم محدد، تحت سلطة معترف بها، ولذلك دائماً ما اختلطت تلك الفنون بمختلف أنواع الدعاية السياسية، المباشرة وغير المباشرة. كما أن مؤسسات إنتاجها تعتبر من أهم الأجهزة الأيديولوجية لأي دولة. وفق هذا الشرط من المتوقع للغاية أن يصبح ذلك النوع من المنتجات الثقافية، التي فقدت «هالتها»، ولم تعد مرتبطة بمكان وزمان أدائها الأولين، مثاراً لنزاع سياسي شديد، وأكثر المواد تعرّضاً للرقابة.
في هذا المعنى فإن وجود فنون «نظيفة» لا يرتبط فقط بموجات الأدب والسينما النظيفة، التي شهدها العالم العربي في نهايات القرن الماضي، فمعظم أعمال الثقافة الجماهيرية «نظيفة» بشكل أو بآخر، أي أن هنالك جهات تحاول تحديد ما لا يمكن قبوله في عمل فني جماهيري. والصراع على صناعة منظومة «النظافة» هذه في قلب علاقات القوة في أي مجتمع، إلا أن هنالك اختلافاً بين منظورين لـ«النظافة» في عصرنا: الأول ما يزال كلاسيكياً، ومرتبطاً بالكيان الأساسي للدولة نفسها، وطريقتها في فرض الهيمنة الأيديولوجية، لبناء «شعبها» الخاص. ويمكن اعتبار «قيم الأسرة» والقوانين ضد «ازدراء الأديان» و»إهانة الرموز الوطنية» نموذجاً عربياً واضحاً لذلك؛ أما الثاني فهو أشد تعقيداً وإشكالية، وأكثر «حداثة»: لم يعد الإنتاج الثقافي معنياً بصياغة «شعب» للدولة، بقدر ما هو مهتم بضمان راحة الأفراد/المستهلكين.. هؤلاء يجب أن يستهلكوا مواد ثقافية لا تشعرهم بالتهديد، أو تستثير «حساسياتهم». وأن تبقى قادرة، في الوقت نفسه، على لفت انتباههم. ولذلك تصبح «النظافة» هنا مركّباً إشكالياً، فهي من جهة يجب أن تبدي كفاءتها في ضمان شعور الأفراد الهش بالأمان، وأن تتمتع، من جهة أخرى، بالقدرة على إثارة شيء من اللغط، كي يظل المنتج الثقافي، أو بالأصح «المحتوى»، محفّزاً على المتابعة والاستهلاك.
رغم هذا يبقى الأفراد المتلقون للإنتاج الثقافي متراصين بوصفهم حشداً متشابهاً. إلا أنه حشد شديد السلبية، فهو متشابه من جهة بقائه متمسكاً بمشاعر متماثلة عن «الأذى»، الذي يمكن أن يتعرّض له، وبإبداء حاجته للحماية، وسلبي من جهة أنه غير قادر على أن يكون فاعلاً سياسياً، ليطرح خطاباً ومطالب متماسكة في الحيز العام، تساعده على الخروج من دور الضحية المحتمل. يغضب الحشد ويشعر بالاستياء في مناسبات متزامنة. وكأن القدرة على تحفيزه تتحقق على أساس خوارزميات يمكن حسابها وتوقعها بدقة لا بأس بها.
يبدو إذن أنه لا خلاص من «قيم الأسرة» سواء كانت هذه «الأسرة» شعباً خلوقاً، أم حشداً حساساً، ولكن هل يمكن في هذا الشرط لوم الشعوب، التي تريد الحفاظ على أخلاقها؟
ما يخسره «الشعب»
يمكن لأنصار «قيم الأسرة» أن يطرحوا في هذا السياق حجة متماسكة: الترويج لقيم مناقضة لثقافة مجتمع الأغلبية، ستحرم البشر مما تبقى لهم من مشتركات، تتيح لهم مرجعية، يمكنهم على أساسها تأسيس علاقاتهم، وضمان تماسكهم الاجتماعي، وفصل الصحيح عن الخاطئ في حياتهم وسلوكهم. يهدد النيل من الرموز المجتمعية والدينية والوطنية كل إطار أخلاقي، قادر على جعل البشر يفهمون عالمهم، ويسبغون المعنى والحميمية عليه. لا تَعِدُ حالة الحشد السلبي، التي تبشّر بها الفردانية الحساسة، بالكثير: أفراد يخافون من الآخر، يعانون من التهديد الوجودي لحياة الأقليات، ترهقهم المسؤولية الفردية في عالم لا أسس صلبة له. صحيحٌ أن الفرد يمكنه أن يعبّر عن ذاته وميوله بحرية أكبر. ويعيش أهواءه دون إدانة من قيم متعالية، ولكن هل كل هذه «الحرية»، المنبتة الصلة بكل قيمة، تهب الراحة أو الإشباع، أو حتى الأمان، في عالم تزداد صعوبته وتعقيده يوماً بعد آخر؟ في هذا المعنى فقد لا يكون المدافعون عن «قيم الأسرة» مجرد منافقين، بل أشخاصاً حريصين على ضمان الحد الأدنى من الأمان المجتمعي، رغم كل الهرمية والأبوية التي يفترضها ذلك الأمان. لكن هل فردانية الحشد السلبي خالية من الهرمية؟ قد تزداد التراتبيات وأشكال الاستغلال بشكل حتمي في مجتمعات لا توجد فيها روابط وشبكات إيجابية، قادرة على حماية الفرد ورعايته، وسط كل ظروف الحياة القاسية، ومتفاوتة القوة. هل هذا يعني أن الحل فعلاً في الخضوع للهرميات الساحقة للدولة والدين والمجتمع؟
خيارٌ ثالث
رغم كل ارتباطاته بمعادلات الهيمنة السياسية، من الظالم القول إن المنتج الثقافي الجماهيري كان دوماً مجرد بروباغاندا سلطوية. عمل كثير من الفنانين والمثقفين سابقاً على «تلغيم» منتجاتهم، بنقد أو تهكم ذكي من معادلات السلطة القائمة وصراعاتها، مسقطين بذلك كثيراً من الخطوط الحمر، دون أن يقوموا بمحاولة تأسيس نمط من «النظافة» الجديدة. نظرة على الأعمال الثقافية، التي انتشرت في حقبة الستينيات والسبعينيات مثلاً، تبيّن حالة من النقد والتفكيك لكل المنظومات القائمة، وغوصاً عميقاً في تناقضات كل مقولة اجتماعية أو أخلاقية تدّعي التماسك. قد لا يكون هذا مؤسساً لنمط من الاستقرار الجديد، ولكنه قادر على منع تأطير البشر في قوالب جامدة، سواء كانت مجتمع أغلبية سلطويا قاهرا لأي مختلف؛ أم حشداً مفردناً يخشى كل جدل أو اختلاف فعلي. لذلك ربما يكون الدفاع غير المشروط عن حرية التعبير، ورفض ثقافة الإلغاء والاستياء بشكل جذري، المخرج من كل أنماط «النظافة»، التي تحاصر عالمنا المعاصر. وعندها قد يمكن للبشر اكتشاف وتأسيس المشتركات الفعلية في ما بينهم، على أساس جدل مفتوح في الحيز العام، يعطي القدرة على التضامن والاختلاف الفعلي. وليس التقوقع في أوهام «الأسرة» الجامدة والخاضعة، سواء كانت شديدة الجمعية والإقصائية أو بالغة الحساسية والفردانية.
كاتب سوري
القدس العربي
——————————–
=====================